معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
المقالات و المحاضرات > وصايا و تعاليم و دستورات > استمرار آثار الصوم ـ عنوان البصري 123

_______________________________________________________________

هو العليم

كيف نحافظ على استمرار أثار الصوم

شرح حديث عنوان البصري المحاضرة رقم 123

ألقيت في الثامن من شهر شوال
عام 1426 هـ

سماحة آية الله

السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف                                          

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة على أشرف السفراء المقرّبين وخاتم الأنبياء والمرسلين
أبي القاسم محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين من الآن إلى يوم الدين

    

شرح الحديث: إنّ لربكم في أيّام دهركم نفحات...

سنعطّل اليوم مؤقتاً حديثنا عن شرح الحديث الشريف المعروف بحديث عنوان البصري، لنتحدّث عن مسألة أخرى كثُر السؤال عنها، و إن شاء الله سنتابع من الجلسة التالية بحوثنا السابقة.
كان الإخوة يسألون باستمرار ـ سواء قبل شهر رمضان المبارك أم بعده، وحتّى في أثنائه ـ عمّا يجب فعله للمحافظة على استمرار أحوال ذلك الشهر المبارك ودوامها طوال العام وبعد انقضاء شهر رمضان. وقد كان من المناسب أن نتكلّم عن هذه المسألة قبل هذا الشهر، ولكن على أيّة حال، ربّما يكون الحديث عنها الآن مناسباً أيضاً؛ وذلك لأنّنا خرجنا من شهر رمضان، ونتصوّر بأنّ الأحوال التي أحسسنا بها وعشناها في ذلك الشهر المبارك ستتبدّل، وأنّ كيفيّة ارتباطنا وعلاقتنا بالله ستتغيّر في ما سواه من الشهور.
ولا يخفى أنّ أجواء شهر رمضان المبارك تختلف عن غيرها،حيث يلمس الإنسان من نفسه حالات أخرى؛ فما إنْ يدخل في حريم شهر رمضان المبارك ويعايش نورانيّته ونفحاته، فسيشعر بتغيّر في علاقاته وأعماله قهراً، ممّا يُؤثّر على حالاته ونفسيّته. وما سنتناوله في كلامنا هو كيفيّة الحفاظ على تلك الحالات، وآلية ضمان استمرارها لما بعد شهر رمضان، حتّى لا تنحصر في خصوص تلك الأيام فتزول بعده.
هناك رواية مأثورة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وكثيراً ما كان يَستند إليها كبار العرفاء والأولياء في كلماتهم حينما كانوا يوصون تلامذتهم بما ينبغي القيام به للاستفادة من تلك الأيّام الخاصّة، والليالي والأوقات المنصوص عليها التي تزداد فيها عناية الله بعباده، ومضمون هذه الرواية هو: «ألا و إنّ لله فی أيام دَهرِکم نفحات ألا فَتَعَرّضوا لها ولا تُعرضوا عنها». والمعنى: أنّ الله تعالى قد خصّ بعض الأوقات من أيّام حياتكم وميّزها عن سائر الأيّام بخصوصيّات وامتيازات، فاحفظوا هذه الأوقات وانهلوا من هذه الخصوصيّات و تمسّكوا بها وخذوها بقوّة ولا تهملوها، وإيّاكم أن تغفلوا عنها؛ فتضيع من أيديكم وتخسروها.

    

المعنى المشهور للحديث: الأيام و الليالي المخصوصة

والمعنى المتداول والمشهور بين العرفاء هو أنّ هذه النفحات التي تأتي في أيام الدهر هي الشهور والأيام أو الليالي، وخصوصاً تلك الشهور أو تلك الليالي التي تتفاوت فيها عناية الله عن سائر الأيام، فقد ورد الكثير من التأكيد على شهرَي رجب ورمضان، وبيّنت آثارهما العظيمة الجمّة، وكذلك العشر الأوائل من ذي الحجّة، وشهر ذي القعدة؛ فقد ورد فيها تأكيد خاصّ، كما وردت روايات في بعض الليالي أيضاً، ومنها ليلة الجمعة وليالي القدر.. وهذا أحد المعاني التي طرحت حول خصوصيّة تلك الليالي والشهور، وهو جيّد ولا يخلو من وجه؛ فالإنسان يشعر بآثار هذه الأوقات والأماكن الخاصّة، حتى أنّه يدرك من نفس المكان حقيقة آثاره، فيشعر بانقباض قلبه حيث ترتكب المعاصي، كما أنّه يشعر بانبساط روحه حيث تقام العبادة، فالأماكن التي تُرتكب فيها المعاصي هي تلك الأماكن التي يدخلها الإنسان فيحسّ بتغيّر في نفسه، إلاّ أن يكون غير ذي خبرة بهذه المسائل، وكذلك فإنّ الحديث مع الافراد [له أثرٌ] عجيب للغاية.. يقول المرحوم القاضي حول تحصيل التوجّه: إذا أردت أن تحصل على حالٍ من التوجّه فعليك أن تلتفت إلى أنّه حتّى في المنزل الواحد يمكن أن تتفاوت الغرف من هذه الجهة، فنشعر أنّ توجّه الإنسان يزداد في غرفة خاصّة من المنزل دون سائر الغرف، و قد يقلّ توجّهه في غرفة أخرى؛ ولذا يُنصح بتبديل الغرفةفي هذه الحالة والذهاب إلى مكان آخر، أو من الممكن أن تكون أرض المنزل مشبوهة، أو أن تكون فيها مشكلة، بحيث تؤثّر على ملكوت ذلك المنزل والمكان بشكل مباشر، وبما أنّ توجّه الإنسان هو عبارة عن اتصاله بالملكوت، فإنّ هذين الملكوتين سيتعارضان، وبذلك لن يكون بمقدور الإنسان حينئذ أن يوصل نفسه إلى ذلك الصفاء الملكوتيّ. وهذه مسألة في غاية الوضوح، ومن الممكن أن تكون مشهودة للجميع أيضاً.
وكذلك مسألة الزمان، فهي على هذا المنوال أيضاً، فسبب الأمر بالتسبيح في قوله تعالى: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب}[1] هو اشتمال هذه الأوقات المباركة على خصوصيّة وميزة موجودة عند طلوع الشمس وعند الغروب، سواء رأى الإنسان الشمس أم لم يرها، وسواء أغلق النوافذ أم فتحها (البعض يقولون إنّ ما يراه الإنسان و كيفية ذلك هي السبب في تغيّر حالة الإنسان و حصول الابتهاج لديه، وأنّ ذلك هو الذي يغيّر المسائل).
إنّ حالة الإنسان عند الصباح تختلف عنها حين الغروب؛ إذ يتمتّع الإنسان في الصباح بحالة خاصّة, إلاّ أنّه عند الغروب له حالة أخرى؛ ولذا يجب أن نقرأ دعاء الصباح صباحاً لا عند الغروب، أمّا إذا قرأنا مكانه دعاء السمات الذي يقرأ عند الغروب، فإنّ النتيجة ستكون غير محمودة؛ فكيفيّة الدعاء والعبادة، وكيفيّة التوجّه في دعاء الصباح تخالف كيفيّة ذلك في دعاء السمات، [و لو وضعتم هذا مكان ذاك] فكأنّكم مثلاً تضعون الدواء المفيد جانباً، وتشربون دواء آخر مضاداً له في الأثر، و بالتالي فإنّ تأثيره سيكون معاكساً.
لا تتصوّروا أنّ الدعاء يختلف عن الدواء، وذلك بسبب وجود كلام الله فيه، كلاّ! فإنّ كل واحد من الأدعية له مقامه الخاصّ به، وإذا لم يلتفت الإنسان فإنّ المسألة ستتغيّر.
وهذه المسألة مرتبطة بعالم الأسماء، وكيفيّة نزول الأسماء والصفات الإلهيّة ودخولها في هذا العالم؛ فالإنسان لا يستطيع أن يعمل بكلّما يحلو له من تلقاء نفسه، ففي وقت الصباح تطلب نفس الإنسان حالة البهاء والبهجة.. فهل تكون النفس في وقت الغروب على هذه الحالة؟! فكما أنّ لطريقة دوران الشمس وطلوعها وغروبها تأثير على عالم المادة وعلى ما فيه، كذلك لها تأثيرها الخاص على الجانب المثاليّ والملكوتيّ من شخصيّة الإنسان، وعلى هذا الأساس ينبغي أن تتحدّد حالات الإنسان وتوجّهاته، ووفق ذلك لا بدّ أن تتغيّر علاقاته.
إذن لا شكّ أنّ «المكان» و«الزمان» عاملان مهمّان في كيفيّة تأثير سلسلة العلل والمعلولات على ملكوت الإنسان ومثاله، تماماً كما يؤثّران من الناحية الظاهريّة على مزاجه وأحوال بدنه؛ فقدرة البدن على هضم الطعام تتركّز في النهار لا في الليل،حيث تختلف وظائف الجهاز العصبيّ في الليل وتتغير عمّا هي عليه في النهار. فما هو السبب في كون جميع الروايات التي بأيدينا تدعونا إلى عدم تناول الأطعمة التي يعسر هضمها في الليل؟ وتصرّح بضرورة أن نأكل الطعام الخفيف وسهل الهضم، وأن ننام في الليل باكراً ونستيقظ في الصباح الباكر؟ ما هو السرّ في ذلك؟ فالمعدة هي هي.. والقلب على حاله.. والكبد.. والشرايين والأعضاء كلها على حالها، ولم ينقص منها ولا من الأعصاب شيء.
السرّفي ذلك هو أنّ كيفيّة امتصاص الغذاء في الليل تختلف عنها في النهار، حتّى وإن لم تأكلوا شيئاً في النهار؛ فيجب إذاً أن يؤكل الطعام في النهار حتّى يمكن هضمه بشكل أفضل، وكذلك ينبغي أن يؤكل في أوّله حيث تكون قدرته على الهضم والاستفادة أكبر.
أمّا أن يقول الإنسان: لقد صمت من الصباح إلى الليل ولم أتناول شيئاً، فما كان ينبغي أن أتناوله ظهراً، آكله في الليل! لا..؛ حتّى في هذه الحالة فإنّ الطعام سيُؤذي المعدة أيضاً، وسينهك الجهاز الهضميّ، وهذا الأمر خارج عن اختيارنا؛ فقد خلق الله تعالى أبداننا متأثّرة بالظروف المحيطة، ولسنا منفصلين عن المحيط والأجواء التي نعيش فيها، فعندما يحين الليل، فإنّ البدن يحتاج إلى الراحة، ولكن ما يحدث فعلاً هو أنّنا نذهب إلى هنا وإلى هناك، وإلى هذا المجلس، وإلى ذاك، حتى الساعة الثانية والثالثة، أو إلى قريب الصبح، وبعد ذلك يطلع النهار، فننام لكي نتدارك ما فاتنا من النوم، فذلك من شأنه أن يُنهك البدن، ويعطّل عمل القوانين التكوينيّة لعالم الخلقة، وهو مايؤدي إلى خلل في نظام التكوين.
هذه المطالب التي أبيّنها لكم، هي مقدمة لتلك المرحلة الآتية التي نودّ أن نصل إليها. فكما ينبغي من الناحية الظاهريّة أن نلتزم في جميع شؤوننا وأعمالنا بأوامر الشرع, للوصول إلى الصحّة الظاهريّة والسلامة والعافية بشكل كامل، فكذلك الأمر من الناحية الباطنيّة، وأي تغيير أو تبديل لقواعد هذه الأمور سيكون مؤثراً وسيترك بصماته الواضحة على الإنسان.
مثلاً بدلاً من أن يستريح في الليل، يخلد إلى النوم بين الطلوعين، فمن شأن هذا العمل أن يُحدث خللاً، ويذهب بكل شيء سدىً! وقد سمعت المرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله عليه يقول للمرحوم العلاّمة: حتّى أطفالكم أيقظوهم بين الطلوعين ـ من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ـ وليس هذا الكلام كلاماً صادراً من إنسانٍ عاديّ، بل هو كلامُ من وصل إلى سرّ عالم التكوين، وهو ليس بطبيب حتّى يتبدّل كتابه وتتغيّر نظريّاته، أو يُبدي آراءه على أساس العلوم التجريبيّة.
لقد تبدّلت آراء العديد من الأطباء والأخصائيين وتغيّرت نظرياتهم في الطبّ، فعلى رأس كلّ بضعة سنوات تسقط سلسلة من الآراء دفعةً واحدةً، وتوضع جانباً لتحلّ مكانها آراء جديدة، بل من الطبيعي أن تُبنى هذه العلوم على هذا النمط من التغير والتطوّر؛ لأنّه لا سبيل لهم غيره؛ فعلوم البشر علوم تجريبيّة، أمّا أولياء الله فإنّهم لا يتكلّمون على أساس العلوم التجريبيّة، فهم وصلوا إلى حقيقة العالم وسرّه. وإن كنتم تشكّون في هذا الكلام، فلا بأس! فلتفعلوا ما تريدون! ولكن بعد مائة عام ستقولون: يا ويلنا! لقد وقعنا في خطأ كبير...! إذن تفضّلوا! واستمعوا من البداية حتى لا يعلوَ صراخكم وعويلكم ولكي لا تندموا على تفريطكم.
ومن الجدير بالذكر أنّ هناك وصايا عديدة حول كيفيّة الاستراحة، وكيفيّة الطعام وقواعد العلاقة مع الناس، سنتكلم عنها ونشرحها لاحقاً إن شاء الله.

    

التقويم الإسلامي يرتكز على الأشهر القمريّة

إذن مسألة الاستيقاظ بين الطلوعين في درجة من الأهميّة جعلت العرفاء يوصون بإيقاظ الأطفال أيضاً أثناءها؛ وذلك لأنّ الرزق المعنويّ للإنسان ينزل بين الطلوعين، وهذا هو معنى «إنّ لله في دهركم نفحات»، فلا يمكن لذلك الرزق الذي ينبغي أن يتنزّل من العالم العلويّ ويستقرّ في النفس أن يتوقّف في ذلك العالم العلويّ؛ فمثلاً إذا أردتم أن تأخذوا بطعامٍ إلى صديقكم، فإن قلتم: نحن سنخرج من المنزل حتّى نصل إلى أوّل الزّقاق ثمّ نتوقّف هناك وحسب، في هذه الحالة فإنّ هذا الطعام لن يصل إلى يد صديقكم أبداً، لأنّه لن يصل إلى يده إلاّإذا طويتم الطريق وسرتم في الأزقّة، ووصلتم إلى باب منزله وطرقتموه، وإلاّ فلو وقفتم مائة عام خلف الباب أيضاً، فإنّ هذا الطعام وهذه الهديّة لن يصلا إلى هذا الصديق، لكن إذا طرقتم الباب وجاء وفتحه، حينها ستقولون: تفضّل هذا هو الرزق المعنويّ المتنزّل من ذلك العالم.
إنّ لكلّ فرد حصّة ونصيباً خاصاً، حيث تتحدّد الحصّة بواسطة سلسلة علل ذلك العالم، وما يحدث من الأمور في هذا المجال لا يعلمه إلاّ الله: القلّة والكثرة.. الشدّة والضعف.. كيفيّة نزول ذلك الماء الإلهيّ والغِذاء الربانيّ وتشكّله في قالب التقدير, وارتباط هذه المسألة بالأعمال التي نقوم بها طيلة الليل والنهار، و كيفية تأثرها بنحو تعاملنا مع الناس: هل صلينا صلاة الليل أم لا؟ وهل اغتبنا في الليل أم لا؟ هل قضينا الليل في طاعة الله أم في معصيته؟ كلّ ذلك يؤثّر في مقدار ما سينزل بين الطلوعين، و هذا هو الرزق المعنويّ للغد.
ووجه هذه المسألة، هو أنّ الليل في نظر الشريعة الإسلاميّة مرتبط بالنهار الآتي، لا بالنهار السابق! وأمّا تعلّق الليل بالنهار السابق فهو من ثقافة الغرب؛ فمثلاً ليلة السبت التي نحن فيها، يسمّونها: «الجمعة ليلاً»، وهذا موجود ومستعمل في الثقافة الفارسيّة أيضاً.. يقولون: «السبت ليلاً»، أمّا نحن فليس لدينا الجمعة ليلاً، ولا السبت ليلاً، بل«ليلة الجمعة» و «ليلة السبت»، فالليلة السابقة ليوم الأحد تسمّى «ليلة الأحد» و ليس «السبت ليلاً».
و ذلك أنّه مع إطلالة الهلال يبدأ الشهر الجديد، فعندما يطلع الهلال فإنّه يُحضر معه الشهرالجديد.. (انظروا إنّ كلّ ذلك إنّما يحكي عن أنّ مسائلنا الاعتباريّة مرتبطة بالمسائل التكوينيّة ارتباطاً وثيقاً) فعندما يكون الهلال عند الشارع ـ حال رؤيته ـ حاكياً عن دخول الشهر الجديد، فإنّ المعيار للشهور في الشرع، وفي عالم التكوين، وعند الله هو الشهر القمريّ وليس الشمسيّ.
فالشهر الشمسيّ هو عبارة عن دورة فلكيّة.. افرضوا لو أنّ هناك مجرّة ما تبعد عنّا بيننا مائة مليار سنة ضوئيّة مثلاً و هي تدور أيضاً في المكان الفلاني، فما علاقتنا بهذه الأمور!! افرضواأنّ نجماً في مجرّة تبعد عنّا مئة مليون سنة ضوئيّة، أو مائتي مليون سنة ضوئيّة يدور حول إحدى الشموس، فهل يعدّ ذلك سببا وجيها لكي نأتي نحن ونجعله ميزاناً لأعمالنا؟! إنّ هذا لغو وعبث!!يوجد الكثير من الكواكب السيّارة تدور حول الشمس منذ زمن بعيد كزحل وعطارد والمشتري وغيرها من الكواكب، وهي تشكّل بمجموعها المنظومة الشمسية، إنّ جميع هذه الكواكب تدور حول الشمس، ولكنّها لا ترتبط بنا، فما هي صلتنا بدوران عطارد حول الشمس؟ وما ربط دوران عطارد وزحل حول الشمس بنا؟ فتلك حركة خلقها الله تعالى لمصلحة مّا وعلى أساسٍ من حكمته، وكلّ منها يتحرّك ضمن المسير الذي عيّن وحدّد له، وليس لها أيّ ارتباط أو علاقة بنا، و علينا أن نبحث عن الأمور التي لها علاقة بنا...
انظروا على مسألة الليل و النهار مثلاً: إنّ حدوث الليل والنهار هو نتيجة لدوران الأرض حول نفسها، فعندما تصل من نقطة إلى النقطة التالية تُحسب دورة كاملة. وعندما تواجه الأرض الشمس فذلك النهار، وإذا كانت نقطة من الأرض في النقطة المقابلة بحيث لا تواجه الشمس فذلك هو الليل.
بينما نجد أنّ دوران الأرض حول الشمس لا اعتبار له ولا قيمة له في نظر الشرع ومن ناحية الحساب الشرعيّ؛ فلتدر الأرض حول الشمس مرّة واحدة أو عشر مرات، وهي من هذه الناحية كدوران عطارد أو زحل حول الشمس، فكما أنّ دوران زحل وعطارد حول الشمس ليس له أيّ صلة أو ارتباط بنا من وجهة نظر ترتّب الأحكام، فإنّ دوران الأرض حول الشمس ليس له أيّ علاقة أيضاً؛ فالسنة الشمسيّة تبدأ من أوّل برج الحمل وتنتهي هذه الحركة في آخر الحوت، فما علاقة ذلك بنا؟ فالله تعالى لم يجعل الصلاة.. ولا الحج.. ولا شهر رمضان.. ولا شهر رجب على أساس هذه الحركة.
قال أحد النواب في زمان حكم الشاه: من الأفضل أن يذهب الموظفّون الحكوميّون والعمّال لأداء مناسك الحج في فصل الصيف، عوضاً عن شهر ذي الحجّة، وذلك لأنّ الصيف هو فصل العطلة. لقد تخيّل هذا الرجل أنّ الحجّ عمل عباديّ يمكن للإنسان القيام به في أيّ وقت شاء، فمثلاً لو اتّفق وقوع شهر ذي الحجّة في الشتاء، هل يستطيع الإنسان أداء ذلك العمل العباديّ في الصيف؟ لا، ففي الشريعة الإسلاميّة لا تعدّ حركة الأرض حول الشمسّ ملاكاً أبداً، وهذه مسألة مُختلقَة ولا دليل عليها، فالمنجّم قد قسّم دورة الأرض إلى اثني عشر قسماً، ووضع لكلّ قسم اسماً خاصاً، فعندما تستقرّ الشمس عند ذلك البرج، فإنهم يطلقون عليه اسم الحمل، وهو ما يسمّونه في الوقت الحاضر «فروردين»[2]، وعندما تستقرّ الشمس عند البرج الفلاني ـ يعني في الطرف المقابل من الأرض حيث كانوا يعتقدون في السابق أنّ الأرض ثابتة والشمس متحرّكة أمّا الآن فيعتقدون خلاف ذلك ـ فإنّهم يطلقون عليه اسم الحوت، وهو ما يسمّونه في الوقت الحاضر «اسفند»[3].
حسناً.. بإمكاننا أن نغيّر ذلك ونعتبر أنّ دورة الشمس تبدأ من أوّل الصيف؛ فليس ذلك بالوحي المنزل!! ولن تنشقّ السماء ولن تحدث أيّة زلزلة في الأرض لو قمنا بذلك، فبدلاً من أن نجعل أوّل دورة الأرض من «فروردين» وبرج الحمل، فلنعتبر أنّها من أوّل برج السرطان مثلاً أو «مُرداد»[4] أو الأسد. كما يمكننا كذلك أن نعتبر أنّ أوّل حركة الأرض يقع في السادس والعشرين من شهر «فروردين»، ونعتبر أنّ السادس والعشرين منه هو أوّل يوم لحركة الأرض، فهذه مسألة اعتباريّة، فلا دوران الأرض بأيدينا حتّى نوقفها حيناً ونسيّرها حيناً آخر، ولا المدار الذي تدور فيه الأرض بأيدينا أيضاً.
كلّ ذلك إنّما كان من اتّفاق وتباني بضعة من الأفراد.. جلسوا واتفقوا فيما بينهم على ذلك، ومن تلقاء أنفسهم ومن «جيوبهم»، وقالوا: نحن جعلنا النقطة الأولى لحركة الأرض هي «الحَمْل»، وبعد ذلك أتوا ووضعوا له اسم «فروردين»، فلم تنزل في ذلك آية! أصلاً نحن نريد أن نجعل الخامس و العشيرن من «فروردين» هو اليوم الأول من السنة! فما رأيكم؟! هل هناك مانع من ذلك؟ هل يمكن أن نجعل تقويماً أوّل يوم فيه الخامس والعشرون من فروردين، وآخر يوم فيه بعد دورة كاملة للأرض هو الرابع والعشرون من فروردين من السنة التالية؟! أنا أضمن لكم أنّ ذلك لا يغيّر شيئاً من حركة الشمس والكواكب، ولن تنحرف عن مدارها ولن تتجاوزه حتّى قيد أنملة!! اجعلوا أوّل السنة هو الرابع عشر من «دي»[5]! أو اجعلوه الخامس عشر من «مرداد»!.. فلن تختلف المسألة أبداً، فإنّها مبنيّة فقط على أساس التخيّل والاعتبار.
انظروا الآن، ماذا فعلوا على أساس هذا التخيّل.. لقد اخترعوا عيد «النوروز»[6]!! وأوقعوا السماء على الأرض، ووضعوا رواية لتأييد ذلك! وأنزلوا آية في ذلك! إنّ ما فعلوه من أجل هذا اليوم قد رفع شأن يوم النوروز على يوم الغدير وجميع الأعياد وجميع القِيم، بحيث لم يعد بإمكاننا أصلاً أن نصلح الأمر، وكلّ ذلك ليس إلاّ على أساس التخيّل، فما هي الميزة في هذا اليوم؟ الميزة فيه أنّه في اليوم الأوّل من الحمل، وهو اليوم الأوّل من «فروردين» تنبت الأعشاب، فما أسعدنا بذلك!! لعلّنا أصبحنا آكلي علفٍ حتّى نحتفل ببداية «فروردين»!!!؟
والآن يجب أن نفرح ونُسَرّ بسبب اخضرار الأرض! هل يجب على أولئك الذين اخضرّت أرضهم قبل ثلاثة أشهر، أن يحتفلوا قبل ثلاثة أشهر؟ وهل يجب على القاطنين في المناطق الباردة، الذين يخضرّ عشبهم بعد ثلاثة أشهر أن يحتفلوا في ذلك الوقت؟ أليست حركة الشمس في البلاد الواقعة في المناطق الجنوبيّة على عكس ذلك؟ مثلاً، نحن الآن في الشهر الثامن وفي طريقنا لاستقبال البرد، أمّا في المناطق الجنوبيّة أي المناطق الواقعة على المحيط الأطلسيّ، فهم متّجهون لاستقبال الحرّ، إذن متى يكون عيدهم؟ لقد كان عيدهم واقعاً قبل شهر، هل يجب عليهم أن يحتفلوا في ذلك الوقت؟ فعيدنا يقع بداية «فروردين»، أمّا عيدهم فهو قبل شهر، انظروا كم اختلط الحقّ بالباطل في هذه المسألة؛ فلا يعلم شيء من شيء! ما سبب كلّ ذلك؟ سببه هو أنّنا سلّمنا عقولنا للتخيّلات، فهل يجب علينا أن نفرح ونسرّ حينما ينبت العشب؟ أم أنّ تلك العنزة هي التي ينبغي أن تفرح وتسرّ!! وهي التي تصعد إلى أعلى الشجرة؟! ولكن ما يحصل هو أنّنا نحن الذين نقفز نحو الأعلى والأسفل بدلاً منها!! يعني أنّنا تنازلنا من مقامنا وموقعنا إلى مستوى إحدى الحيوانات! إنّه لأمر عجيب في الواقع!!!
ولا زالت لديّ تلك الصحيفة التي نقلت ذلك الخبر، ففي زمان حكم الشاه كان رئيس الوزراء يأتي بتلك القامة والجثّة الضخمة ذات الـ 200 كيلو!! ومع ما كان عليه من التفاخر والتكبّر كان يقفز فوق النار[7]!! وكان يتفوّه بتلك العبارات المشينة والسيّئة والتي لا تليق بإنسان عاديّ! فكيف بها تصدر من رجل سياسة يحسب لكلّ كلمة تخرج من فمه ألف حساب!! واقعاً كنت أتأسّف على الإنسانيّة جمعاء لِما نرى من هؤلاء الأشخاص الموكل إليهم عمليّة التنمية والتوعية السياسيّة، فأيّ أناس هؤلاء؟! وأيّة أفكار هي هذه الأفكار؟! وأيّة عقول هي عقولهم؟!
فهذا الشخص الذي يأتي على أساس هذه الخيالات، هادفاً لإحياء التقاليد القديمة والتراث، كيف يُمكنه أن يقوم بإصلاح دولة ومجتمع بأكمله ويسير به في الاتجاه المعنويّ الصحيح، فلا يكتفي بمجرّد الصلاح الظاهريّ.. وإشباع البطن.. وسائر المشتهيات والملذّات.. فجميع الناس يستطيعون أن يؤمّنواالحاجات الظاهريّة والماديّة، فالسير في طريق الرفاهيّة والتلذّذ وأمثال ذلك لهو أمرٌ يسير، وليس صعباً أبداً.. وأمّا ذاك الذي يهدف إلى الإصلاح المعنويّ والتنمية الفكريّة والعلميّة والمعنويّة ويسعى إلى تربية نفوس الناس على أساس ذلك، فكيف يمكن لمنهجه هذا أن يجتمع مع تلك التخيّلات والتوهّمات الشخصيّة؟ وكيف له مع ذلك أن يقوم بعمليّة التربية؟
وإلى الآن ما زالت هذه الكلمات وهذه التخيّلات موجودة في أطراف الدنيا وزواياها، فتجد شخصاً الذي بلغ السبعين من عمره إلا أنّه مغمور في هذه التخيّلات، و تراهم حينما تأتي ليلة الأربعاء[8] يشعلون النار ويقفزون ويأتون ويتحدّثون...!!
فإحياء العادات القديمة علاوة على أنّه إسراف وارتكاب للعديد من المخاطر، والمسائل التي تهدّد الأمن والموجبة للاضطراب، والتي نشاهدها ونراها، علاوة على ذلك..فهي بعيدة كلّ البعد عن المعالم الثقافيّة والحضاريّة للمجتمع، وهي أليق بالمجتمعات البربريّة والتي لا تتمتّع بشيء من الأدب والتربية والثقافة، فأيّة فائدة نحصّلها جرّاء ذلك؟! ومع كلّ ذلك نأتي ونتفاخر بهذه الفعال! ثمّ بعد ذلك نطرح هذه الأمور على أنّها أمور تراثيّة عريقة، وأنّها إحياء لسنن الماضين، وجميع ذلك هو من الخيالات و الأوهام الباطلة.
فالشهر في الإسلام هو الشهر القمريّ، ولا علاقة لنا بالشهور الشمسيّة، فنحن نحسب تاريخ شهادة سيّد الشهداء عليه السلام على أساس التقويم القمريّ مهما كان اليوم الذي استشهد فيه وفق التأريخ الشمسيّ، فلو فرضنا أنّ واقعة عاشوراء ـ كما يحسبها بعض المؤرّخين ـ قد وقعت في فصل الصيف، فنأتي ونغيّر وقت شهادته، ونقيم العزاء على أساس التأريخ الشمسيّ، والحقيقة أنّ ذلك لا ينطبق على الواقع، وهو ليس صحيحاً.
إنّ سيرة الأئمّة عليهم السلام لم تكن قائمة على إحياء يوم عاشوراء على أساس الشهور الشمسيّة، بل إنّ نفس قولنا «عاشوراء» يعني أنّ الشهور قمريّة، وليست شمسيّة، كذلك شهر محرّم.. صفر.. وسائر الشهور، فإنّها شهور قمريّة، وولادات الأئمّة جميعها وفق الشهور القمريّة لا الشمسيّة، ففي التأريخ الإسلاميّ لا قيمة للشهور الشمسيّة، بل القيمة هي للشهور القمريّة.
وبناءً على ذلك، فإنّ دخول الهلال الجديد وظهوره أوّل الغروب، يكشف عن بداية شهر جديد، وهل هذا الغروب هو لليوم السابق أم التالي؟ الجواب: أنّه لليوم التالي، وعلى هذا الأساس تتحدّد كيفية نزول المسائل المعنويّة والتقديرات الإلهيّة للعباد من أوّل الغروب، فإذا أراد الإنسان أن يزيد من نصيب غده ويجعل تقديره حسناً، فعليه أن يلتفت ويراقب نفسه من أوّل الغروب، فلا يتكلّم بأيّ كلام مهما كان مستواه، ولكن فهمنا الحالي وما نقوم به واقعاً وفعلاً، هو أنّنا نستيقظ صباحاً، ونصلّي صلاة الصبح حين طلوع الفجر، ونعتبر أن اليوم قد بدأ منذ ذلك الحين، مع أنّ المسألة ليست كذلك، لأنّ ما ينزل بين الطلوعين بعنوان الرزق المعنويّ للإنسان، يبدأ حسابه من أوّل الغروب، و يمكن تشبيه ذلك بحالتك إذا أردت أن تهدي رفيقك كيلو من التفاح، فتشتريه وتتوجّه به إلى منزله، وعلى الطريق ترى أحد أصدقائك فتعطيه تفاحة، ثمّ تجد فقيراً فتعطيه أخرى، وتلتقي برفيق آخر فتعطيه كذلك، وعندما تصل إلى دار منزله، فإنّك لن تجد في حوزتك سوى تفاحتين لا أكثر، أو افرضوا أنّكم اشتريتم كيلوين من السكّر لرفيقكم، وعلى الطريق لم تلتفتوا إلى أنّ الحركة التي تقومون بها من شأنها أن تمزّق هذا الكيس، وتسقط السكّر منه شيئاً فشيئاً ـ ولا يخفى أنّ كيفية هذه الحركات وطريقتها، تحدّد كمّية سقوط السكّر ـ وعندما وصلتم إلى منزله، وجدتم أنّ مقدار نصف كيلو قد هدِر أو أنّه قد بقي منها نصف كيلو.
فطريقة عمل الإنسان من حين غروب الشمس تحدّد ذلك الرزق النازل بين الطلوعين التالي من حيث القلّة والكثرة، فإذا تكلّمت مع من لا ينبغي الكلام معه، فإنّ ذلك الرزق سينقص إلى النصف دفعةً واحدةً، وبذلك سيعطى نصف رزقه بين الطلوعين لا أكثر، وإذا اغتاب في اليوم التالي، فإنّ رزقه سينقص إلى الثلثين، ومن الممكن أن يصل إلى حدّ لا يبقى له شيءعندما يحل وقت ما بين الطلوعين!
وبناء على ذلك، على الإنسان أن يجهّز نفسه ليوم الغد من أوّل الليل. كما أنّ طريقة الكلام مع الناس، ونوعيّة المطالعة، وطريقة العبادات والعلاقات، مؤثّرة كذلك في تحديد رزق الغد.

    

تفسير آخر للحديث الشريف: الاستعداد الدائم لاستقبال النفحات الإلهيّة

لذلك فقد قال بعض كبار العرفاء في بيان معنى رواية «ألا وإنّ لربّكم في أياّم دهركم نفحات» أنّ المقصود منها ليس أوقاتاً خاصّةً في السنة يجب على الإنسان أن يحافظ عليها، مثل العشر الأوائل من ذي الحجّة، أو شهر رمضان، أو ليالي القدر. فليس لنزول الفيض الإلهيّ المقدّر وقت معيّن أو مكان معيّن، ولا يمكن للإنسان أن يُخضعه لمعيار وملاك معيّنين، فهذه المسألة ستصطدم أثناء النزول بمكان أو زمان ما شئنا أم أبينا، وبعبارة أخرى، يجب أن لا نكثر من التفكير في هذه المسألة، وأنّه في أيّة ساعة سينزل هذا الفيض كي نتهيّأ لها، فهذا اشتباه، ولا وجود لمسائل كهذه.
ولذا يجب ألاّ يشغلنا التفكير في تحديد اليوم الذي تنزل فيه تلك النفحات من بين أيّام السنة، أوالشهر الذي يمتاز بتلك المزايا والخصوصيّات من بين أشهر السنة، إنّ هذا النحو من التفكير ليس صحيحاً. فهنا، حيث نحن جالسين، من الممكن أن تنزل علينا نفحة من تلك النفحات، أو تأتي بعد ساعة، فلا تندرج هذه المسألة تحت قاعدة خاصّة، وليس لها أيّة ضابطة، لأنّ كيفيّة نزول البركات من جانب الله تتغيّر وتتبدّل وتتحوّل من خلال ارتباطها بالنفس، ويشعر الإنسان في نفسه بشيء من التغيّر والتبدّل عند نزول هذه البركات والعنايات الإلهيّة، ويلمس حينها الفرق بين وضعه الحالي والسابق. ولا تندرج هذه المسألة تحت أيّ قانون أو ملاك، فمن الممكن أن تكون في هذه اللحظة لشخص، وبعد خمس دقائق لآخر، فلكلّ منهما نفسه المختصّة به ووضعه المختلف والمغاير لنفس الآخر ووضعه، ومن الممكن أن تكون متساوية على التوالي أيضاً، وذلك عندما يكون شخصان على وضعيّة متماثلة، وخصوصاً لسالكي طريق الله، فعندما يكونون في مجلس واحد، وحالتهم متماثلة من حيث القرب فمن الممكن أن تشمل النفحات شخصين أو ثلاثةّ أو عشرة أشخاص في لحظة واحدة.
لقد تكلّمنا ذات يوم عن أنّه كيف يمكن أن يتّضح معنى من المعاني لبضعة أشخاص في مجلسٍ واحدٍ ولا ينكشف للبقيّة؟ كان المرحوم العلاّمة الطهرانيّ يقول: يمكننا أن نعدّ هذه المسألة من مؤيّدات أدلّة وحدة الوجود، فلو لم يكن الوجود واحداً، فكيف يحدث أثرٌ واحدٌ لعدّة أشخاص في لحظة واحدة. فكيف يمكن وقوع أمثال هذه القضيّة؟ إذن يلزم أن يكون الوجود واحداً، حتّى لا تنعدم وحدته ولا تتكثّر مع تعلّقها بالأفراد والصور المختلفة.
إنّ لهذه المسألة أهميّة كبيرة، فمن الممكن أن تتفاوت وتختلف هذه الشهور والأيّام والليالي على مدار السنة بسبب المناسبات المختلفة. ولكنّ الكلام هو في أنّ هذه الروايات تفيد معنى أعمّ، فإحياء ليلة النصف من شعبان مستحبّ، وإحياؤها كان قبل ولادة الإمام صاحب الزمان عجّل الله فرجه الشريف، فرسول الله صلوات الله عليه وآله كان يحييها أيضاً. إذنْ هذا الإحياء ليس متعلّقاً بمسألة الإمامة، ولا مرتبطاً بمسألة الرسالة، بل هو حقيقة واقعيّة في عالم التكوين، قد نظر الله إلى تلك الليلة نظرةً خاصّةً، وفي الوقت الحاضر صار لها ارتباط وعلاقة بالإمام صاحب الزمان عجّل الله فرجه الشريف.
إنّ مسألة الإمامة والولاية لا تتعلّق بشهر أو سنة، ولا ربط لها بولادة الإمام عجّل الله فرجه الشريف، فقد كان من الضروريّ أن تقع ولادة صاحب الزمان عجّل الله فرجه في هذا اليوم على أساس سلسلة عالم القضاء والقدر، كما أنّ تعلّق ولاية الله بهذا الوجود المبارك يقتضي خصوصيّة في هذه الليلة، توجب على النبيّ صلى الله عليه وآله أن يحييها أيضاً. وليست المسألة أنّي أنا النبيّ ذو الشأن الرفيع!! وأنّ من سيأتي بعد اثني عشر جيلاً هو ابني، لذا لا يجب عليّ إحياؤها، لا، ليست المسألة كذلك.
إنّ خصوصيّة وجود الإمام عليه السلام تقتضي تميّز مثل هذه الليلة، حيث تَلقى هذه الليلة عناية خاصّة من قبل الله تعالى، ولذلك يجب على الجميع أن يستفيدوا من هذه العناية، حتّى رسول الله صلوات الله عليه وآله أو أمير المؤمنين عليه السلام، فلا فرق في هذه المسألة، وهكذا في شهر رجب، وليالي القدر، وفي سائر الأيام، ولا شكّ في هذه المسألة.

    

كيفيّة الحفاظ على الحالات الروحيّة و تشبيهها بالضيف

إذا التفتنا إلى المطالب التي تقدّمت، نجد أنّ لشهر رمضان ميزة خاصّة، حيث يرى الإنسان بسببها تفاوتاً في أحواله، واختلافاً في أوضاعه، وأنّ المسألة فيه تختلف عمّا سواه، فيشعر الإنسان باختلاف هذا الشهر عن سائر الشهور. وهذا الإحساس هو عبارة عن ضيافة الله.
على الإنسان أن يقدّر هذه الضيافة ويحفظها، فمن وصايا كبار الأولياء أنّ نعدّ البارقات الربانيّة والجذبات الإلهيّة التي تنزل على قلب الإنسان وتغيّر حاله بمثابة الضيوف الذين يحلّون في منازل قلوبنا آتين من عند الله كرُسل، وينبغي علينا أن نكرم هذه الرسل ونحسن ضيافتهم، وإلا هجَرونا وخرجوا من ذلك المنزل (القلب).
إنّ المرحوم السيد ابن طاووس هو من العلماء الثابت ارتباطهم مع إمام الزمان عليه السلام، بحيث لا يشكّ أحد في ذلك، وينقل المرحوم العلامة الطهرانيّ رضوان الله عليه قصة عنه يقول: ذات يوم جاء أحدهم برسالة من قبل الإمام عليه السلام إلى السيّد ابن طاووس، ففتح السيد ابن طاووس الباب واستقبله في منزله خير استقبال ورحّب بقدومه، وبعد ذلك أخذ منه الرسالة وعاد إلى عمله، وبات الضيف ليلته عنده، وفي الليل أتى له بطعام ورجع مجدّداً إلى غرفته ليتابع سائر أعماله، وفي منتصف الليل رأى أنّ حاله قد تغيّر ولم يعد كالسابق، فقد شعر بأنّ المسألة قد اختلفت، ولم يعد له ذلك الإقبال على الصلاة ولا على الدعاء، وانتابته حالة من الانقباض، ولم يعد له ذلك الارتباط السابق، وفجأة سيطرت عليه حالة من الاضطراب والندم، وشرع يتوسّل بحضرة الإمام، فقال له عليه السلام: لمَ كان تعاملك مع رسولنا بهذا النحو؟! إنّ الذي جاءك كان من طرفنا نحن، أهكذا يُستضاف؟ مثلاً تضع الفواكه أمامه وتذهب، أو تقول له: تفضّلوا.. تذوّقوا.. تناولوا الطعام، وبعد ذلك تتوجّه إلى عملك!!؟ إنّ هذا الأسلوب ليس صحيحاً.
حينها قام السيّد وتوجّه إلى ضيفه، فرآه يصلّي، فهوى على يديه ورجليه يقبّلهما، ومهما سأله عن السبب؟! لم يكن السيد ليلفظ ببنت شفة. فالمهمّ هو المقصد والمنبع والمبدأ؛ فلماذا تصرّفت بهذا النحو؟! والخلاصة أنّ السيّد ابن طاووس قد كرّس كلّ أوقاته لخدمة ذلك الضيف في تمام المدّة التي قضاها عنده، وبعد ذلك عفا عنه الإمام عليه السلام ورضي عنه.
هذا ما يسمّى بحسن الضيافة، فهذه الهديّة الإلهيّة تحتاج إلى حسن استقبال وضيافة، وهذه الحالة التي تعتري السالك تتطلّب منه تلك الضيافة، وعلى الإنسان أن يحافظ عليها، كيف يجب أن يستضيفها؟ عليه أن يفعل كلّ ما يوجب بقاءها وأن يترك كلّ ما يحول دون ذلك، فهذه هي الضيافة وحسن الاستقبال. فإذنْ ماذا تمثّل هذه الحالات التي تحصل للإنسان؟ إنّها ضيف قد حلّ به، وعلى الإنسان أن يسعى للحفاظ عليها. يقول كبار الأولياء: عندما تحصل للإنسان حالة معيّنة، عليه أن يحافظ عليها، ولا يهملها حتّى لا يخسرها، وكيف يحافظ الإنسان على تلك الحالات؟ إنّها لمعضلة.. ولكن من جهة يمكن أن نقول إنّ حفظ هذه الحالات سهل، وليس بالتكليف الشاقّ، ولكن بشرط أن نلتزم بالمراقبة، وألاّ نخادع أنفسنا، وإذا خلونا بأنفسنا لنستنطق أعمالنا فلا نغضّ الطرف عن شيء منها ونمرّ عليها مرور الكرام. هذا النحو من التعاطي يؤدّي إلى بقاء تلك الحالات عند الإنسان ويحفظها.

    

إهمال المراقبة بعد شهر رمضان يؤدّي لضياع آثاره

ففي رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: «لولا أنّ الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لرأَوا ملكوت السماوات والأرض»، فلولا تلك الشياطين التي تسيطر على قلوب الناس وتدور حولها فتصرف فكر الإنسان وخياله إلى ما لا يعنيه، وتجعله يتتبّع ويراقب أعمال الآخرين، ويتدخّل في ما لم يكلّف، فتغرقه في التفكير والخيال في ما فعل فلان، وماذا فعل الآخر، وأنّ عملي كان جيّداً متقناً، أمّا عمله فقد كان هشّاً... وهكذا يدور فكر الإنسان حول كلّ ما لا ربط له به ولا صلة، ثم يبعثه ذلك على المعصية والغيبة والافتراء والبهتان، أو على أقلّ تقدير فإنّه يفسد بهذه التخيّلات وتلك الأنواع من الأفكار ملكوته ومثاله وبرزخه، ولولا ذلك «لرأوا ملكوت السماوات والأرض»، أي لرأوا ملكوت السماوات والأرض التي طلب رؤيتها حضرة إبراهيم عليه السلام.
وفي رواية أخرى أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول: «لولا تمريج في قلوبكم، وتكثير في كلامكم، لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع»، يعني لولا كثرة الكلام فيما بينكم، وتشتّت الأفكار والخواطر المختلفة في قلوبكم، لرأيتم كل ما أراه «لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع»، يعني؛ نحن لدينا القابليّة لأن نصبح مثل النبيّ صلى الله عليه وآله, ولكنّ النبيّ صلى الله عليه وآله لم يكن يُكثر في الكلام، ولم يكن في قلبه تمريج، أمّا نحن فلدينا كلا الخصلتين، فدائماً نتكلّم.. نجلس ونتكلّم عن ارتفاع سعر البنزين.. وانخفاض سعر الأرز.. وما حدث مع فلان.. وأن السماء قد أمطرت هنا.. وهطل الثلج هناك..ما علاقة كلّ ذلك بي؟!.. نشبت حرب في ذلك المكان.. وعقد صلح هناك.. وهناك حدثت زلزلة.. وانقضّ بناء هناك...
نحن دائماً في حالة ثرثرة، فما إن نجلس حتّى نفتح المذياع دفعة واحدة ونطّلع على الأخبار! لا داعي يا سيّدي للاطّلاع على تلك الأخبار! فاجلس مكانك واقرأ يا أخي صفحة من كتاب.. اقرأ رواية عن الإمام الصادق عليه السلام.. اقرأ صفحة من كلام العلماء الكبار والأولياء العظام.. فما الذي ستناله من استماع الأخبار؟ وما الذي ستحصل عليه من مشاهدة الصور المفسدة والمضلّة والمخرّبة؟.. هي ساعتان من التخيّل فقط لا غير!! وهذا هو التمريج.. وما شاهدناه ليس صوراً فحسب، فعندما تأتي الصور وتستقرّ في النفس، تقول: إنّي لن أخرج من نفسك بسرعة، وسأبقى هنا بكلّ قوّة وإحكام!!!
فلنهتمّ ولو بشهر واحدٍ من أشهر رمضان، ولنقلّل كلامنا وعلاقاتنا مع الآخرين حتّى لا يتضرّر صيامنا ولا نقع في الغيبة، ولنحتط في الذهاب إلى الأماكن المختلفة، وفي الكلام أيضاً، وسنرى أثر ذلك.. ولكن ما يحدث هو أنّنا ما إن ينتهي شهر رمضان حتّى نرجع من جديد إلى سابق أعمالنا.. فـ «يومٌ جديد و رزقٌ جديد»[9]، وما فائدة ذلك؟ لا تتصوروا أيّها الإخوة والأصدقاء أنّ الأعمال التي قمنا بها في شهر رمضان، ستكتب في موضع خاصّ من صحيفتنا، وأنّ أعمالنا التي نقوم بها بعد شهر رمضان لها محلّ وموقع آخر، وأنّ كلاّ منهما له حسابه الخاصّ و لا علاقة له بالآخر، لا ليست المسألة كما تتصوّرون، فالحساب متسلسل ومتّصل بعضه ببعض، فإذا حافظنا بعد شهر رمضان على الحالة التي اكتسبناها فيه، فإنّ هذه الحالة ستثبت وتستقرّ، وإلاّ فكأنّه لم يمرّ علينا شهر رمضان أصلاً وكأنّ شيئاً لم يكن[10].
فإذا استمر الاهتمام بتلك الأعمال وبذلك السلوك والمراقبة التي كنّا عليهاووفقنا الله لها في شهر رمضان، فإنّ تلك الحالات ستبقى وتستمرّ، وإلاّ سنرى يوم القيامة أنّ شهر رمضان لم يمرّ علينا أصلاً.. وسيعلو منّا نداء: وا أسفاه!! لقد أفسدنا كلّ تلك الأعمال التي قمنا بهافي ليالي القدر و ضيّعنا التوبة و الندامة التي أظهرناها.. وكذلك ما فعلناه من وضع القرآن على رؤوسنا.. وتوسّلنا.. ماذا فعلنا؟ لقد أفسدنا كلّ شيء.. بحقّ الإمام الرضا عليه السلام لقد أفسدنا كلّ شيء.
لقد أقبل شهر رمضان،وجاء بعده ذلك السيل الجارف من التوهّمات والتخيّلات، ليحطّم كلّ المزارع والأبنية التي كنّا بنيناها وأقمناها في شهر رمضان.. أليس هذا هو الواقع الآن، فإنّ السيل الذي يأتي يزيل البيت ويقتلعه، نأتي في الغد فلا نرى شيئاً.. ألا ترون!؟ ففي الأمس كان هاهنا بناء مشيّد واليوم لا شيء، ولا وجود لأيّ أثر.. ولن يرجع ذلك البناء إلى مكانه؛ فقد خرب وزال.. ومسألتنا هكذا أيضاً.

    

ضرورة الاهتمام بمراقبة مقدار الطعام

إن كان العظماء يؤكّدون على شيء ويبالغون بالاهتمام به فهو الحفاظ على تلك الحالات؛ فقد كان تناولنا للطعام في شهر رمضان قليلاً، حيث كان الوعد الإلهيّ متوجّهاً إلى الذين أمسكوا عن الطعام فيه, وكانت المائدة الإلهيّة لذوي البطون الغرثى؛ لذاعلينا أن لا نبدّل هذه الحالات ونغيّرها بعد شهر رمضان.
يقول الإمام الصادق عليه السلام في حديث عنوان البصري، والذي سيأتي شرحه تباعاً: «وأن لا تأكل ما لا تشتهيه فإنّه يورث الحماقة والبله»، فالبله يعني البلادة والحماقة تعني الجهل، والأحمق هو الذي لا يقدر على تشخيص المصالح والمفاسد، أمّا مسألة العلاقة بين الغِذاء وبين النفس وبين الفكر، فلن نتحدّث عنها وسنتركهاإلى وقتها، ولكن يجب أن نلتفت إلى المقدار، فإذا أكلنا مقداراً من الطعام إلى درجة أنّنا لم نعد نشعر بوجود ميل ورغبة اتجاهه، فلنعلم أنّ الطعام قد فعل بنا فعلته و أنّ الضرر قد وقع.
أحياناً يأكل الإنسان الطعام، وعندما ينتهي يشعر وكأنّه لم يأكل شيئاً، وأنّ الطعام كان خفيفاً، فهذا ما يقصده الإمام الصادق عليه السلام من كلامه، وأحياناً يأكل الإنسان ثم يأكل الصحن الثاني.. ويأكل الطبق الثالث.. والرابع.. والخامس.. وهكذا يبدأ من أول السفرة إلى آخرها ليتذوّق كلّ الأصناف، حتّى إذا وصل إلى حال لم يعد قادراً معها على تناول المزيد، ابتعد عن السفرة، ولمَ لا يتوقف الآن؟! فإنّه لم يُبقِ مكاناً خالياً ليأكل؟!!
وهذا ما يريده الإمام عليه السلام من قوله: «فإنّه يورث الحماقة والبله». فإذا أكل الإنسان إلى هذا الحدّ فلينظر إلى نفسه في تلك الحال، فسوف يرى أن لا حضور لقلبه أصلاً، ولا مجال للتأمّل والتفكّر أصلاً، تراه ذاهلاً لا يقدر حتّى على الالتفات إلى نفسه والإحساس بوجوده، وحتّى لو ذهب ليشارك في مجلسٍ ما أيضاً، فإنّ ذهابه سيكون على أساس مرتكزاته الذهنيّة لا على أساس انجذاب روحه،وحينئذٍ تصبح المسألة اعتباريّة، فحتّى لو قمنا في تلك الحالة بتلاوة القرآن، فلا يكون ذلك حينئذٍ إلا لِما في القراءة من ثواب فقط لا غير، ولولا الثواب لما اعتنينا به، فما يقودنا نحو القرآن حينئذ هو التخيّلات والتصوّرات وتعوّدُنا للقراءة في الليالي السابقة، وليس اشتياق النفس وانجذابها ورغبتها، وقراءة القرآن تلك ليست لها أيّة فائدة، حتّى لو قرأنا عشر ساعات، فلا فائدة منها، ولن يكتبوا لنا ثواب قراءة آيةٍ واحدة، لماذا؟ لأنّنا قد أكلنا إلى الحدّ الذي نسينا فيه حتّى اسمنا، والآن نريد أن نقرأ آية من القرآن ونفهمها!
إذن ماذا يعني كلّ ذلك؟ معناه هو نفس ما يشير إليه ذلك الكلام المنقول عن الأولياء: يجب على الإنسان أن يأكل بمقدارٍ يجعله راكباً لبدنه لا مركباً له، ومتى يكون الإنسان راكباً للبدن؟ عندما يكون الطعام مُعيناً على أداء كلّ عمل يريده الإنسان، ويكون الطريق مفتوحاً مشرّعاً أمامه، فإن أراد أن يُفكّر فإنّه يقدر على التفكير، وإن أراد أن يحلّ مسألة رياضيّة فبإمكانه حلّها، وإن شاء أن يتحرّك يجد من نفسه القدرة على الحركة، وإن أراد أن يعبد الله فبإمكانه أن يقوم بذلك، وإذا رغب بحضور قلبه فبإمكانه ذلك... ففي هذه الحالة يكون البدن مركباً والإنسان هو الراكب.
أمّا إذا أكل الإنسان بنحوٍ لا يمكن معه أداء أيّ عمل، فإنّ شعوره وفكره سيتعطّلان، وستذهب قواه العقليّة والنفسيّة، وستتعطّل كذلك حالاته الثلاثة: المثاليّة والبرزخيّة والملكوتيّة، ففي هذه الحالة يصبح الإنسان مركباً، وبعد ذلك عليه أن ينتظر، حتى يستعيد البدن حالته المعتدلة والطبيعيّة، وما لم يعد البدن إلى حاله فإنّه سيبقى يشغل الذهن.

    

مراقبة الكلام و خطورة آثاره على النفس

هذا ما يتعلق بمسألة الطعام.أمّا الكلام، فهو موضوع مثير للدهشة، كيف يؤدّي الكلام إلى هلاك الإنسان؟ ماذا يخفي هذا الكلام؟! إنّه ليس بطعام!فلماذا يكون مهلكاً للإنسان إذاً؟ إنّه مجرّد لقلقة لسان، وبماذا يختلف هذا الكلام عن الكلام الصادر من الشريط المسجّل؟ فكلاهما كلام، فلماذا لا يؤثّر في الشريط، ويؤثّر في الإنسان؟ لأنّ الكلام وإن كان صوتاً من الأصوات، إلاأنّه عندما يصدر عن إنسان فإنّه يوجِد صوراً مثاليّة، فإن كان الكلام مفيداً ولله، كان مثاله حسناً، فمن يجلس و يأخذ بالحديث لله وحول مسائل أخلاقيّة، لا عن مواضيع تدخل فيها أهواء النفس والاعتباريّات والدنيا، بل يكون كلامه لله، لا للدنيا أو لا للإفساد (و الإنسان قادر أن يشخّص ذلك بنفسه)، في هذه الحالة فإنّ الصورة المثاليّة لهذا الكلام لن تكون قبيحة أومشوّهة.
و لكن!! في بعض الموارد على الإنسان أن يترك حتّى هذا النوع من الكلام، وذلك في المواضع التي يكون بحاجة فيها إلى مرتبة أعلى، لماذا جاء الرسول واختار لنفسه مكاناً للعزلة؟ لأنّ رسول الله كذلك بحاجة إلى مكان لا يُكلِّم فيه أحداً، ولا أحد يكلّمه.. كان النبيّ صلى الله عليه وآله يمكث في غار حراء أربعين يوماً تقريباً كلّ سنة، وكان يصحب معه أمير المؤمنين عليه السلام وهو طفل، ففي بعض الأوقات يكون رسول الله بحاجة إلى السكوت، حتّى إلى عدم ذكر كلمة "الله" لأنّها تعدّ كلاماً، لذلك يجب أن لا تلفظ حتّى كلمة "الله" في بعض الأوقات...
كان يقول العلاّمة الطهرانيّ: إذا ذهبتم إلى المقبرة لزيارة القبور، فاقرؤوا الفاتحة واجلسوا ملتزمين الصمت، وهذا الكلام مثير للدهشة. ومن الممكن أن توجب هذه المسألة شبهة لدى الكثيرين، فما يقرؤه الإنسان هو القرآن، والدعاء للأموات، ولا يوجد أرفع من كلام الله والقرآن والأئمّة، ولكنّ الفكرة الأساس في كلام المرحوم العلاّمة تكمن في أنّ ما يريده الإنسان من زيارة القبور هو إيصال الثواب إلى الأموات، وهذا حاصل بقراءة الفاتحة، ولكنّ هناك شيئاً آخر ينبغي أن يكون من نصيبه أيضاً، ولا يمكن تحصيله بقراءة القرآن، وإلاّ فبإمكانكم أن تقرؤوا القرآن والدعاء في البيت.
إنّ ذلك الأثر الذي يجب أن تتركه أجواء القبور والأموات وخصوصيّة هذا المكان في النفس، لا بدّ أن يتحقّق في جوّ من السكوت، ولن يحصل ذلك التأثير بقراءة القرآن، فلنذهب إلى المقبرة، ولنبق ساكتين هناك، وبعد فترة سنشعر في قرارة أنفسنا وبشكل تدريجي بذلك السكون الذي يخيّم على فضاء القبور والمقابر، وسنحسّ بهموم الأموات وكيفيّة العلاقة معهم والارتباط بهم، وحينها ستحصل لنا حالة الانقطاع والتذكّر والتنبّه التي يجب أن نجعلها نقطة الارتكاز والمحور لأعمالنا. وهذه الحالة لن تحصل حتّى لو ختمنا القرآن من أوّله إلى آخره، لأنّ لختم القرآن آثاراً ولتلك المسألة آثاراًأخرى.
لماذا يقال: يُكره قراءة القرآن في الحمّام؟ لا يخفى أنّ الحمّام ليس مكاناً لقراءة القرآن، فلا يمكن أن نقرأ القرآن في أيّ مكان، لماذا يقولون يجب ألاّ تلقي السلام في جميع الأماكن؟ لأنّ في ذلك تشتّتاً لحواسّ الإنسان، نعم.. لدينا الكثير من الروايات التي تتناول موضوع السلام، وأنّ الذي يبدأ السلام له من الثواب عشرة أضعاف ثواب المجيب، ولكنهم ذكروا أيضاً كراهة السلام في بعض المواضع.. يعني عليكم أن لا تسلّموا.. فالله الذي يقول لنا عليكم بإلقاء السلام، يقول لنا في مكان آخر لا تلقوا السلام، فمثلاً لو رأيتَ شخصاً يصلّي و سلمتَ عليه فمن الواجب عليه أن يردّ السلام لوجوبه، ولكن ما يحصل للمجيب هو أنّه يفقد حضور قلبه، فرغم أنّه يقوم بالفعل الواجب عليه، ولكنّ هذا الفعل الواجب قد حرمه من فيض أعلى وأرفع وهو حضور القلب، و حين حضور القلب يجب أن لا ننشغل بشيء آخر، ومن موارد ذلك أيضاً في الحمّام، يقولون: لا تسلّم على من كان في الحمّام، لماذا؟ لأنّه مشغول بتنظيف نفسه، و لن يقدر ان يتوجّه بذهنه إلى مسألة السلام ؟!.. وهذا ليس صحيحاً.
وبنفس هذا الملاك عندما يأتي إنسانٌ ويرى أنّ أخاه في حالة من التفكير والتأمّل، فعليه أن لا يلقي عليه السلام ويخرجه عن الجوّ الذي هو فيه. ولمَ يلقي السلام؟ ليخبره بأنّه قد جاء.. حسناً وماذا لو جاء؟!.. فليجلس في مكانه وليلزم الصمت! فمثلاً عندما يدخل شخص إلى جلسة يخيّم عليها جوّ من السكوت والتأمّل ويقول: السلام عليكم.. السلام عليكم.. فهو بذلك يهدم كلّ شيء من أساسه.
لا يا أخي الحبيب! عندما تدخل إلى مكان، وترى أنّه مكان تفكّر ومحلّ تأمّل، اذهب واجلس بهدوء، دون إصدار أيّ صوت، ولا تدع الباب يصدر أصواتاً؛ فذلك ممّا يشتّت انتباه الحاضرين أيضاً!. يقول المرحوم القاضي: للسّالك حالات من شأن صوت "طق" أن يذهب توجّهه ويشتّت حواسه فيها، وأن يحرمه من تلك الحالة التي لن تعود أبداً.
و من هنا نعلم أنّ للصوت تأثير بالغ رغم أنّه مجرّد صوت واحد.. وما سبب ذلك؟ سببه أنّ النفس حين اتصالها مع الملكوت، تكون بأمسّ الحاجة إلى السكوت، والآن صار مفهوماً لدينا مدى أهميّة السكوت. فعندما نذهب ونرى صديقنا، علينا أن لا نبدأ مباشرة بقول كلّ ما لدينا من أخبار.
لا أيّها السيّد..! إنّ كلّ ما حدث فهو مفيد وجيّد وأهلاً وسهلاً به..! وإذا لم نجد كلاماً وموضوعاً للحديث فلا داعي لأن نختلق الموضوعات ونرغم أنفسنا إرغاماً على الكلام، ولو مضت خمس دقائق مثلاً بغير حديث، فإننّا سنتصوّر أنّ السقف سينقضّ على رؤوسنا، لذلك لا بدّ أن نقول شيئاً ما، مثلاً: أيّها السيّد! إنّ هذه المصابيح المضاءة كثيرة، أطفئ بعضاً منها..!! أو مثلاً: الهواء حارّ و... وفي النهاية يجب أن نقول شيئاً!! ..التفتّم..! ليس الإنسان شريطاً مسجّلاً، فإذا أراد الإنسان أن يتكلّم فإنّ معاني هذا الكلام تأتي أولاً بصورها المثاليّة وتستقرّ في النفس، وبعد ذلك تخرج على هيئتها الظاهريّة من فم الإنسان، و تلك الصورة الباطنيّة تؤثّر تأثيراً كبيراً، يعني عندما أتكلّم فستخطر معاني الألفاظ في ذهني، ولكنها في منتهى السرعة إلى حدّ أنّا نتصوّر أنّ هذا الكلام يأتي بسرعة دون تفكير.
وأثناء الكلام تخطر معاني هذه الألفاظ بصورها البرزخيّة والمثاليّة، فتأسر النفس.. وتخرّبها..وتملؤها.. وتشوّشها.. اذهبوا والتقوا بصديقكم مدّة نصف ساعة.. أو اذهبوا إلى غرفة عملكم واجلسوا نصف ساعة في الوقت الذي لا يكون فيه مراجعون و لا حتّى رئيسكم في العمل، وبعد نصف الساعة هذه، انظروا إلى أنفسكم و قارنوا بين هذه الحالة و بين حالتكم عندما تقضون نصف ساعة في الحديث و الكلام و مقابلة ثلاثين مراجعاً، فكم سبّب ذلك من إزعاج واضطراب لكم؟ ألا تشعرون أنّ أوضاعكم قد تخرّبت و أنّكم قد استنزفتم؟ ففكركم قد تشوّش وأرهق، وفقدتم كذلك الصبر والتحمّل الذي كنتم تتمتّعون به، وأصبحتم سريعي الغضب والانزعاج... ما هي هذه الحالة؟ إنّها حالة الاستنزاف والتشتّت، وخراب الحال...
وهذه المسألة [(أي مراقبة الكلام و صفاء النفس)] شرطٌ أساسيّ للطريق.

    

الخلاصة: مسألتان مهمّتان في كيفية الحفاظ على حالاتنا

وبناء على ما تقدّم، هناك مسألتان ينبغي أن لا تغيبا عن ذاكرة الرفقاء.. (طبعاً المطالب في هذا الموضوع كثيرة، و لكنّني ارتأيت أن أخصّص هذه الجلسة لمعالجة هذه المسألة لأن الكثير من الإخوان سألوا الحقير عن كيفيّة المحافظة على حالاتنا).
والحاصل أنّ لدينا مسألتان مهمّتان:
الأولى: حول كيفيّة الطعام، فقد كان العرفاء الشامخون يوصون بالصوم يوماً واحداً في الأسبوع، أو يومان إن أمكن، وذلك ليجدّد أجواء الصيام وحالاته طوال الأسبوع باستمرار، فعلى الإنسان أن لا يدع ذلك الارتباط الحاصل مع نفسه يضيع ويفتُر بمرورو الأيام وتتابع الأحداث، وعليه أن يوجد لنفسه منبّها باستمرار، وعليه أن يعيد الكرّة بعد أربعة أيام.. ويجدّدها بعد عشرة أيام كذلك.. لأنّ هذه التنبيهات من شأنها أن تقوّي تلك الحالة في الإنسان وتثبّتها.
أمّا الثانية: فهيما يتعلّق بالكلام، فعلى الإنسان أن يضاعف مراقبة نفسه، فيقلّل كلامه إلى أدنى حدّ، وخصوصاً في العلاقة مع المنغمسين في الدنيا والاعتبارات.. فعلينا أن نبتعد عنهم..وينبغي أن تعلموا أنّ هذا النوع من العلاقات بمثابة السمّ المهلك، فكم وكم اتفق أن قام الإنسان بعملٍ ما ثمّ قضى عليه بسبب علاقته مع أحد الأشخاص، وفي هذا المجال حكايات ومسائل كثيرة، وقد ذكرها المرحوم العلاّمة في كتبه، ومنها قصّة المرحوم السيّد جمال الدين الكلبايكاني، الذي ذهب إلى المقبرة، والتقى بأحد الأشخاص، فحدثت بسبب ذلك مسائل وقضايا.
عندما ترون أنّ الكلام مع شخص يترك أثراً سيئاً عليكم، فاقطعوا الكلام فوراً، وتناولوا موضوعاً آخر مكانه؛ فتقوية التخيّلات في الذهن، تبدأ دائماً من الاشتغال بهذه الجهة أو تلك.. ومن متابعة هذه المسألة أو تلك. إنّ الأخبار التي يسمعها الإنسان ـ والحال أنّها لا تمتّ إليه بصلة ـ تشدّ قلبه وتجرفه إلى المجريات التي تحصل، فيخلو حينئذ هذا القلب من بعض المسائل، و تحلّ مكانها أشياء ومسائل أخرى.
وهكذا الكلام مع الأفراد، سواءً كانوا حاضرين أم غائبين، وكذا سماع كلامهم عن طريق الشريط المسجّل.. واعلموا أنّ الكلام مع أهل الضلال والأهواء، يترك في النفس أثراً موبقاً مهلكاً.
أسأل الله أن يوفّقنا ويديم علينا نزول البركات التي أنزلها في ذلك الشهر.. إن شاء الله.

اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.


[1] ـ سورة ق مقطع من الآية 39 .

[2] ـ الشهر الأول من أشهر السنة الفارسيّة المستخدمة في التقاويم الإيرانيّة، وهو في بداية فصل الربيع.

[3] ـ الشهر الأخير من أشهر السنة الفارسيّة المستخدمة في التقاويم الإيرانيّة.

[4] ـ الشهر الخامس من أشهر السنة الفارسيّة المستخدمة في التقاويم الإيرانيّة.

[5] ـ الشهر العاشر.

[6] ـ رأس السنة الإيرانية.

[7] ـ القفز فوق النار هو إحدى العادات المجوسيّة التي تمارس في الأعياد الإيرانيّة وخصوصاً في آخر أربعاء من السنة (م).

[8] ـ المقصود آخر ليلة أربعاء من السنة الشمسية الفارسية، ويقيم بعض الإيرانيين فيها مراسم خاصة مستخرجة من التراث الفارسي القديم، كالقفز فوق النار.

[9] ـ ترجمة لمثل فارسي يقول: «روز از نو، روزى از نو».

[10] ـ ترجمة لمثل فارسي يقول: «آب پاكى روى دست كسى ريخت» وترجمته الحرفيّة: صبّ الماء الزلال على الأيدي وتنظيفها من أي شيء، ويستعمل عند اليأس من عودة شيء. (مشهورترين ضرب المثل هاي إيراني ص 14)

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی <-- -->