معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
المقالات و المحاضرات > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1432 هـ > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1432 هـ - الجلسة السابعة: حسن الظن بين الإفراط و التفريط

_______________________________________________________________

هو العليم

سلسلة شرح دعاء أبي حمزة الثمالي للعام 1432 هـ

المحاضرة السابعة: حسن الظن
بين الإفراط والتفريط

ألقيت هذه المحاضرة في الليلة الحادية عشر من ليالي شهر رمضان المبارك

ألقاها:

سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين

«وَقَدْ رَجَوْتُ أَنْ لاَ تُخَيّبَ بَيْنَ ذَيْنِ وَذَيْنِ مُنْيَتِي، فَحَقِّقْ رَجَائِي وَاسْمَعْ دُعَائِي‏، يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ‏»

    

تعامل الله عزّ وجلّ مع العباد مرآة لنظرتهم إليه وظنّهم به

يقول الإمام في هذه الفقرة: يا إلهي حقّق رجائي وأملي وطمعي.. ولا تردّني خائباً بين ذين وذين. والمشار إليه في "ذين" الأولى هو: الجرأة على سؤالك مع إتياني ما تكره، وذلك لجودك وكرمك العميم الواسع، فهذان هما الأمران الأولان. وأما الأمران الآخران اللذان يمثّلان زادي ورأسمالي في الدنيا فهما: رأفتك ورحمتك مع قلّة حيائي في ما يسخطك، فلو أنّي كنت أستحيي وأخجل لامتنعت عن القيام بهذه الأمور.
حسناً فالإمام يقول إنّ هذه الأمور الأربعة جعلتني في مقام لا يُسلب منّي الأمل بك.. الأمل بسعة رحمتك وشمول جودك وكرمك، وقد روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، وكذلك عن الأئمّة عليهم السلام حديث قدسي مفاده أنّ الله تعالى يقول: «أنا عند ظنّ عبدي المؤمن بي»، أي أنا أعتمد في علاقتي مع عبادي المؤمنين على ما يعتقدونه بي...
هل رأيتم نوعاً من الناس دائماً لديهم سوء ظنّ في كلّ شيء؟! يسيئون الظنّ في الأرض والسماء.. أصلاً هذه هي فطرتهم، إذا ما سمعوا باسم أحد فإنّهم يقولون: لا تذكر فلاناً فهو لا يمتلك شيئاً من الصواب، وإذا ما سمعوا بآخر قالوا: لا، دعه! فهذا ليس بإنسان أصلاً لتسمع كلامه، وإذا سمع ثالثاً قال نحو ذلك وهكذا... فهو دائماً يتعاطى مع الناس من خلال رؤية تشاؤميّة، ومنشأ هذه الرؤية هو نفسه؛ فنفسه معوجّة وليست مستقيمة، وبما أنّها منحرفة معوجّة فهي تنقل اعوجاجها إلى الآخرين.. فتجده دائماً يقول: لا تأت بذكر فلان ولا تصغِ إلى كلام فلان ولا تتّبعه... وهكذا فهو دائماً يحكم على الناس بالسلب، لماذا؟ لأنّه هو نفسه أعوج، والأعوج يرى الناس كلّهم معوجّين.

    

النبيّ والأئمّة والأولياء كالمرآة الصافية التي يرى فيها الإنسان حقيقة نفسه

كان النبيّ جالساً فمرّ به رجل وكان من أهل الانحراف، وكان النبيّ يتيح للناس أن يقولوا له ما يحلو لهم، ولم يكن ليعدمهم بمجرّد أن يتفوّهوا بأيّ كلام! لا.. بل كان كلّ رجل يعبّر له عمّا في قلبه، فاقترب هذا الرجل من النبيّ وقال له: يا رسول الله لمَ أنت كذلك؟! فأنا عندما أراك لا أسرّ لمَرآك ولوجهك، فأنت لست جميلاً، والخلاصة اذهب وأعد النظر في نفسك فحالك ليس جيّداً أبداً، وأمرك ليس على ما يرام. فقال له النبيّ: صدقت. ثمّ مرّ به رجل آخر فقال له: ما شاء الله! يا لحسن وجهك! كم أنت جميل أيّها النبيّ، فأنت نبيّ وكذلك أنت حسن الوجه وجميل، وقد اجتمعت فيك المحاسن.. نور على نور، فقال له النبيّ: صدقت. فسأل الصحابة الحاضرون النبيّ عن ذلك، فقال: ذاك نفسه معوجّة، فهو يراني معوجّاً، فأنا كالمرآة؛ عندما ينظر إليّ يرى نفسه، غاية الأمر هو لا يريد أن ينسب القبح إلى نفسه فينسبه إليّ، فيقول: كم أنت قبيح المنظر! كم هي قبيحة هيأتك! هو كذلك، عندما تتكلّم معه مدّة دقيقتين تلمس كم لديه من الكدورة، فإذا انتقلت كدورته إليك فهمت ما هي حقيقة الأمر، ولكن هو يرى ذلك في النبيّ، أمّا ذاك الرجل الآخر فهو طاهر ومستقيم ومؤمن ونورانيّ، وبما أنّي مرآة فعندما ينظر إليّ فإنّه يرى صفاءه فيّ أنا.
وهذه المسألة عجيبةٌ جدّاً، وقد كنّا نلمسها في أيام المرحوم العلاّمة وفي أيام أستاذه، فالذين كانوا يأتون إليه كان بعضهم يقول: كم هو رجل نورانيّ! كم هو رجل عظيم! كان صدرهم ينشرح. في حين كان آخرون يقولون: أهذا هو السيّد الطهراني الذي يتكلّمون عنه!؟ هذا هو الذي أثار الضجيج؟ فنحن لا نشعر بشيء، ترى ما هو الأمر الذي أعجب الناس فيه، نحن لا ندرك شيئاً!!
كنّا ذات يوم في مدينة قم هذه[1]، فذهبنا إلى مكان ما برفقة المرحوم العلاّمة، وكان هناك بعض الطلاب اثنان أو ثلاثة، وكان أحدهم سيّئ الأدب، حيث أنّ صديقه سأله عن السيّد العلاّمة بصوت خافت: من هذا؟ فقال له بهدوء عبارةً عربيّةً تخلو من الأدب وأنا لا أنقلها... حينئذٍ وجدت كلام النبيّ هذا مجسماً بنفسه، فكأنّ رسول الله كان جالساً وقد تكررّت تلك الحادثة بعينها... لن أنقل العبارة التي ذكرها ولكن كان معناها أن: لا تنظر إلى الصورة الخارجيّة فالباطن خالٍ، والحال أنّه لا يعرف حتّى اسمه، ولكنّه بمجرّد أن ينظر إليه يرى نفسه، أوَليس أولياء الله أصفياء مطهّرون وهم كالمرآة، ما إن تنظر إليه حتّى يريك حقيقة نفسك، ولكن كان أحد هؤلاء الحاضرين قد تأذّى كثيراً لكلام صديقه، رغم أنّهم أصدقاء إلا أنّه تأذّى وقال له: ما دمت لا تعرفه فلا تتكلّم! فتأذّى هذا الصديق منه أن لماذا تعترض عليّ؟ كان ينبغي أن تؤيّدني، ولقد رأيت أنّ ملامح وجه هذا الشخص الثاني قد صارت ملامح متواضعة للمرحوم العلامة، حتّى أنّه دنا منه ليقبّل يده فامتنع المرحوم العلاّمة. لقد جاء ذاك وقال تلك العبارة القبيحة مع أنّه لا يعرف المرحوم العلامة، فما دمت لا تعرفه فلماذا تقول: لا تنظروا إلى ظاهر هيأته فإنّ باطنه خاوٍ، لقد كان هو الخاوي والخالي.
من العجيب جداً أنّ الإنسان عند مواجهته للحقّ يظهر حقيقة نفسه، وقد ذكرت لكم في الليلة الماضية أنّ بعض الناس ليسوا إلاّ مظاهر خادعة، فقط يفكّرون كيف يتكلّمون، ولكن عندما يواجهون حقّاً ما ولا يعود هناك تظاهر ولا مجال للتظاهر فإنّهم يظهرون ما في ضميرهم... لقد كنت يوماً برفقة المرحوم العلامة في إحدى المطارات، وكان هناك مسؤول يستلم البطاقات والحقائب، وبينما كان ينظر إلى المرحوم العلاّمة نظرت إليه فوجدت أنّه إنسان سيّئ جداً، وبالفعل كان يقوم بتيسير أمور المسافرين ولكن ما إن وصل إلى المرحوم العلامة ووقعت عينه عليه حتّى أرجع البطاقة، ولم يقبل، وأخذ يختلق المشكلات، لقد قبل بطاقات الجميع، ولكن ما إن وصل إلى المرحوم العلاّمة حتّى توقّف، أليس هو خبيث الباطن؟! فهنا يظهر خبث باطنه، سائر الأفراد ليسوا بمرايا، لذا فهم يأتون وينجزون أعمالهم دون أن يحدث أيّ إشكال، أما هذا [أي السيّد العلاّمة] فهو مرآة، عندما يأتي فينظر فيها تظهر له حالته الباطنيّة، فيشرع بالأذى، والعجيب هو أنّه ما إن انقضت هذه المسألة حتّى التفت إلينا المرحوم العلاّمة وقال: أرأيتم كيف تصرّف هذا أيها الأبناء؟ (وكنت في السابعة عشرة من عمري)، ثمّ قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله جالساً فمرّ به رجل وأخذ بشتمه وذمّه ... [وحكى لنا تلك القصّة]، وهذا الرجل لم يكن لديه أيّة مشكلة مع أحد، ولكن ما إن وصل إلينا حتّى فعل ما فعل، فهذا الذي جرى معنا هو نفس تلك المسألة بعينها. فلا تظنّوا أنّ الأمر مختصّ برسول الله صلّى الله عليه وآله، فلو صار قلب الإنسان مرآة لانعكست فيه الصور المقابلة فلا يزيد عليها ولا ينقص، قال: هل رأيتم كيف جاء هذا ورأى ما في نفسه؟!.
والأمر كذلك في الطرف المقابل أيضاً؛ فقد كان يأتي إلى أولياء الله بعض الأفراد وهم لا يعرفونهم، ولكن بمجرّد أن تقع أعينهم عليهم فإنهم يشعرون بالأنس والسرور، لم يكونوا يعرفونهم ولكن بنظرة واحدة تدخل محبّة أولياء الله في قلوبهم فيتوقّفون؛ لقد كنت يوماً في المطار برفقته رضوان الله عليه وكان يريد أن يتشرّف بالذهاب إلى مدينة مشهد، وذلك بعد أن جاء إلى طهران لمعالجة مرض أصابه، وكان ذلك تقريباً قبل ثلاث سنوات من وفاته، فكنّا جالسين في مطار طهران، وقد كان من المقرر أن يذهب برفقته إلى مشهد بعض الرفقاء، ولذلك لم يكن غرضي من المجيء معهم إلا توديعه ومشايعته، وبينما كنت جالساً اقتربت منّي امرأة ولم تكن تراعي الحجاب بشكل دقيق، أي أنّها كانت متحرّرة وغير ملتزمة بالأحكام الشرعية وكانت متوسّطة العمر فقالت: عفواً يا سيّد لديّ سؤال، فقلت لها: تفضّلي لعلّه خير، قالت: هل هذا السيّد من أقاربكم؟
فقلت: نعم.. هو والدي، فهل لديك أمر أو حاجة؟ (و كان السيّد الوالد يتحدّث مع أحد الأشخاص).
فقالت: عندي سؤال، فهل يمكن أن تسأله هذا السؤال نيابة عنّي؟
فأردت أن أتفحّص وأستكشف سبب اختيارها للسيّد العلاّمة من بين كلّ أولئك الأفراد؛ فقد كان هناك الكثير من أهل العلم حاضرين في المطار حينئذٍ، حتّى أنّ بعضهم كان مسنّاً ، وكانوا يريدون أن يتشرّفوا بالذهاب إلى مشهد، حيث كان هناك أحد المناسبات الخاصّة ولا أذكرها بالدقّة، والظاهر أنّه بسبب هذه المناسبة كان هناك العديد من أهل العلم ذاهبين إلى هناك، وكان عددهم حوالي عشرة أو خمسة عشر شخصاً... فقلت لها: إنّ كلّ هؤلاء العلماء موجودون هنا، فلماذا لا تذهبين وتسألينهم؟ (و كنت أريد بذلك امتحانها لكي أعرف لماذا اختارت أن تقصد السيّد العلاّمة بالخصوص).
فقالت: يا سيّد أنا لا أرغب في سؤال أيّ منهم أصلاً..
فقلت: لماذا ذلك؟
فقالت: أنا أشعر بالنفور منهم جميعاً!
فقلت: فكيف إذاً أعجبك سماحته (أي السيّد العلاّمة)؟
فقالت: لا أدري.. ولكن عندما وقع نظري عليه، فإنّ محبّة هذا السيّد وقعت في قلبي، أمّا الباقين فلم تقع محبّتهم في قلبي.
فقلت في نفسي: أنا هنا أستسلم، فليس من وظيفتنا بعد الآن أن نسأل: لماذا؟ ومن أجل ماذا؟ فهذا القلب هو الذي يعمل هنا، والنفس هي التي تعمل هنا، فقلت لها: جيّد جدّاً، وذهبت إلى السيّد العلاّمة ونقلت له سؤالها، وكنت أعرف الجواب، ومع ذلك ذهبت إلى السيّد العلاّمة وقلت له إنّ هذه السيّدة تسأل هذا السؤال، ومن جانبه فقد أظهر سماحته لها لطفاً ومحبّة، فأثّر ذلك فيها كثيراً وسعدت بشكل لا يُتصوّر، فأخذت جوابها وذهبت مسرورة. إنّ هذه النظرة الواحدة تؤثّر كثيراً.. نظرة واحدة!
و لو أردت أن أنقل لكم الحكايات التي من هذا القبيل التي حصلت مع سماحته، ومع غيره من أولياء الله، لطال بنا المجلس حتّى مساء الغد دون أن تنتهي!
حسناً.. من هم هؤلاء الأفراد؟ إنّهم أشخاص بحسب الظاهر لم يكونوا من أهل الالتزام.. [فتلك المرأة] لم يكن عندها التزام شديد.. لم تكن تجرّ خلفها عباءة طولها مترين، ولم تكن تلبس ثلاثة أغطية للوجه، ولم تكن من أهل دعاء السمات وأبي حمزة الثمالي والافتتاح، وبشكل عام فقد كان شكل هؤلاء الأفراد حاكياً عن ذلك، ولكن ماذا؟ القلب طاهر، هذا القلب طاهر، وعندما يكون القلب طاهراً، فإنّ العلاقة تنشأ مع القلب أيضاً لا مع الظاهر، فالربط والعلاقة ليسا من شأن الظاهر، بل هما من شأن القلب، رغم أنّه بحسب الظاهر فإنّ الأمر لا يساعد كثيراً، إذ لم يكن لهم ظاهر صالح ومناسب، فهؤلاء مستضعفون وجاهلون.
إنّ أولياء الله، والأنبياء والمعصومون يوجّهون حديثهم إلى قلوب الأفراد لا إلى قالبهم وجسمهم، إنّهم يتكلّمون مع قلوب الناس، ويقيمون العلاقات مع القلوب، ويزرعون المحبّة والصميميّة في القلوب، فإذا كان القلب صافياً، فستجده ينجذب إلى أيّة نقطة يجد فيها النور، فيتجه إلى ذلك الجانب، وليس من الضروري أن يكون ذلك الشخص صاحب النور من أولياء الله، بل يكفي أن يكون إنساناً مستقيماً من أهل المعنى.. أن يكون قلبه صافياً... في هذه الحالة ستجدون أنّ ذلك الشخص سينجذب إليه، وميله سيكون بهذا الاتجاه.

    

بيان معنى الولاية، وحقيقة الفرق بين ولاية النبيّ وولاية الإمام وولاية الوليّ الكامل

يعني هناك حقيقة واحدة وواقعيّة واحدة تجري وتسري في كلّ مكان، وقد ذكرت في الليلة البارحة أنّ حقيقة الولاية سارية وجارية في جميع المظاهر، وغاية الأمر أنّ حقيقة الولاية تكون في أحد المظاهر بصورة بحرٍ ومحيط مثل ولاية رسول الله، وفي مكان آخر نجد أنّ حقيقة الولاية تلك ليست بشكل ذلك البحر بل هي في دائرة أكثر محدوديّة مثل العرفاء الإلهيين، فالعرفاء لهم مراتب مختلفة بحسب سعتهم وظرفيّتهم، وفي مكان آخر تكون بشكل جدول ماء صغير.. نفس حقيقة الولاية تلك، ولكنّها تسري في جدول ماء، فالماء ماء واحد، ولو أخذتم الماء إلى المختبر لتحليله، فستجدون أنّ ماء البحر ذاك، وهذا الماء الموجود في الجدول شيءٌ واحدٌ، ولا فرق بينهما.. غاية ما في الأمر أن هذا كثير وهذا قليل.
لماذا هما أمرٌ واحد؟ لأنّ الولاية التي هي حقيقة اتصال الأسماء والصفات، وظهور الأسماء والصفات... فنفس تلك الأسماء والصفات هي التي تتبلور وتتحقّق بصورة الأسماء والصفات الجزئيّة، فهما ليسا أمران مختلفان ومتفاوتان، فالجدول الذي يجري فيه الماء لا يملك ماءً من ذاته، بل هو قد أخذ الماء من النهر، والنهر بدوره قد أخذ الماء من البحيرة، والبحيرة أخذت من البحر، والبحر يأخذ من المحيط.. فهي أمر واحدٌ لا أكثر، وغاية الأمر أنّه من ناحية السعة يوجد بينها مراتب مختلفة، وهذا الأمر لا شكّ فيه، فمن حيث السعة نجد أنّ دائرة نفس رسول الله كالمحيط، وحتّى الأئمّة بعد رسول الله هم دون رسول الله من ناحية السعة، فليسوا مساوين له بل هم أدنى منه، ولكنّ الواقعيّة واحدة، فـ "كلّهم نورٌ واحد" ، إنّ كونهم نوراً واحداً يعني أنّ حقيقة الولاية فيهم واحدة، ولكن يختلفون بلحاظ السعة والمحدوديّة، والتكرار في التجلّي لا معنى له.
و أمّا بالنسبة للأولياء الإلهيين فالأمر كذلك أيضاً، ونحن من هنا نستفيد أنّه: رغم وجود روايات عن لسان الأئمّة تقول: «لا يقاس بنا أحد»، ولكن من ناحية الحقيقة النوريّة والولائيّة فهم أمرٌ واحد ولا تفاوت بينهم، فتلك المعرفة الموجودة عند رسول الله بالنحوّ الأتمّ، نفس هذه المعرفة موجودة عند أمير المؤمنين بالنحو التامّ، فالأتمّ هو رسول الله، وبالتالي فأمير المؤمنين ليس أتمّاً، فالتجلّي الأعظم في رسول الله: «اللهمّ إنّي أسألك بالتجلّي الأعظم في هذا الليل المعظّم» .. فالتجلّي الأعظم هو تجلّي رسول الله، وبعد رسول الله أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء، وهكذا الأئمّة واحداً بعد الآخر حتّى يصل الأمر إلى حضرة بقيّة الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وبعد حضرة بقيّة الله أولئك العرفاء والأولياء الواقعين تحت ولاية حضرة بقيّة الله، فولايتهم هي نفس ولاية بقيّة الله.. نفس الولاية! لا أنّهما أمران في عرض بعضهما، فلا معنى لوقوعهما في عرض بعضهما، فنحن عندنا ولاية واحدة لا أكثر، وهذه الولاية هي الولاية الإلهيّة التي تنشأ من حقيقة الذات، وبواسطة الوليّ (أي رسول الله صلّى الله عليه وآله) تجد طريقها إلى الظهور الخارجيّ والعينيّ، ولها تجلٍّ خاصّ في كلّ نفس من نفوس المعصومين عليهم السلام، حتّى نصل إلى زماننا الحالي.. فالآن نجد أنّ تلك الولاية لها ظهور وبروز خارجيّ في نفس إمام العصر عجّل الله فرجه الشريف.
ما هو معنى الولاية؟ إنّها تعني الوساطة في تنزيل إرادة الله في عالم الوجود بواسطة الأسماء الكلّية والصفات الكلّية.. هذا هو معنى الولاية، وبالتالي فبناء على هذا، عندما يصل أحد الأولياء إلى مقام الولاية.. أي عندما يصل إلى الفناء، فتضمحّل بذلك أنانيّة النفس.. وعندما تزول كدورة الغيريّة من البين.. وعندما تنمحّي الشوائب النفسانيّة وتزول بالكليّة وهو ما نعبّر عنه بالفناء الذاتي، فإنّ البقاء الذي يصل إليه هو نفس تلك الولاية الخالصة الصافية الخاليّة من الغلّ والغشّ والكدورة والظلمة وشوائب الكثرة، فهو يأخذ من تلك الولاية النابعة من نفس الوليّ الحيّ الذي هو إمام العصر والزمان ويبرزها! فما الفرق إذاً بينه وبين الإمام عليه السلام؟ لا شيء! لم يعد هناك فرق.
أمّا من ناحية السعة الوجوديّة فالفرق موجود وثابت، فالإمام عليه السلام بحرٌ، وأمّا الوليّ فمن الممكن أن يكون نهراً كما بيّنا قبل قليل.. فذلك الفرق موجود بالتأكيد، فالواسطة الأولى هي الإمام عليه السلام، فلا شكّ في ذلك أبداً.. «أنتم الصراط الأقوم، وشهداء دار الفناء وشفعاء دار البقاء» .. فالصراط المستقيم وواسطة الفيض من الله تعالى عبارة عن نفس الإمام عليه السلام، ولكنّ الكلام [ليس عن السعة] بل كلامنا عن أنّه عندما يأتي الماء من البحر إلى النهر فإنّ الماء لا يتغيّر ولا يتبدّل، ولا يصير خلاًّ.. ولا يصير عصير الفاكهة أو خلّ التفاح أو أيّ نوع آخر من السوائل! بل نفس ذلك الماء الموجود في البحر يأتي هنا، فإذا شئت أن تذهب إلى البحر، وتشرب منه الماء فإنّك ستُروى وسترفع عنك العطش، وإذا شئت فبإمكانك أن تأتي إلى النهر لتشرب منه، فإنّك أيضاً ستروى وسترفع عنك العطش دون أدنى فرق، وبإمكانك أن تأتي إلى الجدول أيضاً (بشرط أن يكون صافياً، لم يتلوّث ماؤه بالغبار والطين ها! ولم يتغيّر لونه وطعمه! بل هو مرآة صافية تماماً..فينبغي أن يكون مرآة!)، تعال هنا واشرب فلا فرق أيضاً.. جميعها أمرٌ واحدٌ ولا فرق بينها.
إذا ذهبتم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسمعتم الكلام منه، فينبغي أن تعملوا به وتطبّقوا، وإذا ذهبتم إلى أمير المؤمنين عليه السلام وسمعتم منه، فيجب أن تعملوا بأمره وتطبّقوا أيضاً، ولا يحقّ لكم أن تذهبوا إلى رسول الله فتقولوا له: يا رسول الله.. لقد كنت عند عليّ اليوم، وسمعت منه هذا الكلام، فهل أعمل به أم لا؟ هذا خطأ، فالأمر لا يحتاج إلى سؤال ولا إلى أخذ الإذن والإجازة.
فعندما يقول لك أمير المؤمنين عليه السلام: اذهب ونفّذ هذا العمل، فلأيّ شيء تريد أن تذهب لأخذ الإذن من رسول الله؟! والسرّ في ذلك أنّه: «كلّنا نورٌ واحد» ؛ فعليٌ عليه السلام قد حاز على نفس مرتبة الولاية تلك، فلأيّ شيء تريد أن تسأل؟
أو إذا شئت فبإمكانك أن تذهب إلى سلمان، ولكن ليس أيّ شخصٍ آخر غيره ها!! بل سلمان! فإذا ذهبت إلى سلمان، وقال لك سلمان: اذهب وافعل الأمر الفلانيّ، فليس من الضروريّ أن تذهب وتستأذن رسول الله وأمير المؤمنين، لأنّ «سلمان منّا أهل البيت»، لقد صار سلمان من أهل البيت! ولهذا عندما تذهب إلى سلمان وتعمل بأمره فإنّ أمير المؤمنين سيقول لك: "أصبت"، وقد وقع ذلك .. "أصبت" بعملك، وما فعلته كان صحيحاً، فكلّ ما يقوله سلمان حقٌّ، ولكنّ الأمر ليس كذلك بالنسبة للآخرين.. الآخرون ليسوا كذلك، فسلمان قد وصل إلى مرتبة الولاية، وها هنا مسائلٌ وأسرارٌ ، بحيث وقع البعض في إشكالات وشبهات..
و حتّى في الروايات، وفي الحكايات وفي التاريخ ... جميع ذلك يرجع إلى حيثيّة الولاية الموجودة هنا، وبواسطة حيثيّة الولاية تلك، يصير المظهران الاثنان مظهراً واحداً، ولن يكونا مظهرين متفاوتين بعد ذلك.. أجل.. من ناحية السعة الوجوديّة.. [هناك فرق] فأمير المؤمنين عليه السلام بحرٌ ومحيط، أمّا سلمان فنهر.. أجل، وهو بنفسه يعترف بذلك...
و لكن كلامنا في هذا المطلب: عندما يقول سلمان: افعل هذا العمل، فهل تكون بذلك الحجّة علينا تامّة من الناحية الشرعيّة والعقليّة؟ بلى تامّة.. لماذا؟ لأنّ كلامَ سلمان كلامُ عليٍّ وكلامُ رسول الله صلوات الله عليهما، وهذا ينطبق على كلام سلمان فقط دون الآخرين كعمّار أو غيره، فهؤلاء لهم مراتبهم الخاصّة، ولا علاقة لبحثنا بهم، فالله أعلم بحالهم ولا علم لنا نحن، ولكن بالنسبة لسلمان فعندنا يقينٌ بأنّ كلام سلمان كلام عليّ وكلام رسول الله.. سواءً سمعته من رسول الله أم سمعته من سلمان، ومن المحال أن يكون هناك تفاوت بين كلام سلمان وكلام عليّ وكلام رسول الله.. إنّ ذلك مستحيل وغير ممكن! ولو كان ذلك ممكناً فهذا يعني أنّ سلمان لم يصل إلى مرتبة الولاية، لأنّه إذا وصل الشخص إلى الولاية فلا معنى حينئذٍ للاختلاف!
أجل.. يمكن لنفس الإمام عليه السلام أن يقول كلاماً مختلفاً أحياناً، فمن الممكن أن يقول كلاماً في واقعةٍ ما، ثمّ يقول كلاماً آخر في واقعةٍ أخرى، فذلك لا إشكال فيه لأنّ الدواعي متعدّدة، ولكن كما قلت في الليلة الماضية: إذا كانت الواقعة واحدة، والموضوع واحداً، والمخاطب واحداً.. فليس من الممكن أبداً أن يكون هناك اختلاف بين كلام الوليّ وكلام المعصوم!

    

كلام أولياء الله مصداق تام للحقّ و هو واجب الاتّباع

و بالتالي فنفس تلك الحُجّة الموجودة في كلام المعصوم عليه السلام موجودةٌ بعينها في كلام سلمان، وغاية الأمر أنّهم لا يقولون لنا: تعالوا واسمعوا كلامنا نحن... فسلمان لم يكن ليقول: تعالوا واسمعوا كلامي! ولكنّ السامع يجب أن يكون عاقلاً.. المخاطب يجب أن يكون عاقلاً..
السيّد الحدّاد ما كان ليقول للناس: تعالوا وأطيعوني.. لماذا؟ لأنّ هؤلاء ليسوا من أهل الادّعاء والدعوة إلى أنفسهم! ولكنّهم كانوا يقولون هذا الكلام: يا عزيزي.. افتح عينك.. افتح عقلك وفهمك.. وحيثما رأيت الحقّ فاتّبعه وأطعْه، كانوا يقولون مثل هذا الكلام، فهذا لا إشكال فيه.. أطعه واتّبعه، وهذا هو الدليل عليه أيضاً!
ما الذي قاله السيّد العلاّمة للمرحوم المطهّري؟ قال له: إذا كان عندك شكّ فيه [أي سماحة السيّد الحداد]، فقم وامتحنه.. قمْ واختبره بنفسك! والحقير كان موجوداً في المنزل في ذلك الوقت عندما جاء الشيخ المطهرّي رحمه الله، وصعد إلى السطح مع سماحة السيّد الحدّاد رضوان الله عليه، فجلسا هناك لأكثر من ساعة واحدة بقليل، وكان الوقت عصراً... وعندما خرجا من السطح كان وجه الشيخ المطهّري يتلألأ بشكلٍ عجيب، فنظر الشيخ المطهّري إلى السيّد العلاّمة وقال له: إنّ هذا السيّد مُحيٍ.. مُحيٍ!
حسناً.. لولا أنّه كان قد رأى شيئاً لما قال عنه بأنّه "مُحي"! فلا بدّ أنّه قد رأى شيئاً.. لا بدّ أنّه قد حصل عنده شعور وإدراك ومعرفة بحيث أنّه قال (باطمئنان كامل): إنّ هذا السيّد مُحيٍ! واضح؟ وعندما خرجوا إلى الخارج قال الشيخ المطهّري للسيّد الوالد: اطلبوا لي دستوراً سلوكيّاً من السيّد الحدّاد، فأخذ له السيّد الوالد دستوراً من السيّد الحدّاد، وكان الشيخ المطهّري يعمل طبقاً لدستور السيّد الحدّاد ذاك.. وبالطبع فإنّ هذا الأمر متعلّق بتلك الفترة، حيث أنّه بعد ذلك بمدّة حصلت بعض الأمور فأدّت إلى حصول بعض البعد، ثمّ بعد ذلك نشأت بينه وبين السيّد العلاّمة علاقة أقوى من جديد ولكن بشكل آخر، وقد ظلّ هذا التواصل الأخير مستمرّاً إلى أواخر حياته.
لقد ذهب الشيخ المطهّري وامتحن واختبر، ثمّ بعد ذلك أذعن وقَبِل، فهل كان من الممكن لسماحة السيّد الحدّاد أن يقول ابتداءً للشيخ المطهرّي: هيّا.. قم فعليك أن تطيع أوامري حتماً؟! كلاّ إنّ ذلك لا يحصل أبداً، فوليّ الله لا يقول: تعال وأطعني، فذلك خطأ، ولكنّه يقول: اذهب وأطع الإمام.. أطع الرسول.. اذهب وأطع الحقّ.. انظر فحيث وجدت الحقّ فاتّبعه:

من نگويم خدمت زاهد گزين يا می فروش
                             هرکه حالت خوش کند در خدمتش چالاک باش


«يقول: أنا لا آمرك أن تكون خادماً لا للزاهد ولا لبائع الخمر... ولكن انظر بنفسك فمن وجدت أنّه مفيد لحالك [أو من وجدته صاحب حالٍ جيّدة بحسب اختلاف قراءة البيت] فاتّبعه وكن نشيطاً في خدمته»
هذا هو أسلوبهم وهذه طريقتهم...
و من ناحية أخرى فقد كنّا نشاهد في نفس ذلك الزمان بعض الأفراد يأتون، وقبل أن يتعرّفوا على السيّد العلاّمة الطهراني ويستمعوا إلى مطالبه كانوا يقولون: من هذا؟! من هذا الذي جاء إلى هنا وألقى بساطه هنا؟! من أجل ماذا؟! (و كان بعضهم من أهل العلم وبعضهم من غير أهل العلم) لماذا قام هذا السيّد بتأسيس مجلس عزاء؟! ألا يوجد عدد كافٍ من مجالس العزاء؟! فهل هذا واجب بعد ذلك؟!
و نحن كنّا نجيب هؤلاء: يا عزيزي.. لم يوجّه أحدٌ لكم دعوةً للقدوم إلى هنا.. ولم يرسل أحدٌ لكم بطاقة دعوة يرجوكم فيها أن تأتوا إلى هنا وتحضروا في هذا المجلس، فإن لم ترغبوا بالحضور فلا تأتوا!! إنّ مجلس العزاء مفتوح للجميع فمن أراد المجيء فليأتِ، ومن لم يرد المجيء فلا يأتِ.
أو كان يأتي بعضهم فيقول: هل يوجد قصدٌ للقربة في هذه المجالس؟! وهكذا كان كلّ واحد منهم يأتي ويقول ما يحلو له... وفي نفس الوقت كان بعض الأشخاص يأتون ويجلسون في تلك المجالس التي كانت تقام بين الطلوعين، فيأخذون نصيبهم من الفائدة والفيض، وبعد أن ينتهي المجلس كانوا يقومون ويذهبون إلى أعمالهم... فالأفراد مختلفون.
إنّ الله سبحانه وتعالى يقول ها هنا: «أنا عند ظنّ عبدي المؤمن بي»، فأنا عندي نفس تلك العلاقة مع عبدي التي يقيمها هو معي، فما هو ظنّ عبدي بي؟ إذا لم يكن ظنّ عبدي بي حسناً، فأنا سأكون كما توقّع منّي، فالأمر ذو طرفين، وهذه القضية لها طرفين.

    

التعرّض لأولياء الله بالإيذاء والاستخفاف يبدّل نعمة القرب إلى نقمة البعد

في زمان المرحوم السيّد الحدّاد.. عندما جاء سماحته إلى إيران كان الحقير يشارك عادةً في تلك المجالس التي يتمّ تشكيلها خصوصاً في الليل، ورغم أنّ سنّي كان صغيراً في ذلك الوقت، إلاّ أنّ العلاقات والأحداث انتقشت في ذهني بشكلٍ كامل منذ ذلك الحين، والخاطرات الموجودة في ذهني عن تلك الفترة خاطراتٌ ملفتةٌ جدّاً، ومن العجيبٌ جدّاً كيف أنّ التاريخ يكرّر نفسه بشكلٍ دائم، فأنا رأيت نفس تلك الحالات تتكرّر بعد مدّة، وما زلت أراها.. نفس تلك التصرّفات، ونفس كيفيّة التعابير، ونفس ذلك التوجّه.. لقد كنت أشاهد بعض الأفراد يأتون إلى مجالس سماحته تلك، ولكنّهم كانوا حريصين على أنّه إذا تحدّث سماحته، أو برز من سماحته أثرٌ ملفت فأدّى ذلك لحصول جوّ وحالةٍ ما فإنّهم كانوا يعملون على استباقه ومنعه من التأثير في نفوس الحاضرين ممّن لهم به علاقة وارتباط؛ مثلاً كانوا يجلسون بجانب أحد الأشخاص حتّى إذا تحدّث سماحته، وبيّن مطلباً ما، أو ذكر مسألة أخلاقيّة أو توحيديّة، تجدهم فجأة يقولون (باستخفاف): إنّ ما ذكره موجود في الكتاب الفلانيّ أيضاً.. بنفس هذه العبارة.. إنّ كلامه مكتوب في ذلك الكتاب الفلانيّ، فما هو مرادهم من هذا الكلام؟ إنّهم يقولون ذلك حتّى ينحرف ذهن ذلك الشخص عن التوجّه إلى سماحته.. إنّ هذا شيطانٌ ها! وسماحته كان يفهم ما يجري، إلاّ أنّه لم يكن يهتمّ بذلك:

داند وخر را همى راند خموش
                             بر رخت خندد براى روى پوش


(يقول: إنّه يعلم ما يجري، ولكنّه يسوق حماره بصمت، ويضحك أمامك ليحجب وجهَه عنك وراءَ بسماته)
واهٍ من هذه الضحكات، فكم هي مخيفة ومؤثّرة!! فهذه من أجلك أنت! إنّه يضحك عليك ويقول لك: أجل.. أجل.. إنّ ما تقوله صحيح تماماً.. أجل .. الأمر كما تفضّلتم.. نعم.. نعم.. وذلك الطرف يقول ايضاً: نعم هكذا الأمر!

... ... ... ... ... ... ...
                             بر رخت خندد براى روى پوش


و ممّا لا يخفى أنّ هذا البيت ليس متعلّقاً بمثل هذا الموضع، بل هو متعلّق بمحلّ آخر.. إنّه يتحدّث عن مقام العفو والإغماض عن الخطأ وتجاهله، ولكنّنا نحن استخدمنا هذا الشعر لمولانا في هذا الموضع.
و نظير ذلك ما كان يفعله بعضهم عندما كان سماحته يقول مطلباً لأحد الأشخاص فيتأثّر هذا الشخص ويسبّب ذلك له حالة من النشاط والوجد، فقد كان هؤلاء الأفراد يبادرونه سريعاً بالقول: ما بالك؟! لماذا اضطربتَ وتغيّرت أحوالك؟! لقد اضطربتَ وتأثّرتَ أكثر من اللازم!
لقد كنت أسمع ذلك كلّه... كنت صغيراً حينها، فعمري كان حوالي إحدى عشرة سنة أو اثني عشرة سنة، ومنذ ذلك الوقت كنت أتعجّب من هذا الكلام.. فما معنى كلامهم هذا؟ ولم كانوا يقولون ذلك؟! ثمّ مرّت مدّة من الزمان فإذا بنفس أولئك الذين كانوا يقولون تلك العبارات قد تركوا وابتعدوا.. هم بعينهم ذهبوا ومالوا إلى طرف آخر، فالأمر لا يبقى على حاله دائماً بل إنّ محكّاً يأتي ويفصل كالتيزاب الجيّدَ عن الرديء!
لقد ذهبوا وشكّلوا لأنفسهم جلسة خاصّة بهم، وأقاموا مجالس العزاء، وما شابه ذلك، وبعد ذلك فإنّ الله تعالى يرتّب الأمور ويهيّئها لهم بالشكل المناسب، يرتّب أمر العالم والخطيب ويهيّئهما، ويهيّئ لهم قارئ العزاء وإمام الجماعة والخطيب والمنشد [تبسّم من سماحة السيّد]... إنّ الله يهيّئ لهم كلّ الأمور بحيث لا ينقص محفلهم أيّ شيء، لأنّه لو بدا فيه النقص لتنبّه بعضهم وقالوا: ما هذا؟! لماذا يوجد نقص هنا؟! كلاّ .. بل يجعل محفلهم كاملاً ومرتّباً، ففي مجلس العزاء، يبدأ الأمر بالمحاضرة وقراءة العزاء ثمّ يطفئون الأنوار ويبدؤون بلطم الصدور بقوّة، وعندما تنتهي هذه المراسم في الحادية عشرة ليلاً تمدّ سفر الطعام وفيها ما لذّ وطاب من الأطعمة، فتمتلئ البطون ويخرج الناس قائلين: لقد كان المجلس ممتازاً هذه الليلة.. كان ممتازاً بالفعل، خصوصاً المقطع الأخير منه، ذلك المقطع الذي يحتوي على السفرة.. فقد كان جذّاباً جدّاً!!
لقد كانوا يسيرون في هذا الاتّجاه، وكانت الزاوية تزداد انفراجاً بالتدريج، حتّى حصل البعد التامّ، ففي البداية لم يكونوا لينتقدوا ولا ليقولوا شيئاً، ثمّ بعد فترة يبدأ نقل الكلام والقيل والقال، ثمّ بعد ذلك يبدأ الانتقاد والطعن، ثمّ يصير الطعن ذمّاً، ثمّ يصل الأمر إلى السبّ والشتم.. لقد وصل بهم الأمر إلى السبّ يا عزيزي! فنفس أولئك الأشخاص انتهى بهم الأمر إلى سبّ سماحة السيّد الحدّاد والسيّد العلاّمة، بل كانوا يتبرّكون بذلك!! لقد رأينا كلّ ذلك يا عزيزي حتّى شبعنا !

    

نور وليّ الله يجذب النفوس المخلصة

حسناً.. وأمّا من الناحية الثانية فنجد الأشخاص الذين يتلألأ النور في قلوبهم.. فهؤلاء قد حصلت لهم قضايا ومسائل دفعتهم بالتدريج إلى الابتعاد عن أولئك، فرغم أنّهم كانوا مع أولئك الأفراد في البداية، ويعيشون وسطهم، ولكنّهم مع كلّ ذلك ابتعدوا عنهم، وجاؤوا إلى هذا الطرف، وهو أمرٌ عجيب واقعاً؛ فبعض الأشخاص كان والده هناك، ولكنّه مع ذلك ابتعد وجاء إلى هذا الطرف، وبعضهم كان أخوه أو ابن عمّه هنا، ولكنّه رغم ذلك ابتعد وجاء إلى هذا الجانب... فلماذا حصل ذلك؟ لأنّ النور يجذب النور! فالتمايل الذي كان عنده إلى الشمال يتحوّل بالتدريج إلى ميل نحو جهة اليمين، وهكذا يجد نفسه ميّالاً إلى هذا الجانب لأنّه يرى أنّ حاله هنا أفضل، وأنّه وجد استقامة نفسه في هذا المكان، وأحسّ فيه بالأمان والبساطة والانشراح، فلا أحد يجبر أحداً فالباب هنا مفتوح كما أنّ الباب هناك مفتوح.. إنّ كلا البابين مفتوحٌ.
و من هنا نجد أنّ الإمام السجّاد عليه السلام يبيّن لنا هاهنا مسألةً مهمّةً، وهو هذا الدستور السلوكي: أنّنا لا ينبغي أن نسيء الظنّ بدون سبب.. لا ينبغي أن نسيء الظنّ بالأفراد، ولا يصحّ أن نكون متشائمين في علاقتنا مع الأفراد بدون داعٍ، ولا ينبغي أن نتّهم الناس بدون دليل سواءً في قلبنا أم على لساننا، بل ينبغي أن نترك مجالاً لحسن الظنّ دائماً، وينبغي أن نغلّب حسن الظنّ ما أمكن...

    

حسن الظنّ الزائد عن حدّه عواقبه وخيمة كسوء الظنّ

و لكن ينبغي أن نلتفت أيضاً إلى هذا الأمر، وهو أنّ حسن الظنّ الزائد عن حدّه يعتبر غلطاً أيضاً؛ فبعض الأفراد كما ذكرنا تميل نفوسهم إلى الجانب السلبي وإلى سوء الظنّ بشكل دائم، فتجدهم دائماً ينتقدون الناس، ويحطّون من قدرهم ويبعدونهم، فنفوسهم معوجّة... تجدهم يقولون: دعك من هذا.. ودعك من ذاك فهو ليس ذا قيمة، واترك هذا الشخص لأنّه ليس محترماً ... اترك .. اترك... لا تسمع منهم إلاّ "دعك منه" و"اتركه".
و من ناحية أخرى نجد صنفاً آخر قد سقطوا في الجانب المقابل؛ فتجدهم يحسنون الظنّ بكلّ الناس، ويرتّبون الآثار على حسن ظنّهم هذا، وهذا خطأ أيضاً، فقوّتا الإنسان الدافعة والجاذبة ينبغي أن تصلا إلى حدّ التوازن والاعتدال، وإلاّ إذا لم تكونا في حدّ الاعتدال فإنّ تغليب حسن الظنّ سيجرّه إلى الانحراف!
إنّ الله سبحانه وتعالى قد جعل للإنسان بعض الآيات والعلامات لتصحيح مسيره، ولكي تخرجه من ذلك الخطأ والاشتباه، فنحن أحياناً نحسن الظنّ بشكل زائد في شخصٍ من الأشخاص، وحسن الظنّ هذا يجذبنا باستمرار نحو هذه الجهة، وفجأةً تحصل مسألةٌ مّا أمامنا!! حسناً.. هنا يجب على الإنسان أن يتأمّل في هذه المسألة التي حصلت ويتفكّر فيها، ولا ينبغي له أن يحسن الظنّ بدون سبب ولا داعٍ... ولا ينبغي أن يكون ممّن قال الله فيهم {وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ والأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وهُمْ عَنْها مُعْرِضُون‏}[2].
افرضوا أنّ شخصاً قام بمدح أحد الشخصيّات لكم قائلاً: إنّ كلّ ما يقوله هذا الشخص صحيحٌ، وكلّ ما يتنبّأ به يحصل ويتحقّق، وهو ينفّذ كلّ ما يقوله.. فهذا الشخص جسمه في الأرض واسمه في السماء، وما شابه ذلك من المديح والتمجيد...
حسناً.. إنّ هذه الصفات التي يعدّدها لك ستترك أثرها فيك، ومثل هؤلاء الأفراد موجودون بطبيعة الحال، وبعضهم يقومون بهذه المسائل لأغراضهم ومصالحهم الخاصّة، كما أنّ البعض الآخر يفعل ذلك بسبب قلّة الفهم.. بسبب قلّة الفهم!
ذات مرّة في الزمان السابق كنت أريد الذهاب من قمّ إلى طهران، وفي ذلك الزمان كان التنقّل يحصل بواسطة سيّارات الأجرة العموميّة، فجلست في إحدى تلك السيّارات في المقعد الأمامي، كما جلس شخصان أو ثلاثة في المقعد الخلفي، وكان واحدٌ منهم معمّماً، ودار الحديث عن أحد الأفراد، وكان من الأفراد العاديّين، فالتفت ذلك المعمّم إليهم (و هو ما زال على قيد الحياة) وقال: أجل.. أجل.. يا عزيزي.. نحن ماذا نعرف، وما يدرينا؟! (و كان يقول ذلك بحالة "ملكوتيّة"، ولكنّها في الواقع لم تكن ملكوتيّة [بل تمثيل شيطانيّ]، ولكنّه كان يتخيّل نفسه كذلك!!) كان يقول: أجل.. ماذا يدرينا؟ إنّ فلاناً يدخل إلى الغرفة الفلانيّة... ومن يلاقي هناك ؟!! من يرى هناك؟ ومع من يتكلّم؟ وهو عندما يخرج يقول المطلب الفلانيّ، وما يقوله مطابق للواقع تماماً!
فقلت له: يا عزيزي.. لماذا تلقي الكلام من خلال الكناية والتلميح إلى هذا الحدّ؟ ولماذا تخدع الناس؟ تعال وقل بصراحة: أنا عندي ارتباط واتّصال مع إمام الزمان! ولا داعي أن تلمّح بهذه الطريقة [من الكلام مع صوت متماوت لتوحي للآخرين بما تريد]، فأيّ طريقة من الكلام هذه؟! ولماذا تحاول أن تخدعنا؟! ولماذا تكذّب على الناس؟ وأيّ نفع ترتجيه من هذا الكذب؟ يعني ما الذي يحوجنا إلى اللجوء إلى الكذب من أجل تثبيت مواقعنا ؟! ما الداعي إلى ذلك؟ فلنتحدّث بصدق مع الناس! يعني هل تظنّون أنّنا إذا كنّا صادقين فإنّ الله سيتركنا، ولن يحمينا، وسيحلّ الشيطان محلّه ويصير داعماً لنا؟! وأمّا لو كذّبنا، أو قلنا شيئاً على أساس الجهل فذلك هو الذي سيثبّت موقعيّتنا؟! إنّ هذا لم يعد حقّاً .. لم يعد حقّاً يا عزيزي!
و ما هي مسؤوليّتنا تجاه الحقائق؟ هل نحن مسؤولون بعنوان الولاية؟ إنّ الولاية ليست متعلّقة بنا، فنحن لسنا أولياء الدين، بل نحن عندنا وكالة فقط ودورنا هو الوساطة لا غير، فنحن وسيلة ليس إلاّ، بينما وليّ الدين شخصٌ آخر وفردٌ آخر، وهو موجود وهو أدرى بما يفعل، فلماذا نقول أمراً لسنا على يقين منه؟
التفتُّ إليه وقلت له: سأحضر لك مصحفاً، فضع يدك عليه، وأقسم بالله أنّك متيقّن ممّا تقوله.
فقال: كلاّ.. لست مستعدّاً لأن أقسم!
فقلت له: فلماذا تقول هذا الكلام إذاً؟! فما دمت غير مستعدّ للقسم فلماذا تقول ذلك إذاً؟! ولماذا لا تقول الحقيقة؟ لماذا ينبغي ألاّ نكون صادقين مع الناس؟! (إنّ هذه مسألة مهمّة، ها) لماذا لا تكون صادقاً؟!
حسناً.. انظروا .. هذه المسألة تستمرّ بهذا الشكل، ونحن نبيّنها بهذا الشكل للناس، ولكن فجأة نرى أنّ الله تعالى يقوم بعمله أيضاً، فالله لم يجلس ويضع مقدّراته في يدي أنا وأمثالي، لأنّه إذا سلّمني مقاليد الأمور فلن يكون هو الإله، بل سأكون أنا الإله، فهل يسلّمنا الله كلّ مقدّراته ويقول للملائكة: كلّ ما يقوله فلان اكتبوه ونفّذوه؟! فلو أردتُ الآن أن تصير هذه الأعمدة الأربعة من الذهب، فالله تعالى يجيب: نعم.. فأنا جالس هنا وكلّ ما يأمر به جنابكم فعلى الملائكة أن ينفّذوه؟! كلاّ يا عزيزي .. إنّ هذا الكلام لا أصل له ولا واقعيّة.
فالله تعالى يقول لك: أنت لا تُرِد ذلك، وأنت أصلح إرادتك ورغباتك.. أنت أصلح تفكيرك، وأنت تصرّف بشكل صحيح.. فلماذا تسمح للأماني الخاطئة أن تنمو في نفسك؟ لماذا؟! وبدلاً من أن تجعلنا مكلّفين بتنفيذ أوامرك وأمانيّك قهراً، قم أنت بتصحيح آمالك وأمانيك؛ فلا تجعل عملنا صعباً، وتعقّد الأمور لنا ولملائكتنا، ولا تسبّب لنفسك وجع الرأس، وبدلاً من ذلك قم أنت بتصحيح أفكارك وآمالك.. عليك أنت ألاّ تتخطّى حدودك، وأن تحافظ على حريمنا!
فليس الأمر بحيث أنّ كلّ ما نريده فإنّ الله جالس ليأمر بتنفيذه، فالدم الذي يجري في عروقنا ليس أفضل من الدم الذي يجري في عروق النبيّ والإمام الحسين عليهما أفضل الصلاة والسلام!! ومع ذلك فما الذي حصل لهم، وأيّ مصائب وقعت عليهم؟! وبالتالي فالواجب علينا أن نعمل طبقاً لتكليفنا وطبقاً للمشيئة الإلهيّة..

    

على الإنسان ألاّ يعرض عن الآيات التي يبرزها الله له

و هنا يأتي الله تعالى ويرينا الآيات والعلامات بشكل واضح: هذا الخطأ والاشتباه أمامك.. ها! انظر.. فهذه الآيات أمامك، وهذه الأخطاء والأغلاط تحصل أمام ناظريك، فالله يبرزها لنا ويرينا إيّاها، ثمّ يقول لنا: الآن افتح عينيك، إنّ قلبك كان صافياً نقيّاً، فخُدعت وانطلت عليك الحيلة، جيّد جدّاً.. ولكنّني جئت وأظهرت لك آياتي، فإذا أعرضت وأخفضت رأسك فحينئذٍ ستكون أنت المسؤول وأنت المقصّر، وهنا يحقّ لي أن أقول لك: إنّك تستحقّ ما حصل لك! فلو أنّني لم أبيّن لك الآيات ... [حينئذٍ ستكون مصداقاً لـ ]{وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ والأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وهُمْ عَنْها مُعْرِضُون‏}...
فعندما يكون قلبك طاهراً، وأنت تبحث عن الحقّ، ومع ذلك خُدعت، فوظيفتي أن أبيّن لك الطريق وأظهر لك الآيات، وأريك الخطأ، فقم باستخدام هذا المخّ قليلاً، فقد حافظت عليه جديداً دون استعمال لمدّة طويلة.. هذا يكفي.. فذلك حيفٌ يا عزيزي.. افتح دماغك وشغّل عقلك، واستعمل هذه الخلايا قليلاً.. ما شاء الله.. إنّها جميعاً ما تزال جديدة لم تستعمل.. شغّلها قليلاً حتّى تفهم من هو الذي تواجهه؟ ولكي تعرف لمن قد سلّمت قلبك ودينك؟ وممّن تأخذ دينك ومن هذا الذي يعيّن لك اتّجاه مسيرك؟
إذاً عليك أن تجعل تلك الخلايا تعمل قليلاً، إنّ الله عزّ وجلّ وضع فيه [يشير سماحة السيّد إلى رأسه] خلايا حيّة ولم يجعل فيه الجصّ المتحجّر ولا الاسمنت بل جعل فيه خلايا، وعليك أن تستفيد منها؛ وهذا هو معنى {يَمُرُّونَ عَلَيْها} الواردة في آية {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ}.
عندما يفهم الإنسان حقيقة الأمر، حينها يتعجّب، وسيقول: «كم هو الأمر عجيب!! فحقيقة المسألة هي كذا لكنّنا لم نفهم ذلك! واعجباه فلقد قالوا لنا شيئاً آخر!!» وسيبقى يتعجّب ويتعجّب، وهذا التعجّب يبدأ بتصحيح اتّجاه الإنسان ومسيره.
ولكن! لو أنّنا لم نقبل بالحقيقة، ووضعنا رأسنا في التراب، وبدأنا بالتبرير، وصرنا نقول: لا.. نحن ما يدرينا؟ وليس معلوماً أنّ هذا الأمر صحيح!! وهل من الممكن أنّ يكون جميع هؤلاء مخطئون؟! وهل من الممكن كذا .. ؟! انظر الناس ماذا يصنعون !! حينها إن كان الوضع على هذا النحو، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: حسنٌ جداً، إن كان الأمر كذلك إذاً فسأكلك إلى نفسك، ولم يعد لي شأنٌ بك، فاذهب إلى حيث أردت، ويذهب الإنسان، حينئذٍ يكِل الله الإنسان إلى نفسه، وعندما يكون الأمر كذلك، فمن غير المعلوم أين ستكون عاقبته، لم يعد الأمر معلوماً...، وبالتالي فحسن الظنّ الزائد خطأ أيضاً.
لقد كان المرحوم الأنصاري جالساً يوماً من الأيام، فذُكر أحد الأفراد بالخير ـ لكنّ هذا الشخص لم يكن من تلامذته بل كان شابّاً صغيراً له نفس طيّبة جداً ـ فقال: هناك عيبٌ واحدٌ في هذا الشاب؛ وقبل أن يكمل جاء نفس هذا الشخص، وكأنّه كان المقدّر أن يحصل هذا الحديث عنه عندما يأتي هو أيضاً، فقالوا: عندما لم تكن موجوداً، كان سماحة الشيخ يتكلّم عنكم، وقد قال: فلان فرد جيّدٌ جداً، ولكن فيه عيبٌ وحيدٌ، ونريد أن نعلم ما هو هذا العيب؟ (كان الجميع يراه شاباً صالحاً، وهو كان كذلك بالفعل)، فقال الشيخ الأنصاري: «عيبه هو أنّ حسنّ ظنّه أكثر من المقدار اللازم» ، فعلى الإنسان أن يكون حسن الظنّ لكن بالمقدار المطلوب لا أكثر!! وحسن الظنّ الذي يؤدّي بالإنسان إلى الانحراف ليس بصحيح، فهل يمكن للإنسان أن يرى صدور معصيةٍ من شخص ما، ثمّ يغضّ النظر؟! فهو في ذلك كمن يقول عن الكلب: «هي قطّة.. إن شاء الله تكون قطّة» ، لكنّ ذلك غير صحيح. قالوا له: انظر هو كلب، قال: بل قطّة، قالوا له: إنّه ينبح، فقال لهم: بل قطّة لكنّ صوتها مبحوح !! أيّها العزيز: إنّه ينبح فلا داعي لأن تقول: إنّها قطّة.
بلى نحن نرى المعصية، لكنّنا نقول: لا هذا ليس بشيء، إن شاء الله ليس بمعصية، ليس ممّا ينبغي أن يُعتنى به.
لا.. إنّ تصرّفنا وقولنا هذا خاطئ ولا ينبغي أن نفعل ذلك.
وقد اتّفق أنّ نفس هذا الشابّ بعينه (وهو لا زال على قيد الحياة، ونسأل الله أن يكون الجميع مورداً لرحمته ومورداً لعطفه، فهذا الشاب كان إنساناً جيّداً، ونفسه طيّبة، وهو لازال على قيد الحياة) والحقير يرى أنّ نفس هذه الصفة التي ذكرها الشيخ الأنصاري رحمه الله هي التي تسبّبت بخسارته للعديد من المواهب، فخسر العديد من الفرص، بسبب حسن الظنّ الذي وقع في غير موقعه !! وقد تكلّمت معه عدّة مرّات، وأردت أن .. لكن رأيت أنّه لا يريد.. فالبعض لا يرغب في أن يتغيّر، يريدنا أن نتركه كما هو، فإن كان كذلك فماذا نفعل نحن؟! حتّى أنّني في إحدى المسائل المهمّة قلت له: أيّها العزيز إلى أيّ حدّ ستفعل كذا وكذا... ؟! فقال: لا .. لا .. ليس بالأمر المهم.. ينبغي أن نقوم بما علينا نحن، وإن شاء الله يوفّق الله لما فيه الخير... حسنٌ جداً، لكن سيأتي على الإنسان زمنٌ يتحسّر فيه على كلّ شيء؛ لأنّ العمر قد مضى ويداه فارغتان، وكلّ ذلك بسبب حسن الظنّ الزائد.
حسناً لقد اتّضحت المسألة...

    

جود الله وكرمه ورحمته لا حدّ لها، لذا ينبغي أن يحسن الإنسان ظنه بالله دائماً

إنّ الإمام عليه السلام يقول هنا: لا ينبغي أن يَترك الإنسان حسن ظنّه بالله، ولا ينبغي أن يكون لديه سوء ظنٍّ بالله: «وَقَدْ رَجَوْتُ أَنْ لاَ تُخَيّبَ بَيْنَ ذَيْنِ وَذَيْنِ مُنْيَتِي» ، فيا إلهي أنا لم يزل عندي رجاءٌ بين هذين الأمرين وبين ذينك الأمرين الآخرين؛ فما هما الأوّلان؟ «جرأتي على مسألتك مع إتياني ما تكره» وحجّتي ما هي؟ «حجّتي يا الله جودك وكرمك»، فأنا لدي حسن ظنٍّ بك، لأنّه في قبال أعمالي القبيحة هناك جودك وكرمك، فلو لا وجود جودك وكرمك لكانت أعمالي الخاطئة قد أوبقتني، لكنّني أحسّ بجودك وكرمك.
التفتوا! إنّ الإمام السجّاد يعطينا دستوراً هاهنا، فهذا أمرٌ ودستور، يعني هذا الدعاء عبارة عن دستورٍ سلوكيٍّ لكنّه جاء بقالب دعاء؛ والإمام يقول فيه: إلهي إنّ جودك وكرمك هو الذي أشعل هذا الأمل في قلبي، فلو لم يكن جودك وكرمك لكنت قد ذهبت وتركت.
هل رأيتم بعض الأفراد الذين يقومون بعملٍ خاطئ بحيث لا يستطيعون التراجع عنه، فتقولون لهم: لماذا لا تذهب إلى فلان لتصلح المسألة؟! فيقول: بأيّ وجهٍ أذهب؟! هذا الإنسان ليس لديه حسن ظنّ، ليس عنده حسن ظنّ.
أمّا إن كان ذلك الإنسان الذي أخطأ بحقّه من أهل والمغفرة والتسامح، وممّن يغض نظر عن هذه الأخطاء، وإن كان من أهل الرحمة والعفو، حينها كلّما تذكّر هذا المخطئ كلّ ذلك فإنّ الأمل سيظلّ حيّاً في قلبه مهما فعل ومهما كان ذلك الفعل قبيحاً، وسيقول في نفسه: إنّني إذا ذهبت إلى ذلك الإنسان فإنّه سيفتح بابه لي حتماً، وهذا التوقّع والأمل لا يزول من قلبه؛ لأنّه يقول: إنّ الإنسان الذي آذيته رجلٌ متسامح فلو فعلت معه أكثر من ذلك فإنّه مع ذلك سيستقبلني وسيفتح لي الباب أيضاً.. هناك أملٌ، وهذا الأمل الموجود في القلب لا يزول من القلب.
والإمام السجّاد عليه السلام يقول هنا: إنّ جودك كرمك يا ربّ بعث على أن يبقى الأمل في قلبنا، حتّى لو عصيناك !! وحتّى لو ارتكبنا جرماً!! وحتّى لو ارتكبنا فعلاً تكرهه ولا ترضى عنه!! وأنا أعلم أنّ غضبك هي من أجلنا وأنّك تقول: لماذا قام عبدي بتضييع الفرصة التي منحته إياها، وبالتالي فإنّ تلك الحصّة الوجوديّة لن يحصل عليها بعد الآن؟! فانزعاج الله من أجلنا نحن. إنّ الإمام السجّاد عليه السلام يقول: إنّ جودك وكرمك يحافظ على بقاء هذا المصباح مضاءً، وهذان هما الأمران الأوّلان.
أمّا الأمران الآخران فما هما؟ هما: «وعدّتي في شدّتي مع قلّة حيائي رأفتك ورحمتك» ، ففي الجانب الثاني هناك رأس مالي وزادي في الشدائد وفي مواطن العسر وفي المهمّات حيث أكون وحيداً فريداً في عَرَصات يوم القيامة وحين أقف بين يديك للحساب، فهناك تكون «شدّتي»، وهناك في هذا الموقف أقف مع «قلّة حيائي» ، فلو أنّ لي حياءً لما عصيت ولما أخطأت ولما استحيَيت في موقفي هذا، وما كنت لأغضّ الطرف عن كلّ هذه الآثار الوجوديّة لفعلي وأحرم بذلك نفسي من رحمتك، فيا ربّ إنّ عدّتي وزادي في هذا الموقف هو رأفتك ورحمتك، فأنا أعلم أنّك رؤوف وأعلم أنّك رحمن رحيم، أنا أعلم ذلك فأنت وصفت نفسك بذلك، وأنا عرفت ذلك.
كم هو جيّد للإنسان أن تكون لديه المعرفة؛ لأنّه في نهاية المطاف نحن نخطئ ونعصي، فنحن في النهاية بشر، والبشر يعصي ويخطئ، ولكن إن كان الإنسان عالماً.. لديه اطلاع.. يقف على حقيقة الرموز.. مطّلع على الأسرار.. حينها لن ييأس من رحمة الله عزّ وجل أبدا ولن يتركه في حال من الأحوالً، ذلك إن كان مطّلعاً !! إن كان يعلم كم هي رأفة الله كبيرة وكم هي رحمته واسعة، وكم أنّ كرمه وجوده عظيمان، فإذا علم الإنسان [ذلك لم يترك الله أبداً].
يُقال أنّ با يزيد[3] ... .
حسناً، هؤلاء الأعاظم والأولياء والعرفاء، لهم عوالمهم الخاصّة، لهم حسابهم الخاصّ عند الله، وفي بعض الأحيان واجههم ببعض الأمور، ويتدلّل عليهم بعض الدلال، وبطبيعة الحال يوجد بين المحبّ والمحبوب أسرارٌ وعلاقةٌ لا يعلم عنها أحد:

ميان عاشق ومعشوق رمزي است
                             چه داند آنکه اشتر می چراند


(يقول: إنّ بين العاشق والمعشوق لأسرار خفيّة *** فأنّى لراعي الإبل أن يدري بحقيقة ما يجري)
خلاصة الأمر.. إنّ با يزيد كان يقول: إلهي أسألك كذا وكذا..، فكان يستعطيه ويسأله، لكنّ الله لا يعطيه ما يريده بهذه السهولة، وإلاّ لو أنّه يعطيه ذلك بهذه السهولة لما كان الإنسان ليعلم قيمة ما أُعطي ولا قدره، ولن يستفيد تلك الفائدة منه، وعادةً ما تُجعل الأشياء المهمّة للأخير ولا يحصل الإنسان عليها إلاّ بالعناء والتعب أمّا المسائل العاديّة فتعطى سريعاً، كالمصالح الشخصيّة والأدعية والمطالب والحاجات، أمّا تلك المسائل المختصّة بالعبوديّة فإنّها لا تعطى بالسهولة بل تحتاج إلى المقارعة.. يقول له: تعال اجلس بجانبي نتكلّم قليلاً .. يجيبه: إلهي أعطني ما طلبت فقد نفذ صبري، لقد كنت أقوم الليالي.. يقول له: كنت تقوم الليل لكي تشعر بالسعادة لا لأجلي، يجيبه: إلهي نحن ننتظر طلبتنا تلك .. ذلك الوصال الذي وعدتنا به.. ذلك الجمال الذي أريتنا نزراً يسيراً منه.. ذلك المصباح الذي أشعلته قليلاً .. ذلك البرق الذي أبرقته في قلبنا لحظاتٍ.. فكيف بنا نحن بعد أن أريتنا ذلك وأشعلت قلبنا.. كيف تفعل ذلك ثمّ تذهب؟!! نعم بين الأحبّاء بعض المسائل التي لا نعلمها ... .
في النهاية وجد با يزيد أنّ التعامل مع الله بهذا الأسلوب لم يأت بنتيجة [يبتسم سماحة السيّد] ، فقال: إلهي إمّا أن تعطيني حاجتي التي طلبتها.. وإمّا سأخبر الخلق عن ذرة واحدة .. فقط ذرة واحدة.. سأرفع حجاباً واحداً وأخبر الناس عن ذرّة واحدة من لطفك ورأفتك رحمتك بحيث أنّهم لن يعبدوك إلى يوم القيام بعد أن يعلموا مقدار رأفتك الحقيقيّة. [يبتسم سماحة السيّد] حينها أجابه الله إلى مراده .. وقال له: كلاّ.. كلاّ.. لا تفعل ذلك فسنعطيك حاجتك!! فقال با يزيد: بلى، إذا لم تعطيني ما أطلبه، فسألجأ إلى طريق آخر.. ففي جعبتي الكثير من الأسرار التي تعلّمتها، سآتيك من طريق آخر، سأخبر الناس عن رأفتك وعن رحمتك الواسعة وعن عفوك الكبير وعن كرمك وجودك، فقط سأذكر لهم النزر اليسير عنها، بحيث سيقول الناس إن كان إلهنا بهذا الكرم والجود والعطف والرحمة إذاً فلن نلتزم بأيّ تكليف !! حينها وجد الله تعالى أنّ المسائل صارت مشكلة [يبتسم سماحة السيّد] ومن ثمّ فإنّه يأمر ملائكته ليعطوه ما يريد... ولكن بالطبع هذه المسائل أعلى من مقامات الملائكة، لأنّ المقامات الواقعة في حدّ الملائكة وأمثالها فإنّ الله يمنحها عادةً، أمّا تلك الأمور المختصّة به هو.. في تلك الأمور المختصّة به يتعزّز ويتدلّل ولا يعطي شيئاً بسهولة! أمّا تلك المراتب التي تكون دون الأسماء ومظاهر الأسماء والصفات فالتعامل فيها مختلف.
ونحن نقول ما سمعناه فقط [يبتسم سماحة السيّد] ، ننقل للأصدقاء والرفقاء ما سمعناه من الأعاظم.
خلاصة الأمر، نحن لدينا إلهٌ عظيم، وبحسب تعبير المرحوم العلامة: الحمد لله لدينا إلهٌ جيد، لدينا إله يفوق ما كنّا نتصوّر، فتح لنا بابه، وأفاض علينا رحمته أكثر مما كنّا نتصوّر، إنّ الله فتح لنا رحمته.
حسناً إنّ الإمام السجّاد عليه السلام يقول: إلهي لقد علمت كم هي رأفتك بي كبيرة، وأنا وقفت على هذا السرّ، لقد علمت جودك وكرمك.. وصحيح أنّني أعصيك.. صحيح أنّ أفعل ما تكره.. صحيح أني أفعل ما يُسخطك ويُغضبك مع قلّة حيائي منك، لكن في نهاية المطاف أنا أعلم مع من أتعامل، وأعلم من الذي أقف في قباله، وأعلم أين أنا، فهذا هو المهم، فليس تعاملي مع زيد أو عمرو أو خالد الذين يقولون: طالما أنّ العين تحت الحاجب فلن نسامحك أبداً.. لا ، بل أنا أتعامل معك أنت يا ربّ.
بناءً على هذا، أقول: «فقد رجوت أن لا تخيّب بين ذين وذين منيتي» أملي هو ذا.. وحسن ظنّي بك هو ذا .. وهذه طلبتي، وهي: أنّ تحقّق أمنيتي ولا تخيّبني فيها ولا ترجعني صفر اليدين، وذلك بواسطة حسنّ الظن الذي عندي.. «فحقّق رجائي، واسمع دعائي، يا خير من دعاه داعٍ، وأفضل من رجاه راجٍ»
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد.


[1] ـ وذلك باعتبار أنّ سماحته كان يلقي المحاضرة في مدينة قمّ.

[2] ـ الآية 105 من سورة يوسف.

[3] ـ المراد هو با يزيد البسطامي. (المترجم).

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی <-- -->