____________________________________________________
هو العليم
معنى الاعتباريات والحقائق والعلاقة بينهما
_______________________________________________________________
معنى الاعتباريات والحقائق والعلاقة بينهما
تعريف الحقائق والاعتباريّات
الحقّائق عبارة عن الواقعيّات الموجودة في الخارج، بما فيها المادّيّات والطبيعيّات و الموجودات الملكوتية المجرّدة، بما فيها من العلوم و المعارف الذهنيّة التي لم تتحقّق على أساس فرض فارض و اعتبار معتبر. أمّا الاعتباريّات فعبارة عن الأشياء التي محلها و موقعها الذهن فقط، و المتحقّقة على أساس فرض فارض، بحيث تدور وجوداً و عدماً مدار الفرض و الاعتبار، فهي تكتسب تحقّقها الاعتباريّ بمجرّد الاعتبار، و ينتفي عنها أي تحقّق بمجرّد رفع اليد عن الاعتبار أو نقضه. و بطبيعة الحال فإنّ لدينا قسماً ثالثاً غير هذين القسمين و هو الانتزاعيّات، و هذه ليست من الحقّائق و لا من الاعتباريّات، بل تنشأ بواسطة انتزاع الذهن من الحقّائق الخارجيّة، فلا تحقّق لها في الخارج أبداً، و كلّ ما هناك أنّ محلها و مورد انتزاعها في الخارج، كما في الفوقيّة و التحتيّة. فعنوان الفوقيّة ـ كفوقيّة سطح البيت مثلًا نسبةً إلى ساحته ـ ليست شيئاً غير ذات السطح، فنحن لا نجد شيئاً غير نفس السطح، و غير سقف الغرفة الذي يعلوها باسم فوق، فما هناك هو نفس السطح، لكنّ ذهننا ينتزع من النسبة الخارجيّة بين سقف الغرفة و أرضيّتها عنواناً ندعوه ب فوق. و هذا العنوان محلّه الذهن لا الخارج، ومبدأ انتزاعه في الخارج، و هو ليس أمراً اعتباريّاً، لأنّ فوقيّة السقف نسبة إلى الأرض غير قائمة باعتبار الشخص المعتبر، فالسقف يعلو سطح الغرفة شئنا أم أبينا. و نغضّ الطرف عن شرح و تفصيل الامور الانتزاعيّة باعتبارها لا ترتبط فعلًا بموضوع بحثنا الحاليّ، و نقصر الكلام على الحقّائق و الاعتباريّات. إنّ الاعتباريّات باعتبارها من صنع الذهن و صياغته، فلا بدّ لحصولها من وساطة قوى الإدراك، سواء القوى الوهميّة و الخياليّة و الفكريّة، و بعبارة أوجز: العقل النظريّ، أم النفس الناطقة و النور المجرّد للروح الإنسانيّة التي نعبر عنها بالعقل البسيط و الملكوت الأعلى و الناطقة القدسيّة و الكلمة الإلهيّة.
العلاقة بين الاعتباريّات والحقائق
و مع أنّ قيام الاعتباريّات و قوامها في الذهن، و أنّ قيامها باعتبار المعتبر، إلّا أنّها في نهاية المتانة والإتقان، و كثيراً ما تكون بنفسها منشأ و مبدأ لحقائق كثيرة في الخارج.
