____________________________________________________
هو العليم
مشاهد من تاريخ الإمام السجّاد عليه السلام والشيعة في زمانه
_______________________________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين
وُلد عليه السلام في الخامس من شعبان سنة 38 هـ واستُشهد بالمدينة بسمّ الوليد بن عبدالملك، ودفن بالبقيع خلف عمّه الإمام المجتبى عليه السلام. أشهر الأقوال أنّه قتل بالسمّ في المحرّم من عام 95 هـ فتكون حياته بعد أبيه خمساً وثلاثين سنة. كما أنّ المشهور أنّ عمره الشريف يوم قَتْلِ أبيه اثنان وعشرون سنة.[1] كان دأب أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله بعد حادثة كربلاء نشر ما حلّ بقتلى الطفّ، وما جرى من فزع ودهشة وسلب وضرب وسبي. فإنّ زين العابدين عليه السلام قضى سنيّ حياته كلّها بالبكاء على أبيه. فإنّه ما قُدِّم له طعام أو شراب إلّا ومزجه بدموع عينيه. وعلى هذا المنوال نسج الأئمّة من أولاده، بل ما زالوا يعقدون مآتم العزاء للبكاء واستماع المراثي والتعازي. و لربّما ضربوا الأستار وجعلوا خلفها بنات الرسالة ليستمعن شجيّ المراثي، فيبكين على صرعى الطفّ وسبي العقائل. بل كان شعارهم حثّ المؤمنين على نصب مآتم الحزن للبكاء على ذلك الحدث الجلل، وعلى زيارته ولو على الخشب (إشارة منهم إلى الصلب الذي ينتظر مَن يزوره). و قد لبّى المؤمنون تلك الدعوة، فما زالت مآتمهم قائمة، وزيارتهم دائمة. ولقد لاقوا من أجل ذلك فنون الأذى والتنكيل أيّام بني أميّة، وشطراً من دولة بني العبّاس خصوصاً في عهد المتوكّل، حتى أدركوا الأمل فصارت المآتم تقام علناً، والزيارة تفعل جهرة، إلى أن بلغت إلى ما تشاهده اليوم!....
الظروف السياسيّة والثقافيّة في عصر الإمام زين العابدين والطريق الذي اختاره خلالها
ظهر عبد الله بن الزبير بمكّة واستتبّ له الأمر في الجزيرة تسع سنين. فاشتغل الأمويّون بابن الزبير وابن الزبير بالأمويّين. وزين العابدين في عزلة عن هذا التطاحن الدنيويّ. وانصرف شطر من الناس إلى العِلم، وشطر إلى السياسة، وأصبح لكلّ من أمرَي السياسة والعلم شأن في البلاد، وتكاد أن تنفصل كلّ طائفة عن الأخرى. وابتدأ في هذا العهد ارتكاز العلم على القواعد والأصول، وابتدأت المناظرات والمحاججات، والمذاهب والطرائق. وكان في هذا العصر الفقهاء السبعة في المدينة، الذين يرجع الناس إليهم في الفقه. وكانوا يفتون على آراء أهل السنّة وأصولهم. فكان في هؤلاء شيعيّان هما القاسم ابن محمّد بن أبي بكر، وكان من حواريّي زين العابدين عليه السلام، وسعيد بن المُسَيِّب وقد ربّاه أمير المؤمنين عليه السلام. وكانا في الظاهر على رأي أهل السنّة. ومن ثمّ تعرف أنّ التقيّة كانت دريئة الشيعة قبل عهد الصادق عليه السلام. وكانت الشيعة ترجع إلى زين العابدين عليه السلام في ذلك الانعزال والوحدة ونصبه للمأتم الدائم على أبيه عليه السلام. وتلك هي السياسة الإلهيّة التي اختطّها أبو محمّد عليه السلام لنفسه خدمةً للشريعة. إذ كان الناس قد أشغلها التضارب على الملك، فوجدها فرصة لإبداء مظلوميّة سيّد الشهداء عليه السلام، فكان بكاؤه المستمرّ على شهيد الظلم أكبر ذريعة لإحقاق الحقّ وإبطال شعائر دول الجور، وانصرافه عن السياسة وأهلها نهزة لتوارد الناس عليه دون أن يؤخذوا بذاك. أذهلت حادثة الطفّ الناس كلّهم، وما كانوا يحتسبون أن يبلغ بتلك الفئة الأمويّة الغاشمة العتوّ إلى ما كان. ولا الناس في الطاعة لهم وما آلوا إليه مع آل الرسول إلى ما وقع. فندم شطر من أولئك المحاربين، وطلبوا من زين العابدين عليه السلام النهوض بهم إلى الانتقام من بني اميّة. فأبي عليهم أشدّ الإباء. وأسف من تخلّف من الشيعة عن الالتحاق بالحسين، وعن القتل بين يديه. وما علموا أنّ الناس يبلغون منه ذلك الفعل الأشنع، وقد خيّم عليهم الحزن بعمق وهم بين نادم وآسف. وهذا أحد العوامل على انتفاض الناس على يزيد ووقوع حادثة الحَرَّة. حيث لم تُبق كارثة كربلاء هوى لأكثر الناس في آل أبي سفيان. هذا فوق ما كان عليه يزيد من المجون والتهتّك والطيش. فالشيعة بالعراقَين (البصرة والكوفة) والحرمَين (مكّة والمدينة) في هذه الفترة هائدة الأعصاب، لم يتفرّغ ابن الزبير لمقاومتهم حتى بعد استيلاء مصعب على الكوفة وقتل المختار. وإن كانت نزعة ابن الزبير شنآن أهل البيت ومحاربتهم في خططه وخطبه.
جرائم الحجّاج وعبد الملك ضدّ الشيعة
وما مضت تلك الليلات القصيرة التي استقلّ فيها آل الزبير بالجزيرة إلّا وعاد الحكم لآل مروان من بني أميّة بعد أن قضوا على آل الزبير. ولمّا بسط عبدالملك نفوذه على البلاد، وقامت دعائم سلطانه، التفت إلى أهل البيت وشيعتهم. ولم تطب نفسه لأنّ يراهم على تلك العزلة والوداعة. وكان سيّد آل البيت وإمام الشيعة يومئذٍ زين العابدين عليه السلام، فحمله إلى الشام ليغضّ من مقامه، وينقص من منزلته. ولكن لم يزدد الإمام بذلك إلّا عزّاً وكرامة، لِما ظهرت له من الفضائل والمعارف. وكانت الكوفة مغرس دوحة التشيّع، فحاول عبدالملك أن يجتثّها من على الأرض. وأيّ ساعد أقوى من ساعد الحجّاج، وهو صاحب ذلك القلب القاسي الذي لا يعرف الرقّة واللين؟! وأيّ رجل أبيع لدينه بالثمن الأوكس- لو كان عنده شيء من الدين- من الحجّاج؟! وإن فعله بالبيت الحرام ليسلّم قصر المُلك لعبدالملك أخسر صفقةً. وهنا يخبرنا الباقر عليه السلام عن عيان ومشاهدة عمّا كان من الحجّاج مع الشيعة، كما يحكيه شارح «نهج البلاغة» ج 3، ص 15: يقول عليه السلام: ثُمَّ جَاءَ الحَجَّاجُ فَقَتَلَهُمْ- يَعْنِي الشِّيعَةَ- كُلَّ قَتْلَةٍ، وأخَذَهُمْ بِكُلِّ ظِنَّةٍ وتُهْمَةٍ، حتى أنَّ الرَّجُلَ لَيُقَالُ لَهُ زِنْدِيقٌ أوْ كَافِرٌ أحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أنْ يُقَالَ لَهُ: شِيعَةُ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ويقول المدائنيّ كما في «الشرح» ج 3، ص 15: وولى عبدالملك بن مروان فاشتدّ على الشيعة، وولّى عليهم الحجّاج بن يوسف، فتقرّب الناس إليه ببغض عليّ عليه السلام، وموالاة أعدائه، وموالاة من يدّعي قوم من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه. فَأكْثَرُوا في الرِّوايَةِ في فَضْلِهِمْ وسَوَابِقِهِمْ ومَنَاقِبِهِمْ، وأكْثَرُوا مِنَ الغَضِّ عَنْ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَيْبِهِ والطَّعْنِ فِيهِ والشَّنَآنِ لَهُ. وماذا يذكر الكاتب عن الحجّاج وأعماله؟! فلقد سوّد صحائف من التأريخ لا تُنسى عمر الدهر. ونربأ بأقلامنا عن ذكرها. وكيف ننشر تلك الفضائح على صحائف بيض تريد الفضيلة بما ترويه وتسطّره؟! ولو كانت أعماله القاسية مجهولة ولو لبعض الناس لآثرنا للفضيلة استطراء شطر منها رجاء أن ينتهجها من له إمرة وسلطان عندما يعرف: أنَّ المَرْءَ حَدِيثٌ بَعْدَهُ، وأنَّ التَّأرِيخَ يَحْفَظُ عَلَيْهِ الجَمِيلَ والقَبِيحَ. ولكنّ الناس كلّهم يعلمون ما ارتكبه ذلك الفظّ الغليظ من الكعبة، وممّن اتّخذ الكعبة قبلةً دون أن يميّز بين شيعيّ، أو سنّيّ، أو حروريّ، وبين حجازيّ، أو عراقيّ، أو تهاميّ.[2]
جرائم الحجّاج وعبد الملك ضدّ الشيعة
من الجدير ذكره أنّ كثيراً من سلاطين الجور وأمرائهم كانوا في درجة الكمال من حيث الزهد والعبادة والعلم بالقرآن والسنّة والفصاحة والبلاغة، بَيدَ أنّ عدم وصول روح اليقين إلى سويداء قلوبهم جعلهم أسرى الغرور وشهوة الرئاسة، فتجاهروا بارتكاب المحرّمات الشرعيّة والجرائم والانتهاكات التي لا يمكن حملها إلّا على حبّ الجاه والرئاسة وكان السلاطين الأوَل من هذا الضرب. وكذلك كان عبدالله بن الزبير، والمأمون العبّاسيّ، وعبدالملك بن مروان، والحجّاج بن يوسف الثقفيّ. وكان الحجّاج من نوادر عصره في الفصاحة والبلاغة وإلقاء الخطب الصحيحة الخالية من اللحن. كما كان حافظاً للقرآن. وكان يأمر بقتل الأبرياء على أساس الاستدلال بالآيات القرآنيّة. ووطّد عرش الاستبداد والظلم لعبد الملك بن مروان بالشام مستنداً إلى آية (أولي الأمر). وكان عبد الملك قبل تقلّده الأمر حليف المسجد النبويّ والصوم والصلاة والقرآن والعلم وبيان السنّة حتى عدّه البعض أحد فقهاء المدينة. وبهذه الهيئة الجميلة التي تهواها الأفئدة دخل سلك الحكومة الجائرة. وبمظهر يتجلّى فيه أنّ الحقّ معه تعسّف على أئمّة الشيعة وظلمهم وعزلهم وسجنهم وقتلهم وهدم دورهم وشرّدهم. وقد سفك دماء المظلومين سفكاً قلّما شهدته السماء، ورفع كأس الشراب وأغدق العطاء على الشعراء الخمّارين المادحين لبني أميّة بنحو لم يشهد له الدهر على كرور أيّامه مثيلًا. ذكر السيوطيّ في «تاريخ الخلفاء» ص 214 إلى 222، الطبعة الرابعة، تاريخ عبدالملك. وننقل فيما يأتي موجزاً منه كدليل على ما أرودناه عنه: في عام 73 حيث كان ملكه هدم الحجّاج الكعبة وأعادها على ما هي عليه الآن، ودسّ على ابن عمر مَن طعنه بحربة مسمومة، فمرض منها ومات، وفي سنة 74 سار الحجّاج إلى المدينة، وأخذ يتعنّت على أهلها، ويستخّف ببقايا مَن فيها من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وختم في أعناقهم وأيديهم، يذلّهم بذلك كأنس بن مالك، وجابر بن عبدالله، وسهل بن سعد الساعديّ. فَإنَّا لِلَّهِ وإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ.[3] قال ابن سعد في عبد الملك: كان عابداً زاهداً ناسكاً بالمدينة قبل الخلافة. وقال يحيى الغسّانيّ: كان عبدالملك كثيراً ما يجلس إلى أمّ الدرداء، فقالت له مرّة: بَلَغَني يَا أمِيرَالمُؤْمِنِينَ أنَّكَ شَرِبْتَ الطِّلَاءَ بَعْدَ النُّسْكِ والعِبَادَةِ؟! قَالَ: أي وَاللهِ! والدِّمَاءَ قَدْ شَرِبْتُهَا!...... وقال ابن أبي عائشة: أفضى الأمر إلى عبدالملك والمصحف في حجره، فأطبقه وقال: هَذَا آخِر العَهْدِ بِكَ. وقال مالك: سمعتُ يحيى بن سعيد يقول: أوّل من صلّى في المسجد ما بين الظهر والعصر عبدالملك بن مروان وفتيان معه. كانوا إذا صلّى الإمام الظهر قاموا فصلّوا إلى العصر. فقيل لسعيد بن المسيِّب: لو قمنا فصلّينا كما يصلّي هؤلاء: فقال سعيد بن المسيِّب: لَيْسَتِ العِبَادَةُ بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ والصَّوْمِ! وإنَّمَا العِبَادَةُ التَّفَكُّرُ في أمْرِ اللهِ والوَرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ. وكان مروان بن الحكم ولّى العهد عمروًا بن سعيد بن العاص بعد ابنه، فقتله عبد الملك. وكان قتله أوّل غدرٍ في الإسلام. فقال بعضهم: يَا قَوْمِ لَا تُغْلَبُوا عَنْ رَأيِـكُمْ فَلَقَـدْ جَرَّبْتُـمُ الغَـدْرَ مِنْ أبْنَـاءِ مَـرْوَانَـا أمْسَوْا وقَدْ قَتَلُوا عَمْراً ومَا رَشَدُوا يَـدْعُونَ غَـدْراً بِعَهْدِ اللهِ كَيْسَـانـا ويَقْتُلُونَ الرِّجَـالَ البُزْلَ ضَـاحِيَـةً لِكَيْ يُوَلُّـوا أمُورَ النَّـاسِ وِلْـدَانَـا تَـلَاعَبُـوا بِكِتَــابِ اللهِ فَـاتَّخَـذُوا هَــوَاهُـمُ في مَـعَـاصِي اللهِ قُرْآنَـا وقال عبد الملك في وصيّته لابنه الوليد: يا وليد اتَّقِ اللهَ فِيمَا أخْلَقَكَ فِيهِ. إلى أن قال: وانظر الحجّاج فأكرمه فإنّه هو الذي وطّأ لكم المنابر! وهو سيفُك يا وليد، ويدُك على من ناوأك! فلا تسمعنّ فيه قولَ أحد! وأنت إليه أحوج منه إليك، وادع الناس إذا متُّ إلى البيعة. فمن قال برأسه هكذا (أي: لا أبايع!) فقل بسيفك هكذا (أي: أفصل رأسك عن بدنك!) ولمّا احتضر عبدالملك، دخل عليه ابنه الوليد، فتمثّل بهذا: كَمْ عائِدٍ رَجُلًا ولَيْسَ يَعُودُهُ إلَّا لِيَعْلَمَ هَلْ يَرَاهُ يَمُوتُ؟ فبكى الوليد. فقال: ما هذا؟ أتحنّ حنين الأمَة؟! إذا أنا متُّ، فشمرّ، وائتزر، والبس جلد النمر! وضع سيفك على عاتقك! فمن أبدى ذاتَ نفسه لك فاضرب عنقه. ومن سكت مات بدائه. قال السيوطيّ هنا: لو لم يكن من مساوئ عبدالملك إلّا الحجّاج وتوليته إيّاه على المسلمين وعلى الصحابة رضي الله عنهم يُهينهم ويذلّهم قتلًا وضرباً وشتماً وحبساً. وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين ما لا يُحصى فضلًا عن غيرهم. وختم في عنق أنس وغيره من الصحابة ختماً، يريد بذلك ذلّهم، فَلَا رَحِمَهُ اللهُ ولَا عَفَا عَنْهُ! ومن شعر عبدالملك: بِعُمْرِي لَقَدْ عُمِرْتُ في الدَّهْرِ بُرْهَةً ودَانَـتْ لي الدُّنْيَـا بِوَقَـعِ البَـوَاتِـر فَـأضْحَى الذي قَدْ كَـانَ مِمَّا يَسُرُّنِي كَلَمْحٍ مَضَى في المُزْمِنَاتِ الغَوَابِرِ فَيَـالَيْتَنِي لَمْ أُعْنَ بِالمُـلْكِ سَـاعَـةً ولَمْ ألْـهُ في لَـذَّاتِ عَيْـشٍ نَـوَاضِرِ وكُنْتُ كَذِي طِمْرَيْنِ عَـاشَ بِبُلْغَـةٍ مِنَ الدَّهْرِ حتى زَارَ ضَنْكَ المَقَابِرِ وعن الأصمعيّ قال: أربعة لم يلحنوا في جدٍّ ولا هزل: الشعبيّ، وعبدالملك بن مروان، والحجّاج بن يوسف، وابن القرِّيَّة. وقال أبوعبيدة: لمّا أنشد الأخطل كلمته لعبد الملك التي يقول فيها: شُمْسُ العَدَوَاةِ حتى يُسْتَقادَ لَهُمْ[4] وأعْظَمُ النَّاسِ أحْلَاماً إ ذَا قَدَرُوا (أي أنّ عداوته في حدِّ أن يقدِّم روحه وكلّ ما يملك في قبال الثأر) قال: خذ بيده يا غلام فأخرجه ثمّ ألقِ عليه من الخلع ما يغمره. ثمّ قال: إن لكلّ قومٍ شاعراً، وشاعر بني أميّة الأخطل. وقال الأصمعيّ: دخل الأخطل على عبدالملك، فقال: وَيْحَكَ صِفْ لِيَ السُّكْرَ! قَالَ: أوَّلُهُ لَذَّةٌ، وآخِرُهُ صُدَاعٌ، وبَيْنَ ذَلِكَ حَالَةٌ لَا أصِفُ لَكَ مَبْلَغَهَا، فَقَالَ: مَا مَبْلَغُهَا؟ فَقَالَ: لَمُلْكُكَ يَا أمِيرَالمُؤْمِنِينَ عِنْدَهَا أهْوَنُ عَلَيّ مِنْ شِسْعِ نَعْلى! وأنشأ يقول: إذَا مَـا نَـدِيمِي عَلَّنِي ثُـمَّ عَلَّنِي ثَلَاثَ زُجَـاجَـاتٍ لَهُنَّ هَـدِيـرُ خَرَجْـتُ أجُـرُّ الـذَّيْــلَ تِيـهـاً كَأنَّنِي عَلَيْكَ أمِيرَالْمُؤْمِنِينَ أمِيرُ إلى أن قال: وممّن مات في أيّام عبدالملك من الأعلام أيّوب بن القرِّيَّة الذي يضرب به المثل في الفصاحة. وقال المحدِّث القمّيّ في «تتمّة المنتهي» ص 83 و84، الطبعة الثالثة (ما تعريبه): كان عبدالملك بن مروان قبل جلوسه على العرش ملازماً للمسجد تالياً للقرآن، حتى قيل فيه: «حَمَامَةُ المَسْجِدِ»، ولمّا بلغه خبر تقلّده للأمر كان يتلوا القرآن فأطبقه وقال: سَلام عليك! هذا فراق بيني وبينك. قال الراغب في «المحاضرات» بعد نقل هذه القضيّة ما مضمونه: كان عبدالملك يقول: كنت أتحرّج من قتل نملة والآن يكتب لي الحجّاج أنّه قتل فئاماً[5] من الناس ولم يؤثّر فيّ. وقال في ص 96 و97: كان الحجّاج يخبر أنّ أكثر لذّاته في إراقه الدماء. وأحصي مَن قتلهم الحجّاج سوى من قُتل في بعوثه وعساكره فوجد مائة وعشرون ألفاً، ووجد في حبسه بعد هلاكه خمسون ألف رجل وثلاثون ألف امرأة منهم اثنا عشر ألفاً عراة. وكان حبس الرجال والنساء في مكان واحد، ولم يكن في حبسه سقف ولا ظلّ. وروي أنّه خرج يوم الجمعة إلى الصلاة، فسمع ضجّة عظيمة، فقال: ما هذا؟ قالوا: أهل السجن يضجّون من الحرّ. فقال: قولوا لهم: اخْسَؤُوا فِيهَا ولَا تُكَلِّمُونَ! فلم يمهله الله إذ لم يصلّ جمعة بعدها حتى صار إلى جهنّم. وفي «أخبار الدول» أنّ علماء السنّة كفّروه بكلمته هذه، وقالوا أيضاً: وجد في حبسه بعد هلاكه ثلاثة وثلاثون ألفاً كانوا قد سُجنوا بلا داعٍ. وأطلقهم الوليد بن عبدالملك. ونُقل عن الشعبيّ أنّه قال: إذا اخرج من كلّ امّة خبيثها وفاسقها، أخرجنا لهم الحجّاج، وأنّه ليزيد عليهم جميعاً. ونقل أنّ عبدالملك لمّا كتب إلى الحجّاج ألّا يقتل أحداً من آل أبي طالب، لأنّ آل حرب ربّما أراقوا دماء أولاد أبي طالب فعّمهم الموت وزالت دولتهم، فاجتنب الحجّاج سفك دمائهم خوفاً من زوال الملك والسلطان لا خوفاً من الخالق عزّ وجلّ. وقتل الحجّاج كثيراً من شيعة أميرالمؤمنين عليهالسلام وخاصّته ككميل بن زياد النخعيّ، وقنبر غلام الإمام عليهالسلام. وضرب عبدالرحمن بن أبي ليلى الأنصاريّ بالسياط حتى اسودّ كتفاه. وأمره بسبّ أميرالمؤمنين عليهالسلام، فلم يسبّه بل ذكر مناقبه مكان ذلك. وقطع يد ورجل يحيى بن أمّ طويل الذي كان من شيعة الإمام السجّاد عليه السلام وحواريِّيه حتى استُشهد. وآخر من قتل هو سعيد بن جبير. وبعد خمس عشرة ليلة مضت على مقتله، ظهرت الآكلة في جوفه فكانت سبباً في هلاكه. وكان قتل سعيد وهلاك الحجّاج في أيّام الوليد بواسط سنة 95 هـ انتهى موضع الحاجة من كلام المرحوم المحدِّث القمّيّ في «تتمّة المنتهي». أجل، ذكرنا هذه المطالب ليتبيّن أنّ جميع حكّام الجور الذين ما زالت ترجمتهم تسوِّد وجه التأريخ لم يكونوا في بادئ أمرهم من المستهترين القتلة ذوي الشوارب الكثّة واللحى المحلوقة، الجهلاء بمسائل الدين وأحكامه، بل كانوا في ظاهرهم من أولي الصلاح وأهل القباء والرداء والحَنَك، وكانوا مواظبين على حضور الجمعة. وكانوا على هذه السجيّة يشهدون المشاهد حتى آخر عمرهم. لأنّ هذا المتاع هو المتاع الوحيد الذي له من يشتريه في سوق عامّة المسلمين يومئذٍ. بَيدَ أنّ عفريت الشهوة وكلب الغضب ونبيذ الغرور وحبّ الجاه والرئاسة والأوهام المزيّفة قد استحوذ عليهم حتى عدّوا أنفسهم آلهة على وجه الأرض. مُـعَبـَّا ومُعَـصَّـا ومُعَـمَّـمْ براي قتل دين گشته مُصَمَّم [6] نعوذ بالله من شرور أنفسِنَا ومن سَيِّئَاتِ أعمالنا.
بيعة الإمام السجّاد عليه السلام ليزيد بن معاوية وضرورة ذكر الحقائق التاريخيّة
نقل لي المرحوم صديقي البارّ الكريم سماحة آية الله السيّد صدر الدين الجزائريّ أعلى الله مقامه أنّه كان ذات يومٍ في بيت المرحوم آية الله السيّد محسن الأمين العامليّ رحمه الله بالشام، واتّفق حضور المرحوم ثقة المحدِّثين الشيخ عبّاس القمّيّ رحمه الله هناك. فجرى حوار بين المرحومين القمّيّ والأمين. فقال المرحوم القمّيّ مخاطباً المرحوم الأمين: لِمَ ذكرتَ في كتاب «أعيان الشيعة» بيعة الإمام زين العابدين عليه السلام ليزيد بن معاوية عليه وعلى أبيه اللعنة والهاوية؟! فقال: إنّ «أعيان الشيعة» كتاب تأريخ وسيرة، ولمّا ثبت بالأدلّة القاطعة أنّ مسلم بن عقبة حين هاجم المدينة بجيشه الجرّار، وقتل ونهب وأباح الدماء والنفوس والفروج والأموال ثلاثة أيّام بأمر يزيد، وارتكب من الجرائم ما يعجز القلم عن وصفها، فقد بايع الإمام السجّاد عليه السلام، من وحي المصالح الضروريّة اللازمة والتقيّة؛ حفظاً لنفسه ونفوس أهل بيته من بني هاشم، فكيف لا أكتب ذلك ولا أذكره في التأريخ؟! ومثل هذه البيعة كبيعة أميرالمؤمنين عليه السلام أبا بكر بعد ستّة أشهر من وفاة الرسول الأكرم واستشهاد الصدِّيقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليهما. قال المرحوم القمّيّ: لا يصلح ذكر هذه الأمور وإن كانت ثابتة، لأنّها تؤدّي إلى ضعف عقائد الناس. وينبغي دائماً أن تُذكر الوقائع التي لا تتنافى مع عقيدة الناس. قال المرحوم الأمين: أنا لا أدري أيّ الوقائع فيها مصلحة، وأيّها ليس فيها مصلحة. عليك أن تذكّرني بالأمور التي ليس فيها مصلحة، فلا أكتبها! ومن الطبيعيّ أنّ رأى المرحوم القمّيّ هذا غير سديد؛ ذلك أنّه ظنّ الإمام السجّاد أسوةً للناس بدون بيعة يزيد، وزعم أنّ الناس لو علموا بأنّه بايع، لرجعوا عن الإيمان والاعتقاد بالتشيّع، أو ضعف إيمانهم واعتقادهم. وبالنتيجة فإنّ الإمام هو الذي لا ينبغي له أن يبايع يزيد. إن مفاسد هذا اللون من التفكير بيّنة؛ أوّلًا: لأنّ الإمام الحقيقيّ هو الذي يبايع ويدرك مصالح البيعة، وعمله صحيح، وخلافه، أي: عدم البيعة، غير صحيح. ثانيا: لو ابتُلينا هذا اليوم بحاكم جائر كيزيد، وقال لنا: بايعوا وإلّا... وإذا اعتبرنا البيعة ـ حتى مع هذا الفرض ـ حراماً وخطأً، فقد أهدرنا دمنا ودماء أهلينا وناس آخرين سدى. وأمّا إذا علمنا أنّ أئمّتنا وقدوتنا قد بايعوا في مثل تلك الظروف، فإنّنا سنبايع فوراً بدون أن نفكّر بالنتيجة السقيمة وما تستتبعه البيعة من محذورات. أفليست التقيّة من أصول الشيعة الثابتة؟! لِمَ نُظْهِرُ للناس خلاف ذلك فنورّط أولئك المساكين في عُسرٍ وحرجٍ للحفاظ على شرفهم وكرامتهم ووجدانهم؟ حتى إذا بايع أحد في مثل هذه الحالة، فإنّه يعدّ نفسه آثماً خجولًا، ويرى تلك البيعة مخالفة لسُنّة إمامه ونهجه. وإذا لم يبايع فإنّه يعرّض نفسه وأتباعه لسيف زنجيّ ثمل جائر سفّاك، ويفقد حياته جنوناً وحماقةً. بيان الحقيقة هو بيان الحقيقة نفسها، لا بيان حقيقة خياليّة، وإلّا فإنّ جميع المفاسد تقع على عاتق من كتم الحقيقة.[7]
[1] ـ [معرفة الإمام ج16، ص 141 الهامش، مع تصرّف يسير في التقديم والتأخير بين الجمل]
[2] ـ [معرفة الإمام، ج16، ص: ص: 141 ـ 153 نقلًا عن] «تاريخ الشيعة» للمظفّر، ص 31 إلى 41.
[3] ـ كانوا يَسِمُونَ العبيد على أيديهم و ظاهر أعناقم إذا اشتروهم لكي يُعْرَفوا، و لا يفرّوا في بعض الأوقات و لكي لا يدّعي سيّد آخر تملّكهم. و لمّا ذهب الحجّاج إلى مكّة و أخذ لعبد الملك بن مروان البيعة من هؤلاء الصحابة بوصفها استرقاقاً لهم، فقد وسم ما بدا من أجسامهم بختم الذلّ و العبوديّة كسائر العبيد ليُعرفوا بهذه المحنة في أنظار العامّة. و هنا تألّم السيوطيّ و استرجع.
[4] ـ في «أقرب الموارد» مادّة ق ود: (اسْتَقَادَ) له استقادةً: أعطاه مَقَادَتَهُ و- زيدٌ الأميرَ: سَأله أن يُقيدَ القاتلَ بالقتيل، و- ذَلَّ وَ خَضَعَ. (اسْتَقَادَ) فلانٌ الأميرَ من القاتل فأقادَهُ منه: أي: طلب منه أن يَقْتُلَهُ فَفَعَلَ.
[5] ـ الفئام: جمع قوم، و الجماعة من الناس.
[6] ـ كان في أيّام طفولتي إلى ريعان شبابي واعظ في طهران يُدعى الميرزا عبدالله الواعظ السبوحيّ الطهرانيّ. و كان في غاية التقوى و الزهد، والفهم و الدراية و العلم. ضليعاً في التفسير و الأخبار الواردة، عارفاً بالفلسفة و الحكمة. و كان نسيج وحده في الفصاحة و البلاغة. جمهوريّ الصوت. و كان اعجوبة في فنّ الخطابة، و كيفيّة الدخول في الموضوع و الخروج منه، و التعريج على قضيّة كربلاء في ختام المنبر. و كان يرتقي المنبر في شهر رمضان في مسجد (سبهسالار) الجديد الواقع في (شبستان چهل ستون)، و يتحدّث من هناك عن الاعتقادات، بخاصّة المعاد، فيطرح موضوعات بكراً و حيّةً و رائعة جدّاً. و كان غيوراً، محبّاً للدين، حرّاً، منفتحاً. و هو رائد الخطابة في زمانه. و كنت احبّه كثيراً، و أحضر منبره لاستفيد من موضوعات مع أنّي كنت يومئذٍ طالباً صغيراً في المدرسة. و ما زال صوته يدوّي في صحن المدرسة و مسجد سبهسالار، و قد كان يقف أيّام العزاء على آخر مرقاة- و لعلّها المرقاة السابعة من المنبر- و ينزع عمامته، و يُلقي عباءته، و يشمرّ كُمَّي قباه حتى عضديه، و ما زال صوته يرنّ في مسمعي. و تحتفظ ذاكرتي بهذا البيت الذي أوردتُه، و كنت قد سمعته منه. و قد ألمّ به المرض لسنين، و توفّي عندما كنتُ في النجف الأشرف، أي: بعد سنة 1370 ه-. رحمة الله عليه رحمةً واسعةً. [وتعريب البيت: « إنّ أصحاب العباءات و العصيّ والعمائم مُصَمِّمون على إطفاء نور الدين»].
[7] ـ [معرفة الإمام، ج15، ص: 256ـ 257]
|