معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
المقالات و المحاضرات > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > حجية أوامر أولياء الله و أفعالهم > حجية أوامر أولياء اللـه وأفعالهم ـ المحاضرة 8: عدم اختصاص حجيّة الوليّ بحالة عدم الشك.

_______________________________________________________________

هو العليم

سلسلة محاضرات
حجيّة أوامر أولياء اللـه وأفعالهم

المحاضرة الثامنة

عدم اختصاص حجيّة الولي بحالة عدم الشك

ألقيت هذه المحاضرة في
28 محرم من سنة 1433 هـ

سماحة آية اللـه

السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
حفظه اللـه

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين
اللهم صل على محمّد وآل محمّد
واللعنة على أعدائهم أجمعين

    

مقدّمة في خلاصة بيان الإشكال على الحجيّة

إذا كان الإخوة يتذكّرون، فقد كان الكلام حول كيفيّة حجيّة فعل وليّ الله، وعدم جواز عرض ذلك على الكتاب والسنّة، فإنّه لا ينبغي أن يُعرض فعل وليّ الله على الكتاب والسنّة. تماماً كفعل الإمام عليه السلام، فعندما يأمر الإمام شخصاً مثلاً بأمر معيّن، لا يبقى لدى الإنسان شكّ في أنّ هذا المطلب صحيح أم لا.. فهل أنتظر وأفكّر هذه الليلة فيه، وأرى هل ورد في سائر المصادر والكتب أم لا، وهل ورد في القرآن والسنّة.. أنظر في جامع الأحاديث والوسائل والتهذيب وسائر كتب العلماء والعظماء.. ماذا ورد منهم حول هذا المطلب؟ فلو فرضنا أن إمام الزمان عليه السلام أمرنا بأنه عليك أن تبقى الليلة إلى الصباح مستيقظاً تحيي الليل بالصلاة.. فهل يمكنني أن أعترض عليه وأقول له: ما هذا الأمر الذي تأمرني به؟ فالأطبّاء أمروني أن أنام في الليل خمس ساعات، وأمرك هذا مخالف لأمر الأطبّاء، وأمرهم مقدّم؛ لأنّ المحافظة على صحّة البدن وسلامته واجبة والإضرار به محرّم.. وعلى أساس ذلك يحصل لديّ الشكّ في أنّ ما تأمر به (نعوذ بالله نعوذ بالله) مخالف للكتاب حيث يقول: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)، فقد قيل لنا بأن عدم النوم في الليل قد يؤدّي إلى مشكلات صحيّة، بل قد يؤدّي إلى حصول سكتة قلبيّة أو دماغيّة، وقد تظهر آثار ذلك في الفحوصات التي يجريها الإنسان.. في مثل هذه الأوضاع يأتي الإمام المعصوم عليه السلام، ويقول لي لا ينبغي أن تنام الليلة، وعليك أن تشتغل بالعبادة إلى الصباح، بالصلاة وقراءة القرآن والدعاء دون أن تتكلّم مع أحد.. فهل يبقى لدينا شكّ في صحّة كلام الإمام وفي نفوذ أمره، أم لا؟ فالكلام الآن قطعي، إذ لا نشك في أنّ كلام الأطبّاء فعليّ وأنّ تحذيرهم في محلّه، لا مزاح فيه، بل هو موجب للعلم على مباني العلم الظاهريّ والعرفيّ.. فهنا ما الذي ينبغي فعله؟
كان ما ذكرناه حتى الآن في هذا المجال.. لكنّ الرسائل التي تردني تفيد بأنّ المطالب التي نعرضها لم تفهم بالشكل المطلوب.. هذا إذا حملناها على الصحّة.

    

الجواب على الإشكال بالتأكيد على انقسام الأحكام إلى عامّة وخاصّة وكون الإمام هو المبيّن للخاصّة

لقد تحدّثنا عن كيفية تعلّق الحكم بالعبد والمكلّف في الجلسات السابقة، كما ذكرنا بأنه ليس لدينا حكم ثابت دائم ومشخّص، بحيث ترجع إليه جميع الأحكام والموارد الأخرى، والإشكال المطروح هنا هو أنّنا نتصوّر بأنّ المسألة من قبيل دستور عمل ودفتر شروط تابع لمؤسّسة، وهذا الدستور موضوع من قبل صاحب المؤسّسة، سواء كان مديرها ثابتاً أو متغيراً فلا بدّ له من العمل وفقاً لهذا الدستور. فإذا فرضنا مثلاً أنّ القانون يقول بأنه ينبغي أن تفتح أبواب المؤسّسة في الساعة الفلانيّة، وتغلق في الساعة الفلانيّة، وأنّ أوقات الاستراحة أثناء العمل هي هذه الساعات، ووقت الصلاة هكذا.. والراتب الذي يمنح للموظّفين، على أيّ أساس يحصل فيه تفاضل بينهم؟.. وهذا ما يوجد لدى كلّ مؤسسة وشركة.. فإنّ كلّ معاملة تجري وكلّ اتفاق يحصُل ينبغي أن يكون خاضعاً لهذا الدستور. وكذا الحال في العلاقات العائليّة التي تخضع لقانون منظم؛ حتى يتحقق النظام وترتفع حالة الفوضى في هذه المؤسسة، فإنّ إعمال الأذواق المختلفة سيكون مانعاً من استمرار العمل والحياة.. فهذه المسائل طبيعيّة.. ولا بدّ أن تكون كذلك، فلا بدّ لكلّ وزارة من دستور ونظام عمل يلتزم به جميع الموظفين.. والمدير الذي يأتي يعمل على ضوء ذاك الدستور والنظام المعيّن من قبل، إذ لا يصح أن يأتي مدير جديد ويقول للموظفين من تلقاء نفسه: يمكنكم غداً أن تأتوا في الساعة العاشرة.. إذا فعل ذلك فإن الدولة ستخرب.. كلا بل دستور العمل يقول بأنه ينبغي على الجميع أن يأتي في الساعة الثامنة؛ سواء كان وزيراً أو مديراً أو أي مسؤول.. أليس كذلك؟
أما أحكام الإسلام فليست كذلك، أي ليست معيّنة من قبل، بحيث أنّها تبقى ثابتة وكلّ من يأتي فله نفس هذا الحكم.. كلامنا هنا ليس حول المجتهد الظاهريّ والمجتهد الاصطلاحيّ الذي يأخذ أحكامه من الأدلّة الظاهريّة، فالمجتهد الظاهريّ هو الذي يتمتّع بقدرة على الاستنباط ويمكنه عبر التشخيص الصحيح ـ لا الخاطئ ـ أن يستخرج الأحكام الجزئيّة من تلك المباني الكليّة ويربط بينها، ويعيّنَ مصاديق تلك الكليّات لمقلّديه، لا لسائر المكلّفين الذين لا يقلّدونه، فيقول لمقلِّده: عليك أن تفعل كذا وتمتنع عن فعل كذا.. وهكذا هو الحال في تطبيق سائر الأحكام العامّة على المصاديق، فهو يبيّنها للمكلّف العامّي. هذه وظيفة المجتهد المصطلح والمجتهد الظاهري. نعم قد تختلف ظروف هذا المجتهد بالنسبة إلى المكلّف، وليس للمقلّد أن يقلّد المجتهد في جميع الظروف والحالات، فلو فرضنا أنّ مرجعه يقول بأنّ الليلة هي ليلة أول شوال وأنّ الهلال قد رؤي الليلة، وحكم لجميع المقلّدين بعدم جواز الصوم في اليوم التالي. والحال أنّني أعلم بأنّ الذين شهدوا عنده برؤية الهلال قد شهدوا كذباً.. ألا يحصل ذلك؟ لقد شاهدت بنفسي العديد من الموارد التي أتى بعض الأشخاص وشهدوا أمامي شهادة كاذبة.. ولو أنني اعتمدت على شهادتهم من دون تحقيق لحكمت بحكم آخر.. فهل الحقير معصوم؟ كلا لست معصوماً! والآخرون مثلي في ذلك، من وصف نفسه بأنه معصوم فليأت ويخبرنا بذلك؛ سواء كان مرجعاً أو مجتهداً أو طبيباً أو مهندساً أو تاجراً أو... فليأت وليقل أنا معصوم.. إذ يمكننا أن نختبره بسؤالين منّا لنعرف سريعاً بأنه ليس لدينا في هذه الدنيا سوى معصوم واحد لا أكثر..

    

إمام الزمان هو الخطّ الأحمر للتشيّع

إذاً نحن لسنا معصومين، لذا فتكليفنا هو هذا.. فهل التكليف الذي يقوم به إمام الزمان عليه السلام هو نفسه التكليف الذي أقوم به أنا؟ كلاّ! بل لو مضى من عمري مائة مليار سنة لن أستطيع أن أفهم ـ ولو بمقدار شعرة ـ ما يجري في نفسه القدسيّة، ولو عمّرت مائة مليار سنة، لا ستّين أو سبعين سنة التي نعيشها نحن.. هذا الذي أقوله لكم ليس إغراقاً ومبالغة، فلم آت لألقي عليكم كلاماً فارغاً.. فإني لا أستطيع أن أفهم ولو بمقدار رأس الإبرة مما يجري في نفس الإمام القدسية، هذا هو الذي يقال له إمام.. فالآن بعد خمس وخمسين سنة من الاشتغال بالدراسة توصّلت إلى أنه لو بقيت على هذه الحال من الدراسة والتحصيل مائة مليار سنة فلن أصل إلى فهم شيء من الإمام، والآخرون مثلي في هذا الأمر، نعم قد يكون أحدهم درس كتاباً أكثر أو أقل.. إذ لم يوح إلى أحد، أو يلهم أحد، ولم ينزل جبرائيل على أحد، فإن نزل على أحد فليأت وليخبرنا.. فالمسألة واضحة جداً.
ينبغي أن لا نتجاوز الخطوط الحمراء للتشيّع.. الخطّ الأحمر عندنا هو إمام الزمان، ولا ينبغي أن نتعدى هذا الخطّ الأحمر. فمع أنّني في هذه الوضعيّة والحالة التي لدي والتي هي في الحد المتوسط من العلم؛ حيث أعرف بعض المسائل العلميّة البسيطة.. فلو مضى من حياتي مائة مليار سنة على هذه الحالة لن أستطيع أن أصل إلى معرفة ما يجري في نفس الإمام وفي قلبه وفي إرادته، ولا إلى معرفة كيفية تصرفاته وتعامله مع عباد الله. كم عدد البشر على الكرة الأرضية؟ أربعة مليارات.. خمسة ستة مليارات؟ كم نحن الآن؟ فعندما يقول الإمام عليه السلام: «إنّا غير ناسين لذكركم ولا مهملين لمراعاتكم»، نظنّ بأنّ الإمام يمازحنا في هذه الكلمات التي كتبها للشيخ المفيد.. كلاّ! ينبغي أن لا نظنّ بأنّكم إنّما أتيتم إلى هنا وجلستم في مجالسكم بمشيئتكم واختياركم أنتم مستقلّتَين.. لا تظنّوا ذلك! لا تظنّوا بأنّ هذا الأمن الذي ينعم به الشيعة إنما هو بسبب الأعمال التي يقوم بها فلان أو فلان.. لا تظنّوا بأنّ إحساس الهدوء والاستقرار والسكون الذي لديكم هو نتيجة أفعالكم.. لو لم تتعلّق إرادتنا ومشيئتنا بكم لقضى عليكم أعداء الله وأعداء الإسلام الذين هم في لباس الإسلام ولباس التشيّع، لكان قضى عليكم هؤلاء الأعداء «لاصطلمكم الأعداء»، فمن الذي حماكم وحفظكم؟ من؟ من الذي يحفظ لكم استقراركم؟ كم نعرف نحن عن إمام الزمان؟.. ما نعرفه أنّ إمام الزمان غائب خلف الجبل، وعندما يشاء الله تعالى ظهوره يظهر.. إذا كان الأمر كذلك فيمكن لأي أحد أن يكون كذلك أيضاً.. ألم يدّع الكثير من الناس ذلك عبر العصور؟ من يقرأ تاريخ البهائيّة يعرف أنهم كانوا يستخدمون مثل هذه الألاعيب، لقد قرأت الكثير من الكتب عن البهائيّة.. حيث كانوا يخفون بعض الأشخاص مدّة من الزمن عن أعين الناس.. ويقولون للناس بأنّه سيأتي يوماً ما.. ويخلقون بذلك مناخاً كاذباً حول هذا الأمر إلى أن يظهر بعد ذلك. وكان بهاء الله يأتي ويخطب في الناس ويحدثهم بأمور.. وكان الناس يبكون من ذلك وتجري دموعهم من شدّة تأثّرهم بكلامه.. مع أنّه لم يكن يفهم شيئاً، لم يكن يفهم أن في يده أربعة أصابع أو خمسة.. ولم يجد الناس من هو أقلّ منه فهماً ليخطب فيهم.. [ضحك] وهذا في الواقع من التوفيقات التي منحها الله للبهائيّة، حيث كان لديه لحية طويلة ويرتدي قبعة بيضاء وكان الناس يظنّون أنّ الذي يتكلّم إليهم جبرائيل الأمين.. كان يقول لهم لا تنظروا إلى حضرة بهاء الله، فعيونكم لا تطيق النظر إليه، وكان هؤلاء الناس ـ الذين هم كالأنعام ـ يخفضون رؤوسهم ويسترقون النظر قليلاً قليلاً.. كانت جميع هذه الأمور من الاحتيال واللعب على الناس وتضليلهم، وإبقاء الناس ضمن إحساساتهم بعيداً عن العقل والفهم.. وكان هذا الرجل يأتي ويتحدث إلى الناس ويقول لهم (وهذا من توفيقات الله للبهائيّة) لقد منّ الله تعالى على البهائيّة بتوفيق عظيم..
ينقل أحدهم بأنه ذهب إلى جانب النهر.. ورأى أن من توفيقات الله للبهائيّة أنّهم عندما كانوا يصطادون كل من يرمي الطيور يصيب واحداً، إلا الرجل البهائيّ فعندما رمى أصاب اثنين معاً.. هذه هي كلّ المعرفة التي عند هؤلاء، بحيث أنّ هذا الرجل كان يحدّثهم بهذه الأمور.. يعني أنّهم كانوا يخفون بعض الرجال مدّة أربع سنوات ثمّ يظهرونه ليقوم بمثل هذه الأفعال.. فإنّ الإفاضات التي تنزل عليه لا تتجاوز أن تكون بحيث يطلق البهائيّ فيصيب طائرين معاً، بينما الآخرون يصيبون واحداً فقط.. ما أذكره لكم قرأته في الكتب التي دوّنت تاريخ البهائيّة؛ حيث قرأت جميع الكتب التي تتحدّث عن البهائيّة.. سواء تلك التي ألّفوها هم أو ألّفت في تاريخهم..
نحن نعتقد بأنّ الله تعالى قد أخفى إمام الزمان عن أعين الناس، يريد بذلك أن يعيش الناس في حالة من التخيّلات والأمور النفسيّة!! وأن إمام الزمان سيأتي يوماً ما، لذا عليكم أن لا تخطئوا وعليكم أن تدعوا له بالظهور، وبعد أن يظهر يهلهل الناس ويشرعون بالبكاء.. فقد أتى إمام الزمان!!!
قبل بضعة ليالٍ أتى بعض الإخوان للقاء بالحقير، فقالوا متى سيظهر الإمام؟ قلت لهم: ليس لدينا علم الغيب.. فالغيب مختص بالله وبأوليائه، وإذا كانوا يعرفون هذا الأمر لا يذيعونه لأحدٍ أبداً.. لكن أقول لكم علامة من علامات الظهور وهي أنه عندما لا يشاهد الناس صورة في القمر، فذلك هو زمن ظهور الإمام. أمّا الآن فلا، حيث نرى جميعاً وجود صورة على القمر، ونرى كلّ ما يقال لنا.. صحيح؟ ذلك الوقت هو وقت الظهور؛ أي عندما تتبدّل الأحاسيس إلى العقلانيّة، عندما يتحرّك هذا العقل بدلاً من تحرّك أمور أخرى، عند ذلك نعلم بأنّه عصر الظهور.
نحن نظنّ بأن الإمام يهتم بإدارتنا فقط.. هل هذا هو إمام الزمان؟ كلاّ يا عزيزي! هذا ليس هو إمام الزمان.. وما ذكرته من أنّنا لن نفهم شيئاً منه ولو بعد مائة مليار سنة، أريد بذلك أن أبيّن شيئاً من ذلك.. فأنا لا أطرح أموراً لا طائل منها.. يقول الإمام الصادق عليه السلام: إنّ جميع عالم الوجود الظاهريّ؛ من الأرض والقمر والشمس والمنظومة الشمسيّة والكواكب والسيّارات.. وسائر المجرّات والنجوم التي نراها من بعيد وبواسطة الآلات الحديثة.. جميع هذا العالم هو بمثابة قطرة ماء في المحيط بالنسبة إلى عالم المثال.. هل يمكننا أن نحصي كم قطرة هو؟ انظروا إلى القطرة وانظروا إلى المحيط.. جميع هذا العالم المادّي هو قطرة ـ وهم يرون ذلك ويبيّنون ذلك لبعض الناس، كذلك سالكو الطريق إلى الله يرون شيئاً من ذلك في بعض مراحل سلوكهم ـ إذاً فجميع هذا العالم المادّي هو بمثابة قطرة في المحيط بالنسبة إلى عالم المثال. وبعد ذلك يقول الإمام بأنّ عالم المثال بالنسبة إلى عالم الملكوت كالقطرة في المحيط، وهكذا يبيّن كلّ عالم إلى سبع عوالم.. فهل يمكن لأحد أن يتصور ما هي حقيقة المسألة؟ إن إمام الزمان عليه السلام يدبّر ويدير جميع هذه العوالم.. بناء على هذا الذي ذكرناه، فهل يمكن لأحدنا أن يتصوّر الإمام ولو بمقدار رأس إبرة؟ هذا هو إمام الزمان. لذا من يريد أن ينسب أوصاف الإمام إلى نفسه ـ نعوذ بالله نعوذ بالله نعوذ بالله ـ بحاجة إلى جرأة كبيرة جداً جداً، أن آتي وأصف نفسي بتلك الأوصاف التي للإمام! أن أعرض نفسي وأقدم نفسي بحيث يطرأ على ذهن البعض بأني كالإمام... منذ بضعة ليالي تشرّفت بالذهاب إلى مشهد، وبعد الزيارة ذهبت لقراءة الفاتحة للمرحوم الوالد، وكان هناك ثلاث نساء، وعندما قرأت الفاتحة، سألتني إحداهن هل لك نسبة إلى هذا الرجل المدفون هنا؟ قلت: لي نسبة إليه.. إذ لم أوضح لها أكثر؛ فماذا أملك سوى الخجل والحياء وخفض الرأس أمام هذا الإنسان.. قلت لها نعم لي نسبة إليه. فقالت: هل كان رجلاً عظيماً؟ فأجبتها: لم يكن أحد مثله في حياته.. وقلت لها هذا رأيي، التفتوا هنا، إذ هنا تقع علينا المسؤولية، بعد ذلك قالت إحداهن: إذاً كان إماماً! قلت لها ماذا قلتي؟ لا تتفوّهي بهذا الكلام أبداً! فقالت عفواً قلت هو إمام، فقلت لها الإمام هو هذا وأشرت إلى مقام الإمام الرضا عليه السلام، هذا هو الإمام، فنحن لدينا اثنا عشر إماماً.. نعم هو من شيعة هذا الإمام، وقلت لها: بعد الآن لا تقولي إمام، وبعد ذلك فهمت أنّها من النساء المحترمات ولكن لها ثقافة خاصّة.. قلت لا تطلقي لفظ الإمام لا عليه ولا على غيره! لدينا اثنا عشر إماماً فقط، أربعة من ولد هذا الإمام وسبعة آباؤه من قبله، ولدينا معصومان آخران هما النبيّ والسيّدة الزهراء لهما مرتبة الإمامة أيضاً، فقد كان لدى النبيّ مرتبة الإمامة ومرتبة النبوّة معاً.
انظروا، من جهة قلت لم يكن يوجد مثله في حياته، وهذا الكلام صحيح وأنا أؤمن به، ومن جهة أخرى، عندما يصير هناك تعدٍّ للخطّ الأحمر للتشيّع ولمباني التشيّع فلا بدّ من الوقوف بحزم حتى لا يقع تخطٍ لهذه الحدود.
هذا هو إمام زماننا، يعني أنه الذي يدبّر كل ما سوى الله تعالى، بحيث أنه إذا لم يرد فلن تخرج هذه الكلمات من فمي، وإذا لم يرد لا يمكن لأذنكم أن تسمع كلامي، وإذا لم يرد لا يمكن لعقلكم وقلبكم أن يدرك المطالب التي ألقيها.. هذه الأمور تحصل بإرادة صاحب الزمان. فهل يمكن أن نأتي ونقول بأنّنا شيء مقابل وجود الإمام؟ أيّ شيء نحن؟ الأفضل أن نقول بأنّنا صفر حتى نطمئن، ويجب أن نقول ذلك، وسوف نصل إلى الإيقان بهذه الحقيقة، فإن قولنا أنّنا صفر مقابل الإمام سيكون فخراً وعزاً لنا.

    

اختصاص الإمام بالأحكام وعدم قيمة العلوم الظاهريّة أمام أمره القطعي

إذاً المختصّ بحكم الله تعالى هو إمام الزمان، فهو صاحب حكم الله دون غيره. فهل علينا أن نعرض كلام إمام الزمان وفعله على كتاب الله؟ إذ ما الذي فهمناه من كتاب الله هذا؟ أولاً عليك أن تفهم كتاب الله، ثمّ تأتي وتقول نعرض فعل أولياء الله على كتاب الله، فأنت حتى الآن لا تعرف معنى بسم الله، فما الذي تريد أن تعرضه على كتاب الله؟ إمام الزمان يقول لي عليك أن تبقى الليلة مستيقظاً إلى الصباح.. وهنا لديّ علم قطعيّ وعلم ظاهريّ، فإذا لم أنم أربع ساعات ستصيبني ـ قطعاً ـ سكتة قلبيّة، وما يوجب الإصابة بسكتة قلبيّة ـ على ما تفيده الآية والسنّة ـ أمر حرام، أليس حراماً؟ فهل يجب أن نطيع كلام إمام الزمان أو كلام الأطبّاء، والحال أنّ الطبيب يقول ما يراه واقعاً، وتمليه عليه وظيفته إذ يقول بناء على المعلومات التي لديّ من هذه الفحوصات والمعاينات، عليك أن تقوم بهذه الأعمال، ويجب شرعاً العمل بما يقوله الطبيب، فإذا فرضنا أنّ الإمام لم يقل شيئاً، لا بدّ من العمل على طبق الدستور الذي يمليه عليّ الطبيب، وإلا فسوف أعاقب إن لم أطع. لكن إذا أتى الإمام وأمرني بهذا الأمر، فكلّ شيء سيذهب جانباً، ويبقى كلام الإمام، حتى لو أدّى ذلك إلى حصول سكتة قلبيّة، فالإمام لا يضمن بأنه إذا لم ننم لن نصاب بشيء من الأمراض والعوارض، بل حتى لو فرضنا أنّه يريد أن أصاب بسكتة، فماذا؟ يجب الإطاعة.
أصيب بعض أقاربنا بمرض في قلبه، وبقي في المستشفى مدّة أسبوع، فرأى الإمام الرضا عليه السلام في عالم الرؤيا، وقال له الإمام ألا تريد أن تأتي لزيارتنا؟! فاستيقظ من النوم، وكانت هذه الرؤيا واضحة بالنسبة إليه بحيث أنّه قطع بها، إذ قد تكون الرؤيا أحياناً شيطانيةً وقد تكون رحمانيّة.. لكن بالنسبة إليه شكّلت له هذه الرؤيا حالةَ قطعٍ بأنّ الإمام طلب منه المجيء، فماذا عليه أن يفعل؟ عليه أن يذهب، حتى لو كان الأطباء قالوا له: أنت مريض أو عليك أن لا تغادر السرير، أو ما إلى ذلك.. فعندما يقول الإمام الرضا عليه السلام: ألا تريد أن تأتي لزيارتنا؟! فيجب عليه أن يذهب، وهكذا قرّر. لكنّه قال في نفسه إذا أخبرت زوجتي وأولادي بما عزمت عليه فلن يقبلوا، فاتّصل بجاره وصاحبه، وقال له أنا أعلم بأنّهم لن يسمحوا لي بالذهاب، لكنّي أريد منك أن تأخذني إلى مشهد لزيارة الإمام الرضا والعودة، تحت ذريعة أنّك تريد أن تأخذني في نزهة حول المستشفى.. ولعلّه ـ على ما ينقل ـ أنه كان يشعر بأمور معيّنة. وها هما يذهبان معاً إلى مشهد بسيّارته ويسير بهدوء، ويكون وضعه أثناء الطريق جيّداً ومستقراً.. قال: أتينا إلى مشهد معاً وزرنا معاً، حيث أدخلته إلى الحرم عبر الكرسيّ المتحرّك، وكان فرحاً كثيراً وكانت ليلة جمعة.. ثمّ ذهبنا إلى الفندق وفي نصف الليل قام وقال لي: في أمان الله.. أنا ذاهب..! فالإمام قال لي: لقد دعوتك إلى هنا حتى تموت عندي وأبقيك هنا، فأبلغ سلامي إلى الجميع...!! في أمان الله... قال ذلك وتوجّه إلى القبلة وتشهّد ورحل.. أليست هذه دعوة؟ قال الأطبّاء إيّاك أن تتحرّك، وإذا تحرّكت ترتكب حراماً، وواقعاً ترتكب حراماً، لا أنّه ليس حراماً، أنا لا أقول بأنّه حلال بل هو حرام، لكن الكلام هو أنّه ماذا ينبغي أن يفعل بدعوة الإمام الرضا عليه السلام؟ هل ينبغي أن يعمل بدستور الطبيب الظاهري، أو بدعوة الإمام الرضا؟ فالإمام الرضا يريده أن يأتي ويسلّم الروح عنده، وهذا ما فعله..
أصحاب الإمام الحسين عليه السلام هل كانوا غير ذلك؟ ألم يأمرهم سيّد الشهداء في ليلة عاشوراء بصراحة بأنّ كلّ من يبقى إلى الغد معي سوف يستشهد، لم يخف عليهم الأمر.. بل إنّه أراهم مواضعهم في الجنّة.. لكن قبل ذلك بيّن للجميع بصراحة بأنّه كل من يبقى هذه الليلة سوف يستشهد غداً، لكن لو كان شخص لا يريد البقاء فليذهب هذه الليلة، ومن يسمع غداً صوت غربتي ثم لا ينصرني سوف يُكبّ على وجهه في جهنّم. فالمسألة كانت واضحة جداً، إذ الإمام بيّن بوضوح، ولم يكذب، والمطلب الذي يبيّنه الإمام لم يكن يقبل التأويل، لذا أطفأ السراج وقال من يريد الذهاب فليذهب.. فذهب الكثير، ثم نظروا فلم يبق إلا القليل.. الجميع ذهبوا، حيث قالوا من الأفضل أن لا نبقى. كلامنا هنا، هو أنّ العمل الذي قام به هؤلاء هل هو من جهة الموازين التي تمّ بيانها حلال؟ كلاّ بل حرام! لكن الإمام عفا عنهم وسامحهم في ذلك، لقد أرفق بهم الإمام في تلك الليلة، إذ جميع الذين ذهبوا في تلك الليلة قاموا بفعل محرّم، لأنّهم تركوا إمام زمانهم وابن نبيّهم بين أعدائه، وهذا عمل محرم، فحفظ إمام الزمان في كل وقت واجب شرعاً، وهذا من الأحكام الشرعية، فلو فرضنا أنّ أحدهم كان يريد أن يضرب الإمام أو يتعدّى عليه أو يهلكه، فيجب على جميع الأفراد أن يأتوا ويدافعوا عنه، حتى لو أدّى بهم الأمر إلى القتل، فإن قتلوا فهم شهداء. وعليه فالعمل الذي قام به هؤلاء عمل حرام، لكن الإمام رفع عنهم ثقل هذا العمل الحرام، فالإمام يمكنه ذلك، وسيّد الشهداء كان رجلاً كريماً وشهماً وعزيزاً وحراً.. وهذه العبارات لا يمكنها أن تفي بحقيقة الوصف الذي ينبغي لسيّد الشهداء.. فهؤلاء وإن كانوا قد فعلوا حراماً ـ وهذا الذي أذكره ليس منّي ـ فإن الإمام رفع عنهم وزر هذا الفعل ووباله، وأعادهم إلى ما كانوا عليه قبل هذه المسألة.. أعادهم إلى الحياة التي كانوا عليها.. والوضعية التي كانت لهم.. والصلاة والصوم الذي كانوا يقومون به.. فالأئمة عليهم السلام كبيرون إلى حدّ عجيب.. لكن مع ذلك نأتي نحن، نعم نحن وبسبب أنّنا نريد أن نبيّن مسألة معيّنة، نأتي إلى صحن أمير المؤمنين ومقام سيّد الشهداء ونختبئ هناك، حتى إذا أصابه شيء نقول: أنظروا! هؤلاء يضربون المقام.. انظروا كم هو الفرق كبير! نحن نذهب ونحتمي في مقام أمير المؤمنين حتى إذا ما أصيب من الكفّار، نقول لجميع الناس انظروا هؤلاء يضربون المقام.. أو نفعل غير ذلك من الأمور.. وسوف يبيّن لنا الزمان هذه المسائل شيئاً فشيئاً.
يأتي الإمام ويرفع أصل المسألة من أساسها. فهنا يوجد بحر محيط من الحريّة، بل الحريّة تعجز عن وصف وبيان ما هو موجود في مدرسة سيّد الشهداء عليه السلام، المناعة وعزة النفس قاصرة عن بيان المناعة وعزة النفس التي يتمتع بها المعصوم عليه السلام، فاللغة لا يمكنها أن تصل إلى ذاك المحتوى وتلك الواقعيّة الموجودة في قلب الإمام عليه السلام، لذا مع أنّ هؤلاء يفعلون فعلاً حراماً.. يقول لهم الإمام: «اذهبوا، فأنتم في حلٍّ من بيعتي»، لقد رفعت بيعتي من عنقكم.. وهم فرحوا بذلك وقالوا: الحمد لله فقد رفع الإمام بيعته وأحلّنا منها، فلنذهب.. لقد رفع الإمام الحسين في ليلة عاشوراء كل أنواع الاحتيال والخداع.. إذ قد يبقى في قلب الإنسان شيء.. ويقول هذا الإمام الحسين ابن النبي يقف أمامه ثلاثون ألف رجل.. فيا ولينا.. لكن الإمام لديه حرية وشهامة وعزة بحيث أنه سمح لهؤلاء الأشخاص أن يرحلوا ولا يعودوا يشعرون بذاك الإحساس، فقال لهم: لقد سحبت البيعة منكم بنفسي، وقطعت بنفسي تلك العلاقة التي بيني وبينكم.. فماذا تريدون بعد ذلك؟ حتى أنه قال لأخيه: اذهب! انظروا إلى أيّ حدّ كان الإمام.. قال لابنه: اذهب! وقال ذلك لأقرب الناس إليه، وقال بأنّ هؤلاء يريدونني وحدي، فليس مطلوبهم أنت يا أبا الفضل، ولا سائر الإخوة، بل المطلوب هو أنا، أمّا أنتم فاذهبوا.. لكنّهم ماذا فعلوا؟ هؤلاء كانوا قد أدركوا شيئاً، هؤلاء عرفوا إمامهم وعرفوا أين يذهبون.. قلت لبعض الإخوة لو كنت معهم في تلك الليلة ونلت توفيق وشرف مثل هذه الحالة ـ إذ التوفيق ينبغي أن يأتي من هناك وهو ليس بأيدينا ـ لقلت شيئاً آخر.. لقلت له: إذا أمرتنا بالذهاب، فدلّنا على شخص مثلك حتى نذهب إليه.. عند ذلك لن يتمكّن الإمام من طردنا.. فإذا كان الأمر ينتهي بالكلام فنحن نعلم الكلام، فقد تعلّمنا شيئاً من العلوم.. تقول له دلّنا على رجل مثلك كي نلازمه، والحال أنّه لا يوجد أحد، فالإمام الحسين واحد، ليس اثنان.. فأيّ كلام ما يقال حسين الزمان؟ علي الزمان؟ ما هذا الكلام؟ كنت أستمع إلى كلام فيما سبق.. وكان المتكلم رجلاً كبيراً ـ وقد بيّنت ذلك وأبيّنه في الجزء الثالث من أسرار الملكوت لكن لا أعلم متى يمنّ الله تعالى علينا بالانتهاء منه ـ كان يقول: لقد مات شمر ذلك الزمان ودفن، أمّا اليوم فعلينا أن نعرف شمور [جمع شمر] هذا الزمان، نعم يمكن أن يكون في زمان معيّن ألف شمر.. ألم يكن صدّام كالشمر، هل كان صدّام أقلّ من الشمر؟ صدّام وغيره، أليسوا كالشمر؟ وهناك الكثير من هذا القبيل.. هناك ـ غير صدّام ـ الكثير أمثال يزيد وعبيد الله بن زياد والشمر.. بل يوجد من هو أسوأ حالاً منهم أيضاً..
خوش بود گر محك تجربه آيد به ميان
                             تا سيه روى شود هر كه در او غشّ باشد

(اصبر لخطب الابتلا والمعتركْ
                             كي يفتضح غشّ الفتى عند المحكْ)

حتى الآن لم نواجه الماء، ولو واجهنا الماء لكنّا أسوأ حالاً من عبيد الله بن زياد،
رحمة الله على الحاج ميرزا حبيب الله الخراساني حيث يقول:
عيان گردد چو در آب افتد اين مرغ
                             كه مرغابى بود يا ما كيان است‏

(ولو سقط هذا الطائر في الماء، لتجلّى عياناً أمِنَ البطّ هو أو من الدجاج‏)

حتى الآن لم نر الماء حتى يُعلم من الذي يعرف السباحة من غيره.. بعضهم يمشي على الماء وبعضهم يمشي تحت الماء.. قيل لأحدهم تعال نسبح سوياً، فقال لا أعرف السباحة، فقيل له اسبح تحت الماء (ضحك)... لو كان الأمر تحت الماء لكان الجميع يعرفون ذلك..
أينبغي أن نعرض كلام الإمام على الكتاب والسنّة؟! فالكتاب والسنّة يقولان هذا العمل حرام.. إذاً علينا ان نقول لإمام الزمان: عذراً، بما أنّ لدينا علمٌ بأنه إذا بقينا مستيقظين إلى الصباح، فسيوجب ذلك الإضرار بالبدن، والإضرار بالبدن حرام طبقاً للكتاب والسنّة.. وعليه لن نستطيع إطاعة أمركم، يمكننا أن نطيع نصف ساعة أو ساعة فقط.. عند ذلك سيقول الإمام مرحباً بك، لن أقول لك شيئاً، لكن أنت الذي خسرت.. أنا لا أريد أن تعيش في هذه الدنيا كرجل آلي.. بل أريد أن أوصلك في هذه الدنيا إلى مرتبة الإنسانيّة.

    

خلاصة ما يستفاد من مختلف موارد الأحكام الخاصّة

بالنسبة إلى المطالب التي ذكرناها للإخوة في الجلسات السابقة بأنّه ليس فقط يمكن لفعل الإمام والمعصوم عليه السلام أن يكون مخالفاً للكتاب والسنّة، حيث بيّنا أنّ من الممكن أن تكون المخالفة أمراً خاصّاً واستثنائيّاً، وأنّ الواجب على المكلّفين أن يطيعوا في ذلك. فالأوامر التي عرضناها؛ كأمر النبيّ إبراهيم وقضيّة الخضر وقضيّة النبيّ موسى وقضيّة النبيّ داوود عليهم السلام.. قضايا النبيّ داوود عليه السلام، وكذا المطالب التي حصلت في زمن الأئمة؛ سواء في زمن أمير المؤمنين أو في زمن الإمام الحسين والإمام الصادق عليهم السلام وسائر الأئمة.. وكذا المطالب التي سوف تحصل في زمن ظهور إمام الزمان طبقاً للأخبار والآثار التي لدينا، إذ يقول الإمام افعل هذا ولا تفعل ذاك.. تزوّج من فلانة.. طلّق فلانة.. ـ وهذه الأمور ستجري في زمن الإمام، وتطبيقها واجب، فالإمام يقول له عليك أن تترك زوجتك، ويقول للمرأة عليك أن تنفصلي عن زوجك.. ويجب عليهم الامتثال ـ أيٌّ من هذه الأوامر منسجم مع الكتاب والسنّة؟ أيٌّ من هذه الموارد؟!
ما نستفيده من مجموع هذه الموارد وكذا سائر النماذج ـ طبعاً ذكرت بأنه سوف يعمل الإخوة على تدوين هذه المطالب ونشرها بصورة كتاب، مع شيء من التفصيل الأكثر علميّة، وسوف يُجيب هذا الكتاب على الكثير من الإشكالات التي تمّ طرحها ـ هو أنّ الحكم الإلهيّ ليس دائماً على نحو الموجبة الكليّة، بمعنى أن يقال أنّ جميع الأحكام الإلهيّة أحكام ثابتة وراسخة لا تقبل الاستثناء والتغيير والتبدّل، وأنّ على الأشخاص أن يرجعوا بشكل مطلق إلى تلك الأحكام الكليّة في أقوالهم وأفعالهم وتصرّفاتهم وجميع ما يصدر منهم.. بل المسألة هي أنّ تلك المطالب هي بمثابة القضيّة الموجبة الجزئيّة. أما القضيّة الموجبة الكليّة في حكم الله فهي أنّ حكم الله هو كلّ ما فيه رضا الله وكلّ ما تعلّقت به إرادته تعالى ليقوم به العبد. سواء كان في تلك القضايا، أو في قضايا أخرى، كلّ ما تتعلّق به إرادة الله، لذا علينا أن لا نضع أحكاماً ثابتة ونقول حكم الله هو هذا... مثل نظام العمل الذي تضعه بعض المؤسسات لتنظيم إدارتها، وتُلزم كلّ من يأتي للعمل بهذا الدستور والقانون؛ حتى لو كان وزيراً أو مديراً أو أيّ مسؤول كان، ولو لم يلتزم فسوف يحاسب على فعله ذلك، ويقال بأنّه لم يلتزم بالدستور الخاص بالإدارة، أمّا في أحكام الإسلام فليست كذلك، بل حكم الإسلام هو أيّ فعل فيه رضا الله وإرادة الله التي تتعلّق بعبد خاص، يكون ذلك حكم الله. وحكم الله تارة يكون بهذا الشكل، وتارة أخرى يكون بشكل آخر. وتارة يكون حكم الله في الصلاة لله، وتارة يكون في خلافه.. لقد قال لي المرحوم الوالد يوماً: لا تصلِّ صلاة الليل.. ما الذي يراه هو، وإلى أيِّ شيء كان ينظر؟ لكن بعد ذلك مهما قال لي صلِّ صلاة الليل.. لم أكن أصلِّي (ضحك). وكان يقول لماذا تتلكَّأ عنها، فكنت أقول له أنا أستصحب الحالة السابقة، فقال الاستصحاب هو الوحيد الذي تعلَّمته من جميع الأصول؟ (ضحك) والحال أن الاستصحاب إنَّما يكون فيما لا يوجد نص، وأنا الآن أقول لك... وكان لدينا مثل هذه الجرأة وهذا المزاح معه. قال لي عليك أن تصلِّي صلاة الليل، وواقعاً في ذلك الوقت كنت أتلوّى لعدم إتياني بصلاة الليل، لكن قال لا ينبغي أن تصلّي، فلن أصلّي.. هو الذي يقول الحق.. إذ هو يرى فيّ أمراً أنا لا أراه في عمر العشرين عاماً في سنِّ اثنتي وعشرين عاماً.. يقول اليوم لا تصلّ! وغداً يقول صلّ! وبعده يقول صلّ ضمن هذه الشروط! فالتكليف الذي يتعلَّق بالإنسان هو التكليف الذي يكون نازلاً عبر رضا الله ومشيئته، لا التكليف الجامد والذي يكون بمثابة دستور المؤسّسة الموضوع لإدارتها.. فإن كنَّا نتعامل مع التكاليف على أساس أنها كذلك، فعندئذٍ لن نتمكن من إطاعة الإمام عليه السلام، فالإمام الصادق عندما يقول لذاك الخراساني ادخل إلى التنور، قال الخراساني يا ابن رسول الله ألا ترى النار تستعر داخله، فقال الإمام نعم أراها، لكن عليك أن تدخلها، فهناك الحرارة أكثر.. لكن ذاك يقول: يا ابن رسول الله: نحن نريدك أن تدخلنا ضمن حرارة معتدلة، لا في حرارة تحرقنا! نحن نريد أن نتعامل مع الإمام على أساس حرارة معتدلة، هل التفتم؟ لا نريد الإمام الذي يأتي بالحرارة التي تحرق الأنا والنفس التي لدينا، لا نريد الحرارة التي تحرق تخيّلاتنا، لا نريد الحرارة التي تأتي وتحرق توهّماتنا، بل نريد الحرارة المعتدلة التي يتدفّأ الإنسان بها. الإمام عليه السلام يأمر هذا، لكنه لا يطيعه.. مثلنا، فنحن لا نطيع، ولو كنّا نحن مكانه لما كنّا أطعنا. إذ نحن الآن طلبة علم، والحال أنّ ذاك الخراسانيّ لم يكن طالب علم، لو أمرنا الإمام لحاججناه وقلنا له: يا ابن رسول الله! ألم تقل أنت ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة؟ ألا ترى النار تستعر؟ فيمكن أن نحتجّ على الإمام.. إذ لدينا من الجرأة والصلافة التي يمكننا بها أن نقف في وجه الإمام عليه السلام ونحاججه.. لكن لا قدّر الله أن يأتي ذلك اليوم الذي نواجه فيه الإمام بهذا الشكل.. فيوم موتنا أحبّ إلينا من ذلك اليوم الذي نقول فيه شيئاً مقابل الإمام. نعم، الإمام يقول: نعم أرى النار تستعر في التنّور وترتفع منه، لكن الآخر يأتي وقبل أن يجلس ويسلّم يقول له الإمام: ادخل التنور، فيدخل فيه دون أن يفكّر أو يتردّد، هذا هو هارون المكّي، لم ينبس ببنت شفة.. أو يقول آخ! لقد احترقت. وفي تلك الأثناء اشتغل الإمام بالكلام مع الرجل، وانقضى مدّة نصف ساعة على دخوله، فقال له اذهب وانظر ماذا حصل لصاحبك، فذهب ورآه يلعب بالنار.. فقال قل له يخرج من النار.. فأتى وجلس.
فإرادة الله بماذا تعلّقت الآن؟ تعلّقت بكلام الإمام الصادق عليه السلام، فما يقوله الإمام هو الشرع، فهل فهمنا معنى الشرع الآن؟ الشرع هو عبارة عن الكلام الذي يقوله المعصوم، الأمر الذي يأمره المعصوم والنهي الذي يصدره المعصوم، المعصوم لا غير المعصوم، وهو الإمام عليه السلام، هذا هو الشرع.

    

ما هو التكليف بشأن أولياء الله؟

حسناً ننتقل الآن إلى أولياء الله، ما هو التكليف بشأن أولياء الله؟ فأولياء الله هم كما ذكرنا في الجزء الثاني من أسرار الملكوت، حيث تمّ توضيح شيء عن مقامهم عند بحثنا لهذه المسألة، وذكرنا أنّ حقيقة الأمر هي أعلى من ذلك، بل ليس لي الجرأة حتى على الكلام فيها أبداً، فإنّ أولياء الله هم الخاضعون لتصرّف الإمام عليه السلام، فعلهم وتصرّفاتهم وقولهم كل ذلك هو عين فعل وتصرّف وقول الإمام عليه السلام، ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّا إذا فرضنا وجود وليّ إلهي، وقال لشخص عليك أن تبقى الليلة ساهراً وتقضي ليلك بالصلاة، أو بأن تقوم بهذا العمل المعيّن.. لا ينبغي أن تنام. فإذا أتى أمر وليّ إلهيّ بمثل هذا فماذا علينا أن نفعل؟ كلامنا هنا، وأعتقد بأنّي قد تنزّلت بالبحث كثيراً، لقد فرضنا أنّ الأطبّاء قالوا بأنّك إن لم تنم فحياتك في خطر، وفعلك حرام.
كنت يوماً مع أحد الإخوة الأطبّاء وهو دكتور العيون الدكتور سجّادي، وكان أحد الأصدقاء لديه مرض عدم الرؤية جيّداً في الليل، فمجرّد أن ذكر له ذلك قال له: أرى أنّ قيادة السيارة في الليل حرام عليك، ثم استدرك وقال الحرمة يجب أن تصدر من السيّد الطهراني وأشار إليّ، فقلت له كلاّ بل نكتفي بكلامك، قيادة السيّارة صارت حراماً عليك في الليل، لماذا؟ لأنّه بناء على تشخيص الطبيب شخّص أن عينه تفقد القدرة على الرؤية في الليل. فإذا واجه طفلاً فسوف يصدمه فوراً أليس كذلك؟ وبناء عليه، فالفعل الذي يقوم به الآن هذا الطبيب واجب عقلاً وواجب عرفاً، ومستلزم للمحاكمة، فإذا فعل ذلك وصدم شخصاً، فيمكن محاكمته بصفته مجرماً، فعندما منعك الطبيب عن القيادة في الليل، وقال لك هي حرام، فلماذا لم تسمع منه وقدت سيّارتك؟ وشرعاً الأمر كذلك، وهذا الأمر سار في جميع الموارد؛ سواء الطبيّة وغير الطبيّة. في مثل هذا المورد الذي يقوله الطبيب بأنّ القيادة في الليل حرام، يأتي وليّ الله ويقول: له خذ هذه الرسالة واذهب بها وقُدْ سيّارتك بنفسك وانقلها من هذه المدينة إلى مدينة أخرى تبعد ثلاث ساعات، والحال أنه لم ينم في الصباح ولا بعد الظهر ولا في الليل.. فماذا عليه أن يفعل؟ هل يمكن أن يقول لن أذهب؟ أو يجب عليه الذهاب؟ كلام وليّ الله في هذا المورد ككلام الإمام.. فلو قلنا بأنّ الإمام حين يأمر بذلك فهو الشرع.. فما هي العلاقة بين كلام الإمام وكلام وليّ الله في هذا المورد؟ فلو فرضنا أن الإمام قال شيئاً وقال الوليّ شيئاً آخر نكتشف بأنّ هذا ليس ولياً، فإن كان الإمام هو الذي قال، وخالفه هذا فهو ليس ولياً. الوليّ هو الذي يكون كلامه عين الكلام فيما لو كان الإمام موجوداً، هذا هو الوليّ الإلهي.

    

الفارق بين الإمام وبين الوليّ هو في السعة الوجوديّة لا في الكشف عن الواقع

وعليه فما هو الفرق بينه وبين الإمام؟ الفرق بينهما في السعة الوجوديّة، لا في انكشاف الواقع ومعرفة المصلحة الشخصيّة أو المصلحة الاجتماعيّة، فالسعة الوجوديّة للإمام عليه السلام هي أعظم من السعة الوجوديّة للولي، وهذا واضح، فهذا الإبريق أكبر من هذا الكأس، لكن الماء الذي هنا والماء الذي هناك هل هو ماء واحد أم لا؟ ماء واحد. من أين أتى هذا الماء الذي في الكأس؟ من هنا، فالآن سكبت الماء من الإبريق هكذا.. فهذا الماء هو عينه الذي كان هناك، ليس ماء آخر.. فإذا فرضنا أنّ هذا الماء ماء مصفّى، لا يصحّ أن نقول بأنّ ذاك الماء ماء مكدّر أو مضاف إليه بعض المواد غير هذه.. كلاّ بل هو عينه. العلاقة بين الوليّ والإمام المعصوم عليه السلام كالعلاقة بين هذا الكأس وهذا الإبريق. إذا تغيّر هذا الماء أثناء سكبه في الكأس.. كأن نفترض أن كثافته بمقدار مائة، لكن عندما نسكبه تصير كثافته بمقدار أربعمائة.. فعندئذٍ نعلم بأنهما مختلفان.. فهذا ليس ولي، بل هو مثلنا نحن.. فنحن كذلك، إذ عندما يأتي الفيض الإلهي، فعندما يأتي ويتقولب بقالب الحقير وأمثال الحقير، يحصل لديه تغيير وتحوّل بما يتماشى مع ما لدينا من تغيير وتحوّل بسبب نفسانيّاتنا وشيطنتنا ونفسنا المضطّربة وارتكازاتنا الذهنيّة وفهمنا القاصر وصفاتنا وملكاتنا.. فعندما يأتي ويختلط بهذه الأمور نرى ما الذي ينتج منه! فذاك الذي جاء شيء والذي نتج شيء آخر.. هذا الماء أتى بكثافة خمسين، لكنه يخرج بكثافة ثمانية ملايين.. يا ليته توقف عند الأربعمائة والخمسمائة.. في هذه الحالة نرى أنه يصير لدينا أمران، الفارق بينهما مائة وثمانين درجة تماماً، عندما دخلت إلى النفس.. ذاك النور الذي أتى وتلك الإرادة التي أتت وذاك العلم وتلك القدرة عندما أتت على النفس، لم تستطع النفس أن تحافظ عليها كما هي ـ التفتوا جيداً ـ لم تستطع أن تحافظ على خلوصها، وتخرجها كما هي من هذا اللسان، لم تستطع أن تفعل ذلك، بل قامت بخلطها وخلطها إلى أن رأى أن الذي خرج شيء آخر.. فصدر أمر بالفعل، كان الطلب الصادر إليه هو النهي، لكنه صار أمراً.. وكان المطلوب منه أمر لكن الذي صدر من هذا اللسان نهي.. فالذي وقع مخالف مائة وثمانين درجة تماماً. لماذا؟ لأنّ هذه النفس مختلطة. فابن زياد ويزيد عندما يأمران، ومعاوية عندما يحتال ويغرّر بجيش الشام، كيف يمكنه فعل ذلك.. ألا يعلم معاوية آيات القرآن؟ ألا يعلم بسنّة النبي؟ ألا يعلم براءة أمير المؤمنين من دم عثمان؟ يعلم ذلك كلّه، لكنّ الشيطنة والاحتيال الموجودين في نفسه وفي روحه للوصول إلى الرئاسة والجلوس على كرسيّ الحكم وبذلِ حياته في سبيل ذلك.. تجعلانه يأتي ويحرّف آيات القرآن ويقول بأنّ الآية: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [1] ويقول بأنّ أمير المؤمنين هو القاتل، لكنّه عندما يأتي إلى قلبه يقوم بقلب هذه الآية، ماذا يفعل؟ يقول بيعة عليّ واجبة، وإذا بايع سيقول له الإمام اجلس جانباً، كما فعل مع طلحة والزبير.. عندما قال لهم الإمام: لماذا أتيتما؟ فإذا كان كلامكما كلاماً خاصّاً أطفئ شمعة بيت المال وأشعل شمعتي الخاصّة، فأسقط في أيديهما.. نفس طلحة والزبير. ومعاوية عندما أدرك وجوب بيعة أمير المؤمنين.. فعندما يبايع الجميع ليس له أن يتخلّف.. وهذا ما ورد في نهج البلاغة. «فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد»، يقول عندما يأتي سيعزلني.. لذا ينبغي أن أختار طريقاً أصل فيه إلى مرادي، فعثمان قُتل وأنا من أقاربه ـ لكن هناك من هو أقرب منك إلى عثمان، فلماذا تأتي أنت وتطالب بدمه ـ فيبدأ بقلب المسائل وخلطها في نفسه ويرى أن وجوب بيعة علي والتسليم له والانقياد له.. يقلبها ويقلبها إلى أن يصل إلى مراده النفساني، فيقول نبايع بيعة مشروطة: إمّا أن تسلّم لنا قتلة عثمان.. وإذا سلّمه أمير المؤمنين قتلة عثمان سيقول هناك أشخاص آخرون اشتركوا في قتله، فهو لن يجلس هادئاً، فإن قال له أمير المؤمنين حسناً سأسلّمك قتلة عثمان، وافعل بهم ما شئت، وهم ثلاثة أو أربعة أشخاص فقط، سيقول له معاوية كلاّ، بل عددهم أكثر.. إلى أن يصل إلى نفس أمير المؤمنين ويقول أنت أحدهم.. إذ لا شكّ أنه سيصل، لأنّ الشيطان شيطان.. أولاً يدخل من باب صحيح، وإذا لم يحصل على مراده، يمزج الحقّ بشيء من الباطل والكذب، وإلاّ فبالكذب الصريح والاتّهام.. ينبغي أن يذهب إلى آخر القضيّة. يبدأ أولاً بعرض المطالب بشكل حقٍّ وصحيح وهو مقبول أمام الناس، وسيكون منزّهاً عن الاتّهام والكذب، وإذا لم يصل يرى نفسه مجبوراً أن يستعين بالاحتيال والكذب والاختلاس وبكلِّ شيء حتى يصل.. فإن لم يسعفه الصدق يستعين بأيّ شيء للوصول إلى هدفه. فوجوب بيعة أمير المؤمنين أتت من قبل الله، لا من الشيطان، يأتي الأمر بوجوب البيعة من الله إلى النفس، لكن النفس لا تقبل به، فما الذي ينبغي عليه أن يفعل؟ إن قبل، ذهب جميع ملكه وسلطانه، لذا يشرع بقلب المسألة في نفسه إلى أن يصل إلى نتيجة، ويقول: لا إشكال في بيعة علي، لكن من جهة أخرى يجب أن يسلّم لي قتلة عثمان لكي أقتصّ منهم، ثم نرى المسألة. والمحيطون به سيقولون كلامه صحيح، إذ لا يوجد أحد يقول له: إنّ عثمان كان رجلاً واحداً، فهل ستقتل بدله ثلاثة آلاف شخص؟ أليس لدينا {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} ؟ [2] لكنّه يقلب المسألة ويقلّبها، والناس يقولون حسناً نذهب للقتال، ويقتل العديد من هنا وهناك.. لماذا؟ بسبب الاستكبار والعناد.. جميع الأمور ترجع إلى العناد والاستكبار..
تلك الحقيقة وذاك النور الذي يأتي من تلك الجهة، عندما يصل إلى هذه النفس يرجع ويتغيّر ويظهرُ بشكل آخر مشوّه، أمّا نفسُ الوليّ فهي مرتبطة بنفس الإمام، وعليه إذا تكلّم الوليّ بكلام وكان هذا الكلام بنظر الإنسان مخالفاً لكلام المعصوم، فالوليّ ليس مجتهداً ـ فالمجتهد عليه أن يعمل بالأمور الظاهريّة، وهو لم يصل إلى الولي ـ وكلامنا هنا عن الولي، لذا فمسألة اتّباع سنّة الإمام وكلامه إنما تأتي في هذا المورد.. نفس هارون المكّي الذي قال له الإمام الصادق عليه السلام ادخل التنّور، لو أتى في اليوم التالي، فهل يحقّ له الدخول فيه دون أمر؟ كلاّ ليس له الحق! فالإمام لم يقل له، وإذا دخل سيحترق ولا يلومنّ إلاّ نفسه، فلماذا دخلت مع عدم أمر الإمام؟ يقول أمس أمرتني بالدخول، يقول له: أمس أمرتك، أما اليوم فلا.. وعليه لا يمكن أن يتخطّى أمر الإمام، فعندما يسمع الإنسان كلام الإمام يكون كلامه مختصّاً بذلك المورد فقط، لا أنّ الإمام يأمره أمراً مؤبّداً بأن يقول له: عليك إذا أتيت إلى هنا أن تسلّم وتدخل التنّور مباشرة ثم تجلس. نعم إذا أمره كذلك، وجب عليه الامتثال هكذا كلّ يوم، لكن الإمام عليه السلام قال له الآن افعل هذا الفعل، فهذا الأمر مختصّ بالآن فقط، بل لا حقّ لك أن تدخل التنّور بعد دقيقتين من الآن.. بل عليك أن ترى ما الذي قاله لك الإمام.. صحيح؟ نفس هذا المطلب بعينه مرتبط بالولي، فإذا قال الوليّ أمراً أوجب الشبهة للإنسان، هل يمكنه أن يعرضه على الكتاب؟ كلاّ، لماذا؟ للسبب المتقدّم نفسه، فهو الآن يتكلّم من أفق أعلى من القوانين والدستور، ذاك الوليّ هو الذي نقول عنه بأنّ كلامه كلام الله وإرادته إرادة الله، لا أيّ شخص تعلّم كلمتين أو صار لديه حالة معيّنة أو يمكنه أن يتصرّف ببعض الأمور أو يمكنه أن يقوم بأعمال خارقة للعادة.. هذا لا نقول عنه أنه ولي، بل هو شخص عادي، وإطاعة مثل هذا الشخص غير واجبة، بل حرام، وعليه أن يعرض ما يقوله على اليقينيّات التي لديه، أمّا الوليّ الإلهي؛ كالمرحوم القاضي والمرحوم العلاّمة وأستاذه والآخوند ملا حسين قلي الهمداني.. فهؤلاء الأفراد إذا فرضنا أنهم حكموا بأمر ـ كأن يقول على هذين أن ينفصلا عن بعضهما البعض ـ فهل يجب على الإنسان أن يطيع؟ طبعاً يجب، لأنّ كلامه كلام الإمام.

    

مناقشة دعوى اشتراط طاعة الوليّ بحالة عدم الشك

الآن أريد أن أطرح خُلْفَ هذه القضيّة ـ وهنا ينبغي على أهل العلم أن يدقّقوا أكثر ـ إذا كان المفترض أن تكون إطاعة الوليّ منوطة بعدم وجود الشكّ، بمعنى أنّه إنّما يمكننا أن نطيع الولي فيما إذا لم يكن لدينا شكّ في الفعل، وهذا هو معنى الإشكال الذي يطرح على المسألة، وهو أنّه إذا كان لدينا شكّ في صحّة ونفوذ أمر الوليّ فعلى الإنسان أن يعرضَ أمرَه على كتاب الله وسنّة نبيّه، فإن كان موافقاً أتى به وإن كان مخالفاً لم يفعله. فإن قال الوليّ صلّ صلاة الليل، فالكتاب والسنّة يؤيّدان كلامه؛ {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}[3]، فالكتاب والسنّة يقولان صلاة الليل مستحبّة، وهنا لا إشكال في ذلك. لكن إذا أتى الوليّ وقال لا ينبغي عليك أن تصلّيَ صلاة الليل، فهذا مخالف للكتاب والسنّة، والحال أنّه لا يوجد ما يمنع من الصلاة؛ فلا مرض ولا مشكلة في الأعصاب ولا في القلب، بل كلّ شيء صحيح وسليم بلا أيّ إشكال، أو أن يقول عليك أن تمتنع عن صلاة الليل لمدة شهر، فهذا مخالف للكتاب والسنّة، وموجب للشك، فهل يجب إطاعته في ذلك؟ كلاّ لأنّه مخالف للكتاب والسنّة!.. فإن قلنا هذا الكلام، فما الذي يحصل؟ سوف يتنافى مع جميع المطالب التي تقدّم ذكرها، فإن كانت إطاعة الوليّ منوطة بعدم وجود الشكّ، فلا يخرج الأشخاص عن أحد أمرين: إمّا أن يكونوا مجتهدين أو مقلّدين.. نترك الكلام في المجتهد، ونأتي إلى المقلّد ونقول: إذا كان المكلّف مقلّداً.. لقد كان المرحوم القاضي يقول بأنّ الغروب الشرعيّ هو باستتار القرص، هذه فتوى السيّد القاضي، الذي كان مجتهداً ووليّاً إلهيّاً.. لكنّ الأشخاص الذين كانوا يصلّون خلفه كانوا يقلّدون السيّد أبو الحسن الأصفهاني الذي كان يقول بعدم كفاية الاستتار، بل كان يحكم ببطلان صلاة المغرب في هذا الوقت، مثله مثل الإتيان بصلاة الظهر قبل الزوال فهذه الصلاة باطلة، وكذا من يريد أن يصلّي المغرب قبل الغروب بساعة مثلاً صلاته باطلة.. يجب العمل طبقاً للتكليف، وهنا لدينا أمران وتكليفان: أحدهما يقول يدخل وقت صلاة المغرب عند استتار القرص، ووليّ الله يقول عليك أن تصلّي في هذا الوقت معي، لكن الأشخاص كانوا يطلبون من السيّد القاضي ـ وكان طلبهم في غير محلّه ـ بأن يصبر عشرين دقيقة إلى أن تذهب الحمرة المشرقيّة، لتطابق فتوى السيّد أبو الحسن الأصفهاني. والسيّد الأصفهاني كان مرجعاً وكان لديه تكليفه، لا نتكلّم عن كونه مصيباً أو مخطئاً، فقد ذكرنا بأننا جميعاً نخطئ ولسنا معصومين، فهو يقوم بوظيفته ويفتي لمقلّديه، حسناً، لكن المسألة تأتي عندما يقول هؤلاء الأشخاص للسيّد القاضي بأنّ عليه أن ينتظر عشرين دقيقة، فوليّ الله يقول: الصلاة التي أراها مفيدة لكم هي هذه الصلاة التي نصلّيها الآن، أمّا الصلاة بعد عشرين دقيقة فليست مفيدة لكم، لا أقول أنّ فائدتها أقلّ من فائدة هذه، السيّد أبو الحسن الأصفهاني يفتي بأنّ الصلاة في هذا الوقت حرام وباطلة، فإن أراد مقلّدوه أن يلتزموا بفتواه ـ وقد حصل لهم شكّ بكلام السيّد القاضي، بل أكثر من شكّ ـ فالشكّ في صحّة كلام السيّد القاضي يساوي عدم الانقياد لوليّ الله، وعليه يذهب وليّ الله جانباً في هذه المعادلة. إذ إمّا أن يترك تقليد السيّد الأصفهاني ويقبل بكلّ ما يقوله هذا الوليّ الإلهي، وهذا ما كان يقوله المرحوم العلاّمة، في بحثه مع المرحوم العلاّمة الطباطبائي، ولا أذكر أين ذكر هذا البحث معه، لكنّي كنت حاضراً في تلك الجلسة، وكان المرحوم العلاّمة يقول: بأنّه مع وجود شخص كالمرحوم القاضي، فلا يحقّ لتلاميذه أن يقلّدوا السيّد الأصفهاني ـ هذا بالنسبة إلى تلاميذه، أمّا الأشخاص الآخرون فالأمر مختلف ـ إذ تقليده في هذه الحالة باطل، لكنّ هؤلاء لم يكونوا يقولون ذلك لهم، بل كانوا يتعالون عن ذلك ويراعونهم ويقولون: حسناً نصبر قليلاً. وفي هذه الحالة نرى أنّهم ضيّقوا الخناق على الأستاذ وجعلوه يؤخّر صلاته من جهة، ومن جهة أخرى وقفوا على كلامهم، إذ لم يكن يطاوعه قلبه أن يترك الصلاة خلف الأستاذ، ولم يكن يسلّم له تماماً، ولو سلّم له، لكان صلّى عندما يصلّي، بل يقول أقلّد السيّد الأصفهاني وأصلّي خلف السيّد القاضي... إذاً إذا شكّ الإنسان في صحّة كلام الولي، فسوف ينجرّ هذا الشكّ إلى عدم إطاعة الولي، وعليه فلن يبقى لدينا سلوك أساساً؛ لأنّه متى يحصل الشكّ للمقلّد؟ يحصل له عندما يكون له مرجع آخر، فإن كان لديه مرجع آخر وقلّد، ففي هذه الحالة إذا أراد أن يتّبع المرحوم القاضي فصلاته باطلة، لأنّ مرجعه يقول الصلاة الآن باطلة، وإذا أراد أن يقلّد مرجعه فسوف يخسر متابعة أستاذه، وعليه فإطاعة الأستاذ مرتبطة بما إذا لم يكن هناك اختلاف بين المرجع والأستاذ. وهذا الأمر يمكن لأيّ شخص أن يقوم به، فعندما أرى أنّ كلام الأستاذ موافق لكلام المرجع أطيعه، وعندما أرى أنّه مخالف لا أطيعه. إذا كان الأمر كذلك، فلن يكون هناك فرق بين الأشخاص العاديّين وبين وليّ الله! إذ ما الفرق بين هذا الجار وبين وليّ الله، إذ كلاهما يحكمان بأنّه إذا كان كلامه موافقاً لكلام المرجع فسمعاً وطاعة، وعندما لا يكون موافقاً له يقول لا يمكنني أن أطيع لكون كلامك مخالفاً لكلام مرجعي.. فلا فرق أصلاً بينهما من هذه الجهة. هذا أولاً وهذا إشكال نقضي فيما إذا كان الشخص مقلّداً.
أمّا إذا كان مجتهداً فالمسألة ستكون أفحش، لأنّ ما يراه المجتهد يعتقد بأنّ هذا الحكم هو حكم الله في حقّه، فالمجتهدون الذين يتتلمذون لدى وليّ الله في السلوك... المجتهد يعني أنه وصل إلى هذا الحكم الشرعيّ طبقاً للعلم والأدلّة والمباني، فإن كان هذا الحكم مخالفاً لكلام الولي، فماذا على المجتهد أن يفعل؟ لا ينبغي أن يطيع في هذه الحالة، فإن أطاع، فقد خالف يقينه وعلمه في هذه المسألة، وإذا لم يمتثل فسوف يخسر إطاعة أستاذه.. إذا كان الأمر كذلك، فسوف ينسدّ الباب تماماً أمام السلوك. لذا فالإشكال من أساسه باطل، لأنّ الشخص الذي يأتي إلى الولي، فلا مجال لديه للشكّ أصلاً، وإذا شكّ في هذه الحالة فمعناه أنّه لا يقبل به.
وقد واجه المرحوم العلاّمة طوال حياته أمثال هذه الحالات.. ففي أحد الأيّام أتى إليه أحد أرحامه، وأعطاه دستوراً ـ طبعاً لا تحصل هذه الأمور بدون سبب، فعندما يقع الإنسان في بعض الأمور ويمارس التمرّد ويقوم بالتجرّؤ والتجاسر يبتلى بهذه الأمور..
از خدا خواهيم توفيق ادب
                             بي ادب محروم ماند از عطف رب

(نسأل المولى لتوفيق الأدبْ
                             فاقد الآداب محروم الرتبْ)

وقد شاهدت قلة أدب ذاك الشخص الذي حصلت معه هذه الحادثة مع المرحوم الوالد.. وبعد مدّة، أعطاه دستوراً ـ وكان بنفسه من أهل العلم، لكن لا أدري إن كان مجتهداً أم لا، لكن أستبعد كونه مجتهداً ـ فقال له يا فلان.. أليس هذا الدستور الذي أعطيتني إيّاه مخالفاً للشرع؟ انظروا، عندما قال أليس مخالفاً للشرع، حصل لديه شكّ في حرمة هذا الفعل، فعند ذلك قال له: لا تفعله، وإذا فعلته في هذه الحالة ففعلك سيكون مخالفاً وحراماً. عندما حصل لديه شكّ، قال لا تفعل! فالآن تريد أن تفعل فعلاً في حالة شكّ، بأي دليل؟ من قال لك ذلك؟ عليك أن تفعل الأمر قربة إلى الله، والحال أنّه حصل في قلبك شكّ بكون هذا الأمر حراماً، فكيف يمكن أن تتأتّى منك القربة إلى الله؟ وكيف يمكن أن يتوافق ذلك مع السير والسلوك؟ وكيف يمكن أن يتوافق مع الطاعة والعبادة؟ فما دام الشكّ قد حصل فاسكت! فعند الشكّ ينبغي أن لا تخطو خطوة واحدة. لكنّه عندما حصلت له شبهة بدأ بالتهجّم والسخرية والطعن بالمرحوم الوالد والتشهير به في المجالس... إلى أن توفي، والله تعالى يفعل به ما يشاء، وقد ذكرت لكم أنّه لا يحصل هذا الشكّ من دون مقدمات، بل له أساس ولا يحصل من لا شيء، وهذه الشبهات والشكوك ينبغي أن يعتني بها الإنسان ويجيب عليها.
إذا كان الأمر كذلك، فعندئذٍ لا المقلّد يمكنه أن يطيع الولي ـ فيما لو لم يكن مقلّداً له ـ ولا المجتهد، إذ المقلّد يقول بأنّ كلامه معارض لفتوى مرجعي، والمجتهد يقول بأنّ كلامي وفهمي مخالف له..
ذهبت يوماً إلى المرحوم الوالد، وكنت أكثر الأشخاص بين الإخوة بحثاً معه، وكنت أتجاسر عليه كثيراً، وكان يترك الباب مفتوحاً أمامي لذلك، فقلت له ما هو دليلك على وجوب الفعل الفلاني في هذا الوقت؟ فضحك.. وقال سواء كان واجباً أو حراماً عليك أن تفعله! وانتهى.. فلم يفسح المجال أمام الكلام والأخذ والرد، بل قال قم بهذا الفعل! فهنا لا مجال للاستدلال، وكنت أقوم بهذا الفعل وأنا على يقين بأنّ هذا الفعل الذي أقوم به صار الآن أوجب من جميع الأفعال، والحال أنّي كنت إلى الآن أعتقد بحرمته، والآن كذلك، إذ الأحكام قد تتغيّر بتغيّر الظروف والحالات، فعندما يتغيّر موضوع المسألة يتغيّر حكمها بطبيعة الحال، وأهل العلم يعرفون ذلك.. لكن ماذا قال؟ فبمجرّد أن قلت له بالنسبة إلى تلك القضيّة... ولم أكمل كلامي، حتى قال سواء كانت واجبة أو محرّمة اذهب وافعلها. عند ذلك لم يحصل لي شكّ في ضرورة القيام بها.. فعندما قال لي افعل.. والحال أنّي أعرف ـ فقد درست شيئاً من العلوم ـ بأنّ هذا الفعل حتماً حرام، وعندما أردت البحث في هذا الموضوع معه كنت على يقين بحرمته، لا من باب الظنّ والاحتمال وعلى أساس شواهد عاديّة.. والآن أنا على يقين بحرمته.. لكن عندما قال لي في ظرف معيّن اذهب وافعل هذا الأمر، لم أشكّ في أنّ حكم الله الواقعيّ الآن هو القيام بهذا الفعل.. مهما كان قد توصّل إليه علمي، فالآن قد وصلت إلى مرحلة أعلى من العلم ومن سائر الأمور، فأنا وصلت إلى هذا الحد، لكن هو وصل إلى ما فوق العلم، فهو لديه علم أكثر مني.. ومن الناحية الظاهرية كان أعلم منّي.. هذا معنى الأعلمية. فالإمام الصادق عليه السلام عندما يقول بأنّ قولك بأن الدخول في التنّور حرام، والحال أني أعلم بأمور لا تعلمها أنت، فهو أعلم وواجب الاتباع من الناحية الظاهرية أيضاً. وعندما كنت أقوم بهذا الفعل كنت أعتقد بأنّ حكم الله في حقّي ـ مع صرف النظر عمّا هو موجود في ذهني ـ هو الوجوب. وعلى هذا الأساس قس بقيّة المسائل الأخرى والمطالب التي يمكن أن تطرح في هذا المجال.
كنت أريد الليلة أن أنهي هذا البحث، لكن الظاهر أن تقدير الله تغلّب على تدبير العبد.. وأحياناً يتغلّب... [ضحك] وفي الحديث القدسي: «تقديري يضحك من تدبيرك». فنحن ندبّر أمراً لكن الله تعالى يقدّر شيئاً آخر، فلعلّ مراد الله أن تعرض هذه المطالب بهذا الشكل، طبعاً لم أكن أريد أن أتحدّث في هذه الأمور، بل كنت أريد أن أنهي البحث، لكن جرى الكلام عن مسائل بحيث قلنا كل ما ذكرناه، قد يكون خيراً...

    

العلّة في اختلاف عبارات الوليّ بين حين وآخر وزيادة تفسير الأمر بشرب الدم

لكن يبقى السؤال: لماذا نرى أحياناً اختلافاً في بعض عباراتهم؟ فحيناً يطرحون أمراً وأحياناً يقولون أمراً آخر، طبعاً ما ذكرناه حتى الآن أوضح الموضوع بشكل كبير، وحاصله أنّ الشرع هو عبارة عمّا أراد الله أن يعمل العبد، وهذه الإرادة تارة تكون بدون ارتباط بالولي، بل بالالتفات إلى الظواهر مثل التقليد المتعارف عليه اليوم بين الناس، والحال أنّ المجتهد قد يشتبه، وقد يكون رأيه صحيحاً، وتارة أخرى تكون إرادة الله قد تعلّقت بغير الظواهر وهذه التكاليف الظاهرية، وقدّرت تلك الإرادةُ شيئاً آخر بحيث تفرض نفسها على الإنسان فتلك الإرادة هي مغايرة لما عليه هذه؛ مثل ما نراه من فعل الأنبياء والأئمّة عليهم السلام وأولياء الله. فصار جليّاً للإخوة معنى كلام المرحوم العلاّمة للسيّد الحدّاد بأنّه إذا أمرتني أن أشرب كوباً نجساً أو دماً أشربه.. وصار معلوماً ما هو دليله، فالدليل عليه هو أنّه كان مجتهداً، بل كان أعلم علماء النجف وإيران ـ وقد ذكرت لكم بأنه كان أعلم من جميع العلماء ـ [فلسان حاله كان يقول:] أنا مجتهدٌ وأنا الأعلم، وإن لم أكن الأعلم فعلى الأقل أنّي أفهم بعض المسائل، فقد درست مدّة سبع سنوات في قم.. سبع سنوات كنت أدرس عند العلاّمة الطباطبائي دروساً خاصّة غير الدروس الأخرى، وسبع سنوات في النجف، فهذه أربع عشرة سنة، كما أنّ أكثر فضلاء النجف كانوا يقولون بأنه لو بقي فلان في النَّجف لكانت مرجعيَّة الشيعة منحصرة فيه وحده.. ورغم كلّ ذلك قال عندها: لو كان هذا الكوب نجساً وأمرتني به لشربته.. فهل يمكن أن نقول بأنّ هذا الرجل لا دين له؟ ولا علم له بالأحكام؟ ألا يعلم شيئاً من أحكام الطهارة والنجاسة؟ ألا يخاف من الله؟ ألا يقبل بوجود الجنّة والنار؟ ألا يعلم بالسنّة والكتاب؟ بلى، يعلم جميع ذلك وهوأفضل منّا جميعاً، وقد أثبت ذلك فعلاً. فلماذا قال ذلك؟ لأنّ كلام وليّ الله هو ما أراد الله.. وعندما تكون الإرادة هكذا فيجب امتثالها. ألم نثبت أنّ إرادة الله فيها استثناء؟ فإن كنت مريضاً وكتب لك الطبيب دواء فيه كحول أليس عليك أن تشربه؟ بل يجب عليك شربه، وإذا لم تشرب سيعاقبُكَ الله على تركك إيّاه، فالآن تعلّقت إرادة الله بهذا الأمر. وفي الحالة الطبيعيّة لا يجوز شرب هذا الدواء لأنّه نجس، فإذا فرضنا أنّك عطشت وكنت مريضاً بمرض العطاش وكان الماء الذي معك نجساً، وجب عليك أن تشرب منه، لماذا؟ لأنّك لو لم تشرب لتأذّت عيناك بسبب العطش، وقد يتأذّى قلبك.. انظروا المسألة سهلة وبسيطة، فالآن بسبب وجود مصلحة يصير شرب الماء النجس واجباً، لدفع الضرر المتوجّه نحو البدن أو نحو العين أو القلب.. فالكثير من الأمراض القلبيّة تكون بسبب عدم سيلان الدم، وقلة وجود الماء في الجسم تسبّب تكثّف الدم، وهو قد يوجب السكتة القلبيّة.. ألا يجب الإفطار بسبب ذلك ولو في نصف النهار، فإنْ علِمَ الإنسان أنّ الصوم مضرٌ له، وجب أن يشرب الماء ، وكذا لو أمر وليّ الله بأن يفطرَ أثناء الصوم وجب عليه ذلك، مثلما إذا قال له الإمام ذلك، فأيّهما أسهل الأمر بالدخول إلى التنّور أو الأمر بالإفطار؟ إذا صحّ ذلك فهذا يصحّ من الإمام أيضاً ويجب عليه الإفطار، لذا نرى أنّ الإمام كان يفطر لأجل ذلك، فالمنصور الدوانيقيّ عندما أعلنَ العيد يوم الثلاثين من شهر رمضان، ودعا إليه الإمام الصادق فيمن دعاه، قدّم إليه حلوى العيد ليأكل منها، فقام الإمام الصادق عليه السلام بتناول الطعام يوم الثلاثين من شهر رمضان، فتعجّب الحاضرون، وقالوا: يا ابن رسول الله ألم تقل بأنّك صائم اليوم، قال نعم وأنا أعلم بأنّ اليوم هو الثلاثون من الشهر، ثم قال: «لإن أفطر يوماً وأصوم يوماً خير من أن يستحلّ دمي»[4] . فهذا من موارد التقيّة، لكن لو كنّا نحن لقلنا: كلاّ بل نصوم اليوم ولا نفطر أبداً، وافعل ما يحلو لك.. كلاّ الأمر ليس كذلك بل الله قال بأنّه في مورد التقيّة على الإنسان أن يعمل ما يطابق الإرادة، فذاك الذي أوجب علينا صوم يوم الثلاثين من شهر رمضان هو بعينه قال لنا عليك أن تحافظ على نفسك، وأجرِ أحكام التقيّة في هذا المورد، فنحن لمن نصوم؟ نحن نصوم لأجل الله. حسناً فالله هو الذي قال لنا أفطروا اليوم! فهل علينا أن نكون ملكيّين أكثر من الملك؟ فإن كان المفترض أن نصوم لأجل الله، فالله يقول لا تصم! فعند ذلك عليك أن تفرح لأنّه سقط عنك يوم... [ضحك] فأنا الذي أوجبت عليك الصوم تأتي الآن وتزايد عليّ فيه.. فأنا الله أقول لك عليك أن تفطر! فالمنصور الدوانيقيّ سيقتله إن لم يفطر! وسيتّهمه وسيقول: هل تقوم بتأليب الناس عليّ وتريد أن تقلب الحكم؟ أنت تقوم بإفساد المجتمع، فأنا المنصور الدوانيقيّ أعلنت اليوم عيداً، وأنت تصوم، إذاً أنت مخلٌ بالأمن ومعاندٌ ومحارب و... عليه فيجب أن نضربَ عنقك.. هكذا بلا سبب وجيه. لكن الإمام يعلّمنا ويقوم بنفسه بهذا الفعل، ولا يأتي في هذه الحالة ويواجه المنصور بكلامه.. فعندما يكون الطرف المقابل ظالماً، والإمام ليس مأموراً باستخدام ولايته في هذه الحالة.. والحال أنّ ابن الإمام، موسى بن جعفر، وحفيده الإمام الرضا عليهم السلام قد أخرجا من صورة الأسد التي على الستار أسداً واقعياً والتَهَمَ ذاك المشعوذ ولم يبق منه شيئاً.. لماذا لم يُعمل الإمام ولايته هنا؟ لأنّه لا يصحّ أن يُعمل الإمام ولايته في كلّ مكان.. فالإمام نفسه الذي يعلم متى يُعمل ولايته وقدرته وأين لا يُعملها، هناك يقول بأنّه في هذا المورد ينبغي أن نُعمل التقية ونفطر وعلى الإنسان أن يعمل طبقاً لتكليفه الواقعي.
بقي لدينا موضوعات أخرى.. إن شاء الله إذا كان تقدير الله على إتمام هذه المسألة.. نقول إن شاء الله من الآن؛ لأنّ المسألة قد طالت بعض الشيء، والحال أنّ الإخوة كانوا يتوقّعون أن تنتهيَ بشكل أسرع من هذا الوقت، وأن يطرحوا الأسئلة والإشكالات التي قد تتصوّر في هذا المجال، وسوف نلاحظ هذه الإشكالات أثناء كلامنا، ونجيب عليها بحدّ الإمكان. وكما ذكرت للإخوة إن كان لديهم إشكال أو سؤال فعليهم أن يبيّنوه كي نجيب عنه في الجلسة اللاحقة.
إن شاء الله نحاول بحول الله وقوّته أن ننهيَ البحث في الجلسة الآتية، ونستأنف الكلام في شرح حديث عنوان البصري.

اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد.


[1] ـ جزء من الآية 33 من سورة الإسراء

[2] ـ جزء من الآية 45 من سورة الأنعام

[3] ـ الآية 79 من سورة الإسراء

[4] ـ راجع: معرفة الإمام، ج 16، ص 238.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی <-- -->