بيان نشوء بعض الحقائق عن الاعتباريات ونشوء الاعتباريات عن الحقائق بمثالين
مثال الأوراق النقديّة فطباعة أوراق العملة النقديّة مثلًا و جعل القيم المختلفة لها أمر اعتباريّ يرتبط بقرار خزانة الدولة و رئيس الأمور الماليّة، حيث يصدران الأمر بطباعة الأوراق النقديّة و عرضها بقيم مختلفة. فتكون هذه الأوراق النقديّة معتبرة ما دام إمضاء المسؤول و الشخص المعتبر و إقراره لها باقياً، لكنّها تسقط عن الاعتبار بمجرّد سحب الرئيس المسؤول و مسؤول الخزانة إمضائهما أو إصدارهما قراراً بإلغائها، فتصبح أكداس الأوراق النقديّة الثمينة حينذاك بلا قيمة، و يؤول مصيرها إلى الإحراق في المدفأة أو ما إلى ذلك من الاستعمالات. و لا يخضع اعتبار الرئيس المسؤول لها، و طبعها، و مقدار المطبوع منها، و تعيين قيمتها، و مدّة اعتبارها، و طرحها للتداول داخل الدولة أو في الداخل و الخارج، للفوضى أو المزاجيّة؛ إذ لا بّد من حساب دقيق لتقدير ثروة المملكة من الذهب و الفضّة الموجودة في الخزينة أو ضمن أموال الدولة، و قيم المعادن المستخرجة، أو محصول اللؤلؤ المستخرج من البحر، و الأراضي الزراعيّة والبساتين، أو العمل و الجهود اليدويّة للعمال و الفلاحين، و كلّ ما يصدق عليه عنوان المال ويمكن حسابه في هيئة العملة الصعبة، و بعد الحساب الدقيق لقيمة العملة الصعبة و أسعار البضائع والذهب و الفضّة الخارجيّة و ملاحظة العوامل المهمّة الأخرى، كميزان الثروة و النقد عند الشعب، يقومون بتبديل ذلك المال في المعاملة إلى أوراق رسميّة معتبرة و يدعونها بأوراق العملة الماليّة، تسهيلًا للحمل و النقل، و حفظاً للذهب و الفضّة، و لجهات أخرى غيرها. و هذا الحساب من الدقّة و الصحّة بالقدر الذي يحدّد الشخص المعتبِر و المعيِّن لقيم و أسعار الأوراق النقديّة بضرورات المحاسبة الاقتصاديّة، بحيث إنّه لا يجرؤ على طباعة و عرض ورقة نقديّة بقيمة خمسة تومانات أكثر أو أقلّ من المطلوب، و في حالة ثبوت هذا الأمر فإنّه سيحاكم على مخالفته هذه عند الحاكم و القاضي المسؤول. و للصكوك و الكمبيالات أيضاً نفس هذا الأمر الاعتباريّ. مثال الطوابع البريديّة و الطوابع البريديّة لها أيضاً نفس الشأن، فدائرة البريد تعمد لتسهيل استلام النقود من الناس مقابل التزامها بإيصال رسائلهم و أماناتهم إلى مقاصدها إلى طباعة طوابع تُلصق على الشيء المرسَل بما يتناسب مع وزنه و بُعد مقصده و كونه من المطبوعات أو غيرها، فتقبل هذه الطوابع بمثابة إيصالات نقديّة. ثمّ تقوم هذه الدائرة لتغطية ميزانيّتها الكلّيّة و رواتب موظّفيها و عمّالها و أُجور وسائل الحمل والنقل على اختلافها من الطائرة و السفينة و السيّارة و الدرّاجة الناريّة و الدرّاجة الهوائيّة، و في بعض القرى من البغال و الحيوانات المستعملة للنقل بحساب هذه الأمور و تقسم مجموعها على جملة المحمولات، فتصدر طوابع بريديّة للنقل داخل المدينة بقيمة ريال واحد مثلًا، و للنقل إلى المدن الأخرى بقيمة خمسة ريالات و إلى خارج الدولة بأكثر من ذلك، و تقوم بتعيين و اعتبار وتثبيت هذه الأسعار و تطبع الطوابع تبعاً لذلك و تبيعها. و حين تستلم دائرة البريد الطرود [1] و تقوم بنقلها حسب تعهّدها و التزامها، فإنّها تختم عليها بختم البطلان، أي أنّها تُسقط تلك الطوابع من درجة الاعتبار و تُلغي اعتبارها منها، لأنّ التزام دائرة البريد و تعهّدها كان فقط إيصال تلك الطرود إلى مقاصدها، فتفقد تلك الطوابع البريديّة حينذاك قيمتها، فتستخدم لمعرفة تأريخ و اسم و صفات السلاطين المتوفّين؛ و تُجمع في دفاتر و مجاميع تثير الاعتبار و الاتّعاظ، أو تُلقى مع المهملات في صندوق النفايات. لقد كان الاعتبار و مدّة الاعتبار و زمانه و كيفيّته و قيمته محدودة و مشروطة، و حين يختم على الأمور المعتبرة بختم البطلان، فإنّها ستبطل جميعاً و تنهار دفعة واحدة، و ليس في هذا الأمر استبداد و لا إعمال للرأي الشخصيّ لرئيس دائرة البريد في هذه الاعتبارات، لا بلحاظ القيمة و لا بلحاظ مدّة الاعتبار، فهم يمتلكون حقّ طبع و بيع و تعيين قيم هذه الطوابع ضمن دائرة محدّدة مرتبطة بمصالح الدولة و نفقات دائرة البريد، و مع أ نّ جميع أعمالهم هذه اعتبار محض، إلّا أنّه ليس اعتباراً جزافيّاً، لأنّهم بحكم عقلهم و درايتهم و حسن إدارتهم و صدقهم و أمانتهم لا يملكون أن يطبعوا يوماً ما و لمرّة واحدة طابعاً واحداً بقيمة ريال واحد وأن يقوموا باعتباره من غير داعٍ و سبب، وهم كذلك غير قادرين حتى في مورد واحد أن يقوموا بإبطال طابع واحد بقيمة ريال واحد و إسقاطه من الاعتبار و الختم عليه بالبطلان من غير داعٍ و سبب. و لقد عمل آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه في المقالة السادسة من «أُصول فلسفه» التي بحث فيها في ثلاثين مسألة بشأن الاعتباريّات، على تشخيص محلّ و موضع الحقّائق التي هي أُمور واقعيّة و حقيقيّة، و عيّن كذلك محلّ و موطن الاعتباريّات تبعاً لجعل الشخص المعتبر في الذهن، و أوضح كالشمس أمر عدم ولادة العلوم الاعتباريّة من العلوم الحقيقيّة، و فصل جميع موارد «الوجوبات» عن «الوجودات»؛ لكنّه بيّن أ نّ هناك رابطة و علاقة بين الاعتباريّات و الحقّائق في موردَين: المورد الأوّل: قيام المعاني الوهميّة بالمعاني الحقيقيّة؛ و كانت عبارته: إنّ كلًّا من هذه المعاني الوهميّة قائمة على حقيقة معيّنة، أي أنّنا حين نضع أيّ حدّ وهميّ لمصداق ما، فإنّ له مصداقاً حقيقيّاً آخر ينشأ منه، فلو اعتبرنا مثلًا إنساناً ما كالأسد، فإنّ هناك أسداً حقيقيّاً أيضاً يرجع إليه حدّ ذلك الأسد.[2] و هذه المقولة متينة جدّاً، لأنّ هذا الأمر الاعتباريّ القائم بالقوى الوهميّة و الخياليّة إن استند إلى أمر حقيقيّ فإنّ ذلك سيثبت مطلوبنا و مرادنا، أمّا إن استند إلى أمر وهميّ و خيالي آخر فإنّه يستلزم الدور و التسلسل، و سيفتقد معناه بغير ذلك القيام، لأنّ الصور المنطبعة في النفس هي إمّا من الخارج أو من الذهن، و الأخيرة أيضاً تحقّقت سابقاً بانعكاس صورة خارجيّة. و من هنا تصحّ قاعدة: كُلُّ مَا بِالعَرَضِ لَا بُدَّ وَ أنْ يَنْتَهِي إِلَى مَا بِالذَّاتِ. و قاعدة: لِكُلِّ مَجَازٍ حَقِيقَةٌ. ذلك لأنّ فرض موجود عرضيّ قائم بذاتٍ، بدون فرض ذاتٍ محال، و فرض استعمال المجاز و هو الخروج من دائرة الاستعمال الحقيقيّ، بدون فرض وجود الحقيقة محال أيضاً....[3]
بيان كيفيّة نشوء الاعتباريات عن الحقائق وضرورة دخالة العقل
المورد الثاني: تأثير الحقّائق الخارجيّة في إيجاد المعاني الاعتباريّة الذهنيّة، و هذه المسألة أيضاً قد أثبت العلّامة تحقّقها بوضوح. ومع أنّ الحقّائق الخارجيّة التي يعبّر عنها بالمسائل العلميّة و التي تتّخذ لنفسها عنوان "الوجود"، هي غير المسائل الاعتباريّة التي يعبّر عنها بعنوان "الوجوب"، وأنّ المسائل العلميّة و الحقّائق الخارجيّة لا تقع بأيّ وجه من الوجوه في طريق ولادة المسائل الاعتباريّة، فلا يمكن بألف مسألة علميّة استخراج أمر اعتباريّ واحد بصورة البرهان، لكنّ مسائل العلم تقع في طريق الاستنتاج و في طريق الحصول على الحكم الاعتباريّ. فبعد اطّلاع الإنسان على المسائل العلميّة فإنّه يجعلها دوماً صغرى البرهان، ثمّ يضع حكماً عقليّاً يرتّبه بنفسه بعنوان كبرى المسألة، فيشكّل منهما برهاناً صحيحاً و يصل إلى النتيجة المطلوبة. فالصغرى مثل: تناول السمّ موجب لزوال الحياة؛ و الكبرى مثل: كلما أوجب زوال الحياة يجب اجتنابه. و نتيجتهما: أنّ تناول السمّ لازم الاجتناب. و قد أشار العلّامة بوضوح أنّ عمل الطبيعة و الفطرة لا يكفي لوحده في استخدامها، بل ينبغي ضمّ الاختيار و الإرادة لذلك، فإن نحن أوكلنا الزمام عند ذلك بيدِ العقل النظريّ و الشعور الإنسانيّ الذي تشاركنا فيه الحيوانات في كثير من الجهات، فإنّ هناك احتمالًا كبيراً في انحراف سعي الإنسان عن طريق الفطرة و نهجها، أمّا إن أعطينا الزمام بيدِ العقل الإنسانيّ مِنْ حَيْثُ هُوَ إنسَانٌ، فإنّنا نضمن تحقّق الحكم الفطريّ و قيام العقل باستخدام هذه الأجهزة للوصول إلى كمال الإنسانيّة، و حينذاك سيوافق حكم العقل لمسائل الفطرة و تجهيزات الخلقة، و هو معنى: فِطْرَتَ اللهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا.[4] و[5]
نتيجة البحث وثبات الدين
إنّ وجود الإنسان يقوم ويتركّب على أسسٍ وقوانين دقيقةٍ ومجموعةٍ من الظواهر المختلفة والأمور المتنوعة سواءً أكان ذلك في حقيقة الإنسان التي تمثّل نفسه الناطقة أم في جسمه وظاهره الذي يمثّل مرتبةً نازلةً من مراتب تلك النفس؛ { لَقَد خَلَقنَا ٱلإِنسَٰنَ فِيٓ أَحسَنِ تَقوِيم} [6]. وهذا التركيب هو الذي يُخرج حقيقة النفس الناطقة من حالة وحيثيّة الاستعداد والقوّة إلى حالة وشأنيّة البلوغ والكمال والفعليّة. وقد عُبّر في لسان الشرع عن تلك المجموعة من الظواهر وذلك التركيب بالفِطرة، قال تعالى: { فَأَقِم وَجهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفا فِطرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيهَا لَا تَبدِيلَ لِخَلقِ ٱللَّهِ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعلَمُونَ } [7]. ولا شكّ أنَّ هذه الأمور ثابتةٌ ولا تتغيّر، وأنّها من اللوازم التي لا تنفك عن الطّبيعة الإنسانيّة والنّفس النّاطقة للآدميّ، بحيث إنّ ثبوت الموضوع مقتضٍ لثبوتها، كما أنّ نفي هذه اللوازم وعدم وجودها، يكشف عن زوال وانعدام تلك النفس الناطقة، وهذا المعنى هو الّذي أُشير إليه في الآية الشّريفة حين قالت: { لَا تَبدِيلَ لِخَلقِ ٱللَّهِ}. والدِّين هو نفس الحركة في ظلّ المعايير والمِلاكات الفِطريّة وعدم إهمالها ولو في موطنٍ واحدٍ من المواطن التي أُودعت في الإنسان، وتعبير الآية الشّريفة: { ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلقَيِّمُ } يحكي عن هذا المعنى. ومِن هنا، لمّا كانت الفطرة الإنسانيّة ثابتةً لا تتغيّر عمّا هي عليه في أصلِ الخِلقة، فإنّ الدِّين هو الآخر ثابتٌ لا يتغيّر؛ لأنّه يمثّل الكيفيّة لجميع أفعال المكلّفين وحركاتهم وتكاليفهم، أي: ينبغي للقواعد الكليّة العامّة للدِّين وكذلك ينبغي للفروع أن تكون موضوعةً من أجل تحقيق الكمال والفعليّة وفق الحاجة الفطريّة للبشر بواسطة تلك المِلاكات الثابتة التي لا تتغيّر. ولذا تصرِّح الآية الشّريفة الواردة في سورة الشّورى قائلةً: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحا وَٱلَّذِيٓ أَوحَينَآ إِلَيكَ وَمَا وَصَّينَا بِٓه إِبرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓ أَن أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى ٱلمُشرِكِينَ مَا تَدعُوهُم إِلَيِه ٱللَّهُ يَجتَبِيٓ إِلَيهِ مَن يَشَآءُ وَيَهدِيٓ إِلَيهِ مَن يُنِيبُ} [8] نعم يُمكن وقوع بعض الاختلافات في بعض فروع الأحكام، ففي سورة المائدة يقول تعالى: { وَأَنزَلنَا إِلَيكَ الكِتَٰبَ بِالحَقِّ مُصَدِّقا لِّمَا بَيَن يَدَيهِ مِنَ ٱلكِتَٰبِ وَمُهَيمِنًا عَلَيهِ فاحكُم بَينَهُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِع أَهوَآءَهُم عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلحَقِّ لِكُلّ جَعَلَنا مِنكُم شِرعَة وَمِنهَاجا وَلَو شَاءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُم أُمَّة وَٰحِدَة وَلَٰكِن لِّيَبلُوَكُم فِي مَآ ءَاتَىٰكُم فَاستَبِقُواْ الخَيرَٰتِ إِلَى ٱللَّهِ مَرجِعُكُم جَمِيعا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُم فِيهِ تَختَلِفُونَ}[9]. وقد عبّر أميرُ المؤمنين عليه السلام عن بعثة الأنبياء وحقيقة التّشريع بهذا النحو من التعبير: «واصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وُلْدِهِ [10] أَنْبِيَاءَ أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ، وعَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ؛ فَجَهِلُوا حَقَّهُ، واتَّخَذُوا الْأَنْدَادَ مَعَهُ، واجْتَالَتْهُمُ[11]الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، واقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ؛ فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ، ووَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، ويُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، ويَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، ويُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُول إلخ».[12] ومِن هنا، فلا يمكن أن يتعارض أو يتناقض وجود وبعثة الحجج الإلهيّين ـ الذين يُعبّر عنهم بالعقل المُنفصِل ـ مع المِلاكات الفطريّة للبشر وأصول تلك المباني. وبعبارةٍ أخرى: إنّ انطباق التشريع مع كيفيّة التكوين، هو أصلٌ أوليٌّ وقاعدةٌ أولى مسلّمةٌ مفروغٌ عنها في تدوين الأحكام. وأمّا ما يُقال مِن أنّه: كما أنّ قضيّة الخلق والتكوين منوطةٌ بمشيئة الله وإرادته، فكذلك مسألة التشريع ـ والتي هي عبارة عن جعلٍ من الجاعل واعتبارٍ من المعتبر لنحو التكليف ـ هي الأخرى خاضعةٌ لإرادة الله عزّ وجلّ واختياره، وله الحقّ في أن يعتبر ما يشاء كيف يشاء، سواءً أوافق التكوين أم خالفه، وليس لأحدٍ أن يسأل. فهو قولٌ عارٍ عن الصحّة، ولا يرقى لمرتبة التحقيق. وأمّا معنى الآية الشريفة: { لَا يُسئَلُ عَمَّا يَفعَلُ وَهُم يُسئلُونَ } [13]، فهو أنّ مسؤوليّة الإجابة على الأفعال هي على عهدة المكلّفين، وليست على عهدة حضرة الحقّ؛ لأنّ مقام المُكلّف في قبال التكليف هو مقام الاختيار والانتخاب، أمّا مقام إرادة حضرة الحقّ عزّ وجلّ ومشيئته وفعله، فلا يقتضي أن يختار سبحانه أحدَ طرفي الوجود والعدم على أساس الأرجحيّة ورعايةِ المصالح والمفاسد النفس الأمريّة، ولا يستلزم انطباق الفعل على أساس تلك المصالح والمفاسد. وإنّما نفس إرادة حضرة الحقّ ومشيئته موجبةٌ ومولّدةٌ ومنشئةٌ للصلاح والرجحان، فالصلاح والفضيلة والخير هي أمورٌ منتزعة ومنبعثة من نفس فعليّة أفعال الحقّ عزّ وجلّ، بعكس أفعال المكلّفين وتصرّفاتهم.[14] بل إنّ المقصود والمراد مِن انحصار مسألة التشريع والجعل واختصاصها بدائرة وحريم إرادة الله عزّ وجلّ، هو أنّه سبحانه وتعالى هو الأصل والمبدأ والفاعل لعالم الوجود؛ ولذا يجب حقًا وحقيقةً أن تكون حيثيّة المولويّة وأن تكون شأنيّة التشريع منحصرتان باختياره ومشيئته عزّ وجلّ وذلك بناءً لمِلاك العقل والانطباق مع نفس الأمر. وهذه المسألة ليس فيها أيُّ مقتضٍ يقتضي مخالفة التشريع مع التكوين وكيفيّته، بل إنّ مقتضى الحكمة البالغة للحقّ عزّ وجلّ، ومقتضى كونه العلّة الغائيّة لخلق المخلوقات هو نفس ذلك البيان النفيس والشريف الوارد في الكتاب المبين: { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَٰمُوسَىٰ * قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيٓ أَعطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ }.[15] أو الآية الشّريفة: { مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذُ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَٰط مُّستَقِيم}.[16] أو الآية الشّريفة: { قُل أَغَيرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّا فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضِ وَهُوَ يُطعِمُ وَلَا يُطعَمُ قُل إِنِّيٓ أُمِرتُ أَن أَكُونَ أَوَّلَ مَن أَسلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلمُشرِكِينَ }. [17] وبالتالي، فليس هناك إمكانيّة لأن تتخلّف الأحكام عمّا تقتضيه الخلقة والتكوين، وقطعًا ينبغي أن تكون نشأةُ جعلِ الأحكام التكليفيّة والوضعيّة وإنشائها ـ مِن ناحية اعتبارها وجعلها ـ منتزعةً من حيثيّة التكوين ونشأة الخلق؛ وذلك لكي يصبح بإمكانها أن تستوجب حصول الفعليّات والبلوغ إلى غايات العالم. ومع ملاحظة هذا الأمر، فإنّ السبيل والطريق الذي يمكن أن يكون موصلًا إلى هذه الغاية، والذي يمكن له أن يكون مقدّمةً لحصول هذا الغرض، هو ذلك الطريق الذي لا يتنافى أو يتعارض مع غاية الفعل وغرضه، وكلّ أمرٍ مرضيٍّ للّه عزّ وجلّ وموافق لاختياره، فهو يكتسب قطعًا حيثيّة المُقدِّمِيّة والقدرة على الإيصال. وأمّا ما يُقال: مِن أنّ الطريق قد يكون موصلًا إلى الواقع ونفس الأمر، ولكنّه مع ذلك غير مرضيٍّ للشارع ولا مجعولٍ من قبله، فهو كلام عارٍ عن التأمُّل والتحقيق. وكذلك لا أساس أيضًا لِما يُقال: من أنّ تنجيز الحكم من قبل الشارع إنّما يحصل بمجرّد اعتبار الشارع وبدون أن يكون له أيّ نوعٍ من التعلّق بالحيثيّة التكوينيّة، وبدون أن يكون منطبقًا وموافقًا لحيثيّة الخلق عند المكلّفين في ظروفهم المختلفة وحين صيرورتهم موضوعاتٍ لأحكام شرعيّة مغايرة.[18] ملاحظة: تمّ انتخاب هذا البحث من كتاب: نظرة على مقالة بسط وقبض نظرية الشريعة لسماحة آية الله العلامة السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهراني رضوان الله عليه، وكتابي طهارة الإنسان وأسرار الملكوت لسماحة الآية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه الله، وقد قامت الهيئة العلميّة بمراجعة النص ومقابلته مع أصله عند الضرورة، وجعلت الإضافات البيانيّة والتحقيقيّة بين معقوفتين.
[1] ـ [الطرد: ما يُرْسَلُ من البضاعة وغيرها في البريد ونحوه من ناحيةٍ إِلى أخرى وهو في الأَصل مصدرٌ ثم أُطْلِقَ عَلَى المَطْرُودِ].
[2] ـ «أُصول فلسفه» ج 2، ص 151.
[3] ـ [نظرة على مقالة بسط و قبض نظرية الشريعة، ص: 302 ـ 309 ]
[4] ـ مقطع من الآية 30 من السورة 30 الروم
[5] ـ [نظرة على مقالة بسط و قبض نظرية الشريعة، ص: 309]
[6] ـ سورة التين (95) ، الآية 4.
[7] ـ سور الروم (30) ، الآية 30.
[8] ـ سورة الشورى (42) ، الآية 13.
[9] ـ سورة المائدة (5) ، الآية 48.
[10] ـ والضمير يعود إلى آدم عليه السلام الذي ورد ذكره قبل هذه الفقرة. (م)
[11] ـ اجتالتهم: صرفتهم عن قصدهم. (م)
[12] ـ نهج البلاغة (محمّد عبده) ، ج1، ص23، الخطبة1.
[13] ـ سورة الأنبياء (21) ، الآية 23.
[14] ـ قال سماحة السيد محمّد محسن في توضيح هذا الموضوع في كتابه أسرار الملكوت ج2، ص 331ـ 334: إنّ ذات الحقّ تعالى ليست بحاجةٍ إلى التفكّر والتأمّل وإعمال الرويّة في فعلها وخلقها للحوادث، كما أنّ أفعاله لا تقوم على أساس تطابقها مع المصالح الواقعيّة، بل المصلحة تأتي في مرحلةٍ متأخّرةٍ عن فعل الحقّ وخلقه لا في مرحلةٍ متقدّمةٍ. وبعبارةٍ أخرى نقول: إنّ المصلحة في أعمالنا وأفعالنا نحن تأتي بعنوان العلّة الغائيّة لهذه الأفعال، إلّا أنّها في أفعال الباري ليس لها علّية بل هي تقع معلولةً لفعل الحقّ، ففعل الحقّ هو العلّة الموجدة للمصلحة، لا أنّ المصلحة هي العلّة الموجدة لفعله وإرادته تعالى. وإذا أردنا أن نضـرب مِثالًا تقريبـيًّا لهذه المسألة في حدود أفعالنا وتصـرّفاتنا نأخذ مثال اليد وحركتها التي هي معلولةٌ لإرادة الإنسان ومشيئته. فعندما يريد الإنسان أن يأخذ شيئًا، فإنّه يحرّك يده فيأخذ ذلك الشيء. في هذا المثال نقول: لا تُعتبر نفس حركة اليد علّةً غائيّةً للإنسان، بل إنّ العلّة الغائية له هي أخذ ذاك الشيء المراد أخذه باليد، وحركة اليد في هذه الحالة عبارةٌ عن أمرٍ معلولٍ لإرادة الإنسان واختياره، فإذا لم يُردْ الإنسان أن يأخذ ذلك الشيء، فلن تتحرّك يده نحوه أبدًا. ولكن في بعض الأحيان تُعتبر نفس حركة اليد علّةً غائيّةً، كما إذا أراد الإنسان أن يرى يده هل تتحرّك أو لا، فقام ـ لاكتشاف هذا الأمر ـ بتحريك يده، ففي هذه الحالة صارت حركة اليد علّةً غائيّةً للحركة، بعكس الفرض الأول حيث كانت معلولةً لها. إنّ مسألة المصلحة في فعل الحقّ هي من قبيل مسألة الحركة في الفرض الأوّل، بمعنى أنّ المصلحة ليست علّةً غائيّةً لفعل الحقّ بل هي معلولةٌ له. أمّا نحن، فنتصوّر أن الحقّ تعالى قد خلق الأشياء على أساس المصلحة والانطباق على الواقع، وهذا غلطٌ.... فالحقّ تعالى قد خلق عالم الوجود لا لأجل أنّه شعر بوجود مصلحةٍ وفائدةٍ في عالم الوجود فخلقَ الكائنات من أجل الوصول إلى تلك المصلحة والفائدة، بل بسبب أنّ جميع عالم الوجود وتمام آثاره ناشئة من وجوده، وذاتُه هي التي تفيض الوجود على المراتب التي دون مرتبة ذات الحقّ؛ إذن فالغاية والعلّة لوجود المخلوقات عبارةٌ عن ذات الحقّ تعالى، لا شيءٌ آخر خارج عن ذاته. وكل من يكون فاعليّته لخلق شيءٍ آخر وإيجاده على هذا النحو، فهو فاعل هذا الشـيء وهو غايته ومقصده.... وقد ورد في الحديث القدسي: «يا ابن آدم خلقت الأشياء لأجلك (كي تصل إلى الكمال) وخلقتك لأجلي (كي أرى فيك وجود ذاتي وآثارها) » (انظر: شرح الأسماء الحسنى (للسبزواري) ، ج 1، ص 139؛ كلمة الله، ص 169 ، ؛ معرفة الله (للعلّامة الطهراني) ، ج 1، ص 190). وبناءً على ذلك، فمسألة الغاية تختلف عن مسألة تطبيق الفعل على أساس المصلحة، فالمصلحة بالمعنى المذكور منتفية في حقّ أفعال الباري تعالى، ومع ذلك، فإنّ لأفعاله غاية وهدفًا.
[15] ـ سورة طه (20) ، الآيتان 49 و50.
[16] ـ سورة هود (11) ، ذيل الآية 56.
[17] ـ سورة الأنعام (6) ، الآية 14.
[18] ـ [آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني، طهارة الإنسان، المقدّمة]
|