الفيديو المحاضرات سؤال و جواب معرض الصور صوتيات المكتبة اتصل بنا الرئیسیة
  الأحد  21 جمادي الاُولي  1446 - Sun  24 Nov 2024
البحوث المنتخبة    
كتاب المتقين    
موقع المتقين > العقائد والكلام > هل غير الشيعة إلى النار؟ مفهوم المستضعف في القرآن الكريم


____________________________________________________

هل غير الشيعة إلى النار؟ (1)
(مفهوم المستضعف في القرآن الكريم)

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين بارئ الخلائق أجمعين وصلّى الله على من بعث رحمة للعالمين سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نفوسنا أبي القاسم محمّد وعلى آله الطاهرين المنتجبين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

    

مقدّمات ثلاث لبيان سبب ظهور الاستضعاف:

    

1. وحدة طريق الحق

[يعدّ الاسلام] متمّم الشرائع والصراط المستقيم الهادي إلى الله تعالى، والنهج الأوحد إلى الحقيقة، كما يعد الواضع لأفضل الخطط والبرامج الشاملة لأرقى التعاليم الهادفة إلى إيصال الكمالات والقابليّات البشريّة إلى فعليّتها، وإلى بلوغ توحيد وعرفان الحضرة الأحديّة. ولذلك فقد أضحى من الحكمة عدم اتّباع السبل الأخرى الضعيفة المنقطعة. وسيرحل أتباع تلكم السبل حين يرحلون عن الدنيا ناقصين لم يبلغوا بمراتب قابليّاتهم الوجوديّة إلى ذروة فعليّتها، ولم يتمكّنوا من طيّ طريق التوحيد إلى غايته، وسيكونون في العاقبة من الأخسرين أعمالًا، ذلك الخسران المبين الناشئ من النقصان والأمور العدميّة. وسيكون أمثال هؤلاء الأفراد ناقصين وحزانى في الآخرة التي هي محلّ تجلّيات النفس وظهور عالم التوحيد، حتّى لو أنجزوا واجباتهم المناطة بهم على أكمل وجه.
و من هنا فلا يُمكن الاستفادة من آية: {لَا إكْرَاهَ في الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ}[1]بأنّ الناس مختارون في اختيار الدين والمذهب، لأنّ هذه الآية في صدد بيان أنّ الدين والعقيدة هما أمر وجدانيّ، ولا يمكن أن يُكره إنسان على اعتناق دين معيّن؛ وما على البشر حين يتبيّن لهم الرشد والسعادة من الغيّ والضلال، إلّا أن يسيروا صوب الكمال والرشد.
و لا يعني ذلك كون الناس مختارين في اختيار الدين، لأنّ عليهم ـ بلحاظ الظاهر والأحكام الاجتماعيّة والتعاليم الأخلاقيّة ـ أن يختاروا دين‏ الإسلام حتمًا؛ وهذا الاختيار والقبول سيهيّئان قلوبهم تدريجيًّا لتقبّل كمالات الإسلام المعنويّة.[2]
فحقّانية أيّة شريعة تُكتَسَبُ بواسطة انتسابها إلى عالم الغيب وحسب، وإذا انقطعت هذه النسبة يومًا ما، فإنّ حجيّتها وحقانيّتها ستزول أيضًا، وسوف تنحدر رتبتها من الرتبة الإلهية لتصير سنّة غابرة وعادة قديمة، كالأنظمة الحاكمة في المؤسسات والمنظّمات والأمور الدوليّة، التي يختم عليها بختم البطلان وتودع في خزائن التاريخ بتغيّر بنية الحكم.
ولذلك كانت مسألة النسخ من المسائل الحيويّة في الأديان الإلهيّة السابقة. فمع ارتباط الشرائع الإلهيّة السابقة بعالم الغيب، وتمتّعها بالحجيّة والتنجّز والإلزام في زمانها، إلا أنّها بمجرّد نزول الشريعة الجديدة تسقط عن رتبة الاعتبار، ويصبح البقاء عليها مستوجبًا لسخط الله وغضبه وعدم رضاه.
يقول الله في هذه الآية الشريفة: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[3]مع أنّ الله عزّ وجلّ صرّح في العديد من الآيات بأنّ الشرائع الماضية والأنبياء السابقون منتسبون إليه، وهذه الآيات تمضي وتختم على سجلاتهم بختم الصحّة والإتقان.
كذلك يخاطب الله رسوله في آية أخرى فيقول:{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}[4].
ففي هذه الآية نجد أنّ الله تعالى يحذّر عباده بشكل صريح من اتّباع الأديان الإلهيّة الماضية والعمل وفق مذاهب الماضين وشرائعهم، وينبّه على خطورة الموضوع بعبارة شديدة اللهجة وذلك بالإخراج عن دائرة الولاية والنصرة الإلهية.
إنّ مسألة وحدة الأديان تعدّ مقبولة وممضاة ما دامت المسألة مرتبطة بعالم الغيب، وهو المعنى الذي صرّحت به العديد من الآيات الشريفة. وأمّا لو كان المقصود من طرح وحدة الأديان هو نفاذها والإلزام بها ومنحها الحجية وإعطاؤها الحقانية، وجعلها مقرّبة وموصلة إلى مراتب كمال الإنسان، فهذا المعنى مردود وباطل قطعًا.
فكيف يمكن تصوّر شريعة ممضاة من قبل حضرة الحق، والحال أنّه هو الذي قد أقدم على نسخها وحذّر رسوله من التديّن بها؟! إنّ احترام الأديان الإلهيّة وتقديس الأنبياء الكرام محفوظ في مكانه، كما أنّ اتّباع الإسلام وعدم قبول الأحكام المخالفة له محفوظ في مكانه أيضًا، وهذا هو معنى التسليم والإسلام.[5]

