الفيديو المحاضرات سؤال و جواب معرض الصور صوتيات المكتبة اتصل بنا الرئیسیة
  الخمیس  16 رمضان  1445 - Thers  28 Mar 2024
البحوث المنتخبة    
كتاب المتقين    
موقع المتقين > البحوث الاجتماعية > التعاطي السلميّ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


_______________________________________________________________

هو العليم

التعاطي السلميّ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

بسم اللـه الرحمن الرحيم

    

خلاصة

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المفاهيم الدينيّة الاجتماعيّة التي يشهد العقل والفطرة بضرورتها، ومن المراتب المهمّة لهذه المقولة الاجتماعيّة الانتقال من التعامل السلميّ والشروع باتخاذ الاجراءات العمليّة، الأمر الذي غدا اليوم محل بحث ونزاع، فأنكره بعضهم من أساسه، في حين وسّع آخرون من دائرته حتّى صار عرضة لتصدّي أيّ إنسان ولو خلا من المؤهّلات المطلوبة.
ولكن وبعد الدراسة الدقيقة لهذه المراتب، وجعل كلام العرفاء بالله ومبانيهم محورًا للبحث، وبعد ذكر نماذج واقعيّة أصيلة ـ الأمر الذي تختصّ به هذه المقالة ـ سيُكشف الغطاء عن حقيقة هذا الموضوع، حيث لا بدّ للمتصدّى لهذه المرتبة المهمّة من الخطوات العمليّة أن يكون هو متوفّرًا على شروط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، أي لا بدّ أولًا أن يكون قد اكتسب الخبرة اللازمة فيما يتعلّق بكلّ مورد من الموارد، ثمّ عليه ثانيًا أن يدرس الظروف المحيطة وقابليّة المخاطب لتقبّل الأمر، ثمّ في مرحلة ثالثة عليه أن يصفّي رؤيته من البغض والحقد ويراقب نفسه، ثمّ يخطو بعد ذلك في طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثمّ على من توفّر على هذه الشروط أن يتدرّج في أمره ونهيه في مراحل متتالية: فأولًا ينكر بقلبه، وبتبع ذلك يظهر النفور في وجهِه، فإن لم يؤثّر ذلك قام بالتذكير بلسانه، ثمّ وبإذن وليّ من أولياء الله الذين بلغوا مرتبة «مخالفة هوى النفس» يتّخذ الاجراءات العمليّة.
وزبدة القول هي:

أولًا: ليست القضيّة أنّه لا يليق أحد أن يرد هذا الميدان، كما أنّه ليس أيّ إنسان يمكنه أن يصدر الأوامر للآخرين بوروده.
وثانيًا: إنّ هذه الخطوة (التغيير العمليّ باليد) هي آخر خطوة من خطوات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الموضوعات المهمّة:
(الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، الخبرة والبصيرة، النفس الأمّارة، إصلاح النفس، التنبيه اللساني، التغيير باليد، الرحمة الإلهيّة، الانحراف الاجتماعي، العنف اللاإنساني، الاعتدال)

    

سؤال المقالة

تنظر المقالة التي بين يدي القارئ إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من زاوية أنّه هل يعدّ تجاوز التعاطي السلمي في تعاملنا مع الخاطئين أمرًا صحيحًا من وجهة نظر حضاريّة معاصرة، أم لا بدّ من الاكتفاء بهذا التعاطي؟ وهل يمكن أن تعنون بعض مراحل هذه الفريضة الاجتماعيّة البنّاءة بأنّها عنف غير إنسانيّ؟
إنّ من دواعي تأليف هذه المقالة تلك الهجمات التي وردت على هذه المرحلة من مراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهل كانت المؤاخذات في محلّها؟ وهل شوّهت القسوة وجه الإسلام فصار لا بدّ من إعادة تنقيته؟ أم أنّ البيان الدقيق للمسألة وخصوصًا من وجهة نظر أهل الشهود والعرفان سيوضّحها بما يكفي؟

    

المقدّمة

قال أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام:
>مَا أَعْمَالُ الْبِرِّ كُلُّهَا والْجِهَادُ فِی سَبِیلِ اللَّهِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْیِ عَنْ الْمُنْكَرِ إِلَّا كَنَفْثَةٍ فِی بَحْرٍ لُجِّيّ<. [1]
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرِ والقبيحِ فرعان من فروع الدين وضروريّات المذهب، وبدون رعايتهما ستنفصم الصلة بين الشريعة والمجتمع، وسيتزلزل قوام الاجتماع، وسيتّجه المجمتع نحو الانحطاط والسقوط، وسيستحكم الظالم في ظلمه وعدوانه، وسيستمرّ المظلوم في حرمانه، وفي مجتمع كهذا لن تصل القابليّات إلى فعليّتها، وستحرم النفوس الإنسانيّة من طيّ مراحل الكمال، وسيكون البوار والهلاك هو المرجع لها والمآل.[2]
إنّ هذا الواجب أمر فطريّ عملت به البشريّة منذ أن خلقت ولا تزال[3]، بل إنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب هما من مصاديق هذه الفريضة، وإن لم تكن في الأديان والمذاهب الأخرى بهذا الاسم وهذه التفاصيل التي جاءت في الإسلام.
وتتّسع دائرته حتّى إنّه ليشمل مفردات مهمّة كالجهاد والاسترقاق، والوعظ والخطابة، والتعليم والتربية، والحدود والقصاص إلى غير ذلك من مفردات. ويمكن اليوم أن نعدّ وجود الجيوش، وشبكات التلفزة والمواقع الإلكترونيّة المفيدة في الدنيا من مصاديق وأدوات ذلك أيضًا. لكن مع ظهور بعض الأعمال من قبل المسلمين باسم الدين والجهاد والنهي عن المنكر، صارت الظروف ملائمة في السنوات الأخيرة لأن يظهر بعض المصطادين المخادعين، فيكشفوا عن قبح نفوسهم باسم الدين، وأن يجعلوا هذا الاسم المبارك قرينًا للحروب وسفك الدماء والعنف؛ ليستخرجوا من هذا الماء العكِر أسماكهم المتعفّنة، فيحرفوا عقول الشباب الطاهرة...
فلننظر الآن إلى شروط وضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لنعرف كم تحمل هذه الكلمات من صلاح وسداد!

    

أ‌) شروط الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر

1. الخبرة والبصيرة في التشخيص

من الواضح أنّ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مبنيّة على معرفة صحيحة ودقيقة لظاهرتي المعروف والمنكر، وإن كان يُلاحظ على الكثير ممّن تعرّض لهذه الفريضة وخاض فيها، أنّ لديه نقصًا في أصل المعرفة أو ضعفًا في التطبيق؛ وذلك لأنّ نفس مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لها مراتب متفاوتة سواء في مرحلة معرفة المعروف والمنكر أم في مرحلة تطبيقهما. وبعبارة أخرى تُعتبر هذه المسألة من المقولات المشكّكة، فهناك تشكيك في مفهومي المعروف والمنكر، وتشكيك في مراحل تطبيقهما أيضًا.
ومن الطبيعي أنّ فهم الأشخاص وسعة اطّلاعهم واختلاف مراتب نفوسهم، تتفاوت في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإدراك المفاهيم البديهيّة والساذجة لهاتين المقولتين، وإن كان متيسّرًا للأشخاص العاديّين، إلّا أنّ الوصول إلى المراتب العالية للمعروف والاطّلاع على دقائق المنكر وظرائفه ليس كذلك.
لذا يجب على جميع أفراد المجتمع أن يتعاملوا مع هاتين المسألتين‏ المهمّتين والأساسيّتين في بناء المجتمع والمحافظة عليه، على أساس الأصول الشرعيّة المحرزة والمباني المتقنة لمدرسة التوحيد، كما أنّ التصدّي لمعالجة المسائل الغامضة لهذين الأصلين منحصر بالأشخاص المنزّهين عن الأهواء النفسانيّة، وأصحاب القلوب المبرّأة من تشويش عالم الكثرة، والبعيدين عن التوغل في تجاذبات النفس الأمّارة بالسوء؛ والمراد بهؤلاء الأشخاص علماء الشرع المبين والربّانيّون والإلهيّون، العارفون بمباني الإسلام الواقعيّ وتعاليمه. من هنا، لا بدّ لكلّ فرد من معرفة قيمة ذاته ونفسه، وأن لا يتعدّى حدود فهمه وإدراكه، ومقدار سعة علومه وأخلاقه.[4]

    

إظهار المرحوم الحدّاد لأسفه على مجزرة مسجد گوهرشاد

جرى الحديث يومًا فی محضر المرحوم السيّد الحداد رضوان الله عليه عن الوقائع المفجعة والمصائب الأليمة لمجزرة مسجد گوهرشاد والتي حصلت في زمان رضا شاه الملعون، وعن الفرد الذي وقعت هذه الفاجعة نتيجة خطاب ألقاه، وإثارته للحكومة البهلويّة الجبّارة، فقال السیّد الحدّاد وقد بدت على وجناته آثار التألّم والتأثّر الشديدین:
بأيّة جرأة أتى هذا الشخص بهذا الخطاب الحادّ في تلك الظروف الخطيرة جدًا والحسّاسة، فأدّى إلى حدوث مجزرة عامة ذهب ضحيّتها أكثر من أربعة آلاف إنسان مؤمن بري‏ء؟! وكيف سيجيب الله تعالى؟! وكيف خرج بنفسه سالمًا من هذه المعركة وترك سائر الناس تحت نيران الرصاص والسلاح؟! فهل هذا العمل إنسانيّ وصحيح؟! فلو كان هذا الكلام حقًا وصحيحًا فلتبق مع الناس حتّى يصيبك ما أصابهم، ولتصمد معهم حتّى آخر شخص في المعركة وآخر نفس فيهم، وعليك أن تختار لنفسك ذاك الطريق وتلك النتيجة التي كنت تتوقّعها للناس وتدعوهم إليها! أمّا إذا كان هذا العمل غير صحيح وكان بعيدًا عن‏ الموازين الشرعيّة والعقليّة، فلماذا يجب على الناس أن يتحمّلوا هذه الخسارة دونك؟! إنّ الكلام سهل، كما أنّ سَوْق الناس نحو طريق العدم ليس بالأمر الصعب، الصعب والخطير جدًا هو قبول مسؤوليّة الأمّة مقابل الحقّ تعالى، والذي له أهميّة حياتيّة وملزمة هو حفظ دماء المسلمين وأعراض الناس وحراسة روح الأمّة ومالها وناموسها.[5]

    

حديث حول اشتراط الخبرة والبصيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ومن المناسب هنا أن نذكر رواية للإمام الصادق عليه السلام في بيانه للمطالب السابقة؛ حيث يروي المرحوم الكلينيّ في كتاب الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق عليه السلام حيث سئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أواجب هو على الأمّة جميعًا؟ فقال: لا، فقيل له: ولِمَ؟ قال: >إنّما هو على القويّ المطاع العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلًا إلى أيٍّ من أيٍّ، يقول من الحقّ إلى الباطل (فهو لا يملك الإدراك الصحيح ولا يقدر على الفهم الواقعيّ لمحتوى هذين الأصلين، وكثيرًا ما يريد أن يُظهر الحقّ ويُبيّنه، لكنّه يمزجه بالباطل من حيث لا يشعر). والدليل على ذلك كتاب الله عزّ وجلّ قوله: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾[6] فهذا خاصٌّ غير عامّ، كما قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾[7] ولم يقل: على أمّة موسى ولا على كلّ‏ قومه، وهم يومئذٍ أممٌ مختلفة، والأمّة واحدة فصاعدًا، كما قال الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ﴾[8] يقول: مطيعًا لله عزّ وجلّ. وليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج (وعليه ففي زمان السكوت والقعود لا يكون الشخص العالم واجدًا للشرائط المطلوبة) إذا كان لا قوّة له ولا عذر ولا طاعة<.
قال مسعدة: وسمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول وسُئل عن الحديث الذي جاء عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: >إنّ أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر، ما معناه؟ قال: هذا على أن يأمره بعد معرفته (الكاملة بأطراف القضيّة وجوانبها وعلمه بحقيقة الدعوة واطّلاعه على واقعها)، وهو مع ذلك يقبل منه (هذا الكلام ويسمع موعظته)، وإلّا فلا<[9].
يستفاد من هذا الحديث أنّه... لا يمكن لأيّ شخص، مهما كانت موقعيّته وعلومه وسعة اطّلاعه على الأحكام الشرعيّة، أن يتصدّى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعتبر نفسه مطلق العنان فيهما دون التوجّه إلى حدوده الخاصّة ووظيفته في هذه المسألة. بل يجب عليه أن يحيط بشروط الأمر والنهي، والتي من جملتها بل من أهمّها معرفة الآمر بالمأمور به والمنهي عنه. وإلّا فكثيرًا ما يكون أمره موجبًا للمفسدة أو لتبعات لا تُحمد عقباها، وسوف تؤدّي إلى أن يفقد الطرف المقابل الاستعداد الموجود عنده لتلقّي الحقّ، كما حصل لذاك المسلم الذي ألزم جاره النصراني باعتناق الإسلام، ثمّ أخذ بيده إلى المسجد قبل موعد أذان الصبح بساعة، وبقيا معًا بعد صلاة الصبح يقرآن القرآن والأذكار ويصلّيان النوافل حتّى حان وقت صلاة الظهر، وبعد أداء الصلاة حثّه على البقاء في المسجد للاستفادة من أنواره وروحانيّته حتّى موعد صلاة العصر، وهكذا استمرّا بقراءة القرآن والأذكار والأدعية حتّى موعد صلاة المغرب، وكذلك حتّى حان موعد صلاة العشاء، وبعد ذلك عاد إلى منزله بجسم متعب وأعصاب منهارة ونفسيّة متألّمة وخُلق ضيّق. وفي صباح اليوم التالي أتاه جاره قبل أذان الصبح بساعة ليصحبه في الذهاب إلى المسجد، لكنّ هذا الجار الذي أسلم لتوّه، ولم تكن نفسه قد استراحت من أعمال اليوم السابق وعذاب تكاليفه، أجاب جاره من وراء الباب: عد من حيث أتيت، فإنّ دينكم هذا يلائم من لا عمل له، وهو موجب لفساد حياة الإنسان، وتمزيق نظام العلاقة العائليّة وضرورات الحياة.

    

2. إحراز قابليّة القبول ووجود الظروف المساعدة

الشرط الثاني للآمر بالمعروف هو وجود القابليّة في المخاطبين لقبول أمره ونهيه، وتوفّر الظروف النفسيّة والاجتماعيّة المساعدة على بيان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهنا "ينبغي التوجّه إلى هذه المسألة، وهي أنّ حصول الأرضيّة المساعدة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعني في الفقه الشيعي تحقّق القبول التامّ والتأثير المثاليّ لهذين الأصلين الأساسيّين، إذ من الممكن أن لا يتحقّق ذلك أبدًا في أيّ زمن من الأزمان. بل هو بمعنى التشخيص الصحيح‏ لموقعيّة المخاطب والمورد الذي يجري فيه هذا الأصل، فعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون مطّلعًا تمامًا على شروط المكان والزمان، ومشرفًا على خصوصيّات المخاطبين، فكثيرًا ما يكون طرح مسألة في مكان معيّن مفيدًا ويكون طرحها بعينها في مكان آخر مضرًّا.
وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: >نُصحُكَ بين الملأ تقريع<.[10]
بمعنى أنّ نصيحتك لشخص ـ التي هي أمر إيجابي وجيّد ـ إذا كانت بين أناس آخرين ستؤدّي إلى خجل المخاطب وكسر شأنيّته.
من هنا فقد توجّه نبيّ الإسلام العزيز إلى هذه النكتة المهمّة، وحافظ على مراعاة شؤون الملوك والزعماء الذين كانت أزمّة الأمور بيدهم، حين أرسل إليهم رسله ودعاهم إلى الإسلام. وقد وصف الله تعالى رسوله في القرآن الكريم:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾[11]
أي أنّك كنت تتعامل مع المشركين بلطافة ومرونة بواسطة العفو واللطف الإلهيّين، ولو كنت تتعامل معهم بقسوة وخشونة وقلب غليظ غير قابل للانعطاف لتفرّقوا من حولك وتلاشوا بقلبٍ منكسر، وعند ذلك لن تعود كلماتك ومعاجزك مؤثّرة في قلوبهم.
وفي مكانٍ آخر يخاطب فيه النبيّ موسى وهارون:
﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾.[12]
هذه الآية من آيات كثيرة يجب الغور والتعمّق في مضامينها، بل المناسب جدًا أن يقرأها زعماء الحكومة الإسلاميّة بدقّة ويتّخذوها أسوة وقدوة لهم، ويستفيدوا من النكات الدقيقة التي أوحى الله بها على رسوله موسى عليه السلام. وسوف نأتي بحول الله وقوّته في المباحث الآتية على بسط الكلام مفصّلًا في هذه الآية، عند التعرّض لوظيفة الحكّام المسلمين وطريقة تبليغ وإنذار أمراء الحكومة الإسلاميّة.
وبالإجمال تتحدّث هذه الآية عن أمر الله تعالى موسى وهارون: اذهبا إلى فرعون الذي طغى ووضع نفسه مقابل مقام الربوبيّة، حيث أخرجها من حدود العبوديّة وادّعى لها الألوهيّة. لكن عليكما أن تلتفتا إلى أن تكون دعوتكما إيّاه إلى التوحيد بخطاب ليّن ومعتدل ويكون حديثكما معه موزونًا، فعسى أن يلين قلبه ويعود إلى الصراط القويم ويخاف من الهلكة، فينجو بذلك من تبعات الأنانيّة.

    

عدم خلط الأنبياء دعواتهم بأهوائهم النفسانيّة

وبواسطة هذه الآية يتجلّى الفرق بوضوح بين دعوة الأنبياء والأولياء الإلهييّن، وبين سائر الأشخاص المنتحلين لشخصيّتهم والمنتسبين إليهم والمتشبّهين بهم.
ففي دعوة الأنبياء والأولياء الإلهييّن لا تأثير للنفس على التبليغ والدعوة أبدًا، وإنّما التبليغ قائم فقط على أساس تعلّق التكليف من قبل الله تعالى والإتيان بواجبات العبوديّة والانقياد للمشيئة الإلهيّة، سواء وصل إلى النتيجة أم لم يصل.
أمّا فيما يتعلّق بدعوة سائر الأشخاص فإنّ مسألة تدخّل الأهواء النفسيّة والرذائل من الصفات والملكات الشخصيّة، وإن كان يتمّ تصويرها بصورة الإنذار وتجعل بقالب الدعوة إلى الله وتحقيق الأهداف العالية للدين، إلّا أنّها تُلقي بأثرها الواضح على كيفيّة إظهار الدعوة والإنذار بحيث يكون‏ واضحًا حتّى للفرد العامّي أنّ وراء دعوة هذا الشخص إلى التوحيد والقيم الإنسانيّة واكتساب الملكات الفاضلة دوافعُ نفسيّة تقوم على أساس الحبّ والبغض الدنيويّين، ويبتغي منها تحصيل المنافع الشخصيّة من الوصول إلى الرئاسة والمراتب العالية للأمر والنهي، وإرضاءً للملكات الرذيلة للنفس الطاغية وغير المتربّية.
يقول الله تعالى للنبيّ موسى عليه السلام: إنّ فرعون وإن ادّعى الألوهيّة وتعدّى مقام العبوديّة، لكنّ قلبه لا يزال مستعّدًا ومتهيّئًا لتلقّي كلام الحقّ، فإذا تمّ التعامل معه بمداراة، والتكلّم معه بمنطق صحيح ـ لا باللعن والسبّ والطرد والمنع والأمر والنهي ـ فمن الممكن أن يخرج من حالة العناد هذه، ويؤوب إلى مرتكزاته الفطريّة وإملاءاته العقليّة ويقبل بمطالب الحقّ التي تقال له.[13]

    

3. إصلاح النظرة إلى مخلوقات اللـه

من الشروط المهمّة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسألة نوع نظرة الآمر والناهي إلى ما سوى الله، فأولياء الله العظام يدعون الناس إلى هذا المقام أن يا أيّها الناس تعالوا وانظروا إلى مخلوقات الله على أنّهم عيال الله[14]، واغسلوا الرمد عن عيونكم، ولاحظوا محبّة الله لخلقه! وانطلاقًا من هذه النظرة، لا يمكن للإنسان أن يرى آخر في ورطة الهلاك فيتركه فيها، كما لا يمكنه أن يرى فاسدًا أو معاندًا يعيث في الأرض فسادًا فيخلّي سبيله.
ولكن من خلال هذا النوع من الرؤية فإنّ خطواته العمليّة ستكون طافحة باللطف والرأفة ولو اتّخذ منه موقفًا قاسيًا؛ وذلك لأنّه ليس في هذه الحركة أيّ نوع من الحقد الشخصيّ، وكلّ ما هو في القلب هو الحبّ في الله والبغض في الله ـ وهذا هو معنى «الصلح مع الكل» ـ لأنّه ليس على نزاع شخصيّ مع أحد، ولو قام بخطوة في مقابل فاعل المنكر في المجتمع فإنّما قام بها لمسؤوليّته أمام الله تعالى تجاه المجتمع. وهذا ما يلاحظ كثيرًا في سيرة أهل البيت عليهم السلام ومواقفهم مع أعدائهم، فالحرّ بن يزيد الرياحي الذي كان يسدّ الطريق في وجه الإمام بالأمس، ها هو اليوم بعد توبته وإنابته في حضن الإمام بغير أن تكون في قلب الإمام شائبة من البغض له أو الأذى منه، وهذا لا يختصّ بالحرّ في يوم عاشوراء، فلو أنّ الشمر الذي كان جالسًا على صدر الإمام الحسين، تاب بعد كلّ ما فعل من تعدّيات وتجاوزات ورجع عن مسير السوء الذي كان فيه، فإنّه سيكون في حضن الإمام بغير أن تكون عليه ذرّة من البغض أو الأذى، وهذا هو الفارق بين الإمام وغيره.

    

4. مراقبة النفس

ومن الشروط رعاية تلك المسألة المهمّة "مراقبة النفس"، بمعنى أنّه بمجرّد أن يرى نقصًا في غيره ينظر إلى نفسه أوّلًا فيأمرها وينهاها، ثمّ يقوم بأمر غيره أو نهيه، يقول الشاعر مولانا:
اى بسا ظلمى‏ كه‏ بینى‏ از كسان‏
                             خوى تو باشد در ایشان اى فلان
در خود آن بد را نمى‏بینى عیان‏
                             ور نه دشمن بوده‌اى خود را به جان
حمله بر خود مى‏كنى اى ساده مرد
                             همچو آن شیرى كه بر خود حمله كرد


يقول:
وما أكثر الظلم الذي تراه صادرًا من الآخرين وهو خلقك أنت فيهم يا فلان
وإنّك لا ترى هذا السوء في نفسك عيانًا وإلّا كنت عدوًّا شديدًا لنفسك
وإنّك تهاجم نفسك أيّها الرجل الساذج مثل ذاك الأسد الذي هاجم نفسه (يشير إلى قصّة الأسد والأرنب الذي خدعه بإراءته صورته في ماء البئر فانقضّ عليها).


ويمكن أن نعدّ من نماذج مراقبة النفس في حال النهي عن المنكر ما قام به أمير المؤمنين عليه السلام في معركة الخندق حين تفل عمرو بن عبد ودّ في وجهه:
او خدو انداخت‏ در روى على
‏                             افتخار هر نبىّ وهر ولىّ‏
آن خدو زد بر رخى كه روى ماه
                             سجده آرد پیش او در سجده‏گاه
در زمان انداخت شمشیر آن على‏
                             كرد او اندر غزایش كاهلى
‏گشت حیران آن مبارز زین عمل‏
                             وز نمودن عفو ورحمت بى‏محل‏
گفت بر من تیغ تیز افراشتى‏
                             از چه افكندى مرا بگذاشتى‏
آن چه دیدى بهتر از پیكار من
                             ‏تا شدى تو سست در اِشكار من‏
آن چه دیدى كه چنین خشمت نشست
                             ‏تا چنان برقى نمود وباز جست‏


يقول:
تفل في وجه ذاك الـ عليّ ، مفخرِ كلّ نبيّ ووليّ
تفل على الوجه الذي يسجد البدر له وقت السجود
ألقى عليّ بسيفه، متثاقلًا عن قتله
حارَ العدوّ لفعله، للصّفح في غير محله
قال: يا ذا الذي بتّاره قصمني، أهكذا تلقي به تهملني؟!
ماذا ترى خيرًا لك من جسدي، حتّى وهنت هكذا عن صيدتي؟!
ماذا بصُرتَ إذ خبا منك الغضب، كالبرق يلمع صاعقًا ثم ذهب؟!


ويبيّن الملّا الرومي بعد ذلك السبب في ترك السيف والامتناع عن القتل فيقول:
گفت: من تیغ از پى حقّ می‌زنم
‏                             بنده حقّم نه مأمور تنم‏
شیر حقّم نیستم شیر هوا
                             فعل من بر دین من باشد گوا

يقول:
قال: أضربُكم بالسيف ضربَ الحقّ، لستُ عبدَ النفسِ عبدُ الحقّ
أسدُ الله أنا، ما أسد الهوى، وعلى ديني فعالي شاهدة

إلى أن يقول:
چون درآمد علّتى اندر غزا
                             تیغ را دیدم نهان كردن سزا
تا أحَبَّ لِلَّه آید نام من‏
                             تا كه أبْغَضْ لِلَّه آید كام من
‏تا كه أعْطى‏ لِلَّه آید جود من‏
                             تا كه أمْسَكْ لِلَّه آید بود من
‏بخل من لِلَّهْ، عطا لِلّه وبس
                             ‏جمله لِلّه‏ام نیَم من آنِ كس‏
و آنچه لِلَّه میكنم تقلید نیست‏
                             نیست تخییل وگمان، جز دید نیست


يقول:
حين حلّت علّة ما في القتال، آثر الحقُّ لىَ ترك القتال
علّني أغدو «أحبَّ للإله»، علّ أمنيّتي «المبغضَ للّه»
ليت جودي يمتثل «أعطِ للّه»، ووجودي كلّه «أمسَكَ للّه»
ويكون البخل منّي للإله، وعطائي وكياني للإله
لست أفعل للإله مقلّدًا، ليس ظنًّا أو خيالًا قوليا
إنّما أفعل فعلي شاهدًا، عين قلبي أَبصرُ فيما أقول

    

5. ملاحظة مقدار الضرر

كلام سماحة السيّد الحدّاد قدّس سرّه: دع النجاسة على غيرك! لِمَ تلقيها على نفسك؟!

حيثما شاهدتَ أنّ إصلاح أمر من الأمور ـ بما فيها الأمور العائليّة والداخليّة والأمور الاجتماعيّة والخارجيّة ـ يستوجب دوران الأمر بين أن‏ يرد الفساد والتلوّث على نفسك أو على ‏الغير، فلا تقبل ذلك الفساد لنفسك؛ لأنّه سيكون أمرًا لا يمكن إصلاحه!
وإذا ما شاهدت في مكان ما أ نّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي تقوم به سيجعلك متشنّج الأعصاب ويصيب أفكارك بالاضطراب ويهدم صفاء ذهنك، وأنّ هذا الضرر الذي يصيبك أكبر من الضرر الذي سيصيب ذلك الشخص إثر إتيانه لذلك الجرم والجناية، فعليك أن تكفّ عن هذا العمل وتتجنّبه. إنّ هذا الضرر الوارد هو في حكم النجاسة التي ترد على نفسك، فَلِمَ تقبلها لنفسك؟ دع الضرر يصيب الغير، وعليك نفسك حيث لا يضرّك‏ تنجّس الغير.
وإجمالًا، فإنّ أمر طهارة نفس الإنسان له الأولويّة على كلّ شي‏ء، فلا يحقّ للإنسان أن يلوّث نفسه من أجل رعاية المصالح الخارجيّة. لأنّ تطهير النفس وتزكيتها في الفعل والحال هو المطلوب من الإنسان وهو الذي سيؤاخذ عليه ويُسأل عنه، أمّا متابعة الأمور الاجتماعيّة، والسعي في حوائج الناس والتدريس والكسب وأمثالها فهي أمور يُسأل عنها ويُحاسب‏ عليها إن أمكن القيام بها، أمّا حين تكون الظروف غير متاحة للعمل بها فإنّ المرء لن يُسأل عنها.
ومن ثمّ فلو علم المرء وتيقّن أنّ نفسه لن تتلوّث إثر الدخول في هذه الأمور، وأنّ هذه المسائل لن تُعيقه عن الرقيّ والتكامل والتوحيد والإيمان والإيقان، ولن تسلب منه اطمئنان الخاطر وسكون القلب والفكر، فمن المسلّم أنّ عليه المبادرة والسعي لقضاء حوائج خلق الله قدر الإمكان.
أمّا لو شاهد أنّ الدخول في مثل هذه الأمور يستلزم إهدار رأس المال وإضاعة الثروات الإلهيّة، أي إذا استلزم الغفلة عن الله والتخبّط في أمور الدنيا وزخارفها والانغماس في عالم الكثرات، فلا يجوز له في هذا الفرض أن يبيع نفسه ويقايضها بهذه الأمور.
وذلك أوّلًا: لأنّ العمل الحسن في الخارج إنّما يصدر من الشخص الجيّد، أي من الإلهيّ الموحِّد صاحب اليقين، وذلك العمل سيكون في الخارج منشأً للأثر الجيّد وللثمرات الجميلة الحسنة؛ أمّا لو صدر من الشخص المنغمس في الكثرات التي تستلزم الغفلة عن النفس وعن الله والعرفان الإلهيّ وعن الخلوة وحضور القلب عند الصلاة، فلن يكون ذلك العمل مستحبًّا آنذاك ولا مستحسنًا، بل سيكون أمرًا ملوّثًا وقبيحًا مهما بدا ظاهره جميلًا ملفتًا للأنظار، ومهما حسبه عامّة الخلق أنّه من أفضل المثوبات.
وعلّة ذلك أ نّ النتيجة تتبع أخَسَّ المُقَدَّمَتَيْنِ، وحين يزهو العمل في الظاهر والخارج بجميع شروط الحسن والجمال لكنّ فاعله يفعله رياءً أو اتّباعًا لهوى النفس أو للمقاصد غير الإلهيّة، فإنّ ذلك العمل قبيح في الحقيقة وغير جميل ولن يترك أثرًا مفيدًا ولن يكون في عداد مَا يَنفَعُ‏ النَّاسَ[15]، مهما عدّته الآراء والأفكار العامّة جميلًا وحسنًا، لأنّ المناط حقيقة العمل وواقعيّته، وهي حقيقة فاسدة في هذه الحال تستتبع عدم قبوله عند الله في موقف يوم القيامة.
إنّ العمل الحسن يصدر من الشخص الجيّد ولا يصدر من الشخص غير الجيّد مهما اصطنع الأخير في الخارج لظاهره أنواع التجميلات؛ ذلك لأنّ الكحل لن يهب النور للأعين العمياء، والخضاب على حواجب العميان لن يؤثِّر في بصرهم ولا يزيد في نور أعينهم.
يقول الفرقان العظيم الإلهيّ: ﴿يَأيُّهَا الَّذِينَ ءَ امَنُوا عَلَيكمْ أنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾.[16]
و يقول أيضًا: ﴿يَأيُّهَا الَّذِينَ ءَ امَنُوا قُوا أنفُسَكُمْ وأهْلِيكُمْ نَارًا﴾.[17]
وثانيًا: يتّفق جميع عقلاء العالم على أنّه إذا دار الأمر بين إصابة الضرر القطعيّ للإنسان نفسه أو إصابته لغيره، فإنّ دفع الضرر عن النفس‏ مقدّم على دفعه عن الغير. وبطبيعة الحال فإنّ جميع هذه المسائل تصدق‏حين يكون الضرر الوارد على الإنسان أكثر من الضرر الوارد على الغير أو من المنفعة الحاصلة له.
فلو أصيب شخص ما بالإفلاس ـ مثلًا ـ وخسر مليون دينار، وكان جميع رأس مال إنسان آخر ألف دينار، وعلمنا أنّه لو وهبه جميع أمواله في‏ محاولة خيّرة لإنقاذه من الإفلاس فإنّ ذلك لن يكون مؤثّرًا، لأنّ ألف دينار لا تنفع شيئًا أمام ألفٍ أمثالها؛ مضافًا إلى أ نّ ذلك لن يؤثّر بأيّ وجه في رفع اضطراب وقلق ذلك المفلس أو إنقاذه من الحبس والسجن، أو في بعث الطمأنينة في قلوب عائلته، بل سيجعل نفس الواهب فقيرًا مُدقعًا وسيصيب عائلته بالفقر والفاقة والقلق؛ ومن ثمّ يتحتّم على هذا الشخص في هذه الحال أن يحفظ رأس ماله وثروته وأن لا يوقع الضرر على نفسه وعائلته.
أمّا لو كانت خسارة ذلك المصاب بالإفلاس عشرة آلاف دينار، وكانت ثروة الإنسان المحسن ألف دينار فإنّ من المستحسن أن يعطيه نصفها لمساعدته على تجاوز محنته، إذ سيكون قد حلّ جزءًا من عشرين من هذه المحنة. ومع أ نّ من المسلّم أ نّ الضرر سيصيبه بذلك، لكنّه لن يسبّب هلاك أهله وعياله وسيكون بإمكانهم أن يقتصدوا في معيشتهم ونفقاتهم ويتحمّلوا النقص في ذلك، وأن يقتّروا على أنفسهم مقابل تلك المثوبة العظيمة في نجاة ذلك المفلس ونجاة عائلته.
يقول المحدِّث القمّيّ: ورد في «البحار» وغيره في جملة وصايا الإمام السجّاد عليه السلام لولده أنّه قال له:
>يَا بُنَيّ! اصْبِرْ على النَّوَائِبِ، ولَا تَتَعَرَّضْ لِلْحُقُوقِ، ولَا تُجِبْ أخَاكَ إلى الأمْرِ الذي مَضَرَّتُهُ عَلَيك أكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهِ لَهُ<.[18]

    

المنع من إصلاح المجتمع والناس بإفساد النفس

و يقول أميرالمؤمنين عليه السلام:
>وإنِّي لَعَالِمٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ وَلَكِنِّي لَا أرَى إصْلَاحَكُمْ بِإفْسَادِ نَفْسِي...<[19]
يقول ابن أبي الحديد في شرح فقرة: >وإنِّي لَعَالِمٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ<:
يقول: إنّما يصلحكم في السياسة السيفُ، وصَدَقَ. فإنّ كثيرًا لا يصلح إلّا به، كما فعل الحجّاج بالجيش الذي تقاعد بالمهلّب، فإنّه نادى مناديه: من وجدناه بعد ثالثة لم يلتحق بالمهلّب فقد حلّ لنا دمه. ثمّ قتل عمير بن ضابئ وغيره فخرج الناس يُهرعون إلى المهلّب.
و أميرالمؤمنين لم يكن ليستحلّ من دماء أصحابه ما يستحلّه مَن يريد الدنيا وسياسة الملك وانتظام الدولة. قال عليه السلام: >ولَكِنِّي لَا أرَى‏ إصْلَاحَكُمْ بِإفْسَادِ نَفْسِي<، أي: بإفساد ديني عند الله تعالى. إلى آخر ما أورده هنا من الشرح.[20]
إنّ مولى الموالي أميرالمؤمنين عليه السلام كان يعلم طريق نفع أمّته ودفع الضرر عنها، لكنّ قيامه بذلك العمل وشروعه به كان يستلزم الإضرار بوجود نفسه المقدّسة؛ لذا فإنّه لم يقم بإصلاح أمورهم كما يعلم تلافيًا لفساد النفس ودفعًا لتحمّل الضرر.[21]

    

ب‌) مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ينقل ابن جرير الطبري في تاريخه[22] عن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه: سمعت عليًّا عليه السلام يقول يوم لقينا جيش معاوية في صفّين:
>أيّها المؤمنون! إّنه من رأى عدواناً يُعمل به ومنكراً يُدعى إليه فأنكره‏ بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكر بلسانه فقد أُجر وهو أفضل من صاحبه، ومن (لم يكتف بإنكار هذه الأفعال بقلبه ولسانه فقط بل أقدم عمليّاً على منعه و) أنكره بالسيف (وحارب شياطين الكفر والفساد وأعداء الله تعالى) لتكون كلمة الله العليا (ويكون الطريق إليه والصعود إلى مراتب العزّة والشرف وتكامل النفوس مفتوحاً) وكلمة الظالمين السفلى (وكذا سدّ مسير الانحراف والانحطاط إلى عالم البهيميّة والشهوات وإلى عالم الكثرات)، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى (وحصل على السعادة الأبديّة) وقام على الطريق ونوّر في قلبه اليقين<.[23]
فكما هو واضح من الرواية، إنّ القيام بهذه الفريضة متوقّف على طيّ مراتب وفق ما يلي:
الأولى: الإنكار القلبيّ وإظهار الكراهة.
الثانية: التذكير باللسان (بالقول الليّن ثمّ الغليظ).
الثالثة: الإجراءات العمليّة والتغيير باليد (وذلك بالترتيب: الإضرار، الجرح، وفي النهاية القتل).[24]

    

توضيح المراتب الثلاث ومستوياتها

المرتبة الأولى: القلب والوجه

وتوضيح ذلك: أنّ على الإنسان حين يجد منكرًا أن ينكره بقلبه وينفر منه ويبرز أذاه. وهذه المرتبة هي أولًا نوع من التذكير للإنسان نفسه كيلا يفقد ـ لكثرة ما يرى من المنكرات ـ غيرته الإنسانيّة والدينيّة اتجاه الرذائل الاجتماعيّة، وكي لا يصاب باللاأباليّة والتراخي أمام المسؤوليّات الاجتماعيّة. وتظهر معالم هذا النفور القلبيّ ( المتناسبة مع الظروف المحيطة) في وجهه، الأمر الذي يمكن أن يشكّل خطوة أولى من التذكير لفاعل المنكر وغيره؛ و«إنّ اللبيب من الإشارة يفهم».

    

المرتبة الثانية: الكلام

فإن لم ينجع هذا المستوى من الإنكار، ينتقل الآمر إلى المرحلة الثانية والتي هي الكلام والتنبيه باللسان. ولهذه المرحلة مراتب أيضًا كما أنّ لها ظروفها الخاصّة المرتبطة بفعل المنكر وفاعله والناهي عنه، فقد يكفي في بعض المواضع كلام لطيف مع ابتسامة أو هديّة ليرتدع المشتبه عن اشتباهه، ويلتفت إلى نفسه ويجبر ما فاته.
وقد يرتكب فاعل المنكر بعض المخالفات متأثّرًا بعوامل خارجيّة، كأن ينكر الله مثلًا وربّما أصرّ على إنكاره، ففي هذه الحالة لا بدّ من البحث عن عوامل تركه للدين من خلال حوار أخويّ يرفع شبهاته، وفي أثناء هذا الحديث لا بدّ من التعرّض لذكر العقاب الدنيويّ والأخرويّ الذي هو أحد المستويات أيضًا.
والمستوى الأخير من مستويات الكلام والتنبيه باللسان هو عبارة عن الخطاب الغليظ في الأمر والنهي المؤكّدين الشديدين. وفي هذا المستوى يرتفع الصوت حتّى إذا ما كان ثمّة غافل انتبه من نومه. وإن كان للناهي عن المنكر إحاطة بحالات المخاطب وإشراف على نفسه، فيمكنه أن يستفيد من كلمات قد تخالف شأن المتكلّم ظاهرًا، وذلك لكي يمنع هذا المخطئ قدر المستطاع من الضرر ويحول دون غرقه في الذنوب والمعاصي، فمثلًا لو كان هذا المنهيّ منغمرًا في الشهوات، ولا ينفكّ عن الذنوب المرتبطة بغريزة الجنس في حياته الفرديّة أو الاجتماعيّة يمكن أن يقال له: أفهل أنت حيوان حتّى غدوت تقوّي في نفسك جانب الحيوانيّة؟!

    

نماذج من النهي عن المنكر بالقول الغليظ

لدينا في الروايات وسير الأعاظم وأولياء الله موارد من هذا السلوك الذي ربّما يبدو في ظاهره غير لائق، لكنّه في الحقيقة لا يصدر إلّا حفاظًا على المصالح الإنسانيّة الرفيعة للفرد أو المجتمع، ولا ينطلق إلّا من الرحمة، ونشير فيما يلي إلى نموذجين من ذلك:
1. كلام الإمام الحسين عليه السلام مع الحرّحين جعجع الطريق بركب أبي عبد الله الحسين عليه السلام فقال له الإمام: >ثكلتك أمّك ما تريد؟< [25]
2. كلام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في خطابه لأهل الكوفة: >یا أشْبَاهَ الرِّجالِ ولا رِجالَ‏!<[26] وهذا الكلام يكشف عن حقيقة أولئك الذين يتركون وليّ الله وحيدًا ثمّ يولّون مدبرين.[27]

    

المرتبة الأخيرة: الاجراءات العمليّة والتغيير باليد

لهذه المرتبة أيضًا مستويات من البسيط إلى المركّب، فمن مصاديق البسيط ما نراه في المجال التربويّ، والذي يؤيّده علماؤها، حيث يعتقد المتخصّصون فيها أنّ إجراءات تربويّة بسيطة كالحرمان من بعض المرغوبات، أو التأديب الجسدي، تمنع أو تشجّع عن فعل أو ترك بعض الأعمال، وهذه آخر مرحلة من مراحل التربية، ولا بدّ أن تتمّ ضمن شروط وضوابط، وغياب هذا العنصر عن عمليّة التربية يضرّ بها كثيرًا، وقد صاغ الشاعر الفارسي الحكيم سعدي الشيرازي هذا المعنى في كتابه گلستان (روضة الورد):
استاد ومعلم چو بود بی آزار
                             خرسك بازند كودكان در بازار

والمعنى:
ما إن خلا المعلّم من عقاب، حتّى رعا الأطفال في الأسواق

ثمّ يقول:
پادشاهی پسر به مكتب داد
                             لوح سیمینش بر كنار نهاد
بر سرلوح او نوشته به زر
                             جور استاد به زمهر پدر

والمعنى:
أرسل ملك طفله، لمّا شدا للمكتب
وفوق لوح فضّة، خطّ له بالذهب
جور المعلّم يا فتى، أفضل من حبّ الأب.[28]

    

المستوى الأعلى من التغيير باليد (موضع الإشكاليّة)

أما المستويات الأعلى في المرتبة الأخيرة فهي التي ينصبّ عليها التشكيك: أنْ هل يصحّ القيام بالسيف في وجه المنكر الاجتماعيّ ـ وهو ما يدعى في الإسلام بالجهاد ـ ؟ وهل ورد في الإسلام أن يصاب فاعل المنكر بالجراح أو يعمد إلى قتله؟ إن كان هذا في الإسلام فكيف ينسجم مع الرأفة الإنسانيّة؟ كما أنّ البحث لا يقتصر على أرواح الآخرين بل يشمل المصلح نفسه إن كان طريق الإصلاح محفوفًا بالخطر عليه وعلى من معه، أفلا يكون حينئذ مصداقًا للآية: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيديكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾[29] كما هو الحال في الثورة على الحكومة الظالمة؟
إنّ الذين ينكرون الجهاد والرقّ في الإسلام في هذا المجال حالهم كمن يعمل على تزيين الدين غافلين عن أنّ الحقّ سوى ذلك وأنّ الدين لا يحتاج إلى زينة، وما تسعى هذه المقالة لإثباته والبيان الذي كان الناجون من وادي النفس يسعون إلى تقديمه لنا عن الدين هو أنّ علينا نحن أن نداوي أبصارنا لكي تقع على جمال الدين.
لم تمنع الشريعة المقدّسة من الإجراءات العمليّة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك لأنّ دينًا يخلو من برنامج يواجه المنكرات حتّى النهاية لا يليق أن يتّبع، والقانون الذي يقول: «لا أملك حلًّا للمجرم الذي لا يصلح أمره بالتذكير والبيان» ليس بالقانون الكامل.
ربّما كان الذين يتحدّثون عن العنف في الإسلام وينكرون الإعدام والقصاص والجهاد و... لا يرون السجون التي في بلدانهم عنفًا، وربّما رأوا أنّ الاقتصاص من قاتل ثبتت جريمته جناية، لكنّهم لا يرون سحق إنسانيّة الأبرياء بشكل مبرمج ومدروس بواسطة الإعلانات الماديّة وشبكات الانترنت والقنوات الفضائيّة الفاسدة جريمة.
أجل، أجاز الإسلام تلك الإجراءات والعقوبات، لكنّه شرطها بما لم يأت على ذكره أيّ من قوانين الدنيا، وهو إذنُ من طوى مراحل السير والسلوك العرفانيّ، فلم تعد له رغبات نفسيّة خاصّة، ولا يغلبه هوى النفس، وكلامه كلام إمام الزمان عليه السلام. ويدعى هذا الإنسان في العرفان الإسلاميّ بالإنسان الكامل[30]، الإنسان الذي لا يرى في شؤونه الخاصّة إلا الله شأنه في ذلك شأن الأنبياء عليهم السلام، كما يدعى في الفقه بالوليّ الفقيه وحاكم الإسلام.[31]
وفي حال عدم العثور على رجل بهذه الصفات فإنّ الحكم في الأمور الغامضة وغير البديهيّة هو الاحتياط. وهذا ما أوصى به أهل البيت عليهم السلام حين أمروا بالاحتياط والتوقّف في موارد الدماء والنفوس والأعراض في حالات الاشتباه واختلاط الأمور؛ فهذا هو معنى الاحتياط، لا أن ننفي الحدّ والقصاص من أساسيهما.
أما حول كيفيّة الجهاد والاسترقاق في الإسلام ـ واللذين هما من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ فلو أمعنّا النظر في كتب أهل التوحيد والعرفاء الربانيّين لاتّضحت حقيقة مكانتهما لمن كان يرى فيهما عنفًا ينافي الإنسانيّة.

    

شروط الجهاد في الإسلام وكيفيّة الاسترقاق

للعالم الربّاني المرحوم العلّامة الطباطبائي في تفسيره القيّم «الميزان» بحث تحليليّ مفصّل، تاريخيّ واجتماعيّ وروائيّ، نعرض فيما يلي لشيء منه:

    

ما هو السبيل إلى الاستعباد في الإسلام؟

يتأهّب المسلمون على من يلونهم من الكفار فيتمّون عليهم الحجّة، ويدعونهم إلى كلمة الحقّ بالحكمة والموعظة والمجادلة بالتي هي أحسن، فإن أجابوا فإخوان في الدين، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم وإن أبوا إلّا الردّ فإن كانوا أهل كتاب وقبلوا الجزية تركوا وهم على ذمّتهم، وإن أخذوا عهدًا ـ كانوا أهل كتاب أم لا ـ وُفِيَ بعهدهم، وإن لم يكن شي‏ء من ذلك أوذنوا على سواء وقوتلوا.
يقتل منهم من شهر سيفًا ودخل المعركة، ولا يقتل منهم من ألقى السلم، ولا يقتل منهم المستضعفون من الرجال والنساء والولدان، ولا يبيّتون[32] ولا يغتالون، ولا يقطع عنهم الماء، ولا يعذّبون ولا يمثّل بهم فيقاتلون ﴿حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾[33] فإن انتهوا فلا عدوان إلّا على الظالمين.
فإذا غلبوهم ووضعت الحرب أوزارها فما تسلّط عليه المسلمون من نفوسهم وأموالهم فهو لهم؛ وقد اشتمل تاريخ حروب رسول الله صلّى الله عليه وآله ومغازيه على صحائف غرّ متلمّعة مملوءة من السيرة العادلة الجميلة، فيها لطائف الفتوّة والمروّة، وطرائف البرّ والإحسان.

    

ما هي سيرة الإسلام في العبيد والإماء؟

إذا استقرّت العبوديّة على من استقرّت‏ عليه صار مِلْكَ يمين، منافع عمله لغيره ونفقته على مولاه. وقد وصّى الإسلام أن يعامِل المولى مع عبده معاملة الواحد من أهله، وهو منهم فيساويهم في لوازم الحياة وحوائجها ـ وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يؤاكل عبيده وخدمه ويجالسهم، ولا يؤثر نفسه عليهم في مأكل ولا ملبس ونحوهما ـ وأن لا يُشقَّ عليهم ولا يُعذّبوا ولا يسبّوا ولا يظلموا، وأجيز أن يتزوّجوا فيما بينهم بإذن أهلهم، وأن يتزوّج بهم الأحرار، وأن يشاركوهم في الشهادات، ويساهموهم في الأعمال حال الرقّ وبعد الانعتاق.
وقد بلغ من إرفاق الإسلام في حقّهم أن شاركوا الأحرار في عامّة الأمور، وقد قلّد جمع منهم الولاية والإمارة وقيادة الجيش على ما يضبطه تاريخ صدر الإسلام، ويوجد بين الصحابة الكبار عدّة من الموالي كسلمان وبلال وغيرهما.
وهذا رسول الله صلّى الله عليه وآله أعتق جاريته صفيّة بنت حيّ بن أخطب و تزوّج بها، وتزوّج جويريّة بنت الحارث بعد وقعة بني المصطلق، وقد كانت بين سباياهم، وكانوا مائتي بيت بالنساء والذراري، وصار ذلك سببًا لانعتاق الجميع، وقد مرّ إجمال القصّة في الجزء الرابع من الكتاب.
ومن الضروريّ من سيرة الإسلام أنّه يقدّم العبد المتّقي على المولى الحرّ الفاسق، وأنّه يبيح للعبد أن يتملّك المال ويتمتّع بعامّة مزايا الحياة بإذن من أهله. هذا إجمالٌ من صنيع الإسلام فيهم.
ثمّ أكّد الوصيّة وندب أجمل الندب إلى تحرير رقبتهم، وإخراجهم من ظرف الاستعباد إلى جوّ الحريّة ولا يزال يقلّ بذلك عددهم ويتبدّل جمعهم موالي وأحرارًا لوجه الله، ولم يقنع بذلك دون أن جعل تحرير الرّقبة أحد خصال الكفّارات، مثل كفّارة القتل وكفّارة الإفطار، وأجاز لهم الاشتراط والكتابة والتدبير، كلّ ذلك عناية بهم وقصدًا إلى تخليصهم وإلحاقًا لهم بالمجتمع الإنسانيّ الصالح إلحاقًا تامًّا يقطع دابر الاستذلال.
تحصّل ممّا مرّ أمور ثلاث:
الأوّل: أنّ الإسلام لم يأل جهدًا في إلغاء أسباب الاستعباد وتقليلها وتضعيفها حتّى‏ وقف على واحد منها لا محيص عن اعتباره بحكم الفطرة القاطع، وهو جواز استعباد كلّ إنسان محارب للدين مضادّ للمجتمع الإنسانيّ غير خاضع للحقّ بوجه من وجوه الخضوع.
الثاني: أنّه استعمل جميع الوسائل الممكنة في إكرامهم‏ ـ العبيد والإماء ـ وتقريب شؤونهم الحيويّة من حياة أجزاء المجتمع الحرّة؛ حتّى صاروا كأحدهم وإن لم يصيروا أحدهم، ولم يبق عليهم إلّا حجاب واحد رقيق، وهو أنّ الزائد من أعمالهم على واجب حياتهم ـ حياة متوسطة ـ لمواليهم لا لهم، وإن شئت فقل: لا فاصل في الحقيقة بين الحرّ والعبد في الإسلام إلا إذن المولى في العبد.
الثالث: أنّه احتال بكلّ حيلة مؤثّرة إلى إلحاق صنف المماليك إلى مجتمع الأحرار بالترغيب والتحريض في موارد، وبالفرض والإيجاب في أخرى كالكفارات، وبالتسويغ والإنفاذ في مثل الاشتراط والتدبير والكتابة.[34]
أجل، إنّ النبيّ وأبناءه وأهل بيت العصمة والطهارة والسلالة المعنويّة لهذا الرجل العظيم ممّن وصل إلى مقام المخلصين يضربون بالسيوف أيضًا ويوثقون السلاسل في الأعناق، لكن لا للتوسع والسيطرة وتنفيس العقد النفسيّة، بل للإصلاح والهداية، وذلك أنّهم يرون أنّ هذا الجهاد بالسيف هو الجهاد الأصغر، وهم يجعلون من أولويّاتهم قبله الجهاد الأكبر جهاد النفس الذي هو أهمّ وأعظم منه.
وكم هو جميل بيان الشاعر العارف مولانا جلال الدين الروميّ هذه الحالة من الرأفة والعطف عند أولياء الله ورسله في مقام هدايتهم للبشر:
دید پیغمبر یكى جَوق اسیر
                             كه همى بردند و ایشان در نفیر
دیدشان در بند، آن آگاه شیر
                             مى نظر كردند در وى زیر زیر
تا همى خایید هر یك از غضب
                             بر رسول صدق، دندان‌ها و لب
زهره نى با آن غضب كه دم زنند
                             زآن‌كه در زنجیر قهرِ ده من‏اند
می‌كشاندشان موكِّل سوى شهر
                             مى‌برد از كافرستانْشان به قهر
نى فدائى مى‏ستاند، نى زرى
                             نى شفاعت می‌رسد از سرورى
رحمت عالم همى گویند و او
                             عالَمى را مى‏بُرد حلق و گلو
با هزار انكار می‌رفتند راه
                             زیر لب طعنه زنان بر كار شاه
این بمنكیدند در زیر زبان
                             آن اسیران با هم اندر بحث آن‏
پس رسول آن گفتشان را فهم كرد
                             گفت: آن خنده نبودم از نبرد
مرده‏اند ایشان و پوسیده فنا
                             مرده گشتن نیست مردى پیش ما


يقول:
لحظ النبيّ فوارسًا يُسرى بهم في الأسر من ساحة القتال
ألفاهم في حالةٍ ليث العرين العالِمُ، أيديهمُ مغلولة أبصارهم حوادّ
من غيظهم عليه أسنانهم لشفاههم مقارض تُقطِّع
لم يجرؤوا من خوفهم أن يفتحوا الشفاه وغيظهم كظيم
يسوقهم وكيلهم من معقل كفرهم قهرًا إلى المدينة
لا فدية ولا ذهب، لا شافع ولا عتب
نجواهم وهمسهم، يتخافتون بينهم:
يا عجباً يدعونه برحمة العوالم، وسيفه البتّار على رقاب عوالم؟!
يُسرى بهم كُرّهًا لا ينتهى إنكارهم، وغمزهم وعيبهم على فعال المرسل
وعى الرسول مقالهم، خاطبهم مبتسمًا: لا أضحك للنصر!
إنّكم لَجُثث أفسدها الفناء، لكنّما قتلانا أحياء يرزقون...

إلى أن يقول:
من نمى‏كردم غَزا از بهر آن
                             تا ظفر یابم فرا گیرم جهان
كاین جهان جیفه است و مردار و رخیص
                             برچنین مردار چون باشم حریص؟
‏سگ نیم تا پرچم مرده كَنَم
                             عیسیم آیم كه تا زنده‏اش كنم
زان همى كرده صفوف جنگ چاك
                             تا رهانم مر شما را از هلاك
زان نمى‏برّم گلوهاى بشر
                             تا مرا باشد كر وفرّ وحشر
زان همى برّم گلوى چند تا
                             زان نميخندم من از زنجيرتان
كه بگردم ناگهان شبگيرتان‏
                             زان گلوها عالمى یابد رها


إلى أن يقول:
زان نميخندم من از زنجيرتان
                             که بگردم ناگهان شبگيرتان
زان همى خندم كه از زنجیر وغلّ
                             می‌كشمْتان سوى سروستان وگل
اى عجب كز آتش بى زینهار
                             بسته مى‏آریمتان تا سبزه زار
از سوى دوزخ به زنجیرگران
                             می‌كشمْتان تا بهشت جاودان‏
كودكان را مى‏برى مكتب به زور
                             زآنكه هستند از فوائد، چشمْ كور
چون شود واقف به مكتب می‌دود
                             جانش از رفتن شكفته مى‏شود
می‌رود كودك به مكتب پیچ پیچ
                             چون ندید از مزد كار خویش هیچ[35]


والمعنى:
لم تكن غزوتي طمعًا في النصر، ولا لأبسط سطوتي على بقاع الكون
ما الدنيا سوى جيفة وميتة رخيصة، متى سعيتُ لمثلها؟!
وما أنا بنازع ذؤابة لميّت، ذاك شأن الكلب، وإنّني لعيسى أحييه من جديد
قد جئتُكم مسرعًا أشقّ الصفوف، لأضع عن ظهركم أغلال الهلاك
وما أنا بضارب أعناق البشر، حتّى يكون بيننا سلام وكلام
وإنّما أضرب أعناق القليل، أحرّر بذلك رقاب العالمين

إلى أن يقول:
لم أكن لأضحك من أغلالكم، وما أنا ملقيها بالغدر من فوقكم
أضحكني جرّكم قهرًا بالأغلال، إلى حيث الزهور والسرو الباسقات!
وأنّنا نسوقكم من نار السعير، إلى حيث خضرة الخلود
بثقل السلاسل نخرجكم من النار إلى حيث جنّات النعيم
كذلك الأطفال كرهًا يدرسون لعَمَهِ عيونهم عن أنوار العلوم
لكنّهم إمّا وعَوا إليه يهرعون، وتزدهي أرواحهم في روضه الأنيق
ويبقى الصبيّ يتثاقل في المسير للدرس لأنّه لم يلمس الأثر

    

سؤال هام وجواب

لو قال قائل: أنا لا أريد الجنّة، فلمَ هذا النهي عن المنكر والضرب والجرح والجهاد والاستعباد لي؟
نقول: إنّ الأخذ إلى الجنّة هو أحد وجوه المسألة، وثمّة وجهٌ مغفول عنه، هو أنّك إذ ترتكب المنكر في الملأ العام، ولا ترتدع عنه بالتنبيه والتذكير، فإنّ حالك حال من يركب السفينة ويقول: أنا أريد أن أغرق ولا شأن لسائر ركّاب السفينة بي، ولذلك فأنا أريد أن أخرقها من تحت قدميّ.
صحيح أنّ مرتكب الرذائل واختراقات القانون في المجتمع، بنفسه يضرّ أولًا، إلّا أنّ الآخرين أيضًا لا يسلمون من ضرره لأنّه يهدّد أمن المجتمع كلّه. كما أنّ الأمر الآخر الملاحظ في غزوات النبيّ صلّى الله عليه وآله هو أنّ مخالفي الإسلام وأعداءه لم يكونوا يمتنعون هم أنفسهم عن الإسلام فحسب، بل كانوا يقطعون الطريق أمام الآخرين، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه العارف الشاعر مولانا حيث قال:
زان همى برّم گلوى چند تا
                             زان گلوها عالمى یابد رها

أي: وإنّما أضرب أعناق القليل، أحرّر بذلك رقاب العالمين

    

ملاحظات ختاميّة

أولًا: إنّ السبب في مخالفة الكثيرين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الخلط بين سلوك الآمرين والناهين وبين نفس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام، والخلط بين ما يقع باسم الجهاد وبين الجهاد الحقيقيّ من منظور إسلاميّ، ومن هنا صاروا ينكرون الأصل بدلًا من توجيه النقد إلى هؤلاء أنفسهم.
ثانيًا: رغم أنّ الإسلام أجاز الإجراءات المتضمّنة لشيء من القسوة، لكن لا يعني ذلك أنّ كلّ من أراد له أن يقوم بذلك؛ فوفق الآية الشريفة: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾[36] لا بدّ أن يقوم بهذا العمل جماعة من المتخصّصين تحت إشراف خبير وبصير ورجل إلهيّ مخالف لأهوائه النفسيّة، ومطيع لأمر مولاه تبارك وتعالى.
ثالثًا: إنّ مرحلة الإجراءات العمليّة والتغيير باليد هي آخر مراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما لم تعتمد سائر الطرق بحيث لا يبقى طريق للإصلاح إلى ذلك، يسلك الناهي عن المنكر هذا الطريق.
رابعًا: لقد التفت الإسلام إلى الظروف المعيشيّة والتربويّة والأخلاقيّة والاقتصاديّة للناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك فإنّ أساليب التنبيه والتذكير لمن نشأ وتربّى في أسرة متفلّتة أو أميّة أو قليلة الاطلاع والثقافة مثلًا تختلف عنها لتنبيه وتذكير من نشأ في أسرة متديّنة ومثقّفة، وهكذا...
خامسًا: إنّ العمل على إعداد الأرضيّة اللازمة للحيلولة دون ترك المعروف وفعل المنكر في المجتمع هو فعل واجب من باب وجوب مقدّمة الواجب، ومن أمثلة ذلك: تأمين الأوضاع الاقتصاديّة والاهتمام بالشأن الثقافي والتربويّ والدينيّ...
سادسًا: ثمّة مستويات في مختلف مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي ترتبط بفعل المنكر وفاعله والناهي عنه، وهو ما يسمّى اصطلاحًا بالأمر مشكّك.
هر سخن هرجای نتوان گفت وبا هر مستمع
                             پاس وقت وجا وگوش و هوش باید داشتن[37]


والمعنى: لا يمكن أن يقال أيّ كلام في أيّ موضع ولأيّ مستمع ولا بدّ أن يكون للحراسة وقتها ومكانها وأذنها والتفاتها.
لذا لا يمكن أن يصدر حكم واحد عام، وأن تكتب وصفة واحدة لكلّ المرضى، ففي بعض المواضع تحسن الشدّة، ولكن في موضع آخر مشابه، وبسبب اختلاف يسير لا بدّ من المرونة. واكتساب البصيرة في هذا المجال يحتاج إلى مجاهدة علميّة وأهمّ منها إلى المجاهدة العمليّة والجهاد الأكبر.
والحمد للـه ربّ العالمين.

[ملاحظة: قامت لجنة ترجمة وتحقيق دورة علوم ومباني الإسلام والتشيّع بإعداد هذا البحث بالاعتماد على مجموعة من الكتب القيّمة خصوصاً كتب سماحة العلاّمة آية الله السيد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله عليه وكتب سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ حفظه الله مع الإشارة إلى المصادر في مواضعها من المتن، ومن الجدير بالذكر أنّ اللجنة قد قامت بترجمة المقاطع التي أُخذت من الكتب التي لم تترجم بعد، كما قامت بمطابقة المتون المترجمة مع المتن الفارسي للكتاب]

    


[1] ـ نهج البلاغة، الحكمة 374.

[2] ـ آية الله السيد محمّد محسن الحسيني الطهراني، حیات جاوید، ص 102.

[3] ـ انظر : آية الله السيد محمّد محسن الطهراني، أسرار الملکوت، ج 1، المجلس الخامس.

[4] ـ أسرار الملكوت، ج1، ط2، ص 129.

[5] ـ أسرار الملكوت، ج2 ص 400.

[6] ـ سورة آل عمران، من الآية 104

[7] ـ سورة الأعراف، من الآية 159.

[8] ـ سورة النحل، من الآية 120.

[9] ـ فروع الكافي، ج 5، ص 59، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث 16.

[10] ـ شرح غرر الحكم ودرر الكلم، ج 6، ص 172، حديث 9969.

[11] ـ سورة آل عمران، من الآية 159.

[12] ـ سورة طه، الآيتان 4344.

[13] ـ أسرار الملكوت ، ج1 ط2، ص 147.

[14] ـ بحار الأنوار، ج 1، ص 339.

[15] ـ مقطع من الآية 17، من السورة 13: الرعد: {فَأمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وأمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ في الأرْضِ}.

[16] ـ صدر الآية 105، من السورة 5: المائدة.

[17] ـ صدر الآية 6، من السورة 66: التحريم.

[18] ـ «منتهي الآمال» ج 2، ص 11 أحوال الإمام زين العابدين عليه السلام، طبعة علميّة إسلاميّة، عام 1371 ه-. ق، القطع الرحليّ.

[19] ـ نهج البلاغة، خطبه 67، و از طبع مصر و تعلیقه شیخ محمّد عبدُه، ج 1، ص 117 و 118.

[20] ـ شرح نهج البلاغة، طبع دار إحیاء الكتب العربیّة، ج 6، ص 103 و 104.

[21] ـ عن الروح المجرّد من ص 632 إلى ص 642 بتصرّف.

[22] ـ تاریخ الطبري، سنه 83، ج 7، ص 298.

[23] ـ أسرار الملكوت، ج‏1، ص: 1

[24] ـ انظر: آية الله السيّد محمّد حسين الطهراني، مطلع انوار، ج ‏4، ص 280.

[25] ـ الإرشاد فی معرفة حجج الله على العباد، ج ‏2، ص 80

[26] ـ نهج البلاغة (تحقيق صبحي الصالح)، ص 70.

[27] ـ لمزيد من الاطلاع على نماذج من الكلمات الغليظة الصادرة عن أولياء الله والتي أدّت إلى هداية الناس انظر: مطلع انوار، ج ‏2، ص 406.

[28] ـ محمّد الفراتي، روضة الورد (ترجمة گلستان سعدی) ص 253.

[29] ـ سوره بقره (2) آیه 195.

[30] ـ لمزيد من الاطلاع حول مزايا الإنسان الكامل انظر كتاب أسرار الملكوت ج2.

[31] ـ لمزيد من الاطلاع والبحث في مجال ولاية الفقيه من منظار أهل المعرفة والعرفان انظر كتاب ولاية الفقيه في حكومة الإسلام تأليف المرحوم العلّامة آية الله العظمى السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله عليه.

[32] ـ يقتلون بغتة ليلًا.

[33] ـ مقطع من الآية 193 من سورة البقرة.

[34] ـ تفسير الميزان، ج‏6، ص: 346 ـ 348 ، نور ملكوت القرآن ج3ـ ص 53. ولمزيد من الاطلاع على هذا البحث راجع نور ملكوت القرآن ج3 ص 39 وما بعدها تحت عنوان: فلسفة الجهاد في الإسلام هي الإيثار وإنفاق التوحيد ونشره.

[35] ـ «مثنوي مولانا محمّد بلخي» ج 3، ص 311 إلى 314، طبعة ميرزا محمودي؛ نور ملكوت القرآن، ج‏3، ص: 44

[36] ـ سوره آل‏عمران (3) آیه 104.

[37] ـ للفیض الكاشاني.

 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع «المتقين». يسمح بإستخدام المعلومات مع الإشارة الي مصدرها


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی