معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
المقالات و المحاضرات > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > أعياد و مناسبات إسلامية > يوم الغدير يوم التحرّر من أغلال ما سوى الله

_______________________________________________________________

هو العليم

يوم الغدير يوم التحرّر
من أغلال ما سوى الله

محاضرة الغدير 1429 هـ

لسماحة آية الله الحاج

السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين،
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

قال تعالى: { الَّذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتي‏ كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون‏ } [1] .

    

أهمّ خصوصيّات النبيّ أنّه ينزع الأغلال ويحرّر منها

دعا الله الناس في هذه الآية إلى اتّباع رسوله ونبيّه الخاتم الذي من خصوصيّاته أنّه يحلّل لهم ما جعله الله للناس طيّباً ويحرّم عليهم ما يوجب انحطاطهم وفسادهم وضياع استعدادهم، وإهمال ودائع الله فيهم ويحذّرهم منه. وقد ورد اسم هذا النبيّ في التوراة والإنجيل, والجميع أيضاً يعلمون جيّداً بهذا الأمر, ولا يوجد محلّ لأيّ شكّ وشبهة فيه. ومن الخصوصيّات الأُخرى لهذا النبيّ أنه يحلّ القيود والسلاسل عن أعناق الناس، تلك السلاسل والقيود التي يمسك بأطرافها غير الله من العباد، أو من الحواجز والموانع والأهواء والرغبات. وهذا النبيّ يحلّ الأغلال والسلاسل التي تقيّد الأيدي والأرجل، من العباد والأهواء والكثرات والدنيا والشهوات والمواقع وكلّ ما يمنع من عبور الدنيا الدنيّة، ومن الوصول إلى عالم التجرّد, فيحلّها جميعاً ويجعلهم في راحة منها. هذه هي خصوصيّة النبي، فالنبيّ جاء لهذا الغرض, والنبيّ جاء من أجل هذه الحقيقة، جاء من أجل هذا الهدف. لم تكن المسائل التي جاء بها النبيّ للناس مختصّة بإقامة الصلاة, ولم يكن المنهاج الذي وضعه لهم مقتصراً على إقامة صلاة الظهر أربع ركعات؛ لأنّ عمر أيضاً كان يصلّي تلك الصلاة، ويزيد أيضاً كان يصلّيها، وعمر بن سعد كان أيضاً في ليلة العاشر يصلّي نفس هذه الصلاة، وعندما قطّع ابن رسول الله وأولاده، صلّى على أصحابه الذين كانوا قد قتلوا ووصلوا إلى الجحيم صلاة الميّت! عمر بن سعد نفسه صلّى صلاة الميّت! نعم، هؤلاء كانوا يصلّون هذه الصلاة، وكانوا أيضاً يصومون، وكانوا أيضاً يؤدّون الواجبات, وكانوا يتركون محرّمات كثيرة: كشرب الخمر والقمار والشطرنج والموسيقى والسفور؛ فإنّهم كثيراً ما كانوا لا يرتكبون هذه الأمور. ولكن ما هي مشكلتهم؟ مشكلتهم هي أنّهم لم يريدوا أن يحلّ رسول الله الأغلال والسلاسل عن أيديهم وأقدامهم، هذه هي مشكلتهم، يعني: يريدون الرسالة بلا مضمون, والبعثة بلا غاية! لم يأتوا ويجعلوا أنفسهم مسلّمة له ومطيعة، ولم يقولوا: الآن تعال وحلّ لنا الغلّ والسلسلة. النبيّ لم تكن له قرابة مع أحد، بل كان يتحرّك على أساس الضوابط. لذا جاءوا وقالوا: يا رسول الله, نحن نقبل أن نصلّي, ولكنّا لا نقبل ولاية صهرك وابن عمّك وخليفتك. حسناً ما فائدة ذلك؟ ما نتيجة ذلك؟ فلتضرب تلك الصلاة برأسك! يا رسول الله, نقبل أن نصوم الصوم الذي جئت به, ولكنّنا لا نقبل المسألة الأُخرى التي هي أصل, والتي هي قاعدة, والتي هي الولاية والتسليم. نحن نصلّي الصلاة التي نختارها نحن لا أنت! نصوم الصوم الذي نحن نشخّصه لا أنت! نحجّ الحجّ الذي نشخّصه نحن لا أنت! ما فائدة ذلك؟ ما نتيجة ذلك؟ أي أثر يترتّب على ذلك؟

    

دور التسليم لمقام الولاية في تحرّر الإنسان من الأغلال

قلت للرفقاء في المجلس السابق: إنّ الصلاة بدون تسليم مجرّد رياضة، وأنّ الصوم من دون تسليم للحقّ وتسليم في مقابل الإمام نظام غذائي، وأنّ الحجّ المجرّد عن الولاية نزهة وتجوال وسفر، والإنسان يسافر, فليكن أحد أسفاره الحجّ أيضاً! يروّح عن نفسه أيضاً, يرى هذا المكان ويرى ذلك المكان، يرى الأبواب والجدران والمتاجر!
نعم, ما جاء به النبيّ في القرآن ليس مجرّد الصلاة! كم آية عندنا في القرآن تتعلّق بالصلاة؟ كم آية عندنا تتعلّق بالصوم؟ كم أكّد على ذلك؟ بل ما أكّد عليه هو التسليم.
{فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في‏ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْليماً } [2]
وهذه آيات عجيبة؛ لأنّها تبيّن رمز وسرّ الإسلام, وتبيّن التشيّع للإنسان, تبيّن أنّ رمز وسرّ التشيّع والإسلام هو التسليم في مقابل إرادة رسول الله. عندما يأتون إليك، يجب أن لا يأتوا مع افتراض مسبق. عندما يأتون إليك لحلّ النزاع، يجب أن لا يجول في خاطرهم هذا: أن نذهب إلى النبيّ ليحكم لصالحنا، وإذا لم يحكم لصالحنا فماذا نفعل؟! من الآن نجلس ونرقّع القضايا بحيث نستطيع أن نبرّرها باستمرار عندما لا يحكم النبيّ لصالحنا، نبدأ عندما نخرج من البيت, ونمشي ونذهب إلى النبيّ، والأمر يكون هكذا، فمرّة يحكم النبيّ ويفتى لهذا الطرف, ومرّة النبيّ يحكم لذاك الطرف, فحكم النبيّ ليس في يدنا بل في يده، فإذا حكم بنفعنا نسرّ وترتسم على وجوهنا ابتسامة وتتغيّر ملامح وجوهنا, وإذا لم يحكم لصالحنا فجأة نعبس. يا إلهي لماذا حدث هكذا؟! فمنذ ذلك الوقت وقبل أن نصل إلى النبيّ نشرع باستمرار بتوجيه الجهة السلبيّة للحكم، وأنّ المسألة لم تبيّن للنبيّ بشكل جيّد، وأنّا لو كنّا قد أوضحناها بشكل آخر فربّما كان الأمر مختلفاً. الآن هذا النبيّ كان نظره هكذا, ولكن في النهاية نحن أنفسنا أيضاً نعلم ما الذي حدث، ما الذي فُعل، ما الذي يكون. هذه الأمور كلّها لمكان أنّنا لا نريد أن نحلّ الغلّ والسلسلة, تلك السلسلة الموجودة الآن في أيدينا وأرجلنا, مع أنّنا لا اطّلاع لنا عليها. الله الآن فسح لنا مجالاً، بسط لنا سفرة. لماذا قدّم لك قضيّة النزاع بينك وبين شخص آخر؟ لكي ترجع إلى رسول الله, ويحلّ غلّك وسلسلتك بواسطة الحكم عليك. نعم, أنت هربت وخرّبته، هذه المشقّة التي حصلت وهذا النزاع الذي وقع بينك وبين رفيقك، هذا النزاع جاء من فوق؛ لأجل أن يرفع عنك ذلك الغلّ، والدواء الذي يعطيه الطبيب ليس كلّه عصيراً، ليس دائماً أقراصاً حلوة، ليس دائماً بقلاوة وحلوى؛ ففي بعض الأوقات يحتاج العلاج إلى إبرة، فيوخز الطبيب مريضه بالإبرة، والإبرة مؤلمة، فنفس وخزها مؤلم، كما أنّ المادّة التي تحقن بها هي مؤلمة. وفي بعض الأوقات يحتاج الأمر أكثر من الإبرة، يكون هناك عمليّة، يجرون عمليّة ويفتحون ويخيطون. في ذلك الوقت الذي كان يذهب فيه المساكين المرضى إلى الطبيب لم يكن المسكّن متوفّراً. وكنت أقرأ في تاريخ الطبّ أنّهم كانوا في سالف الزمان يجرون العمليّات بغير مسكّن حتّى مثل عمليّة الزائدة, كانت تتوفّر لهم آنذاك بعض الأعشاب التي تترك أثراً بسيطاً من التخدير، وكان يبتلى ذلك المريض بالأذى والألم، لكن الآن يحصل التخدير وتوفّرت وسائل الراحة. إذن هذا الوضع الذي حدث من قبل الله, ويجب أن نعتبره منّة علينا. ونحن في زمان حياة المرحوم الوالد رضوان الله عليه كنّا نشاهد هذا الأمر بشكل واضح, فقد كنّا نشاهد أنّ كثيراً من الأمور التي تحدث لم تكن تحت اختيار الطرفين، كانت تحدث بشكل غير معتاد وكان يجب أن تحدث هذه القضيّة حتّى يعبر هذا بواسطة تلك النتائج التي تترتّب على هذه المسألة، وحتّى يجتاز. وكنّا نرى أنّ البعض كان يقبل وكان يبتهج وكان يستوعب، والبعض كان يرفض، وفجأة كان يصدر منه كلام في الاعتراض: ما هذا الحكم الذي حكم به السيّد؟! نحن لا نقبل هذا!! ويجب أن توضّح له القضيّة مرّة أخرى!! ويجب أن نذهب إليه مرّة أخرى!! ألا تعلم يا عبد الله أنّ هذا الشيء كان لأجلك، كان يجب أن تحدث هذه القضيّة من أجلك.
جاء رسول الله من أجل أن يزيل هذه العوائق، من أجل أن يزيل ما يأسر, جاء من أجل أن يزيل الأغلال والقيود والتعلّقات بالدنيا من الإنسان وممّا يتصرّف في جوانب وجوده، جاء ليخرجها من الإنسان ويحرّره. ينبغي على الإنسان أن لا يضع في ذهنه افتراضاً مسبقاً, ينبغي على الإنسان أن لا يضطرب في مواجهته للحقيقة وفي مقابلها، وأن يكون مثل الماء الراكد والصافي والزلال، وأن لا يتغيّر قلبه بتغيّر المسألة، وأن تكون عنده المسائل والقضايا التي تواجهه بمثابة الأمور الهامشيّة والجانبيّة.

    

مظاهر وعلامات المتحرّرين من الأغلال

اختلف شخص مع المرحوم العلاّمة وقد اعترض بتلك الاعتراضات، وكنت في خدمة المرحوم العلامة فقلت له منزعجاً: أنتم قمتم بحقّه بكلّ هذا اللّطف وفي المقابل ماذا فعل هو؟ قال: وهل وجّه هذا الكلام إليّ أنا؟ (وكان ثوبه معلّقاً على التعليقة) وجّه كلامه إلى ذلك لم يوجّهه إليّ! وجّه هذا الكلام إلى عباءتي هذه! من أين يعرفني حتّى يأتي ويقول لي هذا الكلام! هل تلتفتون كم هو عميق هذا الكلام؟ هو يريد أن يقول: أنا نجوت من الغلّ والسلسلة وتحرّرت، ولا يستطيع أحد أن يوجّه كلامه إليّ، لا يستطيع أحد أن يعرفني حتّى يمدحني أو يذمّني، لا يختلفان كلاهما على حدّ سواء، الكلام الذي يوجّهه إليّ يتوجّه إلى عباءتي، المدح الذي يمدحونني به يصل إلى عباءتي، فأنا لا يعرفني أحد، إن يذمّوني فهذه المذمّة لا تصل إليّ، بل تصل إلى تخيّلهم ولا تصل إليّ، هو يذمّني في خياله، وأنا أرفع من خياله، إذن هو لا يصل إليّ. إلى ماذا يصل؟ إلى نفس العباءة التي رآها منّي.
حسناً فكل شخص يأتي إلى هنا لا بدّ أن يلبس لباساً، فهنا ليس حمّاماً! والإنسان في المجالس يستر نفسه بلباس، والآن كلّ شخص يجلس إلى جانب المرحوم السيّد ماذا يرى منه من رأسه إلى رجله؟ يرى فقط لباساً، لم يرَ شيئاً آخر، وهذا هو ما يقوله. يقول: رأى الناس لباسي، فإذا أرادوا أن يذمّوني، دعهم يذمّون. قل كلّ ما تريد وتعال وذمّ هذه العباءة والجبّة اللّتين رأيتهما... لأنّه لم يرَ شيئاً غير الوجه. نعم، الآن تعال هل تريد أن تذمّ تعال فذمّ، تريد أن تمدح! انظروا صار حرّاً, ارتاح، فهو لا يفرح عندما يمدحه شخص. لم يكن يجرؤ شخص عندما كان يصعد المنبر أن يمدحه، لم يكن يجرؤ أن يذكر اسمه فوق المنبر. المنبر منبر الإمام الحسين وليس منبر السيّد محمّد الحسين الطهراني والآخرين. وعلى منبر الإمام الحسين ينبغي أن يذكر الإمام الحسين فقط.
الآن إذا صعد شخص المنبر ولم يذكر اسم صاحب المجلس، فلن يدعوه في المرّة الثانية ولا يعطوه ربع ماله، وفي نفس الوقت نتحدّث عن الله، نتحدّث عن النبيّ، نتحدّث عن الشريعة، نتحدّث عن الشعائر. لماذا نكذب؟ لماذا نحتال على الناس؟ إذا كان حقّاً وواقعاً فليأت الذي يصعد المنبر وليمدح شخصاً آخراً لا صاحب المجلس ذي الشأن الرفيع! عندئذٍ يعلم أين الإخلاص وعندئذٍ يعلم أين الصدق والكذب والنفاق.
كان هناك شخص يحدّث آخر أنّه عندما يصعد المنبر يصلّي على النبيّ وآله كثيراً مائة مرّة أو مائتي مرّة لكي يصعد المنبر بإخلاص، فقلت: اذهب وقل له: يقول فلان: لا تحتاج لتحصيل الإخلاص إلى الصلاة مائة مرّة فوق المنبر! يا فلان اذهب وامدح شخصاً آخراً غيره دون أن تمدحه هو، وبهذا يكون الإخلاص! ولكنّه قال: أيمكن ذلك؟
جاء إلى المرحوم الشيخ أبي الحسن الخرقاني (أعلى الله مقامه وقدّس الله سرّه) أحد المبلّغين من العلماء، وكان من العلماء المعروفين، فجاء وكان يريد أن يذهب للتبليغ، فجاء ليأخذ إجازة في الذهاب للتبليغ. هل تعلمون أين يقع قبر المرحوم الشيخ أبي الحسن الخرقاني؟ في شاهرود ويبعد عن شاهرود عدّة كيلومترات.

    

الإمام كعبة الآمال ولا يزار سواه في الطريق إلى زيارته

أذكر لكم هذه المسألة أيضاً لقد وردت هذه النكتة على ذهني الآن، لقد تذكّرتُ هذه الخاطرة عن المرحوم العلاّمة وأجد من الضروريّ أن أذكرها. في أحد الأوقات في أيّام حياة السيّد الوالد ـ وكان قبل فترة طويلة من وفاته ـ تحرّكنا من طهران إلى مشهد وكنّا مع الأهل والأطفال, وذهبنا في الطريق إلى شاهرود, وكانت قلوبنا مشتاقة إلى زيارة قبور العظماء الموجودين على طول الطريق, فهؤلاء هم من كتب عنهم في كتاب الروح المجرّد نقلاً عن حضرة الحدّاد رضوان الله عليهما حيث قال: إنّ الذهاب إلى زيارة قبور هؤلاء موجب لنزول الخيرات والبركات والأنوار, ومسبّبٌ لانتقال آثار نفوسهم إلى نفس الإنسان. وقال: إنّ على الأصدقاء والإخوة أن يذهبوا لزيارة مقبرة شيخان التي كان يمدحها أيضاً, وبالخصوص الطلبة والفضلاء, أوصاهم أن يذهبوا إليها ويستمدّوا من أرواح هؤلاء ودعائهم؛ فإنّهم يعطونهم المدد والتأييد لطيّ طريقهم. وأتذكّر أنّه نفسه (العلاّمة) في ذلك السفر الذي تشرّفنا فيه لزيارة حضرة السيّدة فاطمة المعصومة سلام الله عليها ذهبنا برفقته لزيارة المقبرة التي تدعى "شيخان", وكان عمري في ذلك الوقت اثني عشرة أو ثلاث عشرة سنة تقريباً. على كلّ حال أردنا أن نزور هذه القبور وأن نتشرّف بعدها بزيارة مشهد, وأن نختم طريقنا بزيارة علي ابن موسى الرضا. عندما ذهبنا إلى شاهرود, ذهبنا إلى بايزيد البسطامي (رضوان الله تعالى عليه) الذي كان من خواصّ طلاّب الإمام الصادق عليه السلام, وكان من خواصّ الطلاّب, وكان في خدمة الإمام عليه السلام لمدّة ستّ سنوات, كان ساقياً وحاجباً له, وكان يكنس منزل حضرة الإمام, وكان من عظماء شاهرود, لكنّه قدم إلى هناك. في أحد الأيّام قال له الإمام عليه السلام: احضر الكتاب الفلاني الموجود على الرفّ. فقال: أيّ رفّ؟ فقال له الإمام: أنت هنا منذ ستّ سنوات, ولا تعلم بأنّ هناك رفّ في الأعلى؟ فقال: يابن رسول الله، منذ ذلك الوقت الذي قدمتُ فيه إلى هنا لم تقع عيني على سواك. نعم! انظر إلى هذا الذي يقال له من شيعة أمير المؤمنين, هذا هو. فقال عليه السلام: أمّا الآن فقد حان الأوان, وتصرّف الإمام تصرّفاً, وأوصله إلى حيثما يجب أن يصل. وقال بعدها: اذهب الآن إلى مدينتك وديارك, وأرسل معه ابنه محمّد بن جعفر, وقبر ابن الإمام الصادق عليه السلام موجود هناك, فأتى برفقته إلى هناك, وانتقل إلى رحمته تعالى قبل بايزيد. وقد أوصى بايزيد بأن يدفن تحت أقدام ابن الإمام الصادق عليه السلام, وهو الآن مدفونٌ تحت أقدامه. ولضريح ابن الإمام الصادق قبّة وحرم, أمّا قبر بايزيد فهو في الصحن. وقد ذهبنا إلى ذلك المكان وقمنا بالزيارة, وبعدها ذهبنا لزيارة الشيخ أبي الحسن الخرقاني الذي كان يبعد عنهما قليلاً, وبعدها تحرّكنا وذهبنا إلى سبزوار, وهناك ذهبنا إلى مزار الحاج الملاّ هادي السبزواري (أعلى الله مقامه) الذي كان من أصحاب القلب ومن أصحاب القلوب الحيّة. ووصلنا إلى نيشابور، فزرنا قبر العطّار النيشابوري، وزرنا أيضاً أبناء الأئمّة الموجودين هناك وبعدها ذهبنا إلى مشهد. وعندما وصلنا كان الوقت صباحاً, فجلسنا لتناول الفطور, فقال المرحوم السيّد: حسناً لقد أتيتم, ما هي الأماكن التي ذهبتم إليها؟ أردنا أن نهرب من الإجابة, فقال: ما هي المزارات التي زرتموها؟ إلى أين ذهبتم؟ فرأينا أنّه من اللازم أن نتكلّم وأنّ الأمر يجب أن يُبيّن. قلنا: إنّنا ذهبنا إلى هذه الأماكن وزرنا فقال: حسناً, حسناً جدّاً, ولم يقل شيئاً في ذلك الوقت, وبعد مضيّ بضع دقائق قال: مع أنّ زيارة قبور العظماء والأولياء الإلهيين مطلوبة في حدّ ذاتها, وهذا العمل في حدّ نفسه مرضيّ ومقبول, وتصاحبه البركات والنعمات, وقد أُكّد على ذلك, إلاّ أنّه بلحاظ أنّكم تحرّكتم نحو مشهد فيجب ألاّ يكون في ذهنكم غير الإمام الرضا, وأن لا يأتي إلى ذهنكم أي شخص غيره!
مثل هذا الشخص القائل يسمّى شيعيّاً ووليّاً, ومثله يسمّى عارفاً. يجب ألاّ يأتي أحد غير الإمام الرضا. نعم، قال أحد المرّات: إنّكم إذا أردتم الذهاب من مشهد إلى طهران لا إشكال في أن تزوروا الأولياء الموجودين على الطريق, ليس هناك مشكلة في أن تزوروا العظماء, ولكن عندما يتحرّك الإنسان إلى زيارة الإمام الرضا عليه السلام يجب عليه أن لا يجعل في ذهنه وفي مخيّلته شخصاً آخر, ومئات ملايين الملايين من الأشخاص الذين هم مثل العطّار والمرحوم الحاج الملاّ هادي والمرحوم بايزيد والشيخ أبي الحسن الخرقاني يعملون في تنظيف صحن الإمام الرضا, ينظّفون صحن الإمام, ووصلوا إلى هذا المقام من خلال تكحيل أعينهم بتراب زوّار حضرته عليه السلام. وعلى الإنسان أن يعرف حقّ وليّ نعمته, ويضع مقدار وقيمة كلّ شخص في مكانها, فالإمام إمام, ويجب ألاّ يجعل شيء إلى جانب الإمام, يجب أن يكون ذلك الحريم محفوظاً. وعندما يذهب الرفقاء إلى مشهد يقولون لي: سيّدنا ذهبنا لزيارة الإمام الرضا ولزيارة والدكم المعظّم أقول لهم: زيارة الإمام الرضا فقط. يجب أن لا يكون هناك زيارة أخرى إلى جانب زيارة الإمام الرضا. نعم, عندما تذهب إلى زيارة الإمام الرضا وترجع فلا إشكال في سورة الفاتحة, اقرأ الحمد, فتستفيد من بركاته, وحتماً ستستفيد. أو إن شئت اذهب وقف هناك, ولكن عندما تريد أن تتحرّك من منزلك, أو تتحرّك من الفندق للزيارة, عليك أن لا يكون في بالك نيّتان,بل نيّة واحدة, نيّة زيارة الإمام الرضا فحسب, ولا شيء آخر.
قبل عدّة أيّام كنّا تشرّفنا بزيارة مشهد, وكانت أيّام زيارة, وعندما كنت خارجاً من الصحن, كانت هناك بعض النسوة, وكنّ ذوات صفاء كبير وجيّدات جداً, كنّ قادمات من طهران ومن جامعة طهران, كنّ قادمات للزيارة, عندما رأينني قلن: يا سيّد, أين يقع قبر السيّد النخودكي الأصفهاني؟ فقلت: قبر الإمام الرضا هناك! فنظروا إليّ تأملوا فيّ... يا سيّد لماذا هكذا؟! نحن قلنا لك: الحاج حسن علي النخودكي, ومقصودنا هو الحاج حسن علي النخودكي, فقلت: مقصودي هو الإمام الرضا أيضاً, الإمام الرضا قبره هناك. ففهموا مقصودي, وقالوا: شكراً كثيراً على نصيحتك لنا. كنّ من أهل الفهم, واستوعبن المطلب. وقلت لهنّ: أعزّتي, أيّ شخص يأتي إلى زيارة الإمام الرضا عليه أن لا يتوجّه إلى الشيخ حسن علي ولا إلى غير الشيخ حسن علي, عليه أن يذهب إلى زيارة الإمام الرضا فقط. نعم إذا أتيت وأردت الذهاب إلى منزلك فلا بأس... أمّا الآن وقد عزفت عن زيارة الإمام الرضا وأعرضت عنها تريد أن تبحث عن قبر حسن علي, فماذا يعني ذلك؟ إنّ ذاك الشخص كان عظيماً ومن أولياء الله ومن أصحاب الكرامات, ومن أصحاب الروح وقد تحمّل الكثير وكان من أصحاب المجاهدات, وقد لا يوجد من يساوي مقدار شعرة منه. نعم, إنّ ذلك كلّه مقبول عندنا. ولكن الإمام الرضا هو الإمام الرضا فقط وفقط, نحن كلّنا لا نعدّ حتّى من خدّام الإمام الرضا, نحن كلّنا في أيّ مرتبة كنّا يجب علينا أن نعرف قدرنا ومكانتنا وحدودنا. هذا مكان لا يمكن فيه المزاح, هذا مكان تجلّت فيه غيرة الله تعالى, هذا المكان مكان ظهرت فيه تلك العظمة والبهاء, والله سبحانه لا غير له, الله لا ثاني له, هذا هو وليّ الله, وهذا هو الإمام. هذا ما يجب أن يعرف , ويجب أن نجعله أمام أعيننا. وقد بيّنت هذه المسألة للرفقاء لأجل أن تكون ذكرى من المرحوم السيّد في هذه القضيّة، ولكي نستفيد خيراً من تلك الرؤية التوحيديّة.
انظروا: إنّ العظماء يأتون وينزعون الأغلال والسلاسل، فماذا كان مرادهم؟ نزع الأغلال والسلاسل, أي: يجب أن يكون فكرك حرّاً, ويجب أن لا تكون مقيّداً ومأسوراً بالظاهر, كما هو حاصل الآن من السعي لجلب المكانة هنا والسعي لجلب المكانة هناك، هذه المكانة يجب عدم السعي لها، بل يجب أن يكون السعي وراء الأمور الواقعيّة. الآن هو أبي، وهذا محفوظ في مكانه, ولكن هل يعني هذا أن أصنع له الدعايات وأضع له الإعلانات والصور؛ لأنّه أبي. ما هذه الأمور؟ هي أغلال وسلاسل فيجب أن نكون قد نزعناها من أقدامنا, ولكن للأسف نحن نعمل باستمرار على إضافتها إلى أنفسنا. نعمل باستمرار على إضافتها إلى أنفسنا.

    

التبليغ الحرّ أن لا تبلّغ لنفسك

لقد جاء أحد العلماء إلى الشيخ أبي الحسن الخرقاني وقال: أريد أن أذهب إلى التبليغ, فقال له: لا تبلّغ لنفسك, ولا تدع إلى نفسك, بلّغ لله وادع إليه. فتعجّب! هل أنا أبلّغ وأدعو إلى نفسي, عملي هو الدعوة إلى الله, وإحياء ذكره وإحياء شعائره, فكيف يكون هذا المعنى؟ فقال: إذا جاء شخص آخر وكانت محاضرته أفضل من محاضرتك, فلا تشعر بعدم الراحة في قلبك! إذا كنت تدعو إلى الله، فلماذا تنزعج؟ هذا يلقي خطابه بنحو يفوق إلقائي! تشعر كأنّ في قلبك شيئاً, هو يخطب أفضل منّي، فيا للمصيبة. لا, أنا أذهب أسرع منه, أذهب وأقول هذا وينتهي الكلام باسمي, ويسجّل المجلس باسمي في النهاية. هذا كلّه توجّه إلى النفس, هذه دعوة إلى النفس. من الذي يرفع الأغلال والسلاسل عن الإنسان؟ أيّة مجموعة؟ أيّة طائفة؟ أنتم أيها الرفقاء لستم قادمين من خلف الجبل! ذهبتم إلى كلّ الأمكنة, بحثتم في كلّ الأمكنة، جئتم إلى كلّ الأمكنة, أيّ مذهب يقوم بتطبيق هذه الآية للناس, أهو مذهب العرفان, أم المذاهب الأخرى؟
كان المرحوم العلاّمة إذا شرع الخطيب بمدحه يقول له وهو في الأسفل: لا تقم بمدحي, وعندما ينزل يقول له: إذا قمتَ بمدحي مرّة ثانية فأنا أعتذر عن دعوتك. إلاّ أنّ آخر لو لم يقم الخطيب بمدحه فلن يقوم بإعطائه ظرف المال. أيّ مذهب؟ أيّ طريق وأيّة مدرسة علميّة؟ والمدرسة بمعنى المذهب. أيّة مدرسة تقوم بتعليم الناس هذه المعارف؟ أيّة مدرسة تقوم بتعليم الناس هذه الحقائق؟ أيّة مدرسة تأتي وتعلّم الناس الولاية؟ أيّة مدرسة تأتي وتعلّم الإنسان الحريّة؟ وأيّة مدرسة تأتي وتُهدي للإنسان الحريّة وتتفضّل عليه بتلك الحريّة؟ أيّة مدرسة؟ تلك المدرسة هي مدرسة الأولياء, هي مدرسة شيعة أمير المؤمنين.

    

بعض حالات أمير المؤمنين يوم الغدير

هل تتخيّلون أنّ أمير المؤمنين فرح في هذا اليوم حين نصب للخلافة والوصاية وللإمامة, هل تتخيّلون أنّ أمير المؤمنين فرح بهذا المنصب؟والله! أقسم بروحه أنّه كان حاضراً لأن يضعوا جبال الدنيا على رأسه في قبال أن لا يعطوه هذا المنصب! أقسم بروحه أنّه لم يستفد من هذا غير الأذى وغير التعب وغير المشقّة وغير الجدال مع حفنة من الحيوانات، وأنتم تعرفون من هم هؤلاء الحيوانات, أعني: هؤلاء الذين قطّعوا بنت رسول الله قطعة قطعة لأجل هذه السلاسل والأغلال. أفعلوا ذلك أم إنّ هذا كذب أيضاً؟ لا لقد أتوا، قطعوا بنت رسول قطعة قطعة, لأجل ماذا؟ لأجل أن لا يصل أمير المؤمنين إلى الخلافة, أن لا ينصّب للخلافة. إذن ما الذي جلبته هذه الخلافة لأمير المؤمنين من الحلوى و"المُلَبّس"؟ ما هي الراحة التي جلبتها له؟ هو في مكانه سواء نصّبه رسول الله للخلافة في عيد الغدير أو لم ينصّبه للخلافة, هو الأمير هو الإمام هو الوليّ, قلبه متّحد مع الله.
لقد كان المرحوم السيّد القاضي يقول: إنّ السيّد حسن مع الله, تخرجون السيّد حسن المسقطي من النجف, أخرجوه, فهل نزل في حقّه وحي أن يكون في النجف؟ هو مع الله, إذا كان في النجف فهو مع الله، إن ذهب إلى الهند فهو مع الله، وإن ذهب إلى أمريكا فهو مع الله, إلى أستراليا فهو مع الله, إن ذهب إلى القمر, إن مات, وإن بقي حيّاً, أينما كان فهو مع الله, وهو يتحرّك مع الله. أنتم تخيّلتم أنّكم إذا أخرجتموه من هنا, سيكون بعده بالكم مرتاحاً. لا يا إخوتي, من أيّ فيض حرمتم أنفسكم؟ إنّه لو كان هنا لدرّس ولاية أمير المؤمنين، وأمّا الآن فهذه الحوزة خالية من هذا الدرس، وأمّا الآن فهذه الحوزة خالية من هذه المعرفة. لو كان هنا لكان يعطي الروح للطلاّب والفضلاء، يعطي المعنويات، يفكّ الأغلال والسلاسل من أيديهم. أمّا الآن وقد ذهب فأحضروا حبالاً باستمرار واربطوها، واجلبوا الأغلال والسلاسل واربطوها باستمرار! لقد ذهب السيّد حسن المسقطي وقد ذهب أولئك الأفراد الذين كانوا معارضين له، والآن انظروا: من هم الأشخاص الذين جلسوا على سفرة أمير المؤمنين؟ ومن الذي يضرب على رأسه؟ ومن الذي يقول: يا حسرتا على ما فرّطنا في جنب الله؟ من الذي يسبَح ثملاً في نعم أمير المؤمنين ولديه شراب طهور، ولا يشرب فقط بل يسبح. أيّ من هذين الإثنين؟ هؤلاء الذين أراحوا أنفسهم وأزالوا السلاسل.
عمّم المرحوم السيّد في مجلس نظير مجلسنا هذا أحد الأرحام وكان جالساً إلى المائدة وأنا كنت جالساً أيضاً، وبعد أن عمّمه تحدّث ربع أو ثلث ساعة، ولم يتكلّم مثلي ساعة ونصف ممّا أدّى إلى انزعاج الجميع وارتفاع أصواتهم وخصوصاً الموجودين في الطابق العلوي، بل تحدّث ثلث ساعة وهو جالس إلى المائدة وكان كلامه موجزاً. وكان من جملة كلامه هذا الكلام: كان يقول: تباحثت يوماً مع أحد كبار علماء النجف ولم يكن من الأفراد العاديّين بل من كبار العلماء حول مسألة، وكان المرحوم العلاّمة يقول: أنا كنت أقول له: يجب أن نجعل جميع أمورنا مورداً لرضا الله ومتوافقة مع المصلحة الإلهيّة، وهو كان يقول: لا في كثير من الموارد يجب على الإنسان أن يأخذ المصلحة الشخصيّة بعين الإعتبار! نعوذ بالله! عندما تخرجون السيّد حسن المسقطي تكون النتيجة أنّكم تأتون وتجعلون في مقابل المصلحة الإلهيّة المصلحة الشخصيّة والمصلحة الاجتماعيّة ومصلحة المقامات ومصلحة مكانة الأمر والنهي ومصلحة الشعائر التخيّليّة لا الشعائر الواقعيّة. الشعائر الواقعيّة أن يكون الإنسان مع أمير المؤمنين فقط. هذه شعائر تخيّليّة. ولكن نحن نبدّل هذه الأمور.
إمّا أن يكون القلب مكاناً لأمير المؤمنين وإمّا أن يكون مكاناً لشخص آخر، لا يجتمعان معاً، لا هذا يعجب بذلك ولا ذلك يعجب بهذا، لا يجلسان جنباً إلى جنب. إمّا أن يجب إحضار عمر وإعطاؤه مكاناً في القلب واتّباعه، وإمّا أن يجب إحضار عليّ وإخراج عمر. عليّ وعمر لا يجتمعان في قلب الإنسان، ولو أطبقت السماء على الأرض فهذان الاثنان لا يجلسان جنباً إلى جنب. سيّدي العزيز يجب أن نحدّد تكليفنا، نحن نرجّح مصلحتنا على مصلحة الله، أهذا دين؟ هذا الدين الذي قال به عمر أيضاً. قال: وإن كنت أعلم أنّ النبيّ نصّبك في الغدير، فأنا لست أعمى وأنا لم أفقد ذاكرتي، لم أصب بمرض "الزهايمر"، كان الأمر قبل شهرين، وأنا قلت لك: بخٍ بخٍ لك يا عليّ! مع القائلين ألم يقل؟! بل قال: بخٍ بخٍ، مبارك لك مبارك لك هذا المنصب. يا عليّ أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ.أنت أصبحت مولاي اليوم وأصبحت مالكاً لأمري و لأمر كلّ مؤمن ومؤمنة، ولا يستطيع هناك أن لا يتملّق، هناك يجب أن ينافق. لا يستطيع لأنّه إذا لم يفعل هذا الفعل لا تنجح جميع خططه المستقبليّة، فيجب أن يتلاعب. هو يحسب أنّ أمير المؤمنين صدّقه، يظنّ أنّه صدّقه، يتخيّل أنّ النبيّ صدّقه. حسناً فإمّا أن يجب إتّباعه وإمّا أن يجب إتّباع أمير المؤمنين. وهذان الاثنان لا ينسجمان معاً ولا يجتمعان. يجب إتّباع الشخص الذي يفكّ الأغلال ويفكّ السلاسل، يخرج الإنسان من التعلّق بهذا وبذاك. ينبغي للإنسان أن يكون مرتاحاً في تكلّمه وأن لا يكون عنده عقد وحواجز. إذا قلت هذا الكلام فإنّه سيؤثّر على تلك الجهة، فإذن عليّ أن لا أتكلّم به. وإذا تكلّمت بهذا الكلام في المكان الفلانيّ فهو خلاف شأني، فينبغي أن لا أتكلّم. ماذا يعني ذلك؟! معنى ذلك هو أنّا نقوم بنحت التماثيل، فالتمثال ليس إنساناً في الحقيقة، لكنّهم بدأوا بنحته، صنعوه، زيّنوه ودفعوه للناس. وهو تمثال، لا إنسان، ولا يمكن نحت الإنسان، ولا قطع يده، ولا قطع أذنه، ولا قطع أنفه، ولكن التمثال يمكن فعل ذلك به. ذلك الدين الذي جاء به رسول الله هو الدين الذي جاء ليرفع الغلّ والسلسلة ويريح الإنسان.

    

يوم الغدير يوم بداية مصائب أمير المؤمنين وأهل البيت

اليوم وقعت مصيبة على أمير المؤمنين عليه السلام، لا أنّه بورك له، وظيفته اليوم أصبحت ثقيلة، أصبح تكليفه أصعب، تحمّله اليوم ينبغي أن يختلف مع سائر التحمّلات. إلى الآن كانوا يعرفونه فقط بعنوان ابن عمّ وصهر النبي وكان التكليف أيضاً بهذا المقدار، لا أزيد. كان عليه أن يشارك في الحروب، وأن ينصر الإسلام، وأن يبعد الأعداء عن النبيّ، كان هذا إلى الآن. كان يقوم في الليالي كان يذهب، وكان ينشغل بمناجاته وتهجّده، والمسألة لم تكن مهمّة كثيراً. من الآن بدأ، من اليوم اشتعلت الأحقاد شيئاً فشيئاً، ظهر الحسد وبرز شيئاً فشيئاً، بدأت بالأخير تلك النوايا الشيطانيّة التي كانت مخفيّة في القلب. أليس كذلك؟ النبيّ قام بالتنصيب، فيجب أن نفعل شيئاً، وبدأت الجلسات... من الليلة بدأت جلسات سرّيّة في المدينة، مؤلّفة من أمثال أبي عبيدة وعليهم أن يتجمّعوا على أبي بكر وعمر وأمثالهم ويجلسوا ويضعوا خطّة ويشكّلوا منظّمة سرّيّة. وقبل أن يتمّ هذا الموضوع علينا أوّلاً أن نذهب إلى النبيّ وندبّر أمره، ولذا جاؤوا وسمّوا النبيّ وقتلوه.
يقول الإمام الصادق عليه السلام – كما في البحار – : إنّهما سمّتاه. سمّت عائشة وحفصة رسول الله. اعلموا أيها الناس أنّ النبيّ لم يمت بسبب مرض طبيعي، كما في رواية صحيحة عن الإمام الصادق عليه السلام. وقد ذكرنا أنّ من بين المعصومين عليهم السلام عدداً استشهدوا على أيدي زوجاتهم، وكان أوّلهم النبيّ، ثمّ الإمام الحسن الذي استشهد أيضاً بواسطة زوجته (المكرّمة المجلّلة) جعدة بنت الأشعث بن قيس، والثالث الإمام الجواد الذي استشهد بواسطة أمّ الفضل ابنة المأمون وأُخت المعتصم، فهؤلاء الثلاثة استشهدوا بواسطة زوجاتهم. وهذا أيضاً نوع من أنواع البلاء على كلّ حال، فقد ابتلاهم الله بكلّ مظاهر البلاء. والله لقد سمّتاه، هاتان قتلتا النبيّ، لم تُحك خطة السقيفة في ذلك اليوم بل حيكت قبل ذلك.

    

هذيان الدفاع عن السقيفة

رغم أنّه يُقال الآن: إنّ السقيفة من مفاخر الإسلام. نعم، الآن يقولون: السقيفة من مفاخر الإسلام، ولو لم تكن السقيفة لكان اليهود قد غلبوا الحكومة الإسلاميّة. واقعاً آن أوان ظهور الحجّة! هؤلاء يتخيّلون: أنّ ساحة جناب عمر مبرّأة من ذلك الاتّهام لرسول الله ومن ذلك الهذيان الذي قاله: (إنّ الرجل ليهجر) عندما يبرّؤون وينزّهون ساحة عمر ويقولون: (حاشا لإيمان وتقوى عمر أن ينسب هذه المسألة إلى النبيّ). من ناحية أخرى يقول أحدهم: إنّ السقيفة من افتخارات الإسلام ويقول: أصلاً من قال أحرقوا وقطّعوا ابنة النبيّ بل هذا الكلام لا معنى له أصلاً. أيجلس عليّ في بيته وتأتي زوجته وراء الباب؟! أتصوّر أنّ الوقت هو وقت الظهور! فلم يبق شيء لأنّنا سبقناهم أيضاً! نحن سبقنا أهل السنّة! لأنّ هؤلاء معترفون بأنّ عمر قال: إنّ الرجل ليهجر، في كتب أهل السنّة أيّها الأحمق! قضيّة قتل بنت النبيّ موجودة في كتب أهل السنّة، وشعراء العرب أنشدوا شعراً حول هذه القضيّة. حينئذٍ أنت ماذا تقول هنا؟

وقولة لعليّ قالها عمر
                              أكرم بسامعها أعظم بملقيها
حرّقت دارك لا أُبقي عليك بها
                              إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها


من قال هذه الأبيات؟ قالها نفس شاعر النيل (حافظ إبراهيم) في حضور الملك فؤاد الذي كان في المجلس الذي أقاموه، هم أنفسهم نقلوا الأشعار المتعلّقة بقضيّة عمر ووضع الحطب بجوار بيت أمير المؤمنين والإحراق وهم أنفسهم نقلوها بينما نحن سبقناهم وقلنا: (لا، حاشا لساحة جناب عمر أن يفعل كهذا الفعل) ما هذا الكلام؟ ما هذه التهم التي ينسبونها إلى هؤلاء العظماء؟ عظماء كأنّهم جاؤوا ونزلوا من الملكوت!

    

ماذا يعني لنا يوم الغدير؟

لقد جاء رسول الله وفعل هذا الفعل أزال السلاسل، وأراحنا وأخرجنا من أسر النفس، أخرجنا من القيد وأعطى هذه السفرة لأمير المؤمنين. اليوم يوم عيد الغدير يوم ماذا؟ يوم حرّيّتنا، يوم الغدير يعني يوم الحرّيّة، هو يوم يجب فيه أن نجدّد النظر في أفكارنا، كلّ ما كنّا نفكّر به إلى الآن نجلس ونكتب تعلّقاتنا واحدة واحدة، نأتي بورقة ونكتب تلك الأمور الموجودة في قلوبنا تلك الأمور التي لنا تعلّق بها، تلك المسائل التي قيّدت أيدينا وأرجلنا وأوجدت لنا القيد، ولم تدع النفس تتحرّر من قفص الهوى والشهوة، ولا تدعها تتنفّس براحة في عالم القرب. بل بمجرّد أن يريد أحدنا أن يتحرّك قليلاً فجأة يأتي حبل ويسحبه، ويقيّده بمجرّد أن يريد أن يتقدّم...
رجع شخص إلى المرحوم السيّد الحدّاد (رضوان الله عليه) وكان هذا الشخص من سكّان طهران فقال السيّد الحداد للمرحوم السيّد العلاّمة: عندما تذهب إلى طهران أعطه هذه التعليمات، وباختصار تولّ مسؤوليّته بنفسك. أتى السيّد إلى طهران وناداه وقال: إنّ جناب السيّد الحدّاد أُستاذك أمرني بأن أهتمّ بك وأتكفّل بشؤونك، وهو أيضاً تقدّم وحصل على حالات، ثمّ شيئاً فشيئاً شعرنا بأنّ تعامله تغيّر، صفاته تغيّرت، وضعه تغيّر. قبل هذه القضية هو نفسه حدّثني مرّة فقال: أنا في هذه الدنيا لي تعلّق باثنين فقط، أحدهما: فلان يعني المرحوم السيّد، وثانيهما: زوجتي فقط. وفجأة خطرت هذه المسألة في ذهني فقلت له: أخشى أن يذهِب تعلّقُك الثاني تعلّقَك الأوّل. قلت له هذه الجملة، وافترقنا ومضت الأيام، فرأينا أنّ تعامله تغيّر وأنّ حالاته تغيّرت، والكلام الذي كان يقوله لم يعد يقوله الآن، العبارات التي كان يقولها الآن لم يعد يقولها، هذه تغيّرت شيئاً فشيئاً. ثمّ قال: الشخص الثالث هو أنت. وفي أحد الأيّام عندما كنّا نذهب معاً إلى مكان ما قلت له: يا فلان، هل تذكر عندما كنّا نأتي من قم إلى طهران وطرحت هذه المسألة، ونقلت له ذلك الكلام، كنت أشعر أنّ هذا وقته الآن، فجأة تغيّر لونه وصعبت عليه هذه المسألة كثيراً ولم يقل شيئاً. ثمّ التفتُّ إلى أنّه بدأ في أحاديثه باتّهام السيّد أيضاً ثمّ حدثت مسائل أخرى، وليته كان يكتفي بها. وفي سفرنا مع المرحوم السيّد إلى مكّة ـ بعد رجوعنا وتشرّفنا بالذهاب إلى كربلاء ـ التفت السيّد الحدّاد إلى المرحوم السيّد وقال: عجباً لهذه الحال؟! يأتي الأفراد ويطلبون بأنفسهم ويلتمسون بأنفسهم ويستمدّون منّا بأنفسهم، ولكن عندما يأتون وينبت ريشهم وتقوى أجنحتهم، وعندما يتحرّكون قليلاً، فجأة يأتي الخنّاسون من هذا الجانب ومن ذاك ويضربونهم ويكسرون أجنحتهم وريشهم ويقتلونهم؟! أنا التفتّ فجأة إلى أنّهما يشيران إليه، وعندما خرج التفتّ إلى المرحوم السيّد وقلت: ألم يكن مقصوده فلاناً؟ قال: بلى كان هو المقصود. ولكنّ المسألة ليست عامّة. الكلام في أنّه لماذا يكون هذا الغلّ والقيد؟
وليعلم: أنّ المحبّة في مكانها، محبّة الإنسان لرفيقه في مكانها، محبّة الإنسان لزوجته في مكانها، محبّة الزوجة لزوجها في مكانها، محبّة الإنسان لولده في مكانها، لأمّه ولجاره ولرفيقه ولسائر الأفراد ولسائر المؤمنين، لكنّ الكلام في أنّه إذا تبدّلت هذه المحبّة بتعلّق حينذاك يأتي الغلّ، حينذاك يأتي القيد، حينذاك تتقيّد يد ورجل الإنسان. ولذلك نرى أنّ العظماء لم يتعلّقوا حتّى بأساتذتهم، كان يحبّونهم ولكن لم يكن عندهم تعلّق مانع عن طلوع حقيقة التوحيد، كانوا ينظرون إلى جهة الوساطة، كانوا ينظرون إلى جهة الآليّة لا إلى جهة الاستقلال والذاتيّة، كانوا ينظرون إلى هذه الجهة في أساتذتهم، كانوا يقولون: نحن كنّا ننظر إلى هذه الجهة في أساتذتنا، نحن كنّا ننظر إليهم بهذا النحو، وحينئذٍ يكون حراً من كلا العالمين.

    

أشعار مولانا في التحرّر يوم الغدير كاشفة عن تشيّعه

إذا كان في الدنيا شعر فهو الشعر الذي وصل إلى أيدينا من حافظ ومولانا وأمثالهما:
غلام همّت آنم كه زير جرخ كبود
                              زهر جه رنك تعلّق بذيرد آزاد است
[3]

هذا ترجمة لنفس هذه الآية: {وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الأَغْلالَ الَّتي‏ كانَتْ عَلَيْهِمْ} فترجمتها هي هذا الشعر: حرّر نفسه من كلّ ما فيه رائحة التعلّق ومن كلّ ما فيه رائحة التعيين والتنصيب والمكانة، وإذا تحرّر حينها يكون التجلّي تجلّي التوحيد. إذن هذا اليوم الذي هو يوم الولاية هو يوم حريتنا. أنت طبيب، فلتكن طبيباً، ولكن كن طبيباً حرّاً. أنت مهندس، كن مهندساً، ولكن كن مهندساً حرّاً. أنت تاجر، كن تاجراً، ولكن كن تاجراً حرّاً. أنت عالم، أنت مجتهد، كن مجتهداً ولكن اسع وراء مذهب أهل البيت، وكن حراً. إنّ قوله تعالى: {وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِم} يلزم دائماً أن يكون نصب أعيننا. العارف الشاعر مولانا هنا يعلن تشيّعه لجميع العالم. وا أسفاه وا أسفاه. إنّنا إلى الآن جلسنا نقول في أنفسنا: يا للأسف هذا سنّي! يا للأسف هذا سنّي! يا أخي هو يصرّح:
زين سبب بيغمبر با اجتهاد
                              اسم خود را وعلى مولا نهاد
[4]
يتحدّث عن عيد الغدير ويقول: نصب النبيّ في مقام الولاية وليّاً، فأين أنتم؟ أين ذهبت عقولكم؟ يقول: لهذا السبب فإنّ النبيّ صاحب الاجتهاد يعني: ليس على أساس التقليد. أيّها الناس، النبيّ نصب أمير المؤمنين على أساس الاجتهاد والفهم، على أساس حقيقة الوحي، على أساس الوحي، لا لأنّه كان ابن عمّه لا لأنّه كان صهره، لا لأنّه كان يريد أن يراعي ابنته، لا لأجل التخيّلات الموجودة عندنا اليوم ما شاء الله. قام بهذا العمل على أساس الاجتهاد، قام بهذا العمل على أساس العقل وعلى أساس اليقين: (اسم خود را وعلي مولا نهاد). سمّى نفسه وعليّاً باسم المولى. حسناً من هو المولى؟ هل هو المحبّ؟ يا أيّها السيّد الذي تقول بأنّ المقصود من المولى هو المحبّ، ألم تقرأ الشعر الذي يليه؟ لماذا لم تقرأه؟ أو إذا قرأته فلماذا لم تقله؟

هر كه را كو منم مولا ودوست
                              ابن عمّ من على مولاى اوست
[5]
قرأت هذا ولكن لماذا لا تقول معنى المولى الذي يقول به؟ لماذا لا تقرأه؟ الله يؤاخذك! ألا يجب قول الحقّ؟
من هو المولى؟ ذلك الذي يحرّرك. هل تعلم ماذا يقول مولوي؟ يقول مفاد هذه الآية التي تتحدّث عن النبيّ: { يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ} هذه الآية المتعلّقة بالنبيّ صار اليوم أمير المؤمنين مصداقها.

كيست مولا آنكه آزادت كند
                              بند رقيت، زپايت وا کند
اى كروه شيعيان شادي كنيد
                              همچون سرو وسوسن آزادى كنيد
[6]

وهنا يبدأ بالبيان مفصّلاً، والآن هل مولوي يعتبر أنّ المولى هو الصديق؟ يحتار المرء ماذا يقول في هؤلاء؟ واقعاً ماذا نقول؟

    

علامة المولى أنّه يحرّر

من هو المولى؟ هو من يحرّرك، كن حرّاً! تعال وادخل في عداد تلاميذ الإمام الصادق. اجعل نصب عينيك الذي قاله الإمام الصادق فقط, لا الذي قاله فلان وإن كانوا جميعهم من الأجلاّء وجميعهم محترمين، وكلّهم يحصل على الأجر والثواب على قدره. ولكن من الذي يجب أن نتّبعه وننقاد له؟ أين يجب أن نحطّ رحالنا؟ أين يجب أن ننصب خيمنا؟ يجب أن نتوجّه إلى خيمة الإمام الصادق فقط وفقط. يجب أن نقصر نظرنا على ما يقوله الإمام الصادق، وننسى كلّ من عداه. هذه هي الحرّيّة، وهذا هو التحرّر من أسر الأغلال والحبال والسلاسل، وحينئذٍ لا يبقى داعٍ لاستراق السمع من هنا أو هناك. ماذا قال فلان؟ وماذا قال ذاك الشخص؟ عندما يعطي الله تعالى البحر المحيط لشخص، فحينها لن ينظر إلى الماء الموجود في هذا الكوب، لقد وضع الله المحيط أمامك، لقد وضع معارف جعفر بن محمد أمامك، وأنت ما زلت تسير وتبحث، من أجل أيّ شيء؟! أتسعى وراء ذرّة؟ أتبحث عن كوب؟ لقد قال فلان كذا! نحن عندنا إمام، عندنا وليّ حيّ، إنّ لنا وليّاً مالكاً لأمرنا. لقد خلّفنا كلّ ذلك وراء ظهورنا، وتبعنا تخيّلاتنا. إذن ينبغي أن نكون أحراراً.
هذا اليوم هو يوم تتويج أمير المؤمنين عليه السلام، فرسول الله لم ينصّب في هذا اليوم أمير المؤمنين خليفة فحسب، بل اعتلى المنبر ونزع عمامته الخضراء ولفّها بنفسه حول رأس أمير المؤمنين، وعمّمه في هذا اليوم وكان اسم العمامة السحاب. إذن هذا اليوم هو يوم التعميم الظاهري لأمير المؤمنين أيضاً. لقد عُمّم أمير المؤمنين بيد النبيّ صلّى الله عليه وآله، وسلّمه منصب التحرير والتخليص من الأغلال والسلاسل – وكانت نفسه حرّة متحرّرة – فتحرّرنا وخلاصنا من الأغلال والسلاسل سيكون على يديه. أمير المؤمنين حيّ اليوم، وهو اليوم بجانبنا. إنّ أمير المؤمنين موجود وحاضر كلّ يوم، وهو حيّ في كلّ يوم، وهو معنا في كلّ لحظة، وفي كل آن يقول: {وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ}. حرّر نفسك من سلاسلك، تخلّص من أغلالك، ضع تخيّلاتك جانباً، وانظر إليّ فقط. توجّه إلى الإمام الحيّ، إلى إمام الزمان فقط، لا تنظر إلاّ إليه، تحرّر من هذه التعلّقات وتخلّص منها، تحرّر من كلّ ما جعلك أسير هذه الدنيا. اخرج يا سيّئ الحظّ؛ فهؤلاء الذين تتعلّق بهم هم أشدّ فقراً منك. أُخرج أيّها المسكين، وانظر إلى الإمام فقط. تعال وانظر إلى تجلّي الله فقط، تعال وانظر إلى مسبّبيّة الله، تعال وانظر إلى مؤثّريّة الله. أمّا نحن فلا نفعل ذلك، نحن نقيّد أنفسنا باستمرار، هم يريدون أن ينزعوا الستار عن القفص باستمرار، ونحن نغطّي القفص باللحاف باستمرار، ونخفي أنفسنا باستمرار. اكشف كلّ شيء عنك، وانظر إلى النور، وارم القفص جانباً، وانظر فالشمس قد طلعت, أين أنت؟ هكذا قيّدت نفسك. اليوم يوم الحرّيّة. إنّ أمير المؤمنين حيّ اليوم، اليوم هو حيّ، وسفرته ممدودة أيضاً، تفضّلوا، بسم الله. إنّ سفرة أمير المؤمنين سفرة الأولياء. تعال واجلس على هذه السفرة، وإذا لم تنتفع فحينها ألق اللوم! وقل: إنّني أتيت ولم أحظ بنصيبي، وحينها سيقبل كلامك، لا أن تذهب وتخطّط لنفسك. فإذا لم تصل إلى ذاك المطلب، قل حينها: إنّني أتيت وكان جميع الكلام كذباً، وكانت المسائل كذباً!
ثمّ إنّ هذا اليوم هو يوم تعميم أمير المؤمنين، وهو يوم تعميم سادتنا وأحبّائنا وأعزّاءنا وإخواننا في الدين، الذين سلكوا هذا الطريق، ومشوا بالعلم والعمل ظاهراً وباطناً، جاؤوا وقالوا: نريد أن نصير أحراراً، ونتخلّص من القيود والسلاسل حتّى نتحرّر، ولا يهمّنا إلاّ تحصيل رضا الله سبحانه.

    

أهل الحقّ والتحرّر موجودون في كلّ زمان

كان المرحوم العلاّمة يقول: إنّنا عندما قدمنا إلى الحوزة العلميّة، رأينا أنّ في الحوزة أفراداً يخجل الإنسان ويستحي من مجالستهم ومعاشرتهم، وفي المقابل هناك أشخاص لا تذكر الملائكة أسمائهم من دون وضوء (كالعلامة الطباطبائي رضوان الله عليه). في كلّ مكان يوجد كلّ الأنواع وفي كلّ صنف يوجد كلّ الأشكال. لماذا نسمح للشيطان أن يأتي ويكثّر ذلك الجانب للإنسان ويكبّره ويعظّمه، لماذا؟ لماذا لا ننظر إلى هذا الجانب؟ إلى هؤلاء العظماء الذين وصلوا إلى المقصد والمقصود. لم لا نتوجّه إليهم؟ أتينا واخترنا الطريقة لأنفسنا. لقد ذهبنا إلى محضرهم وأغلقنا أعيننا عمّن سواهم، وهذا ما يجعل المرء حرّاً. كان يقول: هل تعلم يا سيّد محسن ما كان هو الذنب الذي اقترفته عندما كنت في النجف حتّى وجّهوا إليّ الكلمات السيّئة؟ حتّى البارحة كان الشخص يسلّم عليّ، إلاّ أنّه لم يعد يلقي السلام عليّ اليوم! ما الذي اقترفته أنا من البارحة إلى اليوم؟ أنا لم أقم بفعل شيء. فقال: هل تعلم ما كان ذنبي؟ كان ذنبي أنّي أردت أن أكون ذا فهم! أردت أن أكون عاقلاً! أردت أن يكون اختياري وزمام أمري بيدي! أردت أن أفهم من أكون؟ وماذا أفعل؟ ما هو مصيري؟ ما العمل الذي أريد أن أعمله؟ هذا هو الذنب الذي اقترفته! هذا هو ذنبنا! نعم، ولكن يجب أن لا يخشى الإنسان من هذه الأمور. لأنّه يوجد أشخاص طاهرون ومنظّمون ويسيرون في هذا الطريق في هذا المكان، في هذه الحوزة، يسعون لتحصيل التقوى والرضا الإلهي، ويسعون وراء هذه المسائل، وهم ليسوا بقلّة. لا يلزم أن يكون هناك اسم وعنوان معيّن للشخص. كانوا أفراداً كثيرين يرحمهم الله. كنت أقول للأصحاب قبل يومين أو ثلاثة: إنّه عندما ذهبنا لتشييع والد أحد الرفقاء والأصدقاء، وكان من السادة، كنت أُصلّي صلاة الميّت، فتصوّرت نفسي مكانه فعلاً، وعندما كبّرت تصوّرت نفسي أنّني هناك، فلم أر أيّ فرق بيني وبينه، ولم أشعر بأيّة مسافة بيني وبينه وكأنّهم قد وضعوني هناك فتذكّرت أُستاذنا المرحوم آية الله الغرويّ (رحمة الله عليه وغفر الله له) عندما درّسنا كتاب الطهارة من اللمعة. يوجد دائماً أشخاص تقاة ومعرضون عن الدنيا، نعم فالأشخاص الذين يتحرّكون ويعملون للوصول إلى المقصد موجودون أيضاً. كانوا دائماً موجودين، وسيبقون موجودين، وفي النهاية، على الإنسان أن يختار وينتخب. عندما وصلنا إلى بحث الصلاة على الميّت، أتذكّر جيّداً – عندما كنت في سنّ السابعة عشر أو الثامنة عشر ولم أكن قد تعمّمت بعد – كلمات: (اللهمّ إنّ هذا المسجّى قدّامنا عبدك) وذرف الدموع من عينيه. ولا زلت أذكر قوله: يا فلان يجب أن تفكّر بمثل هذا اليوم، وبمثل هكذا وضع وحالة. لقد أمات الله هذا الشخص الذي بين أيدينا، وهو لا يملك من القدرة حتّى مقدار جناح بعوضة، ماذا تمتلك البعوضة من القدرة؟ فالميّت لا يمتلك حتّى ذلك المقدار من القدرة الذي تمتلكه البعوضة: (اللهمّ إنّ هذا المسجّى قدّامنا عبدك وابن عبدك، نزل بك) يعني: لقد جاء إليك وإلى محضرك.. (وأنت خير منزول به).. لقد انتهى كلّ شيء، وأغلقت الصحيفة. دائماً كان يوجد مثل هؤلاء الأفراد، فهؤلاء هم الذين قد تبعناهم أثناء تحصيلنا في هذه الحوزة ولحقنا بهم، لم نذهب إلى مكان آخر، لقد كان هناك أفراد قد أتوا إلى هذه الجهة، وبعض آخر إلى تلك الجهة، لقد صارت المسألة مشخّصة في نهاية المطاف، والكلّ قد اطّلع على حقيقة القضيّة، والبعض الآخر لم يطّلع ولن يطّلع، خلف من يجب أن نسير؟ يجب أن نتّبع ذلك الشخص المتحلّي بالتقوى الذي تذكّرنا بالآخرة مجالسته، المجتنب عن اللّغو في حديثه، والذي يقرأ رواية الإمام الصادق من أجل الإمام. عندما كنّا نذهب إلى محضر المرحوم العلاّمة الطباطبائي – وكان ذلك كلّ يوم خميس وجمعة – كنت أحسّ في الحقيقة أنّي قد تزوّدت لهذا الأسبوع، وكان يطرح في هذين اليومين – وبالتأكيد كان مجلساً خاصّاً – أسئلة وأجوبة علميّة، وعندما كان يتكلّم هذا الرجل العظيم، كانت كلماته تتربّع وتسكن في أرواحنا، وكنّا نودّ تعليق أجنحة بمجرّد أن ندخل إلى فضائه المعنويّ والملكوتيّ، هذا ما كنت أحسّ به شخصيّاً. أمّا البقيّة فلا أعلم عن حالهم، كنت أحسّ أنّ هذا الرجل هو الحقيقة، وأنّ هذا الرجل عنده الحقيقة، أنّ هذا الإنسان عنده صدق، أنّ هذا الإنسان لا يخدع نفسه ولا يخدع المحيطين به، فلم يكن ليتكلّم إلاّ بعد أن يدرك المسألة ويفهمها ويشخّصها، لم يكن يخاف أو يخشى أحداً، ولم يكن عنده تعلّق، ولم يكن ليمنعه شيء عن الكلام، كأن يقول نصف كلامه ويمتنع عن النصف الآخر.

    

كرامات ومراقبات طالب العلم في مدرسة الولاية

وهذا ممّا يترك أثراً وهذا ممّا يؤثّر على قلب الإنسان. هكذا يجب أن يكون تلميذ الإمام الصادق. ومن حين قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم، إعلم أيّدك الله تعالى في الدارين). أقرأنا هذا؟ إنّ الكلمة تنقسم إلى ثلاثة أقسام. نعم، هذه الصفحة الأولى من كتاب "شرح الأمثلة" [7] . إعلم أنّ الكلمة تنقسم إلى ثلاثة أقسام. اسم وفعل وحرف. ومن هذه اللحظة التي سنشرع بها بعبارة أيّدك الله، فليكن بعلمنا بأنّه يجب أن نترك كلّ ما سوى الله. اعلم أيّدك الله تعني: أنّ الله هو الذي سيسدّدك ويؤيّدك، وأنّ الله هو الذي سيساندك، وأنّ الله هو الذي سيمدّك بالتوفيق، الله لا زيد ولا عمر وفلان، وماذا سأصبح في المستقبل؟ وماذا سأصبح غداً واتّخاذي فلاناً ملاذاً لي في المستقبل؟ كلاّ، إنّ الله بجانبي على الدوام، وهذا هو معنى (أيّدك الله). لذلك عندما يجعل الإنسان فكره وعقله وقواه الباطنيّة وشراشر وجوده منصبّة على هذه المسألة، وحول هذه النقطة فقط فلن يخدعه أحد ولا يحتال عليه أحد، فعندما يفهم هذه المسألة حينها ماذا سيفعل الله؟ سيؤيّده الله وستأتي الملائكة وتسدّده.
لقد جاء في الروايات أنّ الطالب للعلم.. ولكن أيّ علم؟ يعني: علوم آل محمّد، علم الفقه، علم الجوارح، والمقصود من الفقه هو المعنى الاصطلاحي لا المعنى الأعمّ، علم التفسير، علم التاريخ، علم الفلسفة، علم العرفان، علم الحديث، علم الرجال، علم معرفة النفس والتوحيد، علم الولاية، معرفة الولاية، ولا يتوهّمنّ من يسعى وراء تحصيل هذا العلم أنّه سيبقى وحيداً. كلاّ.. فإنّ كل موجود في السماوات والأرض يدعو له، لماذا؟ ذلك لأنّ ملكوت الموجودات متّصل بالحقيقة، وعندما يأتي شخص ويجعل ملكوته متّصلاً بذلك الملكوت الذي قد أوجده الأئمّة عليهم السلام من أجل الجانب التكويني للناس ومن أجل تربيتهم. وبما أنّ هذه الظروف والقوالب كلّها مرتبطة ومتّصلة وبناء على قاعدة الوحدة والإتّحاد، فإنّ جميع هؤلاء سيكونون شركاء في هذا المسير. كما أنّ الأشخاص الذين أشرقت قلوبهم وقاموا بنقل ما رأوا يصرّحون بهذه المسائل التي ذكرتها. كان أحد الأصدقاء يقول: كنت جالساً في مثل هذه الجلسات، فتكلّم شخص يتمتّع بأفق واسع عن بعض المسائل، فرأيت وهو على تلك الحال أنّ الملائكة قد أتوا وبدأوا يحومون حول المكان. فقال: لا، لم يكن كذلك فقط، بل طيف جديد قد جاء وتحرّك، ما هذا؟ إنّ سبب ذلك، هو أنّ هذا العالَم ليس عالَماً هزليّاً، فكلّ ما فيه مرتبط مع بعضه البعض. وبناء عليه يكون الشخص الساعي وراء تحصيل العلم والتتلمذ عند الإمام الصادق وإمام الزمان عليهما السلام مبايعاً ومسلّماً وملتحقاً بهذا المسير، فحينئذٍ كيف ستغفل الملائكة عن هذه المسألة؟ كيف تنحّي الملائكة هذه المسائل جانباً وتتجاهلها؟ لذا فإنّ الله يأتي بالملائكة، ويأمرها أن تذهب وتؤيّده وتسدّده. اذهبوا الآن، وألقوا في فكره الأفكار الصحيحة والسليمة. اذهبوا الآن وألهموه ذلك الطريق الصحيح. وبالتأكيد، فإنّ ذلك يحصل ملازماً لسيره على هذا الطريق، ولإطاعته لكلام الأولياء الإلهيّين، ولبدئه بالمجاهدات والمراقبات السلوكيّة. وعليه فلا يتخيّل الإنسان أنّ المسألة قد وصلت إلى نهايتها! ما زال في بداية عمله، فيجب التشمير عن الساعد، وبتعبير المرحوم العلاّمة يجب شدّ الحذاء جيّداً إلى الأعلى، والتحرّك في هذا الطريق، حتّى تشملنا العناية الخاصّة والتوفيقات الخاصّة لمقام الولاية إنشاء الله. أسأل الله أن يحفظنا جميعاً، وأن يفيض علينا من عطايا صاحب العصر وصاحب الولاية الكبرى، وأن يجعلنا من شيعته الحقيقيّين، و يسلخ جميع شراشر وجودنا عن ما سوى الولاية والتوحيد.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وعجّل فرجهم.


[1] ـ سورة الأعراف (7)، الآية: 157.

[2] ـ سورة النساء (4) الآية 65.

[3] ـ أنا ابن الهمّة الذي تحرّر من كلّ ما فيه لون من التعلّق تحت السماء.

[4] ـ ولذا فقد سمّى النبيّ ذا الاجتهاد نفسه وعلياً باسم المولى.

[5] ـ من كنت أنا مولاه فابن عمّي عليّ مولاه.

[6] ـ من هو المولى؟ إنّه من يحرّرك وينزع قيد الرقّ من قدمك فلتفرحي يا طائفة المؤمنين ولتعيشي الحريّة كما السرو والسوسن.

[7] ـ أول الكتب التي كانت تدرس في الحوزة العلميّة.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی <-- -->