معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
المقالات و المحاضرات > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > أعياد و مناسبات إسلامية > محاضرة 15 شعبان 1435: كيف صار صاحب الزمان (عجل الله فرجه) مستضعفاً بيننا؟

_______________________________________________________________

هو العليم

كيف صار صاحب الزمان (عجل الله فرجه) مستضعفاً بيننا؟

 

محاضرة يوم النصف من شعبان 1435
 

سماحة آية الله
السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
حفظه الله

 

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على الذي روحه نسخة الأحديّة في اللاهوت
وجسده صورة معاني الملك والملكوت
العبد المؤيّد والرسول المسدّد المصطفى الأمجد أبي القاسم محمد
اللهم صل على محمد وآل محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين
واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين

{وَ نُريدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثينَ * وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُون‏}[1]
اليوم هو يوم ميلاد وليّ عالم الوجود، وقطب عالم الإمكان، وواسطة الفيض الإلهي، والمنزل لمشيئة الله وتقديره في مجاري الممكنات، والمعيّن لجميع ذرّات العالم، والمربّي لجميع النفوس، والموجود الذي بيده جميع العلل والحوادث، والمجري لمشيئة الله في مراتب العالم المختلفة.
لأجل تعجيل فرجه الشريف صلوا على محمد وآل محمد.

    

بيان معنى الآية الشريفة

يشير الله تعالى في هذه الآية التي تلوناها، بأنّ المشيئة والإرادة قد تعلّقت بأن يمنّ الله على أولئك الأشخاص الذين استضعفوا، والذين تمّ النظر إليهم بنظرة استضعاف، وأنزلوا عن مرتبتهم ومنزلتهم، ولم يجعلهم الناس والظالمون في مكانتهم الأصليّ؛ قد تعلقت المشيئة بأن نرفع هؤلاء الأشخاص ونجعلهم أئمّةً، ونجعلهم الوارثين لمراتب الأسماء والصفات الكليّة، ونُري فرعون وهامان؛ اللذين وقفا أمام الحق، ولم يسمحا للحقّ أن يصل إلى أسماع الناس، ونصبوا أنفسهم مكانه، ونسبوا الحقّ إلى أنفسهم، وقدّموا أنفسهم للناس البسيطين على أنّهم هم الحقّ، والحال أنّهم أخفوا الحقّ خلف أظهرهم، هؤلاء سوف نريهم ما كانوا يحذرون ويخافون منه، ويرجون أن لا يتحقّق أبدًا؛ وهو أن لا يحصل ظهورنا للأفراد، ولا يتجلّى وجودنا أمامهم، ولا ينكشف حضورنا في جميع الحوادث وسلسلة العلل؛ هؤلاء سوف نريهم هذه الأمور.

    

حقائق الآيات عامّة تشمل جميع أفراد البشر

هذه الآية بحسب الظاهر مرتبطة بالنبي موسى وهارون وما جرى بينهما وبين فرعون، والجميع يعرف قصّتها؛ فقد وردت في القرآن والروايات. لكنّ حقيقة المطلب وحقيقة القضيّة هي ما كنّا قد ذكرناه مرارًا للإخوة من أنّ القرآن كتابٌ عمليٌّ وكتابٌ تربويٌّ؛ يعني: عندما ينقل القرآن قصّةً ما، لا يريد أن يحدّثنا عمّا جرى فقط، ولا يريد أن يقصّ علينا ما حدث في السابق، فالقرآن ليس كتاب تاريخ، بل كلّ ما يبيّنه القرآن، فهذا يعني أنّ هذه القضيّة التي يبيّنها تنطبق على المخاطبين بهذا القرآن؛ فإنّ بيّن قصّة النبي موسى وفرعون، فهو يريد أن يقول لنا بأنّ اليوم أيضًا يوجد موسى وفرعون، وأنّ تلك الأحداث تجري الآن وتحصل، فانتبه جيّدًا! وانظر إلى نفسك لترى في أي طرفٍ أنت؟ وإن قصّ علينا قصّة إبراهيم والنمرود، فهذا يعني أنّ نفس هذه القضيّة موجودة بيننا.

    

النموذج الأوّل:‌ تطوّر النبي إبراهيم وتكامله وعقلانيّته

إنّ قضيّة التطوّر التي جرت للنبي إبراهيم جاريةٌ علينا، فكما أنّ الشبهات والإشكالات التي تطرأ على الإنسان في مسير كماله ومسير فهمه، والمجاز الذي يظهر له بشكل حقيقة… (انتبهوا جيداً! فإنّ القرآن يبيّن قصّة النبي إبراهيم هذه) لقد ظنّ في البداية أنّ النجم هو الله، ثمّ ظنّ أنّ القمر هو الله، ثمّ ظنّ بأنّ الشمس هي الله، ولكن بعدما أفل، كلَّ وتعبَ من هذه الأمور، فهي لم تستطع الحفاظ على وجودها الظاهري، واختفت من أمام ناظري؛ لقد كان هذا الظهور والاختفاء تنبيهًا للنبي إبراهيم، وهو الذي جعله يخرج من عالم الوهم والخيال، وعالم الشعارات وبيان الظاهر والمجاز.
لقد أخرجتْ هذه التنبيهات تخيلاته وتوهّماته بأجمعها، ثمّ جعلته يلفت إلى تلك الحقيقة التي لا تزول والتي لا تختفي، والتي لا يطرأ عليها المحو والخفاء.
فهذا السير الذي حصل للنبي إبراهيم هو بنفسه يحصل لكلّ فردٍ من الأفراد في حياتهم؛ وذلك لكي يصلوا إلى مقصودهم الواقعي واليقين العلمي، لا التوهّم والخيال والشعار، ولا غضّ النظر عن الأمور وجعلها تمرّ بسهولة، ولا المصالح الدنيوية ومراعاة المصالح والمضار النفسانيّة، فإنّ هذه الأمور تحصل لنا الآن! جميع هذه المسائل ظاهرة فينا الآن.
مثلًا في تشخيصنا للطريق الذي ينبغي المسير فيه، يظهر لنا اليوم شخصٌ، ويتعيّن لنا بطرقٍ وأشكالٍ مختلفةٍ، ثمّ نكتشف بعد مدّة بأنّ هذا الشخص الذي كنّا نعتقد أنه كذا، وكنا نظنّه كذا.. ظهر أنّه شيءٌ آخر، عجباً! فهو يتكلّم بالكلام الفلاني، ويتصرّف التصرّف الكذائي الذي لا نرتضيه! هذا الانكشاف الذي حصل لنا هو أمرٌ مهمٌ وميمونٌ، علينا أن نَقبل به، وعلينا أن نفتح قلوبنا له، ونقرّ به.
أما لو أنّ الإنسان تعامل مع المسألة بأنّ هذا الشخص كان صالحًا، والآن صار سيئًا، فليس صحيحًا، بل عليه أن يتأمّل في الأمر ويتساءل: ما المشكلة في ما كنت أتصوّره حتّى تصوّرته خطأ؟ وما الخطأ في المسألة حتّى جعلني أمشي في الطريق الخطأ؟
لذا لم يكتفِ النبي إبراهيم بالقول: إنّ هؤلاء الناس يعبدون الكواكب، فحتّى لو اختفت هذه الكواكب فلا إشكال في أن يختفي الله كسائر الناس! وما العيب في أن يكون لدينا إله بنصف دوام؛ يظهر عند الغروب ويذهب عند طلوع الشمس؟ وأن يكون لدينا إلهٌ مخفيٌّ؟ بل هو فكّر في المسألة وقال: ينبغي أن يكون الله موجودًا دائمًا، ويجب أن تكون العلاقة بيني وبين الله موجودةً في كل حالٍ، ويجب أن يكون ناظراً عليّ؛ فالإله الذي يختفي عنّي ولا أعلم أين موقعه من السماء؛ في هذه الجهة أم تلك ليس إلهاً، ما هو هذا الإله الذي زرع في نفسي بذور الشكّ والتردّد ورحل عني؟ وكذا الحال بالنسبة إلى القمر والشمس، وكذا سائر المظاهر الأخرى الدنيويّة؛ لقد قام النبي إبراهيم انطلاقًا من فطرته وعقله ومنطقه، بالقول بأنّ الإله الذي يكون أحيانًا ويختفي أحيانًا أخرى لا فائدة فيه.

    

عقلانيّة النبي إبراهيم تتجلّى لنا في الصلوات الخمس

فما يقوم به المسيحيون من العبادة يوم الأحد فقط ـ مع غضّ النظر عن شروطهم وظروفهم ـ هي عبادة لا تنفع، إذ يبقى الإنسان ستّة أيامٍ مقطوعَ العلاقة بالله، ويرتبط به في يومٍ واحدٍ فقط، فهذا ليس إلهاً! لذا العبادة في الإسلام مستمرة طوال النهار والليل، فعندما يطلع الفجر، عليكَ أن تأتي وتتّصل بربّك، وعند الظهر، أي: بعد انقضاء عدّة ساعاتٍ، حيث كنت في هذه الساعات لا تعلم ما الذي جرى فيها؛ لقد كنت غارقًا في الدنيا وفي السوق مشتغلاً بالمعاملات التجارية، فأين هو الله الذي كنتَ على علاقةٍ به قبل ساعات؟ انهض الآن وأعد الارتباط به، واجعل ما وضعته في أسفل سلم أولويّاتك في أعلى هذه الأولويّات، واقطع ما كنت تفكر به غير الله تعالى، واجعل علاقتك به وحده، هذه الجهة جهة تربوية. ثمّ بعد ساعاتٍ وعندما يصير العصر، تعالَ وصِلْ هذه العلاقة مجددًا، لا تُصَلِّ الظهر والعصر معًا، لا تجمعهما لكي ترتاح إلى المغرب! بل عليك أن تأتي وتجدّد العلاقة بعد ساعتين أو ساعتين ونصف، وعندما يصير المغرب كذلك، وهكذا في وقت صلاة العشاء، بل المستحب في صلاة العشاء هو تأخيرها عن الساعة والنصف إلى ساعتين أو ثلاثة، وذلك لكي لا يحصل فصل كبير بينها وبين صلاة الفجر؛ ففي جميع هذه المسألة نرى أنّ الإنسان عندما يريد الارتباط بربّه ينبغي أن يكون ارتباطه مستمراً، فهذا الارتباط ينبغي أن يكون دائمًا.
ما الذي نفعله في هذه الدنيا؟ وما الأمور التي تحصل لنا؟ وما المسائل التي تظهر علينا وتملأ قلوبنا؟ وما هي المسائل التي تشبعنا؟ فالقرآن يأتي ويخبرنا عن النبي موسى بهذا الشكل، وعن النبي إبراهيم والنبي عيسى بهذا الشكل، جميع هذه الوقائع التي نراها في القرآن عن الأمم السابقة، إنما هي للاستفادة منها في تربيتنا الآن.

    

النموذج الثاني: السير والتكامل العلمي والتجريبي للنبي يوسف

قصّة النبي يوسف، هي قصّة عجيبة جدًا، فالنبي يوسف لم يخرج من بطن أمّه نبيًّا، بل نفس هذا السير العلمي والتجريبي والحياة التي نطويها أنا وأنت، نفس هذا السير طواه النبي يوسف حتّى وصل إلى النبوّة؛ لقد كان لدى النبي يوسف اشتباه في حياته، وكلّهم كان لديهم اشتباهات، لكن كانوا يُصحّحون اشتباهاتهم.

    

عصمة النبيّ لا تتعارض مع تكامله وتصحيحه لأخطائه

اليوم إذا قلنا بأنّ النبي الفلاني كان يشتبه، سيعترضون ويقولون: وهل النبي يشتبه؟ نعم النبي يشتبه! وأمّا عصمة النبي فليست في أن لا يشتبه، بل هي في كيفيّة ارتباط النبي بالناس في بيان الأحكام والتكاليف المترتّبة عليهم وفي الكلام الذي يتكلّم به معهم، أمّا هو نفسه، فإلى أن يصل إلى هذه المرتبة مرتبة الوحي واليقين العلمي، فسوف يكون قد طوى ألف مرحلةٍ، وسيكون قد مرّ بألف طريقٍ، وابتلي بمسائل مختلفة، وصحّح مسائله واحدةً واحدةً، وعدّل من طريقته إلى أن وصل إلى هنا، وقد ورد في القرآن الكريم العديد من هذه المسائل؛ إحداها قصّة النبي يوسف عندما بنى جميع حياته وأموره على أساس الارتباط بالله، وهو ما رأيناه في مسألة زليخا وما جرى معه فيها، حيث إنّ اتصاله بالله هو الذي أوجب أن لا يقع في ذاك الفعل الحرام.
ثم بعد لك يدخل السجن، ويأتيه ذانك الشخصان فيكبو هنا كبوةً، وذلك عندما يقول لأحدهما: عندما تذهب إلى الملك اذكر له حقيقة أمري وأني مظلوم في السجن!

    

ما هو خطأ النبي يوسف؟

فهل فِعلُ النبي يوسف هذا صحيح؟ وهل هو فعل منطقي وعقلائي [في حقه]؟ نعم، هو من منظارنا عملٌ صحيحٌ؛ حيث يوجد شخصٌ مظلومٌ، والملك موجودٌ، وهناك شخص بإمكانه إيصال الرسالة إليه، فهذا فعلٌ منطقيٌ.
أمّا بالنسبة إلى شخصٍ يريد المسير في ما وراء هذه المرحلة، ويريد أن يرفع سيره ويطوّره، فهذا يعتبر ذنبًا لا يغتفر مِنه! فأنت الذي ترى الله ناظراً عليك في جميع هذه الأحوال، وترى أنّ الله قريب من جميع الأمور، حتّى أقرب إليك من نفسك {وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَريدِ}[2]، إذا كنت تعرف ذلك فلماذا أوصيت الرجل بهذه الوصية؟! هذه التوصية بالنسبة إلى الأفراد العوام لا إشكال فيها، فإن حصل ظلم وتعدٍ على شخص يقول: لديّ شخص في المؤسسة الفلانية، لديّ شخص في المكان الفلاني، فأنا في راحة وقلبي مطمئن، فحتّى لو ابتليتُ ليلةً سوف أنتهي غدًا، ولو استمر البلاء يومين سوف ينتهي في اليوم الثالث، فالقلب مطمئن، لكن أين هو ذاك الذي ينبغي أن يكون في أول القائمة من الأولويات؟ ذاك الذي ينبغي أن يكون لديّ اتصالٌ دائمٌ معه، ذاك الذي يقف خلف جميع الأمور التي تصدر من الأشخاص؟!
النبي يوسف على نبينا وآله وعليه السلام كان في هكذا وضعية! أنت عندما ترى الله تعالى ناظراً عليك في جميع الأمور، فما معنى هذه التوصية التي أوصيت بها؟! الآن بما أنّك أوصيت بهذه الوصية وبما أنّك اشتبهت هذا الاشتباه، فسوف نبقيك في السجن سبع سنينٍ إضافيةٍ، فابق هنا، وعليك أن تطوي مراتب الوصول إلى النبوّة، وعليك أن تتخلّص مما أوجب ظهور نقطة الضعف منك بنفسك من خلال تجربة عملية لا علمية، بحيث لن تخطر هذه المسألة في بالك حتّى خطور.

    

التكامل العملي مسألة بشريّة تشمل الأنبياء وغير الأنبياء

فهل تعتقدون بأنّ الأنبياء وصلوا إلى النبوّة هكذا؟! وأنهم يستيقظون صباحًا ويصلون صلاة الصبح فتنزل الملائكة عليهم ويقولون له: لقد صرت نبياً! لا يا عزيزي، بل ذاق في سبيل ذلك الويلات! وابتلي في كل حياته وبجميع أموره حتى وصل إلى هذا الأمر! وخاض التجريبيات الواحدة تلو الأخرى إلى أن وصل إلى تلك المرتبة التي ينبغي الوصول إليها، وهناك يوجد مراتب مختلفة، فكل نبي من الأنبياء له مرتبة خاصة به: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ}[3]، لقد جعلنا لهم مراتب وفضائل مختلفة.
هذه المسألة مسألة بشرية، فالبشر لأجل الوصول إلى الحقيقة الوجدانية والفطرية، عليه أن يتصل بمبدأ عالم الوجود، وإدراكه إدراكاً واقعياً لا إدراكاً وهمياً، إدراكاً واقعياً كما أدركه النبي يوسف وأدركه النبي يونس عندما مرّا بتلك التجربة، وكما أدركه النبي موسى في علاقته بالخضر.
إن هذا الإدراك الواقعي والإدراك الحقيقي في الاتصال بمبدأ عالم الوجود، وإدراك أنّ الباري تعالى هو الذي يختصّ بتمام الحيثيات العِلّية وجميع التأثير في عالم الوجود، وأنّ جميع الأمور ترجع إليه، وجميع المسائل بيده، وأنّه هو المسيطر والمهيمن على كل شيء، هذا الإدارك لا يحصل للناس إلّا إن كان لديهم هذه التجربة.
وبالطبع فإنّ هناك بعض الأفراد يمكنهم الوصول إلى هذه النقطة خارج المسير الحياتي الذي للجميع، وبالطبع فإنّ هؤلاء معدودين جدًا، هؤلاء أدركوا هذه الواقعيّة عبر سيرهم السلوكي وعبر الفيض الحاصل من حركتهم نحو الله عزّ وجلّ، ومن أجل الوصول إلى هذه المرتبة، يحتاج هؤلاء إلى التجربة، إلى التجربة الحسيّة كما هو الحال بالنسبة إلى جميع الأشخاص في جميع المجالات المختلفة.

    

الإمام الصادق:‌ أهل البيت هم المستضعفون

ينقل المفضّل بن عمر عن الإمام الصادق عليه السلام حول هذه الآية: {وَ نُريدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ..} أنّ الإمام قال بأنه عندما نزلت هذه الآية، كان النبي جالساً بجانب الإمام علي والحسنين، فبكى وقال:"أنتم المستضعفون من بعدي"، أي أنتم الذين سوف تظلمون ويتم التعامل معكم بعيداً عن اللطف والمحبة، فسألت الإمام: ما معنى أنتم المستضعفون؟ فقال: قال النبي: هذه الآية نزلت في شأننا أهل البيت وهي جارية فينا إلى يوم القيامة[4].
وهنا نقطة عجيبة جداً، حيث يوجد في بعض الأخبار[5] أنّ الإمام عندما خرج إلى الدنيا تلى هذه الآية: {وَ نُريدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثين }. ومعنى الوارثين أنهم وارثين لمقام أسماء الباري تعالى وصفاته الكليّة. وليُخرجوا تلك الأسماء الكليّة والصفات الكليّة إلى منصّة الظهور والبروز في هذا العالم. ليستفيد منها كلّ شخصٍ؛ كلٌّ في مرتبته وفي مقامه وموقعيته.

    

معنى الاستضعاف، وكيفيّة الخروج منه

ما هي مرتبة الاستضعاف؟ وهل ينتهي الاستضعاف بأن يأتي الإمام ويشكل حكومة على الناس؟ هل هذا هو معنى الخروج عن الاستضعاف؟ يعني: هل أنّ الإمام أمير المؤمنين عندما حكم الناس أربع سنوات، واستلم الخلافة الظاهرية، هل اختلف حاله فيها عن حاله في السنوات التي قضاها في منزله وحكم فيها الخلفاء الثلاثة الغاصبون؟ وما الفرق الذي حصل بين هذه الأربع سنوات وبين تلك السنوات التي قضاها في منزله؟
لا شيء سوى وجع الرأس والحرب والمخالفة له، ووصل به الحال أنّه طلب من الله أن يريحه منهم ويستبدلهم شخصاً آخر يمكن أن يعيش معهم! عندما كان الإمام في منزله ولم يكن له أي عمل سياسي، ولم يكن يتدخّل في أعمال الحكوم، هل طلب من الله الموت؟ ما الذي حصل؟ هل خرج بهذا من الاستضعاف؟ أم أنّ المراد بالاستضعاف هنا الاستضعاف العلمي واستضعاف الفهم؛ بمعنى أنّ الناس في حياة أمير المؤمنين لم يفهموا مكانة أمير المؤمنين عليه السلام، لم يصلوا إلى تلك المعرفة التي ينبغي عليهم أن يصلوا إليها، كانوا يرون أمير المؤمنين كسائر الأشخاص! لم يضعوا الإمام في المقام والمكانة التي ينبغي أن يوضع فيها، لذا اتبعوا شخصًا آخر واختاروا شخصًا مختلفًا! واختاروا دينًا لم يكن مَرضيًّا من قبل الله تعالى، لم يكن دينًا يخرجهم من الماديّات ويخرجهم من الشهوات والتعلّق بالدنيا والكثرات! كان ديناً مثل دين المسيحية واليهودية والزرداشتية والمجوسية وأمثالها، غاية الأمر أنّ ذاك كان اسمه عيسى وموسى، بينما هذا اسمه "محمد"، في تلك الأديان توجد حركات معيّنة، وهنا يوجد حركات معيّنة، وتلك الأديان كان لديها أعمال وتكاليف وهذا الدين لديها أعمال وتكاليف أخرى.
فما هو الفارق بين الدين الذي اتبعه الناس بعد وفاة النبي وبين الدين اليهودي والمسيحي؟ ذاك الشخص الذي ينبغي عليه أن يصلّي خلف أمير المؤمنين، يأتي ويصلّي خلف ذاك الشخص الغاصب، فهل عمله هذا مورد رضا الله تعالى؟ والشخص الذي ينبغي عليه أن يطوف ببيت علي، يذهب ويطوف ببيت ذاك الخائن الغاصب في ظل حكومته الجائرة، فهل هذا الدين مورد رضا الله؟
أبداً! لا اختلاف بينهما أبداً، فذاك المسيحي الذي يُسأل: لماذا تذهب يوم الأحد إلى الكنيسىة؟ يقول: هكذا قيل لنا أن نفعل! أما ما هو المنطق الذي وراء هذا التكليف، فيقول لا شيء. وهؤلاء يقال لهم: لماذا تركتم عليًّا واتبعتم أبا بكر؟ يقولون: الناس اختاروا ذلك! فما الفرق إذاً بين هذا وذاك؟ وما الفرق بين هؤلاء الناس وبين المسيحيين واليهود؟ إذا كان الإنسان قد وضع الحق جانبًا، وإذا كان البناء على أن يضع الإنسان الحق جانبًا ويتغاضى عنه، وإذا كان المقرّر العمل بالشعار والتبليغ فقط، فما الفرق بيننا وبين المسيحيّة واليهوديّة والملحدين والمشركين؟! فكلاهما يفعل الفعل نفسه، هذا في هذا القالب وذاك في قالبٍ آخر، لا اختلاف بينهما.

    

معنى انتظار الظهور الذي أمرنا به في غيبة قائمنا

لقد كان علي بن أبي حمزة [البطائني] من أصحاب الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، بحيث كان وكيلاً عنه … .
انتبهوا فهذه المطالب مهمّة جداً! وهذه المطالب هي المحك بالنسبة إلينا، والتي ينبغي أن نصل إليها، هذه هي الأمور التي كان الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام يذكّرون شيعتهم بها؛ بأنّه عند غيبة قائمنا ينبغي أن تنتظروا الظهور، هي هذه النكتة.
كان علي بن أبي حمزة من أصحاب الإمام موسى بن جعفر، وما دام كان يشغل منصب الوكالة وعلى علاقة بالإمام، كان يقول: الإمام هو موسى بن جعفر، والواسطة بين الله والخلق هو موسى بن جعفر، ودين الله بيد موسى بن جعفر، وكانت الأمور كلّها جيّدةٌ وصحيحةٌ، وكان الناس يتوجّهون إليه ويسلّمونه ما عليهم من أموال ومسائل. لكن عندما استشهد الإمام موسى بن جعفر وتولى علي بن موسى الإمامة بعد والده وقال له: كنتَ وكيلًا لوالدي موسى بن جعفر، حسنًا! فما لديك من أمواله أرسلها إلينا!
وما إن حصل ذلك حتّى برزت حالات الضعف التي كانت لديه عند اتصاله بالإمام موسى بن جعفر ـ ذلك الاتصال الذي لم يكن اتصالًا قلبيًّا بل اتصالًا ظاهريًّا فقط ـ وذاك الضعف وذاك النقص وتلك المطالب المهمة التي قد تحصل لكلٍّ منا في كل حال وظرفٍ نحن عليه، ولا علاقة لها باللباس ولا بالظاهر، تلك الحالات والظروف المخفيّة في الباطن ولا يطلع أحد عليها، ذاك الضعف الموجود في القلب ولا يمكن للآخرين أن يروه، إنّ هذا الضعف يخرج ويظهر في مثل هذه الحالات! فيقول: من الذي قال بأنك أنت الإمام؟ ما الدليل؟ من قال بأنك خليفة والدك؟ هات مكتوباً في ذلك! ولو جاءه بمكتوب وسند على ذلك سيقول له: لقد ختمته بدلًا عن أبيك! هل في ذلك آية قرآنية؟ أين هو من القرآن؟ هل لديك سند ومكتوب من والدك؟ فحتى لو كان لديه مكتوب، فالشيطان لديه ألف طريق للتشكيك! فكما أن الحق طريقه مشخّص، كذلك الشيطان يمكن أن يرتب الأمور؛ سيقول له: أنت تكذب ـ نعوذ بالله! ـ ألم يقل له ذلك؟ هذا الكلام صدر من شخص كان وكيلًا للإمام موسى بن جعفر! وكان الناس يرجعون إليه في علاقتهم بالإمام عندما لا يقدرون الوصول إلى الإمام! ومن الواضح أن وكيل الإمام ليس شخصاً عادياً وليس ابن شارع! بل ينبغي أن يكون في مرتبة يمكن أن يعتمد عليه الإمام! لكن تلك الأمور التي كانت مخفية في باطنه، وهو لم يعمل على إصلاح تلك الأمور التي كانت مخفية في داخله في زمان إمامة موسى بن جعفر عليه السلام، ولم يسعَ لرفع نقاط ضعفه من خلال علاقته وارتباطه بذلك الإمام، ولم يستغلّ تلك الفرصة التي حصلت له لترميم نقاط ضعفه والتداوي من أمراض نفسه كما فعل أصحاب الأئمّة الخاصّون، بل كان مشغولاً دائماً بالعلاقات الاجتماعية، والذهاب والإياب، وغرّته الموقعية الاجتماعية، وخُدع بأنّه صار وكيلاً للإمام عليه السلام، وباحترام الناس له، وفتحهم الطريق أمامه، ورفع صوتهم بالصلوات عند قدومه وذهابه، فهذه الأمور جميعاً وسائل ووسائط للشيطان يستغلها ليمنع الإنسان من الاهتمام بأوجاعه ومصائبه الحقيقية، من خلال إشغاله بهذه الأمور.
ولهذا عندما يأتي الامتحان؛ يموت موسى بن جعفر عليه السلام، فيحلّ ابنه الإمام الرضا عليه السلام مكان أبيه، فإذا به يرى أنّ الأرضيّة قد صارت ملائمة لبروز تلك الأمور المخفيّة؛ ففي زمان موسى بن جعفر، لم يكن هناك مجالٌ لها، إذ كان وكيلاً لموسى بن جعفر، والجميع كانوا يعلمون بذلك، فلم يكن هناك مجالٌ للمخالفة. أمّا الآن في زمان الإمام الرضا عليه السلام فالأرضيّة صارت موائمة، والفرصة مؤاتية، وإلاّ [لو لم يكن مكتوباً عليه أن يخضع لهذا الامتحان،] لحدث أمرٌ معيّنٌ في زمان موسى بن جعفر بحيث يستدعيه الإمام ويقوّم له مسيره، ويقول له: افعل كذا وكذا. ولكن، ذلك لم يحصل، فهذا الشخص يجب أن يصل إلى هنا، ويصل إلى هذه النقطة، وذلك الامتحان الذي ينبغي أن يتعرّض له لا بدّ أن يكون بواسطة عليّ بن موسى الرضا وبيده.
حسنًا، ماذا عنّا نحن في هذا الزمان؟ ألسنا مثل عليّ بن أبي حمزة؟! كلّ واحدٍ فينا، ألسنا كذلك؟! مثلاً إذا كان هناك أمرٌ أو منهجٌ نحبّه ونتعلّق به، ألا نقوم بمدحه وتشجيعه، والتسويق له؟! ثمّ إذا تغيّر ميلنا وزالت محبّتنا تجاه ذلك الأمر، ألا تتغيّر تعابيرنا عنه؟! أليس الأمر كذلك؟! فإذن نحن أيضًا مثل علي بن أبي حمزة، ولا فرق بيننا! ما هو الفرق؟!
نعم، لو كان كلامنا في كلا الحالتين واحدٌ، ورغم اختلاف الموقعيّات فإنّ كلامنا بقي واحدًا دون تأثّر.. لو كان حالنا هكذا، لكان ذلك باعثًا على الأمل، وإلاّ إذا كنّا بحيث عندما نتبع اليوم شخصاً، فإنّنا نمدحه ونمجّده، ونكيل له آلاف الأوصاف الجميلة التي لا تليق به، ثمّ إذا انفصلنا عنه، وابتعدنا عنه فإذا بنا نقول عكس الكلام الذي كنّا نقوله تمامًا! إنّ هذا الشخص المتبوع لم يتغيّر، بل نحن الذين اختلفنا وتغيّرنا، وهذا من لوازم البشر.

    

التعلّق بغير العلّة الحقيقية للأشياء، أحد أشكال الاستضعاف

يقول الله تعالى ذلك بنفسه في الآية الشريفة (لاحظوا كيف أنّ جميع الآيات القرآنية تخاطبنا واحدًا واحدًا، وهي جميعًا تنطبق علينا) ، يقول تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} ، إنّ هذه الآية واقعًا عجيبةٌ، فالإنسان يشعر بهذه القضية وهذه الواقعيّة في نفسه، فالله تعالى يقول هنا: عندما تكونون في حالةٍ من الاضطرار والحاجة، أيّاً كان سبب ذلك، فأسبابه كثيرةٌ في حياة الإنسان، وقد مثّل الله تعالى لذلك بمن ركب في البحر، فعندما يكون الإنسان في البحر، فإنّه يبتعد عن اليابسة، ويصير معرّضًا للهلاك والغرق، والبحر لا يبقى هادئًا كما هو واضح، إذ كثيراً ما تهبّ الريح وتأتي العواصف وأمثال ذلك، أضف إلى ذلك ضعف الوسائل والأدوات التي كانت في ذلك الزمان، فإنّ ما كان مخفيّاً قبل الآن وهو لا ينبغي أن يخفى ويغيب، ما هو؟ هو نحن [يعني الله تعالى].
تجد الإنسان قبل أن يقع في هذه المخمصة يقول:"ما أقوى هذه السفينة! وما أجمل الجوّ اليوم! ما أجمل البحر فهو صافٍ وهادئ! يا له من قبطان جيّد! ويا له من ملاّح ماهر! فهو متمكّن قوي مقتدر". هل لاحظتم؟ لم يذكرنا أبدًا، فنحن لسنا حاضرين في باله، فالسفينة هي الجيّدة، والقبطان هو الجيّد، والبحر هو الجيّد، والهواء هادئ، وهكذا.
حسناً، ولكن هذا لا يستمرّ بهذا الشكل دائمًا، بل الظروف تتغيّر، والأحوال تتبدّل؛ فالرياح تبدأ بالهبوب بقوّةٍ، وذاك البحر الهادئ ينقلب إلى بحرٍ متلاطمٍ، وتلك السفينة العظيمة التي كانت محلًّا للثقة والاعتماد باتت كقشّةٍ في مهب الريح، وذاك القبطان الذي كنّا نتكّل عليه، أمسى يركض ساعيًا لإنقاذ نفسه. أين هي تلك الأمور؟ لقد ذهبت جميعًا، لقد تلاشت كلّ تلك الأسباب والوسائل التي كانت تقف أمامنا وتبدو في مقابلنا، وتحتلّ موقع الصدارة في قلب الإنسان مُخفيةً تلك الوسيلة الأصلية والسبب الحقيقي، لقد ذهبت جميعاً، ولم يبقَ شيء منها بعد، فعندما ذهبت كلّ الوسائل والوسائط واحدةً تلو الأخرى، ولم يبقَ منها شيء أبدًا، فإنّك إذا نظرت سترى أنّ القلب حينئذٍ يلتفت إلى أيّ شيء ؟ إنّه يتوجّه نحو تلك الوسيلة والسبب الحقيقي؛ ففي نهاية الأمر، هذا القلب لابدّ له أن يتوجّه نحو وسيلةٍ ما، أليس كذلك ؟! بلى لابدّ من ذلك، فالقلب بدون التوجّه والتعلّق بوسيلةٍ وسببٍ ما، لا يتحرّك، وبدون ذلك فإنّ ضمير الإنسان ونفسه لا تنال الهدوء والطمأنينة، ولذا فلابدّ لهذا القلب من التعلّق والتوجّه نحو سببٍ ما أو وسيلةٍ ما.
وحتّى هذه اللحظة، ما هي الوسيلة والسبب الذي كان القلب متوجّهًا إليه متعلّقًا به؟ كانت السفينة، والقبطان، وصفاء الماء والأجواء، ومن ضمن الوسائل التي كان القلب متعلّقًا بها نفس صحّة البدن وسلامته...
إنّنا نتخيّل أنّ الغيوم والرياح والشمس تحت تصرّفنا، وتجري بأمرنا، ونحسب أنّ تمام عالم الوجود يدور طبقاً لرغباتنا وما نريده، وأنّ الأحداث التي تحصل في الدنيا يجب أن تحصل وفقاً لهوانا! ولكنّنا مخطئون بشدّةً، وقد أوغلنا في التيه والضلالة، فكلّا يا عزيزي، إنّنا لسنا إلا قشّة من التبن تتحرّك في بحر الوجود الوسيع، فإنْ طبّقنا أنفسنا معه، وتحرّكنا طبقًا له، فإنّنا سنصل إلى مقصدنا، وإلاّ إن لم نطبّق أنفسنا معه، فإنّ الطوفان والعواصف سيسحبنا إلى القعر شئنا أم أبينا، وذلك ما حصل فعلاً! لقد سقط أفراد لم يكن أحدٌ يتصوّر لهم ذلك، وسحبهم الطوفان إلى القعر، ولا شكّ في ذلك!
حسناً، عندما تزول كلّ هاته الوسائل، وتتلاشى، فإنّ القلب لمّا كان لا يقدر أن يبقى بدون سببٍ يتعلّق به أو وسيلةٍ يتوجّه نحوها، تجده يذهب نحو تلك الوسيلة الأصلية والسبب الحقيقي، فذاك الذي كان في آخر الصفّ حتّى الآن، تقدّم وظهر!
جاء في روايةٍ عجيبةٍ عن الله تعالى أنّه يقول: إنّ ذلك الشخص الذي يصلّي لي، ولكنّ أفكاره مشتّتة هنا وهناك، فتجده يقول في نفسه: عليّ أن أفعل هذا الفعل، ثمّ أؤدّي ذاك الأمر، وهكذا...، فهو يريد حلّ جميع مشاكله أثناء الصلاة! فمثل هذا الشخص، يقول الله تعالى مخاطبًا ملائكته التي تريد أن ترفع صلاته (و الحال أن مثل هذه الصلاة لا تصعد أكثر من السقف!) : لا تتعبوا أنفسكم في رفع صلاة هذا الإنسان، بل أتعبوا أنفسكم في رفع صلاة شخص يستحقّ ذلك، فهذا الشخص قد جعلني في صلاته شريكًا للآخرين، فهو كان يفكّر في كلّ شيءٍ إلّا بي، وكلّ ما فعله هو هذه الأفعال الظاهرية من تحريك اليد والجسم ولقلقة اللسان وما شابه، وأنا شريكٌ جيّدٌ، فأنا أقدّم سهمي وحصّتي لباقي الشركاء[6]، فأنا أصلًا لا حاجة لي بصلاةِ مثل هذا الإنسان، ولا حاجة لي بصلاة كهذه (يعني مثل الصلاة التي نصلّيها نحن!!)، فهذه الصلاة أين محلّي منها؟! وفي هذه الحركات والأقوال وقراءة السور، أين محلّي أنا؟! في هذه الصلاة لا أثر للصلاة، بل ما فيها هو الكلام عن القضايا والمسائل!
حسناً… ، ثمّ بمجرّد أن أنجينا هذا الإنسان من مخاطر البحر الذي كان فيه إلى برّ الأمان، فإنّه يرجع ثانيةً إلى نفس تلك العادة التي كانت عنده، فإذا بالعلل والأسباب الظاهرية التي كانت قد ذهبت عند الاضطرار ترجع مرّة أخرى لتحتلّ محلّ الصدارة من قلبه من جديد!
ما لك يا هذا لم تعتدل؟! وما بالك لم تتعلّم ممّا جرى لك؟! فالله عندما يري الإنسان، ويبيّن له الحقائق مرةً ومرتين وثلاث مرّات، يقول له: لماذا لا تتعلّم وتستقيم، ولماذا لا تفهم أنّه يجب أن تلتفت إلي وتتعلّق بي أنا وحدي؟!
هذا ما يسمّى بـ "الاستضعاف"! فنحن قد جعلنا الله تعالى مستضعفًا في عالم الوجود، ولم نجعل الله تعالى في محلّه الواقعي! والإمام كذلك تمامًا، ولا فرق بينهما في ذلك!

    

نماذج من استضعافنا لله عزّ وجلّ في تصرّفاتنا المختلفة

إنّ استضعاف الإمام هو "الاستضعاف العِلمي"، يعني: الاستضعاف هو في أنّنا ينبغي أن نعلم أنّ الإمام هو الواسطة في العالم، ولكنّنا لم نؤمن بذلك ولم نقبله، وفي أنّنا ينبغي أن نعرف أنّ جميع حقيقة عالم الوجود منطوية في وجود الإمام عليه السلام، ولكنّنا لم نقبل بذلك؛ ولذا تجدنا نلجأ إلى أفرادٍ مختلفين، ونذهب إلى أماكن متعدّدة، ونميل إلى أفكارٍ مختلفةٍ، فنعيش حياتنا بشكلٍ عاديّ، وفي ضمنها إن كان هناك إمام زمانٍ فبها وإلاّ فلا مشكلة، فنحن في النهاية نعيش حياتنا، ونؤدّي أعمالنا بشكلٍ طبيعيٍّ، ونقيم علاقاتنا، ونتصرّف بشكلٍ عاديٍّ، مثلاً ـ بيننا وبين الله‌ ـ في القضايا والمشاكل التي نواجهها، هل نتوجّه إلى الله أوّلًا ونلجّأ إليه؟ أم أنّنا نقول: لا، المسألة بسيطةٌ، ونحن بحمد الله عندنا أشخاصٌ كثيرون يمكنهم مساعدتنا فيها، فأيّ واحدٍ منهم يمكنه أن يحلّ مشكلتنا هذه؟
في الظاهر نقول: "الله"، و"كلّ شيء بيد الله"، ولكنّنا في الحقيقة نقول ذلك كذباً أو هزلاً، ففي قلوبنا أملنا متعلّق بالشخص الفلاني من معارفنا الذي يعمل مديراً للإدارة الفلانية، وهو قادر على حلّ مشكلتنا، فنذهب إليه، أو نتصّل به، فيقول لنا: أنا آسف، فأنا عندي المشكلة الفلانية ولا أقدر على مساعدتكم. فنقول في أنفسنا: حسنًا، لا بأس، ففلان (الآخر) يمكنه مساعدتنا، فنذهب إليه، فيقول: أنا آسف، فأنا متورّط في بعض المسائل، والأفضل أن لا أتدّخل في هذه المسألة؛ لأنها قد تسبّب لي بعض المشاكل، فاطلب المساعدة من شخص آخر.
وهكذا كان حال الشخص الثاني، فنذهب إلى شخصٍ ثالثٍ، فيسعى لحلّ مشكلتنا، ولكنه يواجه صعوبات في ذلك، فيعجز عن حلّ مشكلتنا، فنذهب إلى شخصٍ رابعٍ، وهكذا إلى أن يعجز جميع الأفراد الذين كنّا نخطّط للاستعانة بهم، إلى أن يتعذّر على كلّ أولئك الذين كنّا نرى ـ قبل الاتصال بالله تعالى ـ لهم محلًّا وموقعيةً في هذا العالم، وكان لهم في أعيننا ظهوراً، وكنّا نتخيّل أنّهم يستطيعون مساعدتنا، وحلّ مشكلتنا.. عندما يعجز جميع هؤلاء، ويستسلمون، نتوجّه إلى الله تعالى رافعين صوتنا: {أَمَّنْ يُجيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ}[7]!! فيقول الله تعالى لنا: هل جعلتني في آخر الصفّ؟! هل تلجأ إليّ في آخر الأمر فقط؟! آلآن تأتي إليَّ؟! اذهب إلى أولئك الذين كنت تأمل فيهم.
وكذلك الأمر عندما نصاب بمرضٍ، فنقول في أوّل الأمر: "الأمر بسيط، فالدكتور الفلاني موجود، وما أكثر المرضى الذين راجعوه فكتب الله لهم الشفاء على يده!"، فإن لم يتمكّن من علاجنا، نلجأ إلى طبيبٍ آخرٍ، ثمّ إذا عجز الأطباء الذين في بلدنا نلجأ إلى الخارج، فنلجأ إلى واحدٍ واحدٍ من هؤلاء، حتّى إذا أجابنا الجميع بالسلب، وأرجعوا المريض إلينا مقرّين بعجزهم، حينئذٍ فقط، نشرع بالدعاء، ونقول: قولوا للناس أن يتوجهوا إلى الله بالدعاء! إه ! إن كان الأمر كذلك، فما فائدة كلّ هذه الأجهزة التي وضعتموها من أجل هذا المريض؟!
إنّ ذاك الذي يجب أن يكون في أوّل الصفّ، نحن نضعه في آخر الصفّ وننساه، ولكن عندما تعجز هذه الأجهزة النادرة التي وضعناها فوق بعضها حتّى وصلت إلى السقف، عندما تعجز هذه الأجهزة واحدةً تلو الأخرى، وتوقّفت عن إعطاء التأثير المطلوب، وعندما نيأس من كلّ أحد ومن كلّ شيء، حينئذٍ فقط نلجأ إلى الله تعالى، فنبدأ بالدعاء، ونطلب من المؤمنين في المساجد والمجالس أن يدعو ويبتهلوا. صحيح؟
أمّا في بداية الأمر، فلا، في بداية الأمر لا نلجأ إلى الله، بل نقول: أحضروا له الجهاز الفلاني، واستدعوا الطبيب الفلاني من البلد الفلاني! فمتى لجأت إلى الله يا هذا؟! هل لجأت إليه في آخر الأمر فقط، وجعلته في آخر الصفّ؟! هل ينبغي أن نلجأ إلى الله بعد أن تعجز الأجهزة؟! أم لا، ينبغي أن نلجأ إلى الله من أوّل الأمر. هذا هو معنى "استضعاف الله"! فنحن قد استضعفنا الله! والحقيقة أنّ الله سبحانه وتعالى هو أكثر شخص مظلوم، وأكثر واحد مستضعفٍ، وأكثر شخص يتعرّض للإهمال وسوء المعاملة! ماذا عن أئمّتنا عليهم السلام؟ حالهم كذلك تماماً.

    

من نماذج الاستضعاف اللجوء إلى أمير المؤمنين للخلافة بعد الثلاثة!

عندما ارتحل رسول الله صلّى الله عليه وآله، جاؤوا بالأوّل، ثمّ ذهب، فجاؤوا بالثاني، ثمّ بالثالث، فلمّا رأوا نتيجة ذلك، وشاهد جميع الناس ما حصل بسبب انتخابهم لهؤلاء، لجأوا في النهاية إلى عليّ عليه السلام أن: تعال يا علي واستلم الحكومة! ما هو سبب ذلك، وما الذي دفعهم ليطلبوا منه ذلك؟ إنّ دافعهم منشؤه الاحتياج الظاهري لا الحاجة الواقعية! إذ لو كان حاجتهم حاجةً واقعيّةً، لأجابهم أمير المؤمنين عليه السلام، وللبّى طلبهم، لا كما فعل حيث رفض طلبهم، وقال لهم: لا حاجة لي بحكومتكم، ولا رغبة لي في دولتكم، فاذهبوا واختاروا لكم حاكمًا غيري! ألم يقل لهم ذلك؟!
لو كانت الحاجة واقعيةً، لجاء ولبّى طلبهم، ولكنّ الحاجة ليست واقعية، فهم إنّما جاؤوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام لأنّهم وصلوا إلى نقطةٍ لا يجدون مخلّصًا لهم غيره، ثمّ عندما وافق أمير المؤمنين، واستلم الحكم، صار كلّ واحدٍ منهم يفعل ما يشاء، وكانوا يواجهون أوامره ونواهيه بالمخالفة والإهمال، وإذا ما قال لهم أمراً، فإنّهم لم يكونوا ليرتّبوا أثراً على كلامه وينفّذوه! فما هذا؟ إنّه "الاستضعاف" الذي أشرنا إليه! وهذه الحكومة التي استلمها أمير المؤمنين لم تغيّر شيئاً في ذلك، يعني هذه الحكومة لم تخرج أمير المؤمنين عليه السلام من الاستضعاف!

    

كيف نتخلّص من استضعافنا لصاحب العصر والزمان؟

إنّ وجود إمام الزمان عليه السلام هو من أجل هذه المسألة، وهي أن يوصل الناس إلى تلك المرتبة من الحاجة الواقعية، تلك الحاجة الواقعية التي لا يقدر على تلبيتها ورفعها شخصٌ غيري أنا (أي صاحب الزمان عليه السلام)، ولا يقدر أحدٌ آخر على تلبية هذه الحاجة، وكلّ من يدّعي القدرة على ذلك، فسوف ترون أنّه قد أخطأ في ما ادّعى، وكلّ شخصٍ يحاول أن يضع نفسه مكاني، فسوف ترون أنّه سيفتضح.. سوف يفتضح! وكلّ من يحاول أن يظهر نفسه على أنّه مثلي يقدر أن يأخذ بأيدي الناس، ويستطيع أن يؤمّن حاجاتهم الباطنية، فسوف ترون أنّ أمره سينتهي بالخسارة والانكسار، سوف تجرّبون ذلك بأنفسكم، وسوف ترون بأنفسكم، أنّ الأمر بيدي أنا فقط!
إنّ هذا الاحتياج لا يحصل إلّا إذا مرّ الأفراد بتجربةٍ حسيّةٍ تؤدّي إلى شعورهم الواقعي بهذه الحاجة، لابدّ لهم أن يدركوا ذلك في وجودهم، ويحسّوا به ويلمسوه، ويفهموا معنى الحاجة بشكل واقعي، ويعلموا أنّه بدون الاتّصال بحضرته عليه السلام، فإنّهم لا يقدرون أن يخطوا خطوة واحدة، ولا يمكن لهم أن يقطعوا الطريق إلى الله تعالى، وأنّهم لا ينبغي لهم العمل بكلام هذا وذاك، وأنّ تلك المظاهر التي أقاموها في مقابل تلك الحقيقة والواقعية لا يمكن لهم أن يتشبّثوا بها ويعتمدوا عليها.
وهذا الأمر [أي حصول الحاجة الواقعية في النفوس] لا يحصل من خلال حصول قضية أو قضيتين، بل لا بدّ لهذه النفوس وهذه القلوب أن تجرّب كثيراً، وتواجه المطالب المختلفة، حتّى ينكشف لها حقيقة كل واحدةٍ واحدةٍ منها، كما حصل لحضرة إبراهيم عليه السلام؛ تظهر حقيقة النجم ، ثمّ القمر، ثم الشمس، وهكذا سائر العلل والأسباب الماديّة، لا بدّ أن يجرّبوا هذه جميعاً، لكي يعلموا أنّ هذه الحقيقة إنّما تتمركز في مكان واحد، في مكان واحد! والحمد لله، فإنّ هذه الآثار ومقدمات هذه القضيّة بدأت بالتجلّي والظهور، فقد صار مشهوداً ـ ليس فقط هنا، بل في كلّ مكان ـ أنّ هناك مزيداً من الالتفات لهذه القضية، وأنّ الأفكار في هذا المجال بدأت شيئاً فشيئاً تزداد وضوحاً.

    

ترك التقليد الأعمى لأصحاب الظاهر الحسن سبب لزوال الاستضعاف

إنّ هذا الأمر لا يحصل للإنسان من خلال القراءة والكلام، وقراءة القرآن ومطالعة الروايات فقط، بل لابدّ لها من تلك النفوس التي تبحث عن الحقيقة، وتريد الواقعية، وترفض التبعيةّ دون فهم، وتسعى للخروج من التقليد الأعمى والمشي خلف الآخرين برأس مخفوض تساق إلى حيث لا تدري، إنّ أولئك الأفراد الذين يقومون ـ من أجل الوصول إلى هدفهم ـ بإغناء نفوسهم، وإشباع فطرتهم، مبتعدين عن الشعارات الفارغة والدعايات الظاهرية والمصالح الدنيوية لزيدٍ وعمرو، ويريدون أن يعثروا على طريق النجاة لأنفسهم بعيداً عن دنيا الآخرين، هؤلاء هم الذين يشقّون طريقاً نحو واقعية صاحب الزمان أرواحنا فداه، ونحو باطنه وقلبه وروحه، هؤلاء الأفراد وهؤلاء الأشخاص هم من ينالون ذلك! ولا علاقة لهذا الأمر بالظاهر، بل ربّما يكون ظاهر هذا الإنسان ليس مناسباً جداً، فلا ضير في ذلك أبداً! فحال الإنسان لا ينصلح بالظاهر، والظاهر لا يكفي لذلك، بل بالقلب والواقع تُظهِر تلك الحقيقة نفسها.
إنّ كلّ الأخطاء والمخالفات التي صدرت منذ زمان آدم عليه السلام وحتّى يومنا هذا، وما سيصدر أيضاً، كلّها إنّما فُعلت بواسطة ظاهرٍ مناسبٍ! كلّ مخالفة كذلك؛ لأنّ أحداً لا يقدر أن يرتكب الخطأ والمخالفة بظاهرٍ غير مناسب، فالظاهر غير المناسب لا يصلح للخداع، ولا يمكن لأحد من خلاله أن يجذب الأفراد إليه، فلا بدّ أن تكون الوسيلة ذات ظاهر مناسب.
بناءً على ذلك، فإنّ ذلك التوقّع [الصحيح] الذي ينبغي يكون لدى الإنسان من الطريق الذي يسلكه ومن اتّصاله بالله تعالى، ذلك التوقّع الذي بدأ يظهر في باطنه، ذلك التوقّع قد بدأ يتشكّل ويظهر بالتدريج، وهذه بشارةٌ، بشارةٌ بأنّه رغم جميع هذه الأوضاع والأحوال، وعلى الرغم من جميع هذه المشاكل والاضطرابات، وعلى الرغم من جميع ما نرى من المسائل المؤلمة في جميع نقاط العالم وفي كل زاويةٍ منه، وفي المجتمعات المختلفة، لكنّ هذه الواقعيّة تظهر نفسها تدريجًا على شكل أرضيّة نورانيّة وعلى شكل فطرة [سليمة] وعلى شكل رأس مالٍ مناسبٍ لتحرّك الإنسان، والأمور تتحرّك بالاتّجاه الذي يساعد على ظهور الإمام عليه السلام، وإلّا فما الفرق بين الإمام عليه السلام وبين آبائه الطاهرين عليهم السلام؟! لماذا ينبغي على الإمام أن يظهر بعد ألف سنة أو ألفي سنة أو ثلاثة آلاف سنة، ما هو السبب، ما الفرق بين الإمام وآبائه؟ الفرق هو أنّ هذا الاستضعاف كان موجودًا في زمن الأئمّة عليهم السلام من الناس حولهم باستثناء أولئك الأفراد الخاصّين الذين كانوا موردًا للعناية الخاصّة من قبل الأئمّة عليهم السلام، أمّا باقي الأفراد فلم يكونوا يرون للإمام ذلك المقام الحقيقي الذي له! نعم يرونه أنّه فردٌ صالحٌ وعالمٌ، فدعونا نستفيد منه.
لقد كنّا نشاهد نفس الأمر في زمن المرحوم الوالد قدّس سرّه حيث كان هناك مجموعة من الأفراد الذين كانوا يأتون لزيارته وحضور مجالسه، وكانوا عندما يأتون، كانوا يأتون مع كامل السرور البهجة لأنّهم وفّقوا للقاء به، ولكن في نفس الوقت كانوا يذهبون للحضور في مجالس أفراد آخرين ممن منهجهم يخالف منهج العلامة قدّس سرّه مئة بالمئة، فكانوا يسألون أسئلتهم لكلا الطرفين، ويسمعون نصيحة الطرفين، وكانوا يفرحون بكلا المجلسين، فكانوا يسرّون أنّهم صلّوا خلف العلامة الطهراني، وأنّهم التقوا به، ولكن السؤال هو: ما هي النتيجة والأثر اللذان سيُتركان في هؤلاء الأفراد بهذا اللقاء؟ هؤلاء الأفراد لم يشعروا بالحاجة والافتقار، دين هؤلاء شبيه بدين المسيحيّة واليهوديّة، رتبتهما في نفس الرتبة، غاية الأمر أنّ أولئك مسيحيّون يذهبون إلى الكنيسة، وهو يذهب إلى المسجد، ذلك يبني المعبد والكنيسة، هو يبني الحسينيّة، هو يشكل جلسته بنحو معيّن، هذا يشكّل جلسته بظاهر إسلامي، لكنّ رتبتهما الفكريّة والاعتقاديّ واحدةة، وإلّا لو وصل إلى هذه النقطة، وأدرك هذا الأمر: وهو أنّ حقيقة عالم الوجود هي الإمام، وأنّ أصل وأساس الوجود هو الإمام [لما كان هذا حاله].

    

حقيقة صاحب العصر والزمان ودوره في عالم الوجود

هل تعرفون ما معنى أنّ اليوم هو يوم ولادة الإمام عليه السلام؟ يعني: أنّ ذلك الشخص وتلك النفس، وتلك الذات، وذلك الوجود، الذي يحقّق المشيئة الإلهيّة في هذا العالم وفي جميع ذرّات عالم الوجود، سواءً عالم المادّة أم عالم المعنى.. ذلك الشخص قد ولد اليوم.
نحن نذهب الآن لزيارة الإمام الرضا عليه السلام، ونتوسّل بالإمام عليه السلام،‌ لكي يحقّق لنا حاجاتنا، ولكن اعلموا أنّ الذي يحقّق حاجاتنا في الواقع، ليس الإمام الرضا،‌ بل إمام الزمان عليه السلام، ونحن نذهب لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وآله، وهناك نسلّم عليه: "السلام عليك يا رسول الله، أودعت لديك حاجتي وطلبتي و…"،‌ فنطلب حاجاتنا المادّية والمعنويّة، وإذا بهذه الحاجات تتحقّق وطلبتنا تستجاب، ومشكلاتنا ترفع، فمن الذي حقّق هذه الحاجات؟ ليس النبيّ الأكرم، بل هو إمام الزمان عليه السلام، هذه هي حقيقة مسألة الإمامة. وكذا أيّ إمام نتوسّل به، فإنّ الذي يجيب حاجاتنا هو إمام الزمان عليه السلام، بل حتّى لو توسلنا بالله، حتّى في التوسّل بالله، حينما نقول: إلهي حُلّ المسألة الفلانيّة، ارفع عنّا المشكلة الفلانيّة، اشفي لنا هذا المرض،‌ ادفع عنا هذا الدين،‌ حتّى حينما نطلب المسائل المعنويّة …، نحن نطلب هذه الطلبات من الله، ولكن الذي ينفذ هذه الطلبات بإذن الله، وتلك النفس التي تقضي لنا حاجاتنا، من هو؟ هو الواسطة بيننا وبين الله، وهو إمام الزمان عليه السلام، هو يقوم بكلّ شيء تقضي به المشيئة الإلهية، يعني: نحن عندما نقول أنّه واسطة عالم الوجود، فنحن لا نرمي الكلام على عواهنه،‌ كلامنا ليس من باب المبالغة أو قلّة الدراية، نسمعهم يقولون هنا وهناك: هو الواسطة، هو واسطة عالم الوجود، هو واسطة … ، فما معنى الواسطة؟ الواسطة تعني تلك الحقيقة التي تتجلّى بها جميع إرادة الله في عالم الدنيا، التي تتنزّل بها، فتلك الإرادة والمشيئة التي ينبغي أن تتحقّق في عالم الدنيا، ما هي؟ هي نفس هذا الإمام.
بناءً على ذلك إذا أردنا أن ننظر إلى إمامنا انطلاقًا من هذه النظرة، عندها فهل يمكن لنا أن نتصوّر وسيلةً أخرى بعد ذلك؟! أصلًا هل يمكن لوسيلة أخرى أن توجد؟! إنّ الخطأ الذي وقعنا به حتّى الآن هو هذا الأمر! فنحن نتخيّل أنّ فلان له القدرة الفلانيّة، وفلان عنده العلم الفلاني، وفلان لديه المقام الفلاني، وفلان له من الشعبيّة بعدد كذا... يا عزيزي، إن كانت هذه الجموع موجودة اليوم، فاعلم أنّها لن تكون موجودةً غدًا! إذا أردنا أن ننظر إلى الحشود والأعداد، فاعلموا أنّ الجموع تأتي وتذهب، أليس هذا ما يحصل كلّ يوم؟! إذا أردنا أن ننظر إلى إقبال هذا وذاك، فهو يأتي في يومٍ ويذهب في يومٍ آخر! إذا أردنا أن ننظر‌ إلى الوسائل والعلل الماديّة والظاهريّة، فجميع هذه الوسائل تتعطّل وتسير نحو الفناء والبوار، أمّا تلك الحقيقة التي نسيناها حتّى الآن فهي صاحب العصر والزمان، نعم، نحن نأتي على ذكر اسمه بالظاهر كواحدٍ من الأمور الأخرى التي نجريها على ألسنتن (وقد ضربت لكم بعض الأمثلة)، فنحن بالظاهر نحتفل بمولده، ونضيء الأنوار، ونأتي على ذكر اسم ذلك الوجود المقدّس، ولكن ما الذي يجري ويحصل في باطننا، هل إمام الزمان موجودٌ في باطننا؟ هل نعتقد واقعًا بيننا وبين الله أنّ الإمام عليه السلام هو حقيقة الوجود؟ هل نرى الأمور هكذا؟
لقد قال لي المرحوم العلامة رضوان الله عليه: فلان، هل تعلم لماذا ألّفت كتاب "معرفة الإمام" ذو المجلّدات الثمانيّة عشر؟ ألفته لأنّني رأيت أنّه لا حضور للإمام عليه السلام بين الناس، الناس لا يعرفون شيئًا عن الإمام، الناس لا اطلاع لديهم على وظيفة الإمام،‌ لا يعرفون مسؤوليّة الإمام، لا يعرفون مقامه الواقعي.
الآن لو أخذنا الإمامَ من التشيّع، فما الذي سيحصل؟ سنصبح مثل البقيّة، لو أخذ مقام الإمام من هذا الدين ومن هذا التشيّع، فماذا سيحصل؟ نحن نعني بمقام الإمام هو حقيقة الاتصال بالله عزّ وجلّ، حقيقة ربط الإنسان بالله ، فهذه الصلاة التي تصلّونها الآن، في هذه الصلاة التي تتوجّهون بها نحو الله، والتي تنفون فيها الخواطر عن أذهانكم، هذه الحالة التي حصلت لكم في الصلاة، هل تعلمون كيف حصلت وبيد من حصلت لكم؟ بيد إمام الزمان، وهذا لكل فردٍ فردٍ منكم.‌
يعني نفس الارتباط بيننا وبين الله عزّ وجلّ إنمّا يحصل بواسطة الإمام، وبدون الإمام ليس لنا أي ارتباط، عندها سنكون "شمرًا" كذلك الـ "شمر" ، وسنكون "يزيدًا" كذلك الـ "يزيد" ، إذا انقطع هذا الاتصال سنصبح كظَلَمَة التاريخ، أمّا إذا وُجد هذا الاتصال، فسنصبح مصداقاً لتلك الواقعيّة التي يرضى الله عزّ وجلّ عنها، حيث يقول: نعم هذا هو الصحيح، وهذا ما أرتضيه.‌
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي‏ وَ رَضيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ ديناً} المراد بذلك هو الإمام، أي: اليوم فقط أصبح هذا الدين موردًا لرضايَ، وصار هذا الدين عاكسًا لإرادتي، اليوم فقط! وأيّ يوم كان ذلك؟‌ كان في يوم عيد الغدير، اليوم حتّى صرت أرتضي هذا الدين {وَ رَضيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ ديناً} ، اليوم وصلت إلى تلك الواقعيّة والحقيقة التي أرسلت رسولي من أجلها،‌ فهذه الثلاثة والعشرين سنة التي مضت لم تكن حتّى الآن موردًا لرضايَ، أمّا الآن فقد أصبح موردًا لرضايَ، الآن الدين صار كاملًا، والآن أصبحت تلك الحقيقة الربطية التي ينبغي أن تكون بين العبد وبين الله موجودةً، واليوم ضُغط على زرّ التشغيل لتلك الرابطة، وبدأت المسيرة تخطو خطواتها، واليوم فتح الطريق باتجاهي.

    

أهميّة الحقيقة الواقعيّة للإمام عليه السلام

هذا المعنى الذي ينبغي أن نصل إليه، وإذا وصلنا إلى هذا المعنى، فذلك الزمان هو زمان ظهور إمام الزمان عليه السلام، يعني: إذا وصلنا إلى تلك النقطة التي لا نجد لأيّ مظهرٍ من هذه المظاهر التي كنّا ومازلنا نعتني بها إلى الآن من العلل والأسباب الماديّة التي في هذه الدنيا، من الطاقّة، من القوّة من السُلطة...، عندما تفقد جميع هذه الأمور قيمتها عندنا وتفقد موقعيّتها كواسطة عندنا، وعندما نفهم واقعًا أنّ أيدينا خالية وأنّنا فقراء،‌ وعندما نفهم واقعًا أنّ جميع هذه الأمور لا تستطيع أن تبدّل أو تغيّر ذرّة من مشكلاتنا: من مشكلاتنا الروحيّة أو الظاهريّة، وعندما ندرك أنّ هذه المشاكل لا يمكن أن تحلّ إلّا بواسطة الإمام الحيّ ووليّ عالم الإمكان.. عندها عندما نفهم ذلك فهمًا واقعيًَّا، فلن يكون لأيّ شيءٍ آخر أيّ لونٍ أو طعمٍ.
عندما نفهم هذه القضيّة وهذه المسألة، عندها يأتي الزمان الذي يُظهر فيه الإمام نفسه لنا، [وكأنه يقول لنا: ] هل وصلتَ إلى هذه النقطة؟ الآن هل فهمتَ أنّ هذه العلل والأسباب الظاهريّة لا تستطيع أن تقوم بشيء؟ هل فهمت الآن أنّه لا يمكن لأيّ شيء أن يأخذ مكاني؟ هل وصلتَ إلى ذلك أم لم تصل؟ إذا لم تصل، فعليك أن تصبر أكثر، وعندما تصل إلى هذه الحقيقة، فلماذا يبقى الحجاب، حينئذٍ سأظهر.
لقد سمع هذا العبد بنفسه من أحد الأشخاص الذين كانوا يؤمّون صلاة الجمعة،‌ وقد توفي الآن، سمعته هنا في قم،‌ وكنت حاضرًا آنذاك في صلاة الجمعة حيث شاركت بالصلاة، في ذلك الزمان في أوائل الثورة...،‌ كان يقول: "لو أنّ صاحب الزمان عليه السلام يظهر، فإنّه سيقوم بنفس ما نقوم به!" أنا سمعت ذلك بنفسي.
واعجباه! حسنًا، جيّد جدًا، إن كان الأمر كذلك، فلماذا يظهر إمام الزمان؟! لماذا يتعب نفسه، فأنت قد وضعت نفسك مكان إمام الزمان، سيقول: إذا كنتم تقومون بما أقوم به، فلماذا أتعب نفسي وأظهر؟! أنتم تديرون البلاد، وترسون العدالة، وتقيمون النظام، وتدبّرون كلّ شيء في كلّ مكان، فبحمد الله كلّ شيء يمضي نحو صلاحه، ولا مشكلة لديكم، فلماذا أظهر؟ العاقل لا يظهر في هذه الحالة! لو أنّ شخصًا قال‌: أنا سأحمل هذا الحِمل، فلماذا آتي وأقول: لا، انتظر أنا أريد أن أحمله! بل دعه يحمله وما شأني أنا، أليس كذلك؟
لكن في الواقع هذا الكلام كلّه خطأ، واشتباهٌ في الفهم، لقد فهمنا خطأً، وقد أخطؤوا فيما قالوه لنا، نحن ننظر‌ إلى إمام الزمان على أنّه فردٌ عاديّ مثل بقيّة الأفراد، مثل بقّية الأفراد الذي تعاقبوا على السلطة، والذين جاؤوا وذهبوا وبعضهم قام بأعمال جيّدة، إنّنا لا نعلم أنّ تلك الحقيقة المباركة قد سيطرت على كلّ وجودنا ، وهي ما وراء فكرنا، وما وراء نيّتنا، وما وراء قصدنا، وما وراء الأمور التي نعتقد أنّ فيها صلاحنا، فهل الصلاح الذي نعتقد أنّه صلاحٌ لنا هو في الواقع صلاحنا؟ مثلًا: الآن أنا أعتقد أنّ العمل الفلاني من صلاحي، نسألك: كم هي الأمور التي كنت تعتقد أنّها من صلاحك، ثمّ تبيّن بعد ذلك أنّها منافية لصلاحك كلّيًا؟ كم اعترفنا باشتباهاتنا؟ كم اعترفنا، ها؟‌! إذن فمن المعلوم أنّ هذا الذي كنّا نقول أنّ فيه مصلحتنا لم يكن من مصلحتنا! ولكن هو عندما يأتي، سيقول لنا: قم بالفعل الفلاني، ينبغي أن تفعل كذا،‌ فنأتي ونقول: يا بن رسول الله أنا أعتقد أنّ الأمر الفلاني هو صلاحنا، سيقول لنا: من الذي يشخّص الصلاح، أنا أم أنتم؟‌! هنا ينبغي أن نطيع، وأن نقول:‌ الأمر ما تأمر، حاضر، على العين والرأس.
إذن لا نقول: "حاضر، على العين والرأس" إلّا مقابل شخصٍ واحدٍ فقط! أمّا باقي الأفراد، فنقول: لماذا؟ وما الدليل؟‌ نقول لفردٍ واحدٍ فقط: أمرك مطاع، حاضر؛ لأنّه يعلم ما وراء فكرنا وما وراء نيّتنا، وما وراء مصلحتنا! ولو كان كالبقيّة، لكان ينبغي أن نقول له كذلك: لماذ؟ ولعلّ! المنطق واحدٌ في جميع المواطن، والعقلانيّة واحدةٌ في جميع المواطن، ولا اختلاف في هذا الأمر عن سائر المسائل.

    

نصيحة لطلاب العلم بمناسبة التعميم: اهتموا بتغيير الباطن قبل الظاهر

اليوم هو كسائر أيام النصف من شعبان السابقة، في السنوات السابقة، حيث وفّق الله عزّ وجل مجموعة من الأصدقاء ولله الحمد لأن يلبسوا لباس العلم ولباس التبليغ.. لباس المعنويّة، يعني: هم لا يريدون فقط أن يبرزوا بهذا اللباس في الظاهر، فهذا الظاهر ليس بالأمر المهمّ، ففي الخارج الإنسان يلبس هذا اللباس وفي المنزل ينزعه ويلبس لباسًا آخر، ولبس اللباس لوحده، لا يغيّر من حقيقة الأمر شيئًا، ولا يحلّ المشكلة، وبلبس اللباس لا يتغيّر الفكر، ولا تبدّل النيّة! هل تتغيّر؟ حسنًا نحن نرى ونشاهد!! لو كانت تتغيّر، لما كان ينبغي أن نرى معصية وأمرًا خاطئًا يصدر من معمّمٍ قط، لم يكن أن نرى أنّ هناك مشكلةً ما! فمن الواضح أنْ ليس الأمر كذلك، فاللباس لا يغيّر من الواقع شيئًا، وهذا الأمر ينطبق على جميع الألبسة، فالمريول الأبيض الذي يلبسه الطبيب، لا يغيّر نيّة الطبيب! ما يتغيّر هو اللباس فقط، أمّا النيّة فموطنها في الداخل وفي الباطن، هل يطلب رضا الله في نيّته أم يطلب الجنبة الإقتصاديّة؟ هل في باطنه رضا الله أم المسائل المادّية؟ هل رضا الله في الداخل أم المسائل النفسانيّة والشهوانيّة؟ وهذه هي حقيقة اللباس الظاهري.
هل ترون هذه العباءة، هذه العمامة، إنّها تغيّر فقط المظهر الخارجي، وشكل اللباس فقط، وبتغير اللباس لا يتصحّح ما في باطننا، ومن أجل هذا الأمر ينبغي أن نفكّر، وعلينا جميعًا أن نفكّر، وخصوصًا أولئك الذين يريدون أن يظهروا إلى الناس بلباس رسول الله، ينبغي أن ننظر: ماذا يُتوقّع ممن يمثّل الله، وصاحب العصر الزمان، والنبيّ صلى الله عليه وآله، والأئمّة والمعصومين؟ يتوقّع ممن يلبس هذا اللباس ما يتوقّع منهم،‌ ونفس النيّة التي لديهم، ونفس تلك الغاية التي يرومون إليها.
طبعًا قد لا يستطيع أن يكون كذلك مائةً بالمائة، ففي النهاية هناك اختلاف كبيرٌ جدًا بين أن يأخذ الإنسان دستوراته من الإمام مباشرةً وبين أن يأخذها من واسطة، ولكن على كل حال {وَ الَّذينَ جاهَدُوا فينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا}[8] نفتح لهم طريقنا، وعندما نكون ممن نرى أنّ لإمام الزمان عليه السلام هذا المقام وهذه الموقعيّة، فهل يمكن أن نقول: إنّه غافلٌ عن تصرّفاتنا؟‌! هل يمكن أن نقول ذلك؟ إنّه غافلٌ عن نوايانا؟ غافلٌ عن طريقنا ومسلكنا؟‌ لا الأمر ليس كذلك.
إذا لبسنا اليوم هذا اللباس،‌ وإذا تزينّا بهذه الزينة وتتوجنا بتاج الملائكة كما ورد في بعض الروايات التي تصرّح بهذا الأمر، فإنّنا نقوم بهذا الأمر أوّلًا لأنفسنا،‌ من خلال التقيّد بهذا القيد، ومن خلال هذا الإحساس الذي يحصل في داخلنا،‌ حيث نرى في أنفسنا أنّنا صرنا نظهر من خلال لباسٍ كهذا اللباس،‌ وهو لباسٌ يختلف عن باقي الألبسة، وبالتالي ينبغي أن يختلف تصرّفنا نحن أيضًا عن باقي الأفراد، فكرنا ينبغي أن يكون ذلك الفكر الذي يرتضيه[صاحب الزمان عليه السلام]،‌ مسيرنا ينبغي أن يكون ذلك المسير الذي يرتضيه هو، لا ينبغي علينا أن نفكّر بالمسائل المختلفة إلّا بعين الإنصاف، لا ينبغي أن نضع مصالحنا أوّلًا نصب أعيننا ثمّ ننظر للأمور [بل ينبغي أن يكون الحقّ نصب أعيننا] ، ينبغي أن نكون في علاقاتنا مع الناس بذلك النحو الذي يتوقعه منّا وليّ نعمتنا،‌ وهذه المسألة مسألةٌ مهمّةٌ، فإنّ ما يبحث عنه الناس الآن، وخصوصًا المجتمع الشيعي، هو هذا الأمر، وهو أن نضع الظاهر والقشر جانبًا، لقد بدؤوا يزيلون ما كان يشغل فكرهم حتى الآن.. ذاك الذي كان يسوقهم إلى هنا وهناك، بدؤوا يزيلونه بالتدريج، نعم لا شكّ أنّ هناك بعض التصرّفات التي تحصل هي تصرّفات خاطئة، وليست جيّدة، ولكن هناك حقيقة مخفيّة عند الناس خلف هذا الأمر، وبدأت هذه القشور تنفتح ليظهر ما وراءها، وفي النهاية لن يبقى الأمر هكذا، ينبغي أن يتحرّك العقل ويخرج إلى الخارج، ويظهر نفسه إلى العلن،‌ ينبغي على الناس أن يتوقّفوا عن النظر إلى فلان وفلان وإلى هنا وهناك، ينبغي أن لا يرتّبوا أثرًا على كلّ ما يقال لهم من أيّ شخصٍ.
هكذا شخص يقول اليوم كلامًا ثمّ يتنكّر له في اليوم التالي كأنّه غير مسؤول عمّا قال، بهذه السهولة! يا عزيزي إن كان الأمر كذلك، لم يكن ينبغي لك أن تقول ذلك! أنت يا من لا يتحمّل مسؤوليّة كلامه، لماذا قلت ما قلت؟ لماذا سرت في هذا الطريق؟! لماذا حرفتَ مجموعة من الناس عن جادة الصواب.
يجيب: نحن لا نعلم الغيب وإلى ما ستؤول إليه الأمور، نقول له: نحن نعلم أنّك لا تعلم الغيب،‌ وهنا السؤال، فطالما لا تعلم الغيب،‌ فلماذا تصديت لهذا الأمر؟! إمّا أنّك تدّعي علم الغيب، فتفضّل بسم الله، هذا الفرس وهذا الميدان، ولكن لما كنت لا تعلم الغيب، فلماذا قلت ما قلت؟! ولماذا أضللت مجموعة من الناس خلفك؟! لماذا وقع مجموعة من الناس بسببك أنت في الخطأ والاشتباه؟! كان عليك أن تسكت وأن لا تتكلّم.
هذا الواقع الذي عرضناه، بدأ يظهر رويداً رودياً للناس من خلال تجاربهم العمليّة، وصار عليهم أن يحرّكوا أدمغتهم قليلًا، ينبغي أن يتعقّلوا وأن يزيدوا فهمهم ومدركاتهم، فما معنى أن يطيعوا كل شخصٍ يتكلّم؟! كل من قال لهم: افعل كذا.. قالوا: حاضر، بسم الله.. ، إن كان جوابك "حاضر" من دون التأّمل والتفكير، فعليك أن تحصد ما زرعت، طالما أنّ قاعدتك أن تصدّق كل ما يقال بدون دليل، وتطيع كل أمر بدون دليل، فحسنٌ جدًا، عليك أن تتحمّل تبعات ذلك أيضًا.
إنّ حياتنا ينبغي أن تكون حياة التجربة والتحقيق، حياة العقل، فذلك العقل الذي منحه الله للبعض، مُنح لنا أيضًا، لماذا ينبغي أن نصدّق أنّ الله خلق البعض عاقلين فقط دون غيرهم، من قال هذا الكلام؟‌ من قال هذا الكلام؟! يوم القيامة سيُسأل كلّ فردٍ فردٍ، فإذا قلنا: قالوا لنا كذا…، سيقول الله: ألم أعطكم العقل، فلماذا لم تستخدموه؟! لماذا لم أخلقكم بقرةً؟ لماذا خلقتكم على رجلين؟ إن كنت خلقتكم برجلين [يعني خلقة البشر] فعليكم أن تجيبوا؟ تلك البقرة ليس لديها جواب، ذلك الحمار ليس عنده جواب،‌ أمّا أنت فينبغي أن يكون لديك جواب. فلو أجبت: هكذا قالوا لي… ،‌ سيقال: وأنت ما رأيك بما قيل؟ وإن قلت: هكذا أفهموني الأمر، سيقال: أنت أين فهمك، وماذا فهمت؟ ماذا فعلت بدماغك،‌ هل دسسته في التراب؟ أم أنّك أبقيته عاليًا؟‌ لو أعملت هذا العقل، لما كنت وصلت إلى هنا. لماذا دسسته تحت التراب؟ لماذا قبلت بكلّ ما قيل لك؟! لماذا مضيت في كلّ طريقٍ قيل لك أن تمضيه؟! لماذا؟! ولا أوضّح أكثر من ذلك!
في جميع أعمالنا التي نقوم بها، وفي جميع القرارات التي نقررها ينبغي أن نعلم أنّنا سنحاسب عليها! لا تقولوا: لم ينبهنا أحدٌ! نعم، لو أنّنا فكّرنا فاشتبهنا، فلا مشكلة، حينئذٍ لن يؤاخذنا الله! فنحن لسنا بمعصومين، أمّا إذا دسسنا عقولنا في التراب فعلينا أن نجيب عن أفعالنا،‌ ولن ينفع أن نقول: قالوا لنا كذا، وقالوا لنا كذا، وهذا لن يكون تبريرًا أمام الله وملائكته، لا يا عزيزي، إذا شخّصت أنّ ما يقال صادق، فرتّب الأثر عليه، وإذا شخّصت بأنّ ما يُقال كذب! فلا ينبغي أن ترّتب عليه أيّ أثر، أيًا كان الذي قال ذلك الكلام، إذا عرفت الطريق الصحيح، فأنت تسير خلف إمام الزمان، أمّا إذا لم تعرفه، ومع ذلك عملت ومضيت، فاعلم أنّه عندما يظهر الإمام فستكون أنت في الطرف المقابل للإمام عليه السلام.. ذلك الطرف الذي يحاربه، ولن تكون في معسكر الإمام، ولذا يقول الإمام الباقر عليه السلام: (من يتبعنا ويسير في طريقنا ويحيي أمرنا، ويطيع أوامرنا ـ هذا الكلام من الإمام وليس من عندي ـ فلا فرق عنده ظهر القائم أم لم يظهر)[9] ، هذا هو نفس كلام العرفاء، هو نفسه، دائمًا يقولون: الطريق مفتوح دائمًا.
إنّ إمام الزمان الذي يختلف ظهوره عن غيبته لا يساوي "فِلسين"، إنّ إمام الزمان الذي ينبغي أن يظهر حتّى يرى ماذا أريد لا يساوي "فلساً"، إنّ إمام الزمان الذي يحتاج أن يظهر حتّى يفهم أين هو وجعي، فهو لا يساوي "فلساً"، أمّا إمام الزمان الذي له قيمة، فهو الواسطة بيني وبين الله سواءً زمن الظهور أم زمن الغيبة، لا يختلف حاله إن كان كالإمام موسى بن جعفر عليه السلام حينما كان غائبًا في السجن، ولا إن كان على رأس الحكومة كأمير المؤمنين عليه السلام عندما كان حاكمًا، فلا فرق للإمام بين سجن الإمام موسى بن جعفر، ولا بين حكومة أمير المؤمنين، ولا حتّى بمقدار رأس الإبرة، وإذا كان هذا هو إمامنا، فالطريق إذن مفتوحٌ لنا دائمًا.
نسأل الله أن يوفقنا دائمًا أن نسير في طريق الإمام عليه السلام، وأن يزيد أفهامنا للمباني وللأمور التي توصلنا إلى تلك الحقيقة، وأن يعرّفنا ويظهر لنا تلك الحقيقة الواقعيّة للإمام عليه السلام دائماً، بحيث يكون الإمام أمامنا أولاً قبل كلّ أوّل في كلّ مسألة وأمر من الأمور، فإذا كان لدينا القوّة لا ننظر إلى القوّة، بل ننظر إلى الإمام، نرى الإمام بجانبنا دائمًا سواءً كانت لدينا القوّة أم لم تكن! لأنّنا نكون قد وصلنا إلى الأصل، وعندما يصل الإنسان إلى الأصل فلا يعتني بعد ذلك لمسدسين هنا أو ورقتين من العملة هناك! إذا كان الأصل بجانبه، فسيكون جميع نظره منصبًا إليه ومنحصرًا به، وهو عندما يرى أنّنا هكذا ننظر للأمور، فإنّه سيجعلنا بجانبه، وإذا لم تجرّبوا هذا الأمر بعد، فمن الآن صاعدًا فعليكم أن تجرّبوه [يبتسم سماحة السيّد]، وسترون بأنفسكم هل ما نقوله هو الحقّ أم لا؟ إن شاء الله هو الحقّ.
اللهم إن نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد


[1] ـ سورة القصص، الآيتان 5 و 6.

[2] ـ سورة ق ، قسم من الآية 17.

[3] ـ سورة البقرة (2)، من الآية 253.

[4] ـ نص الرواية هو: عن المفضل بن عمر ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وآله نظر إلى علي والحسن والحسين عليهم السلام فبكى وقال : أنتم المستضعفون بعدي . قال المفضل : فقلت له : ما معنى ذلك يا ابن رسول الله ؟ قال : معناه أنكم الأئمة بعدي ، إن الله عز وجل يقول : " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة. (معاني الأخبار، ص 79)

[5] ـ كمال الدين وتمام النعمة، ص 425.

[6] ـ [الكافي] عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ اَلنَّوْفَلِيِّ عَنِ اَلسَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ ع قَالَ: قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وآله: إِنَّ اَلْمَلَكَ لَيَصْعَدُ بِعَمَلِ اَلْعَبْدِ مُبْتَهِجاً بِهِ فَإِذَا صَعِدَ بِحَسَنَاتِهِ يَقُولُ اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ اِجْعَلُوهَا فِي سِجِّينٍ إِنَّهُ لَيْسَ إِيَّايَ أَرَادَ بِهِ
و في [الكافي] عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَالِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ ع يَقُولُ قَالَ اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ مَنْ أَشْرَكَ مَعِي غَيْرِي فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لَمْ أَقْبَلْهُ إِلاَّ مَا كَانَ لِي خَالِصاً.

[7] ـ صدر الآية 61 من سورة النمل.

[8] ـ سورة العنكبوت، الآية 69.‌

[9] ـ في الكافي: عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ ولَيْسَ لَهُ إِمَامٌ، فَمِيتَتُهُ مِيتَةُ جَاهِلِيَّةٍ ؛ ومَنْ مَاتَ وهُوَ عَارِفٌ لِإِمَامِهِ، لَمْ يَضُرَّهُ تَقَدَّمَ هذَا الْأَمْرُ أَوْ تَأَخَّرَ؛ ومَنْ مَاتَ وهُوَ عَارِفٌ لِإِمَامِهِ، كَانَ كَمَنْ هُوَ مَعَ الْقَائِمِ فِي فُسْطَاطِهِ ».
و عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وتَعَالى‏:«يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ» فَقَالَ: «يَا فُضَيْلُ، اعْرِفْ إِمَامَكَ؛ فَإِنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ إِمَامَكَ، لَمْ يَضُرَّكَ تَقَدَّمَ هذَا الْأَمْرُ أَوْ تَأَخَّرَ؛ ومَنْ عَرَفَ إِمَامَهُ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ صَاحِبُ هذَا الْأَمْرِ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ قَاعِداً فِي عَسْكَرِهِ؛ لَا، بَلْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَعَدَ تَحْتَ لِوَائِهِ».
وللمزيد في توضيح هذا الموضوع، راجع محاضرة النصف من شعبان لعام 1432: الميتة الجاهليّة بين الماضي والحاضر

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی <-- -->