_______________________________________________________________
هو العليم
المرأة بين الإسلام وسائر الأمم
من وجهة نظر العلامة الطباطبائي
_______________________________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا محمّد وعلى آله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين
مقدّمة في منهج البحث وأهمّ نقاطه
من المعلوم أن الإسلام ـ والذي شرّعه هو الله عزّ اسمه ـ لم يبن شرائعه على أصل التجارب كما بنيت عليه سائر القوانين، لكنّا في قضاء العقل في شرائعه ربّما احتجنا إلى التأمل في الأحكام و القوانين و الرسوم الدائرة بين الأمم الحاضرة و القرون الخالية، ثمّ البحث عن السعادة الإنسانيّة و تطبيق النتيجة على المحصّل من مذاهبهم و مسالكهم حتّى نزن به مكانته و مكانتها، و نميّز به روحه الحيّة الشاعرة من أرواحها، و هذا هو الموجب للرجوع إلى تواريخ الملل و سيرها، و استحضار ما عند الموجودين منهم من الخصائل و المذاهب في الحياة. و لذلك فإنّا نحتاج في البحث عما يراه الإسلام و يعتقده في: 1ـ هوية المرأة و المقايسة بينها و بين هوية الرجل. 2ـ وزنها في الاجتماع حتى يعلم مقدار تأثيرها في حياة العالم الإنساني. 3ـ حقوقها و الأحكام التي شرعت لأجلها. 4ـ الأساس الذي بنيت عليه الأحكام المربوطة بها. إلى استحضار ما جرى عليه التاريخ في حياتها قبل طلوع الإسلام، و ما كانت الأمم غير المسلمة يعاملها عليه حتى اليوم، من المتمدّنة و غيرها، و الاستقصاء في ذلك و إن كان خارجًا عن طوق الكتاب، لكنّا نذكر طرفًا منه:
حياة المرأة في الأمم غير المتمدنة
كانت حياة النساء في الأمم و القبائل الوحشية كالأمم القاطنين بإفريقيا و أستراليا و الجزائر المسكونة بالأوقيانوسية[1] و أمريكا القديمة و غيرها بالنسبة إلى حياة الرجال كحياة الحيوانات الأهليّة من الأنعام و غيرها بالنسبة إلى حياة الإنسان. فكما أن الإنسان لوجود قريحة الاستخدام فيه يرى لنفسه حقًّا أن يمتلك الأنعام و سائر الحيوانات الأهليّة و يتصرّف فيها كيفما شاء و في أي حاجة من حوائجه شاء؛ يستفيد من شعرها و وبرها و لحمها و عظمها و دمها و جلدها و حليبها و حفظها و حراستها و سفادها و نتاجها و نمائها، و في حمل الأثقال، و في الحرث، و في الصيد، إلى غير ذلك من الأغراض التي لا تحصى كثرة. و ليس لهؤلاء العُجْم من الحيوانات من مبتغيات الحياة و آمال القلوب في المأكل و المشرب و المسكن و السفاد و الراحة إلا ما رضي به الإنسان الذي امتلكها، و لن يرض إلا بما لا ينافي أغراضه في تسخيرها و له فيه نفع في الحياة، و ربّما أدّى ذلك إلى تهكّمات عجيبة و مجازفات غريبة في نظر الحيوان المستخدم لو كان هو الناظر في أمر نفسه: فمن مظلوم من غير أيّ جرم كان أجرمه، و مستغيث و ليس له أيّ مغيث يغيثه، و من ظالم من غير مانع يمنعه، و من سعيد من غير استحقاق كفحل الضراب يعيش في أنعم عيش و ألذّه عنده، و من شقيّ من غير استحقاق كحمار الحمل و فرس الطاحونة. و ليس لها من حقوق الحياة إلا ما رآه الإنسان المالك لها حقًّا لنفسه، فمن تعدّى إليها لا يؤاخذ إلا لأنه تعدّى إلى مالكها في ملكه، لا إلى الحيوان في نفسه، كلّ ذلك لأنّ الإنسان يرى وجودها تبعًا لوجود نفسه، و حياتها فرعًا لحياته، و مكانتها مكانة الطفيلي. كذلك كانت حياة النساء عند الرجال في هذه الأمم و القبائل حياة تبعيّة، و كانت النساء مخلوقة عندهم «لأجل الرجال»، بقول مطلق: كانت النساء تابعة الوجود و الحياة لهم من غير استقلال في حياة، و لا في حق فكان آباؤهن ما لم ينكحن و بعولتهن بعد النكاح أولياء لهنّ على الإطلاق. كان للرجل أن يبيع المرأة ممن شاء و كان له أن يهبها لغيره، و كان له أن يقرضها لمن استقرضها للفراش أو الاستيلاد أو الخدمة أو غير ذلك، و كان له أن يسوسها حتى بالقتل، و كان له أن يخلي عنها، ماتت أو عاشت، و كان له أن يقتلها و يرتزق بلحمها كالبهيمة و خاصة في المجاعة و في المآدب، و كان له ما للمرأة من المال و الحق و خاصة من حيث إيقاع المعاملات من بيع و شرى و أخذ و ردّ. و كان على المرأة أن تطيع الرجل، أباها أو زوجها، في ما يأمر به طوعًا أو كرهًا، و كان عليها أن لا تستقلّ عنه في أمر يرجع إليه أو إليها، و كان عليها أن تلي أمور البيت و الأولاد و جميع ما يحتاج إليه حياة الرجل فيه، و كان عليها أن تتحمّل من الأشغال أشقّها كحمل الأثقال و عمل الطين و ما يجري مجراهما، و من الحرف و الصناعات أرداها و سفسافها، و قد بلغ عجيب الأمر إلى حيث إنّ المرأة الحامل في بعض القبائل إذا وضعت حملها قامت من فورها إلى حوائج البيت، و نام الرجل على فراشها أيامًا يتمرّض و يداوي نفسه، هذه كليّات ما له و عليها، و لكلّ جيل من هذه الأجيال الوحشيّة خصائل و خصائص من السنن و الآداب القوميّة باختلاف عاداتها الموروثة في مناطق حياتها و الأجواء المحيطة بها يطلع عليه من راجع الكتب المؤلّفة في هذه الشؤون.
حياة المرأة في الأمم المتمدّنة الخالية من القوانين قبل الإسلام
نعني بهم الأمم التي كانت تعيش تحت الرسوم المليّة المحفوظة بالعادات الموروثة، من غير استناد إلى كتاب أو قانون؛ كالصين و الهند و مصر القديم و إيران و نحوها. تشترك جميع هؤلاء الأمم في أنّ المرأة عندهم ما كانت ذات استقلال و حريّة، لا في إرادتها و لا في أعمالها، بل كانت تحت الولاية و القيمومة، لا تنجز شيئًا من قبل نفسها، و لا كان لها حقّ المداخلة في الشؤون الاجتماعيّة من حكومة أو قضاء أو غيرهما. و كان عليها: أن تشارك الرجل في جميع أعمال الحياة من كسب و غير ذلك. و كان عليها: أن تختصّ بأمور البيت و الأولاد، و كان عليها أن تطيع الرجل في جميع ما يأمرها و يريد منها. و كانت المرأة عند هؤلاء أرفه حالًا بالنسبة إليها في الأمم غير المتمدّنة، فلم تكن تقتل و يؤكل لحمها، و لم تحرم من تملّك المال بالكليّة، بل كانت تتملّك في الجملة من إرث أو ازدواج أو غير ذلك، و إن لم تكن لها أن تتصرّف فيها بالاستقلال، و كان للرجل أن يتّخذ زوجات متعدّدة من غير تحديد، و كان له تطليق من شاء منهن، و كان للزوج أن يتزوّج بعد موت الزوجة و لا عكس غالبًا، و كانت ممنوعة عن معاشرة خارج البيت غالبًا. و لكلّ أمة من هذه الأمم مختصّات بحسب اقتضاء المناطق و الأوضاع، كما أن تمايز الطبقات في إيران ربّما أوجب تميّزًا لنساء الطبقات العالية من المداخلة في الملك و الحكومة أو نيل السلطنة و نحو ذلك، أو الازدواج بالمحارم من أم أو بنت أو أخت أو غيرها. و كما أنه كان بالصين الازدواج بالمرأة نوعًا من اشتراء نفسها و مملوكيّتها، و كانت هي ممنوعة من الإرث و من أن تشارك الرجال ـ حتى أبناءها ـ في التغذّي، و كان للرجال أن يتشارك أكثر من واحد منهم في الازدواج بمرأة واحدة يشتركون في التمتع بها، و الانتفاع من أعمالها، و يلحق الأولاد بأقوى الأزواج غالبًا. و كما أنّ النساء كانت بالهند من تبعات أزواجهنّ لا يحلّ لهنّ الازدواج بعد توفي أزواجهن أبدًا، بل إما أن يحرقن بالنار مع جسد أزواجهنّ أو يعشن مذلّلات، و هنّ في أيام الحيض أنجاس خبيثات لازمة الاجتناب و كذا ثيابها و كل ما لامستها بالبشرة. و يمكن أن يلخص شأنها في هذه الأمم: أنها كالبرزخ بين الحيوان و الإنسان يستفاد منها استفادة الإنسان المتوسّط الضعيف الذي لا يحقّ له إلا أن يمدّ الإنسان المتوسّط في أمور حياته كالولد الصغير بالنسبة إلى وليّه، غير أنّها تحت الولاية و القيمومة دائمًا.
حياة المرأة في الأمم ذات القوانين
كانت الأمم المذكورة آنفا أممًا تجري معظم آدابهم و رسومهم الخاصة على أساس اقتضاء المناطق و العادات الموروثة و نحوها من غير أن تعتمد على كتاب أو قانون ظاهرًا، لكنْ هناك أمم أخرى كانت تعيش تحت سيطرة القانون أو الكتاب، مثل الكلدة و الروم و اليونان. أما الكلدة و الآشور فقد حكم فيهم شرع «حامورابي» بتبعيّة المرأة لزوجها و سقوط استقلالها في الإرادة و العمل، حتّى أنّ الزوجة لو لم تطع زوجها في شيء من أمور المعاشرة أو استقلّت بشيء فيها كان له أن يخرجها من بيته، أو يتزوج عليها و يعامل معها بعد ذلك معاملة ملك اليمين محضًا، و لو أخطأت في تدبير البيت بإسراف أو تبذير، كان له أن يرفع أمرها إلى القاضي ثمّ يغرقها في الماء بعد إثبات الجرم. و أما الروم فهي أيضًا من أقدم الأمم وضعًا للقوانين المدنيّة، وضع القانون فيها أول ما وضع في حدود سنة أربعمائة قبل الميلاد ثم أخذوا في تكميله تدريجًا، و هو يعطي للبيت نوع استقلال في إجراء الأوامر المختصة به، و لربّ البيت و هو زوج المرأة و أبو أولادها نوع ربوبيّة كان يعبده لذلك أهل البيت كما كان يعبد هو من تقدمه من آبائه السابقين عليه في تأسيس البيت، و كان له الاختيار التام و المشيّة النافذة في جميع ما يريده و يأمر به على أهل البيت من زوجة و أولاد حتّى القتل لو رأى أنّ الصلاح فيه، و لا يعارضه في ذلك معارض، و كانت النساء نساء البيت كالزوجة و البنت و الأخت أردأ حالًا من الرجال حتى الأبناء التابعين محضًا لربّ البيت، فإنهنّ لم يكنّ أجزاء للاجتماع المدنيّ فلا تسمع لهنّ شكاية، و لا يُنفذ منهنّ معاملة، و لا تصح منهنّ في الأمور الاجتماعيّة مداخلة، لكنّ الرجال أعني الإخوة و الذكور من الأولاد حتى الأدعياء (فإن التبني و إلحاق الولد بغير أبيه كان معمولًا شائعًا عندهم، و كذا في يونان و إيران و العرب) كان من الجائز أن يأذن لهم ربّ البيت في الاستقلال بأمور الحياة مطلقًا لأنفسهم. و لم يكنّ أجزاء أصيلة في البيت، بل كان أهل البيت هم الرجال، و أما النساء فتبع، فكانت القرابة الاجتماعيّة الرسميّة المؤثّرة في التوارث و نحوها مختصة بما بين الرجال، و أما النساء فلا قرابة بينهنّ أنفسهنّ كالأمّ مع البنت و الأخت مع الأخت، و لا بينهنّ و بين الرجال كالزوجين أو الأمّ مع الابن أو الأخت مع الأخ أو البنت مع الأب، و لا توارث فيما لا قرابة رسميّة، نعم القرابة الطبيعيّة (و هي التي يوجبها الاتصال في الولادة) كانت موجودة بينهم، و ربّما يظهر أثرها في نحو الازدواج بالمحارم، و ولاية رئيس البيت و ربّه لها. و بالجملة كانت المرأة عندهم طفيليّة الوجود تابعة الحياة في المجتمع (المجتمع المدنيّ و البيتي) زمام حياتها و إرادتها بيد رب البيت من أبيها إن كانت في بيت الأب، أو زوجها إن كانت في بيت الزوج، أو غيرهما، يفعل بها ربّها ما يشاء و يحكم فيها ما يريد، فربّما باعها، و ربّما وهبها، و ربّما أقرضها للتمتّع، و ربّما أعطاها في حقّ يراد استيفاؤه منه كدين و خراج و نحوهما، و ربمّا ساسها بقتل أو ضرب أو غيرهما، و بيده تدبير مالها إن ملكت شيئًا بالازدواج أو الكسب مع إذن وليّها لا بالإرث لأنها كانت محرومة منه، و بيد أبيها أو واحد من سراة قومها تزويجها و بيد زوجها تطليقها. و أما اليونان فالأمر عندهم في تكوّن البيوت و ربوبيّة أربابها فيها كان قريب الوضع من وضع الروم. فقد كان الاجتماع المدنيّ و كذا الاجتماع البيتيّ عندهم متقوّمًا بالرجال، و النساء تبع لهم، و لذا لم يكن لها استقلال في إرادة و لا فعل إلا تحت ولاية الرجال، لكنّهم جميعًا ناقضوا أنفسهم بحسب الحقيقة في ذلك، فإنّ قوانينهم الموضوعة كانت تحكم عليهنّ بالاستقلال، و لا تحكم لهنّ إلا بالتبع إذا وافق نفع الرجال، فكانت المرأة عندهم تعاقب بجميع جرائمها بالاستقلال، و لا تثاب لحسناتها و لا تراعى جانبها إلا بالتبع و تحت ولاية الرجل. و هذا بعينه من الشواهد الدالة على أن جميع هذه القوانين ما كانت تراها جزءًا ضعيفًا من المجتمع الإنسانيّ ذات شخصيّة تبعيّة، بل كانت تقدّر أنها كالجراثيم المضرّة مفسدة لمزاج الاجتماع مضرّة بصحته، غير أن للمجتمع حاجة ضرورية إليها من حيث بقاء النسل، فيجب أن يعتنى بشأنها، و تذاق وبال أمرها إذا جنت أو أجرمت، و يحتلب الرجال درها إذا أحسنت أو نفعت، و لا تترك على حيال إرادتها صونًا من شرّها كالعدوّ القويّ الذي يغلب فيؤخذ أسيرًا مسترقًّا يعيش طول حياته تحت القهر، إن جاء بالسيّئة يؤاخذ بها، و إن جاء بالحسنة لم يشكر لها. و هذا الذي سمعته: أن الاجتماع كان متقوّمًا عندهم بالرجال هو الذي ألزمهم أن يعتقدوا أنّ الأولاد بالحقيقة هم الذكور، و أن بقاء النسل ببقائهم، و هذا هو منشأ ظهور عمل التبنّي و الإلحاق بينهم، فإنّ البيت الذي ليس لربّه ولد ذكر كان محكومًا بالخراب، و النّسل مكتوبًا عليه الفناء و الانقراض، فاضطرّ هؤلاء إلى اتخاذ أبناء صونًا عن الانقراض و موت الذكر، فدعوا غير أبنائهم لأصلابهم أبناء لأنفسهم، فكانوا أبناء رسما يرثون و يورّثون و يرتّب عليهم آثار الأبناء الصلبيّين، و كان الرجل منهم إذا زعم أنّه عاقر لا يولد منه ولد عمد إلى بعض أقاربه كأخيه و ابن أخيه فأورده فراش أهله لتعلق منه فتلد ولدًا يدعوه لنفسه، و يقوم بقاء بيته. و كان الأمر في التزويج و التطليق في اليونان قريبًا منهما في الروم، و كان من الجائز عندهم تعدّد الزوجات غير أنّ الزوجة إذا زادت على الواحدة كانت واحدة منهنّ زوجة رسميّة و الباقية غير رسميّة.
حال المرأة عند العرب (محيط نزول القرآن)
و قد كانت العرب قاطنين في شبه الجزيرة و هي منطقة حارّة جدبة الأرض، و المعظم من أمتهم قبائل بدوية بعيدة عن الحضارة و المدنية، يعيشون بشن الغارات، و هم متصلون بإيران من جانب و بالروم من جانب و ببلاد الحبشة و السودان من آخر. و لذلك كانت العمدة من رسومهم رسوم التوحّش، و ربّما وجد خلالها شيء من عادات الروم و إيران، و من عادات الهند و مصر القديم أحيانًا. كانت العرب لا ترى للمرأة استقلالًا في الحياة و لا حرمة و لا شرافة إلا حرمة البيت و شرافته، و كانت لا تورّث النساء، و كانت تجوّز تعدّد الزوجات من غير تحديد بعدد معيّن كاليهود، و كذا في الطلاق، و كانت تئد البنات، ابتدأ بذلك بنو تميم لوقعة كانت لهم مع النعمان بن المنذر، أسرت فيه عدّة من بناتهم ـ و القصّة معروفة ـ فأغضبهم ذلك فابتدروا به، ثم سرت السجيّة في غيرهم، و كانت العرب تتشأّم إذا ولدت للرجل منهم بنت يعدّها عارا لنفسه، {يتوارى من القوم من سوء ما بشر به}[2]، لكن يسرّه الابن مهما كثر و لو بالدعاء و الإلحاق، حتى أنهم كانوا يتبنون الولد لزنا محصنة ارتكبوه، و ربما نازع رجال من صناديدهم و أولي الطول منهم في ولد ادعاه كلّ لنفسه. و ربمّا لاح في بعض البيوت استقلال لنسائهم و خاصة للبنات في أمر الازدواج فكان يراعى فيه رضى المرأة و انتخابها، فيشبه ذلك منهم دأب الأشراف بإيران الجاري على تمايز الطبقات. و كيف كان فمعاملتهم مع النساء كانت معاملة مركّبة من معاملة أهل المدنيّة من الروم و إيران كتحريم الاستقلال في الحقوق، و الشركة في الأمور العامة الاجتماعيّة كالحكم و الحرب و أمر الازدواج إلا استثناء، و من معاملة أهل التوحّش و البربريّة، فلم يكن حرمانهنّ مستندًا إلى تقديس رؤساء البيوت و عبادتهم، بل من باب غلبة القويّ و استخدامه للضعيف. و أمّا العبادة فكانوا يعبدون جميعًا (رجالًا و نساء) أصنامًا يشبه أمرها أمر الأصنام عند الصابئين أصحاب الكواكب و أرباب الأنواع، و تتميّز أصنامهم بحسب تميّز القبائل و أهوائها المختلفة، فيعبدون الكواكب و الملائكة (و هم بنات الله سبحانه بزعمهم) و يتّخذونها على صور صوّرتها لهم أوهامهم، و من أشياء مختلفة كالحجارة و الخشب، و قد بلغ هواهم في ذلك إلى مثل ما نقل عن بني حنيفة أنهم اتخذوا لهم صنمًا من الحيس[3] فعبدوه دهرًا طويلًا، ثمّ أصابتهم مجاعة فأكلوه فقيل فيهم: أكلت حنيفة ربّها زمن التقحّم و المجاعة لم يحذروا من ربّهم سوء العواقب و التباعة و ربّما عبدوا حجرًا حتّى إذا وجدوا حجرًا أحسن منه طرحوا الأول و أخذوا بالثاني، و إذا لم يجدوا شيئًا جمعوا حفنة من تراب ثم جاءوا بغنم فحلبوه عليها ثم طافوا بها يعبدونها. و قد أودع هذا الحرمان و الشقاء في نفوس النساء ضعفًا في الفكرة يصوّر لها أوهامًا و خرافات عجيبة في الحوادث و الوقائع المختلفة ضبطتها كتب السير و التاريخ. فهذه جمل من أحوال المرأة في المجتمع الإنساني من أدواره المختلفة قبل الإسلام و زمن ظهوره، آثرنا فيها الاختصار التام. و يستنتج من جميع ذلك: أولًا: أنهم كانوا يرونها إنسانًا في أفق الحيوان العجم، أو إنسانًا ضعيف الإنسانية منحطًّا لا يؤمن شرّه و فساده لو أطلق من قيد التبعيّة، و اكتسب الحريّة في حياته، و النظر الأول أنسب لسيرة الأمم الوحشيّة و الثاني لغيرهم. و ثانيًا: أنّهم كانوا يرون في وزنها الاجتماعي أنّها خارجة من هيكل المجتمع المركّب غير داخلة فيه، و إنّما هي من شرائطه التي لا غناء عنها كالمسكن لا غناء عن الالتجاء إليه، أو أنها كالأسير المسترقّ الذي هو من توابع المجتمع الغالب، ينتفع من عمله و لا يؤمن كيده على اختلاف المسلكين. و ثالثًا: أنّهم كانوا يرون حرمانها في عامّة الحقوق التي أمكن انتفاعها منها إلا بمقدار يرجع انتفاعها إلى انتفاع الرجال القيّمين بأمرها. ورابعًا: أنّ أساس معاملتهم معها فيما عاملوا هو غلبة القويّ على الضعيف. و بعبارة أخرى قريحة الاستخدام. هذا في الأمم غير المتمدّنة، و أمّا الأمم المتمدّنة فيضاف عندهم إلى ذلك ما كانوا يعتقدونه في أمرها أنّها إنسان ضعيف الخلقة لا تقدر على الاستقلال بأمرها، و لا يؤمن شرّها، و ربّما اختلط الأمر اختلاطًا باختلاف الأمم و الأجيال.
ماذا أبدعه الإسلام في أمرها؟
لا زالت بأجمعها ترى في أمر المرأة ما قصصناه عليك، و تحبسها في سجن الذلّة و الهوان حتى صار الضعف و الصغار طبيعة ثانية لها، عليها نبتت لحمها و عظمها و عليها كانت تحيا و تموت، و عادت ألفاظ المرأة و الضعف و الهوان كاللغات المترادفة بعدما وضعت متباينة، لا عند الرجال فقط بل و عند النساء، ومن العجب ذلك ولا ترى أمّة من الأمم وحشيّها و مدنيّها إلا و عندهم أمثال سائرة في ضعفها و هوان أمرها، و في لغاتهم على اختلاف أصولها و سياقاتها و ألحانها أنواع من الاستعارة و الكناية و التشبيه مربوطة بهذه اللفظة (المرأة) يقرّع بها الجبان، و يؤنّب بها الضعيف، و يلام بها المخذول المستهان و المستذلّ المنظلم، و يوجد من نحو قول القائل: و ما أدري و ليت أخال أدري أقوم آل حصن أم نساء؟! مئات و ألوف من النظم و النثر في كلّ لغة. و هذا في نفسه كاف في أن يحصل للباحث ما كانت تعتقده الجامعة الإنسانيّة في أمر المرأة و إن لم يكن هناك ما جمعته كتب السير و التواريخ من مذاهب الأمم و الملل في أمرها، فإنّ الخصائل الروحيّة و الجهات الوجوديّة في كلّ أمة تتجلّى في لغتها و آدابها. و لم يورّث من السابقين ما يعتني بشأنها و يهمّ بأمرها إلا بعض ما في التوراة و ما وصّى به عيسى بن مريم عليه السلام من لزوم التسهيل عليها و الإرفاق بها. و أما الإسلام أعني الدين الحنيف النازل به القرآن فإنه أبدع في حقها أمرًا ما كانت تعرفه الدنيا منذ قطن بها قاطنوها، و خالفهم جميعًا في بناء بنية فطريّة عليها، كانت الدنيا هدمتها من أول يوم و أعفت آثارها، و ألغى ما كانت تعتقده الدنيا في هويّتها اعتقادًا و ما كانت تسير فيها سيرتها عملًا.
رأي الإسلام في حقيقة شخصيّة المرأة وهويّتها
أما هويّتها: فإنّه بيّن أنّ المرأة كالرجل إنسان، و أنّ كل إنسان ذكرًا أو أنثى فإنّه إنسان يشترك في مادّته و عنصره إنسانان ذكرٌ و أنثى، و لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ}[4] فجعل تعالى كلّ إنسان مأخوذًا مؤلّفًا من إنسانين ذكرٍ و أنثى هما معًا و بنسبة واحدة مادّة كونه و وجوده، و هو سواء كان ذكرًا أو أنثى مجموع المادّة المأخوذة منهما، و لم يقل تعالى: مثل ما قاله القائل: و إنّما أمّهات الناس أوعية. و لا قال مثل ما قاله الآخر: بنونا بنو أبنائنا و بناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد. بل جعل تعالى كلًّا مخلوقًا مؤلّفًا من كلّ. فعاد الكلّ أمثالًا، و لا بيان أتمّ و لا أبلغ من هذا البيان، ثمّ جعل الفضل في التقوى. و قال تعالى: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}[5] فصرّح أنّ السعي غير خائب و العمل غير مضيّع عند الله و علّل ذلك بقوله: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} فعبّر صريحًا بما هو نتيجة قوله في الآية السابقة: {إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى}، و هو أنّ الرجل و المرأة جميعًا من نوع واحد من غير فرق في الأصل و السنخ. ثمّ بيّن بذلك أنّ عمل كلّ واحد من هذين الصنفين غير مضيّع عند الله لا يبطل في نفسه، و لا يعدوه إلى غيره، {كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهينَة}[6] ، لا كما كان يقوله الناس: إنّ عليهنّ سيئاتهنّ، و للرجال حسناتهنّ من منافع وجودهنّ، و سيجيء لهذا الكلام مزيد توضيح. و إذا كان لكلّ منهما ما عمل و لا كرامة إلا بالتقوى، و من التقوى الأخلاق الفاضلة كالإيمان بدرجاته، و العلم النافع، و العقل الرزين، و الخلق الحسن، و الصبر، و الحلم فالمرأة المؤمنة بدرجات الإيمان، أو المليئة علمًا، أو الرزينة عقلًا، أو الحسنة خلقًا أكرم ذاتًا و أسمى درجة ممّن لا يعادلها في ذلك من الرجال في الإسلام، كان من كان، فلا كرامة إلا للتقوى و الفضيلة.و في معنى الآية السابقة و أوضح منها قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}[7] ، و قوله تعالى: {وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ}[8] و قوله تعالى: {وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً}[9] و قد ذمّ الله سبحانه الاستهانة بأمر البنات بمثل قوله و هو من أبلغ الذمّ: {وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ}[10] و لم يكن تواريهم إلا لعدّهم ولادتها عارًا على المولود له، و عمدة ذلك أنّهم كانوا يتصوّرون أنها ستكبر فتصير لعبة لغيرها يتمتّع بها، و ذلك نوع غلبة من الزوج عليها في أمر مستهجن، فيعود عاره إلى بيتها و أبيها، و لذلك كانوا يئدون البنات و قد سمعت السبب الأوّل فيه فيما مرّ، و قد بالغ الله سبحانه في التشديد عليه حيث قال: {وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}.[11] و قد بقي من هذه الخرافات بقايا عند المسلمين ورثوها من أسلافهم، و لم يغسِل رينها من قلوبهم المربّون، فتراهم يعدّون الزنا عارًا لازمًا على المرأة و بيتها و إن تابت دون الزاني و إن أصرّ، مع أنّ الإسلام قد جمع العار و القبح كله في المعصيّة، و الزاني و الزانية سواء فيها.
رأي الإسلام في مكانة المرأة الاجتماعيّة
و أما وزنها الاجتماعيّ: فإنّ الإسلام ساوى بينها و بين الرجل من حيث تدبير شؤون الحياة بالإرادة و العمل فإنّهما متساويان من حيث تعلّق الإرادة بما تحتاج إليه البنية الإنسانيّة في الأكل و الشرب و غيرهما من لوازم البقاء، و قد قال تعالى: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}[12] فلها أن تستقلّ بالإرادة و لها أن تستقلّ بالعمل و تمتلك نتاجهما كما للرجل ذلك من غير فرق {لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ}[13] . فهما سواء فيما يراه الإسلام و يحقّه القرآن و الله يحقّ الحق بكلماته، غير أنه قرر فيها خصلتين ميّزها بهما الصنع الإلهيّ: إحداهما: أنها بمنزلة الحرث في تكوّن النوع و نمائه؛ فعليها يعتمد النوع في بقائه فتختصّ من الأحكام بمثل ما يختصّ به الحرث، و تمتاز بذلك من الرجل. و الثانية: أنّ وجودها مبنيّ على لطافة البنية و رقّة الشعور، و لذلك أيضا تأثير في أحوالها و الوظائف الاجتماعيّة المحوّلة إليها. فهذا وزنها الاجتماعي، و بذلك يظهر وزن الرجل في المجتمع، و إليه تنحل جميع الأحكام المشتركة بينهما و ما يختصّ به أحدهما في الإسلام، قال تعالى: {وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}[14] ، يريد أنّ الأعمال التي يهديها كلّ من الفريقين إلى المجتمع هي الملاك لما اختصّ به من الفضل، و أنّ من هذا الفضل ما تعيّن لحوقه بالبعض دون البعض كفضل الرجل على المرأة في سهم الإرث، و فضل المرأة على الرجل في وضع النفقة عنها، فلا ينبغي أن يتمنّاه متمنٍّ، و منه ما لم يتعيّن إلا بعمل العامل كائنًا من كان كفضل الإيمان و العلم و العقل و التقوى و سائر الفضائل التي يستحسنها الدين، و {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء}[15] ، و {اسألوا الله من فضله}، و الدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى بعده: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ}، على ما سيجيء بيانه.
ما شرّعه الإسلام من أحكام مشتركة وخاصة في حقّ المرأة
و أما الأحكام المشتركة و المختصّة: فهي تشارك الرّجل في جميع الأحكام العباديّة و الحقوق الاجتماعيّة فلها: أن تستقلّ فيما يستقلّ به الرجل من غير فرق في إرث و لا كسب و لا معاملة و لا تعليم و تعلّم و لا اقتناء حقّ و لا دفاعٍ عن حقّ، و غير ذلك إلا في موارد يقتضي طباعها ذلك، وعمدة هذه المورد: أنها لا تتولّى الحكومة و القضاء، و لا تتولّى القتال بمعنى المقارعة لا مطلق الحضور و الإعانة على الأمر كمداواة الجرحى مثلًا، و لها نصف سهم الرجل في الإرث. و عليها: الحجاب و ستر مواضع الزينة، و عليها: أن تطيع زوجها فيما يرجع إلى التمتّع منها[16] . و تدورك ما فاتها بأنّ نفقتها في الحياة على الرجل: الأب أو الزوج، و أنّ عليه أن يحمي عنها منتهى ما يستطيعه، و أنّ لها حقّ تربية الولد و حضانته. و قد سهّل الله لها أنّها محميّة النفس و العرض حتّى عن سوء الذِّكر، و أنّ العبادة موضوعةٌ عنها أيّام عادتها و نفاسها، و أنها لازمة الإرفاق في جميع الأحوال. و المتحصل من جميع ذلك: أنها لا يجب عليها في جانب العلم إلا العلم بأصول المعارف و العلم بالفروع الدينيّة (أحكام العبادات و القوانين الجارية في الاجتماع)، و أما في جانب العمل فأحكام الدين و طاعة الزوج فيما يتمتّع به منها، و أما تنظيم الحياة الفرديّة بعمل أو كسب بحرفة أو صناعة و كذا الورود فيما يقوم به نظام البيت، و كذا المداخلة في ما يصلح المجتمع العام كتعلّم العلوم و اتخاذ الصناعات و الحرف المفيدة للعامّة و النافعة في الاجتماعات مع حفظ الحدود الموضوعة فيها فلا يجب عليها شيء من ذلك، و لازمه أن يكون الورود في جميع هذه الموارد من علم أو كسب أو شغل أو تربية و نحو ذلك، كلّه فضلًا لها تتفاضل به، و فخرًا لها تتفاخر به، و قد جوّز الإسلام بل ندب إلى التفاخر بينهنّ، مع أنّ الرجال نهوا عن التفاخر في غير حال الحرب. و السنّة النبوية تؤيد ما ذكرناه، و لو لا بلوغ الكلام في طوله إلى ما لا يسعه هذا المقام لذكرنا طرفًا من سيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله مع زوجته خديجة و مع بنته سيّدة النساء فاطمة (ع) و مع نسائه و مع نساء قومه و ما وصّى به في أمر النساء، و المأثور من طريقة أئمة أهل البيت و نسائهم كزينب بنت عليّ و فاطمة و سكينة بنتي الحسين و غيرهن على جماعتهم السلام، و وصاياهم في أمر النساء. و لعلّنا نوفق لنقل شطر منها في الأبحاث الروائيّة المتعلقة بآيات النساء فليرجع المراجع إليها.
الأساس الذي بنى عليه الإسلام أحكام المرأة
و أما الأساس الذي بنيت عليه هذه الأحكام و الحقوق فهو الفطرة، و قد علم من الكلام في وزنها الاجتماعيّ كيفيّة هذا البناء و نزيده هاهنا إيضاحًا فنقول: لا ينبغي أن يرتاب الباحث عن أحكام الاجتماع و ما يتّصل بها من المباحث العلميّة أنّ الوظائف الاجتماعيّة و التكاليف الاعتباريّة المتفرّعة عليها يجب انتهاؤها بالآخرة إلى الطبيعة، فخصوصيّة البنية الطبيعيّة الإنسانيّة هي التي هدَتِ الإنسان إلى هذا الاجتماع النوعيّ الذي لا يكاد يوجد النوع خاليًا عنه في زمان، و إن أمكن أن يعرض لهذا الاجتماع المستند إلى اقتضاء الطبيعة ما يخرجه عن مجرى الصحة إلى مجرى الفساد، كما يمكن أن يعرض للبدن الطبيعيّ ما يخرجه عن تمامه الطبيعيّ إلى نقص الخلقة، أو عن صحّته الطبيعيّة إلى السقم و العاهة. فالاجتماع بجميع شؤونه و جهاته سواءٌ كان اجتماعًا فاضلًا أو اجتماعًا فاسدًا ينتهي بالآخرة إلى الطبيعة، و إن اختلف القسمان من حيث إنّ الاجتماع الفاسد يصادف في طريق الانتهاء ما يفسده في آثاره، بخلاف الاجتماع الفاضل. فهذه حقيقة، و قد أشار إليها تصريحًا أو تلويحًا الباحثون عن هذه المباحث، و قد سبقهم إلى بيانه الكتاب الإلهيّ فبيّنه بأبدع البيان قال تعالى: {الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى}[17] و قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى}[18] ، و قال تعالى: {وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها}[19] ، إلى غير ذلك من آيات القدر. فالأشياء و من جملتها الإنسان إنما تهتدي في وجودها و حياتها إلى ما خلقت له و جهّزت بما يكفيه و يصلح له من الخلقة، و الحياة القيّمة بسعادة الإنسان هي التي تنطبق أعمالها على الخلقة و الفطرة انطباقا تامًّا، و تنتهي وظائفها و تكاليفها إلى الطبيعة انتهاءً صحيحًا، و هذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}[20]. و الذي تقتضيه الفطرة في أمر الوظائف و الحقوق الاجتماعيّة بين الأفراد ـ على أن الجميع إنسان ذو فطرة بشرية ـ أن يساوى بينهم في الحقوق و الوظائف من غير أن يحبا بعض و يضطهد آخرون بإبطال حقوقهم، لكن ليس مقتضى هذه التسوية التي يحكم بها العدل الاجتماعيّ أن يبذل كلّ مقام اجتماعيّ لكل فرد من أفراد المجتمع، فيتقلّد الصبيّ مثلًا على صباوته و السفيه على سفاهته ما يتقلّده الإنسان العاقل المجرّب، أو يتناول الضعيف العاجز ما يتناوله القويّ المتقدّر من الشؤون و الدرجات، فإنّ في تسوية حال الصالح و غير الصالح إفسادًا لحالهما معًا. بل الذي يقتضيه العدل الاجتماعيّ و يفسّر به معنى التسوية أن يعطى كلّ ذي حقٍّ حقّه و ينزّل منزلته، فالتساوي بين الأفراد و الطبقات إنّما هو في نيل كلّ ذي حقّ خصوص حقّه من غير أن يزاحم حقٌّ حقًّا، أو يهمَل أو يبطَلَ حقٌّ بغيًا أو تحكّمًا و نحو ذلك، و هذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: {وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}[21] الآية، كما مرّ بيانه[22] ، فإنّ الآية تصرّح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف بينهنّ و بين الرجال. ثمّ إنّ اشتراك القبيلين أعني الرجال و النساء في أصول المواهب الوجودية أعني، الفكر و الإرادة المولّدتين للاختيار يستدعي اشتراكها مع الرجل في حريّة الفكر و الإرادة أعني الاختيار، فلها الاستقلال بالتصرّف في جميع شؤون حياتها الفرديّة و الاجتماعيّة عدا ما منع عنه مانع، و قد أعطاها الإسلام هذا الاستقلال و الحريّة على أتمّ الوجوه كما سمعت فيما تقدّم، فصارت بنعمة الله سبحانه مستقلّة بنفسها، منفكّة الإرادة و العمل عن الرجال و ولايتهم و قيمومتهم، واجدة لما لم يسمح لها به الدنيا في جميع أدوارها و خلت عنه صحائف تاريخ وجودها، قال تعالى: {فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[23] الآية. لكنّها مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها تختلف مع الرجال من جهة أخرى، فإن المتوسّطة من النساء تتأخّر عن المتوسّط من الرجال في الخصوصيّات الكماليّة من بنيتها كالدماغ و القلب و الشرائين و الأعصاب و القامة و الوزن على ما شرحه فن وظائف الأعضاء، و استوجب ذلك أن جسمها ألطف و أنعم كما أنّ جسم الرجل أخشن و أصلب، و أنّ الإحساسات اللطيفة كالحبّ و رقّة القلب و الميل إلى الجمال و الزينة أغلب عليها من الرجل، كما أنّ التعقّل أغلب عليه من المرأة، فحياتها حياة إحساسيّة كما أنّ حياة الرجل حياة تعقليّة. و لذلك فرّق الإسلام بينهما في الوظائف و التكاليف العامّة الاجتماعية التي يرتبط قوامها بأحد الأمرين، أعني التعقل و الإحساس؛ فخصّ مثل الولاية و القضاء و القتال بالرجال لاحتياجها المبرم إلى التعقّل، و الحياة التعقليّة إنما هي للرجل دون المرأة، و خصّ مثل حضانة الأولاد و تربيتها و تدبير المنزل بالمرأة، و جعل نفقتها على الرجل، و جبر ذلك له بالسهمين في الإرث (و هو في الحقيقة بمنزلة أن يقتسما الميراث نصفين ثم تعطى المرأة ثلث سهمها للرجل في مقابل نفقتها أي للانتفاع بنصف ما في يده فيرجع بالحقيقة إلى أن ثلثي المال في الدنيا للرجال ملكًا و عينًا و ثلثيه للنساء انتفاعًا فالتدبير الغالب إنما هو للرجال لغلبة تعقلهم، و الانتفاع و التمتّع الغالب للنساء لغلبة إحساسهن، و سنزيده إيضاحا في الكلام على آيات الإرث إن شاء الله تعالى) ثمّ تمّم ذلك بتسهيلات و تخفيفات في حق المرأة مرّت الإشارة إليها.
إشكال حول أثر أحكام الإسلام في ضعف المرأة وضمور طاقتها وجوابه
فإن قلت: ما ذكر من الإرفاق البالغ للمرأة في الإسلام يوجب انعطالها في العمل؛ فإنّ ارتفاع الحاجة الضروريّة إلى لوازم الحياة بتخديرها[24] و كفاية مئونتها بإيجاب الإنفاق على الرجل يوجب إهمالها و كسلها و تثاقلها عن تحمّل مشاقّ الأعمال و الأشغال؛ فتنمو على ذلك نماء رديًّا و تنبت نباتًا سيئًا غير صالح لتكامل الاجتماع، و قد أيّدت التجربة ذلك. قلت: وضع القوانين المصلحة لحال البشر أمرٌ، و إجراء ذلك بالسيرة الصالحة و التربية الحسنة التي تنبت الإنسان نباتًا حسنًا أمر آخر، و الذي أصيب به الإسلام في مدّة سيره الماضي هو فقد الأولياء الصالحين و القوّام المجاهدين، فارتدّت بذلك أنفاس الأحكام، و توقّفت التربية ثمّ رجعت القهقرى. و من أوضح ما أفاده التجارب القطعي: أنّ مجرّد النظر و الاعتقاد لا يثمر أثره ما لم يثبت في النفس بالتبليغ و التربية الصالحَين، و المسلمون في غير برهة يسيرة لم يستفيدوا من الأولياء المتظاهرين بولايتهم القيّمين بأمورهم تربية صالحة يجتمع فيها العلم و العمل، فهذا معاوية، يقول على منبر العراق حين غلب على أمر الخلافة ما حاصله: إني ما كنت أقاتلكم لتصلوا أو تصوموا فذلك إليكم و إنما كنت أقاتلكم لأتأمر عليكم و قد فعلت.[25] و هذا غيره من الأمويين و العباسيين فمن دونهم. و لو لا استضاءة هذا الدين بنور الله الذي لا يطفأ ـ {و الله متمّ نوره و لو كره الكافرون}[26] ـ لقضي عليه منذ عهد قديم.
حريّة المرأة في المدنيّة الغربيّة
لا شكّ أن الإسلام له التقدّم الباهر في إطلاقها عن قيد الإسارة، و إعطائها الاستقلال في الإرادة و العمل، و أنّ أمم الغرب فيما صنعوا من أمرها إنّما قلدوا الإسلام ـ و إن أساؤوا التقليد و المحاذاة ـ فإنّ سيرة الإسلام حلقة بارزة مؤثّرة أتمّ التأثير في سلسلة السير الاجتماعيّة، و هي متوسّطة متخلّلة، و من المحال أن يتّصل ذيل السلسلة بصدرها دونها. و بالجملة فهؤلاء بنوا على المساواة التامّة بين الرجل و المرأة في الحقوق في هذه الأزمنة بعد أن اجتهدوا في ذلك سنين مع ما في المرأة من التأخّر الكماليّ بالنسبة إلى الرجل كما سمعت إجماله. و الرأي العام عندهم تقريبًا: أنّ تأخر المرأة في الكمال و الفضيلة مستند إلى سوء التربية التي دامت عليها و مكثت قرونًا لعلّها تعادل عمر الدنيا مع تساوي طباعها طباع الرجل. و يتوجّه عليه: أنّ الاجتماع منذ أقدم عهود تكوّنه قضى على تأخّرها[27] عن الرجل في الجملة، و لو كان الطبعان متساويين لظهر خلافه و لو في بعض الأحيان و لتغيّرت خلقة أعضائها الرئيسة و غيرها إلى مثل ما في الرجل. و يؤيّد ذلك أنّ المدنيّة الغربيّة مع غاية عنايتها في تقديم المرأة، ما قدرت بعد على إيجاد التساوي بينهما، و لم يزل الإحصاءات في جميع ما قدّم الإسلام فيه الرجل على المرأة كالولاية و القضاء و القتال تقدّم الرجال و تؤخّر النساء، و أمّا ما الذي أورثته هذه التسوية في هيكل الاجتماع الحاضر فسنشرح ما تيسر لنا منه في محلّه إن شاء الله تعالى. [28]
[1] ـ [ أي الجزر الآهلة في المحيطات ]
[2] ـ سورة النحل، مقطع من الآية 59.
[3] ـ تَمْرٌ يُنْزَعُ نَوَاهُ و يُدَقُّ مَعَ أَقِطٍ ـ و هو لبن مجفف يابس مستحجر يطبخ به ـ و يُعْجَنَانِ بالسَّمْن.
[4] ـ سورة الحجرات، الآية 13.
[5] ـ سورة آل عمران، الآية 195.
[6] ـ سورة المدّثر، الآية 38.
[7] ـ سورة النحل، الآية 97.
[8] ـ سورة غافر، الآية 40.
[9] ـ سورة النساء، الآية 124.
[10] ـ سورة النحل، الآية 59.
[11] ـ سورة التكوير، الآية 9.
[12] ـ سورة آل عمران، الآية 195.
[13] ـ اقتباس من سورة البقرة الآية 286.
[14] ـ سورة النساء، الآية 32.
[15] ـ مقطع من الآية 54 من سورة المائدة، و21 من سورة الحديد، و4 من سورة الجمعة.
[16] ـ [وأن لا تخرج من بيته بغير إذنه].
[17] ـ سورة طه، الآية 50.
[18] ـ سورة الأعلى، الآية 3.
[19] ـ سورة الشمس، الآية 8.
[20] ـ سورة الروم، الآية 30.
[21] ـ سورة البقرة، مقطع من الآية 228.
[22] ـ [ قال رضوان الله عليه في تفسيرها في ج2، ص 232 من تفسير الميزان: المعروف هو الذي يعرفه الناس بالذوق المكتسب من نوع الحياة الاجتماعية المتداولة بينهم، و قد كرر سبحانه المعروف في هذه الآيات فذكره في اثني عشر موضعا اهتماما بأن يجري هذا العمل أعني الطلاق و ما يلحق به على سنن الفطرة و السلامة، فالمعروف تتضمن هداية العقل، و حكم الشرع، و فضيلة الخلق الحسن و سنن الأدب. و حيث بنى الإسلام شريعته على أساس الفطرة و الخلقة كان المعروف عنده هو الذي يعرفه الناس إذا سلكوا مسلك الفطرة و لم يتعدّوا طور الخلقة، و من أحكام الاجتماع المبنيّ على أساس الفطرة أن يتساوى في الحكم أفراده و أجزاؤه فيكون ما عليهم مثل ما لهم إلا أن ذلك التساوي إنما هو مع حفظ ما لكلّ من الأفراد من الوزن في الاجتماع و التأثير و الكمال في شؤون الحياة فيحفظ للحاكم حكومته، و للمحكوم محكوميته، و للعالم علمه، و للجاهل حاله، و للقوي من حيث العمل قوته، و للضعيف ضعفه ثم يبسط التساوي بينها بإعطاء كل ذي حق حقه، و على هذا جرى الإسلام في الأحكام المجعولة للمرأة و على المرأة فجعل لها مثل ما جعل عليها مع حفظ ما لها من الوزن في الحياة الاجتماعية في اجتماعها مع الرجل للتناكح و التناسل. و الإسلام يرى في ذلك أن للرجال عليهن درجة، و الدرجة المنزلة. و من هنا يظهر: أن قوله تعالى: وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، قيد متمم للجملة السابقة، و المراد بالجميع معنى واحد و هو: أن النساء أو المطلقات قد سوى الله بينهنّ و بين الرجال مع حفظ ما للرجال من الدرجة عليهن فجعل لهن مثل ما عليهن من الحكم]
[23] ـ سورة البقرة، الآية 234.
[24] ـ [أي سترها وفرض الحجاب عليها]
[25] ـ [انظر: أبي الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص 45؛ ابن أبي حديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 16، ص 46].
[26] ـ سورة الصفّ، مقطع من الآية 8.
[27] ـ [ أي حكم بتأخرها ]
[28] ـ [تفسير الميزان، ج2، ص: 261 ـ 277] ملاحظة: تمّ انتخاب هذه المقالة من تفسير الميزان ولم يجر فيها أيّ تغيير سوى في العناوين وبعض الهوامش وقد أشير إليها بوضعها بين معكوفتين.
|