_______________________________________________________________
ولادة أمير المؤمنين عليه السلام
سماحة العلامة آية الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
رضوان الله عليه
_______________________________________________________________
مقام أمير المؤمنين عليه السّلام
أمّا بالنسبة إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فهو قائد للمعارف الحقّة و صاحب لواء الحمد، و السابق في مراحل التوحيد؛ فقد جاء به الله سبحانه في بيته و حرمه (الكعبة) بعد أن حفظ نوره المقدّس في الأصلاب نسلًاً بعد نسل، من آدم إلى أبي طالب.
اسمه المبارك: علي؛ و كُنيته: أبو الحسن؛ و والده: أبو طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف؛ و أبو طالب أخو عبد الله والد الرسول، و على هذا فإنّه ابن عمّ رسول الله، تجتمع نسبتهما في جدّهما عبد المطلب.
و كان أبو طالب من أكابر أهل مكّة و ممّن خدموا رسول الله، فقد كان يحامي عنه بحيث أنّ أحداً من مشركي قريش لم يستطع أن ينال الرسول بأذى في حياة أبي طالب، و كان أبو طالب يحفظ النبيّ و يحرسه و سائر بني هاشم لمدّة ثلاث سنوات في الشعب المعروف بشعب أبي طالب، و كان يفدي رسول الله بنفسه و يحميه حتى رحل عن هذه الدنيا، و عندها تطاولت الأيادي المتجاوزة و المتجاسرة على رسول الله من قبل المشركين، فأجبر النبيّ الأكرم على الهجرة إلى المدينة.
و كان أبو طالب من المؤمنين الواقعيين و المسلمين الحقيقيين برسول الله[1] ، و أشعاره التي نظمها في مدح رسول الله كثيرة و مثبتة في كتب الأحاديث و التاريخ، لكنّه كان يكتم إيمانه عن قريش لأسباب، من أهمها المحافظة على رسول الله و حراسته، و كان الرسول كثير المحبّة له و كان يخاطبه بـ (أبي).
اسم والدته: فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف؛ و لأنّ أسد كان أخاً لعبد المطلب، لذا فإنّ أبا طالب و فاطمة كانا ابني عمّ بعضهما. و كانت فاطمة بنت أسد والدة أمير المؤمنين من أعلام النساء المسلمات، وهي أوّل امرأة آمنت برسول الله بعد خديجة؛ و كانت تحبّ رسول الله كثيراً، و كان الرسول يخاطبها بـ (أمّي).
فاطمة بنت أسد أمُ أمير المؤمنين عليه السّلام
فاطمة بنت أسد أول امرأة هاجرت من مكّة إلى المدينة:
يقول ابن الجوزي: وَ هِيَ أولَ امْرَأةٍ هَاجَرَتْ مِن مَكَّةَ إلى المدِينَةِ مَاشِيَةً حَافِيةً، وَ هِيَ أولُ امْرَأةٍ بَايَعَتْ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه [و آلِه] وَ سَلم بِمَكَّةَ بَعْدَ خَدِيجَةَ[2] .
و يقول ابن الصبّاغ المالكي: فاطمة بنت أسد، أسلمت و هاجرت مع النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلم، و كانت من السابقات إلى الإيمان بمنزلة الأم من النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلم ... فلما ماتت كفنّها النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلم بقميصه، و أمر أسامة بن زيد و أبا أيّوب الأنصاري فحفرا قبرها، فلما بلغا لحدها حفره رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم بيديه و أخرج ترابه، فلما فرغ اضطجع فيه و قال:
اللهُ الذي يُحْيِي و يميتُ وَ هُوَ حَيّ لَا يموتُ اللَّهُمَ اغْفِرْ لأمِيّ فَاطِمَةَ بِنْتِ أسَدٍ وَ لَقِّنْهَا حُجَّتها وَ وَسِّعْ عَليهَا مُدْخَلها بِحَقِّ نِبِيِّكَ محمّدٍ وَالأنبياءِ الَّذِينَ مِن قَبْلي فَإنَّكَ أرْحَمُ الرَاحِمين[3] .
فقيل[4] : يا رسول الله! رأيناك وضعت شيئاً لم تكن وضعته بأحد
قبلها؟!
فقال صلى الله عليه [و آله] و سلم: ألبستها قميصي لتلبس من ثياب الجنّة، و اضطجعتُ في قبرها ليخفّ عنها من ضغطة القبر، إنّها كانت من أحسن خلق الله صُنعاً إلى بعد أبي طالب رضي الله عنهما و رحمهما[5] .
يقول سبط ابن الجوزي: و كانت وفاة فاطمة بنت أسد في السنة الرابعة للهجرة[6] .
و قد أنجب أبو طالب و فاطمة بنت أسد أربعة أولاد هم بالترتيب: طالب، و عقيل، و جعفر، و على، و كان كلّ واحد منهم أسنّ من الأخر الذي يسبقه بعشر سنين، كما انجبا بنتاً واحدة تسمّى فاختة و تكنى ب (أمّ هاني)[7] .
و ليس هناك من شكّ في أنّ عليّاً عليه السلام ولد في جوف الكعبة بيت الله، و في ذلك يقول السيّد الحميري:
وَلَدتُهُ في حَرَمِ الإله وَ أمْنِهِ ***** وَالْبَيتِ حَيثُ فِنَائُهُ والْمسْجِدُ
بِيضَاءُ طَاهِرَةُ الثِّيابِ كَرِيمةٌ ***** طَابَت وَ طَابَ وَليدُهَا وَالمولِدُ
في ليلَةٍ غَابَت نحوسُ نُجُومِهَا ***** وَ بَدَت مَعَ الْقَمَرِ المنيرِ الأسْعَدُ
مَا لُفَّ في خِرَقِ الْقَوابِلِ مِثلُهُ ***** إلَّا ابنُ آمِنَةَ النَبِيّ مُحَمّدُ[8]
يقول المستشار عبد الحليم الجُندي، أحد أركان المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر في كتابه القيم (الإمام جعفر الصادق) ص 31:
و عليٌّ في كثير من الأمور هو الأوحد، فالنبيّ هو الذي ربّاه، و آخاه، و أعدّه للعظائم فصنعها، و عَهِد إليه في تبليغ آي القرءان... و هي جميعها خصوصيّات لا يرقى رقيّه فيها أحد؛ أما ما لم يشركه فيه بشر فهو ما أجمعت عليه كتب الشيعة و شاركها فيه كثيرون من علماء أهل السنّة منذ القرون الأولى ـ كالمسعودي و الحاكم و الكنجي ـ حتى القرون الحديثة ـ كالآلوسي ـ و هو أنَّ عَليا وُلِدَ بِالْكَعْبَةِ.
كما يقول عبد الباقي العمري في هذا الشأن:
أنَتَ العَليّ الذي فَوقَ العُلى رُفِعَا ***** بِبَطنِ مَكّةَ وَسط الْبَيتِ إذ وُضِعا[9]
و يقول الحاكم النيسابوري: لَم يُولَدْ في جَوْفِ الْكَعْبَةِ قَبْلَ عليّ وَ لَا بَعدَهُ مَوْلُودٌ إكرامًا لَهُ وَ إجلالًاً لِمَحلِّهِ.
كما يقول ابن الصبّاغ المالكي: وُلِدُ عليّ عَليه السلام بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ بِدَاخِلِ الْبَيتِ الْحَرَامِ في يَومِ الْجُمُعَةِ الثَّالِثِ عَشَرَ مِن شَهْرِ اللهِ الأصمِّ، رَجَبِ الْفَردِ سَنَةَ ثَلاثِينَ مِن عَامِ الْفِيلِ، قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثلاثٍ و عِشرِينَ سَنَةً، وَ قِيلَ بِخَمْسٍ وَ عِشرِينَ، وَ قَبْلَ الْبَعثِ بِاثنَتَي عَشَرة سَنَةً، وَ قِيلَ بِعَشرِ سِنين، وَ لم يُولَد في الْبَيتِ الحرامِ قَبْلَهُ أحَدٌ سِوَاهُ، وَ هِيَ فَضِيلَةٌ خَصَّهُ اللهُ تعالى بها إجْلالًا لَهُ وَ إعْلَانَاً لِمَرتَبَتِهِ وَ إظْهَارًا لِتَكْرمَتِهِ، وَ كَانَ عليّ هَاشِمِيًّا مِن هَاشِمِيّينِ وَ أوَّل مِن وَلدَهُ هَاشِمُ مَرَّتَينِ[10] و[11] و[12] .
كيفيّة ولادة أمير المؤمنين عليه السّلام في الكعبة
أمّا في كيفيّة ولادته فقد ورد أنّه:
أتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أمّ أمير المؤمنين عليه السّلام، و كانت حاملة بأمير المؤمنين عليه السلام لتسعة أشهر، و كان يوم التمام، قال: فوقفت بإزاء البيت الحرام و قد أخذها الطلق، فرمت بطرفها إلى السماء وقالت: أي ربّ، إني مؤمنة بك و بما جاء من عندك الرسولُ، و بكلّ نبيّ من أنبيائك، و بكلّ كتابٍ أنزلتَه، و إنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل وأنّه بنى بيتك العتيق. فأسألك بحقّ هذا البيت و مَن بناه، و بهذا المولود الذي في أحشائي الذي يكلمني و يؤنسني بحديثه، و أنا موقنةٌ أنّه إحدى آياتك و دلائلك لما يسّرتَ على ولادتي.
قال العبّاس بن عبد المطّلب و يزيد بن قعنب (و كانا يشهدان ذلك): لما تكلّمت فاطمة بنت أسد ودعت بهذا الدعاء، رأينا البيت قد انفتح من ظهره (في موضع المستجار) و دخلت فاطمة فيه و غابت عن أبصارنا، ثم عادت الفتحة و التزقت بإذن الله (تعالى)، فرُمنا أن نفتح الباب ليصل إليها بعضُ نسائنا فلم ينفتح الباب، فعلمنا أنّ ذلك أمر من أمر الله (تعالى).
و بقيت فاطمة في البيت ثلاثة أيّام. قال: و أهلُ مكّة يتحدّثون بذلك في أفواه السكك و تتحدّث المخدّرات في خدورهنّ.
قال: فلما كان بعد ثلاثة أيّام انفتح الباب من الموضع الذي كانت دخلت فيه، فخرجت فاطمة و عليّ على يديها [و هي تقول: مَن مثلي يلد ولداً كهذا في جوف الكعبة؟!][13] .
و أمّا ما نقله ابن الصبّاغ المالكي عن كتاب المناقب لأبي العالي الفقيه المكّي فهو:
روى خبراً يرفعه إلى عليّ بن الحسين [عليهما السلام] انّه قال: كنّا عند الحسين (رض) في بعض الأيّام و إذا بنسوة مجتمعين فأقبلت امرأة منهنّ علينا، فقلتُ لها: مَنْ أنتِ يرحمك الله؟ قالت: أنا زيدة ابنة العجلان من بني ساعدة.
فقلتُ لها: هل عندك من شيء تحدّثينا به؟! قالت: أي والله، حدّثتني أم عمارة بنت عبادة بن فضلة بن هالك بن عجلان الساعدي إنّها كانت ذات يوم في نساء من العرب، إذ أقبل أبو طالب كئيباً حزيناً، فقلتُ له: ما شأنُك؟ قال: إنّ فاطمة بنت أسد في شدّة من الطلق. ثم إنّه أخذ بيدها وجاء بها إلى الكعبة فدخل بها و قال: اجلسي على اسم الله، فطلقت طلقةً واحدة فولدت غلاماً نظيفاً منظّفاً لم أرَ أحسن وجهاً منه، فسمّاه أبو طالب علياً، وقال شعراً:
تسمية أمير المؤمنين عليه السّلام
سُمَّيْتُهُ بِعَليّ كَيْ يَدُومَ لَهُ ***** عِزُّ الْعُلُوِّ وَ فَخْرُ الْعِزِّ أدْوَمُهُ
و جاء النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلم فحمله معه إلى منزل أمّه. قال علي بن الحسين: فو الله ما سمعتُ بشيء حسن قطّ إلّا و هذا من أحسنه[14] .
و يروي الشيخ سليمان القندوزي عن كتاب (مودّة القربى) عن العبّاس بن عبد المطّلب قال: لما ولدت فاطمة بنت أسد علياً سمّته باسم أبيه أسد و لم يرضَ أبو طالب بهذا الاسم فقال: هلمّ حتى نعلو أبا قبيس ليلًا وندعوا خالق الخضراء، فلعلّه أن ينبئنا في اسمه، فلما أمسيا خرجا و صعدا أبا قبيس و دعيا الله تعالى، فأنشأ أبو طالب شعراً:
يَا رَبِّ يَا ذَا الْغَسَقِ الدُّجِيّ ***** وَالْفَلَقِ المبتَلِجِ المضِيّ
بين لَنَا عَن أمْرِكَ المقضِيّ ***** بِمَا نُسَمِّي ذَلِكَ الصّبِيّ
فإذا خشخشة من السماء، فرفع أبو طالب طرفه فإذا لوح مثل زبرجد أخضر فيه أربعة أسطر، فأخذه بكلتا يديه و ضمّه إلى صدره ضمّاً شديداً، فإذا مكتوب:
خُصِصْتُمَا بِالْوَلَدِ الزَّكِيِ ***** وَالطَّاهِرِ المنَتَجَبِ الرَّضِيّ
وَ اسْمُهُ مِن قَاهِرِ العَليّ ***** عليّ اشتُقَّ مِنَ الْعَلِيّ
فسُرّ أبو طالب سروراً عظيماً و خرّ ساجداً للّه تبارك و تعالى، و عقّ بعشرة من الإبل، و كان اللوح معلّقاً في بيت الحرام يفتخر به بنو هاشم على قريش حتى غاب زمان قتال الحجّاجِ ابنَ الزبير[15] .
بحث منتخب من كتاب معرفة الإمام المجلد الأول من صفحة 59 إلى صفحة 66
[1] ـ يُرجع إلى كتاب (أبو طالب مؤمن قريش) تأليف عبد الله الخنيزي، و كتاب (الحجّة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب) تأليف فخار بن سعد بن فخار الموسوي بن معد الموسوي الحائري الذي يروي عن ابن ادريس الحلّي، و يروي عنه المحقّق الحلّي، و يرجع كذلك إلى كتاب (أبو طالب حامي الرسول و ناصره) تأليف العلّامة نجم الدين الشريف العسكري.
[2] ـ (الفصول المهمّة) لابن الصبّاغ، هامش الصفحة 13؛ و (تذكرة السبط) ابن الجوزي، ص 6.
[3] ـ (الفصول المهمّة)، ص 13.
[4] ـ و ينقل ابن الأثير ذيل كلام ابن الصبّاغ في (أسد الغابة)، ج 5، ص 517.
[5] ـ إلى هنا كلام ابن الصبّاغ
[6] ـ (تذكرة الخواص)، ص 6.
[7] ـ (الفصول المهمّة) لابن الصبّاغ ص 12 نقلًا عن ضياء الدين أبي المؤيد الموفّق بن أحمد الخوارزمي في كتابه (المناقب).
[8] ـ (ديوان الحميري)، ص 155، و يقول جامع الديوان ان تخريج هذه الأبيات من (أعيان الشيعة)، ج 12، ص 240؛ و (المناقب)، ج 2، ص 175؛ و (دلائل الصدق)، ج 2، ص 328.
[9] ـ تعليقة أشعار الحميري في ديوان الحميري، ص 155.
[10] ـ (الفصول المهمّة)، ص 12؛ و كذلك قال ابن الأثير في (أسد الغابة) ج 4، ص 14: و هو أوّل هاشمي ولد بين هاشميين.
[11] ـ عليٌّ أمير المؤمنين عليه السّلام ليس أوّل هاشمي ولد من هاشميّين، إذ إنّ أخاه الأكبر له هذه الصفة.
[12] ـ ذكر في كتاب الغدير، ج 6، من ص 21 إلى 38 الروايات الواردة في ولادته عليه السلام في جوف الكعبة مع أسنادها و أسماء علماء أهل السنّة الذين أوردوها في كتبهم والشعراء الذين أنشدوا فيها قصائد.
[13] ـ (غاية المرام)، ص 13، عن كتاب (الأمالي) للشيخ الطوسي. و العبارة بين القوسين المعقوفين ترجمة النصّ كما ورد بالفارسيّة.
[14] ـ (الفصول المهمّة)، ص 12؛ و (غاية المرام)، ص 13 نقله عن طريق العامّة عن كتاب (المناقب) لابن المغازلي الشافعي.
[15] ـ (ينابيع المودّة)، ص 255.