____________________________________________________
معنى الفطرة وفطرية الدين
_______________________________________________________________
معنى الفطرة والدين
لدينا في القرآن الكريم آية صريحة وواضحة تكشف عن أنّ الإنسان قد خُلق على أساس الفطرة، وتَعُدّ الدين الإسلاميّ المبين ديناً قائماً على أساس الفطرة: فَأقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ولَكِنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ واتَّقُوهُ وأقِيمُوا الصَّلَوةَ ولَا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ. [1] قال العلّامة الطباطبائي في تفسير هذه الآيات: الفطرة بناء نوع من الفَطر بمعنى الإيجاد والإبداع. وفِطْرَتَ اللهِ منصوب على الإغراء، أي الْزَمِ الفطرة، ففيه إشارة إلى أنّ هذا الدين الذي يجب إقامة الوجه له هو الذي تهتف به الخلقة وتهدي إليه الفطرة الإلهيّة التي لا تبديل لها. و ذلك أنّه ليس الدين إلّا سنّة الحياة والسبيل التي يجب على الإنسان أن يسلكها حتى يسعد في حياته، فلا غاية للإنسان يتبعها إلّا السعادة، وقد هدى كلّ نوع من أنواع الخليقة إلى السعادة التي هي بغية حياته بفطرته ونوع خلقته، وجهّز في وجوده بما يناسب غايته من التجهيز. قال تعالى: رَبُّنَا الَّذِي أعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى. [2] و قال: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، والَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى.[3] فالإنسان كسائر الأنواع المخلوقة مفطور بفطرة تهديه إلى تتميم نواقصه ورفع حوائجه، وتهتف له بما ينفعه وما يضرّه في حياته، قال تعالى: ونَفْسٍ ومَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاهَا. [4] و هو مع ذلك مجهّز بما يتمّ له به ما يجب له أن يقصده من العمل، قال تعالى: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ. [5] فللإنسان فطرة خاصّة تهديه إلى سنّة خاصّة في الحياة، وسبيل معيّنة ذات غاية مشخّصة، ليس له إلّا أن يسلكها خاصّة، وهو قوله: فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا. و ليس الإنسان العائش في هذه النشأة إلّا نوعاً واحداً لا يختلف ما ينفعه وما يضرّه بالنظر إلى هذه البُنية المؤلّفة من روح وبدن، فما للإنسان من جهة أنّه إنسان إلّا سعادة واحدة وشقاء واحد، فمن الضروريّ حينئذٍ أن يكون تجاه عمله سنّة واحدة ثابتة يهديه إليها هادٍ واحد ثابت، وليكن ذاك الهادي هو الفطرة ونوع الخلقة، ولذلك عقّب قوله: فِطْرَتَ اللهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا بقوله: لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ. فلو اختلفت سعادة الإنسان باختلاف أفراده، لم ينعقد مجتمع واحد صالح يضمن سعادة الأفراد المجتمعين. و لو اختلفت السعادة باختلاف الأقطار التي تعيش فيها الأمم المختلفة، بمعنى أن يكون الأساس الواحد للسنّة الاجتماعيّة أعني الدين هو ما يقتضيه حكم المنطقة، كان الإنسان أنواعاً مختلفة باختلاف الأقطار. و لو اختلفت السعادة باختلاف الأزمنة، بمعنى أن تكون الأعصار والقرون هي الأساس الوحيد للسنّة الدينيّة، اختلفت نوعيّة كلّ قرن وجيل مع من ورثوا من آبائهم أو أخلفوا من أبنائهم، ولم يسر الاجتماع الإنسانيّ سير التكامل، ولم تكن الإنسانيّة متوجّهة من النقص إلى الكمال، إذ لايتحقّق النقص والكمال إلّا مع أمر مشترك ثابت محفوظ بينهما. و ليس المراد بهذا إنكار أن يكون لاختلاف الأفراد أو الأمكنة أو الأزمنة بعض التأثير في انتظام السنّة الدينيّة في الجملة، بل إثبات أنّ الأساس للسنّة الدينيّة هو البنية الإنسانيّة التي هي حقيقة واحدة ثابتة مشتركة بين الأفراد، فللإنسانيّة سنّة واحدة ثابتة بثبات أساسها الذي هو الإنسان، وهي التي تدير رحى الإنسانيّة مع ما يلحق بها من السنن الجزئيّة المختلفة باختلاف الأفراد أو الأمكنة أو الأزمنة. و هذا هو الذي يشير إلى قوله بعد: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. و سنزيد المقام إيضاحاً في بحث مستقلّ إن شاء الله تعالى.[6]
تفسير العلامة الطباطبائى لمعنى كون الدين فطريًّا في فصول
ثمّ يقول في فصل مستقلّ تحت عنوان: كَلَامٌ في معنى كَوْنِ الدِّينِ فِطْرِيَّاً في فُصُولٍ:
الفصل الأول: امتلاك كلّ نوع من الموجودات طريقًا تكوينيًّا يسير عليه في تكامله (الهداية العامّة)
إذا تأمّلنا هذه الأنواع الموجودة التي تتكوّن وتتكامل تدريجاً، سواء كانت ذوات حياة وشعور كأنواع الحيوان، أم ذات حياة فقط كأنواع النبات، أو ميِّتة غير ذي حياة كسائر الأنواع الطبيعيّة على ما يظهر لنا، وجدنا كلّ نوع منها يسير في وجوده سيراً تكوينياً معيناً ذا مراحل مختلفة بعضها قبل بعض، وبعضها بعد بعض، يرد النوع في كلّ منها بعد المرور بالبعض الذي قبله وقبل الوصول إلى ما بعده، ولا يزال يستكمل بطيّ هذه المنازل حتى ينتهي إلى آخرها وهو نهاية كماله. نجد هذه المراتب المطويّة بحركة النوع يلازم كلّ منها مقامه الخاصّ به لايستقدم ولا يستأخر من لدن حركة النوع في وجوده إلى أن تنتهي إلى كماله، فبينها رابطة تكوينيّة يربط بها بعض المراتب ببعض بحيث لا يتجافى ولا ينتقل إلى غير مكانه، ومن هنا يستنتج أنّ للنوع غاية تكوينيّة يتوجّه إليها من أوّل وجوده حتى يبلغها. فالجوزة الواحدة مثلًا إذا استقرّت في الأرض استقراراً يهيّؤها للنموّ على اجتماع ممّا يتوقّف عليه النموّ من العلل والشرائط، كالرطوبة والحرارة وغيرهما، أخذ لبُّها في النموّ وشقّ القشر وشرع في ازدياد من أقطار جسمه، ولم يزل يزيد وينمو حتى يصل إلى حدّ يعود فيه شجرة قويّة خضراء مثمرة. ولا يختلف حاله في مسيره هذا التكوينيّ، وهو في أوّل وجوده قاصداً قصداً تكوينيّاً إلى غايته التكوينيّة التي هي مرتبة الشجرة الكاملة المثمرة. و كذا الواحد من نوع الحيوان، كالواحدة من الضأن مثلًا، لا نشكّ في أنّها في أوّل تكوّنها جنيناً متوجّهة إلى غايتها النوعيّة التي هي مرتبة الضأنة الكاملة التي لها خواصّها، فلا تضلّ عن سبيلها التكوينيّة الخاصّة بها إلى سبيل غيرها، ولا تنسى غايتها يوماً فتسير إلى غاية غيرها كغاية الفيلة مثلًا أو غاية شجرة الجوز مثلًا، فكلّ نوع من الأنواع التكوينيّة له مسير خاصّ في استكمال الوجود ذو مراتب خاصّة مترتّبة بعضها على بعض تنتهي إلى مرتبة هي غاية النوع ذاتاً، يطلبها طلباً تكوينيّاً بحركته التكوينيّة، والنوع في وجوده مجهّز بما هو وسيلة حركته وبلوغه إلى غايته. و هذا التوجّه التكوينيّ لاستناده إلى الله يسمّى هداية عامّة إلهيّة، وهي كما عرفت لا تضلّ ولا تخطئ في تسيير كلّ نوع مسيره التكوينيّ وسوقه إلى غايته الوجوديّة بالاستكمال التدريجيّ، وبإعمال قوّته وأدواته التي جهّز بها لتسهيل مسيره إلى غايته. قال تعالى: رَبُّنَا الَّذِي أعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [7]. و قال: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، والَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى، والَّذِي أخْرَجَ الْمَرْعَى، فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحْوَى. [8]
الفصل الثاني: شمول الهداية التكوينيّة العامّة للإنسان وحاجته إلى المجتمع في تحقيقها وإلى النظام في سعادته
نوع الإنسان غير مستثنى من كلّيّة الحكم المذكور، أعني شمول الهداية العامّة له، فنحن نعلم أنّ النطفة الإنسانيّة من حين تشرع في التكوّن متوجّهة إلى مرتبة إنسان تامّ كامل له آثاره وخواصّه، قد قطع في مسيره مراحل الجنينيّة والطفوليّة والمراهقة والشباب والكهولة والشيب. غير أنّ الإنسان يفارق سائر الأنواع الحيوانيّة والنباتيّة وغيرها فيما نعلم في أمر، وهو أنّه لِسعة حاجته التكوينيّة وكثرة نواقصه الوجوديّة لايقدر على تتميم نواقصه الوجوديّة ورفع حوائجه الحيويّة وحده، بمعنى أنّ الواحد من الإنسان لا تتمّ له حياته الإنسانيّة وهو وحده، بل يحتاج إلى اجتماع منزليّ، ثمّ اجتماع مدنيّ يجتمع فيه مع غيره بالازدواج والتعاون والتعاضد، فيسعى الكلّ بجميع قواهم التي جهّزوا بها للكلّ، ثمّ يقسّم الحاصل من عملهم بين الكلّ فيذهب كلّ بنصيبه على قدر زنته الاجتماعيّة. و هذه المدنيّة ليست بطبيعيّة للإنسان، بمعنى أن ينبعث إليها من ناحية طبيعته الإنسانيّة ابتداءً، بل له طبيعة مستخدمة لغيره لنفع نفسه ما وجد إليه سبيلًا. فهو يستخدم الأمور الطبيعيّة ثمّ أقسام النبات والحيوان في سبيل مقاصده الحيويّة، فهو باستخدام فرد مثله أو أفراد أمثاله أجراً، لكنّه يجد سائر الأفراد أمثاله في الأميال والمقاصد وفي الجهازات والقوى، فيضطرّ إلى المسالمة وأن يسلّم لهم حقوقاً مثل ما يراه لنفسه. وينتهي هذا التضارب بين المنافع أن يشارك البعض البعض في العمل التعاونيّ، ثمّ يقسم الحاصل من الأعمال بين الجميع ويعطى منه لكلّ ما يستحقّه. و كيف كان، فالمجتمع الإنسانيّ لا يتمّ انعقاده ولا يعمّر إلّا بأُصول علميّة وقوانين اجتماعيّة يحترمها الكلّ، وحافظ يحفظها من الضيعة، ويجريها في المجتمع، وعند ذلك تطيب لهم العيشة وتشرف عليهم السعادة. أمّا الاصول العلميّة، فهي معرفته إجمالًا بما عليه نشأة الوجود من الحقيقة، وما عليه الإنسان من حيث البداية والنهاية، فإنّ المذاهب المختلفة مؤثّرة في خصوص السنن المعمول بها في المجتمعات، فالمعتقدون في الإنسان أنّه مادّيّ ليس له من الحياة إلّا الحياة المعجلّة المؤجّلة بالموت، وأن ليس في دار الوجود إلّا السبب المادّيّ الكائن الفاسد، ينظّمون سنن اجتماعهم بحيث تؤدّيهم إلى اللذائذ المحسوسة والكمالات المادّيّة، ما وراءها شيء. و المعتقدون بصانع وراء المادّة كالوثنيّة يبنون سننهم وقوانينهم على إرضاء الآلهة ليسعدوهم في حياتهم الدنيويّة. و المعتقدون بالمبدأ والمعاد يبنون حياتهم على أساس يسعدهم في الحياة الدينويّة ثمّ في الحياة المؤبّدة التي بعد الموت، فصور الحياة الاجتماعيّة تختلف باختلاف الأصول الاعتقاديّة في حقيقة العالم والإنسان الذي هو جزء من أجزائه. و أمّا القوانين والسنن الاجتماعيّة، فلولا وجود قوانين وسنن مشتركة يحترمها المجتمعون جميعهم أو أكثرهم ويتسلّمونها، تفرّق الجمع وانحلّ المجتمع. و هذه السنن والقوانين قضايا كلّيّة عمليّة صورها: يجب أن يفعل كذا عند كذا أو يحرم أو يجوز، وهي أيًّا ما كانت، معتبرة في العمل لغايات مُصلحة للاجتماع والمجتمع تترتّب عليها، تسمّى مصالح الأعمال ومفاسدها.
الفصل الثالث: شروط النظام المؤدّي إلى السعادة
قد عرفت أنّ الإنسان إنّما ينال ما قدّر له من كمال وسعادة بعقد مجتمع صالح تحكم فيه سنن وقوانين صالحة تضمن بلوغه ونيله سعادته التي تليق به، وهذه السعادة أمر أو أُمور كماليّة تكوينيّة تلحق الإنسان الناقص الذي هو أيضاً موجود تكوينيّ، فتجعله إنساناً كاملًا في نوعه تامّاً في وجوده. فهذه السنن والقوانين وهي قضايا عمليّة واعتباريّة واقعة بين نقص الإنسان وكماله، متوسطة كالعبرة[9] بين المنزلتين، وهي كما عرفت تابعة للمصالح التي هي كمال أو كمالات إنسانيّة، وهذه الكمالات أُمور حقيقيّة مسانخة ملائمة للنواقص التي هي مصاديق حوائج الإنسان الحقيقيّة. فحوائج الإنسان الحقيقيّة هي التي وضعت هذه القضايا العمليّة واعتبرت هذه النواميس الاعتباريّة، والمراد بالحوائج هي ما تطلبه النفس الإنسانيّة بأميالها وعزائمها، ويصدّقه العقل الذي هو القوّة الوحيدة التي تميّز بين الخير والنافع وبين الشرّ والضارّ، دون ما تطلبه الأهواء النفسانيّة ممّا لا يصدّقه العقل، فإنه كمال حيوانيّ غير إنسانيّ. فأُصول هذه السنن والقوانين يجب أن تكون الحوائج الحقيقيّة التي هي بحسب الواقع حوائج لا بحسب تشخيص الأهواء النفسانيّة. وقد عرفت أنّ الصنع والإيجاد قد جهّز كلّ نوع من الأنواع ومنها الإنسان من القوى والأدوات بما يرتفع بفعّاليّته حوائجه ويسلك به سبيل الكمال، ومنه يستنتج أنّ للجهازات التكوينيّة التي جهّز بها الإنسان اقتضاءات للقضايا العمليّة المسمّاة بالسنن والقوانين، التي بالعمل بها يستقرّ الإنسان في مقرّ كماله مثل السنن والقوانين الراجعة إلى التغذّي المعتبرة بما أنّ الإنسان مجهّز بجهاز التغذّي، والراجعة إلى النكاح بما أنّ الإنسان مجهّز بجهاز التوالد والتناسل.
ضرورة الدين لتحقيق السعادة المطابقة للتكوين وظهور معنى فطريّة الدين
فتبيّن أنّ من الواجب أن يتّخذ الدين، أي الأصول العلميّة والسنن والقوانين العمليّة التي تضمن باتخاذها والعمل بها سعادة الإنسان الحقيقيّة من اقتضاءات الخلقة الإنسانيّة وينطبق التشريع على الفطرة والتكوين، وهذا هو المراد بكون الدين فطريّاً، وهو قوله تعالى: فَأقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.
الفصل الرابع: أوجه تسميات الدين بالأسماء المختلفة
قد عرفت معنى كون الدين فطريّاً، فالإسلام يسمّى دين الفطرة لما أنّ الفطرة الإنسانيّة تقتضيه وتهدي إليه. و يسمى إسلاماً، لِمَا أنّ فيه تسليم العبد لإرادة الله سبحانه منه، ومصداقَ الإرادة، وهي صفة الفعل لا صفة الذات، تجمع العلل المؤلّفة من خصوص خلقة الإنسان وما يحتفّ به من مقتضيات الكون العامّ على اقتضاء الفعل أو الترك[10]؛ قال تعالى: إنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإسْلَامُ.[11] و يسمّى دين الله، لأنّه الذي يريده الله من عباده من فعل أو ترك، بما مرّ من معنى الإرادة . و يسمّى سبيل الله؛ لما أنّه السبيل التي أرادها الله أن يسلكها الإنسان لتنتهيَ به إلى كماله وسعادته؛ قال تعالى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبيلِ اللهِ ويَبْغُونَهَا عِوَجًا.[12] و أمّا أنّ الدين الحقّ يجب أن يؤخذ من طريق الوحي والنبوّة ولا يكفي فيه العقل، فقد تقدّم بيانه في مباحث النبوّة وغيرها من مباحث الكتاب.[13]
خلاصة واستنتاج حول معنى الفطرة وفطريّة الدين
ويتّضح جيّداً وبشكل مفصّل ممّا أوردناه من تفسير «الميزان» أنّ مراد العلّامة قدّس الله سرّه من فطرة الإنسان هو البنية الوجوديّة بما يشمل الجسم والروح، وذلك الطريق والمسير الذي يوصله إلى غاية الخلقة وهدفها من الكمال المنشود والسعادة المطلقة. و المراد بدين الفطرة تلك القواعد والأحكام المؤثّرة في سير الإنسان باتّجاه سعادته وكماله، وهذه القواعد والقوانين والسنن بالرغم من أنّها أصبحت معتبرة باعتبار الشارع المقدّس، لكنّها كانت قائمة على أساس منطق العقل و وصول الإنسان إلى درجة الإنسانيّة، لا على أساس منطق الحسّ والشهوة الذي يهبط به إلى مرتبة الحيوانيّة والبهيميّة. إنّ السعادة للإنسان أمر حقيقيّ، وهذه السنن الفطريّة التي هي أُمور اعتباريّة، توجب حركته وسيره إلى مقام الكمال الحقيقيّ، فإذا ما انحرفت تلك السنن أحياناً في اعتبارها، فإنّ تلك السعادة الحقيقيّة والكمال المنشود لن يكونا من نصيبه. ومع أنّ أحكام الشرع وقوانينه التي وضعت على أساس الفطرة هي أحكام اعتباريّة[14] وضعها منوط باعتبار الشارع، لكنّه اعتبار لا يتخطّى قيد شعرة مكانه الواقعيّ والحقّيقيّ، وقد استمدّ اعتباره هذا على أساس الاحتياجات التكوينيّة للإنسان وإيصاله إلى أعلى درجات الكمال الحقّيقيّ والوجوديّ، فلا معنى على هذا لأن يكون أمرٌ ما حلالًا في شريعة معيّنة وحراماً في أخرى.[15]
ملاحظة: تمّ انتخاب هذا البحث من كتاب: نظرة على مقالة بسط وقبض نظرية الشريعة لسماحة آية الله العلامة السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهراني رضوان الله عليه، والذي اعتمد فيه على تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي رضوان الله عليه، وقد قامت الهيئة العلميّة بمراجعة النصوص المترجمة ومقابلتها مع أصلها عند الضرورة، وجعلت الإضافات البيانيّة والتحقيقيّة بين معكوفتين.
[1] ـ الآيات 30 إلي 32، من السورة 30: الروم.
[2] ـ الآية 50، من السورة 20: طه، وهي حكاية الله عن جواب موسي وهارون علي سؤال فرعون: «فمن ربّكما يا موسى»؟
[3] ـ الآيتان 2 و3، من السورة 87: الأعلى.
[4] ـ الآيتان 7 و8، من السورة 91: الشمس.
[5] ـ الآية 20، من السورة 80: عبس.
[6] ـ «الميزان في تفسير القرآن» ج 16، ص 186 إلي 188.
[7] ـ الآية 50، من السورة 20: طه.
[8] ـ الآيات 2 إلي 5، من السورة 87: الأعلى.
[10] ـ [يريد أنّ الدين يسمّى إسلامًا لسببين: الأول كونه تسليمًا للإرادة الإلهيّة، والثاني: كونه عين الإرادة الإلهيّة ومصداقًا لها وفعلًا من أفعالها، وهذا الفعل يلاحظ واقع الإنسان وما ينبغي أن يكون عليه فيأمر بالفعل تارة لبعض الأعمال هي الواجبات وبالترك تارة أخرى لأعمال أخرى هي المحرّمات].
[11] ـ الآية 19، من السورة 3: آل عمران.
[12] ـ الآية 45، من السورة 7: الأعراف.
[13] ـ «الميزان في تفسير القرآن» ج 16، ص 198، إلي 203.
[14] ـ [راجع البحث الخاصّ بهذا الموضوع تحت عنوان: الحقائق والاعتباريّات]
[15] ـ [نظرة على مقالة بسط وقبض نظرية الشريعة، ص: 246ـ 255].
|