الفيديو المحاضرات سؤال و جواب معرض الصور صوتيات المكتبة اتصل بنا الرئیسیة
  الجمعه  17 رمضان  1445 - Fri  29 Mar 2024
البحوث المنتخبة    
كتاب المتقين    
الرئيسية   أرشيف  > سر الفتوح: القسم الثاني

سر الفتوح: القسم الثاني


______________________________________________________

سر الفتوح: القسم الثاني

 أهمية دراسة الفلسفة

______________________________________________________

وأما فيما يتعلّق بالمطلب الثاني الذي ينتقد فيه علم الفلسفة، فيجب أن نقول:

إنّ هذا أيضاً خطأ كبير واشتباه فاضح. لأنّ أحد أهم أجهزتنا الوجوديّة هو القوّة العاقلة، التي نؤسّس فيها لجميع الأحكام والمسائل التي نواجهها في أمورنا، ونستمدّ منها العون لترتيب القياسات المنطقيّة للعلم بمجهولات لا تعدّ ولا تحصى، وفي هذه الحالة كيف يمكننا أن نعتبر أنّ علم المنطق الذي هو الطريق لترتيب القياسات علم خاطئ؟ وكيف يمكننا أن نقول بأنّ الفلسفة القائمّة على أساس البرهان والمسائل المنطقيّة باطلة؟

إنّ المسائل الفلسفيّة كالمسائل الرياضيّة تماماً؛ حيث تبتني على مقدّمات، وتقوم بترتيب القياسات التي تنتهي إلى البديهيّات، وفي هذه الحالة سيكون إنكارها بمثابة إنكار الضروريّات والبديهيّات.

كما أنّ القضايا الفلسفيّة تختلف عن المسائل التي تحتوي على مقدّمات خطابيّة وشعريّة وعلى مقدّمات تشتمل على المغالطة والمجادلة، بل تضع هذه المقدّمات على أساس البرهان المبني على الوجدانيّات والأوليّات والضروريّات والبديهيّات وغيرها. والآيات القرآنيّة تدعونا إلى التعقّل. فهل التعقّل هو غير ترتيب القياسات؟

يعرّفنا علم الحكمة على حقائق الأشياء، ويطلعنا على سرّ الخلقة وعرفان الباري تعالى شأنه وأسمائه الحسنى وصفاته العليا، كما يوضح لنا مسألة المعاد ونظام التكوين والولاية والربط بين الأزل والأبد، فضلاً عن آلاف المسائل الأخرى المهمّة والحيّة في عالمنا هذا؛ {ومن يُؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً}[6].

وفي الآية عن لقمان: {ولقد آتينا لقمان الحكمة}[7] .

كما أنه ورد في الكثير من الآيات القرآنيّة أنّ الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم قد علّم أمّته الحكمة، كما جاء في الآيتين 164من سورة البقرة والآية 2 من سورة الجمعة: {يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة}.

وأيضاً نرى أنّ الكثير من الروايات التي لدينا مشحونة بأدقّ المسائل العقليّة، فكيف يمكننا، والحال هذه، أن نخوض في هذا البحر اللامتناهي بدون الاطّلاع على المسائل العقليّة؟ وكيف يمكننا أن نفهم المعاني الواردة في أبواب التوحيد وأبواب الفطرة، والقضاء والقدر، والأمر بين الأمرين، والمبدأ والمعاد، وحقيقة الولاية، وكيفيّة ربط المخلوق بالخالق، وغيرها من الأبواب الأخرى المختلفة؟

ومن جهة نرى أنّ رواة أحاديث الأئمّة سلام الله عليهم أجمعين، لم يكونوا متساوين، بل كان لكلّ واحد منهم مرتبة خاصّة ودرجة معيّنة؛ فالروايات المنقولة عن هشام بن الحكم ومؤمن الطاق ونظائرهما دقيقة جداً، وهي تفيد بوضوح أنّ أصحابها كانوا متضلّعين في العلوم العقليّة، كما توحي بأنه كانت لديهم إحاطة تامّة بالعلوم العقليّة وفنون استنباط الأحكام والقياسات العقليّة، والجدل والخطابة والبرهان، وأنّ الأئمّة المعصومين كانوا يبيّنون لهم الحقائق بأسلوب مختلف وبيان دقيق جداً وعميق. ومن المستحيل أن يتمّ فهم هذه المجموعة من الروايات بدون دراسة الفلسفة والاطّلاع على العلوم العقليّة.

كما تحتوي مناظرات الإمام الرضا عليه السلام مع أصحاب المذاهب والأديان على مطالب عقليّة دقيقة؛ بحيث أنّه بدون دراسة العلوم العقليّة لا يمكن أن يفهم منها إلا معانيها السطحيّة والظاهريّة، دون الوصول إلى روح المطلب ولبّه.

فالروايات الواردة عن الأئمّة المعصومين، تختلف عن الروايات الواردة عن العامّة أو الأخبار والروايات الواردة في سائر الأديان؛ التي تتّصف كلّها بالبساطة، ويمكن للعامّي أن يفهمها بسهولة. بل هي عميقة ودقيقة جداً وعلى هذا الأساس، لا بدّ من تقوية الفكر وتصحيح القياس من خلال الاطلاع على المنطق والفلسفة، وقبل الرجوع إلى هذه العلوم لا نستطيع الاستفادة من خزائن المعصومين عليهم السلام الذين يُعتبروا الدليل الوحيد للمسائل التوحيديّة.

وكم هو قبيح أن نأتي بعد ذلك ونقول: إنّ الأدلّة النقليّة الموجودة لدينا تكفي، والروايات الواردة إلينا تجعلنا في غنى عن العلوم العقليّة؟

أليست حجيّة الروايات قد حصلت بواسطة البرهان العقلي؟ والرجوع إلى الروايات مع إسقاط الأدلّة العقليّة هو تناقض واضح وخلف؟ وبعبارة أخرى: لا تمتلك الروايات الواردة عن المعصومين أي حجيّة قبل الرجوع إلى العقل وترتيب القياس، وبعد الرجوع إلى العقل نجد أنّه لا يوجد أي اختلاف بين هذا القياس العقلي وبين سائر الأدلّة العقليّة، وفي هذه الحالة سيكون الالتزام بمضمون الروايات والأحاديث الواردة مع إنكار الأدلّة العقليّة، موجباً للتناقض ولإبطال مقدّمة القياس بواسطة نتيجتها، وهذا من أفظع الشنائع.

والعجيب هنا أنّ مخالفي العلوم العقليّة يدّعون من جهة أنّ التقليد في أصول الدين ليس كافياً، وأنّ طريق التعبّد والتمسّك بالأخبار مسدود، بل يجب على كلّ إنسان أن يعتقد بهذه المباني عن يقين وعلم، وينقل العلامة الحلّي رحمة الله عليه الإجماع على هذه المسألة. ومن جهة أخرى يقولون: إنّ الخوض في العلوم العقليّة والحكمة المتعالية غير ضروري؛ لأنّ ما يأتينا من بحار معارف المعصومين اللامتناهية يجعلنا نستغني عن تلك العلوم. وهذا هو عين التناقض الصريح.

إنّ التمسّك بالبرهان العقلي في المسائل الأصوليّة، ومن ثمّ عزل العقل في أخبار الآحاد التي وردت في المعارف العقليّة وعدم العمل بها، هو من قبيل إبطال مقدّمة القياس بسبب النتيجة المستنتجة من تلك المقدّمة؛ وهذا عين الخلاف والتناقض.

فالاجتهاد في مذهب الشيعة بمثابة حفظ الدين من الضياع والاندثار، وبالتالي فعدم التعبّد ببعض الآراء قد تكون في زمن معين جزءً من الأصول المسلّمة، وفي زمان آخر يكون بطلانها من البديهيّات.

من هنا فالتعبّد بغير أقوال الله ورسوله والأئمّة الأطهار عليهم السلام في الأحكام الفرعيّة، توجب سدّ باب الاجتهاد والوقوع في المهالك والزلاّت التي وقع فيها العامّة، وأما في الأحكام الأصوليّة فلا معنى للتعبّد والتقليد أساساً، والعقل والروايات يحكمان بلزوم الرجوع للأدلّة العقليّة.

وبناءاً على ما قلناه، لا يعدّ رجوع الفلاسفة إلى الأدلّة العقليّة تسرّعاً وغلطاً؛ لأنّهم أثبتوا أولاً أنّ حجيّة الظواهر الدينيّة متوقّفة على البرهان العقلي؛ والعقل أيضاً يعتمد ويتّكئ على المقدّمات البرهانيّة، ولا يفرّق بين مقدّمة وأخرى. وعليه فلو قام البرهان على أمر معيّن، يجب على العقل حتماً القبول بهذا الأمر.

وثانياً: إنّ الظواهر الدينيّة متوقّفة على الظهور اللفظي، وهذا الظهور هو دليل ظنّي، والظنّ لا يستطيع مقاومة اليقين والعلم الحاصل من طريق البرهان. وإذا كانت هذه الظواهر تريد أن تبطل حكم العقل، فهي تبطل بدايةً مفاد حكمها والتي تستند حجيّتها على حكم العقل.

والحاصل أن العيب الذي يبيّن لطلاب العلوم الدينيّة كي يكفّوا عن التعمّق في الفلسفة والحكمة يرجع إلى أمرين:

الأول: سوء ظنّهم بالباحثين في المعارف العقليّة من طريق الاستدلال العقلي والبرهان الفسلفي.

والثاني: هو الطريق والمنهج الذي انتهجوه في كيفيّة فهمهم لمعاني الأخبار، والذي يصرّون عليه؛ وهو أنّهم جعلوا جميع الروايات والأحاديث في مرتبة واحدة من البيان، واعتبروا أنّ هذه المرتبة هي المرتبة التي يفهمها العوام، لزعمهم بأنّ هذه المرتبة هي نفسها التي تشخّص معظم الأخبار التي تتضمّن أجوبة الأئمّة عليهم السلام على أسئلة الناس.

وبعبارة أخرى: إنّ اختلاف الأخبار والروايات في المسائل الأصوليّة العميقة، والنكات الصغيرة العرفانيّة ولطائف الأبحاث التوحيديّة، إنّما تنشأ من اختلاف العبارات وأسلوب التعبير في المسائل الأدبيّة من البيان والبديع وفنون الأدب والبلاغة، لا أنها ناشئة من الاختلاف في نفس تلك الحقائق.

وعليه فكلّ مساعينا لحلّ الألغاز المحيطة بالأخبار، إنّما ترجع في الحقيقة إلى كسر الأقفال الأدبيّة والكلاميّة، لكنّها لا تنفكّ في الواقع من اعتبارها ذات مستوى واحد؛ وهو ما يمكن للعوامّ الوصول إليه، ولذا كان علينا أن نسعى لشرح وتفسير النكات الأدبيّة في الروايات لكي يفهمها العوام. وأمّا السعي لحلّ اختلاف دقائق المعاني والتي هي أعلى من مستوى فهم العوام والتي تحتاج إلى أبحاث فلسفيّة عميقة ومعقّدة، فهي ليست مطلوبة منّا، ولذا لا نحتاج إلى العلوم العقليّة والحكميّة.

والحاصل أنّه قبل الوصول إلى الأخبار، يعتبر الشخص المحدّث نفسه أنّه واصل إلى هذه المعاني، ومستغنٍ عن البحث لحلّها والوصول إلى معناها. وعليه، فالمطلوب منه فقط أن يجمع هذه الأحاديث ويبيّن معاني كلماتها ويشرح بالتفصيل النكات اللغويّة الموجودة، لتصل إلى حدّ فهم العوام.

وهذا خطأ كبير جداً؛ لأنّا نعلم أنّ في هذه الأخبار مطالب عالية ومضامين عميقة تشير إلى حقائق لا يفهمها إلا أصحاب الفهم العالي والعقول الخالصة.

والذي يمكنه الوصول إلى تلك الحقائق إمّا الأشخاص الذين يمتلكون عقولاً عالية، أو الذين وصلوا بالمجاهدة والمعرفة والتعلّم في المدارس التي تعلّم هذه المطالب، فعندئذٍ يمكنهم كشف الحجاب من خلال توسعة الآفاق الذهنيّة، بالإضافة إلى الفحص والتدقيق والبحث والمحاورات.

وذلك لأنّ غاية الدين هو التوحيد، والحال أنّ التوحيد الصرف والخالص أمر عظيم لا يحصل إلا بالمجاهدة خلال سنين والتعبّد بالنواميس الدينيّة والعبادة الخالصة لله تعالى والشهود الوجداني، مضافاً إلى تقوية القوّة الذهنيّة والفكريّة.

ولأئمّتنا عليهم السلام بعض الإشارات والبيانات لتلك المسائل العميقة والحسّاسة، وبالأخصّ ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في بعض خطب نهج البلاغة، وكذا ما ورد عن الإمامين الصادقين وعن الإمام الرضا عليهم السلام في توحيد الصدوق وفي عيون أخبار الرضا، والتي لا يمكن فهمها إلا من خلال الغوص في حركة فكريّة ووجدانيّة فقط؛ يعني من طريق الوصول إلى كمال اليقين. وإلا فجميع العبادات والمجاهدات التي تكون لأجل الوصول إلى اليقين والعلوم الحقيقيّة الإلهيّة، ستكون عبثاً وبدون جدوى.

فبما أنّ جميع الناس لم يصلوا إلى المعارف والعلوم الإلهيّة ـ والحال أنّه يجب أن يكونوا في طريق الوصول؛ حيث بيّن أئمّتنا عليهم السلام بالتفصيل وتكلّموا عن تلك الحقائق والمعارف ـ فعلينا أن لا نعتبر أنفسنا مستغنين عن دراسة العلوم العقليّة للوصول إلى حقائق كلام الأئمّة عليهم السلام، وإلا فمصيرنا سيكون الغرق في الجهل المركب.

والأكثر ضرراً من ذلك كلّه هو أنّ جعل جميع الروايات في مستوى واحد سوف يوجب اختلاط المعارف العظيمة التي أفاضها علينا الأئمّة الأطهار عليهم السلام، وسيؤدّي إلى فساد بياناتهم العالية بسبب تنزّلها إلى منزلة غير منزلتها الحقيقيّة، وسيؤدّي كذلك إلى فقد أهمّية البيانات البسيطة أيضاً بسبب عدم التمييز بينها. كما أن إلغاء مراتب الروايات وغضّ النظر عنها سوف يوجب ضياع المعارف الحقيقيّة.

والمؤسف هو أنّ معارفنا الدينيّة لم تبحث ولم تحلّل بالشكل المطلوب الذي يفهمها عامّة الناس، بل اكتفى هؤلاء العوام في المعارف بمرحلة التقليد فقط. وهم مع كونهم لا يجوّزون تقليد الميّت في المسائل البسيطة والفرعيّة العمليّة كالحيض والنفاس والبيع والشراء والطهارة والنجاسة؛ حتى ولو كان ذلك المجتهد الميّت من كبار المحقّقين والفقهاء كالشيخ الطوسي والعلامة الحلّي؛ ويفتون بلزوم الرجوع إلى المجتهد الحيّ في هذه الأمور. بينما نراهم في مسائل أصول الاعتقاد والتي تعدّ الأساس في الحياة الأخرويّة والأبديّة للإنسان يكتفون بتقليد الميّت ويقبلون بما يذكره بعض المحدّثين في كتب الأدعية أو في الجوامع الأخرى على أنّها أساس مسلّم لهم ويبنون اعتقاداتهم عليها.

كما أنّ عظمائنا لم يبذلوا قصارى جهدهم في المسائل الاعتقاديّة كثيراً، بل تعاملوا معها بشيء من عدم الاهتمام، وفي هذه الأيّام انصبّت جلّ اهتمامهم على المسائل الفقهيّة؛ وخصوصاً مسائل أصول الفقه، وإذا تمّ ذكر الفلسفة والحكمة بشيء يقولون: إنّ دراسة الفلسفة لازمة بمقدار ما تعين الإنسان في أصول الفقه؛ لأنّ الكثير من مسائل أصول الفقه مشحونة بمسائل فلسفيّة. إنّ السير على هذا الأساس هو خسران مبين؛ لأنّ الإنسان يريد أن يدرس الفلسفة لأجل دراسة أصول الفقه وفهمه.

ويطرح بعض مخالفي الفلسفة إشكالهم عليها بقولهم: إنّ كلّ الحقائق والمعارف الأصيلة موجودة في الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام؛ لأنّ أحاديث الشيعة تعتبر حقّاً دائرة معارف؛ حيث إنّها تحتوي على جميع المسائل الاعتقاديّة والحقيقيّة التي تحكي عن سرّ التوحيد، وتعالج بشكل تفصيلي رموز عالم الخلق، والوحدة والكثرة، والقضاء والقدر، واللوح والقلم، والعرش والكرسي، والأرواح المجرّدة والملائكة والجنّ الإنس، والحيوان والنبات والجماد وغيرها... فإنّها جميعاً مبيّنة بشكل وافٍ في رواياتهم. وقد عمل الأئمّة عليهم السلام على بيان هذه المسائل تدريجياً إلى سنة 329 هجرية؛ وهي السنة التي وقعت فيها الغيبة الكبرى. كما أنّ قرآننا كتاب الهداية الوحيد، وفيه:

{ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}[8]

فإذا كان لدينا الكتاب الهادي والمرشد فما هي حاجتنا إلى العلوم العقليّة والأدلّة الفلسفيّة؟

والجواب هو أنّ العلوم العقليّة هي التي تفتح لنا الطريق وترشدنا لكي نصل إلى هذه المعارف؛ فالعلوم العقليّة تجعلنا قادرين على تمييز طريق الصواب من طريق الخطأ. ونستطيع من خلال هذه العلوم أن نصل إلى حقائق تلك المعارف؛ وإلا فسوف نبقى غارقين في الجهل إلى يوم القيامة، ونظنّ أنفسنا أنّنا فهمنا الأخبار والروايات، لكن الأمر ليس كذلك.

وبما أنّ علم المنطق يميّز بين طريق الصواب وطريق الخطأ من جهة هيئة القياس، ويبيّن أنّ تشكيلة الصغرى والكبرى في القياس الاقتراني يجب أن تكون بكيفيّة معيّنة في الأشكال الأربعة للحصول على نتيجة منها، وإلا سنحصل على نتيجة خاطئة، وأنّ هذا العلم لا يتنافى مع الروايات والعلوم الشرعيّة، بل يفتح لنا الطريق ويرشدنا لتشكيل القياس في استنتاج المسائل الفرعيّة والأحكام وسائر المسائل الأخرى.. كذلك علم الفلسفة يفصل بين طريق الصواب وطريق الخطأ من جهة المادّة والنصّ، ويشير إلى أن المسائل البرهانيّة مختلفة عن مسائل الشعر والخطابة والجدل والمغالطة؛ وأنّه يجب التمسّك فقط بالبراهين والاحتراز من سائر المواد، وعليه فعلم العقائد المأخوذ من الشريعة والذي يستمدّ من منبع الحقيقة ونصّ الواقع، لا يمكن أن يتنافى مع النتائج المتّخذة من البراهين القطعيّة الفلسفيّة، كما أنّه لا يمكن للمسائل الفلسفيّة أن تتنافى مع الحقائق الشرعيّة.

والبعض الآخر من مخالفي الفلسفة، يطرحون إشكالهم من جهة أخرى، فيقولون: بما أنّه لا يوجد حثّ على تعلّم هذه العلوم في الشريعة الغرّاء، فلا بدّ من تصنيفها في زمرة البدع والمحدثات التي يجب علينا أن نتجنّبها.

والجواب: إنّ الآيات القرآنيّة والروايات والأحاديث مليئة بالدعوة إلى العقل والتعقّل والفكر والتفكّر، فكيف يمكننا القول بأنّه لا يوجد ترغيب في دراسة العلوم العقليّة؟ إذ الأحاديث التي تدعو إلى العلم والتعلّم والاستفادة من محضر العالم متضافرة بل متواترة، وما هو موجود في الأمور الاعتقاديّة والمسائل الأصوليّة، ألا يعتبر دعوة إلى العلوم العقليّة؟

ومن جهة أخرى نعلم أنّ غاية خلق البشر هي الوصول إلى الكمال من جهة العقل العلمي والعملي، مضافاً إلى الوصول إلى درجات التوحيد ومعرفة ذات الباري عزّ وجل، وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقّق في مرحلة القوّة التفكيريّة بدون دراسة العلوم العقليّة، وبناء عليه تكون دراسة العلوم العقليّة واجبة من باب وجوب المقدّمة عقلاً.

وثانياً: إذا فرضنا أنّ الآيات والروايات لم تحثّ على دراسة العلوم العقليّة، فهل يعدّ تعلّمها من البدع؟ إنّ البدعة هي أن يغيّر الإنسان شيئاً من الدين؛ كأن ينفي الأمر الثابت شرعاً أو يثبت الأمر المنفي كذلك، أمّا الأمر الذي لا يكون ضمن هذا المسير أساساً، كيف يمكن أن يكون من البدع؟

فالشريعة الإلهيّة لم ترغّب أو تحثّ على تعلّم علم المنطق، ولا علم الطب والجراحة، والجيولوجيا والطبيعة، والعلوم الميكانيكيّة، وهندسة النفط وغيرها.. فهل نستطيع أن نقول إنّ هذه العلوم كلّها ممنوعة ومحرّمة؟

ومن جهة أخرى نرى أنّ تأسيس الحوزات والمدارس العلميّة بشكلها الحالي لم يأتِ من طريق الشريعة الغراء، ولم يكن موجوداً فيها أي من هذه النماذج أصلاً، فهل نستطيع أن نقول: إنّ بناء المدارس والغرف وجمع الطلاب لدراسة الدين بهذه الطريقة هي بدعة وحرام؟ لا ليس الأمر كذلك.

وإذا كان المراد من البدعة والإحداث كلّ شيء جديد، فلا بد أن نلتزم بأنه ليس كلّ بدعة حراماً. أما إذا كان المراد منها أيّ شيء مخالف للشريعة، فإنّ مثل هذه العلوم والأمور لا تخالف الشريعة.

وإذا رأينا في بعض الروايات إعراض الأئمّة عليهم السلام عن التصوّف والفلسفة، فمرادهم من ذلك مخالفتهم لإنشاء المدارس والأحزاب القائمة على خلاف منهج أهل البيت، لا أنّ معناها مخالفتهم للتوجّه نحو الباطن بواسطة الممشى الأحسن، أو تقوية القوى الفكريّة عن طريق الصواب.

لقد كان في ذلك الزمان مجموعة من الناس تشبه بعض المتصوّفين الموجودين حالياً، كانوا يمشون على خلاف الشريعة؛ حيث وضعوا لأنفسهم طريقاً خاصّاً للوصول إلى واقع معين، واشتغلوا بأعمال وأفعال غير مشروعة. وبما أنّ ذلك الطريق لم يكن ممضى من قبل الأئمّة عليهم السلام, لذلك منعوا منه وحرّموه. ومن هنا علينا أن لا ننعت كلّ إنسان يكون في صدد تهذيب أخلاقه وتزكية نفسه، ويريد الوصول إلى مقام اليقين عن طريق العبادات والأوامر الشرعيّة، ويطمح للفوز بالمعرفة الإلهيّة وإدراك الحقائق الواقعيّة بنور الباطن وعين القلب.. بأنّه صوفيّ ونضعه تحت سياط اللوم والتوبيخ؟! إنّ هذا ذنب لا يغتفر، وهو ناشئ عن الجهل.

لقد قام في ذلك الزمان بعض المتكلّمين من العامّة؛ سواء من الأشاعرة أو المعتزلة، بطرح العلوم الفلسفيّة والأصول الموضوعة في عصرهم المأخوذة من تراث اليونان ومصر وإيران للانفصال عن مدرسة أهل البيت، وعملوا على تأسيس منهج مستقل وحزب منفصل عن الأئمّة عليهم السلام، دون أن يكون هذا المنهج ممضى من قبلهم.

ولكن ما العلاقة بينها وبين العلوم الفلسفيّة والحكمة المتعالية، ففلاسفة الإسلام والعلوم العقليّة شموس مشرقة، أمثال: أبو علي ابن سينا، والفارابي، والخواجة نصير الدين الطوسي، والمير داماد، والمير فندرسكي، وصدر المتألهين الشيرازي، والحاج السبزواري، وكثير من عظماء عصرنا هذا، كالمرحوم الآخوند ملا علي النوري، والزنوزي، والميرزا مهدي الآشتياني، والميرزا أبو الحسن رفيعي، والحاج السيد روح الله الخميني، وأستاذنا العظيم وفقيدنا الكبير: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، والذي عمل كلٌّ منهم ـ ضمن سعة شعاع وجوده ـ على تبديد بحر الأوهام والشكوك المظلم، والتنوّر بنور العرفان.

أولئك هم حرّاس القرآن والإسلام وحماة مذهب الشيعة، كما أنهم حفظة الشرع والشريعة، وهم رصيد العلم واليقين، والمحاور التي تحفظ الدين من الانحراف والاندراس وتقيه من الاندثار والاضمحلال. شكر الله مساعيهم الجميلة، وضاعف درجاتهم وأعلى مقامهم عنده.

يعتبر كتاب الأسفار الأربعة للملا صدرا من مفاخر العالم الإسلامي؛ حيث بذل صاحبه عمراً مديداً لكي يطابق بين المشاهدات القلبيّة الملكوتيّة والبراهين الفلسفيّة والروايات الشرعيّة، وتمخّض سعيه عن تأليف هذا الكتاب المهم. وقد كان حقاً هو وكتبه من المفاخر العظيمة، كما أن الامتناع عن مطالعة هذه الآثار ستوجب الحسرة والندامة.

طبعاً لا مكان للشكّ هنا في أنّه يجب على طلاّب العلوم الدينيّة أن يكونوا مجتهدين أيضاً في الحكمة المتعالية، ولا يقبلوا بأيّ مطلب دون دليل أو يقبلوا ببراهين صدر المتألّهين من باب التقليد، بل يجب عليهم أن يتقدّموا في هذا المضمار ويثبتوا أيّ أمر أو ينفوه على أساس استقلالهم الفكري، لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمتين، وما دام لم يحصل لديهم قناعة ببرهان المسائل الفلسفيّة فعليهم أن لا يقبلوا بها، لأنّ القبول بها مع عدم الاقتناع بالبرهان سيوجب سقوط قيمة الفلسفة.

والقسم الثالث من مخالفي الفلسفة، يطرح إشكاله بقوله إنّ أفضل دليل على بطلان الفلسفة، هو اختلاف آراء الفلاسفة وتباين نظريّاتهم؛ لأنّنا نرى أنّهم يختلفون في كلّ مسألة من مسائل هذا العلم، وبما أنّ الحقائق ثابتة وغير قابلة للتغيير، فسوف نستكشف من هذا الاختلاف بطلان نظريّاتهم وآرائهم.

والجواب على هذا الإشكال واضح: لأنّ هذا الاختلاف ليس منحصراً بالفلسفة، بل هو موجود بصورة واضحة في كلّ علم من العلوم؛ كالعلوم الطبيعيّة والطب والهيئة والعلوم الشرعيّة كالتفسير والفقه.

والاختلاف بين قولين ليس دليلاً على بطلان كلا القولين معاً؛ إذ أن الإلهيّين يختلفون مع الطبيعيّين في وجود الله وعدم وجوده، وفي إثبات المعاد ونفيه، وفي مسألة التجرّد وعدم التجرّد، وفي الكثير من المسائل أيضاً. ولا يمكننا أن نحكم ببطلان العلم من أساسه بمجرّد الاختلاف، بل يجب علينا أن نميّز الحقّ من الباطل من خلال البحث والتنقيب، وبواسطة التأمّل والتحليل. نعم الفلسفة مثل سائر العلوم لديها حركة تكامليّة وتطوّر مستمرّ، فتقترب من الكمال من خلال الأبحاث، كما هو الحال في سائر العلوم.

إذا حصل يوماً أن اشتبه علينا حجر فيروز بحجر آخر أزرق، ووقعا معاً في مكان مظلم، فلا يمكننا أن نترك الحجرين معاً ونصرف النظر عنهما؛ بل يجب علينا أن نبحث بجدٍّ حتى نجد الفيروز ونشخّصه لنستعمله في الزينة. كما أنه إذا اختلطت يوماً حبوب القمح بالرمل والتبن، لا يمكننا أن نتركها كلّها ونرفع اليد عنها، وإلا فسوف نموت من الجوع، بل ينبغي أن نفصل القمح عن الرمل والتبن وننقّيه جيداً، هذه هي طريقة العقلاء.

چاپ ارسال به دوستان
 
الإستفتاء
الإسم:    
البريد الإلكترونيّ:    
التاریخ    
الموضوع:    
النص:    

أدخل الرمز أو العبارة التي تراها في هذه الصورة بدقة

اگر در دیدن این کد مشکل دارید با مدیر سایت تماس بگیرید 
عوض الرمز الجديد

 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع «المتقين». يسمح بإستخدام المعلومات مع الإشارة الي مصدرها


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی