الفيديو المحاضرات سؤال و جواب معرض الصور صوتيات المكتبة اتصل بنا الرئیسیة
  الخمیس  16 رمضان  1445 - Thers  28 Mar 2024
البحوث المنتخبة    
كتاب المتقين    
موقع المتقين > العقائد والكلام > العدل الإلهي ومعضلة الشرور


_______________________________________________________________

هو العليم

العدل الإلهي
ومعضلة الشرور

بحث منتخب من كتاب معرفة الله لمؤلفه :

سماحة العلامة آية الله الحاج السيّد محمد حسين الحسينيّ الطهراني

قدّس الله نفسه الزكيّة

_______________________________________________________________

أعوذُ بالله منَ الشيطانِ الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنةُ الله على أَعدائِهم أجمَعين

أقام الفلاسفة الأدلة العقلية المحكمة على وجود النظام الأحسن في العالم, والله تعالى يباهي بصنعه المتقن في كتابه الكريم فيقول: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) وكذلك يقول: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) وكذلك يقول: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ), فنظام الخلقة هو النظام الأحسن والقوام الأتقن, فلا يمكن تخيل نظام أكمل منه.
إلا أنّ عدّة من الإشكالات تطرح كردّ على هذه النظرية, ومن هذه الإشكالات ما أفرزه الوثنيون حيث يعتبرون وجود الشرور في العالم دليلا على النقص و الجهل في الخالق والصانع, بدعوى أنّه لو كان هذا النظام قد خلق على أساس الخير فلماذا كلّ هذا الشر؟!
وقد جرّتهم هذه التساؤلات الى الاعتقاد بوجود إله آخر يكون هو المصدر لخلق الشرور والنقائص في العالم, وهذه التساؤلات وغيرها تدعونا الى ضرورة دراسة هذا الأمر لنعرف ما هي فلسفة وجود الشرور والمصائب والكوارث والآلام في الحياة الدنيا.
وفي خضمّ هذا البحث الهام والمعقّد نجد أنّ العلامة الطهراني قدّس سره قد طرح إجابات متعددة على هذه الأسئلة ببيانه السلس الواضح, وبكلمات وأسلوب سهل ممتنع فيقول:

    

تاريخ المسألة

لعلّ أبرز الإشكالات التي تعترض مسألة توحيد الحقّ تعالى هي الشرور، فتارة تُناقش هذه المسألة من ناحية صفة العدل و أخرى من ناحية حكمته. و ينقل التاريخ لنا أنّ الإيرانيّين كانوا من أوائل الشعوب التي رأت أن حلّ تلك الإشكالات يكمن في وجود مبدأين في عالم الخلقة و التكوين و في عالم صفة الذات الأزليّة القديمة فاعتقدت بالثنويّة في الوجود.
ورد في كتاب «تاريخ الشعوب» ص 51 إلى 54، في القسم الثاني الخاصّ ب- «تاريخ إيران»، الطبعة الحجريّة، بحثاً حول مذهب الإيرانيّين القدماء. و ننقل أدناه تفصيل ذلك البحث:
لقد صنّف الإيرانيّون القدماء، كما بيّنا ذلك في تأريخ الأقوام الآريّة، بادئ ذي بدء الظواهر و القوى الطبيعيّة إلى مجموعتين من الموجودات، خيّرة و شريرة، و اعتقدوا كذلك بوجود صراع دائميّ بين هاتين المجموعتين. و لهذا كانوا يقدّسون النور و النار و الريح و المطر و السماء حيث كانوا ينسبونها إلى المجموعة الاولى، و لكي يأمنوا شرّ الظلمة و الشتاء و الجدب و الأمراض و الكوارث و غير ذلك و التي كانوا يعتقدون بأنّها تنسب إلى المجموعة الثانية فقد كانوا يقومون بتلاوة الأدعية و التعاويذ. و كما قلنا سابقاً فإنّ هذه العقائد مهّدت لوجود الخرافات و انتشار السِّحر و الشعوذة و لهذا أعلن زرادشت حرباً على تلك العقائد.

