الفيديو المحاضرات سؤال و جواب معرض الصور صوتيات المكتبة اتصل بنا الرئیسیة
  الخمیس  16 رمضان  1445 - Thers  28 Mar 2024
البحوث المنتخبة    
كتاب المتقين    
موقع المتقين > العقائد والكلام > الإمام الصادق عليه السلام نموذج ماثل للبلد الطيّب


_______________________________________________________________

هو العليم

الإمام الصادق نموذج ماثل للبلد الطيب

مستخرج من كتب وآثار
آية اللـه العلاّمة
السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني قدّس سرّه

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين‏
ولعنة الله على أعداءهم أجمعين
من الآن إلى قيام يوم الدين‏
ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم‏

قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ والذي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}.[1]
وقال سبحانه قبل هذه الآية:
{وَ هُوَ الذي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حتى إذَآ أقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأنزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.

    

تفسير العلّامة الطباطبائيّ لآية: {والبَلد الطيّب...}

قال العلّامة آية الله الطباطبائيّ أعلى الله درجته في تفسير هذه الآيات: وفي الآية {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} إلى آخر الآية بيان لربوبيّته تعالى من جهة العود، كما أنّ في قوله: {إن رَبَّكُمُ اللهُ}[2] بياناً لها من جهة البدء. وقوله: {بُشْـرًا}، وأصله البُشـُر بضمّتين جمعُ‏ بشير كالنُذُر جمعُ نذير. والمراد بالرحمة المطر. وقوله: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}، أي: قدّام المطر، وفيه استعارة تخيليّة بتشبيه المطر بالإنسان الغائب الذي ينتظره أهله فيقدم وبين يديه بشير يبشّر بقدومه.
والإقلال: الحَمل، والسحاب والسَّحَابة، الغمام والغمامة، كتَمْر وتَمْرَة. وكون السحاب ثِقالًا باعتبار حملهِ ثِقل الماء، وقوله: {لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ}، أي: لأجل بلد ميّت، أو إلى بلدٍ ميّت. والباقي ظاهر (و لا يحتاج إلى تفسير).
والآية تحتجّ بإحياء الأرض على جواز إحياء الموتى، لأنّهما من نوعٍ واحدٍ. وحُكْمُ الأمْثَالِ في مَا يَجُوزُ ومَا لَا يَجُوزُ وَاحِدٌ[3]. وليس الأحياء الذين عَرَضَ لهم عارضُ الموت بمنعدمين من أصلهم، فإنَّ أنفُسَهم وأرواحهم باقيةٌ محفوظةٌ وإنْ تغيّرت أبدانهم، كما أنّ النبات يتغيّر ما على وجه الأرض منها ويبقى ما في أصله من الروح الحيّة على انعزال من النشوء والنماء، ثمّ تعود إليه حياته الفعّالة. كذلك يُخرج الله الموتى. فما إحياء الموتى في الحشر الكلّيّ يوم البعث إلّا كإحياء الأرض الميتة في بعثه الجزئيّ العائد كُلَّ سنة. وللكلام ذيل سيُوافيك في محلٍّ آخر إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {والْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ} إلى آخر الآية.
النَّكِد: القليل. والآية بالنظر إلى نفسها كالمثل العامّ المضروب لترتّب الأعمال الصالحة والآثار الحسنة على الذوات الطيّبة الكريمة كخِلافها على خِلافها، كما تقدّم في قوله: {كَمَا بَدَأكُمْ تَعُودُونَ}[4]. لكنّها بانضمامها إلى الآية السابقة تفيد أنّ الناس وإن اختلفوا في قبول الرحمة فالاختلاف من قِبَلهم، والرحمة الإلهيّة عامّةٌ مطلقةٌ.
وقال سماحة العلّامة في البحث الروائيّ:
وفي «الكافي» بإسناده عن ميسر، عن أبي جعفر (الإمام الباقر) عليه السلام قال: قلتُ: قول الله عزّ وجلّ: {ولَا تُفْسِدُوا في الأرْضِ بَعْدَ إصْلَاحِهَا}[5] ، قال: فقال: «يَا مَيْسـَرُ! إنَّ الأرْضَ كانَتْ فَاسِدَةً فَأحْيَاهَا اللهُ عَزَّ وجَلَّ بِنَبِيِّهِ، ولَا تُفْسِدُوا في الأرْضِ بَعْدَ إصْلَاحِهَا».
وفي «الدرّ المنثور»: أخرج أحمد، والبخاريّ، ومسلم، والنسائيّ، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [و آله‏] وسلّم:
«مَثَلُ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ مِنَ الهُدَى والعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أصَابَ أرْضَاً فَكَانَتْ مِنْهَا بَقَيَّةٌ قَبَلَتِ المَاءَ فَأنْبَتَتِ الكَلَاءَ والعُشْبَ الكَثِيرَ. وكَانَتْ مِنْهَا أجَادِبُ أمْسَكَتِ المَاءَ فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وسَقَوا وزَرَعُوا. وأصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً اخرى إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً ولَا تُنْبِتُ كَلَاءً. فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ في دِينِ اللهِ ونَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وعَلَّمَ؛ ومَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَ أساً ولَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الذي ارْسِلْتُ بِهِ»[6].
البلد الطيّب هو علم النبيّ والإمام وهدايتهما
أجل، إن تفسير البلد الطيّب بعلم النبيّ والإمام وهدايتهما، وتفسير إصلاح الأرض بعد مجي‏ء الرسول والإمام وأمثالهما ليسا من المعاني التأويليّة للآيات المباركة، بل مفاد العمل بظهور المعاني الظاهريّة للقرآن الكريم وبيانها، إذ إنّ معنى الأرض الصالحة المستعدّة ومفاد الإفساد في الأرض بعد إصلاحها يتيسّران للإنسان ويتبادران إلى الذهن في أوّل وهلة، ولا حاجة إلى جرّ المعنى الظاهر إلى الباطن واستخراج التأويل.
إن وجود الأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين أرضٌ فسيحةٌ شاسعةٌ من العلم والعقل والدراية والفطنة والهداية، يخرج فيها نباتٌ طيّبٌ حَسَن، فيُتحف الدنيا بثمارٍ حلوةٍ ريّانةٍ نافعةٍ، وفواكهُ ثمينةٍ وأدويةٍ وعقاقير لمعالجة الأمراض ورفع العلل والأسقام. ولا فائدة للعالم البشريّ والمجتمع الإنسانيّ من وجود المخالفين والمعاندين والمكابرين. ذلك أنّ الأئمّة المعصومين بعيدون عن الهوى والتغطرس وحُبّ الذات والدعوة إلى النفس وجعلها محوراً. فما عندهم يترشّح من نفوسٍ طاهرةٍ صفيّةٍ زكيّةٍ متّصلةٍ بعالم النور والتجرّد والعرفان الإلهيّ والتوحيد الربوبيّ. ومن الواضح أنّ الظُّلمة لا تترشّح من النور، والقُبح لا يُولَد من الحُسن، والخبيث لا يخرج من الطيّب. أي: لا يسـري من الله تعالى وأصفيائه المخلصين إلى العالم الخارجيّ إلّا العلم الحقيقيّ اللدُنّيّ الخالد الثابت الأصيل.

    

الإمام الصادق عليه السلام النموذج الماثل للبلد الطَّيِّب‏

إنّ الإمام جعفر الصادق عليه السلام من تلك النبتة الفريدة التي نمت في أرض التوحيد الطيّبة. ولم تنفح آثاره العلميّة الهادية الشيعة فحسب، بل نفحت الأجيال البشـريّة برمّتها، ولم تُظَلِّل المدينة المنوّرة وحدها بل ظَلَّلت العالَم بأسره، ولم تقتصر على عصر واحد فقط، بل هي للعصور كلّها خالدةً إلى الأبد.
ولِمَ ذاك؟ ذاك لأنّه عليه السلام معصوم، ولكلّ معصوم أبديّة كأبديّة القرآن الكريم ذي العصمة. ولكلمة كلّ فقيهٍ وفتواه وحكمه ورأيه حجّيّةً في حياته اعتباراً من الشيخ الطوسيّ والعلّامة الحلّيّ حتى آية الله البروجرديّ وآية الله الحكيم ومن شابههم، بَيدَ أنّ تلك الحجّيّة تسقط بموت هؤلاء الفقهاء، إذ إنّهم غير معصومين، وعلى الناس أن يقلّدوا المجتهد الحيّ الأعلم الجامع للشرائط، أمّا الآيات القرآنيّة الكريمة، والسنّة النبويّة الثابتة، والسيرة الإماميّة المسلّم بها فهي حُجّةٌ إلى يوم القيامة.
قال آية الله السيّد على خان المدنيّ الشيرازيّ رفع الله رتبته في ترجمة الإمام الصادق عليه السلام: وجعفر بن محمّد هو الإمام أبو عبد الله جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم.
إلى أن قال: قال الشيخ المفيد: لم ينقل العلماء عن أحدٍ من أهل بيته مثل ما نُقل عنه من العلوم والآثار، فإنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل.
وقال الشيخ كمال الدين بن طلحة الشافعيّ: أمَّا مَنَاقِبُهُ وصِفَاتُهُ فَتَكَادُ تَفُوتُ عَدَدَ الحَاصِرِ، ويَحَارُ في أنْوَاعِهَا فَهْمُ اليَقِظِ البَاصِرِ، حتى أنَّ مِنْ كَثْرَةِ عُلُومِهِ المُفَاضَةِ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ سِجَالِ التَّقوى صَارَتِ الأحْكَامُ التي لَا تُدْرَكُ عِلَلُهَا، والعُلُومُ التي تَقْصُرُ الأفْهَامُ عَنِ الإحَاطَةِ بِحُكْمِهَا تُضَافَ إلَيْهِ وتُرْوَى عَنْهُ .[7] وقال الذهبيّ في «الكاشف»: قال أبوحنيفة: ما رأيتُ أفقه منه. وقد دخلني له من الهيبة ما لم يدخلني من المنصور.[8]
وعن عمرو بن أبي المقدام، قال: كنتُ إذا نظرتُ إلى جعفر بن محمّد علمتُ أنّه من سلالة النبيّين.
وعن صالح بن الأسود، قال: سمعتُ جعفر بن محمّد يقول: «سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي فَإنَّهُ لَا يُحَدِّثُكُمْ أحَدٌ بَعْدي بِمِثْلِ حَدِيثِي».[9]
قال العلّامة الجليل الشيخ محمّد حسين المظفّر:
«وما كان فقهاء الشيعة عِيالًا عليه فحسب، بل أخذ كثير من فقهاء السُّنّة الذين عاصروه الفقه عنه، أمثال مالك، وأبي حنيفة، والسُّفيانِيَّينِ (سفيان الثوريّ، وسفيان ابن عُيَيْنَة)، وأيّوب، وغيرهم، كما ستعرفه في بابه، بل إن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» (ج 1، ص 6) أرجَعَ فقه المذاهب الأربعة إليه.
وهذا الآلوسيّ في «مختصر التُّحفة الاثني عشريّة»[10] ص 8 يقول:
وهذا أبو حنيفة وهو بين ‏أهل السنّة كان يفتخر ويقول بأفصح لسان: لَوْلَا السَّنَتَانِ لَهَلَكَ النُّعْمَانُ.
يريد السنتين اللتين صَحب فيهما الإمام جعفر الصادق عليه السلام لأخذ العلم.[11]
وقال أيضاً تحت عنوان «حياته العلميّة»: علُمه إلهاميّ. وقال في شرحه: لا فضيلة كالعلم، فإنّ به حياة الأُمم وسعادتها ورقيّها وخلودها، وبه نباهة المرء وعلوّ مقامه وشرف نفسه.
ولا غرابة لو كان العلم أفضل من العبادة أضعافاً مضاعفة. لأنّ العابد صالح على طريق نجاة قد استخلص نفسه فحسب، ولكن العالم مصلح يستطيع أن يستخرج عوالم كبيرة من غياهب الضلال، وصالح في نفسه أيضاً، وقد فتح عينيه في طريقه. ومَن فتح عينه أبصر الطريق.
وليس في الفضائل ما يصلح الناس وينفعهم ويبقى أثره في الوجود مثل العلم، فإنّ العبادة والشجاعة والكرم وغيرها إذا نفعت الناس فإنّما نفعها مادام صاحبها في الوجود، وليس له بعد الموت إلّا حسن الاحدوثة.
ولكن العالم يبقى نفعه مادام علمه باقياً، وأثره خالداً.
وقد جاء في السُنّة الثناء العاطر على العلم وأهله، كما جاء في الكتاب آياتٌ جمّة في مدحه ومدح ذويه. وهذا أمر مفروغ عنه، لا يحتاج إلى استشهاد واستدلال.
نعم، إنّما الحقّ في أنّ هذا الثناء خاصّ بالعلم الدينيّ وعلمائه، أو عامّ لكلّ علم وعالم؟!
أعتقد بشكل قاطع أنّه مختصّ بعلم الدين وعلمائه.
والأحاديث قد صرّحت به. وكفى من الكتاب قوله تعالى: {إنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[12].
وقد لا تجد خشيةً عند علماء الصنعة وما سواهم غير علماء الدين، بل إن بعضهم قد لا تجده يعترف بالوجود أو بالوحدانيّة.
و ما استحقّ علماء الدين هذا الثناء إلّا لأنّهم يريدون الخير للناس ويسعون له ما وجدوا إليه سبيلًا. ومتى كانوا وجدتَهم أدلّاءَ مرشدين هداةً منقذين.
وعلم الدين إلهاميّ وكسبيّ. والكسبيّ يقع فيه الخطأ والصواب والصحيح والغلط. وغلط العالم وخطؤه يعود على العالم كلّه بالخطأ والغلط، لأنّ الناس أتباع العلماء في الأحكام والحلال والحرام، والله جلّ شأنه لا يُريد للناس إلّا العمل بالشريعة التي أنزلها، والأحكام التي شرّعها. فلا بدّ من أن يكون في الناس عالم لا يُخطئ ولا يغلط، ولا يسهو ولا ينسى، ليرشد الناس إلى تلك الشريعة المنزلة منه جلّ شأنه، والأحكام المشرّعة من لدنه سبحانه، فلا تقع الامّة في أشراك الأخطاء وحبائل الأغلاط، ولا يكون ذلك إلّا إذا كان علم العالم وحياً أو إلهاماً.

    

حقيقة علم الأنبياء والأئمّة عليهم السلام

فمن هنا كان حتماً أن يكون علم الأنبياء وأوصيائهم من العلم الإيحائيّ أو الإلهاميّ صوناً لهم وللأُمم من الوقوع في المخالفة خطاً.
والله تعالى قد أنزل شريعة واحدة لا شرائع، وفي كلّ قضيّة حُكماً لا أحكاماً، ونصب للأُمّة في كلّ زمن مرشداً لا مرشدين. ونجدها اليوم شرائع ولها مشرّعون لا شريعة واحدة ومشرّعاً واحداً. ونرى في كلّ قضيّة أحكاماً لا حكماً واحداً. وفي كلّ زمن مرشدين متخالفين متنابذين، بل يكفّر بعضهم بعضاً، ويبرأ بعضهم من بعض لا مرشداً واحداً. وليس هذا ما جاء به المصلح الأكبر رسول الله صلّى الله عليه وآله، ولا ما أراده لأُمّته.
فلا غرابة لو حكم العقل بأنّ الواجب عليه سبحانه أن ينصب في كلّ فترة زمنيّة عالماً يدلّ الناس على الشريعة كما جاءت، ويأتيهم بالأحكام كما نزلت. وهل يجوز ذلك على أحد سوى عليّ وبنيه؟
وهذه آثارهم العلميّة بين يديك فاستقرئها لعلّك تجد على النور هدىً. ولو لم يكن لدينا أثر أو دليل إلّا قوله صلّى الله عليه وآله: «أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وعَلِيّ بَابُهَا»[13] ، وقوله: «أنّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللهِ وعِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي»[14] ، لكفى في كون أهل البيت علماء الشريعة والكتاب الذين أخذوا العلم من معدنه، واستقوه من ينبوعه. ولو كان علمهم بالاكتساب لما جعلهم الرسول علماء الكتاب على طول الدهر دون الناس. وما الذي ميّزهم على الناس إذا كانوا والناس في العلم سواء؟!
وممّا يسترعي الانتباه أنّ الناس كانوا محتاجين إلى علمهم أبداً. وكلّما رجعوا إليهم في أمر وجدوا علمه عندهم، وما احتاجوا هم إلى علم الناس أبداً.
ولا نريد أن نلمسك هذه الحقيقة بالأخبار دون الآثار، فإنّ في الآثار ما به غنى للبصر. وهذه آثارهم شاهدةٌ على صِدق ما ادّعوه وادّعى فيهم. وأمرٌ حقيقٌ بأن تنتبه إليه، وهو أنّ الجواد عليه السلام انتهت إليه الإمامة وهو ابن سبع، ونهض بأعبائها، وقام بما قام به آباؤه من التعليم والإرشاد، وأخذ منه العلماء خاضعين مستفيدين. وما وجدتَ فيه نقصاً عن علوم آبائه.
وهذا عليّ بن جعفر شيخ العلويّين في عهده سنّاً وفضلًا، إذا أقبل الجواد يقوم فيقبّل يده، وإذا خرج يسوّي له نعله. وسُئِلَ عن الناطق بعد الرضا عليه السلام، فقال: أبو جعفر ابنه! فقيل له: أنْتَ في سِنِّكَ وقَدْرِكَ وأبوكَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ تَقُولُ في هَذَا الغُلَامِ؟! فقال: مَا أرَاكَ إلَّا شَيْطَاناً، ثُمَّ أخَذَ بِلِحْيَتِهِ وقَالَ: فَمَا حِيلَتِي إن كَانَ اللهُ رَآهُ أهْلًا ولَمْ يَرَ هَذِهِ الشيْبَةَ لَهَا أهْلًا؟».[15]
علماً أنّ عليّ بن جعفر هو أخو الإمام الكاظم عليه السلام، والإمام الكاظم هو جدّ الإمام الجواد عليهما السلام. فماذا ترى بينهما من السنّ؟ وعليّ أخذ العلم من أبيه الصادق، وأخيه الكاظم، وابن أخيه الرضا عليهم السلام. فلو كان علمهم بالتحصيل لكان عليّ أكثر من الجواد تحصيلًا، أو لو كانت الإمامة بالسنّ لكان عليّ أكبر العلويّين سنّاً.
على أنّ الجواد قد فارقه أبوه يوم سافر إلى خراسان وهو ابن خمس.
فمن الذي كان يؤدّبه ويثقّفه بعد أبيه حتى جعله بتلك المنزلة العليّة لو كان ما عندهم عن تعلّم وتأدّب؟! ولِمَ لا يكون المعلِّم والمثقِّف هو صاحب المنزلة دونه؟! ولِمَ لَمْ يُقِلِ الجواد؟!
أجل، توفّي الجواد وهو ابن خمس وعشرين سنةً. وأنت تعلم أنّ ابن هذا السنّ لم يبلغ شيئاً من العلم لو أنفق عمره هذا كلّه في طلبه، فكيف يكون عالم الأُمّة ومرشدها، ومعلِّم العلماء ومثقِّفهم، وقد رجعت إليه الشيعة وعلماؤها من يوم وفاة أبيه الرضا عليه السلام؟
وهكذا الحال في ابنه عليّ الهاديّ عليه السلام. فقد قضى الجواد، وابنه الهاديّ ابن ستّ أو ثمان. فمن الذي ثقّفه وجَعله بذلك المحلّ الأرفع؟ وكيف رجعت إليه العلماء والشيعة وهو ابن هذا السنّ؟ وماذا يُحسن مَن كان هذا عُمره لو كان عِلمه بالاكتساب؟
فالصادق ـ كسائر الأئمّة ـ لم يكن علمه كسبيّاً وأخذاً من أفواه الرجال ومُدارستِهم. ولو كان كذلك، فممّن أخذ وعلى يد مَن تخرّج؟ وليس في تأريخ واحد من الأئمّة عليهم السلام أنّه تتلمذ أو قرأ على واحد من الناس حتى في سنّ الطفولة. فلم يُذكر في تأريخ طفولتهم أنّهم دخلوا الكتاتيب[16]أو تعلّموا القرآن على المقرئين كسائر الأطفال من الناس. فما علم الإمام إلّا وراثةً عن أبيه، عن جدّه، عن الرسول، عن جبرئيل، عن الجليل تعالى. وسنُشير إلى بعض آثاره العلميّة وإلى تعليمه لتلامذته. وما سواها ممّا هو داخلٌ في حياته العلميّة.

[ملاحظة: انتخب هذا البحث من كتاب معرفة الإمام ج 18 ، تأليف المرحوم العلامة آية الله الحاج السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله عليه، وقد تمّ توثيقه ومقارنته مع المصدر الفارسي من قبل الهيئة العلمية في لجنة الترجمة والتحقيق، وتجدر الإشارة إلى أنّ العبارات والهوامش التي وقعت بين معقوفتين هي من الهيئة العلمية ]


[1] ـ الآية 58، من السورة 7: الأعراف.

[2] ـ فيما يأتي الآية {إن رَبَّكُمُ اللهُ} التي تسمّى آية السخرة، مع الآيتين اللتين تليانها- وفي قراءتها ثواب كثير كآية الكرسيّ {إن رَبَّكُمُ اللهُ الذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا والشَّمْسَ والْقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأمْرِهِ ألَا لَهُ الْخَلْقُ والأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَ بُّ الْعَالَمِينَ* ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وخُفْيَةً إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* ولَا تُفْسِدُوا في الأرْضِ بَعْدَ إصْلَاحِهَا وادْعُوهُ خَوْفًا وطَمَعًا إن رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}. (الآيات 54 إلى 56. من السورة 7: الأعراف).

[3] ـ هذه العبارة قاعدة فلسفيّة مفادها أنّ الأشياء المتماثلة المتشابهة واحدة في الأحكام المثبتة والمنفيّة المترتّبة عليها.

[4] ـ الآية 29، من السورة 7: الأعراف: {وادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأكُمْ تَعُودُونَ}.

[5] ـ الآية 56، من السورة 7: الأعراف.

[6] ـ «الميزان في تفسير القرآن» ج 8، ص 164 و165 و177 و178.

[7] ـ وردت هذه المطالب عينها في كتاب «مطالب السؤول» ص 18، الطبعة الحجريّة الرحليّة. قال الشيخ عبّاس القمّيّ في كتاب «الكنى والألقاب» ج 1، ص 332: هو كمال الدين محمّد بن طلحة الشافعيّ المعروف بابن طلحة. له «مطالب السؤول في مناقب آل الرسول»، و«العقد الفريد للملك السعيد». توفّي بحلب سنة 652 هـ.

[8] ـ «الكاشف» ج 1، ص 186. في «الكُنى والألقاب» ج 2، ص 238: هو محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبيّ. وُلد بدمشق سنة 673 هـ، وطلب الحديث، ورحل في طلبه إلى مصر حتى رجع استاذاً فيه. وأكثرَ من التصنيف في تاريخ الرجال، منها: «تذكرة الحفّاظ»، و«ميزان الاعتدال»، و«تجريد أسماء الصحابة». تُوفّي سنة 748 هـ.

[9] ـ «رياض السالكين» ص 8، الطبعة الحجريّة؛ وفي طبعة جماعة المدرّسين بقم: ج 1، ص 71 إلى 73. ومصدر الحديث الأخير «كشف الغُمّة» ج 2، ص 155.

[10] ـ من الحري بالعلم أنّ علماء السُّنّة في الهند ألّفوا كتباً باللغة الفارسيّة في نهاية القرن الثاني عشر الهجريّ فبادر علماء الشيعة فيها إلى ردّها والجواب عنها باللغةِ نفسها، وكشفوا بطلانها بإفاداتهم العلميّة وبحوثهم الدقيقة العميقة، وبدّدوا رماد تلك التُهم الملصقة بالشيعة. ومن هذه الكتب «منتهى الكلام» المعنون بـ «تنبيهات أهل الخوض لاعتراضهم على حديث الحوض» الذي طُبع سنة 1250 هـ مرّةً، وأُعيد طبعه سنة 1282 هـ مرّةً أُخرى، ومؤلّفه هو حيدر على فيض آباديّ. ومنها: «إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء» تصنيف شاه وليّ الله الدهلويّ (المولود سنة 1114 هـ والمتوفّي سنة 1176 هـ كما ذكر الآلوسيّ في مقدّمته على كتاب «مختصـر التحفة الاثني عشريّة» (ص: ي ب)، طُبع هذا الكتاب لأوّل مرّة في لاهور، باكستان سنة 1396 هـ. ومنها: «التحفة الاثني عشـريّة» تصنيف نجل المذكور شاه عبد العزيز الدهلويّ (ولادته سنة 1159 هـ، ووفاته سنة 1239 هـ كما أورد الآلوسيّ في كتابه المارّ ذكره، (ص: ي ب). كانت طبعته الثالثة في لاهور أيضاً سنة 1396 هـ، سمّاه مؤلّفه في ديباجته «نصيحة المؤمنين وفضيحة الشياطين». وقال أيضاً: سبب تسميته بـ «التحفة الاثنا عشريّة» هو تأليفه في نهاية القرن الثاني عشر، واحتوائه على جميع مطالب الشيعة خلال هذه القرون الاثني عشر، مع الردود عليها. أجل، ما إن طُبعت هذه المخطوطات بالهند حتى بادر سماحة السيّد محمّد قلي الموسويّ النيسابوريّ الهنديّ إلى جوابها جواباً مُفحماً مدهشاً من خلال تصنيفه كتاب «الأجناد الاثنا عشريّة المحمّديّة في ردّ التحفة الاثني عشريّة الدهلويّة». ثمّ قام نجل هذا الرجل الربّانيّ السيّد مير حامد حسين بن محمّد قلي النيسابوريّ الكنتوريّ بتأليف كتاب «عبقات الأنوار في مناقب الأئمّة الأطهار» رادّاً عليها ردّاً عجيباً محيِّراً. وننقل فيما يأتي موجزاً ومنتخَباً لما ذكره العلّامة الشيخ آغا بزرك الطهرانيّ في كتاب «الذريعة إلى تصانيف الشيعة» حول هذين الرجلَين الباحثَين العظيمَين الجليلَين. قال في ج 4، ص 192 و193 من هذه الموسوعة تحت الرقم 958: «تشييد المطاعن لكشف الضغائن» هو بجميع أجزائه الآتية ثامن مجلّدات «الأجناد الاثنا عشريّة المحمّديّة في ردّ التحفة الاثني عشريّة الدهلويّة» المرتّبة على اثني عشر باباً في الردّ على الإماميّة. والتشييد هذا ردّ على خصوص الباب العاشر من «التحفة» الذي هو في دفع المطاعن، وردّ الباب الأوّل منه الذي هو في حدوث فرق الشيعة اسمه «السيف الناصريّ». وردّ الباب الثاني منه الذي هو في نسبة المكائد إلى الشيعة اسمه «تقليب المكائد»، وردّ الباب السابع منه الذي هو في الإمامة اسمه «برهان السعادة»، وردّ الباب الحادي عشر منه الذي هو في الأوهام والتعصّبات والهفوات اسمه «مصارع الأفهام». كلّ هذه الكتب من مجلّدات كتاب «الأجناد» باللغة الفارسيّة مطبوعة بالهند... وجميع هذه الكتب من تأليفات العلّامة السيّد محمّد قلي بن السيّد محمّد حسين ابن حامد حسين بن زين العابدين الموسويّ النيسابوريّ الكنتوريّ المولود في 1188 والمتوفّي في تاسع المحرّم 1260، ترجمه مفصّلًا في آخر «نجوم السماء». وعلى «التحفة» ردود اخرى أيضا كـ «العبقات»، و«النزهة الاثني عشريّة»، وغيرها.

[11] ـ «الإمام الصادق» ج 1، ص 143، طبعة جماعة المدرّسين بقم. من الجدير بالذكر أنّ هذه العبارة موجودة في «مختصر التحفة الاثني عشريّة» ص 8، ط 2، القاهرة، سنة 1387، بَيدَ أنّ هذه العبارة التي حكاها الآلوسيّ هي من إنشاء الآلوسيّ نفسه، لا من إنشاء صاحب «التحفة» شاه عبد العزيز الدهلويّ، والعبارة هي: وهذا أبوحنيفة رضي الله تعالى عنه وهُوَ هُوَ بَين أهل السنّة كان يفتخر ويقول... إلى آخره. وعبارة عبد العزيز في «التحفة» ص 46 هي: نعم، ذكر الإمام الشافعيّ فضائل من أدرك من أهل البيت. ولا يقتصر هذا عليه، فجميع أهل السنّة يذكرونها. ورواية الحديث عن أئمّة أهل البيت كثيرة في كتب السنّة. وسمّوا سلسلة الآباء من أهل البيت «سلسلة الذهب».

[12] ـ الآية 28، من السورة 35: فاطر.

[13] ـ الخطيب في «تاريخ بغداد» ج 2، ص 377؛ والملّا عليّ المتّقيّ الهنديّ في «كنز العمّال» ج 6، ص 156.

[14] ـ «مسند أحمد بن حنبل» ج 4، ص 366؛ و«صحيح الترمذيّ» ج 2، ص 308.

[15] ـ [إلى هنا انتهى كلام الشيخ المظفر عليه الرحمة]؛ «الإمام الصادق»، للمظفّر، ج 1، ص 134.

[16] ـ للكتاتيب معنيان: أحدهما جمع كتّاب، وكتّاب جمع كاتب، فهو جمع الجمع. والآخر مكان التعليم بصيغة كتّاب وجمعه كتاتيب.

 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع «المتقين». يسمح بإستخدام المعلومات مع الإشارة الي مصدرها


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی