____________________________________________________
أثر الزمان والمكان على الإجتهاد
_______________________________________________________________
بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ وصلّى اللَه على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطاهرين ولعنةُ اللَه على أَعدائهم إلى يومِ الدّين
بحث مختصر في مسألة عدم تأثير الزَّمان والمَكان على كيفيَّة الاجتهاد وحركة استنباط الحُكم الفقهي
مقدّمة في بيان ثبات التشريعات الدينيّة وانطباقها على الفطرة
أولًا: استناد عالم الخلق إلى الذات الغنيّة إنّ عالم الخلق والظهور ـ بناءً لمدرسة التوحيد والوحي ـ يستند في جميع مراتبه إلى المُبدع والفاعل الواحد الأحد، سواءً في مرتبة الشهادة أم في مرتبة الغيب، يعني: يستند إلى الذات المجرّدة البسيطة على الإطلاق، والغنيّة عن الغير في جميع مراتب الفعل والصفات والذات، والآية الكريمة: { أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ }[1] دالّةٌ على إثبات هذا الاستناد المطلق، وكذلك الآية الشريفة: { وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ }[2]، وكذلك الآية الشّريفة: { وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡعَلِيمُ }[3]. ثانيًا: عظمة وثبات الفطرة الإنسانيّة وبناءً لهذه المدرسة، وحتّى بناءً للمدارس الإلحاديّة التي تنفي الصانع والمبدأ الأعلى، إنّ وجود الإنسان يقوم ويتركّب على أسسٍ وقوانين دقيقةٍ ومجموعةٍ من الظواهر المختلفة والأمور المتنوعة سواءً أكان ذلك في حقيقة الإنسان التي تمثّل نفسه الناطقة أم في جسمه وظاهره الذي يمثّل مرتبةً نازلةً من مراتب تلك النفس؛ { لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ }[4]. وهذا التركيب هو الذي يُخرج حقيقة النفس الناطقة من حالة وحيثيّة الاستعداد والقوّة إلى حالة وشأنيّة البلوغ والكمال والفعليّة. وقد عُبّر في لسان الشرع عن تلك المجموعة من الظواهر وذلك التركيب بالفِطرة، قال تعالى: { فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ }[5]. ولا شكّ أنَّ هذه الأمور ثابتةٌ ولا تتغيّر، وأنّها من اللوازم التي لا تنفك عن الطّبيعة الإنسانيّة والنّفس النّاطقة للآدميّ، بحيث إنّ ثبوت الموضوع مقتضٍ لثبوتها، كما أنّ نفي هذه اللوازم وعدم وجودها، يكشف عن زوال وانعدام تلك النفس الناطقة، وهذا المعنى هو الّذي أُشير إليه في الآية الشّريفة حين قالت: { لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ }. ثالثًا: حقيقة الدين والدِّين هو نفس الحركة في ظلّ المعايير والمِلاكات الفِطريّة وعدم إهمالها ولو في موطنٍ واحدٍ من المواطن التي أُودعت في الإنسان، وتعبير الآية الشّريفة: { ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ } يحكي عن هذا المعنى. النتيجة: ثبات الدين وعدم معارضته للملاكات الفطريّة ومِن هنا، لمّا كانت الفطرة الإنسانيّة ثابتةً لا تتغيّر عمّا هي عليه في أصلِ الخِلقة، فإنّ الدِّين هو الآخر ثابتٌ لا يتغيّر؛ لأنّه يمثّل الكيفيّة لجميع أفعال المكلّفين وحركاتهم وتكاليفهم، أي: ينبغي للقواعد الكليّة العامّة للدِّين وكذلك ينبغي للفروع أن تكون موضوعةً من أجل تحقيق الكمال والفعليّة وفق الحاجة الفطريّة للبشر بواسطة تلك المِلاكات الثابتة التي لا تتغيّر. ولذا تصرِّح الآية الشّريفة الواردة في سورة الشّورى قائلةً: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِينَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَيۡهِۚ ٱللَّهُ يَجۡتَبِيٓ إِلَيۡهِ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَن يُنِيبُ}[6]
نعم يُمكن وقوع بعض الاختلافات في بعض فروع الأحكام، ففي سورة المائدة يقول تعالى: { وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ}[7]. وقد عبّر أميرُ المؤمنين عليه السلام عن بعثة الأنبياء وحقيقة التّشريع بهذا النحو من التعبير: «واصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وُلْدِهِ[8] أَنْبِيَاءَ أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ، وعَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ؛ فَجَهِلُوا حَقَّهُ، واتَّخَذُوا الْأَنْدَادَ مَعَهُ، واجْتَالَتْهُمُ[9] الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، واقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ؛ فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ، ووَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، ويُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، ويَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، ويُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُول إلخ».[10] ومِن هنا، فلا يمكن أن يتعارض أو يتناقض وجود وبعثة الحجج الإلهيّين ـ الذين يُعبّر عنهم بالعقل المُنفصِل ـ مع المِلاكات الفطريّة للبشر وأصول تلك المباني. وبعبارةٍ أخرى: إنّ انطباق التشريع مع كيفيّة التكوين، هو أصلٌ أوليٌّ وقاعدةٌ أولى مسلّمةٌ مفروغٌ عنها في تدوين الأحكام.[11]
دفع ما يرد على هذه النتيجة
وأمّا ما يُقال مِن أنّه: كما أنّ قضيّة الخلق والتكوين منوطةٌ بمشيئة الله وإرادته، فكذلك مسألة التشريع ـ والتي هي عبارة عن جعلٍ من الجاعل واعتبارٍ من المعتبر لنحو التكليف ـ هي الأخرى خاضعةٌ لإرادة الله عزّ وجلّ واختياره، وله الحقّ في أن يعتبر ما يشاء كيف يشاء، سواءً أوافق التكوين أم خالفه، وليس لأحدٍ أن يسأل. فهو قولٌ عارٍ عن الصحّة، ولا يرقى لمرتبة التحقيق. وأمّا معنى الآية الشريفة: { لَا يُسۡئَٔلُ عَمَّا يَفۡعَلُ وَهُمۡ يُسۡئَٔلُونَ }[12]، فهو أنّ مسؤوليّة الإجابة على الأفعال هي على عهدة المكلّفين، وليست على عهدة حضرة الحقّ؛ لأنّ مقام المُكلّف في قبال التكليف هو مقام الاختيار والانتخاب، أمّا مقام إرادة حضرة الحقّ عزّ وجلّ ومشيئته وفعله، فلا يقتضي أن يختار سبحانه أحدَ طرفي الوجود والعدم على أساس الأرجحيّة ورعايةِ المصالح والمفاسد النفس الأمريّة، ولا يستلزم انطباق الفعل على أساس تلك المصالح والمفاسد. وإنّما نفس إرادة حضرة الحقّ ومشيئته موجبةٌ ومولّدةٌ ومنشئةٌ للصلاح والرجحان، فالصلاح والفضيلة والخير هي أمورٌ منتزعة ومنبعثة من نفس فعليّة أفعال الحقّ عزّ وجلّ، بعكس أفعال المكلّفين وتصرّفاتهم. بل إنّ المقصود والمراد مِن انحصار مسألة التشريع والجعل واختصاصها بدائرة وحريم إرادة الله عزّ وجلّ، هو أنّه سبحانه وتعالى هو الأصل والمبدأ والفاعل لعالم الوجود؛ ولذا يجب حقًا وحقيقةً أن تكون حيثيّة المولويّة وأن تكون شأنيّة التشريع منحصرتان باختياره ومشيئته عزّ وجلّ وذلك بناءً لمِلاك العقل والانطباق مع نفس الأمر. وهذه المسألة ليس فيها أيُّ مقتضٍ يقتضي مخالفة التشريع مع التكوين وكيفيّته، بل إنّ مقتضى الحكمة البالغة للحقّ عزّ وجلّ، ومقتضى كونه العلّة الغائيّة لخلق المخلوقات هو نفس ذلك البيان النفيس والشريف الوارد في الكتاب المبين: { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَٰمُوسَىٰ * قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيٓ أَعۡطَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ خَلۡقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ }.[13] أو الآية الشّريفة: { مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذُۢ بِنَاصِيَتِهَآۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ }.[14] أو الآية الشّريفة: { قُلۡ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّٗا فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَهُوَ يُطۡعِمُ وَلَا يُطۡعَمُۗ قُلۡ إِنِّيٓ أُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ أَوَّلَ مَنۡ أَسۡلَمَۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ }.[15] وبالتالي، فليس هناك إمكانيّة لأن تتخلّف الأحكام عمّا تقتضيه الخلقة والتكوين، وقطعًا ينبغي أن تكون نشأةُ جعلِ الأحكام التكليفيّة والوضعيّة وإنشائها ـ مِن ناحية اعتبارها وجعلها ـ منتزعةً من حيثيّة التكوين ونشأة الخلق؛ وذلك لكي يصبح بإمكانها أن تستوجب حصول الفعليّات والبلوغ إلى غايات العالم. ومع ملاحظة هذا الأمر، فإنّ السبيل والطريق الذي يمكن أن يكون موصلًا إلى هذه الغاية، والذي يمكن له أن يكون مقدّمةً لحصول هذا الغرض، هو ذلك الطريق الذي لا يتنافى أو يتعارض مع غاية الفعل وغرضه، وكلّ أمرٍ مرضيٍّ للّه عزّ وجلّ وموافق لاختياره، فهو يكتسب قطعًا حيثيّة المُقدِّمِيّة والقدرة على الإيصال. وأمّا ما يُقال: مِن أنّ الطريق قد يكون موصلًا إلى الواقع ونفس الأمر، ولكنّه مع ذلك غير مرضيٍّ للشارع ولا مجعولٍ من قبله، فهو كلام عارٍ عن التأمُّل والتحقيق. وكذلك لا أساس أيضًا لِما يُقال: من أنّ تنجيز الحكم من قبل الشارع إنّما يحصل بمجرّد اعتبار الشارع وبدون أن يكون له أيّ نوعٍ من التعلّق بالحيثيّة التكوينيّة، وبدون أن يكون منطبقًا وموافقًا لحيثيّة الخلق عند المكلّفين في ظروفهم المختلفة وحين صيرورتهم موضوعاتٍ لأحكام شرعيّة مغايرة.[16] وبملاحظة ما تقدّم فعندما يُرتّب الشارع حكمًا على موضوعٍ من المواضيع، فمن المستحيل أن يتخلفّ ذلك الحكم عن ذلك الموضوع في جميع الظروف والأزمان؛ لأنّ تلك المخالفة تستوجب عدم تحقّق الغرض الغائي وبالنتيجة سيكون ذلك جمعًا بين المتناقضين.
انتفاء التأثير العلّي الفاعليّ للزمان والمكان على الأحكام واستنباطها
ومن المسائل المطروحة في هذه الأيّام، مسألةُ «أثر الزمان والمكان على كيفيّة الاجتهاد وعلى استنباط الحكم الشرعي» . عودة اختلاف آراء الفقهاء إلى اختلاف خصائصهم الشخصيّة لا إلى الزمان والمكان لا شكّ أنّه لمّا كان الفقه الشيعي ـ بناءً على أصل الاجتهاد ـ مستنبطًا مِن مصادرَ محدّدةٍ، ولمّا كان نفس الاستنباط مُبتنيًا على النحو الذي يفكّر به الفرد المستنبط وبناءً لتتبّعه ولخصوصيّاته الروحيّة والأخلاقيّة، ولمّا كان هناك مراتب مختلفة بين مختلف الأفراد في حيازتهم وتمتّعهم بهذه الصفات والمعاني؛ لذا نرى أنّ فقهاء الشيعة الكرام لم يكونوا متّفقين أبدًا في الآراء طوال الأزمنة المتعاقبة، وكان هناك على الدوام اختلاف في الآراء، بل كثيرًا ما كان هناك تناقضٌ أيضًا. بل وفي كثيرٍ من الأحيان يكون لنفس الفقيه رأيان مختلفان في نفس المسألة، ولكن في فترتين زمنيّتين مختلفتين. نعم، يُستثنى بعض الفروع لكونها من ضروريّاتِ الدين، فلا نشاهد فيها هذا الاختلاف، حتّى إنّنا نجد أنّ هناك أحكامًا مخالفةً للإجماع في كثيرٍ من المواطن. لكنّ هذه المسألة لا علاقة لها بمسألة الزمان والمكان؛ يعني: لو افترضنا أنّ هؤلاء الفقهاء الذين لديهم آراء مختلفة في الأزمنة المختلفة، اجتمعوا في نفس الزمان وفي نفس الظروف، لاختلفوا في الآراء والفتاوى أيضًا، تمامًا كما هو مشهودٌ بالنسبة لفقهاء العصر الواحد بما هو أظهر من الشمس، وهذا الأمر يَبرز أكثر في مسألة القضاء وأمور الحكومة والمسائل الاجتماعيّة على الخصوص، وليس في الأمر ما يثير العَجَب. وعلى الرغم من ذلك، فجميعهم مثابٌ ومأجورٌ.
التصوير الأوّل لدخالة الزمان والمكان: التأثير على نحو العلّة الفاعليّة
قياس التشريع على التكوين وآية { لَا يُسئلُ عَمَّا يَفعَلُ } أمّا لو أرجعنا مسألة تعلّق الأحكام والاستنباط إلى العِليّة الفاعليّة للزمان والمكان، وليس إلى علّيتهما الصوريّة والإعداديّة[17]، فلا محيص من الإذعان بمسألة نسخ الشريعة، وتحوّل الشريعة الحقّة إلى آراءٍ مبتدعةٍ، ولا بدّ مِن الاعتقاد بتبدّل الأحكام الأبديّة ليحلّ محلّها دينٌ جديدٌ، وبالتالي نفي خاتميّة الشريعة؛ لأنّه عندما نعتقد بهذا الأمر [أي: كون الزمان والمكان علّةً فاعليّة للأحكام]، فلن يبقى أيّ أصلٍ ثابتٍ لا يتغيّر في الشريعة إلّا وسيغدو في أيّ فرصة من الفرص مشمولًا بقاعدة النسخ والنسيان ومرور الزمان، ولن يبقى حينئذٍ حجرٌ على حجرٍ، ولن يبقى من الإسلام اسمٌ ولا رسمٌ، وعلى الإسلام السلام.[18] ينبغي على المعتقدين بهذه النظريّة أن يلتفتوا إلى أنّه: ما هو التغيّر أو التحوّل الذي قد حصل في البناء الوجودي للبشر من الناحية الظاهريّة أو الروحيّة، بحيث وجدوا أنفسهم مُلزمين أن يطرحوا ويبتدعوا ظاهرة التحوّل والتكامل[19]؟! فهل اختلف وزن الإنسان في هذا الزمان عنه زمن نزول الوحي؟! أم هل حصل أيّ تبدّل في بنية جسم الإنسان؟! أم هل حصل أيّ اختلافٍ في الصفات والغرائز والخصوصيّات الروحيّة عن ذلك الزمان؟! أم هل ازدادت قدرة الفكر البشري وقدرتهم على إدراك المصالح والمفاسد النفس الأمريّة عن مدركات السابقين؟ بل ينبغي الإقرار والإذعان بأنّ الأمر كان على العكس من ذلك في العديد من الموارد المذكورة، والآية الشريفة { لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ }[20] تنطق بمفادها وتفصح عن معناها وتعيّن مصداقها بنحوٍ واضحٍ. إنّ النفس البشريّة في عصرنا الحاضر، غارقةٌ في مستنقعات الأهواء الشيطانيّة والصفات الحيوانيّة المنحطّة تمامًا كحالة البشر في القديم، وها هو مارد الاستبداد والأنانيّة والحرص والطمع والشهوة يبرز كلّ يومٍ بمظهرٍ جديدٍ من مظاهر السَبُعيّة والشراسة والاستيلاء والشهوة والغضب ويُتحفنا بتُحفةٍ من تحفه حتّى بيّض وجوه الماضين. فالاستيلاء على النفوس والأملاك والأعراض مازال كما كان في الماضي، وهو مستمرٌّ يكمل طريقه لكن بنحوٍ عصريٍّ تمامًا من خلال استعمار الشعوب والأمم واستثمار ثرواتهم بل باستحمارهم أيضًا، وبسرعةٍ فائقةٍ. وقد غدت وحشيّة القتل والنهب والإغارة والاستيلاء على الأموال أبشع وأخطر بآلاف المرّات عن السابق، وقد أمست ساحة الحياة الوسيعة ضيّقةً وخانقةً بالنسبة للإنسان العاقل والمتحضّر والهادف، بسبب النفوس السلطويّة والمتنمّرة التي لا تملك ضميرًا أو وجدانًا حيًّا. إنّ الاستثمارات الثقافيّة التي برزت في أغلب مجالات التكنولوجيا وفي التنوّع الحاصل في المسائل المعيشيّة الثقافيّة وفي الدعاية والإعلام المسموم والهدّام لبُنية القِيم الأخلاقيّة، مرعبةٌ جدًا وموحشةٌ جدًا بالنسبة لضمائر وقلوب العقلاء والمثقّفين لجميع الأمم إلى الحدّ الذي صاروا معه لا يتصوّرون أنّه مازال بالإمكان إصلاح ما يجري أو تغييره أو تحسين الأوضاع الراهنة. ومن أين نشأت كلّ هذه الفظائع؟ هل لها منشأ آخر غير النفس الأمّارة والصفات البهيميّة والخصائص المنحطّة والموبقة والمهلكة التي عند هؤلاء؟! يقول الله عزّ وجلّ في الآية الشّريفة السابعة والعشرين من سورة الأعراف: { يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ لَا يَفۡتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ كَمَآ أَخۡرَجَ أَبَوَيۡكُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ يَنزِعُ عَنۡهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوۡءَٰتِهِمَآۚ إِنَّهُۥ يَرَىٰكُمۡ هُوَ وَقَبِيلُهُۥ مِنۡ حَيۡثُ لَا تَرَوۡنَهُمۡۗ إِنَّا جَعَلۡنَا ٱلشَّيَٰطِينَ أَوۡلِيَآءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ }. وفي هذه الآية إشارة إلى كيفيّة إضلال الشياطين واستيلائهم على نفوس البشر، وقد بدأت واستمرّت هذه السُنّة منذ أن خُلق آدم، وستبقى إلى يوم القيامة. وبناءً على ذلك، فمع الالتفات إلى خاتميّة رسالة الرسول الأكرم، وبيانه للأحكام الملزمة وغير الملزِمة، وبقاء المحلّلات والمحرّمات إلى يوم القيامة، لن يبقى هناك أيّ موطنٍ لهذا النحو من التفكير.
التصوير الثاني لدخالة الزمان والمكان: التأثير على نحو العلة المعدّة للموضوع
أمّا إذا كان المراد من تأثير الزمان والمكان، هو تأثيرها على سبيل العلل المعدّة وكونها شرطًا لتحقّق الموضوعات؛ بحيث تكون الحوادث والأمور الواقعة في زمنٍ من الأزمان أو في مكانٍ من الأماكن موجبًا لحصول تغيّرٍ وتبدّلٍ في المبادئ والظروف المحقّقة للموضوع، فطبعًا سيكون الحكم على ذلك الموضوع مبنيًا على أساس الأحكام الكليّة والمِلاكات الكليّة. ومن باب المثال: إنّ الدم نجسٌ عند الشارع المقدّس، وشربه حرامٌ، وبالطبع كان بيعه وشراؤه حرامٌ أيضًا. ومن البديهي أنّه لم يكن هناك في زمان الشارع أيّ أثرٍ أو منفعةٍ عقلائيّةٍ تترتّب على استخدام الدمّ؛ ولهذا فإنّ العقلاء كانوا لا يجدون أيّ فائدةٍ عقلائيّةٍ تترتّب على استخدام الدمّ في ذلك الزمان بناءً لهذا الأساس ـ أي على أساس نجاسة الدم العينيّة التي تمّ جعْلُها والحُكم بها من قبل الشارع ـ فكانوا يرون المعاملة التجاريّة في الدماء من بيعٍ أو شراءٍ لغويّةً وفعلًا عبثيًّا، والشارع حرّمه أيضًا.
أمّا في هذا الزمان، فقد أضحى الدمّ واحدًا من أهمّ الموادّ الحياتيّة وأكثرها ضرورةً من أجل بقاء الحياة واستمرارها، وذلك بسبب تطوّر الصناعة ورقيّ علم الطبّ، وقطعًا هي من المصاديق البارزة لمقدّمات وأسباب الحكم بوجوب حفظ النفس المحترمة عند الشارع، ولن تتمّ مراعاة هذا الحكم إلّا من خلال بيع الدم وشرائه واستخدامه من قبل مَن يحتاجه مِن المرضى. وبملاحظة هذا الأمر، نجد أنّ ملاك المنع عن إجراء المعاملة التجاريّة على الدم ـ وهو لغويّة المعاملة وعدم قابليّة الاستفادة من الدمّ ـ قد زال، فدخل ضمن المنافع المشروعة والمحلّلة، لكنّ حكمي نجاسة الدم وحرمة شربه باقيان على حالهما. مثال آخر: مسألة السبق والرماية، واختلاف آلاتهما وأدواتهما في مرحلتين من الزمن. مثالٌ آخر: استعمال الكحول ومواطن استعماله في زمنين مختلفين، وهكذا ... بناءً على ذلك، طبقًا لقانون ترتّب الأحكام على الموضوعات، فإنّه في كلّ موطنٍ يتحقّق فيه موضوعٌ من المواضيع بناءً على اجتماع ظروفٍ وقيودٍ مخصوصةٍ، فبالطبع سيصبح الحكم الذي يقتضيه ذلك الموضوع مترتّبًا عليه أيضًا. وفي مثال الدمّ، لو أنّ هذه الظروف والأرضيّة المساعدة للاستفادة من الدمّ التي نجدها في زماننا الحاضر، كانت موجودةً في زمن رسول الله، لحكم رسول الله قطعًا بجواز الاستفادة منها للمرضى وفي سائر الاستخدامات العقلائيّة التي نراها في عصرنا الحالي في المستشفيات والمختبرات، ولأجاز بيعه وشراءه؛ ولو زالت بعض الشروط والظروف التي مكّنت من هذه الاستخدامات في عصرنا الحالي أو في بعض الأمكنة، فسيصبح شراؤه وبيعه حرامًا في ذلك المكان قطعًا.
نتيجة البحث وبيان تعريف مختصر للاجتهاد ودور المجتهد فيه
وإذا التفتنا إلى المسائل المذكورة، يتّضح أنّه لا وجود لمسألةٍ تُسمّى «الزمان والمكان وتأثيرهما في كيفيّة الاستنباط» ، فالأمر المهم والمؤثّر هو تبدّل ظروف موضوعات الأحكام وشروطها وقيودها ومخصِّصاتها ومعيّناتها، وهذه الموضوعات يمكن أن تتحقّق في زمنٍ من الأزمان، ثمّ تتبدّل في نفس ذلك الزمن وتلك الفترة أيضًا، ثمّ تعود نفس الظروف السابقة كما كانت. وليس الاجتهاد إلّا تبيين الموضوع وتطبيقه على الأصول الكليّة للأحكام وكيفيّة الإدراك الأقرب إلى الواقع وإلى مصدر وحي أدلّة الأحكام. وتقسيم الاجتهاد إلى: اجتهاد تقليدي، واجتهاد حيوي، هو تقسيمٌ غير صحيح. ففي الواقع، إنّ العمل الذي يقوم به المجتهد، هو أنّه يقوم بتشخيص الموضوع وتحديده بنحوٍ صحيحٍ في المرحلة الأولى، ثمّ تحصيل الفهم الدقيق للمغزى الذي تفيده مصادر أدلّة الأحكام، وفي النهاية القيام بتطبيق الحكم الوضعي أو التكليفي على الموضوعات. وإذا ما صار مجبورًا على الإفتاء بخلاف حكمه الاجتهادي في موضوعٍ من الموضوعات بسبب الحرج، أو بسبب عنوانٍ آخر من العناوين الثانويّة، فإنّه يجب عليه أن يسلّم ويحكم بالحكم الأوّلي عند ارتفاع ذلك العنوان الثانوي، وعليه أن يأمر الناس به ويرجعهم للعمل طبقًا له.[21]
[1] ـ سورة الأعراف (7) ، الآية 54.
[2] ـ سورة العنكبوت (29) ، الآية61.
[3] ـ سورة الزخرف (43)، الآية 9.
[4] ـ سورة التين (95) ، الآية 4.
[5] ـ سور الروم (30) ، الآية 30.
[6] ـ سورة الشورى (42) ، الآية 13.
[7] ـ سورة المائدة (5) ، الآية 48.
[8] ـ والضمير يعود إلى آدم عليه السلام الذي ورد ذكره قبل هذه الفقرة. (م)
[9] ـ اجتالتهم: صرفتهم عن قصدهم. (م)
[10] ـ نهج البلاغة (محمّد عبده) ، ج1، ص23، الخطبة1.
[11] ـ [قال المرحوم آية الله العلامة الطهراني رضوان الله عليه في كتابه نظرة على مقالة بسط وقبض نظريّة الشريعة ص 254: [المراد من] فطرة الإنسان هو البنية الوجوديّة بما يشمل الجسم و الروح و ذلك الطريق و المسير الذي يوصله إلى غاية الخلقة و هدفها من الكمال المنشود و السعادة المطلقة. و المراد بدين الفطرة تلك القواعد و الأحكام المؤثّرة في سير الإنسان باتّجاه سعادته و كماله، و هذه القواعد و القوانين و السنن بالرغم من أنّها أصبحت معتبرة باعتبار الشارع المقدّس، لكنّها كانت قائمة على أساس منطق العقل و وصول الإنسان إلى درجة الإنسانيّة، لا على أساس منطق الحسّ و الشهوة الذي يهبط به إلى مرتبة الحيوانيّة و البهيميّة. وقال رضوان الله عليه في كتابه معرفة الإمام، ج2، ص: 73: الدين الذي جاء به رسول الله هو دين الحقّ الذي لايأتيه العبث و الباطل، و يستطيع أن يلبّي حاجات الناس جميعهم؛ و يقودهم نحو الكمال الحقيقيّ و التوحيد المطلوب. الإسلام دين التوحيد؛ إذ إنّ كافّة تعاليمه الأخلاقيّة و العلميّة نزلت على أساس التوحيد؛ و مُقَنّنها و مشرّعها هو التوحيد. و وضعت هذه القوانين للوصول إلى التوحيد. و ما نزلت إلّا على أساس التوحيد، و إذا ما طُبقّت، فهي تسمو على أساسه أيضاً. و كما نرى في القوانين السائدة على العالم، و كذلك في الأنظمة الداخليّة للأحزاب أنّ تعاليم خاصّة قد انبثقت من روح الحزب و تمثّل أفكاره و آراءه. و لو تمسّك بها أحد، فإنّها ستقوده نحو آراء أصحابها و أفكارهم، فكذلك الإسلام فإنّه انبثق من التوحيد. و التوحيد يعني أن يرى أنّ جميع الكائنات بلا استثناء تخضع لعلم الله و قدرته و تأثيره، و أنّ الله هو المؤثّر في جميع عوالم الوجود. و أنّه لاقيمة و لا استقلال لأيّ أحد في وجوده حيال الخالق جلّ شأنه. فقد وضعت التعاليم الإسلاميّة كلّها على أساس هذا المبدأ. و الإنسان المسلم المتمسّك بهذا القانون يرى نفسه مرتبطاً بعالم الوجود كلّه، غير مُعْرِضٍ عن أحد. يألف الجميع و يأنس معهم، و يلتذّ في معاشرته للناس، و صلة الأرحام، و عيادة المرضى وقضاء حوائج الناس، و الإلفة مع الفقراء و المساكين، و بذل الأموال من أجل راحة الآخرين و رفاههم، و تعاليم أخرى كثيرة تربط الإنسان مع الكائنات جميعها، و كأنّه قطعة واحدة لا تقبل الانفصال عن مصنع الوجود. وقال مؤلّف هذه السطور آية الله السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ حفظه الله في كتابه نوروز در جاهليت واسلام (النيروز في الجاهلية والإسلام) ص 35: ولقد التفت هذا الحقير خلال السنوات الطوال التي تشرّف فيها بخدمة وصحبة العالم بالله وبأمر الله والاستفاضة من رشحات نفسه القدّوسية حضرة الوالد المعظّم العلاّمة السيّد محمد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ (أفاض الله علينا من شآبيب أنواره القدسيّة)، وتنبّه إلى أنّ: جميع الأحكام والسنن الإلهيّة الصادرة من منبع الوحي ينبغي أن تكون مشتملة على واقعيّة وحقيقة معرفيّة سامية تهدف إلى إصلاح النفس وتجرّدها عن الكثرات الآفاقيّة والأنفسيّة ورقيّ العقل الإنساني في المرتبة، سواءً اتّضحت لنا هذه الدرجة من المعرفة أو خفيت عنّا، وأنّ الله تعالى لم يُشرّع أيّ حكم لغوًا وعبثًا واستنادًا فقط لمسألة المولويّة، بل إنّ كلّ حكم صدر من مبدإ التشريع وصار منجّزًا وفعليًّا بالنسبة للإنسان ـ سواءً كان هذا الحكم إلزاميًّا كالوجوب والحرمة أو كان كالمستحبّ والمكروه ـ فإنّه يتّصف قطعًا بتلك الحيثيّة الربطيّة القائمة بين العبد وبين مراتب فعليّته، ويكون ناظرًا للمناسبة الدائرة بينهما... ]
[12] ـ سورة الأنبياء (21) ، الآية 23.
[13] ـ سورة طه (20) ، الآيتان 49 و50.
[14] ـ سورة هود (11) ، ذيل الآية 56.
[15] ـ سورة الأنعام (6) ، الآية 14.
[16] ـ [قال المرحوم آية الله العلامة الطهراني رضوان الله عليه في كتابه نظرة على مقالة بسط و قبض نظرية الشريعة، ص: 302 ـ 304: الحقّائق عبارة عن الواقعيّات الموجودة في الخارج، بما فيها المادّيّات و الطبيعيّات و الموجودات الملكوتية المجرّدة، بما فيها من العلوم و المعارف الذهنيّة التي لم تتحقّق على أساس فرض فارض و اعتبار معتبر. أمّا الاعتباريّات فعبارة عن الأشياء التي محلها و موقعها الذهن فقط، و المتحقّقة على أساس فرض فارض، بحيث تدور وجوداً و عدماً مدار الفرض و الاعتبار، فهي تكتسب تحقّقها الاعتباريّ بمجرّد الاعتبار، و ينتفي عنها أي تحقّق بمجرّد رفع اليد عن الاعتبار أو نقضه... إنّ الاعتباريّات باعتبارها من صنع الذهن و صياغته، فلا بدّ لحصولها من وساطة قوى الإدراك، سواء القوى الوهميّة و الخياليّة و الفكريّة، وبعبارة أوجز: العقل النظريّ، أم النفس الناطقة و النور المجرّد للروح الإنسانيّة التي نعبر عنها بالعقل البسيط و الملكوت الأعلى و الناطقة القدسيّة والكلمة الإلهيّة. و مع أنّ قيام الاعتباريّات و قوامها في الذهن، و أنّ قيامها باعتبار المعتبر، إلّا أنّها في نهاية المتانة و الإتقان، و كثيراً ما تكون بنفسها منشأ و مبدأ لحقائق كثيرة في الخارج. فطباعة أوراق العملة النقديّة مثلًا و جعل القيم المختلفة لها أمر اعتباريّ يرتبط بقرار خزانة الدولة و رئيس الامور الماليّة، حيث يصدران الأمر بطباعة الأوراق النقديّة و عرضها بقيم مختلفة. فتكون هذه الأوراق النقديّة معتبرة ما دام إمضاء المسؤول و الشخص المعتبر و إقراره لها باقياً، لكنّها تسقط عن الاعتبار بمجرّد سحب الرئيس المسؤول و مسؤول الخزانة إمضائهما أو إصدارهما قراراً بإلغائها، فتصبح أكداس الأوراق النقديّة الثمينة حينذاك بلا قيمة، و يؤول مصيرها إلى الإحراق في المدفأة أو ما إلى ذلك من الاستعمالات. و لا يخضع اعتبار الرئيس المسؤول لها، و طبعها، و مقدار المطبوع منها، و تعيين قيمتها، و مدّة اعتبارها، و طرحها للتداول داخل الدولة أو في الداخل و الخارج، للفوضى أو المزاجيّة؛ إذ لا بّد من حساب دقيق لتقدير ثروة المملكة من الذهب و الفضّة الموجودة في الخزينة أو ضمن أموال الدولة، و قيم المعادن المستخرجة، أو محصول اللؤلؤ المستخرج من البحر، و الأراضي الزراعيّة و البساتين، أو العمل و الجهود اليدويّة للعمال و الفلاحين، و كلّ ما يصدق عليه عنوان المال و يمكن حسابه في هيئة العملة الصعبة، و بعد الحساب الدقيق لقيمة العملة الصعبة و أسعار البضائع و الذهب و الفضّة الخارجيّة و ملاحظة العوامل المهمّة الأخرى، كميزان الثروة و النقد عند الشعب، يقومون بتبديل ذلك المال في المعاملة إلى أوراق رسميّة معتبرة و يدعونها بأوراق العملة الماليّة، تسهيلًا للحمل و النقل، و حفظاً للذهب و الفضّة، و لجهات أخرى غيرها. و هذا الحساب من الدقّة و الصحّة بالقدر الذي يحدّد الشخص المعتبر و المعيِّن لقيم و أسعار الأوراق النقديّة بضرورات المحاسبة الاقتصاديّة، بحيث إنّه لا يجرؤ على طباعة و عرض ورقة نقديّة بقيمة خمسة تومانات أكثر أو أقلّ من المطلوب، و في حالة ثبوت هذا الأمر فإنّه سيحاكم على مخالفته هذه عند الحاكم و القاضي المسؤول. و للصكوك و الكمبيالات أيضاً نفس هذا الأمر الاعتباريّ].
[17] ـ يمكن تصوير دخالة الزمان والمكان في استنباط الحكم بنحوين: الأوّل: أن يكونا علّةً فاعليّةً لنفس جعل الحكم، وهنا كلّما تغيّر الزمان أو المكان سوف يتغيّر أصل الحكم المجعول، وهذا التصوير يستلزم عددًا من اللوازم الباطلة التي بيّنها سماحة الكاتب المحترم بنحوٍ مختصرٍ. وأمّا التصوير الآخر لهذه الدخالة، وهو الذي سيتعرّض له بعد قليل: بأن يكون الزمان والمكان عبارة عن عللٍ صوريّة أو علل معدّة فقط لتحقّق موضوعات الحكم، فهذا التصوير لا يلزم منه تلك اللوازم الباطلة على ما سيوضّحه سماحته في السطور الآتية. (م)
[18] ـ [قال المرحوم العلاّمة الطهراني رضوان الله عليه في كتابه نظرة على مقالة قبط وبسط نظريّة الشريعة ص 14: الإشكال الأوّل: على الرغم من تكرار الكاتب [الدكتور عبد الكريم سروش] في عدّة مواضع أنّ الشريعة كالطبيعة ثابتة لا تتغيّر، و أنّ ما يخضع للتغيير هو فهم الإنسان لهما، و أنّ تغيير الفهم الحاصل وفق ضرورات البيئة و نشوء العلوم و التفاعل سلباً و إيجاباً بين المعلومات السابقة و الظواهر الفعليّة، هو أمر حتميّ لا يمكن اجتنابه؛ لكنّه مع ذلك يستنتج في مقام التفصيل و البيان أنّ مجموعة معارف الإنسان في أيّ عصر، من فهم العلوم الحديثة و الاكتشافات المبتكرة و الفلسفات العصريّة، ينبغي أن تكون ميزان و معيار فهم الإنسان للقرآن و السنّة، و أنّ ما فهمه و استنبطه الفقهاء و المفسّرون و المحدِّثون فصار عماد عملهم يجب تحديثه وفق الأسلوب المعاصر، ليخرج بأسلوب يقرّه العصر، مواكب للمدارس و الاتّجاهات العصريّة التي تعرض نتائج علومها و تحقيقاتها. و حاصل الأمر فإنّ على العالم و المفسّر و الفقيه أن لا يتّكل على أمر تعبّديّ أبداً، فيراعي في علمه و تفسيره و فتواه احتمال المراحل العالية و المنازل السامية التي لم ينلها، أو يضع القرآن و السنّة و الإسلام على محور الأمور التعبّديّة؛ فما اعتمد عليه العلم العصريّ ينبغي أن يصبح هو المرتكز لهذا الامور، فذاك هو الاسلوب الوحيد الكفيل بتقدّم الفقه و العلم. و بناء على هذا المنحى فلن يكون لدينا ثمّة قرآن و لا سنّة، و لا فقه و لا تفسير، فإذا تقرّر إقحام العلوم البشريّة المتغيّرة في الغايات (من العقائد و الأفكار و الأخلاق و العمل) فسنكون قد سلبنا إلى الأبد من الدين و الشريعة ثباتهما، و مهما زعمنا بأنّنا نعتبر الدين و الشريعة محترمة و ثابتة، ولكن ـ حيث وضعنا مفتاحها بأيدينا، وأردنا عند ظهور أيّ قانون و نظريّة أن نفسّرها مقحمين مستلزمات العصر في ثبات الدين وأصالته ـ سنكون في الحقيقة قد دققنا المسمار ليس في نعش الإسلام وحده، بل في نعوش جميع الشرائع.]
[19] ـ أي: التحوّل والتكامل في الشريعة والمعرفة الدينيّة. (م)
[20] ـ سورة الروم (30) ، مقطع من الآية 30.
[21] ـ [ملاحظة: تمثّل هذه المقالة مقطعًا من كتاب رسالة طهارة الإنسان لسماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ حفظه الله، وقد أضيفت بعض الهوامش من كتب أخرى للمؤلّف ككتاب نوروز در جاهليّت واسلام ولوالده المرحوم العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهراني رضوان الله عليه ككتاب معرفة الإمام و نظرة على مقالة بسط وقبض نظرية الشريعة. وتمّت مطابقة الكتب المترجمة مع متونها الفارسية من قبل الهيئة العلميّة في موقع المتّقين.]
|