    

العلة من وراء خلق الشيطان والشر

إنّ أصل خلقة الشيطان خير؛ و إنّما خُلِقَ لامتحان البشر و اختبارهم حتى يتمكّن (أي البشر) من السير في الطريق الصعب و اللطيف في نفس الوقت، و ذلك في عالم التكليف و الأمر و النهي الإلهيّين بمل‏ء إرادته. فلولا الشيطان لاختَفتْ كلّ الاستعدادات و القابليّات في بوتقة الإجمال و الإبهام.- سواء أكان ذلك من ناحية الشيطان الداخلي و النفس الأمّارة أم من ناحية الشيطان الخارجيّ و إبليس اللعين- و لو كان العالم مملوء بدعوات الخير لانعدمت الحركة نحو الكمال، و لم تحصل النهضة باتّجاه ذُرى المعرفة و قممها. و لولا الشيطان لما كان هناك من خيرٍ أو شرّ أو تكليف أو أمر أو نهي، و ما كان للعاطفة و الحبّ و الجهاد من أثر يُذكَر.
و لولا الشيطان لما كان من وجود للشقاء أو السعادة أو الجنّة أو النار. و بالجملة فلو لم يوجد الشيطان ما وُجِدَت كلّ تلك العجائب و البدائع في الخلقة و الجمال البشريّ الواقعيّ الفتّان؛ و لولاه لتبدّل العالَم بأجمعه و لكان مختلفاً عمّا هو عليه الآن، كثير الشبه بسلسلة من الموجودات الثابتة غير العاشقة و غير المتحرّكة، كما هو الحال مع عالم الملائكة.
و في هذه الحالة، كان يكفي وجود عالَم الملائكة و لم تكن هناك حاجة إلى إيجاد عالَم الخِلقة بواسطة عالَم المادّة و خلق البشر و إبليس و سجود الملائكة و تمرّد إبليس، و حركة البشريّة و مسيرتها من مبدئها حيث الاستعداد و القابليّة إلى منتهاها حيث أعلى درجة الكمال و اكتمال الذات في مقابل جنس الملائكة.
كأنّ الله الخالق و العليم و الحكيم قد ذرأ الشيطان و ادّخره لعالم الكثرة هذه و دار الاعتبار و التكليف لكي يتحقّق به اكتمال الخلقة و لعلّه السبب في أكمليّة الإنسان و أفضليّته و كونه أشرف من الملائكة المقرّبين.
إن الشيطان مكلَّف و مأمور من لدن الحقّ تعالى بالاختبار و التحقيق و تمييز الأفراد المُلوَّثين بإرادتهم- التي لا تنفصل عن إرادة الله تعالى، بل هي عين اختياره و نفس إرادته- و الذين اختاروا السبيل المُعوَجّ، المُدَنّسون بعفونة الكثرات المتعفّنة و الذين هم غير مؤهّلين للدخول إلى حرم الأمن و حريم الأمان الإلهيّ، عن الأفراد الصالحين الطاهرين الطيّبين، و مانع اولئكم من أن يخطوا خطوة واحدة في عوالم قرب الحقّ. و مقرّب الذين دخلوا عالم الخلوص و أفنوا عمراً في حبّ الحقّ الأزَل و الأبد، و أضحوا بذلك من المقرَّبين، دفعة واحدة، حتى يتمكّنوا ببساطة و سهولة من التحليق في عوالم الحضرات، و يدخلوا ذلك الحرم المنيع دون مانعٍ أو رادعٍ و يتعطّروا بعبير التوحيد الطيّب و الأريج الفوّاح للعرفان و الفَناء في ذات الحقّ، بعد أن‏ اجتازوا حالة التعفّن الحاصلة بالتوجّه نحو الكثرات و الملوِّثات الإنسانيّة المرهقة و المهلكة و المخرّبة، و بعد أن طرحوا عنهم لباس الخلقة و التعيّن و التقيُّد و خُلِعَت عليهم خِلَع ربّانيّة، و آووا إلى ركن شديد و رَوح و ريحان، حاملين لواء الحمد و التوحيد يوم القيامة.
إنّ الشيطان مأمور مطيع و ممتثلٌ لأوامر الله؛ مهمّته تمييز الطيّب عن الخبيث؛ تماماً كالحرّاس من زنابير العسل الذين يؤمَرون بالوقوف عند باب قَفير النحل و تفتيش الزنابير التي طعمت الأزهار الكريهة الرائحة و المتعفِّنة ليمنعوا دخولها إلى الخليّة و يلسعونها شاطرين إيّاها نصفين؛ و يُجيزون لتلك التي أدّت مهمّتها على أكمل وجه فطعمت الأزهار الطيّبة الرائحة و العطرة الدخول إلى القفير.
الشيطان يقول: سألجم جميع ذرّيّة آدم- إلا قليلا منهم- بلجامي‏ و ما أروع ما يصف القرآن الكريم و يبيّن مهمّة إضلال الشيطان البشر و التي شُرِّفَ بها من قِبَل الله، حيث يقول: {وَ إذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُوا لأدَمَ فَسَجَدُوا إلآ إبْلِيسَ قَالَ ءَأسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا. قَالَ أرَءَيْتَكَ هَذَا الذي كَرَّمْتَ على لَئِنْ أخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إلَّا قَلِيلًا. قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَآءً مَّوْفُورًا. وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَ أجْلِبْ عليهم بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شَارِكْهُمْ في الأمْوَالِ وَ الأوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَ مَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلَّا غُرُورًا* إن عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عليهم سُلْطَانٌ وَ كَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} و تشير الآيات الشريفة التالية من سورة الأعراف إلى الأمر بالهبوط بعد أن تستعرض قضية خلق آدم و سجدة الملائكة و رَفض إبليسَ السّجود و تبيّن كذلك مهمّة الشيطان في إغواء الإنس بصورة وافية:
{قَالَ مَا مَنَعَكَ ألَّا تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ قَالَ أنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِن طِينٍ* قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ، قَالَ أنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قَالَ إنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَآ أغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لأتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أيْمَانِهِمْ وَ عَن شَمَآئِلِهِمْ وَ لَا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أجْمَعِينَ} [1]

    

الإشكالات الإبليسيّة الستّة التي أوردها شارح الإنجيل وإجابة العلاّمة على جميع الإشكالات المذكورة في قصّة إبليس

قال في روح المعاني : وقد ذكر الشهرستاني عن شارح الأناجيل الأربعة صورة مناظرة جرت بين الملائكة وبين إبليس بعد هذه الحادثة ، وقد ذكرت في التوراة ، وهي أن اللعين قال للملائكة : إني أسلم أنّ لي إلها هو خالقي وموجدي لكن لي على حكمه أسئلة واستفهامات:
الأول : ما الحكمة في الخلق لا سيما وقد كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار ؟ .
الثاني : ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود إليه منه نفع ولا ضرر ، وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف ؟ .
الثالث : هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلفني بالسجود لآدم ؟ .
الرابع : لما عصيته في ترك السجود فلم لعنني وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه ولي فيه أعظم الضرر ؟ .
الخامس : أنه لما فعل ذلك لم سلطني على أولاده ومكنني من إغوائهم وإضلالهم ؟ .
السادس : لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني ومعلوم أنه لو كان العالم خاليا من الشر لكان ذلك خيرا ؟ . قال شارح الأناجيل : فأوحى الله تعالى إليه من سرادق العظمة والكبرياء : يا إبليس أنت ما عرفتني ، ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض علي في شئ من أفعالي فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسال عما أفعل ، ( انتهى ) .[2]

    

إقرار علماء أهل السنة بالعجز والتحير أمام إشكالات الإبليسيّة

قال الآلوسي : قال الامام - الرازي - إنه لو اجتمع الأولون والآخرون من الخلائق وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا من هذه الشبهات مخلصا ، وكان الكل لازما . ثم قال الآلوسي : ويعجبني ما يحكى أن سيف الدولة بن حمدان خرج يوما على جماعته فقال : قد عملت بيتا ما أحسب أن أحدا يعمل له ثانيا إلا أن كان أبا فراس وكان أبو فراس جالسا ، فقيل له : ما هو فقال : قولي :
لك جسمي تعله ***** فدمي لن تطله
فابتدر أبو فراس قائلا :
قال إن كنت مالكا ***** فلي الامر كله . انتهى
أقول : ما مر من البيان في أول الكلام السابق يصلح لدفع هذه الشبهات الستة عن آخرها ويكفي مؤنتها من غير أن يحتاج إلى اجتماع الأولين والآخرين ثم لا ينفعهم اجتماعهم على ما ادعاه الامام فليست بذاك الذي يحسب, ولتوضيح الأمر نقول:

    

أما الشبهة الأولى:

فالمراد بالحكمة - وهي جهة الخير والصلاح الذي يدعو الفاعل إلى الفعل في الخلق إما الحكمة في مطلق الخلق وهو ما سوى الله سبحانه من العالم ، وإما الحكمة في خلق الانسان خاصة . فإن كان سؤالا عن الحكمة في مطلق الخلق والايجاد فمن المبرهن عليه أنه فاعل تام لمجموع ما سواه غير مفتقر في ذلك إلى متمم يتمم فاعليته ويصلح له ألوهيته فهو مبدء لما سواه منبع لكل خير ورحمة بذاته ، واقتضاء المبدء لما هو مبدء له ضروري ، والسؤال عن الضروري لغو كما أن ملكة الجود تقتضي بذاتها أن ينتشر أثرها وتظهر بركاتها لا لاستدعاء أمر آخر وراء نفسها يوجب لها ظهور الأثر وإلا لم تكن ملكة ، فظهور أثرها ضروري لها وهو أن يتنعم بها كل مستحق على حسب استعداده واستحقاقه ، واختلاف المستحقين في النيل بحسب اختلاف استحقاقهم أمر عائد إليهم لا إلى الملكة التي هي مبدء الخير . وأما حديث الحكمة في الخلق والايجاد بمعنى الغاية وجهة الخير المقصودة للفاعل في فعله فإنما يحكم العقل بوجوب الغاية الزائدة على الفاعل في الفاعل الناقص الذي يستكمل بفعله ويكتسب به تماما وكمالا ، وأما الفاعل الذي عنده كل خير وكمال فغايته نفس ذاته من غير حاجة إلى غاية زائدة كما عرفت في مثال ملكة الجود ، نعم يترتب على فعله فوائد ومنافع كثيرة لا تحصى ونعم إلهية لا تنقطع وهي غير مقصودة إلا ثانيا وبالعرض ، هذا في أصل الايجاد . وإن كان السؤال عن الحكمة في خلق الانسان كما يشعر به قوله بعد : لا سيما وقد كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار فالحكمة بمعنى غاية الفاعل والفائدة العائدة إليه غير موجودة لما عرفت أنه تعالى غني بذاته لا يفتقر إلى شئ مما سواه حتى يتم أو يكمل به ، وأما الحكمة بمعنى الغاية الكمالية التي ينتمي إليها الفعل وتحرز فائدته فهو أن يخلق من المادة الأرضية الخسيسة تركيب خاص ينتهي بسلوكه في مسلك الكمال إلى جوهر علوي شريف كريم يفوق بكمال وجوده كل موجود سواه ، ويتقرب إلى ربه تقربا كماليا لا يناله شئ غيره فهذه غاية النوعية الانسانية . غير أن من المعلوم أن مركبا أرضيا مؤلفا من الأضداد واقعا في عالم التزاحم والتنافي محفوفا بعلل وأسباب موافقة ومخالفة لا ينجو منها بكله ، ولا يخلص من إفسادها بآثارها المنافية جميع أفراده فلا محالة لا يفوز بالسعادة المطلوبة منه إلا بعض أفراده ، ولا ينجح في سلوكه نحو الكمال إلا شطر من مصاديقه لا جميعها . وليست هذه الخصيصة أعني فوز البعض بالكمال والسعادة وحرمان البعض مما يختص به الانسان بل جميع الأنواع المتعلقة الوجود بالمادة الموجودة في هذه النشأة كأنواع الحيوان والنبات وجميع التركيبات المعدنية وغيرها كذلك فشئ من هذه الأنواع الموجودة - وهي ألوف وألوف - لا يخلو عن غاية نوعية هي كمال وجوده
وهي مع ذلك لا تنال الكمال إلا بنوعيته ، وأما الافراد و الاشخاص فكثير منها تبطل دون البلوغ إلى الكمال ، وتفسد في طريق الاستكمال بعمل العلل والأسباب المخالفة لأنها محفوفة بها ولا بد لها من العمل فيها جريا على مقتضى عليتها وسببيتها . ولو فرض شئ من هذه الأنواع غير متأثر من شئ من العوامل المخالفة كالنبات مثلا غير متأثر من حرارة وبرودة ونور وظلمة ورطوبة ويبوسة والسمومات والمواد الأرضية المنافية لتركيبه كان في هذا الفرض إبطال تركيبه الخاص أولا ، وإبطال العلل والأسباب ثانيا ، وفيه إبطال نظام الكون فافهم ذلك . ولا ضير في بطلان مساعي بعض الافراد أو التركيبات إذا أدى ذلك إلى فوز بعض آخر بالكمال والغاية الشريفة المقصودة التي هي كمال النوع وغايته فإن الخلقة المادية لا تسع أزيد من ذلك ، وصرف الكثير من المادة الخسيسة التي لا قيمة لها في تحصيل القليل من الجوهر الشريف العالي استرباح حقيقي بلا تبذير أو جزاف . فالعلة الموجبة لوجود النوع الانساني لا تريد بفعلها إلا الانسان الكامل السائر إلى أوج السعادة في دنياه وآخرته إلا أن الانسان لا يوجد إلا بتركيب مادي ، وهذا التركيب لا يوجد إلا إذا وقع تحت هذا النظام المادي المنبسط على هذه الاجزاء الموجودة في العالم المرتبطة بعضها ببعض المتفاعلة فيما بينها جميعا بتأثيراتها وتأثراتها المختلفة ، ولازم ذلك سقوط بعض أفراد الانسان دون الوصول إلى كمال الانسانية فعلة وجود الانسان تريد السعادة الانسانية أولا وبالذات ، وأما سقوط بعض الافراد فإنما هو مقصود ثانيا وبالعرض ليس بالقصد الاولي . فخلقه تعالى الانسان حكمته بلوغ الانسان إلى غايته الكمالية ، وأما علمه بأن كثيرين من أفراده يكونون كفارا مصيرهم إلى النار لا يوجب أن يختل مراده من خلقه النوع الانساني ، ولا أنه يوجب أن يكون خلقه الانسان الذي سيكون كافرا علة تامة لكفره أو لصيرورته إلى النار ، كيف ؟ وعلة كفره التامة بعد وجوده علل وعوامل خارجية كثيرة جدا ، وآخرها اختياره الذي لا يدع الفعل ينتسب إلا إليه فالعلة التي أوجدت وجوده لم توجد إلا جزء من أجزائه علة كفره ، وأما تعلق القضاء الإلهي بكفره فإنما تعلق به عن طريق الاختيار لا بأن يبطل اختياره وإرادته ويضطر إلى قبول الكفر كسقوط الحجر المرمي إلى فوق نحو الأرض بعامل الثقل اضطرارا .

    

أما الشبهة الثانية:

فقوله " ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود إليه منه نفع ولا ضرر ؟ " مغالطة من باب إسراء حكم الفاعل الناقص الفقير إلى الفاعل التام الغني في ذاته فحكم العقل بوجوب رجوع فائدة من الفعل إلى الفاعل إنما هو في الفاعل الناقص المستكمل بفعله المنتفع به دون الفاعل المفروض غنيا في ذاته . فلا حكم من العقل أن كل فاعل حتى ما هو غني في ذاته لا جهة نقص فيه يجب أن يكون له في فعله فائدة عائدة إليه ، ولا أن الموجود الذي هو غني في ذاته لا جهة نقص فيه حتى يستكمل بشئ فهو يمتنع صدور فعل عنه . والتكليف وإن كان في نفسه أمرا وضعيا اعتباريا لا يجري في متنه الاحكام الحقيقية إلا أنه في المكلفين واسطة ترتبط بها الكمالات اللاحقة الحقيقية بسابقتها فهي وصلة بين حقيقتين : توضيح ذلك ملخصا : أنا لسنا نشك عن المشاهدة المتكررة والبرهان أن ما بين أيدينا من الأنواع الموجودة التي نسميها بما فيها من النظام الجاري عالما ماديا واقعة تحت الحركة التي ترسم لكل منها بقاء بحسب حاله ، ووجودا ممتدا يبتدي من حالة النقص وينتهي إلى حالة الكمال ، وبين أجزاء هذا الامتداد الوجودي المسمى بالبقاء ارتباطا وجوديا حقيقيا يؤدي به كل سابق إلى لاحقه ، ويتوجه به النوع من منزل من هاتيك المنازل إلى ما يليه بل هو قصد من أول حين يشرع في الحركة آخر مرحلة من شأن حركته أن ينتهي إليه . فالحبة من القمح من أول ما تنشق للنمو قاصدة نحو شجرة الحنطة الكاملة نشوء و عليها سنابلها ، والنطفة من الحيوان متوجهة إلى فرد كامل من نوعه واجد لجميع كمالاته النوعية وهكذا ، وليس النوع الانساني بمستثنى من هذه الكلية البتة فهو أيضا من أول ما يأخذ فرد منه في التكون عازم نحو غايته متوجه إلى مرتبة انسان كامل واجد لحقيقة سعادته سواء بلغ في مسير حياته إلى ذلك المبلغ أم حالت دونه الموانع .
والانسان لما اضطر بحسب سنخ وجوده إلى أن يعيش عيشة اجتماعية ، والعيشة الاجتماعية إنما تتحقق تحت قوانين وسنن جارية بين أفراد المجتمع وهي عقائد وأحكام وضعية اعتبارية - التكاليف الدينية أو غير الدينية - تتكون بالعمل بها في الانسان عقائد وأخلاق وملكات هي الملاك في سعادة الانسان في دنياه وكذا في آخرته وهي لوازم الأعمال المسماة بالثواب والعقاب .
فالتكليف يستبطن سيرا تدريجيا للانسان بحسب حالاته وملكاته النفسانية نحو كماله وسعادته يستكمل بطي هذا الطريق والعمل بما فيه طورا بعد طور حتى ينتهي إلى ما هو خير له وأبقى ، ويخيب مسعاه إن لم يعمل به كالفرد من سائر الأنواع الذي يسير نحو كماله فينتهي إليه أن ساعدته موافقة الأسباب ، ويفسد في مسيره نحو الكمال أن خذلته ومنعته . فقول القائل " وما الفائدة في التكليف ؟ " كقوله ما الفائدة في تغذي النبات ؟ أو ما الفائدة في تناسل الحيوان من غير نفع عائد ؟ . وأما قوله : " وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف " مغالطة أخرى لما عرفت أن التكليف في الانسان أو أي موجود سواه يجري في حقه التكليف واقع في طريق السعادة متوسط بين كماله ونقصه في وجوده الذي إنما يتم ويكمل له بالتدريج ، فإن كان المراد بتحصيل ما يعود من التكليف إلى المكلفين من غير واسطة التكليف تعيين طريق آخر لهم بدلا من طريق التكليف ووضع ذاك الطريق موضع هذا الطريق وحال الطرقين في طريقيتهما واحد عاد السؤال في الثاني كالأول : لم عين هذا الطريق وهو قادر على تحصيل ما يعود منه إليهم يغيره ؟ والجواب أن العلل والأسباب التي تجمعت على الانسان مثلا على ما نجدها تقتضي أن يكون مستكملا بالعمل بتكاليف مصلحة لباطنه مطهرة لسره من طريق العادة . وإن كان المراد بتحصيله من غير واسطة التكليف تحصيله لهم من غير واسطة أصلا وإفاضة جميع مراحل الكمال ومراتب السعادة لهم في أول وجودهم من غير تدريج بسلوك طريق فلازمه بطلان الحركات الوجودية وانتقاء المادة والقوة وجميع شؤون الامكان والموجود المخلوق الذي هذا شأنه مجرد في بدء وجوده تام كامل سعيد في أصل نشأته ، وليس هو الانسان المخلوق من الأرض الناقص أولا المستكمل تدريجيا ففي الفرض خلف .

    

الشبهة الثالثة:

فقوله " هب إنه كلفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلفني بالسجود لآدم ؟ "
فجوابه ظاهر فإن هذا التكليف يتم بالايتمار به صفة العبودية لله سبحانه ، ويظهر بالتمرد عنه صفة الاستكبار ففيه على أي حال تكميل من الله واستكمال من إبليس إما في جانب السعادة وإما في جانب الشقاوة ، وقد اختار الثاني . على أن تكليفه وتكليف الملائكة بالسجدة تعيينا للخط الذي خط لآدم فإن الصراط المستقيم الذي قدر لآدم وذريته أن يسلكوه لا يتم أمره إلا بمسدد معين يدعو الانسان إلى هداه وهو الملائكة ، وعدو مضل يدعوه إلى الانحراف عنه والغواية فيه وهو إبليس وجنوده كما عرفت فيما تقدم من الكلام .

    

الشبهة الرابعة:

فقوله " لماذا لعنني وأوجب عقابي بعد المعصية ولا فائدة له فيه؟ الخ . " جوابه أن اللعن والعقاب أعني ما يشتملان عليه من الحقيقة من لوازم الاستكبار على الله الذي هو الأصل المولد لكل معصية ، وليس الفعل الإلهي مما يجر إليه نفعا أو فائدة حتى يمتنع فيما لا نفع فيه يعود إليه كما تقدمت الإشارة إليه . وليس قوله هذا إلا كقول من يقول فيمن استقى سما وشربه فهلك به : لِمَ لمْ يجعله الله شفاء وليس له في إماتته به نفع وله فيه أعظم الضرر ؟ هلا جعله رزقا طيبا للمسموم يرفع عطشه وينمو به بدنه ؟ فهذا كله من الجهل بمواقع العلل والأسباب التي أثبتها الله في عالم الصنع والايجاد فكل حادث من حوادث الكون يرتبط إلى علل وعوامل خاصة من غير تخلف واختلاف قانونا كليا . فالمعصية إنما تستتبع العقاب على النفس المتقذرة بها إلا أن تتطهر بشفاعة أو توبة أو حسنة تستدعي المغفرة ، وإبطال العقاب من غير وجود شئ من أسبابه هدم لقانون العلية العام ، وفي انهدامه انهدام كل شئ .

    

الشبهة الخامسة:

أعني قوله " إنه لما فعل ذلك لم سلطني على أولاده ومكنني من إغوائهم وإضلالهم ؟ " فقد ظهر جوابه مما تقدم فإن الهدى والحق العملي والطاعة وأمثالها إنما تتحقق مع تحقق الضلال والباطل والمعصية وأمثالها ، والدعوة إلى الحق إنما تتم إذا كان هناك دعوة إلى باطل ، والصراط المستقيم إنما يكون صراطا لو كان هناك سبل غير مستقيمة تسلك بسالكها إلى غاية غير غايته . فمن الضروري أن يكون هناك داع إلى الباطل يهدي إلى عذاب السعير ما دامت النشأة الانسانية قائمة على ساقها والانسانية محفوظة ببقائها النوعي بتعاقب أفرادها فوجود إبليس من خدم النوع الانساني ولم يمكنه الله منهم ولا سلطه عليهم إلا بمقدار الدعوة كما صرح [3] به القرآن الكريم وحكاه [4] عنه نفسه فيما يخاطب به الناس يوم القيامة .

    

أما الشبهة السادسة:

فأما قوله " لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني ؟ " فقد ظهر جوابه مما تقدم آنفا . وأما قوله : " ومعلوم أن العالم لو كان خاليا من الشر لكان ذلك خيرا " فقد عرفت أن معنى كون العالم خاليا من الشر مأمونا من الفساد كونه مجردا غير مادي ، ولا معنى محصل لعالم مادي يوجد فيه الفعل من غير قوة والخير من غير شر والنفع من غير ضر والثبات من غير تغير والطاعة من غير معصية والثواب من غير عقاب . [5]





[تم انتخاب هذا البحث من كتاب معرفة الله الجزء الثالث صفحة 74 - للمرحوم العلامة الطهراني رضوان الله عليه ، فننصح من أراد الاستزادة بمراجعة المصدر المذكور]


[1] ـ معرفة الله ج 3 - ص 115

[2] ـ روح المعاني ج 8 – ص 93

[3] ـ قوله تعالى : " ان عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين " الحجر : 42 وقوله : " يدعوهم إلى عذاب السعير " لقمان : 31 .

[4] ـ قوله " وما كان لي عليكم من سلطان الا أن دعوتكم " إبراهيم : 22

[5] ـ تفسير الميزان ج 8 - ص 49 – 51

 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع «المتقين». يسمح بإستخدام المعلومات مع الإشارة الي مصدرها


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی