الفيديو المحاضرات سؤال و جواب معرض الصور صوتيات المكتبة اتصل بنا الرئیسیة
  الخمیس  16 رمضان  1445 - Thers  28 Mar 2024
البحوث المنتخبة    
كتاب المتقين    
الرئيسية   أرشيف  > سر الفتوح: مقالة في إثبات ضرورة الأستاذ الخبير

سر الفتوح: مقالة في إثبات ضرورة الأستاذ الخبير


______________________________________________________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

مقالة ((سرّ الفتوح)) عبارة عن تعليق على كتاب ((پرواز روح)), وهي رشحة من رشحات المرحوم العلامة آية الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني, يبيّن فيها الأنظار الشامخة والآراء النفيسة لمدرسة العرفان والتوحيد في طريق بلوغ أوج حركتها التكاملية.

فالبشر بواسطة استعدادهم وقابليتهم للتحلي بمقام الخلافة الإلهية, الناشئة عن مقام تنزّل مقام الذات, بشهادة الآية الشريفة: {ونفخت فيه من روحي}, أصبح لديهم الاستعداد لتحمّل جامعية الصفات والأسماء الكلية الإلهية, وذلك بحسب مقدار سعتهم الوجودية, وحيث أنّ الأسماء والصفات الإلهية, متّصلة بمبدئها, وغير منفصلة عن منشئها وأصلها, فإنّها قائمة بالذات الإلهيّة, لذلك فإنّ الوصول إليها بنحو الإطلاق إنّما يعني بلوغ مرتبة الذات والفناء فيها.

والنكتة التي شغلت أذهان العديد من أهل التحقيق, هي أنّه كيف يمكن للنفوس البشرية المحدودة والمقيدة, مع ما هي عليه من الظرفية المحدودة والسعة الضيقة, أن تبلغ الذات اللامتناهية لحضرة الحق, وتبلغ المعرفة الشهودية بها؟ وهذا السؤال جعل الكثير من الأفراد ينكرون إمكانية معرفة الحقّ من أصلها, كما وجعل بعضهم يحصر ذلك ببعض الأشخاص كالمعصومين عليهم السلام, كما وجعلوا غاية العرفان هو معرفة هؤلاء الثلّة من مظاهر الحق تعالى.

والمرحوم العلامة الطهراني رضوان الله عليه ـ ببيانه الواضح والناصع ـ في هذه المقالة, لا يكتفي ببيان عدم استحالة المعرفة الشهودية لذات الحق فحسب, وإنّما يثبت إمكانها لجميع أفراد البشرية, وذلك بشرط الخضوع للتربية السلوكية وتهذيب النفس. وينبغي التنبيه إلى أنّ أصل هذه المطالب موجودة ضمن دفتي كتابيه القيمين: التوحيد العلمي والعيني, ومعرفة الله, كذلك ضمن بحثه حول إثبات الفناء في الذات, مع المرحوم العلامة الطباطبائي في كتاب الشمس الساطعة. لذلك كان من المناسب أن يراجع القراء المحترمين هذه العناوين بغية تحصيل المزيد.

كما ويبيّن المرحوم العلامة الطهراني في طيّات هذه المقالة ـ وبشكل واضح ـ أنّ هدف جميع الأنبياء والأولياء الإلهيين هو إيصال البشر إلى مقام معرفة ذات الحق ومشاهدته, وذلك بواسطة الفناء في ذاته المتعالية, ويبيّن أنّ المنكرين لإمكانية وصول البشر العاديين لهذه المرحلة, ليس لديهم أدنى اطلاع لا عن التوحيد ولا عن الولاية, وأنّهم لم يدركوا شيئاً من هذين الطريقين, وأنّهم يقومون بإضلال الناس وتشويشهم, ويمنعونهم من إيصال هذا الكيمياء العظيم والإكسير النادر والقابلية الفريدة إلى فعليتها وتحققها بمقام الذات.

نسأل الله تعالى أن يفيض مراتب المعرفة على جميع السالكين في طريق معرفته...

 ______________________________________________________________________________

 

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

بعد أن طبع كتاب ((پرواز روح)) القيّم، كثر السؤال عن محتوياته في المدّة الأخيرة، مضافاً إلى الطلب الملحّ من الحقير لإعطاء رأيه فيه، ولكن قبل مطالعتي له لم يكن بمقدوري أن أبيّن رأيي فيه، بل كنت أكتفي بذكر صدق وأمانة المؤلف المحترم الذي كانت تربطني به روابط صداقة ومعرفة منذ مدّة مديدة، إلى أن أهداني أحد الإخوة في الإيمان والأخلاّء الروحانيين هذا الكتاب، وطلب مني قراءته وإعطاء رأيي فيه. لذا قمت بقراءته استجابةً لطلب إنسان مؤمن، وكتبت بعض التعليقات التي كنت أرى أنها ضروريّة في حواشي الكتاب، لكي يكون ذلك تذكرة لي وتبصرة للأصدقاء الأعزّاء والطلاّب الفضلاء.

وفيما يلي نقدّم خلاصة الحواشي، لكي يستفيد منها العوام دون أن يرجعوا إلى مطالعة الكتاب نفسه، بحول الله وقوّته ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلّي العظيم.

من المعروف أنّ هذا الكتاب كُتب بصدق وإخلاص لكي يحرّك الإحساسات الفاترة والأفكار الجامدة، ويربط ما بين عالم الطبيعة وعالم الصورة والمثال لولاية الإمام الحجّة ابن الحسن أرواحنا فداه، وهو يحتوي على تناسق رائع وبيان بديع.

فإلى متى يعتقد الناس بأنّه لا حياة لهذا العالَم ولا لعالم الطبع والخيال؟ وإلى متى سيبقون يعتقدون بعدم وجود روح لذلك؛ فالروح التي تحكم العالم كلّه هي مثل روحنا؛ حيث تضع كلّ موجود تحت نظرها وتحت إحاطتها العلميّة والعمليّة؟

وبعد أن ثبت من جهة الأدلّة الفلسفيّة ومن جهة النقل الشرعيّة الصحيح والمحكم أنّ الولاية الكليّة الإلهيّة تحكم هذا العالم، لماذا لا يتمّ كتابة هذا الأمر ولا يتمّ إشاعته؟ ولماذا لا يعمل على وضع المشاهدة وآثارها لكي يطلّع عليها المحقّقون والباحثون عن الحقيقية؟ ولماذا لا يجد الناس روابط تربطهم بإمامهم؟ ولماذا لا يتعامل الناس في أمور عالم التشريع كما يتعاملون في حالتي السرّاء والضرّاء في إدارة أمور حياتهم؛ حيث يستخدمون أفكارهم وإرادتهم وعلمهم لكي يديروا أمور جسمهم وطبيعتهم، بينما لا يستمدّون الطاقة من منبع العلم والحياة والقدرة لإدارة أمور عالم التشريع وسير الأمم نحو الكمال؟

وذلك لأنّنا نعتقد بأن الارتباط بالولاية التي هي الروح الكليّة لهذا العالم، أمر ضروري لتكامل البشر أكثر من ضرورة الخبز له، وعلى هذا الأساس تعتبر الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله: ((من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة))[1]، من الروايات المتواترة، وهي مرويّة بأسانيد عديدة من طرق الشيعة والسنّة.

فلله تعالى درّ مؤلّفه, وجزاه الله عن العلم والعمل أحسن الجزاء, وشكر سعيه وأجزل ثوابه.

أما بالنسبة لآراء الحقير حول البحث والأفكار المدوّنة في الكتاب، فهي تتمحور حول ثلاثة نقاط:

أولاً: حول عدم الحاجة إلى الأستاذ والمربّي الكامل في السير والسلوك لتكامل النفوس البشريّة.

ثانياً: حول انتقاده واعتراضه على دراسة الفلسفة.

ثالثاً: فيما يتعلّق بأنّ السير ينتهي بمعرفة الوليّ المطلق الإمام الحجّة أرواحنا فداه.

الحاجة إلى الأستاذ والمربّي الكامل في السير والسلوك

أما ما يخصّ النقطة الأولى: فإنّه يُفهم من مطالب هذا الكتاب, أنّه لا يحتاج السالك إلى أستاذ يوجّهه ويساعده على تزكية نفسه وتطهيرها، بل يكتفي بالتوسّل بالأئمّة المعصومين والإمام الحجّة أرواحنا فداه، وهو يتكفّل بإرشادنا على الطريق الصحيح ورفع الموانع عن طريقنا. وبشكل عام يمكن للنفس من خلال ارتباطها بالباطن أن تكون هي الدليل والمرشد للإنسان في الظاهر، وأن تشخّص له الأعمال والوظائف.

فالأئمّة المعصومون سلام الله عليهم أجمعين أحياء دائماً لا يموتون، بل حياتهم ووفاتهم على حدٍّ سواء، وبناء عليه فلا نحتاج إلى غيرهم كي يرشدونا؛ وبالأخصّ لا نحتاج إلى غير الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه، الذي ما زال حيّاً ويعيش فيما بيننا وهو ملبّس باللباس المادّي والظاهري؛ إذ أنّ وظيفته الاهتمام بأمورنا ومساعدة المحتاجين منّا. وعليه فلماذا لا نكتفي بالاستعانة بباطن الإمام عجّل الله تعالى فرجه؟

إنّ القبول بالأستاذ والعمل على اتّباع أوامره واجتناب نواهيه هو بحكم الحاجب الذي يفصل بين الإنسان وبين إمامه؛ ففي حياة أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن لديه حاجب، والحال أنه بعد وفاته وبعد أن يحصل لديه تجرّد أكثر بسبب خلعه للباس المادّة والكثرة، تشتدّ قدرته وتتّسع في إطلاقها، وسيكون عدم احتياجه لحاجب بطريق أولى. فلماذا إذاً نحتاج إلى الحاجب للاستفادة من روحيّة هذا الإمام، والاستفاضة من منابع الفيض الكماليّة والملكوتيّة التي لديه؟ ولماذا نمدّ يد الحاجة إلى الأستاذ لطيّ هذا الطريق، ونجلس في مدرسة تعليمه وتربيته؟ ولماذا نتصوّر أنفسنا أنّنا بحاجة إلى بشر مثلنا، ونتّبعه في كيفيّة الحركة وفي السير والسلوك؟

ولا بد أن يقال في الجواب: نعم صحيح أنّهم وصلوا إلى الفعليّة المحضة، وترقّوا إلى درجة الكمال المطلق؛ وصار تجرّدهم تامّاً، وكذلك إحاطتهم بالأمور صارت تامّة، وأصبحوا مستقلّين في تدبير الأمور التكوينيّة، دون الحاجة إلى القدرة المستفادة من وجود الماهيّات الإمكانيّة، بل صاروا هم الذين يعطون الحياة ويفيضون الوجود من قبل الله عزّ وجل. لكن هل الأمر كذلك في الأمور التشريعيّة أيضاً؟ كلا وحاشا.

ففي هذه الأمور، يكون الإنسان المختار مكلّفاً بالتكليف، ويجب عليه أن يتّبع صلاحه من خلال ذلك، وأن يتخطّى مكائد الشيطان ويعبر منازل ومراحل النفس بالمجاهدة واتّباع الإمام وإطاعته ومخالفة النفس الأمّارة بالسوء، وهذا لا يمكن أن يحصل بدون المربّي والأستاذ الذي يكون على صلة بالإنسان، ومرتبط به لكي يبيّن له طريق الخير من الشرّ، ويحدّد له النفع من الضرر.

وعلى هذا الأساس أرسل الله الأنبياء لهداية البشر، حيث كانوا على صلة بالبشر وكانوا يقومون بإرشادهم إلى طريق الخير والسعادة، كما أنّهم كانوا يتكلّمون معهم، وكانوا يبيّنون عبادة الله ويوضحون طريق الترقّي والكمال من خلال سيرتهم وسنّتهم ومنهاجهم، وإلا فما الحاجة إلى الأنبياء؟ فالله موجود على الإطلاق، مضافاً إلى كونه خبيراً وبصيراً وعليماً. وعليه فيمكن للناس أن يصلوا إلى طريق التكامل من خلاله تعالى بدون وساطة الأنبياء، ويمكنهم العمل على رفع المشاكل والموانع عن طريق الاتّصال بالباطن، ويسألون عن السعادة والشقاء بذاك السبيل، وسوف يقوم الله العليم الخبير بإرشادهم، إذ لا شك في أن علم الله تعالى وإحاطته أكبر من علم الأئمّة عليهم السلام وإحاطتهم؛ لأنّ علم الله ذاتي بينما علم الأئمّة وإحاطتهم من قبل الله سبحانه وتعالى، فضلاً عن كونه تبعياً وعرضياً. وعليه فكيف نقول بأن الله مع علمه الذاتي وإحاطته الأصليّة لم يترك للناس طريق الاتصال الباطني للهداية؛ بل قام بإرسال الأنبياء والرسل والوسائط بينه وبين الناس لكي يكونوا مع البشر، بينما ترك الناس بعد ارتحال الأنبياء والأئمّة عليهم السلام يستمدّون من  أرواحهم بالقوّة الباطنيّة؟ هذا محال وخطأ.

وبعبارة أخرى، فاعليّة الأئمّة في الأمور التشريعيّة تعتبر فاعليّة تامّة وكاملة، ولكن قابليّة الناس ناقصة من هذه الناحية؛ لأنّ على الناس أن يتّصلوا بالخارج عن طريق حواسّهم الظاهريّة، وعليهم أن يقوّوا إرادتهم ونيّاتهم ويصلحوا أفكارهم وآراءهم بواسطة ذلك، وعليهم أيضاً أن يُخلِصوا في عملهم من هذا الطريق. وهذا لا يتحقّق بدون وجود الأنبياء والأئمّة والقادة الموجودين معهم والذين يعيشون بينهم.

وأما بالنسبة لنفس الأنبياء والأئمّة بالذات فقد وصلوا إلى مقام في تهذيب الباطن وتزكية القوى الإنسانية فيهم؛ بحيث يمكنهم أن يستمدّوا تكاملهم من الذات المقدّسة لله تعالى بدون حاجب، ويستلهموا الوحي منه مباشرة دون واسطة.

وعلى هذا الأساس نرى أن منهج التشيّع ـ الذي هو أصحّ المناهج في كيفيّة التربية, وأكثرها استقامة من بين سائر المذاهب الإلهيّة ـ يعتبر وجود الإمام الحيّ من أهم المسائل، بل يمكن عدّ هذه المسألة هي المسألة المحوريّة في هذا المنهج التي يتمحور حولها سائر المسائل. فإذا لم تكن هناك حاجة للقائد الحيّ والأستاذ والمربّي، وكان بمقدور الناس أن يستمدّوا من قوّة الاتصال بالباطن في سيرهم التكاملي.. فلماذا كان من الضروري أن يكون هناك وصيّ بعد الرسول الأكرم؟ ولماذا لم تختتم مسألة الهداية بالنبي محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ ولماذا احتاج الناس لقيادة الإمام علي عليه السلام بعده؟

ألم يكن كافياً في هذا الموضع قول ((كفانا كتاب الله))؟

ما هي الحاجة إلى حياة الإمام الحسن عليه السلام بعد انقضاء حياة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام؟ وبأيّ دليل عقلي نستطيع أن نثبت إمامة الإمام الحسن؟ وبعد الإمام الحسن ما الحاجة إلى سيّد الشهداء عليه السلام؟ وكذلك سائر الأئمّة وصولاً إلى قائم آل محمّد الحجّة ابن الحسن العسكري عجّل الله تعالى فرجه الشريف.

إذن أصبح معلوماً أنّ إنكار فكرة المرشد الحيّ والأستاذ والمربي الكامل, إنّما تعود في الواقع إلى نظرية ((كفانا كتاب الله)). وستكون موجبة للخروج عن مذهب التشيّع والدخول في مذهب أهل العامّة الذين تورّطوا بأفكارهم وآرائهم.

وثانياً: هل أنّ قضيّة السير والسلوك وطيّ المراحل الباطنيّة, والسير في مراتب النفس والتهذيب, وتزكية الأخلاق ومعرفة المعارف الإلهيّة.. أمور منفصلة عن سائر المواضيع في اشتراكها في ثبوت هذا الحكم عليها؟

فلماذا لا نستمدّ من روح ولاية الأئمّة في خصوص الأمراض الجسميّة دون الرجوع إليهم مباشرة وبدون الحاجب!! ولماذا نذهب إلى الطبيب؟ ولماذا لا نستمدّ من أرواحهم في المسائل الشرعيّة الفرعيّة، بل نقوم بمراجعة الفقيه فيها؟ ولماذا لا نستمدّ من روح أمير المؤمنين في مسائل التفسير وبيان القرآن؟ ولماذا لا نعتمد على روح الولاية في حلّ معضلات المسائل الحِكَميّة والفلسفيّة؟ ولماذا لا نطلب العون من حقيقة الأئمّة ومن روح الولاية الكلّية في كلّ مسألة جزئيّة من المسائل والقضايا الأخرى؟

بل لماذا نقوم بتأسيس الحوزات العلميّة والمدارس والمجامع التعليميّة والتربويّة، دون أن نلجأ إلى الاستمداد الباطني من روح الولاية في الخلوات والانعزال لحلّ هذه المسائل؟

هل يا ترى.. تكون تلك المسائل أهمّ من مسألة العرفان الإلهي, التي يتحتّم علينا أن نتحلّى بها؟ أو أنّ مسألة العرفان أقلّ أهميّة؛ بحيث أنّها يمكن أن تنحلّ بقليل من التوجّه نحو الباطن، فلا تعود بحاجة إلى متابعة جدّية ودقيقة؟

أريد منكم أن تبيّنوا لي, لماذا فُصل موضوع التزكية وتربية النفس والأخلاق ـ الذي يعتبر من أهمّ المسائل ـ عن سائر المواضيع، وصار له حكم خاصّ به بحيث يمكن للإنسان أن يحصل عليه بمجرّد التوجّه نحو الباطن؟ بينما في سائر المواضيع نحتاج إلى أستاذ حيّ ومربّي خبير ومرشد بصير؟

لا ليست المسألة كذلك، بل حقيقة المسألة هي أنّنا ـ بسبب عدم اعتنائنا بمسائل الأخلاق وتطهير النفس وتزكية السرّ، وحتى نتخلّص منها جميعاً ـ قمنا بإنكار هذه الأمور كلّها دفعة واحدة. لكن بما أنّنا لا نستطيع أن ننكرها بشكل علنيّ وظاهري؛ حيث قامت الحجّة علينا بثبوت البراهين العلميّة والشرعيّة والعقليّة، لذا فقد قبلنا بهذه المصطلحات لفظاً وأنكرناها في المعنى، وأوكلنا أمرها إلى الله ورسوله والإمام، وتخلّصنا بذلك من ثقل المجاهدة.

إنّ الاعتماد على الأنوار الباطنيّة للأئمّة وعلى الحجّة ابن الحسن عليهم السلام، ورفع اليد عن مسؤوليّة التكليف والتعلّم في مدرسة المجاهدة، والتخلّي عن التربية عند الأستاذ الكامل والمربي المرشد التامّ.. هي بمثابة إنكار هذه المسألة وترك النفس وشأنها.

فهذه المقولة ليست بعيدة عن مقولة بني إسرائيل للنبيّ موسى على نبينا وآله وعليه السلام، فعندما أنجاهم ذلك النبيّ العظيم من ظلم الفراعنة والأقباط, وعبر بهم النيل؛ وعلّمهم الدين وعبادة الله بشقّ الأنفس وتحمّل الآلام، وأوصلهم إلى تخوم أرض فلسطين التي هي مقرّهم ومأواهم، وأمرهم بالجهاد ودخول المدينة التي كانت موطنهم, الأصلي والتي كانوا قد خرجوا منها تائهين مشرّدين.. تعالت أصواتهم وهتفوا كلّهم بصوت واحد:

{قالوا يا موسى إنّ فيها قوماً جبارين وإنّا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنّا داخلون} [2]  

{قالوا يا موسى إنّا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون}[3]

وثالثاً: تأمرنا كلّ من الآيات القرآنيّة والروايات الواردة عن المعصومين بلزوم اتّباع أهل الخبرة والعلم، وبطبيعة الحال فإنها تشير بإطلاقها إلى هذه المسألة، ولم نجد في كلّ الآيات القرآنيّة والروايات آية واحدة أو رواية تخصّص الأمور الأخلاقيّة والعرفانيّة بالحكم وتجعلها موكولة لعالم الغيب، وتعذرنا عن الحاجة إلى الأستاذ والمربّي.

كالآيات التالية: الآية 43 من سورة النحل، والآية 7 من سورة الأنبياء: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}. أو كأمر أمير المؤمنين عليه السلام في الحكمة 96 من نهج البلاغة: ((إنّ أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به))؛ ثم تلا: {إنّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا}[4].

وكذلك أيضاً قول الإمام زين العابدين عليه السلام في صفحة 209 من كشف الغمّة الطبعة الحجريّة: ((هلك من ليس له حكيم يرشده وذلّ من ليس له سفيه يعضده)).

وهناك الكثير من الأدلّة الواردة في باب الاجتهاد والتقليد، والتي تدلّ على وجوب التقليد، وتلك الأدلّة ليست مختصّة بمسألة التقليد في باب الإفتاء والقضاء؛ لأنّ الكثير منها مطلق، وهي تؤسّس لقاعدة وجوب رجوع العامّي إلى العالم، التي تشمل الحكم أيضاً بوجوب رجوع أيّ شخص جاهل إلى الشخص العالم في أيّ موضوع كان. بل الأدلّة الفطريّة والعقليّة التي تدلّ على لزوم رجوع العامّي إلى العالم جارية في المقام.

هيچكس از پيش خود چيزي  نشد                              

                                               هيچ   آهن    خنجر   تيزي    نشد

هيچ    حلوائي    نشد   استاد  كار                               

                                                  تا   كه  شاگرد  شكر  ريزي  نشد[5]

 

ونحن بعد أن استقصينا سبب هذه المقولة الرائجة بين مجموعة من العوامّ المتلبّسين بلباس أهل العلم، والتي تقول: ((لا حاجة للأستاذ في الأمور الأخلاقيّة، بل نستطيع أن نكتفي بالتوسّل بالمعصومين والاستمداد من صاحب العصر والزمان لحلّ معضلات السير والسلوك)).. تبين لنا أنّها قد سيطرت على أرواح الكثير من العوامّ، فلم يعودوا يولونها أيّ اهتمام أو اعتبار، ولهذا نرى المقولة التالية متكرّرة على ألسنتهم: إنّ هذه المسألة مسألة أخلاقيّة وليست فقهيّة، وبالتالي فهي ترجع إلى الأخلاق, فهي خارجة عن دائرة العلم!

أو لأنّهم يرون أنفسهم خالين من هذا الأمور، ولا يريدون أن يظهروا بأنّهم عاجزين غير عالمين أمام العوامّ؛ لذا تراهم يجيبون في المسائل الفقهيّة فوراً، بينما في المسائل التوحيديّة والعرفانيّة؛ حيث إنّهم لا يملكون جواباً، يلجئون إلى القول بأنّ هذه المسائل تنحلّ من خلال التوسّل بالإمام بقيّة الله أرواحنا فداه. فضلّوا وأضلّوا عن سواء الطريق.

نعم يمكن أن نرى لدى بعض الأفراد النادرين جداً حصول جذبة لديهم بشكل ابتدائي وبدون سلوك، فينجذبون للأنوار الجماليّة الإلهيّة، ثمّ في ظلّ تلك الجذبة يقوم الله بتحريكهم لكي يصلوا إلى المنزل المقصود عن طريق السعي والسلوك، ويطلق عليه في هذه الحالة بالمجذوب السالك؛ لأنّهم شرعوا بالسير في طريق الكمال بعدما حصلت لديهم هذه الجذبة، بخلاف سائر الأفراد الذين يطلق عليهم اسم السالك المجذوب؛ لأنّ الجذبة قد حصلت لديهم بعد المجاهدة والسلوك. ولكن حتى القسم الأول فإنّه محتاج إلى أستاذ للسلوك بعد الجذبة أيضاً، ونادراً أيضاً ما حصل لدى البعض جذبات إلهيّة متتالية، أمكنهم أن يعرفوا من خلالها الطريق الصحيح، بحيث يفهمهم الله تعالى الطرق المؤدّية إلى الكمال بواسطة الإلقاء الغيبي بشكل مباشر من الله تعالى، ويصير بمقدورهم طيّ هذا الطريق, والوصول إلى الكمال بدون أستاذ ظاهري. ويسمّى هذا الشخص بالأويسي نسبة إلى ((أويس القرني)) الذي طوى طريق الكمال دون لقائه برسول الله، وبلغ رضوان الله تعالى عليه إلى المقصد جرّاء الجذبات الإلهيّة. وقد كان غالب الأنبياء من هذا القبيل؛ أي من كان بينه وبين النبيّ اللاحق فاصلة زمنيّة ولم يحصل لقاء بينهما، والأئمّة أيضاً كانوا كذلك صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ولكن على الإنسان أن لا يظنّ نفسه ـ في وقت من الأوقات ـ بأنّه من زمرة ((المجذوب السالك)) أو من الأويسيين, الذين يمكنهم طيّ الطريق والوصول إلى المقصود من خلال الجذبات والواردات الإلهيّة، دون الرجوع إلى الأستاذ ودون التتلمذ على يديه والتربّي تحت نظره. فهذا وهمٌ باطل؛ لأنّ هذا الأمر كما ذكرنا بيد الله وبأمره, لا بيد السالك، وهو أمر نادر جداً جداً، وإلا فالسلوك الذي ينتظر فيه السالك حصول الجذبة الإلهيّة دون الرجوع إلى الأستاذ، يشتمل على الكثير من الأخطار التي تتضمّن الابتلاء بأمراض مختلفة، والإصابة بحالة من الجنون والضعف والعزلة وقصر العمر والانزواء، وترك العمل لكسب العيش وهجر الزوجة والأولاد، ويبتلى في آخر المطاف بالوقوع في شرك أبالسة الإنس والجنّ، ويتربّع على أريكة الأنانيّة والفرعونيّة... وغير ذلك من آفات هذا الطريق. ففي كلّ خطوة ألف فخّ وهفوة، لا يسلم فيها من الآلاف شخص واحد.

 

أقسام المقالة

القسم الأول: الحاجة إلى الأستاذ والمربّي الكامل في السير والسلوك

القسم الثاني من المقالة: أهمية دراسة الفلسفة

القسم الثالث: هل السير والسلوك ينتهي بمعرفة الوليّ المطلق الإمام الحجّة أرواحنا فداه, أم أنّ الهدف هو معرفة ذات الحق تعالى؟

 


[1]ـ كمال الدين وتمام النعمة، ص 409.

[2] - الآية 22 من سورة المائدة.

[3] - الآية 24 من سورة المائدة.

[4] - الآية 68 من سورة آل عمران.

[5] -  لم يصبح أحد شخصاً مهمّاً من تلقاء نفسه، فالحديدة لم تصبح خنجراً حادّاً بذاتها

   ولم يصبح صانع الحلوى أستاذاً ماهراً، إلا بعدما كان عاملاً ماهراً في صبّ السكر

چاپ ارسال به دوستان
 
الإستفتاء
الإسم:    
البريد الإلكترونيّ:    
التاریخ    
الموضوع:    
النص:    

أدخل الرمز أو العبارة التي تراها في هذه الصورة بدقة

اگر در دیدن این کد مشکل دارید با مدیر سایت تماس بگیرید 
عوض الرمز الجديد

 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع «المتقين». يسمح بإستخدام المعلومات مع الإشارة الي مصدرها


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی