_______________________________________________________________
هو العليم
آخر الأيام والساعات من حياة سيّد الكائنات صلى الله عليه وآله
البحث الثالث
مستخرج من كتب وآثار
آية اللـه العلاّمة السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني قدّس سرّه
_______________________________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
[لقد تعرّض العلاّمة الطهرانيّ في البحث الثاني لآخر تدابير النبيّ في حفظ أمّته من: تجهيزه جيش أسامة، ووصيّته في حفظ الثقلين وغيرها من الأحداث التي سبقت موته صلّى الله عليه وآله. وفي الأبحاث القادمة سيتعرّض لإثبات حصول رزيّة يوم الخميس من روايات العامّة القطعيّة عندهم، ثمّ سيتعرّض لمجموعة من الأبحاث في تحليل هذه الواقعة، وهنا سنعرض لبحثين منهم فقط: الأوّل: كون الحادثة ليست ارتجاليّة بل مخطّط لها من النبيّ، كما أنّ حضور عمر وأصحابه كان مخطّطاً له، والثاني: كون العبارة التي قالها عمر: إنَّ رَسُولَ اللهِ يَهْجُرُ! وفي الأبحاث اللاحقة سنكمل عرض الأبحاث التحليليّة لهذه الرزيّة.]
تمهيد:
يقول علماء الشيعة: كان عُمَر يعلم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله أراد أن يُوصي لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب والأئمّة من ذرّيّته حتّى قائمهم صلوات الله عليهم أجمعين خطّيّاً، فلهذا حال دون إحضار الدواة والكتف، وأخلّ بنظم المجلس ونسب إلى رسول الله الهجر، ومن أجل ذلك ظَلَّ في المدينة وتخلّف عن الخروج في جيش أسامة، ونقض سنّة رسول الله بصراحة، ولم يعمل بقوله صلّى الله عليه وآله: «إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وعِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي» ، بل بذل هو وأعوانه قصارى جهودهم من أجل طمس ذلك. وها نحن نذكر فيما يأتي بحول الله وقوّته هذه المطالب نقلًا عن أوثق كتب أهل السنّة وصحاحهم ونُثبت أنّ هذه المطالب والقضايا كلّها منقولة على لسان أهل السنّة أنفسهم، ومع ذلك يتعصّبون تعصّبًا جاهليًّا فيتّبعونه عُميًا على غير بصيرة، وينكّلون بالشيعة ظالمين لهم حتّى ظهور إمام الحقّ الإمام المهديّ عجّل الله فرجه الشريف. إذَنْ يبتني إثباتنا معرفةَ الإمام على أساس قول إجماعيّ اتّفاقيّ لا على أساس خصوص أقوال علماء الشيعة وأحاديث أئمّتهم عليهم السلام ومنهاجهم. وسنستعرض هذا الموضوع بأُسلوب يُقنع كلّ عالِم متتبّع من أهل السنّة ويدفعه إلى التشيّع والإمامة شاء أم أبى، ذلك أنّ البحث الاجتهاديّ القائم على أُسسهم الثابتة في أُصول العقائد مُلزم لهم.
روايات العامّة حول رزيّة يوم الخميس وبعض الأحداث قبلها
روى ابن سعد في «طبقاته» بسنده عن أبى مُوَيْهِبَة غلام رسول الله أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله في جوف الليل: إنّي قد أُمرتُ أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي! فخرج وخرجت معه حتّى جاء البقيع فاستغفر لأهله طويلًا ثمّ قال (لهم مخاطبًا): لِيَهْنِئْكُمْ مَا أصْبَحْتُمْ مِمَّا أصْبَحَ النَّاسُ فِيهِ! أقْبَلَتِ الفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضاً، يَتْبَعُ آخِرُها أوَّلَهَا، الآخرةُ شَرٌّ مِنَ الأولى.[1] وهذا الدعاء والاستغفار هو نفسه الذي ذكره الشيخ المفيد إلّا أنّ الشيخ ذكر أنّه ذهب إلى البقيع مع عليّ بن أبي طالب، وجاء هنا أنّه ذهب مع أبي مُوَيْهِبةَ. ولا فرق بينهما في أصل الموضوع، وهو الإخبار عن الفتن المظلمة. نقل الحاكم في مستدركه بسنده عن جماعة، عن عائشة أنّها قالت: إنّ رسول الله بدأه مرضه الذي مات به في بيت ميمونة، فخرج عاصبًا رأسه فدخل عَلَيّ بين رَجلينِ تخطّ رجلاه الأرض. عن يمينه العبّاس، وعن يساره رجل. قال عبيد الله (راوي الحديث): أخبرني ابن عبّاس أنّ الذي عن يساره عليّ.[2]
اتّكاء رسول اللـه على عليّ والعبّاس، ودخوله حجرة عائشة
وروى الطبريّ في تاريخه بسنده عن عائشة قالت: تتامّ برسول الله وجعه وهو يدور على نسائه حتّى استُعِزَّ به وهو في بيت ميمونة فدعا نساءه فاستأذنهنّ أن يُمَرَّضَ في بيتي.[3] فأذِنَّ له فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بين رَجُلين من أهله، أحدهما الفضل بن العبّاس ورجلٌ آخر، تخطّ قدماه الأرض عاصبًا رأسه حتّى دخل بيتي. قال عبيد الله: فحدّثتُ هذا الحديث عنها عبد الله بن عبّاس فقال: هل تدري من الرجل! قلتُ: لا. قال: عليّ بن أبي طالب، ولكنّها كانت لا تقدر على أن تذكره بخير. وهي تستطيع أن تقول: بين الفضل بن العبّاس وعليّ بن أبي طالب.[4] وتحمل هذه الروايات أيضاً مضمون ما رواه الشيخ المفيد إلّا أنّ الفارق الوحيد فيها هو أنّ عائشة لم تقدر على النطق باسم عليّ، فقالت: رجل آخر.
