_______________________________________________________________
هو العليم
دور الإمام الصادق عليه السلام
في بيان مبادئ الإسلام
_______________________________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين
واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين
مشكلتان واجههما المسلمون بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله
مُنيَ الناس بالشبهة والخطأ في أمرين خطيرين بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وحادثة سقيفة بني ساعدة. وهما:
الأوّل: أمر الإمامة والولاية والإمارة، إذ خالوا أنّ كلّ من مسك زمام الأمور فهو الوالي الذي تجب طاعته. سواء كان تقلّده الأمر بالتسلّط والخداع، أم بالاختيار، أم بالوصيّة، أم بالشورى، أم بالأوامر التحكّميّة التعسّفيّة. فلهذا كانوا يرون أنّ يزيد بن معاوية هو الخليفة المنصوب من قبل أهل الحلّ والعقد بنصب معاوية والمُغيرة بن شُعبة وجلاوزتهما، وكانوا يعملون حسب هذا المنطق، ويرتّبون آثاراً شرعيّةً حقيقيّة عليه.
الثاني: في أخذ معالم الدين والسنّة والعلوم الظاهريّة والباطنيّة والتفسير والعرفان ـ والخلاصة جميع المدركات الإنسانيّة والبشريّة ـ فكانوا يعتقدون أنّ مصدر هذه الأشياء كلّها هم الأمراء الذين تسلّموا مقاليد الأمور حتى لو كان ذلك بالقوّة.
وعلى هذا الأساس كانوا يراجعون حكّام عصورهم لحلّ مسائلهم العلميّة وعلاج معضلاتهم ومشكلاتهم. ويأخذون مسائلهم الشرعيّة وصلواتهم وصيامهم وجهادهم وسائر شؤونهم الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة من تلك المصادر، ويتصرّفون حسب آرائهم ونظريّاتهم.
أي: كان الحكّام يموّنون الأمّة في مجالين هما: الإمارة والحكومة، والعلوم والأفكار.
وهذان الأمران كلاهما يعاكس النهج الإسلاميّ المبين تماماً، ذلك النهج الذي يدعو إلى الحقّ دائماً على أساس القرآن والسنّة، ويحذّر عامّة الناس من اتّباع الباطل. ولكن بعد وفاة النبيّ صلّى الله عليه وآله حيث انحرف محور الولاية عن قطبه، وانقلب كلّ شيء، لم يجد المسلمون أميراً بالحقّ، ولم يحظوا بدرس وتعليم مستقيم. وشاع هذا الأمر بين الطبقات والأجيال المختلفة من الناس في كلّ زمان ومكان، واستحكم حتى لم يجرؤ أحد على رفع عقيرته ضدّه.
وبعبارة أخرى: اتّبعت الأمّة الباطل سنين طويلة وهي تعتقد أنّه هو الحقّ، وعرفت الباطل على أنّه هو الحقّ، وكانت هاربة من الحقّ باعتقادها الباطل.
ومَن الذي كان يستطيع أن يرفع صوته في هذه المصيبة الكبرى، فيعلن بصراحة بطلان جميع الأجهزة والحكومات؟
دور الإمام الحسين والإمام الصادق عليهما السلام في علاج مشكلة المسلمين
الأوّل: الإمام الحسين عليه السلام الذي توكّأ على السيف ونهض بذلك الوعي، وأنذر بقطع دابر الظلم، وأيقظ العالم، ودوّى صوته بالعدل والحقّ والصدق في عالم البشريّة من خلال خطبه وكلماته المتكرّرة.
والآخر: هو الإمام الصادق عليه السلام الذي تأسّى بتلك التضحية العظيمة، ومارس دوره على امتداد ثلاثين سنة بعناء لا يوصف، وكشف سرّ تلك التضحية، وأصحر بروح الدين وحقيقة الإسلام التي كانت قد دُفنت تحت ركام الجهل وجباله الراسيات.
وتضافرت تضحية سيّدالشهداء عملًا، وتضحية الإمام الصادق علماً، وتعاضدتا حتى وقفنا هذا اليوم ـ وللّه الحمد وله الشكر ـ على حقائق الدين والنبوّة وسرّ القرآن والنبوّة والولاية إلى حدّ ما. أو بعبارة أصحّ: إنّ تضحية سيّدالشهداء بالسيف، وتضحية الإمام الصادق باللسان عاملان قويّان قد تكاتفا ودعم أحدهما الآخر، حتى أبدى الإسلام وجهه المتألّق الزاهر من بين الغمائم المظلمة السوداء.
لقد نطق آية الله المظفّر حقّاً إذ قال: فما أصدق القائل: إنَّ الإسلَامَ عَلَوِيّ والتَّشَيُّعَ حُسَيْنِيّ!![1] أمّا أنا فأقول: إنَّ الإنسَانِيَّةَ والإسْلَامَ والتَّشَيُّعَ حُسَيْنِيّ السَّيْفِ، وصَادِقِيّ القَلَمِ والبَيَانِ.
دور الإمام الصادق عليه السلام إبانة الإسلام الحقيقيّ
أجل، إن العمل الذي قام به الإمام الصادق عليه السلام هو أنّه عرّف العالَم الإسلام الحقيقيّ من خلال علومه، وأزاح الصدأ عن وجهه المتغيّر، وعرض الشريعة الحقّة كما هو حقّها.
ويا لصعوبته من عمل! بعد أن تغيّرت الأصول والفروع وتبدّلت، فألِفَتْ ذلكَ الأمّةُ بأسرها عالمِها وجاهلها، وعاليها ودانيها، وكبيرها وصغيرها، وشيخها وحَدَثها على امتداد قرن من الزمان. وها هو الإمام عليه السلام يقوم بدوره، ويرشد الجميع بلا استثناء (إلّا شرذمة قليلة) لا عن طريق التعبّد ـ فالتعبّد هنا لا يُغني شيئاً ـ بل عن طريق المنطق والبرهان، والقلم والبيان، والهداية إلى كيفيّة الاستدلال بآيات القرآن وأخذ الأحكام من الفرقان، ويأخذ عليه السلام بأيدي الناس إلى ذلك الدين الأصيل، ويبدّد عَقْدَ الأفكار والمناهج والمذاهب التي كانوا يسلكونها للحصول عليه، ودلّ على أنّ الطريق الوحيد للوصول إلى الدين القويم هو هذا فحسب.
لهذا فإنّ الطريق الذي نهجه الإمام جعفر الصادق عليه السلام، وأرشد إلى ذلك الدين كالرائد الذي يقود القافلة إلى المكان الخصب والماء والكلأ في الصحراء القاحلة هو الطريق الذي هدى به الأمّة إلى دين جدّه المصطفى صلّى الله عليه وآله وشريعته المرسلة من الله تعالى.
من هنا، عُرف مذهبه الذي كان أوّل المذاهب بالمذهب الجعفريّ.
مناقشة أحمد أمين المصري في نسبة دين جديد إلى الإمام الصادق عليه السلام
ولا يتوهّم الواهمون أنّه عليه السلام قد أسّس ديناً جديداً، أو أضفى على الإسلام طابعاً خاصّاً، كما ذهب إلى ذلك أحمد أمين بك المصريّ مع شدّه احترامه وتقديره للإمام عليه السلام، فإنّه يعتقد أنّه قد أضفى على الإسلام صبغة خاصّة، والمذهب الجعفريّ بمعنى الدين الإسلاميّ مصطبغ بهذه الصبغة. وهذا وَهْم منه، وقد ذهب مذهباً مغلوطاً في هذا الضرب من الكلام.
أجل، لمّا كان الإسلام الصحيح عند أحمد أمين هو الإسلام الذي يدين به سلاطين الجور والطغيان المتربّعون على عرش الاعتساف والعدوان، وأنّه هو المنهاج، فلا جرم أنّه يعتقد بتلوين الإمام الصادق عليه السلام الدين الأصيل والشريعة المرسلة بصبغة خاصّة ولون مضاف. ويرى أنّ هذا المذهب غصن مقطوع عن أصل الإسلام بما يحمله من خاصّيّة معيّنة.
بَيدَ أنّ الأمر ليس كذلك، وشتّان ما بين كلامنا وكلامه. فعلوم الإمام عليهالسلام التي مضى عليها ثلاثة عشر قرناً، وهي مسطورة في الكتب تدلّ على ما نقول. فكلّ ما قاله الإمام، وكتبه، ودرّسه هو تفسير وتبيان للكتاب والسنّة، لم يفرض عليهما شيئاً، ولم ينقص منهماً أو يزيد عليهما شيئاً، وهذا ما تدعمه الأدلّة الداخليّة والخارجيّة.
هذه هي رسالة الإمام الصادق عليه السلام على امتداد ثلاثين سنة.
و إذا كان قد هدَّم منهاجاً قديماً ينهجه العامّة بما كان يعرضه من تعاليم، فهذا لا يعني إحباطاً لأمر صحيح وإبداءً لأمر باطل وإضفاءً لصبغة جديدة، بل يعني كسراً لكوز متصدّع متلوّث كان يُسقي الناسُ ماءَهُ على أنّه ماء لذيذ طيِّب، واستبداله بكوز جديد فيه ماء زلال بارد لذيذ غير آسن، وسقى الأمّة منه.
ومحصّلة عمل الإمام عليه السلام إزالة الطرق الباطلة المنحرفة التي فرّقت بين الناس والدين. ومن الطبيعيّ أن يبدو عمل الإمام في المنهاج والأسلوب سواء في تعريف الولاية ومصدر الحكم والإمارة، أم في تعريف العلوم والأسرار والحقائق والأحكام شيئاً جديداً في أوّل نظرة. وهو الشيء الذي يظنّه أحمد أمين صبغة دينيّة جديدة، وظنّه خائب. فجِدَّة هذا المنهاج تعود إلى اندراس الطريقة التي أخذ بها الإسلام الصحيح لا غير.
وهو ما يراه العامّة شيئاً جديداً، بَيدَ أنّه ليس إلّا روح رسول الله، ونَفَس القرآن بلا شائبة، وقد تجلّيا في سيرة الإمام الصادق عليه السلام وأسلوبه كلّه.
وبِلُغَة العلم، فقد كان لعمل الإمام عنوان الكشف عن الدين الصحيح، لا عنوان نقل الإسلام بشيء مضاف وأثر مخصوص.
وهو يماثل بحث الكشف والنقل الذي يتناوله الفقهاء العظام في باب النكاح الفضوليّ، أو البيع الفضوليّ: هل تقرّ إجازة طرف النكاح أو البيع، أو تنقل المال إلى الطرف المعهود، فيتحقّق حينئذٍ عمل إجازة النقل؟ أو أ نّ إجازة عمله كشف عن تحقّق النكاح، أو انتقال المال في البيع منذ صدور الصيغة أوّل الأمر؟ يرى القائلون بالكشف أنّ الشقّ الثاني هو الصحيح.
وإنّما ذكرنا هذا التشبيه هنا لمجرّد التنظير لإنارة الأذهان، وإلّا فإنّ هذا الموضوع يختلف كثيراً عن باب الكشف والنقل في المعاملات الفضوليّة.
أجل، يستبين ممّا ناقشناه كم كان جهاد الإمام الصادق عليه السلام في هذا المجال عظيماً! فقد كان مكلّفاً أن يُتمَّ هذه الرسالة الإلهيّة. وهذا يستلزم وقتاً كبيراً يمتدّ شهوراً بل عشرات السنين، إذ كان للإمام عليه السلام أن يكشف عن آيات القرآن كلّها، ويوضّح ويفسّر ويشرح منهج جدّه وسنّته، ويبيّن مواضع الخلاف جميعها، وينبّه على كافّة ضروب الاعوجاج والانحراف والانتهاك التي قام بها أولئك الرجال الذين هم كأظآر أعطف من أمّهات، ويُفصح عن صواب عمل أجداده الكرام مع تحمّل الشدائد القاصمة للظهر، ليستبين حقّ الموضوع. وهذا مطلب لا ينتهي بحديث واحد ولا بمائة حديث، ولا بمجلس واحد، ولا بمائة مجلس، بل يحتاج إلى جلسات ممتدّة على الشهور والسنين. وكان الإمام عليه السلام ملتفتاً إلى هذه المهمّة وعبء هذه المسؤوليّة، فأعدّ نفسه لهذا الأمر الخطير.
وعلى هذا الأساس لم يقبل عليه السلام الخلافة الظاهريّة التي كانت عند البيعة من نصيب صاحب القباء الأصفر (المنصور الدوانيقيّ) بعد أخيه عبدالله السفّاح. ومع أنّ ثورة الشيعة كانت من أجل إمارة العلويّين وإمامتهم بَيدَ أنّ العبّاسيّين قبضوا على السلطة، أو بتعبيرنا الصحيح استلبوها أو اختطفوها، ولم يفسحوا المجال للعلويّين. وفي ذلك الميدان كان الإمام الصادق عليه السلام هو الشخصيّة البارزة الوحيدة المؤهّلة للخلافة. وقد اعترف الجميع بهذا. واعتذر عليه السلام عن تقبّل هذا المنصب، ولم يستعدّ لقبول بيعة الناس بالخلافة. وامتنع بشدّة ورفض رفضاً قاطعاً على الرغم من إصرار الأمّة وأهل الحلّ والعقد في المدينة على ذلك.
من جهة أخرى، حذق العبّاسيّون وبايعوا عبدالله السفّاح، فتربّع على أريكة الحكم، وعُدَّ الإمام الصادق عليه السلام من رعاياه..[2]
[ملاحظة: تمّ اقتطاع هذا البحث من كتاب معرفة الإمام ج 16 للعلاّمة الطهراني رضوان الله عليه وقد تمّت مقابلة النص مع الأصل الفارسي من قبل الهيئة العلميّة في موقع المتّقين]
[1] ـ «تاريخ الشيعة» للمحقّق الكبير الشيخ محمّد حسين المظفّر، ص 27.
[2] ـ [معرفة الإمام، ج16، ص: 207ـ 214]