_______________________________________________________________
هو العليم
قصّة الرجل العجوز و هارون و الأمل البعيد
_______________________________________________________________
 |
قيل إنّ هارون الرشيد قال يوماً لخواصّه و ندمائه: أرغب أن أزور شخصاً قد تشرّف بإدراك الرسول الأكرم (صلّى الله عليه و آله) و سمع منه حديثاً، لينقل لي عنه بلا واسطة. و باعتبار أنّ خلافة هارون كانت سنة مائة و سبعين هجريّة، فقد كان من الجلي ـ مع هذه المدّة الطويلة ـ أنّ أحداً لم يبقَ من زمن النبي، و إن وجد فإنّه سيكون في غاية الندرة. لذا فقد سعى رجال هارون و ملازموه في العثور على شخص بهذه الأوصاف و فتّشوا الأطراف و الأكناف، فلم يعثروا إلّا على رجل عجوز متداعٍ متهالك في غاية الضعف و الوهن، لم يبقَ منه إلّا أنفاس تتردّد في كومة عظام بالية، فوضعوه في زنبيل و جاءوا به إلى بلاط هارون في غاية العناية و أدخلوه عليه فوراً، فسرّ هارون بذلك كثيراً، لأنه شاهد شخصاً أدرك رسول الله و سمع منه. ثم قال له: أيّها العجوز! أرأيت النبي الأكرم؟ قال: بلى. فقال هارون: متى رأيته؟ قال العجوز: أخذ أبي بيدي يوماً في طفولتي واصطحبني إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ثم لم أدرك محضره حتّى رحل عن الدنيا. قال هارون: أفسمعتَ من رسول الله شيئاً ذلك اليوم؟ أجاب: بلى! سمعتُ من رسول الله ذلك اليوم أنّه قال: يَشِيبُ ابْنُ آدَمَ وَ تَشُبُّ مَعَهُ خِصْلَتَانِ: الْحِرْصُ وَ طُولُ الأمَلِ، فسرّ هارون كثيراً بسماعه رواية على لسان رسول الله بوساطة واحدة فقط، و أمر فأعطوا العجوز كيساً من الذهب جائزةً له، ثم أخرج عنه. و حين أرادوا إخراج العجوز من البلاط رفع صوته في أنين واهن ضعيف قائلًا: ردّوني إلى هارون فلدي معه كلام. قالوا: لا إمكان في ذلك. قال: لابدّ من رجوعي إليه، فلديّ سؤال ينبغي أن أسأله منه ثم أخرج. و هكذا أعادوا الزنبيل و فيه العجوز إلى هارون، فقال: ما الأمر؟ قال العجوز: لديّ سؤال. قال هارون: قُلْ. فقال: أيّها السلطان! أعطاؤك الذي تفضّلتَ به علي اليوم لهذه السنة فقط أم هو عطاء يتجدّد كلّ عام؟ فتعالت قهقهة هارون و قال متعجّباً: صَدَقَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله)؛ يَشِيبُ ابْنُ آدَمَ وَ تَشُبُّ مَعَهُ خِصْلَتَانِ الْحِرْصُ وَ طُولُ الأمَلِ. إنّ هذا العجوز لا رمق له، و لم أكن لأظنّ أنّه سيبقى حيّاً حتّى خروجه من البلاط، و ها هو يقول: أهذا العطاء مختصّ بهذه السنة أم انّه عطاء لكلّ سنة. لقد أوصله الحرصُ على زيادة المال و طولُ الأمل إلى أن صار يتوقّع لنفسه عمراً فهو في صدد أخذ عطاء جديد. بلى، هذه هي نتيجة عدم تربية النفس الإنسانية بالأدب الإلهي، ممّا دعى بالحرص و الأمل إلى بسط نفوذهما في وجود الإنسان في طيف واسع متزايد لا حدّ له ليقف عنده.
معرفة المعاد، ج1، ص: 22
|