الروايات الواردة في منع عمر النَّبيّ صلّى اللـه عليه وآله أن يكتب كتاباً في المرض الذي توفّي فيه
- روى البخاريّ في صحيحه بسنده عن عبيد الله بن عبدالله، عن ابن عبّاس أنّه قال: لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وفي البَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، قَالَ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ: هَلُمَّ[5] أكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ! فَقَالَ عُمَرُ: إنَّ النَّبِيّ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الوَجَعُ، وعِنْدَكُمُ القُرْآنُ. حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ، فَاخْتَلَفَ أهْلُ البَيْتِ فَاخْتَصَمُوا، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمُ النَّبِيّ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، ومِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَهُ عُمَرُ. فَلَمَّا أكْثَرُوا اللَّغْوَ والاخْتِلَافَ عِنْدَ النَّبِيّ، قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ: قُومُوا. فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وبَيْنَ أنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الكِتَابَ مِن اخْتِلَافِهِمْ ولَغَطِهِمْ. [6] [7] وهذا الحديث من الأحاديث التي لا شكّ في صحّتها وصدورها عند العامّة،[8] لأنّ البخاريّ رواه عن إبراهيم بن موسى، عن هشام، عن مُعَمَّر، وكذلك عن عبدالله بن محمّد، عن عبد الرزّاق، عن مُعَمَّر، عن الزُّهريّ، عن عبيد الله بن عبدالله، عن ابن عبّاس. ولا شبهة عند العامّة في توثيق هؤلاء وتعديلهم. 2- وكذلك روى البخاريّ في صحيحه عن يحيى بن سليمان، عن ابن وَهَب، عن يونس بن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبّاس أنّه قال: لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَجَعُهُ قَالَ: إئْتُونِي بِكِتَابٍ أكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ! قَالَ عُمَرُ: إنَّ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ غَلَبَهُ الوَجَعُ وعِنْدَنَا كِتَابُ اللهِ حَسْبُنَا. فَاخْتَلَفُوا وكَثُرَ اللَّغَطُ. قَالَ: قُومُوا عَنِّي ولَا يَنْبَغي عِنْدِيَ التَّنَازُعُ. فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وبَيْنَ كِتَابِهِ.[9] و هذا الحديث أيضاً من الأحاديث الصحيحة عند العامّة ولا شبهة ولا شكّ في رواته. 3- وكذلك روى البخاريّ عن قَبِيصَة، عن ابن عُيَيْنَة، عن سليمان الأحول، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عبّاس أنّه قال: يَوْمُ الخَمِيسِ ومَا يَوْمُ الخَمِيسِ؟ ثُمَّ بَكَى حتّى خَضَبَ دَمْعُهُ الحَصْبَاءَ. فَقَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَجَعُهُ يَوْمَ الخَمِيسِ، فَقَالَ: إئْتُونِي بِكِتَابٍ أكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أبَداً. فَتَنَازَعُوا ـ ولَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيّ تَنَازُعٌ ـ فَقَالُوا: هَجَرَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ. قَالَ: دَعُونِي! فَالَّذِي أنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إلَيْهِ. وأوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ: أخْرِجُوا المُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ، وأجِيزُوا الوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أجِيزُهُمْ، ونَسِيتُ الثَّالِثَةَ.[10] وذكر مسلم في صحيحه أيضًا، في آخر كتاب الوصايا ثلاثة أحاديث في هذا الشأن. يحمل الأوّل بعينه مضمون هذا الحديث الثالث الذي نقلناه عن البخاريّ لكنّه يختلف عنه فيما يأتي: أوّلًا: جاء مكان قوله: فَقَالُوا: هَجَرَ رَسُولُ اللهِ، قوله: وقَالُوا: مَا شَأنُهُ؟ أهَجَرَ؟ اسْتَفْهِمُوهُ! ثانياً: ذكر بدل قوله: ونَسِيتُ الثَّالِثَةَ، قوله: وسَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ، أوْ قَالَهَا فَأُنسِيتُهَا. ويحمل الثالث نفسه مضمون الحديث الأوّل الذي نقلناه عن البخاريّ. ومن الجدير ذكره أنّ هذين الحديثين أوردهما مسلم بأسناد أُخرى غير أسناد البخاريّ، ويتماثلان في المضمون فحسب. وروى الثاني عن إسحاق بن إبراهيم، عن وكيع، عن مالك بن المِغْوَل، عن طلحة بن مُصَرّف، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عبّاس أنّه قال: يَوْمُ الخَمِيسِ ومَا يَوْمُ الخَمِيسِ؟ ثُمَّ جَعَلَ تَسِيلُ دُمُوعُهُ حتّى رَأيْتُ عَلَى خَدَّيْهِ كَأنَّهَا نِظَامُ اللُّؤْلُؤ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ: إئْتُونِي بِالكَتِفِ والدَّوَاةِ (أوِ اللَّوْحِ والدَّواة)[11] اكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أبَداً، فَقَالُوا: إنَّ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ يَهْجُرُ.[12]وروى أحمد بن حنبل الأحاديث الثلاثة التي نقلناها عن البخاريّ بنفس الأسناد والألفاظ في ص 325 و222 و355 من الجزء الأوّل من مسنده بالتسلسل. أجل، إنّ حديث طلب الدواة والكتف، ومنع عمر، وقذف رسول الله بالهجر والهذيان، ورزيّة يوم الخميس التي كان يبكي منها ابن عبّاس كلّما ذكرها، كلّ ذلك من القضايا المشهورة والمعروفة عند أصحاب السِّير والسُّنن والأخبار. نقلها كبار العامّة في كتبهم وأقرّوا بها.[13] ذكر ابن سعد في طبقاته تسعة أحاديث في هذا المجال. وأورد الحديث الأوّل والثالث ـ اللذين نقلناهما عن البخاريّ ـ عن مسلم، وعن يحيى بن حمّاد بسنده عن سعيد بن جُبير، عن ابن عبّاس، وفيه: فَقَالَ بَعْضُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ: إنَّ نَبِيّ اللهِ لَيَهْجُرُ. وأورد حديثاً عن محمّد بن عبدالله الأنصاريّ بسنده عن جابر بن عبدالله الأنصاريّ، وحديثًا عن حفص بن عمر الحوضيّ بسنده عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وحديثًا عن محمّد بن عمر بسنده عن جابر، بحديثين آخرين: الأوّل: عن محمّد بن عمر، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسْلَم، عن أبيه، عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وبَيْنَنَا وبَيْنَ النِّسَاءِ حِجَابٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ: اغْسِلُونِي بسَبْعِ قِرَبٍ وأتُونِي بِصَحِيفَةٍ ودَوَاةٍ أكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أبَداً! فَقَالَ النِّسْوَةُ: إئْتُوا رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ بِحَاجَتِهِ! قَالَ عُمَرُ: فَقُلْتُ: اسْكُتْنَ فَإنَّكُنَّ صَوَاحِبُهُ. إذَا مَرِضَ عَصَرْتُنَّ أعْيُنَكُنَّ. وإذَا صَحَّ أخَذْتُنَّ بِعُنُقِهِ![14] فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ: هُنَّ خَيْرٌ مِنْكُمْ! وأخرجه الطبرانيّ أيضًا في أوسطه عن عمر.[15] الثاني: عن محمّد بن عمر بسنده عن عكرمة، عن ابن عبّاس أنّه قال: إنَّ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ قَالَ في مَرَضِهِ الذي مَاتَ فِيهِ: إئْتُونِي بِدَوَاةٍ وصَحِيفَةٍ أكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أبَداً! فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: مَنْ لِفُلَانَةَ وفُلَانَةَ مَدَائِنِ الرُّومِ؟ إنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ لَيْسَ بِمَيِّتٍ حتّى نَفْتَحَهَا، ولَوْ مَاتَ لَا نْتَظَرْنَاهُ كَمَا انْتَظَرَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ موسى. فَقَالَتْ زَيْنَبُ زَوْجُ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ: ألَا تَسْمَعُونَ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ يَعْهَدُ إلَيْكُمْ؟! فَلَغَطُوا، فَقَالَ: قُومُوا! فَلَمَّا قَامُوا قُبِضَ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ مَكَانَهُ![16]
عدّة أبحاث في تحليل ما ورد في روايات رزيّة يوم الخميس
والآن ـ بعد أن تحدّدت مصادر هذا الحديث في هذه الرزيّة من كتب الصحاح والسنن الموثوقة من الدرجة الأولى لأهل السنّة ـ [17] نعرض فيما يأتي عددًا من الأبحاث حول مفاد ما تقدّم:
البحث الأوّل: كون الحادثة ليست ارتجاليّة بل مخطّط لها من النبيّ، كما أنّ حضور عمر وأصحابه كان مخطّطاً له
البحث الأوّل: يستفاد من هذه الأحاديث والروايات أنّ هذه الواقعة لم تكن مفاجئة، حيث ينكر القوم ابتداءً تخطيط الرسول الأعظم للكتابة، بل تدلّ القرائن المشهودة على أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان يعلم بتآمرهم على حكومة عليّ عليه السلام، لذلك أنفذ جيش أُسامة. وكان قد أدرك جيّدًا الخطط المدبّرة من خلال الأخبار المبثوثة داخل بيته من قبل حزب النساء المعارِضَات، وكذلك من خلال الأخبار التي تناهت إلى سمعه من خارج البيت ودارت حول تأخير جيش أُسامة وتخلّف أبي بكر وعمر عن اللحاق به، فلهذا طلب الدواة والكتف في مثل هذا الظرف على أساس تلك الشواهد والمشهودات. ولم يجتمع عُمَر وشرذمته في ذلك المجلس صدفةً وبغتةً، بل كانوا يجتمعون مرارًا في مجالس سابقة ويخطّطون لغصب ولاية المسلمين وإمارتهم. وكان اجتماعه الأخير مع زمرته وأترابه مخطَّطًا له من قبل. وكيف يمكن أن نتصوّر أنّ حضور عمر مع جميع أعوانه ـ الذين كان عددهم من الكثرة بحيث أوجدوا جبهتين في مجلس الرسول الأكرم وصاحوا وقالوا: حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ، وبلغ الذمر أنّهم تميّزوا عن الصحابة المؤمنين المطيعين الذين كانوا في حجرة نبيّهم، وزاد لَغَطُهم حتّى غلبوهم ـ كان صدفة، وقد تحقّق بصورةٍ تلقائيّةٍ اعتياديّةٍ! كيف يتسنّى لنا تصوّر ذلك في مجلس زعيم الحاضرين ومتكلّمهم فيه عُمَر الذي حاكاه رفقاؤه في كلامه فاعترضوا على كلام رسول الله؟[18] رأينا في الحديث الأوّل الذي نقله البخاريّ أنّ ابن عبّاس يقول: اختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمُ النَّبِيّ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ. ومنهم من يقول ما قاله عمر. أي: أنّ رسول الله يهجر. ويتبيّن هنا أنّ عمر كان إمام المعترضين وزعيمهم، وأوّل من نطق بهجر رسول الله.
البحث الثاني: أنّ جملة عمر كانت: إنَّ رَسُولَ اللـهِ يَهْجُرُ
البحث الثاني: لا شكّ ولا شبهة أنّ الجملة التي تفوّه بها عمر هي قوله: إنَّ رَسُولَ اللهِ يَهْجُرُ. بَيدَ أنّ أصحاب السنن والأخبار لمّا رأوا أنّ كلمته مستهجنة جدّاً، أرادوا أن يخفّفوا من استهجانها، ويدافعوا عن أدب عمر فاستبدلوا بها كلمتهم: إنَّ النَّبِيّ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الوَجَعُ. والدليل على كلامنا رواية ذكرها ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» بتخريج أبي بكر أحمد بن عبدالعزيز الجوهريّ في كتاب «السقيفة» بإسناده إلى ابن عبّاس أنّه قال: لَمَّا حَضَرَتْ رَسُولَ اللهِ الوَفَاةُ وفي البَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ: إئْتُونِي بِدَوَاةٍ وصَحِيفَةٍ أكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّونَ بَعْدَهُ (قَالَ): فَقَالَ عُمَرُ كَلِمَةً مَعْنَاهَا أنَّ الوَجَعَ قَدْ غَلَبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ، ثُمَّ قَالَ: عِنْدَنَا القُرْآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ. فَاخْتَلَفَ مَنْ في البَيْتِ واخْتَصَمُوا فَمِنْ قَائِلٍ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمُ النَّبِيّ، ومِنْ قَائِلٍ: مَا قَالَ عُمَرُ. فَلَمَّا أكْثَرُوا اللَّغَطَ واللَّغْوَ والاخْتِلَافِ غَضِبَ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ فَقَالَ: قُومُوا! إنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيّ أنْ يُخْتَلَفَ عِنْدَهُ هَكَذَا. فقَامُوا، فَمَاتَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ في ذَلِكَ اليَوْمِ. فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إنَّ الرَّزِيَّةَ مَا حَالَ بَيْنَنَا وبَيْنَ كِتَابِ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، يَعْنِي الاخْتِلَافَ واللَّغَطَ. يقول ابن أبي الحديد: هذا الحديث قد خرّجه الشيخان: محمّد بن إسماعيل البخاريّ، ومسلم بن الحجّاج القُشَيْريّ في صحيحيهما. واتّفق كافّة المحدّثين على روايته.[19] ونكتفي هنا بذكر النكتة الآتية التي تمثّل الدليل على ما نقول: يقول هنا: قال عمر كلمة معناها أنّ الوجع قد غلب على رسول الله. وهذا صريح أنّ كلمة عمر كانت شيئًا آخرًا. ولمّا لم يرغب القوم في ذكر كلمته نصًّا، استبدلوا بها مفادها ومعناها. وتلك الكلمة هي: الهَجْر.[20] ودليلنا الآخر هو عقد مقارنة بين الروايات المذكورة، إذ لو وضعناها جنبًا إلى جنب ووازنّا بينها، لتبيّن لنا بلا مراء أنّ كلمة عمر كانت قوله: إنَّ النَّبِيّ يَهْجُرُ. إنّ البخاريّ الذي ذكر في الصحيحتين الأولى والثانية اسم المعترض بصراحة ـ وهو عمر ـ قال: كانت كلمته: قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الوَجَعُ، بَيدَ أنّه لم يصرّح باسمه في صحيحته الثالثة، وكذلك لم يفعل مسلم في صحيحته، بل قالا بنحو عامّ: قَالُوا، وأوردا كلمة عمر نفسها: يَهْجُر. فَقَالُوا: هَجَرَ رَسُولُ اللهِ. فَقَالُوا: إنَّ رَسُولَ اللهِ لَيَهْجُرُ.[21] وقال ابن سعد في طبقاته في الرواية التي نقلناها عن سعيد بن جُبَيْر: فَقَالَ بَعْضُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ: إنَّ نَبِيّ اللهِ لَيَهْجُرُ. وهنا لمّا لم يتعيّن قائل كلمة: يَهْجُرُ بنفسه، وذُكر بلفظ: قَالُوا، أو: قَالَ بَعْضُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ، فإنّ الإتيان بكلمة هَجَرَ ويَهْجُرُ لم تُسْتَهْجَنْ بل ذُكرت كما هي. ولكنّنا عندما نوازن بين هذه الروايات، يستبين لنا جيّدًا أنّ قائل كلمة يَهْجُرُ في قولهم: قَالُوا، أو: بَعْضُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ هو عُمَر نفسه، بَيْدَ أنّ هؤلاء المحرّفين والمبدّلين وحماة أريكة الاستبداد والظلم استبدلوا بها في تلك الروايات كلمتهم: قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الوَجَعُ حماية لعُمَر ولشأنه.
تغيير لفظة الهجر من قبل أنصار عمر
وقد لاحظنا في إحدى روايات مسلم بن الحجّاج أنّه ذكر عمر بكلامه: أهَجَرَ؟ اسْتَفْهِمُوهُ! ومن الواضح أنّ لفظ عمر لا يحمل الاستفهام والشكّ وقد قال ما قال جازمًا، إذ تفوّه بكلمته: هَجَرَ. وإذا بعض المدافعين عنه قالوا: لعلّه قال: هَجَرَ على سبيل الاستفهام، ولا فرق بينهما في الكتابة. ثمّ جاء بعض آخر فأراد أن يثبّت هذا الاستفهام ويؤيّده، فوضع همزة الاستفهام في أوّل الكلمة وقال: أهَجَرَ؟ ثمّ أضاف مدافعون آخرون جملة: اسْتَفْهِمُوهُ، لتثبيت كلمتهم: أهَجَرَ؟ ونجد في الروايات كثيرًا من هذه التصرّفات التي تتّضح للشخص الخبير مواضع التغيير والتحريف فيها. وقد استبان جيّدًا من خلال بحثنا هذا، ومن خلال عقد المقارنة بين روايات البخاريّ، ومسلم، وابن سعد أنّ كلمة عمر كانت هَجَرَ ويَهْجُرُ، ولا ريب أنّ التغييرات الواردة في ألفاظ الروايات المختلفة نابعة من تدخّل الرواة والمحدِّثين وتحريفهم.
البحث الثالث: وما هو الشيء الذي أراد أن يكتبه فلا تضلّ أُمّته بعده أبداً؟
البحث الثالث: ماذا كان يقصد رسول الله صلّى الله عليه وآله من الكتابة؟ وما هو الشـيء الذي أراد أن يكتبه فلا تضلّ أُمّته بعده أبداً؟ ويمكننا أن نستخرج الجواب ابتداءً من كلام عمر نفسه: عِنْدَكُمُ القُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ وهو الوارد في صحيحة البخاريّ الأولى. وكذلك من كلامه الآخر: عِنْدَنَا كِتَابُ اللهِ حَسْبُنَا، وهو المأثور في صحيحته الثانية. أي: أنّنا نستطيع أن نفهم ماذا أراد الرسول الأعظم أن يكتب عندما طلب دواة وكتفًا، وذلك من خلال كلام عمر نفسه، بلا رجوع إلى الأخبار والشواهد التأريخيّة، والروايات والقرائن الموجودة. ولمّا كان عمر في مقام الاعتراض على كتابة رسول الله. قال: حَسْبُنَا كتاب الله وكَفَانَا كتاب الله. وينكشف لنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان يريد أن يلحق بالقرآن شيئًا آخرًا، أو يجعله حجّة للمسلمين، بَيدَ أنّ عمر منع من إلحاقه بالقرآن أو إفراده بالحجّيّة والولاية. وليس هذا الشيء إلّا العترة الطاهرة المتمثّلة بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وأبنائه المعصومين. وذلك هو ما جاءت به الأحاديث المتواترة ـ بل التي فاقت حدّ التواتر ـ وهي التي ذكرها الشيعة والعامّة في كتبهم بمئات الأسانيد، وفيها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله خطب في مواطن عديدة، منها في مرضه الذي مات فيه، حيث ذهب إلى المسجد، فقال: إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وعِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي. ونحن قد ذكرنا في بحثنا هذا خطبة رسول الله ـ حين مرضه ـ في المسجد حول حجّيّة القرآن والعترة وخلافتهما باللفظ المذكور نقلًا عن الشيخ المفيد في «الإرشاد»[22]، وابن سعد في «الطبقات الكبرى».[23]
قصد رسول اللـه صلّى الـله عليه وآله من الكتابة الوصيّة لعليّ
ولكنّ القوم لمّا حالوا دون تطبيق تلك الخطب الشفويّة عمليًّا، وحاولوا معارضة ذلك وطمسه، وكان رسول الله يعرف هذا الموضوع، لذلك أراد أن يثبّته ويعزّزه خطّيًّا وهو على فراش المرض، وفي يوم الخميس الذي سمّاه ابن عبّاس يوم الرزيّة، أثار عمر الخلاف بجلبته وضجيجه ولغطه وصياحه ولغوه فجرح مشاعر رسول الله، حتّى أعرض صلّى الله عليه وآله بوجهه الكريم عنهم وقال لهم: قوموا! فلهذا لمّا قالوا: نأتيك بالدواة والكتف! قال: أبَعْدَ الذي قُلْتُمْ؟ لَا، وَلَكِنِّي أوصِيكُمْ بِأهْلِ بَيْتِي خَيْراً. ويتبيّن أنّ موضوع كتابته هم أهل البيت، بَيدَ أنّه لمّا تعذّرت عليه الوصيّة الخطّيّة، اجتزأ بالوصيّة الشفويّة. ونقرأ في رواية البخاريّ الثالثة ورواية مسلم الأولى اللتين ذكرناهما هنا أنّ رسول الله يوصي بثلاث. والراوي هو سعيد بن جبير عن ابن عبّاس. قال: وسَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ أوْ أُنسِيتُهَا. سكت ابن عبّاس عن الثالثة، أو قال: وأنا سعيد بن جبير راوي هذا الحديث قد نسيتها. والواضح هو أنّ تلك الوصيّة هي الأمر بالتمسّك بالعترة، وحجّيّة إمارة وولاية أمير المؤمنين وذرّيّته حتّى الإمام الثاني عشر عليهم السلام، وهو ما جاء في حديث الثَّقَلَين. ولا جرم أنّ ابن عبّاس لم يسكت، وابن جبير لم يَنْسَ، وإنّما هي ظُلمة عصر السياسة والاستبداد التي انتهت بسيف الحجّاج بن يوسف الثَّقَفيّ أنست سعيد بن جبير ومنعته من ذكرها.[24] وأمّا الاحتمال القائل إنّ الوصيّة الثالثة هي الوصيّة بجيش أسامة، فليس له محلٌّ من الإعراب هنا، وهو ما ذكره محمّد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على صحيح مسلم نقلًا عن المهلّب. وهذا ليس بِذِي بالٍ فيُسكت ابن عبّاس أو يُنسي ابن جبير. إنّ الدليل الواضح على أنّ المراد من كتابة رسول الله صلّى الله عليه وآله الوصيّة بخلافة أمير المؤمنين عليه السلام هو ما قاله عمر نفسه: إنّي كنتُ أعلم أنّ رسول الله أراد أن يوصي في مرضه لعليّ بن أبي طالب فخالفته وصددته.[25] ذكر ابن أبي الحديد سفر ابن عبّاس مع عمر إلى الشام، ونقل أنّ عمر أخبره في الطريق بعتابه لأمير المؤمنين عليه السلام لعدم اصطحابه في سفره إلى الشام، وهو يراه واجدًا عليه. وبلغ كلامه موضعًا قال فيه: ذُكر جواب عمر لابن عبّاس بطريق آخر وهو قوله: إنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ أرَادَ أنْ يَذْكُرَهُ لِلأمْرِ في مَرَضِهِ فَصَدَدْتُهُ عَنْهُ خَوْفًا مِنَ الفِتْنَةِ وانْتِشَارِ أمْرِ الإسْلَامِ، فَعَلِمَ مَا في نَفْسِي وأمْسَكَ، وأبَى اللهُ إلَّا إمْضَاءَ مَا حَتَمَ.[26] وقد ذكرنا تفصيل هذا السفر في الجزء السابع من كتابنا هذا «معرفة الإمام»[[27]]. وتحدّثنا أيضًا في بعض المواضع عن منع عمر رسول الله من الكتابة.[28] ولكنّ حديثنا كان في كلّ موضع حسب مناسبته الخاصّة، وورد هنا لمناسبة الأمر بالكتابة وحديث الثقلين. لذلك فمضافًا إلى أنّ مطالبًا بديعة وواضحة قد مرّت في كلّ موضع، فهذا الموضع أيضًا قد فصّلنا فيه إجمالًا، بَيدَ أنّه ليس فيه تكرار أبدًا، بل إنّ المطالب فيه جديدة أيضًا.
[ملاحظة: انتخب هذا البحث من كتاب معرفة الإمام ج 13، تأليف المرحوم العلامة آية الله الحاج السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله عليه، وقد تمّ توثيقه ومقارنته مع المصدر الفارسي من قبل الهيئة العلمية في لجنة الترجمة والتحقيق، وتجدر الإشارة إلى أنّ العبارات والهوامش التي وقعت بين معقوفتين هي من الهيئة العلمية]
[1] ـ «الطبقات الكبرى» ج 2، ص 204، في ذكر خروج رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى البقيع واستغفاره لأهله والشهداء؛ و«تاريخ الطبريّ» ج 2، ص432، طبعة مطبعة الاستقامة؛ و«المستدرك» للحاكم، ج 3، ص 52. وروى ابن شُبَّة أبو زيد عمر بن شُبَّة النميريّ البصريّ المولود سنة 173 هـ والمتوفّى سنة 262 هـ في «تاريخ المدينة» ج 1، ص 87، منشورات دار الفكر، قم سنة 1410 هـ، بسنده عن عبدالله بن عمرو بن العاص، عن أبي مويهبة قال: أهَبَّنِي رَسُولُ اللهِ، وكان ذلك في جوف الليل، فقال: إنّي قد أمرت أن استغفر لأهل البقيع فانطلقتُ معه. ولمّا أشرف على البقيع قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، لو تعلمون ما نجّاكم الله منه ليهن ما أصبحتم فيه ممّا أصبح الناس فيه. أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أوّلها. الآخرة شرّ من الأولى. ثمّ استغفر لهم، ثمّ قال: يا أبا مويهبة! إنّي قد أعطيت خزائن الدنيا والخُلد ثمّ الجنّة، فخُيّرتُ بين ذلك وبين لقاء ربّي والجنّة. فقلتُ: بأبي أنت وأمّي! فخذ خزائن الدنيا والخُلد ثمّ الجنّة! فقال: لا والله يا أبا مويهبة، قد اخترت لقاء ربّي والجنّة.
[2] ـ «المستدرك على الصحيحين في الحديث» ج 3، ص 56.
[3] ـ قال ابن سعد في طبقاته، ج 2، ص 232: في رواية ابن شهاب، قال: قالت فاطمة الزهراء سلام الله عليها لنساء رسول الله: إنّه يشقّ على رسول الله الاختلاف (التردّد في حجرات زوجاته) فأذِنّ له، فخرج من بيت مَيمونة إلى بيت عائشة.
[4] ـ «تاريخ الطبريّ» ج 2، ص 433، طبعة مطبعة الاستقامة؛ وروى ابن سعد مثلها في طبقاته، ج 2، ص 231 و232؛ وذكرها ابن هشام في سيرته، ج 1، ص298، الطبعة الرابعة، بيروت.
[5] ـ هَلُمَّ: تعال. وهو لازم، وقد يتعدّى كقوله تعالى: هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ وهلمّ اسم فعل يستوي فيه المفرد والجمع والمذكّر والمؤنّث. ويُصْرَف ويُتَّخذ فعلًا ويُلْحَقُ به ضمير. ويقال في تثنيته: هَلُمَّا، وفي تأنيثه: هلمِّي، وفي الجمع: هلمّوا.
[6] ـ اللَّغط: الصوت والجَلَبة، أو أصوات مبهمة لا تُفهم.
[7] ـ ذكر البخاريّ هذا الحديث في كتاب الطبّ والمرضى، في باب قول المريض: قوموا عنّي. ج 7، ص 120 في طبعة بولاق سنة 1312 هـ، وفي: ج 4، ص5، طبعة المطبعة العثمانيّة المصريّة، سنة 1351 هـ، وفي: ج 4، ص 6، طبعة مطبعة دار إحياء الكتب العربيّة مع حاشية سندي؛ ونقله البخاريّ أيضاً في كتاب النبيّ، باب مرضه، طبعة بولاق، ج 6، ص 9 و10، وذكر قوله: «قال بعضهم» مكان قوله: «قال عمر».
[8] ـ ورواها الشيخ المفيد أيضاً في أماليه، طبعة جماعة المدرّسين ص 36 و37 بسنده عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة، عن ابن عبّاس بهذا المتن عينه. وجاءت كلمة «أبداً» بعد كلمة «بعده». ووردت «قوموا» مكان «قرّبوا»، وتلحظ فيه زيادة في كلام عمر: «لا تأتوه بشيء» أيضاً. وقال في التعليقة: قال العلّامة المجلسيّ رضوان الله عليه: خبر طلب رسول الله صلّى الله عليه وآله الدواة والكتف ومنع عمر عن ذلك مع اختلاف ألفاظه متواتر بالمعنى، وأورده البخاريّ ومسلم وغيرهما من محدّثي العامّة في صحاحهم، وقد أورده البخاريّ في مواضع من صحيحه منها في الصفحة الثانية من مفتتحه.
[9] ـ «صحيح البخاريّ» ج 1، ص 30، كتاب العلم، باب كتابة العلم، طبعة بولاق مصر، وفي طبعة المطبعة العثمانيّة المصريّة: ج 1، ص 22 و23، وفي: طبعة دار إحياء الكتب العربيّة مع حاشية سندي: ج 1، ص 32 و33.
[10] ـ «صحيح البخاريّ» ج 4، ص 69 و70، كتاب الجهاد والسير، باب جوائز الوفد، طبعة بولاق، و: ج 2، ص 117، طبعة المطبعة العثمانيّة بمصر، و: ج 2، ص 178، طبعة دار إحياء الكتب العربيّة. وتتمّة الحديث: يقول يعقوب بن محمّد: سألت المغيرة بن عبد الرحمن عن جزيرة العرب أين تكون؟ فقال: مكّة والمدينة واليمامة واليمن. وقال يعقوب: العرج أوّل تهامة.
[11] ـ قال في «المصباح»: اللوح كلّ صحيفة من خشب وكتف، إذا كُتب عليه سمّي لوحاً؛ والدواة هي التي يُكْتَب فيها.
[12] ـ انظر: «صحيح مسلم» ج 2، ص 15 و16، طبعة عيسى البابيّ الحلبيّ بمصر، وفي طبعة دار إحياء التراث العربيّ، تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي: ج 3، ص1257 و1258، الأحاديث المرقّمة 20 و21 و22. ومعنى قوله: سكت عن الثالثة، أنّ ابن عبّاس امتنع عن ذكرها. ومعنى قوله: أُنسيتها، أنّ سعيد بن جبير نساها.
[13] ـ ذكر ابن الأثير الجزريّ في كتاب «الكامل في التاريخ» ج 2، ص 320، طبعة بيروت 1385 ه-، الرواية الثالثة التي نقلناها عن البخاريّ. وأورد أبو الفداء الدمشقيّ في «البداية والنهاية» ج 5، ص 227، الحديث الذي نقلناه عن مسلم في صحيحه، وجاء فيه: ما شأنه؟ يهجر استفهموه، ونقله أبو الفداء عن مسلم والبخاريّ كليهما، والحديث الأوّل الذي نقلناه عن البخاريّ ومسلم. نقله هو أيضاً عنهما.
[14] ـ ويمكن أن يكون المعنى كالآتي: إذا مرض، تبكين عليه، وإذا صحّ، تأخذن بعنقه. (كناية عن إعناته وإيقاعه في المشقّة).
[15] ـ كما روى الملّا على المتّقي الهنديّ في «كنز العمّال» ج 3، ص 138، الطبعة الأولى.
[16] ـ «الطبقات الكبرى» ج 2، ص 242، طبعة بيروت، سنة 1376 هـ: ذكر الكتاب الذي أراد رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يكتبه لأمّته في مرضه الذي مات فيه.
[17] ـ أورد المرحوم آية الله السيّد محسن الأمين العامليّ رحمه الله في كتاب «أعيان الشيعة» ج 2، ص 226 إلى 232، الطبعة الثانية، من المطالب التي ذكرها الشيخ المفيد في «الإرشاد» والتي نقلناها هنا وكذلك روايات العامّة عن البخاريّ، ومسلم. وذكر السيّد ابن طاووس كثيراً من هذه الروايات في طرائفه، طبعة مطبعة الخيّام بقم، ص 431 إلى 435 تحت عنوان: منع عمر النبيّ صلّى الله عليه وآله عند وفاته أن يكتب كتابًا لا يضلّ بعده أبدًا، عن محمّد بن عليّ المازندرانيّ في كتاب «أسباب نزول القرآن»، وعن الحميديّ في «الجمع بين الصحيحين»، وعن مسند أحمد بن حنبل، وصحيح مسلم، وصحيح البخاريّ. وعرض بحثًا كلاميًّا دقيقًا. خاطب عمر وحاكمه وعاتبه في مواطن كثيرة منتحلًا اسم عبد المحمود. فأدان عمر إدانة قاطعة وحمّله آثام الأمّة كلّها، وألقى على عاتقه جميع أسباب الخلافات، ونشوب الحروب والمذابح والنهب والسلب، وضلال الأمّة بعد رسول الله. وعدّه السبب الوحيد للانحراف.
[18] ـ ( ) يُستشفّ من أخبار العامّة وأحاديثهم أنّ لعمر صحابة وأتباع وعصابة كما كان لرسول الله صحابة وأتباع. روى العلّامة شرف الدين في «النصّ والاجتهاد» ص 177، الطبعة الثانية، عن «سنن أبي داود» المثبّتة في هامش شرح الزرقانيّ على موطّأ مالك، وكذلك في ص 103 من الجزء الثاني لشرح الزرقانيّ الموجود في هامش الصفحة، في باب حجّ التمتّع وكراهة عمر التمتّع بالنساء وسط العمرة إلى الحجّ، قال: وَهذا ما كَرِهَهُ عُمَر وبعضُ أتباعِهِ فقال قائلهم: أنَنطلقُ وذكورنا تقطر؟ من جهة اخرى، لمّا سأل أبو موسى الأشعريّ عمر عن هذه المسألة- وفقاً لرواية الإمام أحمد في ص 50 من الجزء الأوّل لمسنده من حديث عمر- قال له عمر مجيباً: قد علمتُ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قد فعله هو وأصحابه ولكن كرهت أن يضلّوا بها معرّسين في الأراك ثمّ يروحون بالحجّ تقطر رؤوسهم! ونجد هنا بكلّ وضوح أنّ عمر وأصحابه في جانب، ورسول الله وصحابته في جانب آخر. فافهم وتأمّل واغتنم.
[19] ـ «شرح نهج البلاغة» ج 2، ص 20، طبعة دار الكتب العربيّة الكبرى.
[20] ـ هَجَرَ يَهْجُرُ هَجْراً في نَوْمِهِ أوْ مَرَضِهِ: خَلَطَ وَ هَذَى.
[21] ـ حتّى البخاريّ الذي نقلنا عنه الرواية الأولى عن كتاب الطبّ، في باب قول المريض: قوموا عنّي وذكر فيها هذا اللفظ: فقال عمر، نجد قد أورد هذه الرواية عينها بنفس اللفظ والسند في كتاب النبيّ، باب مرضه، طبعة بولاق، ج 6، ص 9 و10، وقال: قال بعضهم. وذكر عبارة: ومنهم من يقول غير ذلك مكان عبارة: ومن قائل ما قال عمر.
[22] ـ «الإرشاد» ص 97، الطبعة الحجريّة.
[23] ـ «الطبقات» ج 2، ص 194، طبعة بيروت؛ وهذا الجزء نفسه، الدرس 181 إلى 185. ومن الأدلّة الفاضحة الواضحة اعتراف الشهرستانيّ وكلامه أنّ القائل كان عمر. قال العلاّمة الحلّيّ في كتاب «منهاج الكرامة» ص 48 و49، طبعة عبدالرحيم: وقد ذكر الشهرستانيّ وهو أشدّ المتعصّبين على الإماميّة: أنّ منشأ الفساد بعد إبليس الاختلافات الواقعة في مرض النبيّ صلّى الله عليه وآله: فأوّل تنازع في مرضه فيما رواه البخاريّ بإسناده إلى ابن عبّاس قال: لمّا اشتدّ بالنبيّ صلّى الله عليه وآله مرضه الذي توفّي فيه، قال: إئتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعدي! فقال عمر: إنّ صاحبكم ليهجر حسبنا كتاب الله! وكثر اللَّغَط. فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: قوموا عنّي لا ينبغي عندي التنازع!
[24] ـ هل يعقل أنّ الصحابة الحاضرين في المجلس ينسون وصيّة رسول الله وهم الذين نُقل عنهم جودة حفظهم وقدرة أذهانهم، إذ كانت تُقرأ عليهم القصائد الطويلة مرّة واحدة فيحفظونها، وتُتلى عليهم الخطب البديعة المفصّلة فيحفظونها بلا أدنى تغيير؟ فهل يخال المرء أنّ مثل هؤلاء الرجال ينسون الوصيّة النبويّة الثالثة؟! لا، ليس الأمر كذلك، ولكنّ السياسة الحاكمة الجائرة أرغمتهم على النسيان وعدم الذكر، وذلك ما أصبح أُلعوبة بِيَدِ اللاعبين وموضعاً لسخرية أُولئك الصحابة الجهلاء حقّاً. ولا يخامرنا أدنى شكّ في أنّ تلك الوصيّة هي الوصيّة باستخلاف أمير المؤمنين عليه السلام، وقد ذكرها الراوي.
[25] ـ «صحيح مسلم» ج 3، ص 1258، طبعة دار إحياء التراث، التعليقة رقم 4.
[26] ـ «شرح نهج البلاغة» ج 3، ص 14، سطر 27 و28، طبعة دار إحياء الكتب العربيّة الكبرى. وذكر العلّامة البحرانيّ في «غاية المرام» ص 595 إلى 620، سبعة عشر حديثاً عن طريق العامّة، منها ثمانية عن ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة»، وسبعة عن صاحب كتاب «سير الصحابة»، كما ذكر حديثين عن طريق الخاصّة: أحدهما: مفصّل جدّاً عن كتاب سُليم بن قيس الهلاليّ، والآخر عن مؤلّف كتاب «الصراط المستقيم». وكلّها تدور حول تجرّؤ عمر بن الخطّاب على رسول الله، إذ كان يعلم أنّ النبيّ أراد أن يكتب نصّاً على ولاية عليّ عليه السلام في مرضه الذي مات فيه.
[27] ـ راجع كتاب معرفة الإمام، ج7، ص 25.
[28] ـ راجع كتاب معرفة الإمام، ج7، ص 25.
|