    

2. انقسام عامّة الناس إلى مخلص طالب للحقّ ومعاند لاهث وراء الأهواء

الحقّ في الخارج واحد لا غير، لأنّه بمعنى أصل الوجود والتحقّق، ومعلوم أنّ حقيقة الوجود والموجود لا تتغيّر ولا تتبدّل؛ وفي مقابله الباطل الذي هو بمعنى غير الأصيل والمعدوم غير المتحقّق.
والذين يمتلكون إرادة السير والسلوك إلى الله وحقيقة الحقائق وأصل الوجود وعلّة العلل ومبدأ الوجود ومُنتهاه، سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين من يهود ونصارى ومجوس وأتباع بوذا وكونفوشيوس، وسواء كان المسلمون منهم شيعةً أم غيرهم من أنواع المذاهب الحادثة في الإسلام، فهم في ذلك لا يعدون إحدى حالتَينِ:
الأولى: أولئك الذين يفتقدون النزاهة والإخلاص في النيّة، فهم لا يسيرون في طريق السلوك إخلاصًا وتقرّبًا، بل يردون في السلوك لدواعٍ نفسانيّة، وهؤلاء لا يبلغون مقصدهم وغايتهم أبدًا، ويقنعون خلال طيّ الطريق بكشفٍ أو كرامة، أو بتقوية النفوس والتأثير في موادّ الكائنات، أو الإخبار عن الضمائر والبواطن، أو تحصيل الكيمياء وأمثالها، فيدفنون في النهاية في هذه المراحل المختلفة كلًّا حسب وضعه ونفسه.
و الثانية: أولئك الذين يتمثّل هدفهم في الوصول إلى الحقيقة فلا تشوب نيّتهم شائبة. فإن كانوا ـ والحال هذه ـ مسلمين تابعين لخاتم الأنبياء والمرسلين ومن شيعة سيّد الأوصياء أميرالمؤمنين عليهما أفضل صلوات الله وملائكته المقرّبين ومن المتابعين له، فإنّهم سيسيرون في هذا الطريق وينتهون إلى قصدهم وهدفهم، لأنّ هذا الطريق أوحد لا طريق سواه، كما أنّ باقي الطرق سلبيّة ومرفوضة.
أمّا لو لم يكونوا مسلمين، أو لم يكونوا من الشيعة فسيكونون من المستضعفين حتمًا، وذلك لأنّهم لا يحملون ـ حسب الفرض ـ غلًّا أو غشًّا، فهؤلاء هم الذين لم يصل سعيهم وتحقيقهم بشأن الإسلام والتشيّع إلى نتيجة إيجابيّة، وإلّا عدّوا ضمن المجموعة الأولى مع وضعها المعلوم.
و الله جلّ وعلا يمدّ يد الإعانة لمثل هؤلاء الأفراد، فيجتازون بمعونته الدرجات والمراتب عن طريق نفس الولاية التكوينيّة التي يجهلونها، فيردون أخيرًا في الحرم الإلهيّ والحريم الكبريائيّ، ويحصلون على الفناء في ذات الحقّ تعالى.
و لأنّنا نعلم أنّ الحقّ واحد، وأنّ صراطه وطريقه مستقيم، وأنّ شريعته صحيحة، فإنّ هؤلاء المستضعفين الذين لا يحملون في قلوبهم غلًّا ولا مرضًا سيصلون بأنفسهم ـ خلال الطريق أو في نهايته ـ إلى حقيقة التوحيد والإسلام والتشيّع وسيفهمونها ويدركونها، لأنّ الوصول إلى التوحيد بدون الإسلام أمر محال، ولأنّ الإسلام بدون التشيّع ليس إلّا مفهومًا لا حقيقة له.[6]
لذلك نجد أنّ الله مدح وأثنى على الأفراد الذين تعبّدوا بالأديان الإلهيّة الماضية [حتّى بعد مجيئ الإسلام] وجعلوا منهجهم وممشاهم الاعتقادي وأعمالهم طبقًا للشرائع السابقة، لكنّ فعلهم ذلك كان بسبب جهلهم بحقانيّة شريعة الإسلام، فكان فعلهم ذلك نابعًا من الصدق وصفاء الضمير من دون عناد أو إغراض، فذكرهم عزّ وجلّ بالخير ونظر إليهم من جهة الاستضعاف وعدّهم من المأجورين ومن جملة السعداء.
قال الله تعالى في كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.[7]
ذلك لأنّ نظام عالم الغيب قائم على أساس الحقّ، ومن كان مستضعفًا وعاجزًا عن إدراك الحقيقة وبلوغ الواقع دون أي تقصير منه بل بسبب الأمور الدنيويّة والمنهج التربويّ، فمثل هؤلاء لا يعدّون مقصّرين، بل يمنّ الله عليهم بتلك الرتبة المقدّرة لهم من الكمال دون أن‏ يجحفهم شيئًا من حقّهم، وسيجعل الله تعالى لهم نفس ذلك المصير الذي يليق بالمؤمنين المتديّنين بمذهب الحق وشريعة الإسلام.[8]

    

3. انقسام المسلمين إلى: شيعة ونواصب ومستضعفين

إنَّ تقسيم المسلمين إلى شيعة، وغير شيعة [يعني النواصب] في عصر الرسول الأعظم كان أمرًا لا مناص منه، فالشيعة يمثّلون الفريق المطيع وأولئك يمثّلون الفريق الصلف المتمرّد.[9]

    

الشيعة وصفاتهم

تطرّقت أحاديث كثيرة[10] إلى صفات الشيعة وأخلاقهم وأعمالهم قِبَلَ: المروءة، والإنصاف، والصدق، والإيثار، والصبر، والاستقامة والصفاء، والخلوص، والعبادة، والجهاد، والصيام، والصدقة، والاعتقاد الراسخ بالله وتعاليمه. وهذه صفات قد اجتمعت في مولاهم عليّ بن أبي طالب. إنَّهم صفّوا حسابهم مع الدنيا، وتجلّدوا أمام المشاكل والمصائب والمحن، وتعفّفوا لسانًا وقلمًا وبطنًا وفرجًا، واجتنبوا المعاصي، بل وَجَلُوا صَدأ قلوبهم بعبوديّتهم لمعبودهم الحقّ، وصقلوها حتى تألّقت الأنوار الإلهيّة فيها. فالشيعة أناس تعلّموا دروس العمل في مدرسة مولاهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. فاجتازوا بذلك جميع عقبات عالم البرزخ، والقبر، وسؤال منكر ونكير، والحشر، والعرض والحساب، والسؤال والصراط، والميزان، ورسخ في قلوبهم كلام إمامهم في هذه الدنيا؛ إذ قال: وأخْرِجُوا مِنَ الدُنْيَا قُلُوبكُم قَبْلَ أن تُخْرَجَ مِنهَا أبْدَانُكُم.[11]
و من الطبيعيّ فإنَّ الجنّة التي هي محلّ الأبرار المطهّرين، لابدّ أن تكون محلّهم ومستقرّهم. إنَّهم ساروا على نهج أمير المؤمنين الذي سلّم لأوامر ربّه وتعاليمه تسليمًا خالصًا، لم يعترضوا ولم يناقشوا في ذلك، واتّبعوا أوامر نبيّهم في أحرج الساعات وأعسر المواطن، وأقرّوا بكافّة الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة بشأن أمير المؤمنين وأهل بيته وبقيّة الشؤون الخاصّة بهم. لقد كانوا أصحاب خلوص فكريّ وعلميّ أفضى بهم أن يطبّقوا عقيدتهم عمليًّا في العالم الخارجيّ، فكانوا بمأمن عن العناد والحسّ الاستكباريّ. وهذا هو مقام الشيعة نموذج وافٍ لمقام الإنسانيّة، وثمرة ناضجة طريّة في عالم الوجود، و وردة متفتّحة في حديقة الوجدان والحميّة والإنصاف.

    

المنافقون وصفاتهم

و ثمّة أشخاص في مقابل هؤلاء أوّلًا: لم ينظروا إلى تعاليم رسول الله على أنَّها تعاليم واجبة التطبيق، وكانوا يتركون النبيّ وحده في الساعات الحرجة، ولم يعرفوا بالخضوع والخشوع في عبادتهم، ولم يكونوا من أهل الإيثار والتضحية، ولم يوطّنوا أنفسهم على الجهاد والصبر والتحمّل في المحن والشدائد، ولم يُشَمّ الصدق في كلامهم ولا الخلوص في عبادتهم، ولا العشق والتحمّس عندهم للقاء الله في السرّ.
ثانيًا: كانوا متثاقلين متباطِئين في مقام العمل، قلوبهم قاسية ونفوسهم متمرّدة عاصية لم تذعن للحقّ. وبهذه القلوب والنفوس كانوا يتعاملون مع رسول الله، وبسبب تلوّنهم وتشكيكهم، كانوا يحرجون رسول الله في كلّ يوم وكلّ ساعة. إنَّهم أهل جهنّم، وجهنّم مقامهم الأبديّ؛ إنَّهم خلّدوا نفوسهم الشرّيرة في الصفات والملكات القبيحة في هذه الدنيا، فلابدّ أن يكونوا مخلّدين في ذلك العالم الذي هو عالم البروز والظهور.[12]
[ونجد أمثال هؤلاء في] الذين يمتلكون القابليّة والاستعداد لمعرفة الصراط المستقيم ولقاء العالم الربّاني والمربّي الإلهي، والقدرة على المطالعة والتدبّر في القرآن الكريم والسنّة النبويّة ومنهج الأئمّة الطاهرين، والذين‏ يمتلكون إمكانية الخروج على لجام الطاعة والعبوديّة لطواغيت زمانهم وظالميه، وعلى كسر طوق التقليد الأعمى، وعلى الالتحاق بمقام العِلم الحقيقي، والتبعيّة والتقليد لعالِمٍ ومعلّمٍ إلهيّ، إلّا أنّ غرورهم وغفلتهم ونوازعهم الشهويّة والماديّة أبعدتهم عن عالم المعنى وسلكت بهم لذلك سبيلَ الضلال، فليسوا من المستضعفين، بل هم من الظالمين ومن أهل جهنّم، وسيؤاخذون ويعاقبون على عقائدهم الباطلة وصفاتهم الرذيلة وأعمالهم الظالمة غير المقبولة، ولن يقبل ملائكة قبضِ الأرواح لهم عذرًا مهما حاولوا جعل أنفسهم في مصاف المستضعفين، وسيسوقونهم إلى جهنّم زُمرا.[13]

    

المستضعفون وصفاتهم

يلاحظ هنا فريق آخر لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. لا كأصحاب أمير المؤمنين قلوبهم طاهرة وأعمالهم محمودة نزيهة، ولا كأولئك من ذوي الأعمال القبيحة. قد ينفقون أموالهم، ويصلّون ويصومون‏ ويطيعون تعاليم الدين، ولا يشاقّون الرسول وأهل بيته، ولا يميلون مع أعدائهم. فهؤلاء يقضون دهرهم على هذه الحالة بسبب قصورهم وعدم انكشاف الحقيقة لهم. وهذه المجموعة تؤلّف الغالبيّة بين الأمم والشعوب دائمًا، ولو اتّضح لهم الحقّ ـ على سبيل الفرض ـ فلا يصدّون عنه، بَيدَ أنَّهم ظنّوا الخطأ صوابًا والصواب خطأ وعملوا بذلك نتيجة ما تلقّوه من تربية سقيمة غير صحيحة، وما عاشوه من وسط متضارب بعيد عن الحقّ، إنَّهم مجموعة من المستضعفين لايدخلون الجنّة على الفور کما لا يدخلون النار على الفور أيضًا، ولکن یخضعون للحساب على أساس عقیدتهم وعملهم اللذین کانوا علیهما.
نجد أمثال هؤلاء في أغلب جنود الإمام عليّ يوم صفّين الذين صاروا بعد ذلك في عداد الخوارج، ولمّا نصحهم الإمام، وأقام لهم الدليل والبرهان، تابوا ورجعوا عن مخالفتهم.
كما نجد أمثالهم في أكثر أهل السنّة الذين يجتمعون في عرفات، والمشعر، ومنى، وبيت الله، لا يكنّون العداء لأهل البيت، ولا يقرّون بولايتهم وإمامتهم وخلافتهم الحقّة أيضًا. أمّا علماؤهم والبعض من كبارهم المطّلعين على الكتب والتواريخ والتفاسير، والمستوعبين لجميع الأحاديث والروايات، فحسابهم عسير للغاية إن لم يذعنوا للحقّ. بَيدَ أنَّ الأغلبيّة الذين هم من العوامّ، وليس لهم اطّلاع على كتب السيرة، ومعلوماتهم وعقائدهم مقصورة على إرشاد علمائهم، فلعلّ الله يعفو عنهم ويصفح في حالة عدم تقصيرهم. وتنطبق عليهم آية المستضعفين. قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ في الأرْضِ قَالُوا ألَمْ تَكُنْ أرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأولئك مَأواهُمْ جَهَنَّمُ وسَآءَتْ مَصِيرًا، إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ والنِّسآءِ والْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ولَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، فَأولئك عَسَى اللهُ أن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا}.[14] [15]

    

تفسیر آية {إلا المستضعفين} وبيان مفهوم المستضعف في القرآن الكريم

إنّ الفئة من الناس الذين ظلموا أنفسهم بسبب مخالفة التكاليف الإلهيّة وعدم تزكية النفس والتخلّق بالأخلاق الربّانيّة، ولعدم تحصيل المعارف الشرعيّة والملكات الرحمانيّة ولقاء المعبود جل وتعالى شأنه، قد جعلوا نفوسهم ـ نتيجة لذلك ـ أسرى وادي الحرمان، وحرموها من التكامل والرقيّ والوصول إلى مدارج الإنسانيّة ومعارجها، وحبسوها في ظلمات البُعد وآثاره من الغفلة والشهوات.
و هذه المحروميّات التي صارت من سهمهم وحظّهم، إنّما حصلت بسبب استضعاف قوم مستكبرين جعلوهم تحت قيمومتهم، وحرموهم بتسلّطهم عليهم من حقوقهم البسيطة والبديهيّة، وهي الحرّيّة في أداء المناسك الدينيّة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الشعائر الإلهيّة، وتشكيل حكومة حقّة تؤمّن العدل والإنصاف الإسلامي؛ فجعلوهم أتباعًا وذيولًا لهم يقتفون آثارهم في العمل والسلوك الفرديّ والاجتماعيّ.
و هؤلاء سيخاطبهم الملائكة حين يريدون قبض أرواحهم: أين كنتم وفي أي ظرف و وضع كنتم؟
ذلك لأنّ هؤلاء الملائكة حين يصلون إليهم فيشاهدون نفوسهم‏ المظلمة المعتمة المحرومة الجامدة الراكدة الخاضعة لضغط الكفر، فإنّهم يفهمون أية مصيبة وبليّة عظيمة صُبّت عليهم فأصيبوا بالحرمان الشديد؛ إذ إنّ هذا البلاء والمصيبة العظيمة يسقطان الإنسان من مستوى العبوديّة للَه لذا فإنّهم سيتساءلون تعجّبًا:
أي ظروفٍ واجهتكم؟ وفي أي بيئة ومجتمع كنتم تعيشون؛ فأصاب نفوسكم هذا التلف والفساد؟
فيجيب الأفراد المحتضرون: كنّا من المستضعفين في الأرض، وهذا البلاء والمحنة اللذان لزمانا من قِبل المستكبرين الذين علوا علينا، وإلّا فإنّنا لم نكن لنرغب في الانحراف من تلقاء أنفسنا، وكان البقاء تحت قيموميّة الأمّة الكافرة، ذلك البقاء الذي كان يستتبع سلب نورانيّة النفس وسلب عبوديّة الربّ وطاعة نبيّه أمرًا يشقّ علينا. أو أننا على أقلّ تقدير لم نكن راضين بذلك ولا مرتاحين له.
فيقول الملائكة: فَلِمَ لَمْ تهاجروا؟ أفَلَمْ تسعكم أرض الله الواسعة الفسيحة؟
كان عليكم أن تهاجروا إلى بلاد أخرى يمكنكم فيها إقامة شعائركم الدينيّة بأمن وأمان وفراغ بال، وإلى حيث يمكنكم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإجراء الحدود الإلهيّة والخضوع لولاية وإشراف الإمام المعصوم أو حاكم الشرع المطاع والمجتهد الفقيه العادل البصير الخبير بالأمور، وحيث تشكّلون حكومة إسلاميّة فيمكنكم من ثمّ إقامة صلاة الجمعة، وانتزاع حقّ المظلوم من الظالم، والأذان من على المآذن بلا خوف ولا تقيّة، فتوقظوا بنداء «الله أكبر» عند الصلوات الخمس الراقدين من نوم الغفلة وتقودونهم إلى المساجد.
و لمّا كان بإمكانكم الهجرة إلى دار الإسلام أو إلى نقطة أخرى يمكنكم فيها تأسيس حكومة إسلامية بأنفسكم والعمل بأحكام الله، إلّا أنّكم لم تهاجروا اختيارًا، فإنّ مأواكم ومسكنكم سيكون في جهنّم وساءت مصيرًا.[16]
{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَآءِ والْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ولَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، فَأولئك عَسَى اللهُ أ ن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًّا}. وباعتبار أنّ هناك فئة بين المستضعفين لا تتمكّن من الهجرة، أو لا تمتلك إمكانيّة فكريّة أو عقليّة، أو قدرة ماليّة أو بدنيّة، أو أنه والعياذ بالله ليس هناك قربهم حكومة إسلاميّة يمكنهم الوصول إليها مثلًا، كبعض الرجال والنساء والولدان الذين لا يمتلكون أي سبيل وحيلة للخلاص بأنفسهم من تسلّط أولئكم المستكبرين، ولا يهتدون إلى طريق لتحرير أنفسهم، فإنّ هذه الجماعة مصانة من مؤاخذة ملائكة قبض الأرواح وفي أمان من المصير إلى جهنّم، لأنّ هناك أملًا بعفو الله عن ذنوبهم والله هو العفوّ الغفور.[17]
إنّ خصوصيّة حال المستضعفين من الرجال والنساء والولدان قد بُيّنت في آية الاستثناء المباركة، وتلك الخصوصيّة هي عدم التمكّن من فعل حيلة أو وسيلة وعدم الاهتداء إلى سبيل للفرار:لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ولَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. أي أولئك الرجال والنساء والولدان الذين من خصوصيّة حالهم عدم إتقانهم فعل وسيلة وحيلة وعدم اهتدائهم إلى سبيل ينجيهم. وقد قال العلماء: تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ.
فإن قيل مثلًا: احترز من الرجال الذين يحملون مرضًا معديًا!
فإنّ وجوب الاحتراز ليس من الرجال مطلقًا، بل من الرجال الذين‏ يحملون مرضًا معديًا، لذا يستفاد من هذه الجملة أنّ علّة الحكم بوجوب الاحتراز هي حمل المرض المعدي.
و بناءً على هذه الاستفادة من علّيّة الحكم فإنّهم يقولون: يجب على الإنسان الاحتراز من كلّ من يحمل مرضًا معديًا، رجلًا كان أم امرأة.توسیع حكم المستضعف إلى كلّ من ضلّ عن الحقّ بغير عناد وتقصير وإن لم يخضع لاستضعاف حسّي
و ينتج من الآية مورد البحث عمومًا أنّ كلّ رجل وامرأة و ولد لا يتمكّن من إيجاد سبيل خلاص لنفسه ولا الاهتداء إلى طريق للنجاة، فإنّه سيكون مصونًا عن مؤاخذة الملائكة وعن الورود إلى جهنّم، وأنّ الأمل بعفو الله عنهم سيشملهم، سواءً كانوا من المستضعفين [الخاضعین لاستضعاف وظلم حسيّ] أم من غيرهم.
و خلاصة الأمر أنه لو كانت هناك جماعة من الناس تعيش في دار الإسلام ولا تخضع لظلم المستكبرين واعتدائهم، ولا ينطبق عليها عنوان الاستضعاف [الحسيّ] ، بَيدَ أنّ أولئكم كانوا قومًا من الرجال والنساء والولدان الذين لا يعثرون على سبيل لإدراك الحقائق والمعنويّات ولا يهتدون إلى حيلة و وسيلة للوصول إلى الأحكام الإلهيّة والمعارف الحقّة، فإنّهم سيكونون مصونين من الورود إلى جهنّم، وسيكونون مورد العفو الإلهيّ.[18]
نماذج من المستضعفين
بعض أتباع سائر الأديان

فلو فرض مثلًا أنّ أطفالًا تربّوا منذ نعومة أظفارهم في أحضان آباء وأمّهات كفّار، وكانوا على الدوام مورد التلقين السيّئ لوالديهم، فألقيت إليهم المطالب عكس حقيقتها، كأن يُوصف لهم نبيّ الإسلام منذ البدء كإنسان سيّئ، والقرآن ككتابٍ محرّف غير قابل للعمل به. وكان هؤلاء الأطفال جاهلين باللغة العربيّة أيضًا كي يقوموا عند بلوغهم سنّ الرشد بالمراجعة بصورة مستقلّة، وكان المسجد قد اتّخذ لنفسه في قلوبهم حكم‏ معبد الأصنام منذ لحظة الوجود الأولى، وكان قد خُيّل لهم أنّ رسول الله معاند مخالف للأنبياء والمرسلين، وكانوا قد تلقّوا الدين الإسلاميّ الحنيف كدينٍ للانحراف والاعوجاج، فرسخت هذه التلقينات في أذهانهم بحيث لم يكن خلافها متصوّرًا لديهم كي يكونوا على الأقلّ في صدد التحقيق، وأعقب ذلك ابتعادهم عن قافلة الإسلام، إلّا أنهم لم يكونوا ذاتًا مفسدين، ولو كانت الحقيقة قد ألقيت إليهم كما ينبغي لقبلوها.
معظم أهل السنّة
أو أنّ أطفالًا قد كانوا منذ سنّ طفولتهم في أحضان آباء وأمّهات على مذهب أهل السنّة فلقّنوا الحقائق على الدوام بشكل مخالف، بحيث لم يكونوا يحتملون في سويداء قلوبهم حقّانيّةً للتشيّع، ولم يكن لهم من العقل والذكاء والتفكير ما يجعلهم يستفيدون من العالِم الشيعيّ حين يلتقون به؛ أو أنّ أذهانهم قد لوّثت بحيث عدّوا تلك الحقائق باطلة بصورة حتميّة، ولم يكونوا ليحتملوا الواقعيّة فيها، فكانوا يتخيّلون في عقولهم وأذهانهم وأفكارهم أنّ الذين أعادوا مسير تأريخ الإسلام إلى الوراء هم مؤسّسو التأريخ الحقيقيّ الإسلاميّ. فإنّ هؤلاء الأفراد إذا ما انعدم الإنكار في وجودهم بحيث لو أريت لهم الصورة الحقيقيّة للتشيّع لالتحقوا بمدرسة التشيّع ومذهبه، ذلك المذهب المجسّد للإسلام الحقيقيّ، سيكونون هم أيضًا مورد عفو ورحمة الحضرة الأحديّة وسيكونون بمأمن من الدخول في جهنّم.
و يشكّل أهل العامّة من الرجال والنساء والولدان أغلب هؤلاء الأفراد، خاصّةً إن افتقدوا العقل المتين والفكر الراسخ، وكانوا من البسطاء الطيّبين. إلّا أنّ كثيرًا من الرجال العلماء والمفكّرين قد يكونون غير مصونين من هذا الخطر؛ فقد يكونون مع كثرة مطالعاتهم وتتبّعهم الزائد قد بقوا أسرى إلى آخر العمر في خربة الانزواء إثر رسوخ تلقينات الآباء والأمّهات والمعلّمين والبيئة، فتكون هذه التلقينات قد حجبت بينهم‏ وبين إدراك الحقائق كسدّ الإسكندر.
و لو صدق في شأنهم عنوان {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ولَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} ولم يكونوا في نفس الوقت من المنكرين والمعاندين والمتطاولين، بحيث لو فهموا حقيقة النبوّة أو الولاية لخضعوا وأطاعوا على الفور، فإنّهم سيكونون كذلك مورد العفوّ.[19]
و على هذا الأساس المنطقيّ والعقليّ خصّص الربّ عظيم الشأن في القرآن الكريم الخلود في نار جهنّم وحبط الأعمال والاستدراج وكثير من العواقب الوخيمة بأولئك الذين ليسوا كفّارًا فقط، بل مكذّبين بالآيات الإلهيّة، فالعلّة المهمّة لخلودهم في جهنّم إنكارهم واستكبارهم وتكذيبهم بآيات الحقّ، لا نفس الكفر وحده.
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِايَاتِنَآ أولئك أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.[20] [21]

    

خلاصة

[ونستنج من هذا أنّ المستضعفين بالمعنى العام الذي يشمل الملحقين بهم وإن لم يمارس عليهم ظلم محسوس] هم أولئك الذين لم يمتلكوا بأنفسهم القدرة على تشخيص دين الحقّ، والذين لم يفيدوا شيئًا ولم ينتفعوا من مطالعة الكتب الحقّة، كما أنهم لم يلتقوا بالعلماء الربّانيّين والزهّاد الحقيقيّين ذوي الضمير الصافي اليقظ الذين تخطّوا حقيقةً هوى أنفسهم، ليحرّكهم نهج أولئكم وسلوكهم، ولتهزّهم أرواحهم المتعالية فيضعوا أقدامهم على الصراط المستقيم ويفوزوا بالمقصود الأصيل.[22]
[وبکلمة]: الاستضعاف عدم الاهتداء إلى الحق من غير تقصير.[23]
ملاحظة: تمّ إعداد هذا البحث من قبل الهيئة العلميّة في موقع المتقين بالاعتماد على نصّ كلمات العلمين الكبيرين: آية الله الحاج السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني وآية الله الحاج السيّد محمد حسين الطباطبائي رضوان الله عليهما، وقد بيّنت المصادر في الهوامش، وجعلت الإضافات والإيضاحات بين معكوفتين، كما قوبلت النصوص المترجمة مع أصولها الفارسيّة.


[1] ـ الآية 256، من السورة 2: البقرة.

[2] ـ [معرفة المعاد، ج‏10، ص:68ـ 69]

[3] ـ سورة آل عمران (3) آية 85

[4] ـ سورة البقرة (2)، الآية 120.

[5] ـ [حريم القدس، السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني، ص 30ـ 31]

[6] ـ [الروح المجرد، ص:347ـ 348]

[7] ـ البقرة (2) 62.

[8] ـ [حريم القدس، السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني، ص 31ـ 32]

[9] ـ [معرفة الإمام، ج‏3، ص: 69]

[10] ـ [انظر حول صفات الشیعة: معرفة الإمام، ج3، ص 79 ـ 94]

[11] ـ «نهج البلاغة» باب الخطب، ص 418.

[12] ـ [معرفة الإمام ج 3 ص: 69]

[13] ـ [معرفة المعاد، ج‏2، ص: 19]

[14] ـ السورة (4) النساء، الآيات 97ـ 99.

[15] ـ [معرفة الإمام، ج‏3، ص: 68ـ 71]

[16] ـ [قال العلامة الطباطبائي قدس سرّه في تفسير الميزان (ج5، ص50) : قوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ}، الاستثناء منقطع، و في إطلاق المستضعفين على هؤلاء بالتفسير الذي فسره به [بقوله تعالى: {لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلًا}] دلالة على أن الظالمين المذكورين [في قوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمين قالوا فیم کنتم قالوا کنا مستضعفین في الأرض}] لم يكونوا مستضعفين لتمكنهم من رفع قيد الاستضعاف عن أنفسهم و إنما الاستضعاف وصف هؤلاء المذكورين في هذه الآية، و في تفصيل بيانهم بالرجال و النساء و الولدان إيضاح للحكم الإلهي و رفع للبس].

[17] ـ [معرفة المعاد، ج‏3، ص:49ـ 50]

[18] ـ [قال العلامة الطباطبائي قدّس سرّه: قوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} الحيلة كأنها بناء نوع من الحيلولة [أي اسم هيئة مثل جِلسة الأسد] ثم استعملت استعمال الآلة في ما يتوسل به إلى الحيلولة بين شي‏ء و شي‏ء أو حال للحصول على شي‏ء أو حال آخر، و غلب استعماله في ما يكون على خفية و في الأمور المذمومة، و في مادتها على أي حال معنى التغير على ما ذكره الراغب في مفرداته. والمعنى: لا يستطيعون و لا يتمكنون أن يحتالوا لصرف ما يتوجه إليهم من استضعاف‏ المشركين عن أنفسهم، و لا يهتدون سبيلا يتخلصون بها عنهم؛ فالمراد من السبيل على ما يفيده السياق أعم من السبيل الحسي كطريق المدينة لمن يريد المهاجرة إليها من مسلمي مكة، و السبيل المعنوي وهو كل ما يخلصهم من أيدي المشركين، و استضعافهم لهم بالعذاب و الفتنة. يتبين بالآية أنّ الجهل بمعارف الدين إذا كان عن قصور و ضعف ليس فيه صنع للإنسان الجاهل كان عذرا عند الله سبحانه. توضيحه: أن الله سبحانه يعد الجهل بالدين و كل ممنوعية عن إقامة شعائر الدين ظلما لا يناله العفو الإلهي، ثم يستثني من ذلك المستضعفين ويقبل منهم معذرتهم بالاستضعاف ثم يعرفهم بما يعمهم و غيرهم من الوصف، وهو عدم تمكنهم مما يدفعون به المحذور عن أنفسهم. و هذا المعنى كما يتحقق فيمن أحيط به في أرض لا سبيل فيها إلى تلقي معارف الدين لعدم وجود عالم بها خبير بتفاصيلها، أو لا سبيل إلى العمل بمقتضى تلك المعارف للتشديد فيه بما لا يطاق من العذاب مع عدم الاستطاعة من الخروج و الهجرة إلى دار الإسلام و الالتحاق بالمسلمين لضعف في الفكر أو لمرض أو نقص في البدن أو لفقر مالي و نحو ذلك، كذلك يتحقق فيمن لم ينتقل ذهنه إلى حق ثابت في المعارف الدينيّة و لم يهتد فكره إليه مع كونه ممن لا يعاند الحق و لا يستكبر عنه أصلا بل لو ظهر عنده حق اتبعه، لكن خفي عنه الحق لشي‏ء من العوامل المختلفة الموجبة لذلك، فهذا مستضعف لا يستطيع حيلة و لا يهتدي سبيلا لا لأنه أعيت به المذاهب بكونه أحيط به من جهة أعداء الحق و الدين بالسيف والسوط، بل إنما استضعفته عوامل أخر سلطت عليه الغفلة، ولا قدرة مع الغفلة، ولا سبيل مع هذا الجهل. هذا ما يقتضيه إطلاق البيان في الآية الذي هو في معنى عموم العلة...]

[19] ـ [معرفة المعاد، ج‏3، ص: 56 ـ 58]

[20] ـ الآية 39، من السورة 2: البقرة.

[21] ـ [معرفة المعاد، ج3 ، ص: 63]

[22] ـ [معرفة المعاد، ج2، ص 18].

[23] ـ [تفسير الميزان، ج‏5، ص: 60].

 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع «المتقين». يسمح بإستخدام المعلومات مع الإشارة الي مصدرها


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی