الفيديو المحاضرات سؤال و جواب معرض الصور صوتيات المكتبة اتصل بنا الرئیسیة
  الأحد  21 جمادي الاُولي  1446 - Sun  24 Nov 2024
البحوث المنتخبة    
كتاب المتقين    
موقع المتقين > العقائد والكلام > حقيقة التوحيد في الكتاب والسنّة عند العلامة الطباطبائي


هو العليم

حقيقة التوحيد في الكتاب والسنّة

عند العلامة الطباطبائي (رض) : نفي الوحدة العدديّة عن الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

    

مقدّمة في تاريخ البحث حول التوحيد والمعاني التي ظهرت له عبره

القول بأن للعالم صانعًا ثمّ القول بأنّه واحد من أقدم المسائل الدائرة بين متفكّري هذا النوع تهديه إليه فطرته المركوزة فيه، حتّى أنّ الوثنيّة المبنيّة على الإشراك إذا أمعنّا في حقيقة معناها، وجدناها مبنيّة على أساس توحيد الصانع، وإثبات شفعاء عنده؛ {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى} [1]وإن انحرفت بعدُ عن مجراها، وآل أمرها إلى إعطاء الاستقلال والأصالة لآلهة دون الله.
و الفطرة الداعية إلى توحيد الإله وإن كانت تدعو إلى إله واحد غير محدود العظمة والكبرياء ذاتًا وصفة على ما [يأتي] [2] بيانه بالاستفادة من الكتاب العزيز، غير أنّ ألفة الإنسان وأنسه في ظرف حياته بالآحاد العدديّة من جانب، وبلاء المليين بالوثنيين والثنويين وغيرهم لنفي تعدّد الآلهة من جانب آخر، سجّل عدديّة الوحدة وجعل حكم الفطرة المذكورة كالمغفول عنه.
و لذلك ترى المأثور من كلمات الفلاسفة الباحثين في مصر القديم واليونان وإسكندريّة وغيرهم ممّن بعدهم يعطي الوحدة العدديّة حتّى صرّح بها مثل الرئيس أبي علي بن سينا في كتاب الشفاء، وعلى هذا المجرى يجري كلام غيره ممّن بعده إلى حدود الألف من الهجرة النبويّة.
و أمّا أهل الكلام من الباحثين فاحتجاجاتهم على التوحيد لا تعطي أزيد من الوحدة العدديّة أيضًا في عين أنّ هذه الحجج مأخوذة من الكتاب العزيز عامّة؛ فهذا ما يتحصّل من كلمات أهل البحث في هذه المسألة.
فالذي بيّنه القرآن الكريم من معنى التوحيد أول خطوة خُطيت في تعليم هذه الحقيقة من المعرفة، غير أنّ أهل التفسير والمتعاطين لعلوم القرآن من الصحابة والتابعين ثمّ الذين يلونهم أهملوا هذا البحث الشريف؛ فهذه جوامع الحديث وكتب التفسير المأثورة منهم لا ترى فيها أثرًا من هذه الحقيقة لا ببيان شارح، ولا بسلوك استدلالي.
و لم نجد ما يكشف عنها غطاءها إلا ما ورد في كلام الإمام عليّ بن أبي طالب عليه أفضل السلام خاصّة، فإنّ كلامه هو الفاتح لِبابها، والرافع لسترها وحجابها على أهدى سبيل وأوضح طريق من البرهان، ثمّ ما وقع في كلام الفلاسفة الإسلاميين بعد الألف الهجري[3] ، وقد صرحوا بأنّهم إنما استفادوه من كلامه عليه السلام.
و هذا هو السر في اقتصارنا في البحث الروائي [الآتي] على نقل نماذج من غرر كلامه الرائق عليه السلام، لأنّ السلوك في هذه المسألة وشرحها من مسلك الإحتجاج‏ البرهاني لا يوجد في كلام غيره عليه السلام.
و لهذا بعينه تركنا عقد بحث فلسفيّ مستقلّ لهذه المسألة فإنّ البراهين الموردة في هذا الغرض مؤلّفة من هذه المقدّمات المبيّنة في كلامه لا تزيد على ما في كلامه بشي‏ء، والجميع مبنيّة على صرافة الوجود وأحديّة الذات جلّت عظمته‏. [4]

    

البحث القرآنيّ

    

اختلاف أفهام الناس في التوحيد

لا يرتاب الباحث المتعمّق في المعارف الكليّة أنّ مسألة التوحيد من أبعدها غورًا، وأصعبها تصوّرًا وإدراكًا، وأعضلها حلًّا؛ لارتفاع كعبها عن المسائل العامّة العاميّة التي تتناولها الأفهام، والقضايا المتداولة التي تألفها النفوس، وتعرفها القلوب.
وما هذا شأنه تختلف العقول في إدراكه والتصديق به؛ للتنوّع الفكريّ الذي فطر عليه الإنسان من اختلاف أفراده من جهة البنية الجسميّة، وأداء ذلك إلى اختلاف أعضاء الإدراك في أعمالها، ثمّ تأثير ذلك في الفهم والتعقّل من حيث الحدّة والبلادة، والجودة والرداءة، والاستقامة والانحراف.
فهذا كلّه مما لا شكّ فيه، وقد قرّر القرآن هذا الاختلاف في موارد من آياته الكريمة كقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ} [5]، وقوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا ولَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} ،[6] وقوله تعالى: {فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [7] ، وقوله تعالى في ذيل الآية 75 من المائدة ...:{انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
و من أظهر مصاديق هذا الاختلاف الفهمي اختلاف أفهام الناس في تلقي معنى توحده تعالى لما في أفهامهم من الاختلاف العظيم والنوسان الوسيع في تقرير مسألة وجوده تعالى على ما بينهم من الاتفاق على ما تعطيه الفطرة الإنسانيّة بإلهامها الخفيّ وإشارتها الدقيقة.
فقد بلغ فهم آحاد من الإنسان في ذلك أن جعل الأوثان المتّخذة، والأصنام المصنوعة من الخشب والحجارة حتّى من نحو الأَقِط [8] والطينة المعمولة من أبوال الغنم شركاء لله، وقرناء له يعبد كما تعبد هؤلاء، ويسأل كما تسأل هؤلاء، ويخضع له كما يخضع لها. ولم يلبث هذا الإنسان دون أن غلّب هذه الأصنام عليه تعالى بزعمه، وأقبل عليها وتركه، وأمّرها على حوائجه وعَزَلَه.

    

وصف بعض الناس لله بالوحدة العددية

فهذا الإنسان قصارى ما يراه من الوجود له تعالى هو مثل ما يراه لآلهته التي خلقها بيده، أو خلقها إنسان مثله بيده؛ ولذلك كانوا يثبتون له تعالى من صفة الوحدة مثل ما يصفون به كل واحد من أصنامهم، وهي الوحدة العدديّة التي تتألف منها الأعداد، قال تعالى: {وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ، أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ عُجابٌ}.[9]
فهؤلاء كانوا يتلقّون الدعوة القرآنيّة إلى التوحيد دعوة إلى القول بالوحدة العدديّة التي تقابل الكثرة العدديّة كقوله تعالى: {وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ} [10]و قوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [11] وغير ذلك من الآيات الداعية إلى رفض الآلهة الكثيرة وتوجيه الوجه لله الواحد، وقوله تعالى: {وَ إِلهُنا وإِلهُكُمْ واحِدٌ} [12]وغيره من الآيات الداعية إلى رفض التفرّق في العبادة للإله، حيث كانت كل أمّة أو طائفة أو قبيلة تتّخذ إلها تختصّ به، ولا تخضع لإله الآخرين.

    

نفي القرآن للوحدة العددية عن الله تعالى بواسطة إثبات الواحديّة القهّارة

و القرآن ينفي في عالي تعليمه الوحدة العدديّة عن الإله جلّ ذكره؛ فإنّ هذه الوحدة لا تتمّ إلا بتميز هذا الواحد من ذلك الواحد بالمحدوديّة التي تقهره، والمقدّرية التي تغلبه، مثال ذلك ماء الحوض إذا فرّقناه في آنية كثيرة كان ماء كل إناء ماء واحدًا غير الماء الواحد الذي في الإناء الآخر، وإنما صار ماء واحدًا يتميّز عمّا في الآخر لكون ما في الآخر مسلوبًا عنه غير مجتمع معه، وكذلك هذا الإنسان إنما صار إنسانًا واحدا لأنّه مسلوب عنه ما للإنسان الآخر، ولو لا ذلك لم يأت للإنسانيّة الصادقة على هذا وذاك أن تكون واحدة بالعدد ولا كثيرة بالعدد.
فمحدوديّة الوجود هي التي تقهر الواحد العدديّ على أن يكون واحدًا، ثمّ بانسلاب هذه الوحدة من بعض الجهات تتألّف كثرة عدديّة كما عند عروض صفة الاجتماع بوجه.
و إذ كان الله سبحانه قاهرًا غير مقهور، وغالبًا لا يغلبه شي‏ء البتّة كما يعطيه التعليم القرآني لم تتصوّر في حقّه وحدة عدديّة ولا كثرة عدديّة، قال تعالى:{وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ} [13]، وقال: {أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وآباؤُكُمْ} [14]، وقال: {وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ} [15]، وقال: {لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى‏ مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ} [16]
و الآيات بسياقهاكما ترى‏تنفي كل وحدة مضافة إلى كثرة مقابلة لها سواء كانت وحدة عددية كالفرد الواحد من النوع الذي لو فرض بإزائه فرد آخر كانا اثنين فإن هذا الفرد مقهور بالحد الذي يحده به الفرد الآخر المسلوب عنه المفروض قباله، أو كانت وحدة نوعية أو جنسية أو أي وحدة كلية مضافة إلى كثرة من سنخها كالإنسان الذي هو نوع واحد مضاف إلى الأنواع الكثيرة الحاصلة منه ومن الفرس والبقر والغنم وغيرها، فإنه مقهور بالحدّ الذي يحدّه به ما يناظره من الأنواع الأخر، وإذ كان‏ تعالى لا يقهره شي‏ء في شي‏ء البتة، من ذاته ولا صفته ولا فعله، وهو القاهر فوق كلّ شي‏ء فليس بمحدود في شي‏ء يرجع إليه، فهو موجود لا يشوبه عدم، وحقّ لا يعرضه بطلان، وهو الحيّ لا يخالطه موت، والعليم لا يدبّ إليه جهل، والقادر لا يغلبه عجز، والمالك والملك من غير أن يُملك منه شي‏ء، والعزيز الذي لا ذلّ له، وهكذا؛ فله تعالى من كلّ كمال محضه.

    

زيادة بيان نفي الوحدة العددية عن الله من خلال فكرة إحاطة الله ولا تناهيه

وإن شئت زيادة تفهّم وتفقّه لهذه الحقيقة القرآنية فافرض أمرًا متناهيًا وآخر غير متناه تجد غير المتناهي محيطًا بالمتناهي، بحيث لا يدفعه المتناهي عن كماله المفروض أيّ دفع فرضته، بل غير المتناهي مسيطر عليه بحيث لا يُفقده المتناهي في شي‏ء من أركان كماله، وغير المتناهي هو القائم على نفسه، الشهيد عليه، المحيط به، ثم انظر في ذلك إلى ما يفيده قوله تعالى: {أَ ولَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ، أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ} [17].

    

تأييد البيان السابق بالآيات التي تحصر صفات الكمال بالله

وهذا هو الذي يدل عليه عامة الآيات الواصفة لصفاته تعالى الواقعة في سياق الحصر أو الظاهر فيه كقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏} [18]و قوله: {وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [19]، وقوله: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ} [20]، وقوله: {وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [21]، وقوله: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [22]، وقوله: {لَهُ الْمُلْكُ ولَهُ الْحَمْدُ} [23]، وقوله: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [24]، وقوله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [25]، وقوله: {أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ واللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [26]، إلى غير ذلك من الآيات.
فالآيات‏كما ترى‏تنادي بأعلى صوتها أنّ كلّ كمال مفروض فهو لله سبحانه بالأصالة، وليس لغيره شي‏ء إلا بتمليكه تعالى له ذلك، من غير أن ينعزل عما يملكه ويُملِّكُه، كما ننعزل نحن معاشر الخليقة عما ملّكناه غيرنا.
فكلّما فرضنا شيئًا من الأشياء ذا شي‏ءٍ من الكمال في قباله تعالى ليكون ثانيًا له وشريكا، عاد ما بيده من معنى الكمال لله سبحانه محضًا، وهو الحقّ الذي يملك كلّ شي‏ء، وغيره الباطل الذي لا يملك لنفسه شيئًا قال تعالى: {لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا ولا نَفْعاً ولا يَمْلِكُونَ مَوْتاً ولا حَياةً ولا نُشُوراً}[27].
و هذا المعنى هو الذي ينفي عنه تعالى الوحدة العددية إذ لو كان واحدا عدديًّا أي موجودًا محدودًا منعزل الذات عن الإحاطة بغيره من الموجودات، صحّ للعقل أن يفرض مثلَه الثانيَ له سواء كان جائز التحقّق في الخارج أو غير جائز التحقّق، وصحّ عند العقل أن يتّصف بالكثرة بالنظر إلى نفسه وإن فرض امتناعه في الواقع، وليس كذلك.
فهو تعالى واحد بمعنى أنه من الوجود بحيث لا يحدّ بحدّ حتّى يمكن فرض ثانٍ له فيما وراء ذلك الحدّ.

    

سورة التوحيد

وهذا معنى قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ، ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}[28] فإنّ لفظ "أحد" إنما يستعمل استعمالًا يدفع إمكان فرض العدد في قباله، يقال: «ما جاءني أحد»، وينفى به أن يكون قد جاء الواحد وكذا الاثنان والأكثر. وقال تعالى: {وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ} [29] فشمل الواحد والاثنين والجماعة ولم يخرج عن حكمه عدد، وقال تعالى:
{أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ} [30] فشمل الواحد وما وراءه، ولم يشذّ منه شاذ.
فاستعمال لفظ أحد في قوله: {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في الإثبات من غير نفي ولا تقييد بإضافة أو وصف، يفيد أنّ هويّته تعالى بحيث يدفع فرض من يماثله في هويته بوجه، سواء كان واحدًا أو كثيرًا، فهو محال بحسب الفرض الصحيح مع قطع النظر عن حاله بحسب الخارج.
و لذلك وصفه تعالى أولًا بأنه صمد، وهو المصمَت الذي لا جوف له ولا مكان خاليًا فيه، وثانيًا بأنّه لم يلد، وثالثًا بأنّه لم يولد، ورابعًا بأنّه لم يكن له كفوًا أحد، وكلّ هذه الأوصاف ممّا يستلزم نوعًا من المحدوديّة والانعزال.
و هذا هو السرّ في عدم وقوع توصيفات غيره تعالى عليه حقّ الوقوع والاتّصاف؛ قال تعالى: {سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [31]، وقال تعالى: {وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [32]، فإنّ المعاني الكماليّة التي نصفه تعالى بها أوصاف محدودة، وجلّت ساحته سبحانه عن الحدّ والقيد،
و هو الذي يرومه النبي صلّى الله عليه وآله في كلمته المشهورة: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"[33].

    

التوحيد اللاعددي هو الذي ينفي تثليث النصارى الذي يجتمع مع الكثرة العدديّة

وهذا المعنى من الوحدة هو الذي يدفع به تثليث النصارى فإنهم موحّدون في عين التثليث، لكنّ الذي يذعنون به من الوحدة وحدة عدديّة لا تنفي الكثرة من جهة أخرى فهم يقولون: إنّ الأقانيم (الأب والابن والروح) (الذات والعلم والحياة) ثلاثة وهي واحدة كالإنسان الحي العالم فهو شي‏ء واحد لأنه إنسان حي عالم وهو ثلاثة لأنه إنسان وحياة وعلم.
لكن التعليم القرآني ينفي ذلك لأنه يثبت من الوحدة ما لا يستقيم معه فرض أي كثرة وتمايز لا في الذات ولا في الصفات، وكل ما فرض من شي‏ء في هذا الباب كان عين الآخر؛ لعدم الحدّ؛ فذاته تعالى عين صفاته، وكل صفة مفروضة له عين الأخرى، تعالى الله عما يشركون، وسبحانه عما يصفون.
و لذلك ترى أنّ الآيات التي تنعته تعالى بالقهّاريّة تبدأ أولًا بنعت الوحدة ثم تصفه بالقهاريّة لتدلّ على أنّ وحدته لا تدع لفارضٍ مجال أن يفرض له ثانيًا مماثلًا بوجه فضلًا عن أن يظهر في الوجود، وينال الواقعيّة والثبوت، قال تعالى: {أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وآباؤُكُمْ}[34] ، فوصفه بوحدة قاهرة لكل شريك مفروض لا تبقى لغيره تعالى من كلّ معبود مفروض إلا الاسم فقط، وقال تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ}[35] ، قال تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ}[36] ، إذ ملكه تعالى المطلق لا يخلي مالكًا مفروضًا غيره دون أن يجعله نفسه وما يملكه ملكًا لله سبحانه، وقال تعالى: {وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ}[37] ، وقال تعالى: {لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى‏ مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ} [38]، فرتّب القهاريّة في جميع الآيات على صفة الوحدة.[39]
[و] قوله تعالى: {وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ} [40] (إلى آخر الآية) ردّ منه تعالى لقولهم: {إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ} [41] بأنّ الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية الكثرة بوجه من الوجوه، فهو تعالى في ذاته واحد، و إذا اتصف بصفاته الكريمة و أسمائه الحسنى لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئًا ولا الصفة إذا أضيفت إلى الصفة أورث ذلك كثرة و تعددًا، فهو تعالى أحديّ الذات لا ينقسم لا في خارج و لا في وهم و لا في عقل.
فليس الله سبحانه بحيث يتجزأ في ذاته إلى شي‏ء و شي‏ء قط، و لا أنّ ذاته بحيث يجوز أن يضاف إليه شي‏ء فيصير اثنين أو أكثر، كيف؟ و هو تعالى مع هذا الشي‏ء الذي تراد إضافته إليه تعالى في وهم أو فرض أو خارج.
فهو تعالى واحد في ذاته لكن لا بالوحدة العددية التي لسائر الأشياء المتكون منها الكثرات، و لا منعوت بكثرة في ذات أو اسم، أو صفة، كيف؟ و هذه الوحدة العدديّة و الكثرة المتألّفة منها كلتاهما من آثار صنعه و إيجاده فكيف يتّصف بما هو من صنعه؟!
و في قوله تعالى: {وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ} من التأكيد في إثبات التوحيد ما ليس في غيره؛ حيث سيق الكلام بنحو النفي و الاستثناء، ثم أدخل {مِنْ} على النفي لإفادة تأكيد الاستغراق، ثم جي‏ء بالمستثنى و هو قوله: {إِلهٌ واحِدٌ} بالتنكير المفيد للتنويع. و لو أورد معرفة كقولنا: «إلا الإله الواحد» لم يفد ما يرام من حقيقة التوحيد.
فالمعنى: «ليس في الوجود شي‏ء من جنس الإله أصلا إلا إله واحد نوعًا من الوحدة لا يقبل التعدد أصلًا، لا تعدّد الذات و لا تعدّد الصفات، لا خارجًا و لا فرضًا».
و لو قيل: و ما من إله إلا الله الواحد لم يدفع به قول النصارى:{إنّ الله ثالث ثلاثة} فإنّهم لا ينكرون الوحدة فيه تعالى، و إنما يقولون: إنّه ذات واحدة لها تعيّن بصفاتها الثلاث، و هي واحدة في عين أنّها كثيرة حقيقة.
و لا يندفع ما احتملوه من المعنى إلا بإثبات وحدة لا تتألّف منها[42] كثرة أصلًا، و هو الذي يتوخّاه القرآن الكريم بقوله: {وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ}[43].

    

البحث الروائي

    

الخبر الأول: كلام أمير المؤمنين مع الأعرابيّ وبيان أنواع الوحدة وما يثبت منها لله وما لا يثبت

في التوحيد، والخصال، بإسناده عن المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه قال: إن أعرابيًّا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين أ تقول: إن الله واحد؟ قال: فحمل الناس عليه وقالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين‏من تقسّم القلب؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: "دعوه ‏فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم!."
ثمّ قال: "يا أعرابي ‏إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عزّ وجلّ، ووجهان يثبتان فيه؛ فأمّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأنّ ما لا ثانيَ له لا يدخل في‏ باب الأعداد أما ترى أنّه كفر من قال: إنّه ثالث ثلاثة؟ وقول القائل: هو واحد من الناس ‏يريد به النوع من الجنس‏ فهذا ما لا يجوز لأنّه تشبيه، وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك.
و أما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربنا، وقول القائل: إنه عز وجل أحدي المعنى‏يعني به أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك ربنا عز وجل."
أقول: ورواه أيضا في المعاني، بسند آخر عن أبي المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه عنه عليه السلام.

    

الخبر الثاني: أول الدين معرفته

وفي النهج: "أوّل الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ‏لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف الله فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه‏" (الخطبة).
أقول: وهو من أبدع البيان، ومحصّل الشطر الأول من الكلام أنّ معرفته تنتهي في استكمالها إلى نفي الصفات عنه، ومحصّل الشطر الثاني المتفرع على الشطر الأول ـ أعني قوله عليه السلام: فمن وصف الله فقد قرنه (إلخ)- أنّ إثبات الصفات يستلزم إثبات الوحدة العدديّة المتوقّفة على التحديد غير الجائز عليه تعالى، وتنتج المقدّمتان أنّ كمال معرفته تعالى يستوجب نفي الوحدة العدديّة منه، وإثبات الوحدة بمعنى آخر، وهو مراده عليه السلام من سرد الكلام.
أما مسألة نفي الصفات عنه فقد بيّنه عليه السلام بقوله: "أوّل الدين معرفته" لظهور أنّ من لم يعرف الله سبحانه ولو بوجه لم يحلّ بعد في ساحة الدين، والمعرفة ربّما كانت مع عمل بما يرتبط بها [44] من الأفعال وترتّب آثار المعروف، وربما كانت من غير عمل، ومن المعلوم أنّ العلم فيما يتعلّق نوع تعلّق بالأعمال إنّما يثبت ويستقرّ في النفس إذا ترتّب عليه آثاره العمليّة، وإلا فلا يزال العلم يضعف بإتيان الأعمال المخالفة حتّى يبطل أو يصير سدى لا أثر له، ومن كلامه عليه السلام في هذا الباب
ـ و قد رواه في النهج ـ : "العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل عنه".
فالعلم والمعرفة بالشي‏ء إنما يكمل إذا أخذ العارف معروفه صدقًا، وأظهر ذلك في باطنه وظاهره، وجنانه وأركانه بأن يخضع له روحًا وجسمًا، وهو الإيمان المنبسط على سرّه وعلانيته، وهو قوله: "و كمال معرفته التصديق به".
ثمّ هذا الخضوع المسمّى بالتصديق به وإن جاز تحقّقه مع إثبات الشريك للربّ المخضوع له كما يخضع عبدة الأصنام لله ولسائر آلهتهم جميعًا، لكنّ الخضوع لشي‏ء[45] لا يتمّ من غير انصراف عن غيره بالبداهة، فالخضوع لواحد من الآلهة في معنى الإعراض عن غيره والاستكبار في الجملة عنه، فلا يكمل التصديق بالله والخضوع لمقامه إلا بالإعراض عن عبادة الشركاء، والانصراف عن دعوة الآلهة الكثيرة، وهو قوله: "و كمال التصديق به توحيده".
ثمّ إنّ للتوحيد مراتب مختلفة بعضها فوق بعض، ولا يكمل حتى يعطى الإله الواحد حقّه من الألوهيّة المنحصرة، ولا يقتصر على مجرد تسميته إلها واحدًا بل ينسب إليه كلّ ما له نصيب من الوجود والكمال كالخلق والرزق والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع، وأن يخصّ الخضوع والعبادة به فلا يُتذلّل لغيره بوجه من الوجوه، بل لا يرجى إلا رحمته، ولا يخاف إلا سخطه، ولا يطمع إلا فيما عنده، ولا يعكف إلا على بابه.
و بعبارة أخرى أن يخلَص له علمًا وعملًا، وهو قوله عليه السلام: "و كمال توحيده الإخلاص له".
و إذا استوى الإنسان على أريكة الإخلاص، وضمّته العناية الإلهيّة إلى أولياء الله المقرّبين لاحت على بصيرته لوائح العجز عن القيام بحقّ المعرفة وتوصيفه بما يليق بساحة كبريائه وعظمته، فإنه ربما شاهد أنّ الذي يصفه تعالى به معانٍ مدركةٌ مما بين يديه من الأشياء المصنوعة، وأمورٌ ألفها من مشهوداته الممكنة، وهي صور محدودة مقيّدة يدفع بعضها بعضًا، ولا تقبل الائتلاف والامتزاج، انظر إلى مفاهيم الوجود والعلم والقدرة والحياة والرزق والعزة والغنى وغيرها.
و المعاني المحدودة يدفع بعضها بعضًا؛ لظهور كون كلّ مفهوم خلوًا عن المفهوم الآخر، كمعنى العلم عن معنى القدرة، فإنّا حينما نتصوّر العلم نصرف عن القدرة فلا نجد معناها في معنى العلم، وإذا تصوّرنا معنى العلم وهو وصف من الأوصاف ننعزل عن‏ معنى الذات وهو الموصوف.
فهذه المفاهيم والعلوم والإدراكات تقصر عن الانطباق عليه جلّ شأنه حقّ الانطباق، وعن حكاية ما هو عليه حقّ الحكاية؛ فتمسّ حاجة المخلِص في وصفه ربَّه إلى أن يعترف بنقص لا علاج له، وعجز لا جابر دونه؛ فيعود فينفي ما أثبته، ويتيه في حيرة لا مخلص منها، وهو قوله عليه السلام: "و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه‏لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة".
و هذا الذي فسرنا به هذا العقد من كلامه عليه السلام هو الذي يؤيده أول الخطبة حيث يقول: "الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حدّ محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود" على ما يظهر للمتأمل الفطن.
و أما قوله عليه السلام: "فمن وصف الله فقد قرنه" (إلخ)، فهو توصّل منه إلى المطلوب‏ ـ و هو أنّ الله سبحانه لا حدّ له ولا عدّ ـ من طريق تحليل إثبات الوصف. كما كان البيان الأول توصّلًا منه من طريق تحليل المعرفة إلى نفي الوصف." فمن وصف الله فقد قرنه"؛ لما عرفت من المغايرة بين الموصوف والصفة، والجمع بين المتغايرين قرن، "ومن قرنه فقد ثنّاه"؛ لأخذه إياه موصوفًا وصفة وهما اثنان، "ومن ثنّاه فقد جزّأه" إلى جزأين، "ومن جزّأه فقد جهله"؛ بالإشارة إليه إشارة عقليّة، "ومن أشار إليه فقد حدّه"؛ لكون الإشارة مستلزمة لانفصال المشار إليه عن المشير حتّى تتوسّط بينهما الإشارة التي هي إيجاد بعد ما بين المشير والمشار إليه‏ يبتدئ من الأول وينتهي إلى الثاني. "ومن حدّه فقد عدّه" وجعله واحدًا عدديًّا؛ لأنّ العدد لازم الانقسام والانعزال الوجودي. تعالى الله عن ذلك.

    

الخبر الثالث: كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل

وفي النهج: من خطبة له عليه السلام: "الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالًا فيكون أولًا قبل أن يكون آخرًا، ويكون ظاهرًا قبل أن يكون باطنًا، كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل، وكلّ عزيزٍ غيرُه ذليل، وكلّ قويّ غيرُه ضعيف، وكلّ مالك ٍغيرُه مملوك، وكلّ عالم غيرُه متعلم، وكلّ قادر غيره يقدر ويعجز، وكلّ سميع غيره يصمّ عن لطيف الأصوات، ويصمّه كبيرهاو يذهب عنه ما بعد منها، وكل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان ولطيف الأجسام، وكلّ ظاهر غيره باطن، وكلّ باطن غيره ظاهر".
أقول: بناء البيان على كونه تعالى غير محدود وكون غيره محدودًا؛ فإنّ هذه المعاني والنعوت وكلّ ما كان من قبيلها إذا طرأ عليها الحدّ كانت لها إضافة ما إلى غيرها، ويستوجب التحدّد حينئذ أن تنقطع وتزول عمّا أضيفت إليه، وتتبدّل إلى ما يقابلها من المعنى.
فالظهور إذا فرض محدودًا كان بالنسبة إلى جهة أو إلى شي‏ء دون جهة أخرى وشي‏ء آخر، وصار الأمر الظاهر باطنًا خفيا بالنسبة إلى تلك الجهة الأخرى والشي‏ء الآخر، والعزّة إذا أخذت بحدّ بطلت فيما وراء حدّها فكانت ذلّة بالنسبة إليه، والقوّة إذا كانت مقيّدة تبدّلت بالنسبة إلى ما وراء قيدها ضعفًا، والظهور بطون في غير محلّه، والبطون ظهور في الخارج عن مستواه.
و المُلك إذا كان محدودًا كان من يحده مهيمنًا على هذا المالك؛ فهو وملكه تحت ملك غيره، والعلم إذا كان محدودًا لم يكن من صاحبه لأنّ الشي‏ء لا يحدّ نفسه، فكان بإفاضة الغير وتعليمه، وهكذا.
و الدليل على أنه عليه السلام بنى بيانه على معنى الحد قوله: "و كل سميع غيره يصمّ عن لطيف الأصوات" (إلخ)، فإنّه وما بعده ظاهر في الإشارة إلى محدوديّة المخلوقات، والسياق واحد.
و أمّا قوله عليه السلام: "و كل مسمّى بالوحدة غيره قليل" ـ والجملة هي المقصودة من نقل الخطبة ـ فبناؤه على معنى الحدّ ظاهر؛ فإنّ الوحدة العدديّة المتفرّعة على محدوديّة المسمّى بالواحد لازمة تقسم المعنى وتكثّره، وكلّما زاد التقسّم والتكثّر أمعن الواحد في القلة والضعف بالنسبة إلى الكثرة الحادثة، فكل واحد عددي فهو قليل بالنسبة إلى الكثير الذي بإزائه ولو بالفرض.
و أما الواحد الذي لا حد لمعناه ولا نهاية له، فلا يَحتمل فرض الكثرة؛ لعدم احتماله طروّ الحد وعروض التميّز، ولا يشذّ عن وجوده شي‏ء من معناه حتى يكثره ويقوى بضمه، ويقل ويضعف بعزله، بل كلما فرض له ثان في معناه فإذا هو هو.

    

الخبر الرابع: الأحد لا بتأويل عدد

وفي النهج: ومن خطبة له عليه السلام: "الحمد لله الدالّ على وجوده بخلقه، وبمحدَث خلقه على أزليّته، وباشتباههم على أن لا شبه له. لا يستلمه المشاعر، ولا يحجبه السواتر؛ لافتراق الصانع والمصنوع، والحادّ والمحدود، والربّ والمربوب. الأحد لا بتأويل عدد، والخالق لا بمعنى حركة ونصَب، والسميع لا بأداة، والبصير لا بتفريق آلة، والشاهد لا بمماسّة، والبائن لا بتراخي مسافة، والظاهر لا برؤية، والباطن لا بلطافة. بان من الأشياء بالقهر لها والقدرة عليها، وبانت الأشياء منه بالخضوع له والرجوع إليه. من وصفه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه، ومن عدّه فقد أبطل أزله".
أقول: أوّل كلامه عليه السلام مبنيّ على أن جميع المعاني والصفات المشهودة في الممكنات أمور محدودة لا تتمّ إلا بحادّ يحدّها وصانع يصنعها، وربّ يرُبّها، وهو الله سبحانه، وإذ كان الحدّ من صنعه فهو متأخّر عنه غير لازم له، فقد تنزّهت ساحة كبريائه عن هذه الحدود.
و إذا كان كذلك كان ما يوصف به من الصفات غير محدود بحدّ وإن كان لفظنا قاصرًا عنه، والمعنى غيرَ وافٍ به؛ ‏فهو تعالى "أحد لا بتأويل عدد" يقضي بالمحدوديّة، وعلى هذا النهج خلقه وسمعه وبصره وشهوده وغير ذلك.
و من فروع ذلك أنّ بينونته من خلقه ليس بمعنى الانفصال والانعزال، تعالى عن الاتصال والانفصال، والحلول والانعزال، بل بمعنى قهره لها وقدرته عليها، وخضوعهم ورجوعهم إليه.
و قوله عليه السلام: "من وصفه فقد حده، ومن حده فقد عده، ‏ومن عده فقد أبطل أزله" فرّع على إثبات الوحدة العدديّة إبطال الأزل؛ لأنّ حقيقة الأزل كونه تعالى غير متناه في ذاته وصفاته ولا محدود، فإذا اعتبر من حيث إنّه غير مسبوق بشي‏ء يتقدّم عليه كان هو أزله، وإذا اعتبر من حيث إنه غير ملحوق بشي‏ء يتأخر عنه كان هو أبده، وربما اعتبر من الجانبين فكان دوامًا.
وأما ما يظهر من عدّة من الباحثين أنّ معنى كونه تعالى أزليًّا أنّه سابق متقدم على خلقه المحدَث تقدّمًا في أزمنة غير متناهية لا خبر فيها عن الخلق ولا أثر منهم فهو من أشنع الخطإ؛ وأين الزمان ـ الذي هو مقدار حركة المتحرّكات ـ والمشاركة معه تعالى في أزله؟!.

    

الخبر الخامس: لا تقدّره الأوهام بالحدود

و في النهج: ومن خطبة له عليه السلام: "الحمد لله خالق العباد، وساطح المهاد، و مسيل الوهاد، ومخصب النجاد. ليس لأوّليّته ابتداء، ولا لأزليّته انقضاء. هو الأول لم يزل، والباقي بلا أجل. خرت له الجباه، ووحّدته الشفاه. حدّ الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها. لا تقدّره الأوهام بالحدود والحركات، ولا بالجوارح والأدوات. لا يقال: متى؟ ولا يضرب له أمد بحتّى. الظاهر لا يقال: مما؟ والباطن لا يقال: فيما؟ لا شبح فيتقضى ولا محجوب فيحوى. لم يقرب من الأشياء بالتصاق، ولم يبعد عنها بافتراق. لا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة، ولا كرور لفظة، ولا ازدلاف ربوة، ولا انبساط خطوة في ليل داج، ولا غسق ساج، يتفيّأ عليه القمر المنير، وتعقبه الشمس ذات النور في الأفول والكرور، وتقلّب الأزمنة والدهور، من إقبال ليل مقبل، وإدبار نهار مدبر. قبل كلّ غاية ومدّة، وكلّ إحصاء وعدة، تعالى عما ينحله المحدّدون من صفات الأقدار، ونهايات الأقطار، وتأثل المساكن، وتمكّن الأماكن، فالحدّ لخلقه مضروب، وإلى غيره منسوب، لم يخلق الأشياء من أصول أزليّة، ولا أوائل أبديّة بل خلق ما خلق فأقام حدّه، وصوّر ما صوّر فأحسن صورته".

    

الخبر السادس: لا يشمل بحدّ ولا يحسب بعدّ

وفي النهج،: من خطبة له عليه السلام: "ما وحّده من كيّفه، ولا حقيقَته أصاب من مثّله، ولا إيّاه عنى من شبّهه، ولا صمده من أشار إليه وتوهّمه. كلّ معروف بنفسه مصنوع، وكلّ قائم في سواه معلول. فاعل لا باضطراب آلة، مقدّر لا بجول فكره، غنيٌّ لا باستفادة. لا تصحبه الأوقات، ولا ترفده الأدوات. سبق الأوقات كونه، والعدم وجوده، والابتداء أزله. بتشعيره المشاعر عرف أن لا مَشعر[46] له، وبمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له؛ ضادّ النور بالظلمة، والوضوح بالبهمة، والجمود بالبلل، والحرور بالصرد. مؤلف بين متعادياتها، مقارن بين متبايناتها، مقرّب بين متباعداتها، مفرّق بين متدانياتها. لا يشمل بحدّ، ولا يحسب بعدّ، وإنما تحدّ الأدوات أنفسها، وتشير الآلة إلى نظائرها، منعتها «منذ» القدمة، وحمتها «قد» الأزليّة، وجنبتها «لو لا» التكملة، بها تجلى صانعها للعقول، وبها امتنع عن نظر العيون، لا يجري عليه السكون والحركة، وكيف يجري عليه ما هو أجراه؟! ويعود فيه ما هو أبداه؟! ويحدث فيه ما هو أحدثه؟! إذًا لتفاوتت ذاته، ولتجزّأ كنهه، ولامتنع من الأزل معناه، ولكان له وراء إذا وجد له أمام، ولالتمس‏ التمام إذا لزمه النقصان، وإذًا لقامت آية المصنوع فيه، ولتحوّل دليلًا بعد أن كان مدلولاً عليه».
أقول: أوّل كلامه عليه السلام مسوق لبيان امتناع ذاته المقدسة عن الحد، ولزومه في جميع ما عداه، وقد تقدّم توضيحه الإجمالي فيما تقدم.
و قوله: "لا يشمل بحد ولا يحسب بعد" كالنتيجة لما تقدّمه من البيان. وقوله: "و إنما تحد الأدوات أنفسها، وتشير الإله إلى نظائرها" بمنزلة بيان آخر لقوله: "لا يشمل بحد، إلخ" فإنّ البيان السابق إنّما سيق من مسلك أنّ هذه الحدود المستقرّة في المصنوعات مجعولة للذات المتعالية، متأخّرة عنها تأخّر الفعل عن فاعله فلا يمكن أن تتقيّد بها الذات إذ كان ذات ولا فعل.
و أما ما في قوله: "و إنما تحدّ" إلخ من البيان، فهو مسوق من طريق آخر، وهو أنّ التقدير والتحديد الذي هو شأن هذه الأدوات والحدود إنّما هو بالمسانخة النوعيّة، كما أنّ المثقال الذي هو واحد الوزن مثلًا توزن به الأثقال دون الألوان والأصوات مثلًا، والزمان الذي هو مقدار الحركة إنّما تحدّ به الحركات، والإنسان مثلا إنّما يقدّر بما له من الوزن الاجتماعي المتوسّط مثلًا من يماثله في الإنسانيّة، وبالجملة كلّ حدّ من هذه الحدود يعطي لمحدوده شبيه معناه، وكلّ صفة إمكانيّة كائنة ما كانت مبنيّة على قدر وحدٍّ وملزومة لأمد ونهاية، وكيف يمكن أن يحمل معناها المحدود على ذات أزليّة أبديّة غير متناهية؟!.
فهذا هو مراده عليه السلام، ولذلك أردفه بقوله: "منعتها منذ القدمة" إلخ، أي صدق كلمة «منذ» وكلمة «قد» ـ الدالتين على الحدوث الزماني ـ على الأشياء منعتها وحمتها أن تتّصف بالقدمة، وكذلك صدق كلمة «لولا» في الأشياء وهي تدل على النقص واقتران المانع جنّبتها وبعّدتها أن تكون كاملة من كلّ وجه.
و قوله: "بها تجلى صانعها للعقول وبها امتنع من نظر العيون" الضميران للأشياء. أي إنّ الأشياء بما هي آيات له تعالى والآية لا تري إلا ذا الآية، فهي كالمرائي لا تُجلّي إلا إياه تعالى، فهو بها تجلّى للعقول، وبها أيضًا امتنع عن نظر العيون، إذ لا طريق إلى النظر إليه تعالى إلا هذه الآيات، وهي محدودة لا تنال إلا مثلها لا ربّها المحيط بكل شي‏ء.
و هذا المعنى بعينه هو الموجب لامتناعه عن نظر العيون؛ فإنها آلات مركّبة مبنيّة على الحدود لا تعمل إلا في المحدود، وجلّت ساحة ربّ العزّة عن الحدّ.
و قوله عليه السلام: "لا يجري عليه السكون والحركة" إلخ، بمنزلة العود إلى أول الكلام ببيان آخر يبيّن به أنّ هذه الأفعال والحوادث التي هي تنتهي إلى الحركة والسكون لا تجري عليه، ولا تعود فيه ولا تحدث؛ فإنها آثاره التي تترتب على تأثيره في غيره، ومعنى تأثير المؤثر توجيهه أثره المتفرّع على نفسه إلى غيره، ولا معنى لتأثير الشي‏ء في نفسه إلا بنوع من التجزي والتركيب العارض لذاته كالإنسان مثلا يدبر بنفسه بدنه، ويضرب بيده على رأسه، والطبيب يداوي بطبه مرضه، فكلّ ذلك إنّما يصحّ لاختلاف في الأجزاء أو الحيثيات، ولو لا ذلك لامتنع وقوع التأثير.
فالقوّة الباصرة مثلا لا تبصر نفسها، والنار لا تحرق ذاتها، وهكذا جميع الفواعل لا تفعل إلا في غيرها إلا مع التركيب والتجزئة كما عرفت؛ وهذا معنى قوله:
"إذًا لتفاوتت ذاته، ولتجزّأ كنهه، ولامتنع من الأزل معناه" «إلخ».
و قوله عليه السلام: "وإذا لقامت آية المصنوع فيه، ولتحول دليلًا بعد أن كان مدلولًا عليه" أي إذا لزمه النقص من تطرّق هذه الحدود والأقدار عليه ـ والنقص من علائم المصنوعيّة وأمارات الإمكان ـ كان (تعالى وتقدس) مقارنًا لما يدلّ على كونه مصنوعًا، وكان نفسه كسائر المصنوعات دليلًا على موجود آخر أزليّ كامل الوجود غير محدود الذات هو الإله المنزّه عن كل نقص مفروض، المتعالي عن أن تناله أيدي الحدود والأقدار.
و اعلم أن ما يدل عليه قوله‏ من كون الدلالة هي من شؤون المصنوع الممكن لا ينافي ما يستفاد من سائر كلامه وكلام سائر أئمة أهل البيت‏ عليهم السلام أنه تعالى معلوم بنفس ذاته، وغيره معلوم به، وأنه دال على ذاته، وهو الدليل على مخلوقاته؛ فإنّ العلم غير العلم، والدلالة غير الدلالة. وأرجو أن يوفقني الله تعالى لإيضاحه، وبسط الكلام فيه في بعض ما يرتبط به من الأبحاث الآتية إن شاء الله العزيز.

    

الخبر السابع: جواب ذعلب

وفي التوحيد، بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: بينا أمير المؤمنين عليه السلام يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له «ذعلب» ذرب اللسان، بليغ في‏ الخطاب، شجاع القلب‏ فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟ فقال: ويلك يا ذعلب لم أكن لأعبد ربًّا لم أره!.
فقال: يا أمير المؤمنين كيف رأيته؟ قال: يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، ويلك يا ذعلب‏إنّ ربي لطيف اللطافة فلا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعِظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكِبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغِلظ، قبل كل شي‏ء لا يقال شي‏ء قبله، وبعد كل شي‏ء لا يقال له بعد، شاء الأشياء لا بهمة، درّاك لا بخديعة، هو في الأشياء غير متمازج بها ولا بائن عنها، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجلّ لا باستهلال رؤية، بائن لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسّم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدّر لا بحركة، مريد لا بهمامة، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة، لا تحويه الأماكن، ولا تصحبه الأوقات، ولا تحدّه الصفات، ولا تأخذه السنات. سبق الأوقات كونه، والعدم وجوده، والابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، وبمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضادّ النور بالظلمة، والجسوء بالبلل، والصرد بالحرور، مؤلّف بين متعادياتها، مفرق بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها، وبتأليفها على مؤلفها، وذلك قوله عز وجل:
{وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، ففرّق بها بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبين خلقه غير خلقه، كان ربًّا ولا مربوب، وإلهًا إذ لا مألوه، وعالمًا إذ لا معلوم، وسميعًا إذ لا مسموع. ثمّ أنشأ يقول:
ولم يزل سيدي بالحمد معروفًا
                             ولم يزل سيدي بالجود موصوفًا
و كان إذ ليس نور يستضاء به
                             ولا ظلام على الآفاق معكوفًا
فربّنا بخلاف الخلق كلهم
                             وكل ما كان في الأوهام موصوفًا

الأبيات.
أقول: وكلامه عليه السلام ـ كما ترى‏ ـ مسوق لبيان معنى أحديّة الذات في جميع ما يصدق عليه ويرجع إليه، وأنّه تعالى غير متناهي الذات ولا محدودها، فلا يقابل‏ ذاته ذات وإلا لهدّده بالتحديد وقهره بالتقدير، فهو المحيط بكلّ شي‏ء، المهيمن على كلّ أمر، ولا يلحقه صفة تمتاز عن ذاته، فإن في ذلك بطلان أزليّته وعدم محدوديّته.
وإنّ صفته تعالى الكماليّة غير محدودة بحدّ يدفع الغير أو يدفعه الغير كما أنّ العلم فينا غير القدرة لما بينهما من المدافعة مفهومًا ومصداقًا، ولا تدافع بينهما فيه تعالى، بل الصفة عين الصفة وعين كل صفة من صفاته العليا، والاسم عين كل اسم من أسمائه الحسنى.
بل إنّ هنالك ما هو ألطف معنى وأبعد غورًا من ذلك، وهو أنّ هذه المعاني والمفاهيم للعقل بمنزلة الموازين والمكاييل يوزن ويكتال بها الوجود الخارجي والكون الواقعي؛ فهي حدود محدودة لا تنعزل عن هذا الشأن، وإن ضممنا بعضها إلى بعض، واستمددنا من أحدها للآخر، لا يغترف بأوعيتها إلا ما يقاربها في الحد، فإذا فرضنا أمرًا غير محدود ثم قصدناه بهذه المقاييس المحدودة لم ننل منه إلا المحدود وهو غيره، وكلما زدنا في الإمعان في نيله زاد تعاليًا وابتعادًا.
فمفهوم العلم مثلا هو معنى أخذناه من وصف محدود في الخارج نعده كمالًا لما يوجد له، وفي هذا المفهوم من التحديد ما يمنعه أن يشمل القدرة والحياة مثلًا، فإذا أطلقناه عليه تعالى ثم عدلنا محدوديته بالتقييد في نحو قولنا: علم لا كالعلوم فهب أنه يخلص من بعض التحديد لكنه بعد مفهوم لا ينعزل عن شأنه وهو عدم شموله ما وراءه (و لكل مفهوم وراء يقصر عن شموله)، وإضافة مفهوم إلى مفهوم آخر لا يؤدي إلى بطلان خاصة المفهوميّة، وهو ظاهر.
و هذا هو الذي يحيّر الإنسان اللبيب في توصيفه تعالى بما يثبته له لبّه وعقله، وهو المستفاد من قوله عليه السلام: "لا تحده الصفات" ومن قوله فيما تقدم من خطبته المنقولة:
"و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه" وقوله أيضا في تلك الخطبة: "الذي ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود" وأنت ترى أنه عليه السلام يثبت الصفة في عين أنه ينفيها أو ينفي حدّها، ومن المعلوم أنّ إثباتها هي لا تنفك عن الحدّ، فنفي الحد عنها إسقاط لها بعد إقامتها، ويئول إلى أن إثبات شي‏ء من صفات الكمال فيه لا ينفي ما وراءها فتتحد الصفات بعضها مع بعض ثم تتحد مع الذات ولا حدّ، ثم لا ينفي ما وراءها مما لا مفهوم لنا نحكي عنه، ولا إدراك لنا يتعلّق به فافهم ذلك.
و لو لا أن المفاهيم تسقط عند الإشراف على ساحة عظمته وكبريائه بالمعنى الذي تقدم، لأمكن للعقل أن يحيط به بما عنده من المفاهيم العامة المبهمة كوصفه بأنه ذات لا كالذوات، وله علم لا كالعلوم، وقدرة لا كقدرة غيره، وحياة لا كسائر أقسام الحياة، فإنّ هذا النحو من الوصف لا يدع شيئًا إلا أحصاه وأحاط به إجمالًا فهل يمكن أن يحيط به سبحانه شي‏ء؟ أو أنّ الممنوع هو الإحاطة به تفصيلًا، وأما الإحاطة الإجماليّة فلا بأس بها؟ وقد قال تعالى: {وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}[47] ، وقال: {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ} [48]، والله سبحانه لا يحيط به شي‏ء من جهة من الجهات بنحو من أنحاء الإحاطة، ولا يقبل ذاته المقدسة إجمالًا وتفصيلًا حتّى يتبعّض فيكون لإجماله حكم ولتفصيله حكم آخر، فافهم ذلك ..

    

الخبر الثامن: معرفته توحيده

وفي الإحتجاج، عنه عليه السلام في خطبة: "دليله آياته، ووجوده إثباته، ومعرفته توحيده، وتوحيده تمييزه من خلقه، وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة إنه رب خالق، غير مربوب مخلوق، ما تصور فهو بخلافه‏ثم قال عليه السلام: ليس بإله من عرف بنفسه، هو الدال بالدليل عليه، والمؤدي بالمعرفة إليه".
أقول: التأمل فيما تقدّم يوضح أنّ الخطبة مسوقة لبيان كون وحدته تعالى وحدة غير عددية لصراحته في أنّ معرفته تعالى عين توحيده، أي إثبات وجوده عين إثبات وحدته، ولو كانت هذه الوحدة عدديّة لكانت غير الذات، فكانت الذات في نفسها لا تفي بالوحدة إلا بموجب من خارج عن جهة ثبوت الذات.
و هذا من عجيب المنطق وأبلغ البيان في باب التوحيد الذي يحتاج شرحه إلى مجال وسيع لا يسعه طراز البحث في هذا الكتاب، ومن ألطف المقاصد الموضوعة فيه قوله عليه السلام: "وجوده إثباته" يريد به أنّ البرهان عليه نفس وجوده الخارجي أي أنه لا يدخل الذهن، ولا يسعه العقل.
قوله: "ما تصوّر فهو بخلافه" ليس المراد به أنّه غير الصورة الذهنيّة فإنّ جميع الأشياء الخارجيّة على هذا النعت، بل المراد أنّه تعالى بخلاف ما يكشف عنه التصور الذهني أيا ما كان، فلا يحيط به صورة ذهنيّة، ولا ينبغي لك أن تغفل عن أنّه أنزه ساحة حتى من هذا التصوّر أعني تصوّر أنه بخلاف كل تصوّر.
و قوله: "ليس بإله من عرف بنفسه" مسوق لبيان جلالته تعالى عن أن يتعلّق به معرفة، وقهره كلّ فهم وإدراك؛ فإنّ كلّ من يتعلق بنفسه معرفتنا هو في نفسه غير نفسنا ومعرفتنا، ثمّ يتعلّق به معرفتنا، لكنّه تعالى محيط بنا وبمعرفتنا، قيم على ذلك فلا معصم تعتصم به أنفسنا ولا معرفتنا عن إحاطة ذاته وشمول سلطانه حتى يتعلق به تعلق منعزل بمنعزل.
و بيّن عليه السلام ذلك بقوله: "هو الدال بالدليل عليه والمؤدي بالمعرفة إليه" أي أنه تعالى هو الدليل يدلّ الدليل على أن يدلّ عليه، ويؤدي المعرفة إلى أن تتعلق به تعالى نوع تعلّق لمكان إحاطته تعالى وسلطانه على كلّ شي‏ء، فكيف يمكن لشي‏ء أن يهتدي إلى ذاته ليحيط به وهو محيط به وباهتدائه؟!

    

الخبر التاسع: حاضر غير محدود

وفي المعاني، بإسناده عن عمر بن علي عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: "التوحيد ظاهره في باطنه، وباطنه في ظاهره، ظاهره موصوف لا يرى، وباطنه موجود لا يخفى، يطلب بكل مكان، ولم يخل عنه مكان طرفة عين، حاضر غير محدود، وغائب غير مفقود".
أقول: كلامه صلّى الله عليه وآله مسوق لبيان وحدته تعالى غير العدديّة المبنيّة على كونه تعالى غير محدود بحدّ، فإنّ عدم المحدوديّة هو الموجب لعدم انعزال ظاهر توحيده وتوصيفه تعالى عن باطنه، وباطنه عن ظاهره فإنّ الظاهر والباطن إنّما يتفاوتان وينعزل كلّ منهما عن الآخر بالحدّ فإذا ارتفع الحدّ اختلطا واتحدا.
و كذلك الظاهر الموصوف إنّما يحاط به، والباطن الموجود إنّما يخفى ويتحجّب إذا تحدّدا فلم يتجاوز كلّ منهما حدّه المضروب له، وكذلك الحاضر إنّما يكون محدودًا مجموعًا وجوده عند من حضر عنده، والغائب يكون مفقودًا لمكان المحدوديّة، ولولا ذلك لم يجتمع الحاضر بتمام وجوده عند من حضر عنده، ولم يستر الغائب حجاب الغيبة ولا ساتر دونه عمن غاب عنه، وهو ظاهر.[49]

[ملاحظة: تمّ انتخاب هذه المقالة من تفسير الميزان لسماحة العلامة الطباطبائي قدّس سرّه، وقامت الهيئة العلميّة في موقع المتّقين بتحقيقها وتبويبها مع الحفاظ على النصّ الأصليّ وترتيبه إلا في مواضع لضرورات فنيّة وقد تمّت الإشارة إليها].


[1] ـ سورة الزمر، مقطع من الآية 3.

[2] ـ [ملاحظة: جعل العلامة قدس سرّه البحث التاريخيّ في ختام البحث القرآني و الروائي، وقد تمّ تقديمه هنا].

[3] ـ [يشير بذلك إلى صدر المتألّهين رضوان الله عليه]

[4] ـ [تفسير الميزان، ج6، ص 104ـ 106]

[5] ـ سورة الزمر، الآية 9.

[6] ـ سورة النجم، الآية30.

[7] ـ النساء: 87

[8] ـ [أقط: الأَقِطُ و الإِقْطُ و الأَقْطُ و الأُقْطُ: شي‏ء يتخذ من اللبن المَخِيض يطبخ ثم يترك حتى يَمْصُل، و القِطعةُ منه أَقِطة. لسان العرب، ج‏7، ص: 257 ]

[9] ـ سورة ص، الآية 6.

[10] ـ سورة البقرة، الآية 163.

[11] ـ سورة المؤمن، الآية 65.

[12] ـ سورة العنكبوت، الآية 46.

[13] ـ سورة الرعد، الآية 16.

[14] ـ سورة يوسف، الآية 40.

[15] ـ سورة ص، الآية 65.

[16] ـ سورة الزمر، الآية 4.

[17] ـ سورة حم السجدة، الآية 54.

[18] ـ سورة طه، الآية 8.

[19] ـ سورة النور، الآية 25.

[20] ـ سورة المؤمن، الآية 65.

[21] ـ سورة الروم، الآية 54.

[22] ـ سورة البقرة، الآية 165.

[23] ـ سورة التغابن، الآية 1.

[24] ـ سورة يونس، الآية 65.

[25] ـ سورة البقرة، الآية 147.

[26] ـ سورة فاطر، الآية 15.

[27] ـ سورة الفرقان، الآية 3.

[28] ـ سورة التوحيد

[29] ـ سورة التوبة، الآية 6.

[30] ـ سورة النساء، مقطع من الآية 43؛ سورة المائدة مقطع من الآية 6.

[31] ـ سورة الصافات، الآية 160.

[32] ـ سورة طه، الآية110.

[33] ـ [مما جاء في هامش كتاب معرفة الله للعلامة الطهراني حول هذا الحديث: نسب ابن ماجة سلسلة الرواة لهذا الحديث إلى عليّ عليه السلام. راجع: «سنن ابن ماجة» ج 1، ص 373 و ج 2، ص 1262]

[34] ـ سورة يوسف، الآية 40.

[35] ـ سورة الرعد، الآية 16.

[36] ـ سورة المؤمن، الآية 16.

[37] ـ سورة ص، الآية 65.

[38] ـ سورة الزمر، الآية 4.

[39] ـ [تفسير الميزان، ج6، ص 91]

[40] ـ سورة المائدة، مقطع من الآية 73.

[41] ـ سورة المائدة، مقطع من الآية 73.

[42] ـ [في الأصل: منه]

[43] ـ [تفسير الميزان، ج6، ص 71].

[44] ـ [في الأصل: به]

[45] ـ [في الأصل: بشيء]

[46] ـ [محلّ الشعور أي الحاسّة]

[47] ـ سورة طه، الآية 110.

[48] ـ سورة حم السجدة، الآية 54.

[49] ـ [تفسير الميزان ج6، ص: 87 ـ 103]

 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع «المتقين». يسمح بإستخدام المعلومات مع الإشارة الي مصدرها


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی