معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
المقالات و المحاضرات > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 101 إلى 200 > شرح حديث عنوان البصري - الجلسة رقم 188 : الصورة الملكوتية لفعل الإنسان

_______________________________________________________________

هو العليم

الصورة الملكوتيّة لفعل الإنسان

شرح حديث عنوان البصري المحاضرة رقم 188

ألقيت ليلة التاسع عشر من شهر جمادى الأوّل من عام 1432 هـ

سماحة آية الله

السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف                                          

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين
اللهم صل على محمد وآل محمد

    

انعكاس الصورة الملكوتية للفعل الحرام على نفس الإنسان

أعتقد أن الأخوة يتذكرون أنّ الحديث في الجلسات الماضية كان حول كيفيّة تأثير المأكولات في حالات الإنسان، مع غض النظر عن تأثيرها على الجسم والمزاج وصحّة البدن وسلامته ومرضه، وذكرنا بأنّ الطعام ـ لاشتماله على الخصوصية الملكوتيّة التي يشتمل عليها ـ يترك أثراً على ملكوت الإنسان، وهذا الأمر ليس مختصاً بالأكل فقط، بل هو موجود في غير المأكولات أيضاً، ولهذا السبب على السالك أن يُعمل المراقبة جيداً في الأمور التي يقوم بها، ولا يقوم بأي فعل يفعله الآخرون، وكل ما يقوم به سائر الأفراد ـ وإن كانوا يرونه مباحاً لأنفسهم ـ لا ينبغي للسالك أن يقدم عليه.
أذكر أننا تحدثنا في المجلس السابق عن المال الحرام، وأن المال الحرام يترك أثراً ملكوتياً وكدورة على نفس الإنسان؛ بحيث أن الإنسان يشاهد هذا الأثر بشكل واضح ويفهمه، والعجيب أن كل فعل حرام ـ من جهة الصورة الملكوتية والمثالية ـ له خاصية مخصوصة به؛ فالذين هم من أهل الرشوة ويرتشون؛ كأن يأخذوا مالاً إذا أرادوا أن يفعلوا لبعض الأشخاص فعلاً، فبناء على تكليفهم والوظيفة التي عليهم القيام بها والراتب الذي يأخذونه نتيجة ذلك.. ينبغي أن يقوموا بهذا الفعل شرعاً وعرفاً وقانوناً، وعليهم أن يقضوا حاجات المراجعين لهم، فهم يأخذون على هذا الفعل أجراً معلوماً، ولا يقومون بخدمات مجانية للناس بدون أجرة، فإذا قام شخص ـ بالإضافة إلى ما يتقاضاه من راتب ـ بأخذ الأجرة على فعله هذا؛ بأن لم يقم هذا الشخص بما هو مطلوب منه دون أخذ الرشوة على ذلك، فسوف يترتب عليه أثر ملكوتي ومثالي، فصورته المثالية ستتبدل من الإنسانية إلى الحيوانية، إلى حيوان خبيث، فالحيوانات مختلفة فيما بينها، إذ بينهم اختلاف في نفوسهم وطبقاتها، فالصفاء واللطف والمرونة التي نشاهدها في الحمام غير موجودة في أي حيوان آخر، والطعام الذي يتناوله الحيوانات والطيور التي تشتمل على نفوس لطيفة وظريفة تختلف عن الطعام الخبيث والعفن الذي يتناوله أمثال النسور وغيره، وكذلك نفوس الحيوانات الآكلة للأعشاب ـ طبعاً لا جميعها ـ تختلف عن الحيوانات آكلة اللحوم، فالغزال والشاة من جهة النفس وخصوصياتها المثالية تختلف عن الأسد المفترس والفهد والنمر. وهذا الاختلاف إنما هو بسبب الطعام الذي يتناوله كل منهم، وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر الحيوانات التي أعطى الله كلاً منها شاكلة مختلفة عن الآخر، غاية الأمر أنه لا تقصير للحيوان في ذلك، فشاكلته هي هذه، وذاتياته هكذا، لكن الإنسان إذا أراد أن يتعدّى وأن يتخطى الدستورات المطلوبة منه، فسوف يتغيّر شكله إلى تلك الصور غير الإنسانية، وهذه المسألة واضحة لأهل البصيرة، فهم يرون هذه الأمور ويشعرون بها، غاية الأمر أنّهم لا يتحدثون بها.
من هنا فالأشخاص الذين يأخذون الرشوة؛ بمعنى أنهم بدون الرشوة لا يقومون بعمل، فصورتهم صورة حيوانية، وهذه المسألة يدركها الإنسان نفسه، فإذا أفرط الإنسان في أمر معين سوف يشعر بأثر ذلك حتى في مظهره الخارجي. يقول المرحوم الوالد رضوان الله عليه بأني كنت أنظر في مجلة ألمانية ـ وكان محيطاً باللغة الألمانية ـ فرأيت فيها صورتين متقابلتين؛ في إحدى الجهتين صورة إنسان وفي الأخرى صورة خنزير، وكتب تحتهما بأن صاحب الصورة واحد، لكن لإفراطه على امتداد سنين متمادية انقلب هذا الوجه إلى هذا الشكل، وهذا عجيب جداً، حيث إن وجهه تبدل إلى صورة شبيهة جداً بالخنزير، بحيث أن الناظر إليها يعرف أنه إنسان بعد التدقيق في الصورة، لكن للوهلة الأولى يشاهد صورة خنزير. هذا الأمر مؤثر، وهذا ما تؤكده أبحاث علم النفس في الغرب، فقد أثبتت أن الأفعال التي يقوم بها الإنسان ـ مع غض النظر عن المأكولات ـ تترك أثراً على شكله، حيث يتغير وجهه، وبالخصوص في حركات العين وكيفية العين، إذ يمكن من خلال النظر إلى عين شخص أن يعرف عمله وشغله... عجيب جداً، وهذه العين تحتوي على أسرار ليس الآن مورد الكلام فيها، وإذا أردنا أن ندخل في الكلام فيها فسوف يطول ويطول الكلام؛
مثنوي هفتاد من خواهد شود...
                             ... ... ... ... ...




(سيصير المثنوي كبيراً جداً وسيصل إلى سبعين حملاً)

    

حكاية عين الإنسان ووجهه عن حقيقة نفسه

يعني إذا أردنا أن نتحدث في خصوصيّات العين والأمور الموجودة فيها والتحوّل والتأثير الذي يتركه عمل الإنسان والقوى النفسانيّة على العين، فالعين تشتمل على سرّ عجيب بين سائر أعضاء البدن؛ بحيث يمكن القول بأن سر خلقة الإنسان ظاهر في عينه، نعم ذلك بالنسبة إلى أهل هذه المسائل، لا أن أي إنسان يمكنه ذلك. فيمكنك أن تعرف من النظر إلى عين إنسان كم هو هذا الإنسان شقي.. من عينه يمكن ذلك، من العين يمكن أن تعرف كم هو إنسان صالح، من العين يمكنك أن تعرف كم هو إنسان كاذب، كل ذلك من خلال العين.
كنت في أحد المجالس وكان هناك بعض الأشخاص الذين هم من الفاعلين لبعض الأمور الخاطئة.. وكان هناك صور مختلفة معلقة على الجدران؛ بحيث يمكن للإنسان أن يشخص أن هذا الشخص يعمل كذا، وهذا يفعل كذا، وهكذا يمكنه أن يعرف تمام خصوصيات كل شخص.. وجميع ذلك صحيح، والحال أن هذا الشخص لم ير صاحب الصورة، بل هي صورة وورق.. هذه الأمور من الأسرار التي لا يعرفها إلا القليل من الناس.
الشخص الذي يقوم بذنب، سيظهر ذلك في عينه، وكذا سائر الأعضاء أيضاً.. أريد أن أقول لكم بأن هذه المسألة عجيبة جداً.. إذ يمكن أن يكون ذلك أمراً عادياً لبعض الأشخاص، فما بالك بمن يكون من أهل البصيرة وأهل الحال، ومن يكون لديه عين ملكوتية ومثالية ويدرك حقيقة المطالب؟
فالأشخاص الذين هم أهل الكذب، فهؤلاء لهم خصوصية مختلفة، إذ صورتهم الحيوانية مختلفة عن صورة السارق، والأشخاص الذين يسرقون لهم صورة حيوانية خاصة تختلف عن صورة سائر الأفراد، والذين يغشون في المعاملة صورتهم المثالية مختلفة، وكذا من يشرب الخمر له صورة مختلفة، وكذا الحال بالنسبة إلى أهل المعاصي الأخرى، فكل منهم له صورة برزخية مختلفة وإن لم تكن واضحة لهم، لكنها واضحة وجلية بالنسبة إلى سائر الأشخاص، غاية الأمر أن الخصوصية في المقام هي أن صورة الإنسان الملكوتية كما أنها تتبدل من صورة إنسان إلى صورة حيوان بارتكابه الذنب، كذلك تتبدل هذه الصورة الحيوانية والقبيحة إلى صورة إنسانية بالتوبة والرجوع إلى الدستورات الإلهية والعمل بالأحكام، ولا يظن أحد أن الصورة الإنسانية إنما تحصل فيما إذا كان صاحبها ظاهر الصلاح فقط، أو فيما إذا كان بشكل خاص، لا ليس الأمر كذلك، فليس من الضروري أن كل من يكون معمماً يجب أن تكون صورته صورة إنسان، وأن كل امرأة بدون حجاب فصورتها صورة حيوان، ليس الأمر كذلك أبداً، بل الكثير من الحيوانات بأصنافها المختلفة توجد بين صنوف الناس بكثرة.
سمعت أن أحد العظماء الذين انتقلوا إلى رحمة الله ـ لا أريد أن أذكر اسمه ـ رحمة الله عليه، قال أنه سمع من المرحوم الشيخ حسن علي نخودكي الأصفهاني أنه كان يقول: كنت أرى وجوه الأشخاص في إحدى المدن بشكل نمور وفهود.. وهذه القصة غير ما نقلته لكم سابقاً عن الشيخ في النجف، والحال أن هؤلاء كانوا من المعممين والمشاهير المعروفين بين الناس.

    

امتلاك الشيخ عباس هاتف القوچاني نفساً طاهرة

كما سمعت بواسطة واحدة عن المرحوم الشيخ عباس هاتف القوجاني الذي كان أحد الأساتذة السلوكيين للمرحوم الوالد، طبعاً لم يكن أستاذاً بل كان رفيقاً، لكن المرحوم الوالد كان يطلق عليه في كتبه لقب الأستاذ لشدة احترامه وتأدبه مع العظماء، وكان يأخذ عنه دستورات المرحوم القاضي، وكان بينهما علاقات خاصة وحميمة، وكان من أهل الصدق والصفاء، وهو بنفسه عندما أراد المرحوم... أنظروا من المهم جداً أن لا يلاحظ الإنسان نفسه ولا الدنيا واعتباراتها، بل عليه أن يقول ما يراه هو الصلاح والخير وما فيه مصلحة الأشخاص، حتى لو أدى ذلك إلى أن تقل علاقة هذا الشخص به نتيجة ارتباطه بذلك، لذا يجب القول والإرشاد إلى الصلاح، ولا ينبغي الكتمان في هذه الحالة، ولا ينبغي السكوت عما فيه مصلحة الأخ والرفيق لأجل بعض المسائل، بل عليه أن يبين ويقول ذلك، فإذا رأيت أن من صلاح أخي الآن أن يرجع إلى فلان مثلاً، فلا ينبغي القول: إذا أرجعته إلى فلان فلن يعود يأتي إليّ، ولن يكون مرتبطاً بي، لذا لن أرجعه إليه.. هذه خيانة، وهذا الشخص سيطالبني يوم القيامة ويقول: في تلك المدة كان فلان هو الأصلح لي، وكنت بحاجة إليه، فلماذا لم ترجعني إليه ولم ترشدني إليه؟ هذه الأمور لها حساب وكتاب.. المرحوم الشيخ عباس لم يكن من هؤلاء الأشخاص، بل كان صادقاً، لذا فالعبارة التي يوردها المرحوم الوالد عنه هي أنه كان صادقاً في مدعاه وفعله، وعندما تشرف المرحوم الشيخ محمد جواد الأنصاري الهمداني بزيارة النجف، قام نفس الشيخ عباس بأخذ المرحوم الوالد إلى مجلس الشيخ الأنصاري وقال له: من الآن فصاعداً عليك أن ترجع إلى الشيخ الأنصاري، ولا ترجع إليّ.. كم هو مهم هذا الأمر؟ وكم يحكي ذلك عن إخلاص وصفاء هذا الرجل، والمرحوم الوالد بقي على ارتباط به إلى آخر عمره، فكان يجري بينهما رسائل، وكذا في الكثير من الموارد التي كان بإمكانه المساعدة فيها لم يكن يتوان على ذلك أبداً، وكذلك مراتب المودة بينهما، وبقي يعظمه ويشكره إلى آخر عمره، هذا الذي يقال له إنسان كامل، لم يكن يقول: أنا أعلى منه فيجب أن لا أذهب إليه. والمدة التي قضاها المرحوم الوالد في النجف وعلاقته به والدستورات التي كان المرحوم الشيخ عباس يعطيها كانت من المرحوم القاضي.. كان كل ذلك بإشارة من المرحوم العلامة الطباطبائي؛ إذ هو الذي أشار على المرحوم العلامة عندما ذهب إلى النجف أن يكون على ارتباط بالشيخ عباس وأن يعمل بدستوراته. وعلاقته به كانت بدستور من العلامة الطباطبائي، حيث سمعت منه مباشرة أن الرجوع إلى المرحوم الشيخ عباس هاتف كان بدستور من العلامة الطباطبائي لا من نفسه، وفي هذه المدة ـ ثلاث أو أربع سنوات ـ كان تحت نظره واتباع دستوراته، طبعاً كان هناك أفراد آخرون في النجف يأخذ عنهم أيضاً، وكانوا يعطون المرحوم العلامة بعض المطالب حتى أذكار، وكانوا من تلامذة المرحوم القاضي، ولأجل هذه السنوات الثلاثة أو الأربع التي كان فيها في النجف كان يقوم بكل ما يستطيعه من عمل، وبقي كذلك إلى آخر عمره..

    

ضرورة المحافظة على الاحترام في التعامل مع الأخ

بينما نحن الآن في تعاملنا مع رفيقنا، نرى أننا مع جميع هذه الارتباطات والعلاقات الحميمة التي تكون بيننا، إذا حصل سوء تفاهم في البين نتعامل وكأن شيئاً من العلاقة لم يكن. هناك صداقة ورفقة تمتد إلى عشر سنوات وخمسة عشر سنة وعشرين سنة.. تنتهي بمجرد ذاك الاختلاف، أين ذهبت تلك السنوات العشرة أو العشرين؟ إذا فرضنا أن هذا الاختلاف قد حصل فيما بيننا، ألا يختلف الناس فيما بينهم؟ ألا يحصل اختلاف بين الرجل وزوجته في العائلة؟ وإذا حصل هذا الاختلاف فهل يسارع الرجل إلى طرد زوجته والانفصال عنها؟ كلا! بل الاختلاف اختلاف، وقد يحصل ثم يرتفع وترتفع الكدورة بعد ذلك. لماذا على الإنسان أن يكون كذلك؟ إن التصرف بهذا الشكل تصرف مغاير للشكر، هل يوجد لدينا أن الناس يجب أن يكونوا حتماً متوافقين دائماً؟ لقد ذكرت للإخوة مراراً بأن السلوك ليس فقط ذكر وصلاة ليل، هذه الدستورات هي السلوك، هذه المسائل هي المسائل الحياتية والأخلاقية.. هذا هو السلوك.

    

احترام المرحوم العلامة الطهراني لأساتذته

لقد حضر المرحوم الوالد درس أحد الفقهاء في قم لمدة سنة واحدة فقط، فدرس عنده قسماً من الرسائل للشيخ الأنصاري حول البراءة والاشتغال والاحتياط، وهو كتاب مهم جداً، ومباحث الألفاظ من القوانين.. درس هذه الدروس عند المرحوم الشيخ عبد الجواد سدهي الأصفهاني رحمة الله عليه، وكان رجلاً مقدساً جداً ورجلاً أخلاقياً، ومنظماً وموجّهاً ومعتدلاً وعاقلاً ومستقيماً، وكنت أشاهده عندما كان يلتقي به كان يقبل يده، مع أن المرحوم الشيخ عبد الجواد لم يكن من أهل العرفان، بل كان رجلاً صالحاً من أهل الديانة والمراقبة ومن أهل صلاة الليل وكان متقياً.. هل ينبغي أن يكون عارفاً حتماً حتى ندرس عنده.. وهل ينبغي أن تكون مباحث الأصول لدينا على أساس المباني العرفانية حتماً؟ العرفان عبارة عن موهبة إلهية، يمكن أن ينال البعض نصيباً منها ونصيباً من المعرفة، وجميعنا إنشاء الله في هذا الطريق، لكن بأي مسائل ينبغي العمل؟ وبأي دستور ينبغي أن نشتغل؟ هل العرفان هو الذي قال للإنسان مثلاً حينما يحصل اختلاف بين شخصين أن يقطع العلاقة بينهما وكأنه لم يكن شيئاً مذكوراً؟ هل العرفان هو الذي قال مثلاً فيما إذا حصل سوء تفاهم أن يترك جميع مراتب الود؟ هل العرفان قال ذلك؟ هل العرفان هو الذي أمر فيما إذا حصل إشكال في العائلة أو سوء تفاهم أن يترك جميع تلك المباني جانباً ويتعامل بشدة وحدة فيها؟ وكأنها ليست زوجتك ولا تعيش معك في منزلك؟ هل قال العرفان ذلك؟ أو أن العرفان هو الذي يدعو إلى التوحيد، يدعو إلى المحبة واللطف والشوق ويدعو إلى الأنس ورعاية القيم.. ما هذا الكلام؟ نحن نريد أن نجعل رأسنا أرفع من الآخرين، من أين جاء هذا الكلام؟ من أين علمنا أننا أقرب إلى الله تعالى من غيرنا، حتى نفتخر على الآخرين؟ من قال ذلك؟ هل نحن الذين نحكم في ذلك؟ وهل حصلنا على المقياس الإلهي الذي على أساسه يفاضل الله تعالى؟ من قال ذلك؟ والحاصل عندما كان المرحوم العلامة يرى أستاذه كان يقبّل يده، وأستاذه كان يمانع، لكنه كان يقبلها في النهاية. وعندما كان يلتقي بالعلامة الطباطبائي الذي كان أستاذه الأساسي ـ وكنت أرى ذلك بعيني ـ كان يقبل يد العلامة الطباطبائي، وكان العلامة الطباطبائي يمانع ويتأذى من ذلك، لكن كان المرحوم الوالد يقول له: لماذا تحرمنا من ذلك؟ فهل ترضى بأن لا نصل إلى هذا الفيض ونحرم من هذه البركات؟ وكان المرحوم العلامة يضحك من ذلك ويقول: رفعك الله إلى أعلى من ذلك ـ بلهجته الخاصة به ـ هكذا كان، ونحن تعلمنا ذلك من هذه المدرسة.
في أحد الأيام حصل أمر عجيب ـ لا أدري هل ذكرت ذلك للإخوة أم لا ـ فيما يرتبط بالمرحوم الشيخ عبد الجواد سدهي.. دعانا أحد أصدقائنا السابقين الموجود فعلاً في مشهد الدكتور مير دامادي ـ وهو دكتور صيدلي يصنع الدواء ـ يوماً إلى منزله وكان الوقت ظهراً، وهو من أصفهان، وكان المرحوم الشيخ عبد الجواد سدهي قد تشرّف بالقدوم إلى مشهد هو وعائلته وأهل بيته، وكان الشيخ حاضراً في الدعوة، فذهبنا ورأينا أن المجلس كان غاصاً بحدود ثلاثين أو أربعين شخصاً، ووضعت المائدة وتناولنا الغذاء، ثم جلسنا نصف ساعة وأردنا الذهاب، فقام المرحوم الوالد بطلب الإذن للذهاب من صاحب المنزل، فقام الحضور جميعهم، وخرجنا من المنزل قبل خروج المرحوم الشيخ عبد الجواد سدهي، فكان يريد البقاء لبعض الوقت، ومجرد أن خرجنا من المنزل أتى صاحب المنزل وأراد أن يوصل المرحوم الوالد بسيارته، والظاهر أنه عندما خرجنا لم يكن سائر الحضور يرغبون بالبقاء.. هكذا كان حالهم.. فقال المرحوم الوالد ماذا تريد؟ قال له تفضل أريد أن أوصلك ـ وكان قد سبقه إلى السيارة وشغلها ـ فقال له المرحوم الوالد: لا بل اذهب وأوصل الشيخ عبد الجواد، فقال له لا بل أريد أن أوصلك ثم أعود لإيصاله، فصاح في وجهه قائلاً له: أنا لن أركب معك، عليك أن توصله.. فتبدل لون الدكتور، فقلت له: انصرف حتى لا تخرج الأمور عن حالها.. اذهب وأوصل الشيخ.. ثم ذهبنا ـ وكنا ثلاثة أو أربع أشخاص ـ فقال العلامة لنذهب ونركب سيارة أو باصاً، وكان هناك باص خال، فتقدم سائقه من الوالد وقال له: تفضلوا سيدنا، فركبنا وأوصلنا، ولم يأخذ منا أجرة، بل لم يكن معنا تذكرة للباص أساساً، فقلت له دعني أشتري تذاكر، فقال: لا داعي لذلك.. وفي النهاية لم ندفع شيئاً.. ولا أدري هل نحن مدينون بذلك أم لا؟ ولا أدري لمن نعطي ذلك.. وعلى كل حال لم يأخذ منا شيئاً، والحال أن الباص كان خالياً تماماً، إذ كان الوقت ظهراً والجو حاراً، ولم يكن أحد، فركبنا من منطقة كوهسنگي إلى ميدان شهداء، ونزلنا هناك وشكرناه على ذلك.. هذا فعل الله، ذاك الذي لا يركب السيارة لأجل الله واحتراماً لأستاذه، يرسل الله له باصاً يوصله مع تمام العزة والاحترام ومع إصرار السائق على إيصالنا.. وفي حالة من الأنس وقد ضحكنا كثيراً مع السائق والمرحوم الوالد وكذا الذين كانوا معنا، وكانت تلك الدقائق جميلة وأنيسة، هذه هي دستوراتنا، وهذا هو السلوك، لا أن يتجاهل الإنسان تلك المسائل ويركب بالسيارة للوصول إلى مقصوده.. هذه حيوانية، هذا ليس سلوكاً، فكلّما كان الإنسان أقرب ينبغي أن يكون تواضعه أكثر وأدبه أكثر.
لقد ذكرت للإخوة أن العمل بالتكليف مسألة والإحساس بالعظمة في النفس مسألة أخرى، فلا ينبغي الخلط بين هاتين المسألتين، من هنا على الإنسان ـ في نفس الوقت الذي يعمل فيه بتكليفه ـ عليه أن يتعامل مع الأشخاص على أساس النظم والانضباط والقانون، وعليه أن لا يرى نفسه أفضل منهم، لا يرى نفسه كذلك، بل هذا الأستاذ له مكانه الخاص، والتلميذ له مكانته الخاصة.. ورعاية مقام الأستاذية والتلميذية لها مكانتها الخاصة أيضاً، وأما أن يرى نفسه أعلى فلا، أن يفتخر.. لا، أن يعظم نفسه.. لا أبداً، هذه الأمور من الشيطان، هذا هو ملاك السلوك وعلينا أن نعمل به، الدنيا لا تتبدل ولا تتحول، إذا كان فلان يريد أن يذهب إلى مكان، بالكاد نراه يحمل حقيبته.. احملها أنت، يقول لا ليس هذا من شأني، ما هذا؟ هذا نوع من الفخر والعظمة، قم بالأمر والنهي المطلوب منك، وعاتب، وقدم الملاحظات، لكن احمل حقيبتك بنفسك، فهذه مسألة وتلك مسألة أخرى. لكن إذا قال أنا كذا، ومن العيب أن أحمل حقيبتي، فمن الأفضل له أن لا يأتي أساساً، إذا كان ذلك عيباً فلا تأتي بها، وإذا أتيت بها فاحملها أنت، هذه الأمور هي التي يجب على الإنسان العمل بها.

    

تبدل الصورة المثالية للإنسان بسبب ما يقوم به

هذه الصورة الحيوانية والصورة المثالية كما ذكرنا مشهودة في أعمال الإنسان، مشهود كيف يمكن أن يوجد العمل الذي يقوم به الإنسان في نفسه حالة نفسانية؛ بمعنى أن ينتقل الإنسان بالتوبة من وضعية غير مناسبة إلى وضعية وحالة مناسبة ويتغير حاله نحو الأحسن، وبناء عليه فنحن في حالة من التغيير والتحول الدائمين، ولسنا على مستوى واحد بين لحظة وأخرى، فكل خطور يخطر على بالنا يغير في صورتنا المثالية..
يقول أحد الإخوة بأنه حصل خلاف بينه وبين أهل بيته وأولاده، وكان من أرحام المرحوم العلامة، فأتى بعائلته إلى بيت العلامة ليحكم بينهم، فقال: بمجرد أن طرقنا الباب وفتح لنا المرحوم العلامة ووقع نظره عليّ قال ليس لدي وقت اليوم، والحال أننا لم نوضح له المسألة بعد أو أن يعرف لماذا أتينا، فالوجه يحكي عما في سر الضمير دون الحاجة إلى الكلام.. فمجرد أن شاهدنا قال لا مجال لدي اليوم، تعالوا غداً، وكان هذا يريد أن يأتي إلى المرحوم العلامة ويحكم بالأمر مباشرة وأن يكون الحكم له، والويل إذا قال له العلامة لقد اشتبهت وأخطأت في هذا الأمر، والحق مع أهلك، وعليك أن تصلح الأمور، لذا قال لهم لا مجال لدي اليوم، تعالوا غداً. قال فذهبنا، وفكرت في هذا الأمر؛ لماذا لم يسمح لنا السيد بالدخول؟ وما الذي حصل؟ فبدأت تلك النار تنطفئ شيئاً فشيئاً، فتلك الحرارة التي كانت بمقدار ألفي درجة انخفضت إلى ألف ثم إلى ثمانمائة وهكذا.. إلى اليوم التالي كانت درجة الحرارة عادية، سبع وثلاثون درجة... فذهبنا إليه فتأهل بنا واستقبلنا بحرارة.. وقال لو كنت قد استقبلتكم بالأمس لم يكن أي فائدة في ذلك، ولم يكن كلامي يؤثر فيك، فقلت: اذهبوا وتعالوا في الغد، ولم تكن صورتك بالأمس صورة إنسان، بل كان وجهك وجه شيطان؛ حيث تغلب الشيطان عليك، ولا يمكنني التكلم مع الشيطان، ولا يمكن نصيحة الشيطان.

    

الغضب يجعل وجه الإنسان شيطانياً

انظروا، يقولون: عندما يغضب الإنسان يتبدل وجهه إلى وجه شيطاني، فالغضب في غير محله يولد في الإنسان كدورة عظيمة جداً تتغلب على العقل والقوة الروحانية، وتخرج الملائكة من القلب، وتجعل في المقابل الشياطين وتسلطهم عليه. فعندما تنظر إلى وجهه ترى ما شاء الله.. تعال وأصلح الأمر، أهل يمكن التحدث إليه في هذه الحالة؟ ماذا عليه أن يفعل؟ عليه أن يقول له: في أمان الله، لا فائدة في ذلك، إذ الشيطان هو الذي تغلب عليه، والأبالسة هم الحاكمون على نفسه، ما الفائدة في النصيحة عندئذٍ؟ إذ كل ما تقوله له سيعمل على تبريره وتوجيهه، وكل ما تقوله له سيلقيه على عاتق الآخر، فهل نحن مضطرون لذلك؟ اذهب! وعندما يصير الوضع مناسباً تعال، لماذا علي أن أتحمل وزر ووبال الفهم الأعوج الذي لديك في هذه الحالة.. هذا هو الطريق الصحيح، وهذا الطريق الخطأ، وواقعاً عندما يغضب الإنسان تنسدّ جميع قنوات العقل وقواه وتمنع جنود الرحمان من التأثير فيه، فمن أين يدخل الملائكة إلى القلب والحال أن جميع القنوات مغلقة؟ فالقلب الذي يكون مقفلاً لا يمكن دخوله، فعندما يغلق أبواب المنزل من أين يمكن الدخول؟ هل يصعد على السطح أو لا بد من فتح الباب حتى يدخل الإنسان؟ وعندما تغلق أبواب القلب ويضرب الستار عليه ويسد جميع القنوات الموجودة ويجعل نفسه تحت سيطرة القوة الشيطانية، فمن أين يمكن أن تنفذ إلى قلبه المطالب العقلانية والروحانية ومباني العظماء؟ عندما تغلق المنافذ لا يمكن القيام بأي عمل.
وهذه المسألة تحصل بعينها في مورد عمل الإنسان وشغله، فجميع الأعمال التي يقوم بها الإنسان لديها صورة مثالية؛ سواء كانت صورة مثالية جميلة أو قبيحة. والأعمال الحرام التي يقوم بها الإنسان لها صورة، وكذا الأعمال الواجبة التي يأتي بها الإنسان كل منها لها صورة ولها تأثير مختلف، والأعمال المستحبة التي يقوم بها الإنسان؛ الأشخاص الذين يصومون كثيراً شكل وجههم يختلف عن الآخرين، والذين لا يتركون صلاة الليل يكون وجههم بشكل آخر، نعم فيما إذا كان ذلك مع حالة التقوى، لا أن يكون مجرد آلة، حتى في بعض الأوقات عندما لا يكون الإنسان في الطريق الصحيح ـ لا قدر الله ـ فإن أثر صلاة الليل يكون عكسياً؛ أي تجعل صورته حيوانية، مع أنه يصلى صلاة الليل، وهذه المسألة ـ كما ذكرت لكم ـ لا علاقة لها باللباس، فالآن أنا ألبس لباساً مناسباً؛ أرتدي لباس أهل العلم، وهذا لا علاقة له بشكل وجهي ولا بصورتي، فهل يعلم أحد ما هي صورتي المثالية؟ نسأل الله أن لا يكشفها لكم حتى لا تفروا من هذا المجلس جميعاً، فأنتم لا تعلمون، والله تعالى ستار العيوب، وقد ترك الأمور فعلاً إلى يوم الجزاء، فعندها نعلم ما هناك..

    

حقيقة الإنسان بصورته الملكوتية لا بظاهره

لكن الآن تنظرون فترون أشخاصاً عاديين، بل قد يكونون بحسب الظاهر يقومون بأفعال مخالفة، لكن قلوبهم طاهرة، المرأة قد تكون بدون حجاب لكن قلبها طاهر، بيئتها لم تعلمها وثقافة مجتمعها لم تبين لها حقيقة الأمر، لكن مع ذلك قلبها صاف، فعندما تنظر إلى وجه هذه المرأة تراها بصورة إنسان، مع أنها بلا حجاب، بينما قد ترى امرأة تلبس العباءة لكن وجهها وجه كلب، أو وجه نمر أو ثعلب، لماذا؟ لأنها وضعت حجاباً وسترت جسمها فقط، فالحجاب لا يغير الصورة المثالية للإنسان.. فإذا ألقيتُ العباءة الآن ونزعت هذا اللباس، ولبست قميصاً وسروالاً.. إذا غيرت هذا اللباس فهل أفقد المحفوظات التي لدي؟ وهل تتغير حالتي بمجرد ذلك؟ أو لا؟ فالعباءة لا تجعل إنساناً... نعم، إذا أراد الإنسان أن يضع نفسه في الطريق الصحيح فهذه العباءة ستغيره وتبدله، وهذا الحجاب واللباس سيكون مبدلاً للمرأة، وسيكون مغيراً لها، وذلك فيما إذا استفادت من هذا الحجاب في طريق العفاف، لا في طريق الخلاف، هذه هي المسألة. لكن مع ذلك ترون بأن الكثير من الأشخاص الذين هم من أهل الخلاف في الظاهر ليسوا من أهل الخلاف، ظاهرهم ظاهر غير مناسب؛ لأنهم لا يعلمون، لكنهم ليسوا معاندين، وليس لديهم غرض، فلماذا علينا أن ننظر إليهم نظرة سيئة؟ وإذا رأينا شاباً غير صالح الظاهر فلماذا نحكم على باطنه أنه سيء أيضاً؟ كلا، بل قد يكون باطنه أفضل منا بكثير، وقد يكون بباطنه أقرب إلى الله تعالى منا بمراتب، وقد يكون استعداده أفضل من استعدادنا بكثير، من أين لنا أن نثبت ذلك، لذا علينا أن نغير أنظارنا، وعلينا أن نترك الظاهر ولا نجعله هو المعيار. والحاصل أن الله تعالى هو الذي يعلم ماذا في الباطن فقط:
ظاهرش چون بو ذر وسلمان بود
                             باطنش كفر أبي سفيان بود


ظاهرش چون بور كافر پر حلل
                             باطنش قهر خداى عز و جل




(ظاهره كظاهر أبي ذر وسلمان، لكنه في الباطن يمثل كفر أبي سفيان
ظاهره كقبور الكافرين مليء بالحلل[1] لكن باطنه عذاب الله عز وجل)
فالظاهر جميل وبزي أهل الصلاح، لكنّه في الباطن ـ بحسب تعبير المرحوم العلامة ـ يوجد تحت كل شعرة من شعراته شيطان يسوقه نحو الظلمة والكدورة وإلى جهنم. لكن من الذي يعلم بذلك؟ فهل نجلس ونحصي شياطينه واحداً واحداً؟ والكلام في ذلك كثير، لو أردنا أن نتحدث في هذا المجال لن يسعه هذا المجلس ولا الفضاء، وأنتم ترون ذلك.

    

قصة المرحوم الطيب حاج رضائي

قال المرحوم العلامة يوماً: لو كان زمام دين الله بيدنا وأيدي أمثالنا فلن يبقى له أثر، الذي حفظ دين الله هو هؤلاء اللا أباليين (شباب الشارع) الذين لا نحسب لهم أي حساب أبداً، فهم الذين حفظوا هذا الدين.. يقول أحد العلماء المرحوم الحاج الشيخ صدر الدين الحائري الشيرازي الذي كان من أصدقاء المرحوم الوالد رضوان الله عليه ومن علماء الطراز الأول في محافظة فارس وشيراز، وعلاقته بالمرحوم الوالد ترجع إلى فترة الشباب، وكان قد التقى بالمرحوم الشيخ محمد جواد الأنصاري أيضاً، وقد سمعت منه مباشرة وكان من الأشخاص الثوريين في سنة 42 ش (1962 م) حيث كان مع المرحوم آية الله الخميني والمرحوم الوالد وغيرهم من العلماء كالمرحوم آية الله المطهري والمرحوم السيد صدر الدين الجزائري والمرحوم آية الله السيد محمد علي القاضي الطباطبائي الذي استشهد في تبريز على يد مجموعة فرقان، وكان إمام جمعة تبريز والمرحوم آية الله الميلاني؛ حيث كان له مشاركة في ثورة سنة 42، ولا زلت أحفظ بعض المطالب عن تلك الحقبة.. أحد هؤلاء الأفراد الذي كان لديه غيرة وحمية دينية ومتابعة والذي كان يقف حتى لو كلفه ذلك روحه هو المرحوم الشيخ صدر الدين الحائري الشيرازي، وقد سمعت منه أنه عندما سجن الشاه الطيب حاج رضائي، وبقي في مواجهته للشاه حتى الرمق الأخير، وتعرض لأنواع العذاب في السجن.. وقد سمعت أن المرحوم الوالد ـ لم أسمع منه مباشرة بل سمعت من أحد الأشخاص الموثّقين ـ أنه قال بأن المرحوم الطيب طوى دورته السلوكية في السجن.. عجيب جداً، لقد قضى دورته السلوكية في السجن، حيث تعرض للأذى والتعذيب كثيراً، وقالوا له: اكذب وقل ما نطلب منك؛ قل: لقد أخذت مالاً من السيد الخميني للمشاركة في التظاهرات، فقال: لا يمكنني أن أتهم السيد، فإني لم آخذ منه مالاً، فقالوا سنقتلك، قال اقتلوني.. هل رأيتم؟ لم يقل نعم.. ولم يفتر ولم يخن، بل وقف.. وقال لماذا أكذب؟ فهل نحن الذين ندعي السلوك هكذا؟ ليس لدينا القدرة على تحمل شيء من تلك الضغوط، والحال أنه لو فعل ذلك ـ وقد فعل آخرون ذلك ـ لكان وصل إلى مقامات ومراتب عند الدولة، ألم يحصل ذلك؟ لكنه لم يقل، وقد أدى ذلك إلى قتله واستشهاده وإعدامه رحمة الله عليه. وحينما اعتقل وزج به في السجن، قال لي المرحوم الشيخ صدر الدين: لقد ذهبت أنا ووالدك إلى هنا وهناك وطالبنا بتحرك من العلماء لنقف أمام إعدامه، فهذا الرجل فعل ذلك لأجل الله تعالى، فلماذا نتخلى عنه؟ لقد دخل السجن لأجل إحياء الدين.. فأين ذهبت المروة والرجولة وأين ذهب الكلام عن الإسلام والله؟ لكنهم سحبوا أيديهم من ذلك وكأن شيئاً لم يكن. وقال: لقد سعينا بما في وسعنا للوقوف دون إعدامه، لكن لم نوفّق، ثم قال: ذهبت إلى أحد المراجع ـ وقد توفي فعلاً، ولن أذكر اسمه ـ وقلت له لقد اعتقل هذا الرجل ويريدون إعدامه، فقال نعم أعلم بذلك، فليعدموه.. فليعدموه؟! فقال له الشيخ صدر الدين: من يعدموا؟ يعدمون هذا الرجل المظلوم الذي قام لله؟ ثم قال: إذا أمضيتَ الاعتراض على الإعدام فهناك العديد من الأشخاص الذين سيمضون، فماذا كان جوابه؟ عندما أقول لكم بأن تحت كل شعرة من لحيته شيطاناً.. هكذا كان جوابه: لا يمكننا أن نريق ماء وجه المرجعية لأجل حفظ روح شخص لا مقام له ولا شأن. عجيب، لأجل رجل عادي.. نعم لقد كان عادياً وكان يمتلك قهوة و... أيها الرجل المحترم ماذا تركت للمرجعية؟ بل يا جناب اللا محترم، لماذا كانت المرجعية؟ أليست للدفاع عن المباني؟ أليست المرجعية لإحياء الأحكام، أليست المرجعية لأجل إحقاق الحق؟ أليست المرجعية لأجل إقامة العدل؟ أليست المرجعية لأجل محو الظلم؟ فهذا الرجل الذي في السجن الآن ويراد إعدامه، ألم يقم لأجل الله تعالى؟ لم يقتل نفساً حتى نقول دعهم يعدمونه، بل قام لأجل الله تعالى، والشاه اعتقله وعذبه ويريد إعدامه، لماذا؟ هل هذه هي المرجعية؟ هذه المرجعية يجب أن تزول وتضمحل، هذه المرجعية لا يمكن أن تكون مرجعية إلهية.. ثم قال الشيخ صدر الدين، قلت له: عجيب.. إذاً نحن نريد الناس ما دام لا يحصل لنا أي إشكال. بعد ذلك لم أعد أتحمل الكلام معه، فودعته وقمت.. وبعد ذلك أعدم واستشهد...

    

الإمام يبين للإنسان باطنه

هذه الأمور لا تحصل بهذا الكلام، ولا بأن الشخص عندما يكون بزي الصلاح وأهل العلم، فهو كذلك، كلا أبداً! فالكاميرات التي تصورنا وتسجل ما نقوله هذه تبين ظاهر المسألة، فلو أمكن أن يكون هناك كاميرا تبين باطن الإنسان للناس.. لكن حتى الآن لم يصل التطور والتكنولوجيا إلى هذا الحد، وهذه التي نراها الآن تغرّ جداً؛ حيث إنها تصور الإنسان بشكل جميل ومعدّل ومستوٍ، وتصور كلامه الجميل وخطابه العذب.. ما شاء الله.. كم هو هذا الرجل جيد.. النور يتصاعد منه إلى الأعلى، يا أخي هذا النور ليس نور العلم، بل هو نور النار التي يشتعل بها، لكنك لا تراها، فإذا افترضنا وجود كاميرا تأخذ تلك الصور عنا، هل تدرون ما هي تلك الكاميرا؟ هي ذانك الملكين الموجودين ها هنا، تلك التكنولوجيا لم تحصل بعد، ما هو متاح لهذين الملكين لم تصل له التكنولوجيا بعد، فإذا فرضنا أن عرضنا ما يثبته هذان الملكان على الناس، عندها نرى أن هذا الكلام الذي كان في مصلحته هنا تكلم به، وذاك الكلام الذي لم يكن في نفعه لم يتكلم به، هنا حصل كذا وهناك كذا.. وهذا فيلم عنه.. عند ذلك ما الذي سيحصل؟ ماذا سيحصل عند ذلك؟ عمر بن سعد قبل مجيئه إلى كربلاء لم يكن أحد يعلم أنه كذلك، بل كان الناس يصلون خلفه، لكنه عندما أتى إلى كربلاء بيّن الإمام الحسين عليه السلام حقيقته وكشف عن تلك الكاميرا، وبدأ بتصوير ذاك الباطن الذي كان لديه وأبرزه يوم عاشوراء، وأعلن أنه باطن هذا الرجل هو ما ترون.. هذا الذي تصلون خلفه يقتلني، أنظروا.. لم يقتلني فقط بل يقتل أخي ويقتل طفلاً في السنة العاشرة، بل يقتل طفلي الرضيع.. بالنسبة إلينا نحن الرجال يمكننا أن نقاتل فنقتل ونُقتل، لكن هذا الطفل الرضيع ما ذنبه؟ لكن تلك الكاميرا تصور هذه الأمور جيداً.. فهو يمضي ويمضي إلى أن يصل إلى قتل طفل رضيع، ويقتله وكأنه يشرب الماء، ويأمر حرملة برميه وقطع الفتنة، فالحسين يريد أن يوقع الفتنة بحمله الرضيع، ماذا فعل الإمام الحسين؟ قام بتصوير المشاهد كلها، فمن كان مجهولاً لدى سائر الناس صار في يوم عاشوراء معروفاً؛ لقد انكشف حال الشمر، وحال سنان.. وكذا انكشف حال الحر بن يزيد الرياحي، هذا كان ظاهره الانحراف، أما باطنه فكان شيئاً آخر. انكشف الأشخاص الموجودون في هذه الجهة وفي هذه الجهة. زهير بن القين البجلي كان ظاهره عثماني المذهب، لكن باطنه كان جيداً، فأتت كاميرا الإمام الحسين وصوّره وأظهر باطنه، وقال باطنك يفرق عن باطن الآخرين، بعد ذلك أتى وصار حسينياً، هذا الرجل الذي كان يفرّ من اللقاء بالإمام الحسين قال يوم عاشوراء: لو قتلنا سبعين ألف مرة وحرّقنا لما تركنا الحسين، إلى أين أذهب؟ يأتي هذا الباطن ويظهر أمام الملأ، فعمل الإمام الحسين عليه السلام هو المحك، وهو الذي يظهر الذهب من غيره، ويبيّن الخالص من غير الخالص، فنفس الإنسان الذي لم تكن واضحة ـ حتى لنفس الشخص ـ يأتي الإمام ويبيّنها له، ويقول أنت لديك هكذا نفس، فأين تذهب؟ وبماذا تؤنس نفسك؟ لا خبر لديك عن نفسك، فأنت بمثابة الكيمياء، يمكنك أن تبدل النحاس إلى ذهب، لكن لا خبر لديك عن ذلك، تعال إلى هنا، ثم يأتي ويبين له الإمام الفلم الذي أخذه عنه، فيقول عجباً! هكذا إذاً أنا، فكيف التحقت بجيش عمر بن سعد؟ في يوم عاشوراء بيّن الإمام للحر الفلم الذي أخذه عن باطنه، وقال له هذا أنت، فإلى أين تذهب؟ وانقدح في نفسه ذلك، وقال عجباً إلى أين أنا ذاهب؟ لقد سددت الطريق أمام الحسين وقمت بهذا العمل وذاك العمل، بينما عمر بن سعد يقول لا! بل سنضرب ونقف حتى النهاية، وكان جاداً في ذلك، الإمام كان في الطرف المقابل للحر، لكن مع ذلك فقد حرك في نفسه الصحوة، وشغل الكاميرا وبدأت بأخذ الفلم، وبيّنت له حالته الباطنية، فهذا الرجل لم يعص ولم يرتكب ذنباً.. وهكذا عملت الكاميرا على بيان حقيقة الأمر، فكشفت له عن حقيقة ذهنه ونفسه وقلبه وذاته.. الإمام هو الذي يقوم بهذا العمل عن بعد، فالإمام واقف في الجهة المقابلة وبعيد عنه ثلاثمائة متر تقريباً، لكنه يبين له الحقيقة، وهكذا الأمر بالنسبة لنا جميعاً. وهذا سر من الأسرار، وأنه كيف يظهر للإنسان باطنه، وعلى الإنسان أن يعتبر من ذلك، فلا يضيع الفرص. فعندما يرى أن لديه نقطة ضعف عليه أن يعرف أن الكاميرا قد اشتغلت، وعندما يشعر في نفسه بوجود عيب فليعلم بأن الكاميرا قد اشتغلت هنا، وعليه أن يسعى للقضاء عليه والوصول إلى المطلوب.
وعلى كل حال عناية الله ولطفه تعالى شامل للجميع، ولا يمكننا أن ننظر إلى الأشخاص ونحكم عليهم على أساس ظاهرهم؛ إذ من الممكن أن ننظر إلى الشخص الذي ظاهره غير متناسب نظرة اشمئزاز.. كلا أبداً، بل قد يكون لديه قلب صاف وطاهر، وقد يكون أفضل منا عند الله وأقرب، لكنه ينتظر حتى تأتي تلك النفحة الإلهية، فإذا أتت تلك النفحة تراه يسير مسرعاً بحيث لا يمكننا الوصول إلى غبار أقدامه. هؤلاء الذين يطردون من قبل أهل الظاهر وينفر منهم ويبتعد عنهم.. هؤلاء لا يبتعد الله عنهم، بل يقال لهم: تعالوا فأنتم على استعداد وأنتم اللائقون بهذا الطريق:
خوش بود گر محك تجربه آيد بميان
                             تا سيه روي شود هر كه در او غش باشد


[يعني:]
[اصبر لخطب الابتلا والمعتركْ
                             كي يفتضح غشّ المنافق في المحكْ
]


هذه تجربة جيدة، وهي تجربة لنا جميعاً وامتحان، وعلينا أن نطلب من الله تعالى أن يوفقنا في هذه الامتحانات، وأن لا تزل أقدامنا لا قدر الله، وأن لا نمشي في طريق تكون عاقبته مبهمة لنا.

    

المعايير الملكوتية تختلف عن معاييرنا الظاهرية

وهناك مطالب كثيرة حول هذا الموضوع، طبعاً الليلة لم يكن مرادي الكلام في هذا الموضوع، بل كنت أنوي التحدث عن البحث السابق، لكن الكلام انجر إلى هذا المطلب، وشعرت أن الكلام في ذلك جيد على كل حال، مع أن الإخوة يعلمون بأن الأعمال التي نقوم بها كل منها له أثر خاص، ولها تأثير على ملكوتنا؛ الفعل الحرام والفعل المكروه والمستحب والواجب، وعلى الإنسان أن يفعل ما هو مورد رضا الله تعالى حتى لو لم يكن واجباً، والمسألة ليست بالكَم، وليست بالكبر والصغر... لقد تحدثت لكم أن وضع اليد على رأس يتيم قد يؤثر على الإنسان ويبدّله ويغيّره أكثر من مائة حجة وعمرة، فالمعايير هناك مختلفة.. رفع الغمّ عن قلب مؤمن أو إدخال السرور عليه يعادل مائة سنة من صلاة الليل، بل قد لا يصل إليه، فقط بإدخال السرور على قلب مؤمن. ومن جهة أخرى لا قدر الله تعالى إذا حصل ظلم، وإذا كسرنا قلب مؤمن بغير حق ـ أما بالحق فلا، بل بغير حق ـ فالويل لنا. يقول المرحوم الوالد بأنه أحياناً يؤدي كسر قلب إنسان مؤمن إلى القضاء على أثر العبادة والأعمال السلوكية لأربعين سنة، لا فقط أربعين يوماً.. بل إنه يحرقها جميعاً، ويفنيها كلها.. فإنه لا يمكن الاستهزاء بعباد الله تعالى، ولا يجوز المزاح مع القلب الذي يوجد فيه الله. لذا على الإنسان أن يلتفت إلى هذه الموازين حتى يكون محلاً لاستجلاب الخير، فعندما يسعد قلب المؤمن يسعد الله بذلك. وإذا كسر قلب شخص أو أغمه يكون قد كسر قلب الله تعالى وأغمه، خصوصاً فيما إذا لم يكن لذلك المظلوم أحدٌ إلا الله تعالى. يقول أمير المؤمنين عليه السلام أو سيد الشهداء في كلامه لابنه: >إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله<. أي ابتعد عن ذلك واهرب من ظلم ذاك الشخص، فإن أثره كبير، وهو يقضي عليك ويفنيك. والحاصل أنه علينا أن نلتفت إلى هذا الأمر: وهو أننا دائماً في حالة تغيير وتبدل، فإذا صدر منا ذنب سنتجه نحو الهلاك والكدورة، وإذا رجعنا وتبنا واستغفرنا الله وأصلحنا الأمور.. ترجع لنا تلك الحالة، وباب رحمة الله تعالى مفتوح دائماً في وجهنا.
نسأل الله تعالى أن يوقفنا دائماً للقيام بما هو موضع رضاه ورغبته.
اللهم صل على محمد وآل محمد


[1] ـ باعتبار أن النصارى والمجوس يزينون قبورهم بالذهب والجواهر.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی <-- -->