الفيديو المحاضرات سؤال و جواب معرض الصور صوتيات المكتبة اتصل بنا الرئیسیة
  الثلاثاء  9 جمادي الاُولي  1446 - Tues  12 Nov 2024
البحوث المنتخبة    
كتاب المتقين    
موقع المتقين > التاريخ والسيرة > حديث عن شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام


____________________________________________________

هو العليم

حديث عن شخصيّة
أمير المؤمنين عليه السلام

ألقاها

سماحة آية اللـه السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
حفظه اللـه

_______________________________________________________________

تحميل ملف البي دي أف تحميل ملف البي دي أف للجوال

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
وصلّى الله على سيِّدنا ونَبيِّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيِّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائِهم أجمعين إلى يوم الدين

الليلة هي الليلة التاسعة عشرة من شهر رمضان المبارك، وهي الليلة التي استجاب فيها أمير المؤمنين عليه السلام لذلك الوعد الإلهي، وتحرّك بنفسه نحو ذلك الهدف الموعود، واستقبل تلك الحادثة بصدر رحب.

    

منجّزية العلم الذاتيّة

إنَّ أمر جرح أمير المؤمنين لم يكن أمرًا عاديًا، ولم يحصل صدفةً؛ وسيتّضح للإخوة إن شاء الله بما سأقدّمه من شرح، بأنَّ ما جرى كان قد حصل وفقًا لاختيار أمير المؤمنين، لا أن يكون عليه السلام غير مطّلع على ما سيحصل له، بل كان يعلم بما سيحصل، ولقد رضي به وأقبل عليه بنفسه، وعمل على تحقيقه بكامل وجوده.
يجري الحديث هذه الأيّام عن أنّه: هل يمكن أن يكون المرء مطّلعًا عمّا سيحصل له، ثمّ لا يقوم باتّخاذ الإجراء الذي يمنع حصوله؟ فكيف يتّفق هذا الأمر مع التكليف الشرعي للإنسان؟ وذلك لأنَّ العلم والقطع يعتبر بحسب الاصطلاح والقانون منجِّزًا؛ أي يؤدّي إلى تعلّق التكليف. فعندما تقطع بمسألة ما، يكون واجبًا عليك العمل بها وترتيب الأثر عليها، وعندما تعلم بأنَّ شرب سائل ما سيتسبّب في جلب الأذى إلى جسمك، فشربه يكون محرّمًا عليك؛ فهذا أمر بديهي ولا جدال فيه. وإن علمت بعدم صلابة ذلك الحجر الذي تنوي الوقوف عليه، وأنَّ وقوفك عليه سيتسبّب في انهياره وسقوطك وهلاكك، فإنَّ وقوفك عليه يعتبر أمرًا محرّمًا؛ لأنَّ عملك هذا كان عن علم بما سيؤول إليه الأمر. وبصورة عامّة، عندما يحصل للمرء علم بموضوع ما، فسيعتبر ذلك العلم مُنجِّزًا، ولا يحتاج معه إلى دليل آخر فوق هذا العلم والقطع؛ فعندما يحصل لنا علم بموضوع معيّن، فلا حاجة لنا ـ والحال هذه ـ لأن يأتي أحد، ويخبرنا بلزوم فعله، أو الامتناع عن الإتيان به.

    

دعوة الأولياء للعمل بالعلم لا بالحدس والظنّ

على أنَّه يجب التفريق بين العلم وبين الحدس والظنِّ وما بُني على الأوهام والتخيّلات؛ ففي الكثير من الأوقات يكون أمر الإنسان مبنيّ على الحدس والظنّ؛ علمًا بأنَّ أكثر تلك الأمور التي نعتبرها علمًا، ونشير إليها في محاوراتنا على أنّها علم وقطع لا تتجاوز الحدس في واقع الحال، وليس لها أيّ أساس علمي أو منطقي؛ وهذا أمر مهمٌّ يجب الالتفات إليه. فلماذا يجب أن يُبتلى الإنسان بهكذا مصيبة؟ وهي أن يقوم بوضع الأمور المبنيّة على الظنّ والتخيّلات مكان تلك المبنيّة على العلم، ويُنزّل من مقام العلم؛ فالأمور المبنيّة على: «أظنَّ أنَّ الأمر هكذا، أو لعلّه يكون هكذا، أو أعتقد أنَّه هكذا، أو يُحتمل أن يكون كذلك!» لا تعالج المشكلة ولا تُوصِل الإنسان إلى النتيجة المرجوّة. فأنت تخطأ يا هذا عندما تقول: «أعتقد بأنَّ معنى هذه الآية هو كذا»؛ لأنّ المسألة لن تنحلّ بهذه الطريقة، بل إمّا أن تقول: «أقطع بكون الأمر على هذا الشكل»، وإلاّ فلا تتكلّم. كما إنَّك إن قلت: «أحتمل أن يكون الأمر بهذا الشكل»، فستكون قيمة كلامك بحدود ما تحتمله؛ فلماذا يُبتلى الإنسان بهكذا مصيبة؟! وذلك بأن يجعل أساس حياته ومنهجه وعلاقاته مع الآخرين مبنيّة على الحدس.
إنَّ أولياء الله والعظماء يدعوننا دائمًا لأن يكون مسيرنا مبنيًّا على العلم؛ فخطوة واحدة تخطوها وهي مبنيّة على العلم، تكون أفضل من ألف خطوة مبنيّة على أساس الحدس والظنّ؛ لأنّه من غير المعلوم إن كان السير وفقًا للظنَّ سيُوصل المرء إلى هدفه الذي يبتغيه أم لا، علاوة على أنَّ هذا الأمر يُؤدّي إلى تعويد النفس على بناء أمورها على أساس الظنّ، وتلك هي مصيبة بحدّ ذاتها! إذ بذلك لن يُمكن للنفس أن تطوي طريق الكمال؛ وهذا يعني بأنَّ ملفها قد غُلق وخُتم.
كنت قد بيّنت للإخوة قبل فترة في أحد مجالس شرح حديث عنوان البصري، بأنَّ طبيعة الناس لم تتغيِّر عمّا كانت عليه في العصور السابقة؛ وذلك خلافًا لما يُقال هذه الأيّام بأنَّ المخّ قد تبدّل عمّا كان عليه في السابق، وأنّ جزيئات خلايا الجسم قد اختلفت عمّا كانت عليه. فلو فرضنا بأنَّ مخّ الإنسان كان يزن ثمانمائة غرامًا قبل ألف وأربعمائة عامًا، فقد أصبح وزنه اليوم ألفًا ومائتين أو ثلاثمائة غرامًا؛ أي أنَّه قد انتفخ، وكبرت الرؤوس عمّا كانت عليه! لا يا عزيزي! فوزن المخّ لم يتغيّر، ولم تتغيّر طبيعة البلازما وكريات الدّم الحمراء أو البيضاء أو خلايا الجسم عمّا كانت عليه؛ وكذا الأمر بالنسبة إلى بقيّة الأعضاء كالفم والأنف والحاجب والشعر.

    

التطوّر التقني للإنسان لم يلازمه تطوّر في الفهم والأخلاق

كما أنَّ مستوى تفكير الناس وإدراكهم لم يترقّ عمّا كان عليه في تلك الأزمنة، [فلم يحصل أيّ رقيّ في] ذلك الفهم الذي يعمل على توفير السعادة لأفراد المجتمع، وإخراج النفس من التوغّل في الكثرات وحبّ الدنيا ودفعها لطيّ طريق الكمال [بل كلّ ما تغيَّر هو نوع الوسائل المستخدمة]، فقد كانوا يتقاتلون بالسيوف والرماح من أجل نيل المال والمنال والسيطرة وغصب أحدهم مال الآخر، واليوم يسعون لتحقيق نفس تلك النيّة وذلك الهدف المشؤوم بوسائل وآلات أكثر خطرًا وتخريبًا وتدميرًا وإهلاكًا للنفوس؛ فلم يتغيَّر في الأمر أيّ شيء. ولقد كانوا يتوسّلون في السابق بأيّة حيلة وتهمة وبهتان من أجل الوصول إلى السلطة والرئاسة وبقيّة المناصب الدنيوية، وأمّا اليوم، فها أنتم ترون وتسمعون بأنفسكم كيف أنَّهم لا يتوانون عن توجيه أيّة تهمة من أجل الوصول إلى المناصب؛ وإن كانوا يمتنعون عن فعل ذلك في بعض الأحيان، ويعملون على مراعاة بعض الموازين، فذلك لخوفهم من العواقب المترتّبة عليها؛ فهم يراعون بعض الحدود، لعلمهم بما سيتبع ذلك من عواقب، ولخوفهم من احتمال رجوع السهم نحو نحورهم، وإمكان حدوث ما لم يكن في الحسبان، وإلاّ فتلك الأهداف والنوايا الخبيثة موجودة في نفوسهم الآن أيضًا. ولقد كانوا يتوسّلون بأيّة طريقة، فيأسرون بريئًا من أجل الوصول إلى هدف ما، وها هو نفس الأمر يحصل اليوم، بل ويفوقه بمئات وآلاف وملايين المرّات.. ألا يحصل ذلك اليوم؟! يخجل الإنسان في الواقع من شرح ما يحصل في هذا العالم اليوم؛ فترى أحدهم يسمح لنفسه بارتكاب كلّ تلك الجنايات وذلك الفساد من أجل الوصول إلى مطامعه الدنيويّة.
أفيكون الإنسان قد تطوّر والحال هذه؟! وما هو هذا الترقيّ الذي حصل خلال هذه الألف وأربعمائة سنة أو السبعة آلاف سنة من عهد آدم لحدّ الآن؟ فما الذي حصل؟ وأين هو الشرف؟ وأين هو الحياء؟ وأين هو ذلك الخجل؟ فما هو مقدار الترقّي الذهني الذي قد حصل خلال سبعة آلاف سنة لذلك الإنسان البالغ من العمر الثلاثين أو الأربعين عامًا والذي يتظاهر في الشوارع أمام أنظار الآخرين وهو عريان كما ولدته أمّه؟!! فذلك ممّا لا يفعله حتّى الحيوان! فللحيوان شعور وحياء وهو يراعي بعض الأمور، وله غيرة، وأنتم تستطيعون القراءة في الكتب عن غيرة الطيور وبعض الحيوانات.
فيصل الحال بهذا الإنسان الذي استحقّ مقام الخلافة الإلهيّة إلى الدرجة التي ينحطّ بها من حيث القيمة والفضائل الأخلاقيّة إلى ما دون مرتبة الحيوانات؛ فهل يُقام لهكذا إنسان وزن؟!! وهل هذا الإنسان هو الذي يجب أن تُسنّ له قوانين جديدة؛ لأنّ تلك القوانين التي تمّ تشريعها قبل ألف وأربعمائة سنة لم تعُد صالحة لحياته؟!! أفيُمكن مقارنة هذا الإنسان الذي انعدم عنده الإحساس وأصبح كالحيوان بذلك الإنسان الذي تفتّح ذهنه وتنوَّر فكره واكتسب بصيرة في أمره؟! فهؤلاء الذين يقومون بهذه الأفعال لم يأتوا من القمر، بل هم أناس وُلدوا على هذه الأرض، وهم يعيشون بيننا ولم يجلبوهم من القمر؛ فما الذي أدَّى بهم إلى هذا؟ إنَّ السبب في ذلك يعود إلى انعدام المعرفة وقلّة الفهم، فلا فرق عندها بين الحيوان والإنسان.. ذلك الإنسان الذي له قابليّة نيل مقام الخلافة الإلهيّة، والذي يستطيع الوصول إلى المرتبة التي أمر الله الملائكة أن تسجد له؛ فهل فكّرنا بهذا الأمر لحدّ الآن؟
فعندما ننظر إلى حالنا الآن، ما هي الميزة التي نراها لأنفسنا في مقابل الملائكة؟ فهل إنَّ عقولنا أفضل من عقولهم؟ أم تديّننا، أم تقوانا هو الأكثر؟ وهل نحن مثل أولئك الملائكة المقرّبين، والذين هم قطعة من العقل والنور والعظمة والبهاء، والذين هم: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[1]، وهم المدبّرات، والذين يعملون بأمر الله، والذين لا يتخطّون الوظائف الموكلة إليهم قيد شعرة؟ فإن لم يكن الأمر كذلك، فلماذا أمرهم الله بالسجود لنا؟ فهل كان ذلك لما نقوم به من هذه الأعمال؟ إنَّ الملائكة لا ينظرون لنا أصلاً بسبب ذلك، ولا يجب أن يُعيروننا أيّ اهتمام! فما هو السرّ الكامن في هذا الأمر؟! فأولئك الذين يعملون [تلك الأعمال الشنيعة] قد وُلدوا على هذه الأرض من آدم وحوّاء؛ فلماذا يأمر الله الملائكة بالسجود لذلك الذي لا قيمة لحياته، ولو بمقدار حياة الذبابة أو البعوضة إذا ما قورن بالملائكة؟ وعليه، لا يمكن أن يكون الطريق الذي رسمه الله للإنسان هو هذا الذي نشاهده.

    

السبب في عدم تنازل أمير المؤمنين عليه السلام عن الحقّ وتوافقه مع الظالمين

لقد عمل أمير المؤمنين عليه السلام على تحقيق الفعليّة لتلك القابليّة التي وضعها الله في نفس الإنسان، والتي من أجلها أمر الملائكة بالسجود له عندما قال: {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحي‏ فَقَعُوا لَهُ ساجِدينَ}[2]؛ فلم يضع أمير المؤمنين إحدى يديه على الأخرى في هذه الدنيا، ولم يُمض حياته بهذا الشكل، وهو مسرور بكونه يمتلك ذلك المقام المعلوم، بل جعل مسيره في هذه الحياة على هذا الأساس؛ وحسب حسابًا لكلّ حركاته وسكناته، ولكلّ كلمة تصدر منه، وما يجب قوله وما لا يجب، ولكيفيّة تعامله مع الآخرين، ولم يتهرّب من المشاكل مثل أولئك الذين فرّوا من المعركة، ولم يعودوا إلاّ بعد ثلاثة أيّام من انتهاء الحرب، وبعد أن أرسلوا منْ يتأكّد لهم من عودة الأمن إلى المنطقة، بل كان يتواجد قرب النبيّ ويدافع عن حريمه، وكان يُبرمج أوقات عبادته وعلاقاته وأموره الشخصيّة والاجتماعيّة.
لقد كان بإمكان أمير المؤمنين الحيلولة دون وقوع ما وقع في مثل هذه الليلة؛ فعندما تولّى الخلافة، كان بإمكانه التوافق مع طلحة والزبير؛ فلماذا تعامل معهم ذلك التعامل وهو يعلم ما الذي سيحصل من جرّاء ذلك؟ فلماذا لم يتّفق معهم؟ ولماذا لم يعمل على كسب ودّهم؟ فلو كان قد فعل ذلك، لما حصل ما حصل في تلك الليلة. فلو كان أمير المؤمنين قد توافق مع طلحة والزبير وعائشة، لصنعوا له تمثالاً من ذهب ووضعوه في جميع الساحات، ولما بقي له عدوّ، ولما أُرسلت الرسائل إلى هنا وهناك؛ فقد كانت عائشة تكتب في رسائلها: من عائشة زوجة رسول الله وأمّ المؤمنين إلى فلان وفلان.. تدعوهم فيها إلى نصرة الحق؛ أيّ حقٍّ هذا؟ إنَّه قُتل عثمان مظلومًا، وعلى عليٍّ تسليم القتلة للقصاص منهم. وما علاقة الأمر بك يا عائشة؟!! فلو فرض بأنَّ عليًّا هو الذي قتل عثمانًا، فما هي علاقتك بهذا الأمر؟ وما هي الصلة التي تربطك بعثمان، ألم تكوني العدوّ اللدود لعثمان؟! ألم تسبّيه في حياته؟!
نعم، هذا هو حال الناس! ولنا في كلّ قضيّة وقعت في التأريخ عبرة، وعلينا الاستفادة منها لتصحيح مسارنا؛ فنحن مثلهم.. نعم، أقسم بالله، وتالله، وبروح أمير المؤمنين بأنَّنا مثل أولئك الذين اجتمعوا كالبقر يتفرّجون على من قام بحرق باب بيت أمير المؤمنين وتمزيق جسد بنت رسول الله! نعم، نحن مثلهم، ولا نفرق عنهم شيئًا! فكانوا يشاهدون بأنفسهم كيف جمع القومُ الحطب من أجل إحراق بيت أمير المؤمنين [غير أنَّ لسان حالهم كان يقول:] «ما لنا ولهم، فنحن نؤدّي صلاتنا وصيامنا؛ على أنّهم ما كان لهم أن يقوموا بذلك، ثمّ إنَّ في عليّ شدّة، فما كان يُفترض به أن يتشدّد، فما دام الناس قد رضوا بذلك، فاقبل أنت كذلك ولا تعترض، وتعال وشارك في صلاة الجماعة بإمامة أبي بكر!»
هذا هو حال الكثير من الناس في ذلك الوقت، وهم ليسوا من أولئك الذين يشربون الخمر؛ فكان هذا هو موقف الناس من أمثال أبي موسى الأشعري وسعد بن أبي الوقّاص؛ فكان أولئك القوم يطرحون موضوع عدم مصلحة في إيجاد الفرقة، وضرورة التصالح فيما بينهم والعيش بأخوّة.
فكان بوسع أمير المؤمنين أن يفعل ذلك، وكان بإمكانه أداء صلاته وصيامه وقراءة القرآن والذهاب إلى المسجد والاقتداء بهم في الصلاة؛ وإن لم يكن ذلك يوميًّا؛ فقد كان يستطيع الذهاب مرّة في الأسبوع لإثبات عدم مخالفته لهم.. نعم، كان يُمكنه فعل ذلك، فلماذا لم يفعله؟ لأنَّه لو كان قد فعل ذلك، لما وصل إلى هذا المقام. ولماذا لم يُوادع معاوية؟ فلو كان قد وادع معاوية، وقال: ليحكم معاوية في الشام، فلا شأن لي به، ثم سأقوم بنصيحته وأمره بالاستقامة وعدم ارتكاب المزيد من الجنايات، وأقول له: ها أنا قد اتخذت من الكوفة مقرًّا لي، ولا شأن لي بما تفعل. فلماذا قال أمير المؤمنين: لا أستطيع أن أبقي هكذا رجل على رأس حكومة الشام ولو لساعة واحدة؟ ولماذا يكون أمير المؤمنين على هذه الشاكلة؟ ولماذا يكون معدنه هكذا؟ ولماذا لا نكون نحن كذلك؟ علينا أن نفكِّر في هذا الأمر.
ألم يأته المغيرة بن شعبة، ويقل له: إنَّه من المبكّر أن تتّخذ هكذا موقف من معاوية، فأسألك الله أن تدعه في منصبه حتّى يستحكم لك الأمر؛ فمتى ما بايعك الجميع، واستقرّت أركان حكومتك، وامتدّت جذورها في القلوب، واستتبّ لك الأمر، فقم آنذاك بعزله، وسوف لن يحصل عندها أيّ شيء. ألم يكن بإمكان أمير المؤمنين أن يفعل ذلك؟ لقد قال أمير المؤمنين: لا يمكنني فعل ذلك! أتعلمون لماذا؟ من يستطيع الإجابة فهو ــ على قول المرحوم العلاّمة ــ ملك الإفرنج[3]؛ فقد كان المرحوم العلاّمة يقول لنا: من يستطيع الإجابة على سؤالي فهو ملك الإفرنج!!! فما هو الجواب على هذا السؤال؟ ومن منكم سيكون ملك الإفرنج؟ لا يريد أحد منَّا أن يكون كذلك!!! [الجواب هو:] لم يكن أمير المؤمنين يرى نفسه؛ فهذا هو سرّ المسألة، ولا غير.
ألم أقل ذلك قبل مدّة؟ ألم تسمعوا حديثي عندما تكلّمت قبل فترة في طهران؟ إنَّ ما أريد أن أقوله الليلة من الأهمّية بحيث يجب عليكم الدقّة في الاستماع، لكي يتّضح لنا السبب الكامن وراء استقبال أمير المؤمنين لما حدث في مثل هذه الليلة؛ فهو قد تقبّل هذا الأمر بصدر رحب، ولا يمكن القول بأنَّه لم يكن يعلم بما سيحصل له، [وكان لسانه حاله يقول:] وما أدراني بما سيحصل، فلقد كنت في حال الصلاة، وإذا بسيف ينزل على رأسي من الخلف.. كلاّ، ليس الأمر كذلك! بل هو الذي استقبل ما حصل، وهو الذي كان يُصرِّح بهذا الأمر لهذا وذاك؛ فكم كان عليه أن يكرّر أمر مقتله في تلك الليلة؟! ومع هذا تجد من ينكر هذا الأمر، ويبدو بأنَّ إنكار الحقائق أمر يسيرٌ على هؤلاء القوم؛ فإن قلت لهم بأنَّ هذا المصباح مُضيئ، لقالوا لك: بل هو منطفىء.

    

لقد عمل أمير المؤمنين عليه السلام على تحقيق الفعليّة لتلك القابليّة التي وضعها الله في نفس الإنسان، والتي من أجلها أمر الملائكة بالسجود له عندما قال: ﴿وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحي‏ فَقَعُوا لَهُ ساجِدينَ﴾ ؛ فلم يضع أمير المؤمنين إحدى يديه على الأخرى في هذه الدنيا، ولم يُمض حياته بهذا الشكل، وهو مسرور بكونه يمتلك ذلك المقام المعلوم، بل جعل مسيره في هذه الحياة على هذا الأساس؛ وحسب حسابًا لكلّ حركاته وسكناته، ولكلّ كلمة تصدر منه، وما يجب قوله وما لا يجب، ولكيفيّة تعامله مع الآخرين، ولم يتهرّب من المشاكل مثل أولئك الذين فرّوا من المعركة، ولم يعودوا إلاّ بعد ثلاثة أيّام من انتهاء الحرب، وبعد أن أرسلوا منْ يتأكّد لهم من عودة الأمن إلى المنطقة، بل كان يتواجد قرب النبيّ ويدافع عن حريمه، وكان يُبرمج أوقات عبادته وعلاقاته وأموره الشخصيّة والاجتماعيّة.
لقد كان بإمكان أمير المؤمنين الحيلولة دون وقوع ما وقع في مثل هذه الليلة؛ فعندما تولّى الخلافة، كان بإمكانه التوافق مع طلحة والزبير؛ فلماذا تعامل معهم ذلك التعامل وهو يعلم ما الذي سيحصل من جرّاء ذلك؟ فلماذا لم يتّفق معهم؟ ولماذا لم يعمل على كسب ودّهم؟ فلو كان قد فعل ذلك، لما حصل ما حصل في تلك الليلة. فلو كان أمير المؤمنين قد توافق مع طلحة والزبير وعائشة، لصنعوا له تمثالاً من ذهب ووضعوه في جميع الساحات، ولما بقي له عدوّ، ولما أُرسلت الرسائل إلى هنا وهناك؛ فقد كانت عائشة تكتب في رسائلها: من عائشة زوجة رسول الله وأمّ المؤمنين إلى فلان وفلان.. تدعوهم فيها إلى نصرة الحق؛ أيّ حقٍّ هذا؟ إنَّه قُتل عثمان مظلومًا، وعلى عليٍّ تسليم القتلة للقصاص منهم. وما علاقة الأمر بك يا عائشة؟!! فلو فرض بأنَّ عليًّا هو الذي قتل عثمانًا، فما هي علاقتك بهذا الأمر؟ وما هي الصلة التي تربطك بعثمان، ألم تكوني العدوّ اللدود لعثمان؟! ألم تسبّيه في حياته؟!
نعم، هذا هو حال الناس! ولنا في كلّ قضيّة وقعت في التأريخ عبرة، وعلينا الاستفادة منها لتصحيح مسارنا؛ فنحن مثلهم.. نعم، أقسم بالله، وتالله، وبروح أمير المؤمنين بأنَّنا مثل أولئك الذين اجتمعوا كالبقر يتفرّجون على من قام بحرق باب بيت أمير المؤمنين وتمزيق جسد بنت رسول الله! نعم، نحن مثلهم، ولا نفرق عنهم شيئًا! فكانوا يشاهدون بأنفسهم كيف جمع القومُ الحطب من أجل إحراق بيت أمير المؤمنين [غير أنَّ لسان حالهم كان يقول:] «ما لنا ولهم، فنحن نؤدّي صلاتنا وصيامنا؛ على أنّهم ما كان لهم أن يقوموا بذلك، ثمّ إنَّ في عليّ شدّة، فما كان يُفترض به أن يتشدّد، فما دام الناس قد رضوا بذلك، فاقبل أنت كذلك ولا تعترض، وتعال وشارك في صلاة الجماعة بإمامة أبي بكر!»
هذا هو حال الكثير من الناس في ذلك الوقت، وهم ليسوا من أولئك الذين يشربون الخمر؛ فكان هذا هو موقف الناس من أمثال أبي موسى الأشعري وسعد بن أبي الوقّاص؛ فكان أولئك القوم يطرحون موضوع عدم مصلحة في إيجاد الفرقة، وضرورة التصالح فيما بينهم والعيش بأخوّة.
فكان بوسع أمير المؤمنين أن يفعل ذلك، وكان بإمكانه أداء صلاته وصيامه وقراءة القرآن والذهاب إلى المسجد والاقتداء بهم في الصلاة؛ وإن لم يكن ذلك يوميًّا؛ فقد كان يستطيع الذهاب مرّة في الأسبوع لإثبات عدم مخالفته لهم.. نعم، كان يُمكنه فعل ذلك، فلماذا لم يفعله؟ لأنَّه لو كان قد فعل ذلك، لما وصل إلى هذا المقام. ولماذا لم يُوادع معاوية؟ فلو كان قد وادع معاوية، وقال: ليحكم معاوية في الشام، فلا شأن لي به، ثم سأقوم بنصيحته وأمره بالاستقامة وعدم ارتكاب المزيد من الجنايات، وأقول له: ها أنا قد اتخذت من الكوفة مقرًّا لي، ولا شأن لي بما تفعل. فلماذا قال أمير المؤمنين: لا أستطيع أن أبقي هكذا رجل على رأس حكومة الشام ولو لساعة واحدة؟ ولماذا يكون أمير المؤمنين على هذه الشاكلة؟ ولماذا يكون معدنه هكذا؟ ولماذا لا نكون نحن كذلك؟ علينا أن نفكِّر في هذا الأمر.
ألم يأته المغيرة بن شعبة، ويقل له: إنَّه من المبكّر أن تتّخذ هكذا موقف من معاوية، فأسألك الله أن تدعه في منصبه حتّى يستحكم لك الأمر؛ فمتى ما بايعك الجميع، واستقرّت أركان حكومتك، وامتدّت جذورها في القلوب، واستتبّ لك الأمر، فقم آنذاك بعزله، وسوف لن يحصل عندها أيّ شيء. ألم يكن بإمكان أمير المؤمنين أن يفعل ذلك؟ لقد قال أمير المؤمنين: لا يمكنني فعل ذلك! أتعلمون لماذا؟ من يستطيع الإجابة فهو ــ على قول المرحوم العلاّمة ــ ملك الإفرنج ؛ فقد كان المرحوم العلاّمة يقول لنا: من يستطيع الإجابة على سؤالي فهو ملك الإفرنج!!! فما هو الجواب على هذا السؤال؟ ومن منكم سيكون ملك الإفرنج؟ لا يريد أحد منَّا أن يكون كذلك!!! [الجواب هو:] لم يكن أمير المؤمنين يرى نفسه؛ فهذا هو سرّ المسألة، ولا غير.
ألم أقل ذلك قبل مدّة؟ ألم تسمعوا حديثي عندما تكلّمت قبل فترة في طهران؟ إنَّ ما أريد أن أقوله الليلة من الأهمّية بحيث يجب عليكم الدقّة في الاستماع، لكي يتّضح لنا السبب الكامن وراء استقبال أمير المؤمنين لما حدث في مثل هذه الليلة؛ فهو قد تقبّل هذا الأمر بصدر رحب، ولا يمكن القول بأنَّه لم يكن يعلم بما سيحصل له، [وكان لسانه حاله يقول:] وما أدراني بما سيحصل، فلقد كنت في حال الصلاة، وإذا بسيف ينزل على رأسي من الخلف.. كلاّ، ليس الأمر كذلك! بل هو الذي استقبل ما حصل، وهو الذي كان يُصرِّح بهذا الأمر لهذا وذاك؛ فكم كان عليه أن يكرّر أمر مقتله في تلك الليلة؟! ومع هذا تجد من ينكر هذا الأمر، ويبدو بأنَّ إنكار الحقائق أمر يسيرٌ على هؤلاء القوم؛ فإن قلت لهم بأنَّ هذا المصباح مُضيئ، لقالوا لك: بل هو منطفىء.

فما الذي حدث في حرب صفِّين؟ حيث بيّنت هذا الأمر للأخوة قبل عدّة مجالس عند شرح حديث عنوان البصري؛ فلقد عمِد معاوية عن طريق التحايل إلى إغلاق شريعة الماء على جيش أمير المؤمنين من أجل إرهاقهم. وقد زرت الموقع الذي حصلت فيه حرب صفّين، في منطقة تسمّى بالرقّة تبعد عن مدينة حلب بحوالي مائتي كيلومتر، حيث يمرّ من هناك نهر الفرات قادمًا من تركيا ومنتهيًا بالعراق؛ فتلك الأرض مليئة بأجساد الشهداء من أصحاب أمير المؤمنين، حيث يوجد هنالك بناية عظيمة لعمّار بن ياسر وأويس القرني وأبيّ بن كعب على الظاهر، حيث إنَّ جلالة عمّار وأويس على الخصوص واضحة وعجيبة.
فبادر معاوية هناك إلى إغلاق شريعة الماء. [فحصلت مشكلة لجيش أمير المؤمنين] فالجيش بحاجة إلى الماء وكذلك الخيول، فحاجة المرء للماء كحاجته للهواء، حيث سيحصل له الإرهاق والإعياء بدونه؛ فرأى أمير المؤمنين بأنَّ الأمر لا يمكن أن يستمرّ على هذا المنوال، كما اشتكى إليه جيشه الحال، فقال لهم: أنا لا أريد أن أبدؤهم بالقتال، فقالوا له: إنَّ وضع الجيش بدأ يصل إلى حدّ الإرهاق، وسيتغلّبون علينا [إن قاموا بالهجوم]. فقام عندها أمير المؤمنين بإرسال جماعة من الجيش بإمرة الإمام الحسين.. إنَّ هذا الأمر محسوب له الحساب، فلا بدّ من أن يتمّ ذلك بقيادة الإمام الحسين! فهجم عليهم سيِّد الشهداء، وما هي سوى لحظات حتّى مزّقهم، واستولى على الشريعة، وقطع الطريق على جيش معاوية من الوصول إلى الماء؛ فجاء الدور إلى جيش أمير المؤمنين للاستيلاء على شريعة الماء، فقال له جيشه: لا نسمح لهم بالشرب من الماء وسنفعل بهم كما فعلوا بنا، فقال لهم أمير المؤمنين: هذا ليس من ديدننا.
كنت قد بيّنت هذا الأمر للإخوة في ذلك الوقت وهو: لو كان أمير المؤمنين قد فعل ذلك، فبأيّ نيّة يكون قد فعله؟ وما هو الهدف المقدّس الذي يبتغيه أمير المؤمنين [من وراء هذا العمل]؟ فلا يمكن أن يكون هدفه من إسقاط حكومة معاوية هو ترويج لعب القمار، وبيع وشرب الخمور، ونشر أماكن اللهو واللعب، ودعوة النساء إلى السفور والخروج متبرّجات، ونشر الفساد هناك، بل كان سيعمل على استتباب الأمن، ونشر العدل، ودعوة الناس إلى الله؛ فهو أمير المؤمنين وليس بيزيد؛ فلو كان أمير المؤمنين قد فعل ذلك، وسبّب لهم المتاعب والحرج، أكان سيصل إلى هدفه، أم لا؟ قولوا بأجمعكم؟ نعم، سيصل إلى هدفه. فكلّ ما كان ينويه معاوية من شرّ بحقّ أمير المؤمنين، كان أمير المؤمنين سيفعله بحقّه، مع هذا الفارق وهو: إنَّ نيّة معاوية كانت نيّة شيطانيّة، وهو يريد الوصول إلى السلطة بأيّ ثمن كان، كما قال ذلك هو بنفسه عندما وضع وثيقة صلحه مع الإمام الحسن تحت قدميه وقال: إنِّي واللهِ مَا قَاتَلْتُكُمْ لِتُصَلُّوا ولَا لِتَصُومُوا ولَا لِتَحِجُّوا ولَا لِتُزَكُّوا! إنَّكْمْ لَتَفْعَلُونَ ذَلِكَ! إنَّمَا قَاتَلْتُكُمْ لأتَأمَّرَ عَلَيْكُمْ وقَدْ أعْطَانِي اللهُ ذَلِكَ وأنْتُمْ كَارِهُونَ‏[4]. وهذا هو عين ما يجري في العالم هذا اليوم؛ فما هو الأساس الذي تُبنى عليه الحكومات القائمة في العالم هذا اليوم؟ وما هو الأساس الذي يُبنى عليه قبول تصويت الآخرين؟ فهل يتمّ سؤال من يقوم بالتصويت لأجل انتخاب رئيسًا للجمهورية فيما إن كان قد صلّى صلاة الليل الليلة الماضية أم لا؟ إنَّه يقول: تعال وانتخبني، فأنا أقبل انتخابك لي، وإن لم تكن مسلمًا، بل وحتّى وإن كنت كافرًا، فأنا أقبل انتخابك؛ لأنَّ هدفي هو الوصول للرئاسة، ولا شأن لي بصلاتك، فإن شئت، فلا تصلّ حتّى آخر عمرك، فكلّما أريده منك هو صوتك الانتخابي؛ فلا شأن لي بكونك شيعي أو سنّي أو مسيحي، بل كلّ ما يهمّني هو حضورك الانتخابات وإعطائي صوتك! هل فهمتم الأمر؟

    

عدم اهتمام أمير المؤمنين عليه السلام بكثرة الأتباع

أمّا أمير المؤمنين فلم يكن كذلك، بل كان يقول: إن كنت تريد انتخابي، فيجب عليك أن تكون من المصلّين، وإلاّ فلا قيمة لصوتك عندي.. هكذا كان عليّ! فعندما تأتي إلى مسجدي وتأتمّ بي في صلاتك، فلا تعتقد بأنَّني قد سررت بوقوفك هذا، ولا تعتقد بحصول تغيير في حالي إذا ما اصطفّ خلفي صفّان للصلاة بدلاً من الصفّ الواحد.. إنَّ ذلك لا يعنيني بشيء أبدًا، فصلّ في بيتك بدلاً من قدومك للمسجد! وهكذا كان المرحوم العلاّمة، فكان يقف للصلاة في المحراب في أوّل وقت صلاة الظهر، سواء حضر أحد للصلاة أم لم يحضر؛ ولقد كان تجّار المنطقة يعترضون عليه ويقولون: لولا أخرّت الصلاة قليلاً! فكان جوابه: أنا أؤدّي الصلاة لوقتها، وبعد أن يُرفع بيننا الآذان، سواء حضر أحد للصلاة أم لم يحضر؛ فإن شئت المشاركة في الصلاة، فعليك غلق محلّك مبكرًا. ولقد كنت أرى بنفسي كيف أنَّ عدد المأمومين يكون خمسة أو ستّة أفراد في بعض الأحيان، وعند صلاة العصر يصبح العدد عشرين، ثلاثين أو أربعين فردًا. ولقد تمّ الاعتراض عليه مرارًا، وكان يُقال بأنَّ في زيادة العدد إظهار لعظمة المسلمين وجلالهم، وتعظيم لهذه الشعيرة؛ فوجدوا بأنَّ هذا الرجل لا يتأثّر بما يُطرح عليه من آراء في هذا المجال، فكان يقول بأنَّ هذه الكلمات لا تعنيني بشيء، فقد مرّت عليَّ سابقًا، وأصبحت خبيرًا بها عندما كنت أدرس في قمّ والنجف، فلا تعيدوا عليّ هذه الكلمات، فأنا أصلّي صلاة الظهر لوقتها، ولا أتراجع عن ذلك، فهل استوعبتم الأمر، أم لا؟ فكلّ ما تطرحونه من أمر كثرة عدد المصلين، وتعظيم الشعائر، فهذا من شأنكم ولا يعنيني بشيء!
أفلا تلاحظون الآن عدد المصلين الذين يجتمعون في المسجد الحرام لأداء صلاة التراويح في هذا الشهر؟! أفعددهم يكون أكبر أم عدد المصلّين الذين يتواجدون في مساجدنا؟ فيجتمع في المسجد الحرام أكثر من مليون مصلّي، ولكن أيّة صلاة هذه التي يصلّونها؟ إنّها صلاة مع استدبار القبلة واستقبال الشيطان؛ لماذا؟ لأنَّها تتمّ على غير ما كان رسول الله قد أمر به. فعلى الرغم من وقوفهم مقابل الكعبة ــ ولقد رأيت ذلك بنفسي في سفري الأخير إلى مكّة ــ واهتمامهم بأمر الحضور للصلاة، فيتركون منازلهم ويستقلّون سيّاراتهم من أجل الوصول إلى المسجد، فهم يعطونها من الأهمية ما يفوق الصلاة المكتوبة، إلاّ أنَّهم يستدبرون الكعبة في حقيقة الأمر! فهم متوجّهون إلى الكعبة حسب الظاهر، ولكنّهم يستدبرونها بحسب الباطن؛ ولذا ترى صلاتهم تبعث على الكدورة، ولقد لمس ذلك الكثير من الأصدقاء الذين حضروا هناك، فما إن تبدأ الصلاة، حتّى تتكدّر النفوس، وذلك لأنَّ هذه الصلاة تُؤدَّى خلافًا لما كان رسول الله قد أمر به؛ حيث أمر بأداء صلاة التراويح فرادى، فلا يحقّ لك حينئذ أن تؤدّيها جماعة.. أفهل أنت من جاء بهذا الدين؟ وما شأنك بهذا الأمر؟ لقد كان عمر يسعى وراء الأبّهة، ووراء كثرة المصوّتين، وأنا لا أقول ذلك من عندي، بل هذا ما سمعته من المرحوم العلاّمة، وها أنا أنقله إليكم؛ فقد كان عمر يسعى وراء كثرة العدد، ولم يكن يسعى لإيجاد مصلِّين؛ ولهذا السبب تراه يستبدل عبارة «حيَّ على خير العمل» بعبارة «الصلاة خير من النوم». ففي الوقت الذي كان يدعو فيه رسول الله الناس إلى التعجيل والإسراع نحو خير الأعمال، ترى عمر يقول: لو فعلنا ذلك، فسيُقبِل الناس على الصلاة ويتركوا الحرب. فما كان يبحث عنه عمر هو فتح البلدان، وزيادة العدد بحيث تملأ العيون، وزيادة الأصوات التي تصمّ الآذان، والأبهّة والعظمة الجوفاء الفارغة؛ فانظروا ماذا وضع هذا الرجل الأحمق المجنون من عبارة! إنَّه استحدث عبارة الصلاة خير من النوم.. جُعلتَ فداءً لعمّتي على فعلك هذا يا عمر! فقد عمل على جعل ذلك الذكر الذي تنزّل من ذلك المكان الرفيع على أنَّه أفضل من النوم ليس إلاّ؛ فانهضوا للصلاة والركوع والسجود لإظهار عظمة الإسلام.

    

قصّة أويس القرني مع عمر

فهؤلاء القوم يؤدّون الصلاة الآن، غير أنَّ صلاتهم تبعث على تكدّر النفس، ثمّ إنَّ هذه الصلاة ليس فقط لا تقرّبهم إلى الله، بل وستكون سببًا لعقابهم يوم القيامة؛ فيخسرون في كلا الجانبين. [فسيتعرّضون للمساءلة] لماذا لم تعملوا بما أمرتكم به؟ فأنا قلت بأنَّ هذه الصلاة يجب أن تُؤدّى فرادى، فلماذا تؤدّونها جماعةً؟ أفأنتم أشدّ حرصًا على الإسلام أم أنا الله؟ وهل أنتم أشدّ حرصًا أم أنا رسول الله؟ أفلم تكن مثل أيّ واحد من هؤلاء القوم قبل أن تصبح خليفة، يا عمر؟ هذا على فرض قبولنا بتنصيب القوم لك! فلماذا يحصل هذا؟ لأنَّ عمر وضع نفسه في نفس مقام رسول الله وفي مقام الله؛ فلو كان يعرف قدر نفسه، لما اقتصر الأمر على عدم تنصيب نفسه للخلافة، بل لتصرّف كما قال له أويس القرني... إنَّ حالي ليتبدّل حقًّا عندما أذكر اسم أويس القرني! فكم كان شهمًا، وكم كان حرًّا، وكم كان متحرّرًا من الأغلال والقيود!
فقد كان أويس وصل إلى المدينة، فتجمّع الناس حوله، وهم يقولون: هذا هو أويس الذي كان يقول عنه رسول الله بأنَّه يشفع بعدد أغنام قبيلة مضر ـ وذلك يعني بأنَّه لا حدَّ لمقدار شفاعته، كأن تقول مثلاً بسعة هذه الصحراء؛ إذ إنَّ نفسه من السعة بحيث تكون لها القدرة على تطهير كلّ هذا العدد من النفوس وسوقهم إلى الجنّة ـ فجاء وهو يضع شالاً على رقبته، ويلبس رداءً وسروالاً، وبيده كيس فيه لوازم السفر؛ فجاءه عمر المكّار قائلاً له: ادع لي، فقال له أويس: أنا في كلّ صلاة أدعو للمؤمنين والمؤمنات، فإن كنت مؤمنًا، نالك دعائي، وإلاّ فلن أضيّعه؛ أي أنا أدعو الدعاء الذي أعلم بأنَّ الله يستجيبه لي. فتعجّب عمر قائلاً في نفسه: بعد كلّ هذا يأتي من يردّ عليّ كلامي!! فلم يحصل هذا من قبل، فما الذي حصل! فلم يشأ عمر أن تُكسر هيبته، فقد كان ماكرًا، بل ويعدّ من أبرز مكّاري العالم؛ فهو يقوم باللف والدوران، ويُظهر نفسه بمظهر صاحب الحياء والتواضع، فيخدع بعمله هذا أولئك السذّج أشباه الحيوانات. فقال عمر: من يشتري منِّي هذه الخلافة برغيفين من الخبز. فقال له أويس: كم يكون أحمقًا من يشتري هذه الخلافة! فإن كانت الخلافة حقًّا له، فليس لك الحقّ أن تبيعها له، وإن لم تكن من حقّه، فإنّ دفع رغيفين في مقابلها سيكون كبيرًا؛ فهو يستطيع الاستفادة من ذلك الرغيفين لإشباع معدته بدلاّ من ذلك. فإن كانت الخلافة حقًّا لك، فليس لك الحقّ أن تعطيها لغيرك، وإن لم تكن من حقّك، فتنحَّ عنها، ليأتي صاحبها ويتقلّدها. فلم يجد عمر هنا جوابًا وتراجع.. قف مكانك يا عمر، فلماذا تفرّ؟ هل افتضحت؟! نعم، هكذا كان أويس!
فما الذي يريده أمير المؤمنين من ذهابه إلى قتال أهل الشام في صفّين؟ فهل كان يريد تنفيذ نوايا شيطانية؟ كلاّ، بل كان يريد إقامة حكومة العدل في الشام، وإقامة الصلاة، والقضاء على الفحشاء، والمحافظة على الحرمات، ونشر الحجاب والصلاح بين الناس، وأمثال تلك الأعمال التي يقوم بها أمير المؤمنين عادةً؛ فلماذا لم يقم بذلك العمل؟ ألم يكن ذلك هو هدفه؟ فما دمت قد استوليت على الفرات، فلماذا لا تمنعهم الماء؟ فلو أنَّ أحدًا قد سأل أمير المؤمنين عن ذلك، وقال: ها نحن نصل إلى الهدف الذي نرجوه، فلماذا لا تغلق عليهم مصدر الماء؟ لماذا تمتنع وتقول: لا، عليّ أن أعطيه السيف بيده، وأحاربه، فإمّا أنتصر عليه وإمّا لا؟! فماذا سيكون جواب أمير المؤمنين؟ إنَّه كان سيقول: هل أنا عبدٌ لله، أم عبدٌ لنفسي؟ وهل أنَّ عملي لله، أم لشيءٍ آخر؟ فلا قيمة لتلك الحكومة وذلك العدل والأمن والإصلاح الذي سيتحقّق نتيجة لتلك الحرب التي يحصل فيها الخداع والحيلة؛ أي: إنَّ أكبر هدف من الممكن أن نتصوّره في أذهاننا، لا يبلغ عند أمير المؤمنين ثمن قصاصة الورق التي في يده؛ لماذا؟ لأنَّ هذا الهدف يتحقّق الآن عن طريق الحيلة، ولا قيمة لدى أمير المؤمنين لهدف يتحقّق بهذا الشكل؛ فذلك الهدف الذي يكتسب أهميّة لديه هو الهدف الذي تكون جميع خطواته مبنيّة على الصدق والإخلاص؛ فلا مكان هنا لتبرير العمل الخاطئ والمتضمّن للكذب على أنَّه سيقود إلى تحقيق الهدف المطلوب. فما إن وُجدت نيّة كهذه إلاّ وفسد الهدف، فتفسد نتيجة لذلك جميع الأعمال التي يتمّ إنجازها من نشر العدل والأمن؛ فقد يستتبّ الأمن والعدل والصلاح، غير أنَّ هذا الأمن والعدل والصلاح هو أمن وعدل وصلاح فاسد؛ لماذا؟ لكون المقدمة الموصلة له لم تكن مقدمة صالحة وصادقة ونقيّة وخالصة.. فهكذا كان أمير المؤمنين!
وبناءً عليه، أيكون أمير المؤمنين هو الذي اختار ما كان قد وقع في مثل هذه الليلة، أم لا؟ نعم هو الذي اختار ذلك، فالله يقول له: تستطيع منع وقوع هذا الحدث. [هذا فيما يتعلّق بأمير المؤمنين] أمّا نحن، فما الذي علينا فعله؛ أفنكتفي بالقول بأنَّ جرح أمير المؤمنين قد وقع في مثل هذه الليلة؟ فتلك هي حقيقة، فجرحه قد حصل فيها، ولا بدّ للإنسان من مغادرة الدنيا بطريقة أو بأخرى. لقد كان أمير المؤمنين يعلم بما سيقع في هذه الليلة، بل ويعلم بذلك حتّى طيور الإوزّ التي أمسكت بمناقيرها ثيابه وتعالت أصواتها؛ فهذا يعني بأنّها تعلم ما الذي سيحدث هذه الليلة؛ أفلا يعلم ذلك أمير المؤمنين والحال هذه؟!

    

السرّ في اختيار أمير المؤمنين عليه السلام لما وقع في الليلة التاسعة عشرة مع علمه السابق به

فيدخل أمير المؤمنين المسجد ويؤذِّن، ثم يأتي فيجد بن ملجم نائمًا؛ ولمّا كان النائم لا يستطيع تنفيذ المهمّة المطلوبة منه؛ لذا فهو يقوم بإيقاظه.. إنَّه يوقظ قاتله! فيوقظه ويقول له: انهض، فها قد حلّ وقت الصلاة، ولا تنم على بطنك، فهذا هو نوم الشياطين، بل نم على ظهرك، فذلك هو نوم الأنبياء، أو نم على يمينك، فهو نوم المؤمنين، أو نم على يسارك، فهو نوم الحكماء؛ فهو يقوم بإيقاظ قاتله لكي يضربه! تلك هي الأمور التي يجب علينا التدقيق بشأنها، وإلاّ فالإنسان قد يموت أو قد يستشهد، وموته قد يكون نتيجة لسكتة قلبية أو حادث سير أو يسقط حجر على رأسه فيقتله؛ فالإنسان سيغادر الدنيا بطريقة أو بأخرى.
أمّا ما ذكرته هذه الليلة من أنَّ أمير المؤمنين قد اختار الشهادة بنفسه، فهذا يعني بأنَّ أمير المؤمنين يقول: أنا لا شيء، بل أنا مثل الماء الذي في كفّ اليد؛ فإن شئت يا إلهي سكبه في هذا الطرف، فاسكبه، وإن شئت سكبه في ذلك الطرف، فاسكبه.. نعم، كالماء السائل الذي لا اختيار له. فإن قلتَ: لقد اخترت لك أن تُضرب على رأسك بالسيف، فسوف أسعى لتحقيق ذلك بنفسي، وسأُوقظ قاتلي بنفسي. ولقد أيقظه بالفعل، فقال له: قم، فقد حان وقت الصلاة؛ لماذا يفعل ذلك؟ لأنَّه يعلم ما في الأمر. ولو كنَّا مكانه، لكان لزامًا علينا أن نتصرّف نفس تصرّفه؛ أفلا يكون طريق أمير المؤمنين هو نفس طريقنا؟ على أنَّه ليس من الضروري أن نموت بضربة سيف، بل بأيّة طريقة أخرى، غير إنَّه علينا أن نعلم بأنَّ من يختار هذا المسير، فلا يجب عليه أن يتوقّع أنَّ هذا طريق يتمّ فيه توزيع الحلوى؛ أفلم نقرأ في الزيارة: السلام عليك يا ميزان الأعمال؟ أي إنَّ الأعمال يجب أن تكون متوافقة مع عملك؛ أي يجب أن تكون الحرب والصلح على طريقتك، ويجب التعامل مع مجريات الأحداث والوقائع الاجتماعية على نفس نهجك.
فأمير المؤمنين لم يبايع الظالمين، وعندما يجبرونه على البيعة بوضع يده في أيديهم عنوة، يذهب بعدها ليشترك معهم في صلاة الجماعة حفاظًا على المسلمين؛ لأيّ شيء؟ لأجل الحفاظ على الناس، وعلى ذلك العدد المحدود من الأفراد؛ فلو لم يشترك في صلاتهم، فسوف يكون ذلك عاملاً على إثارتهم؛ فيبدأ التساؤل فيما بينهم: ولماذا لم يحضر عليّ إلى الصلاة؟ ألسنا من المصلّين، وهل نفعل شيئًا آخر بحضورنا إلى المسجد غير أداء الصلاة؟ وها نحن نقف في محراب النبيّ لإقامة هذه الصلاة، وها هم الناس يحضرون للصلاة، فلِمَ لا يحضر عليّ مع الناس؟ فتُثار نفوسهم، ويعملون على إيذاء [أصحابه]. فبناءً على مصلحة الإسلام، يحضر عليّ للصلاة معهم، [ولسان حاله يقول:] ها قد غصبتم الخلافة، وقتلتم زوجتي، وعملتم على إسقاط ابني الجنين من بطن أمّه، وعملتم ما عملتم، ومع كلّ هذا فأنا أحضر المسجد للاشتراك معكم في صلاة الجماعة لكي تسعدوا بذلك.. علينا أن نتعلّم ذلك!
فالسرّ الكامن في أمير المؤمنين هو أنَّه لم يكن يرى نفسه؛ وعندما يعود الإنسان لا يرى نفسه، هل سيخاف ويقلق على حياته وعافيته؟ لا، بل إنّ جميع أموره سيقوم بتنظيمها وفقًا للتكليف؛ فإن أخطأ الإنسان في التشخيص، فلا ضير ولا ضرر في ذلك؛ فنحن لا نشبه أمير المؤمنين، ونحن لسنا بمعصومين، والله يتقبّل منّا ذلك؛ فلا ضير في أن يخطأ المرء في تصرّفاته، ولكن بشرط ألاّ يكون ذلك عن عمدٍ؛ فإن أخطأت، فسيقبل الله منك ذلك، بل ويُثيبك عليه، بشرط أن تكون مخلصًا في عملك، فلا يضرّك الخطأ والحال هذه، بل ستُجازى على هذا الخطأ، وسيكون عاملاً على رقيّك وتكاملك.. فما الذي تريده أكثر من هذا؟!

    

معنى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ميزان الأعمال

فهذا هو بحر رحمتي الواسع؛ فإن عملت بشكل صحيح، فسأرفعك به، وإن أخطأت، فسأرفعك كذلك، ولكن بشرط ألاّ تكون معاندًا، وألاّ تغمض عينيك عن الحقيقة، وألاّ تدسّ رأسك في الرمل لكي لا ترى واقع الحال؛ فعندما تريد طيّ هذا الطريق، فاخلع عنك جميع تلك الحجب، وأخلص النيّة فيما بينك وبين الله، فكيف ستتصرّف عندما لا يكون بينك وبين الله ثالث؟ فإن أخطأت في مثل هذا الحال، فلا بأس عليك، وسأقبل منك ذلك بكرمي.
فهذا هو معنى ميزان الأعمال؛ فإن عمل المرء بهذا الشكل، فسيكون جليسي في الجنّة.. هذا هو كلامه عليه السلام؛ فهو يقول: هكذا رجل سيكون جليسي ومخاطبي، وهو معي في غرفتي وفي نفس درجتي؛ علمًا بأنَّهم إن وعدوا، فهم يفون بوعدهم؛ فهم ليسوا مثلنا. فلقد جاء أمير المؤمنين ليدفع العالم للسير في هذا الطريق.
لقد قال أمير المؤمنين في مثل هذه الليلة: فُزتُ. فما معنى فزت؟ إنَّ معناها هو: إنَّني أنجزت ما كُتب لي في صحيفتي خطوة بخطوة ودرجة بدرجةً، حتّى وصل بي الأمر إلى هذه الليلة، حيث خُتم الأمر. فهذا هو معنى فُزتُ، أي أوصلت متاعي إلى المقصد الذي كنت أبتغيه، وقمت بأداء تكليفي المفروض عليّ، ولم تستطع المصالح الدنيويّة وطلب العافية خداعي، ولم تتمكّن نصائح الخنّاسين من حرف مساري، وانصرافي عن طريقي المستقيم ـ لقد بلغت الساعة الثالثة صباحًا وقد تكلّمت كثيرًا ـ نعم، لم تتمكّن تلك النصائح من التأثير عليَّ لتغيير مسيري؛ وها أنا أغادر الدنيا وأنا سعيد ومرتاح البال.

    

سبب تغّير حال أمير المؤمنين عليه السلام في ليلة ضربته

لقد كان لأمير المؤمنين حالات عجيبة في مثل هذه الأيّام الأخيرة، وكان حاله يتغيّر كثيرًا. ولقد سألت المرحوم العلاّمة عن سرّ هذا التغيّر في حال أمير المؤمنين؛ فما دام المرء يسير في مسار معلوم، فما معنى تغيّر الحال إذًا؟ ولقد كنت أشاهد بنفسي تصرّفات المرحوم العلاّمة، وكيف أنَّه كان ينتظر الموت في أيّام مرضه الأخيرة، وكان يقول: لماذا يتأخّر هذا الأمر؟ فقال لي المرحوم العلاّمة: لأنَّ أمير المؤمنين صاحب ولاية، ومغادرته للدنيا تختلف عن مغادرتنا إيّاها، حيث ستعمل مغادرته على زلزلة كلّ العالم؛ فالإمام في حال وداع مع جميع عالم الوجود، والأمر يختلف عنَّا، حيث لا ارتباط لنا بشيء. فهذا التحوّل الذي سيحصل في العالم، وانتقال الولاية، هو الذي يجعل حال أمير المؤمنين يتبدّل هكذا؛ أيّ إنَّ التغيير يحصل الآن في ذلك الارتباط الموجود بين نفسه الشريفة، وبين كلّ الموجودات، وبين الله. ففي مثل هذه الليلة ـ والتي هي ليلة التاسع عشر ـ التي قضاها أمير المؤمنين لدى أمّ كلثوم، كان حاله يتغيّر كثيرًا؛ وعندما كانت تسأله: لماذا حالك هذه الليلة مختلفٌ عن غيرها من الليالي؟ كان يجيبها: لقد اقترب الوعد الإلهي. فحال أمير المؤمنين في ارتباطه مع جميع العالم في حال تغيّر، وهو لم ينم في تلك الليلة، حتّى إذا ما اقترب موعد صلاة الصبح، خرج إلى المسجد وبدأ بصلاة النافلة. ولقد حصلت حادثة جرح أمير المؤمنين بعد الفجر لا قبله، حيث أذّن لصلاة الصبح بعد أدائه النافلة، ثمّ دخل المسجد لأداء نافلة الصبح ـ وليس نافلة الليل ـ ، فحصلت الحادثة عند أدائه لنافلة الصبح.
فكان أمير المؤمنين قد أذّن أذان الصبح، وبعد دخوله المسجد ووصوله عند بن ملجم ـ وكما ذكرت لكم آنفًا ـ أوقظه قائلاً له: انهض، لقد هممت بشيء تكاد السماوات أن يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدًّا؛ فأتمّ الركعة الأولى من نافلة الصبح، ونزل سيف بن ملجم على رأسه في الركعة الثانية؛ فاضطربت السماوات والأرض، وهبّت رياح شديدة؛ وهذا نتيجة للارتباط والتأثير الملكوتي لنفسه الشريفة على عالم الملك؛ ونادى جبرئيل بين السماء والأرض:
تَهَدَّمَتْ واللهِ أرْكَانُ الْهُدَى، وانْطَمَسَتْ واللهِ أعْلَامُ التُّقَى، وانْفَصَمَتْ واللهِ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى؛ قُتِلَ ابْنُ عَمِّ مُحَمَّدٍ المُصْطَفى، قُتِلَ الْوَصِي الْمُجْتَبَى، قُتِلَ عَلِيُّ الْمُرْتَضَى، قُتِلَ واللهِ سَيِّدُ الأوْصِيَاءِ، قَتَلَهُ أشْقَي الأشْقِيَاء[5]
يُقال بأنَّ هذا النداء قد وصل إلى كلّ مكان في الكوفة، وعلم الناس بما حصل، فهرعوا باتّجاه المسجد، فوجدوا أمير المؤمنين على الأرض، وهو يضع التراب على رأسه ويقول: {مِنْها خَلَقْناكُمْ وفيها نُعيدُكُمْ ومِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى}[6].


[1] ـ سورة الأنبياء، الآية 27.

[2] ـ سورة الحجر (15)، الآيات 28 و29.

[3] ـ ملك الإفرنج، مصطلح يطلق في اللغة الفارسية من باب الممازحة على من يفوز في مسابقة. [المترجم]

[4] ـ معرفة الإمام، ج 8، ص 233.

[5] ـ معرفة المعاد، ج 3، ص 198.

[6] ـ سورة طه (20)، الآية 55.

 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع «المتقين». يسمح بإستخدام المعلومات مع الإشارة الي مصدرها


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی