معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
المقالات و المحاضرات > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 201 إلى الأخير > شرح حديث عنوان البصري - الجلسة رقم 204: استغلال الوقت وأثره في السلوك

_______________________________________________________________

هو العليم

استغلال الوقت وأثره في السلوك

شرح حديث عنوان البصري
المحاضرة رقم 204

ألقيت في الليلة الثالثة والعشرين من شهر محرّم الحرام لعام 1434هـ

سماحة آية اللـه

السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
حفظه اللـه

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد للـه ربّ العالمين
وصلّى اللـه على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين

    

مدخل إلى البحث

كان الكلام حول كيفيّة التغذية بناءً للدستور الذي أعطاه الإمام الصادق عليه السلام، وقد طوينا ـ إلى حدٍّ ما ـ مقداراً من البحث، ثمّ توقّفنا وقفةً قصيرةً مع مجيء أيام محرّم[1]، وكان الحديث حول أنّه ينبغي على الإنسان ـ طبقاً لدستور الإمام عليه السلام ـ أن يكون لديه برنامج غذائيّ، لا أن يتناول أيّ شيء، بل ينبغي أن ينظّم برنامجه الغذائي بناءً لما فيه مصلحته وبما يحقّق وصوله إلى الأهداف. وممّا تجدر الإشارة إليه هو أنّنا ـ وكما بيّنا سابقاً ـ جعلنا البرنامج الغذائي ضمن نطاق أوسع من نفس التغذية، وهو: كيفيّة تنظيم البرنامج اليومي للإنسان، فبحثنا ينصب في هذا الاتجاه، يعني: كيفيّة تعاطي الإنسان وعلاقاته مع محيطه، ومع مسائله الشخصيّة، والتغذية قسم من أقسامها، كما أنّ من أقسامها الراحة، ومنها العلاقة مع الأفراد، فقد جعلنا هذه الأقسام ضمن هذا البحث.

    

تنظيم الوقت والعلاقة بالآخرين

ولكن بالنسبة للعلاقة مع الأفراد، فسيكون له كلام مخصّص في غير هذا المقام، حيث سيأتي في آخر هذه الرواية الشريفة كلامٌ للإمام عليه السلام يقول فيه لعنوان: «قُمْ عَنِّي يَا أبَا عَبْدِ اللـه! فَقَدْ نَصَحْتُ لَكَ، وَلَا تُفْسِدْ عَلَيّ وِرْدِي؛ فَإنِّي امْرُءٌ ضَنِينٌ بِنَفْسِي»، هناك سنتحدّث عن كيفيّة ارتباط الإنسان بالأفراد المختلفين، وعن الحدّ الذي يكون فيه الأمر مقبولاً ومطلوباً، وعن الحدّ الذي يصبح فيه الارتباط مرفوضاً وغير مناسب، وعن المقدار المناسب من معاشرة الأفراد، وعن نوعيّة الأفراد الذين ينبغي أن يعاشرهم، وعن كيفيّة هذه العلاقة، وعن الوقت الذي ينبغي أن يخصّصه لنفسه ولمسائله الشخصيّة... فإن شاء اللـه سيأتي الحديث عن هذه المسائل هناك.
كان الأعاظم يُخصّصون أوقاتاً خاصّة لهم، فلم يكن [برنامجهم اعتباطياً]، فعلى سبيل المثال نجد أنّ الأفراد غالباً ما يمضون أوقاتهم بالنحو التالي: نذهب صباحاً إلى أشغالنا وأعمالنا، وعند الظهر نتناول الغَداء ونستريح قليلاً، ثمّ نعود مرّة أخرى إلى أعمالنا وأشغالنا، ونبقى هكذا إلى الليل حتّى الساعة الثامنة أو التاسعة، فنعود إلى المنزل منهكين ومرهقين، ثمّ نتناول طعام العشاء، ثمّ نتحدّث قليلاً أو ما شابه ذلك، ثمّ نرقد وننام. هذا البرنامج هو البرنامج الذي يطبّقه أغلب الناس تقريباً، ولندع الآن البعض الذين قلبوا ليلهم نهاراً ونهارهم ليلاً، فينامون في النهار، ويستيقظون طوال الليل إلى الصباح، ويقضونه بالابتذال ومشاهدة بعض المسائل السخيفة والتافهة، والتي تؤدّي إلى إتلاف العمر.
أمّا الآخرون فقد ذكرنا كيف يقضون أوقاتهم، مع أنّه لا يفترض أن يكون الأمر كذلك، بل ينبغي أن يخصّص الإنسان وقتاً لنفسه، وقتاً لمسائله الشخصيّة.
لقد أمر أمير المؤمنين عليه السلام مالك الأشتر بأن يخصّص أفضل أوقات يومه وليله لنفسه[2]، يعني: على العكس تماماً ممّا قد ترسّخ في أذهان البعض من أنّه ينبغي على الإنسان أن يسعى جهده من أجل الناس حتّى آخر رمق من حياته، فهذه الفكرة خاطئة!

    

خدمة الناس ينبغي أن تكون في حدود معينة

إنّ السعي من أجل الناس والسعي في حوائج المؤمنين له مكانه المحفوظ، ولكن لا ينبغي على الإنسان أن يُضيِّع على نفسه الفرص المخصّصة له بسبب خدمة الناس! بل تبقى مسألة الخدمة في مكانها الخاصّ، وعليه أن ينظر إلى نفسه كفرد من بين أولئك الأفراد، وعبد من بين عباد اللـه، وعليه أن يحدّد تكليفه الخاصّ به في هذه الظروف.
إن كان الإنسان من النوع المتكبّر الذي يرى نفسه قطباً بين الناس، ويطلب أن يكون له موقعاً ومقاماً بينهم، ويريد أن يُسخِّر الجميع لأجل خدمته، ويريد أن يجلس مرتاحاً ويجعل الآخرين يقومون بمهامه، فهذا خطأ ومرفوض! وفي الجانب الآخر لا ينبغي أن يسعى الإنسان في حوائج الناس، فينظر في حاجة فلان، ويجلس مع فلان وفلان إلى ذلك الحدّ الذي يجعله يسقط أرضاً من الإرهاق، فهذا خطأ أيضاً، لأنّه بالنتيجة سيسقط ويعجز!!
إنّ الإنسان ليس مصنوعاً من الصُلب، بل حتّى الصُلب له طاقة تحمّل محدودة، له قدرة وقوّة لا يتجاوزها، وقد جعل اللـه عزّ وجلّ لكلّ إنسانٍ سعةً خاصّةً به، وعليه أن يعمل بتكليفه ووظيفته طبقاً لتلك السعة التي منحه اللـه إياها، يعني: كما أنّه يُسأل يوم القيامة: هل قمت بالسعي في حوائج الناس أم لا؟ كذلك سيُسأل يوم القيامة: كم من الوقت الذي خصّصته لنفسك؟ فلو أجاب الإنسان: لقد جعلت كلّ وقتي للناس، سيقول اللـه له: لقد أخطأت بفعلك هذا! هذا خطأ! ألم تكن إنساناً أيضاً؟! ألم تكن فرداً من الأفراد؟! وهل خلقتك في الدنيا لكي تقضي وقتك بكامله في خدمة الناس؟!

    

ضرورة تخصيص الإنسان وقتاً للانتباه لنفسه

نعم، يبقى لخدمة الناس مكانها المحفوظ؛ ساعتين، ثلاث ساعات، طبقاً لموقعيّة كلّ شخص من الأشخاص ووضعيّته، لكن ماذا عن الوقت المتبقّي؟ ماذا عن سائر الوقت؟
طوال المدّة التي كان يعيش فيها الحقير مع المرحوم الوالد رضوان اللـه عليه والتي كنتُ أشاهد فيها تفاصيل تصرّفاته وأفعاله، كنتُ أرى هذه المسألة بشكلٍ واضح، فقد كنت أراه يُخصّص وقتاً خاصّاً به خلال اليوم والليلة، بل حتّى نحن لم يكن باستطاعتنا أن ندخل عليه الغرفة في ذلك الوقت، حيث كان يدخل إلى غرفته ويُقفل الباب حتّى لا يدخل عليه أحد، فكنّا نأتي في بعض الأحيان لنلاقيه ونراجعه في بعض الأعمال، فكنّا نطرق الباب، ونحرّك مسكة الباب، فإذا كان الباب مقفلاً كُنّا نعود أدراجنا، حيث كان يقول لنا: «إذا وجدتم الباب مقفلاً فلا تطرقوا الباب بعد ذلك وارجعوا!».
ففي نهاية المطاف عندما يكون لدى الإنسان أعمال خاصّة فليس بإمكانه أن يذهب إلى الشارع، لا يستطيع أن يصعد إلى السماء، بل ينبغي عليه أن يقوم بها في منزله، فأين يذهب؟! يذهب إلى منزله.. إلى غرفته.. إلى مكانٍ يستطيع أن يختلي فيه بنفسه، وكان هذا دأبه رضوان اللـه عليه كلّ يوم.
في يوم من الأيام قلت لأحد الأصدقاء بعد أن لاحظت بأنّه متعبٌ ومرهق، قلت له: كيف تُمضي يومك خلال الأسبوع؟ فقال: أذهب إلى عملي إلى العيادة (كان طبيباً.. وما زال)، وأقوم بذلك بشكل يومي وبانتظام، وأعطّل يوم الجمعة فقط، فقلت له: لمَ لا تعطّل يوماً خلال أيام الأسبوع؟! فقال: أنا أعطّل يوم الجمعة، فقلت له: اجعل يوم الاثنين عطلةً كذلك، اكتب: العيادة تعطّل يوم الاثنين، واهتم بنفسك، بوضعك، بحالك وأحوالك، اذهب من السبت، فعمرك وقوّتك يقتضيان منك أن لا تجعل عملك بنحو متصل خلال الأسبوع، بل اجعل يوم الاثنين عطلةً أيضاً، وعندها ستجد كم ستختلف حالك اختلافاً كبيراً.
وقد نفّذ تلك النصيحة بالفعل، وقال لي: سيدنا لقد فعلتها جعلت السبت والأحد للعمل، ويوم الاثنين عطلةً، ثمّ أعاود العمل الثلاثاء إلى الخميس ثمّ أعطّل الجمعة، وقد تغيّر وضعي مئةً بالمئة، حتى تفكيري وذهني تغيّرا.
هل رأيتم؟ ليس هناك من داعٍ أو سببٍ يجعل الإنسان يستمرّ بالعمل بنحوٍ متّصلٍ إلى ليلة الجمعة، فقدرة الإنسان محدودةٌ، وكلّ شخص له ظرفه الخاصّ به، وهذا الظرف له مقتضيات تختصّ به، فالشاب الذي له خمسٌ وعشرون سنة من العمر يمتلك قدرةً وطاقةً أعلى من ذلك الرجل الذي في الخامسة والستّين من عمره، فالأخير ليس له القدرة الذهنيّة والنفسيّة وليس له نفس الطاقة على التعاطي الذي كان في شبابه. لذا ينبغي عليه أن يُراعي وضعه وأن يمنح نفسه الراحة.
كان هناك العديد من الأفراد في زمن العلاّمة الذين كان يجبرهم على الذهاب إلى العمل والاشتغال، يعني: كان هذا الفرد في حالة ووضعيّة تميل فيه نفسه إلى الراحة، [السيّد ممازحاً:] وهذا الأمر واضح فالجلوس في المنزل أكثر راحة من الذهاب والمجيء والحركة، ولقد جرّب الحقير هذا النوع من الراحة نوعاً ما، ولا أدري هل جرّب الأصدقاء هذا الأمر ليروا أنّ الجلوس في المنزل أكثر راحة من غيره، بل إنّ النوم أريح من الجلوس، والإنسان يتمنّى أن يرتاح وينام.. وتنحلّ مسائله وأموره لوحدها، ويحب أن تسير أموره بشكل عادي، ويرغب في أن يعطى بعض المقامات.. لكن هذا الأمر لم يتم تقديره في عالم التقدير بهذا النحو!
في النتيجة ينبغي على الإنسان أن يعلم بأنّ الوصول إلى مراتب التجرّد، هو عبارة عن حركة، وتتضمّن هذه الحركة مجموعة من الأمور المختلفة، التي لا يمكن أن تحصل للفرد في حالة الثبات أبداً.

    

ضرورة العمل والخوض في مشكلات الدنيا لطيّ طريق التكامل

لقد ذكرت سابقاً بمحضر الإخوة والأصدقاء، أنّنا كنّا نسير في يوم من الأيام ونحن خارجين من المسجد (حيث كنّا نعود سابقاً مع المرحوم الوالد في الليل من المسجد إلى المنزل)، وفي الطريق جاء أحد الأصدقاء وقال للعلاّمة: «سيّدنا منذ مدّة وأنا أشعر بحالة من الكسل والتعب، ولا أستطيع أن أقوم بأعمالي؛ حيث تفوتني صلاتي الليل، ولا أستطيع أن أقوم بأذكاري».
المشاغل الدنيويّة تشغل الذهن أحياناً، مثلاً: هناك دين لا أستطيع سداده، فيشغل ذلك فكري، مثلاً: لا أستطيع سداد الكمبيالة، وهذه المسائل كلّها تشغل ذهن الإنسان.
فقال له المرحوم العلاّمة قدّس سرّه: «وهل كان الأفراد الذين وصلوا إلى هذه المراتب يجلسون على أجنحة الملائكة والحور العين ويطيرون بهم؟! لقد كان وضعهم مثل وضعكم، وكانوا في نفس هذه الدنيا، مثلكم تماماً، بل كانت أوضاعهم أردى من أوضاعكم، لم يكونوا بجانب نهر الماء، ولم يكن لهم ضيافة خاصّة، ولا فُرش ووسائد للاتكاء عليها وأمثال ذلك! لم يكونوا يذكرون ذكر «لا إله إلا اللـه» في حالة راحة، ولم تكن تلاوتهم لذكر اليونسيّة مع كامل الراحة والانبساط (مثلما يقول البعض الآن)!! بل هذا لا فائدة فيه، هذا الذكر لا فائدة فيه (هذه التوضيحات من الحقير!)، هذا النحو من الذكر لا فائدة فيه، وهذا الذكر ليس بذكر عندما لا نذكره إلا عندما تجد النفس نفسها في حالة راحة ومسرّة».

    

هل الطريق إلى اللـه مصاحب للمشقّة دائماً

لقد أرسل أحد الأفراد رسالة وسأل فيها: سيّدنا كيف يمكن لنا أن نتقبّل بأنّ المسير نحو اللـه لا بدّ أن يكون مصاحباً للمشقّة؟! ولماذا لا يكون الطريق إلى اللـه سهلاً؟! لماذا لا يكون طريق اللـه مصاحباً للمسرّة والسرور؟! فمن قال أنّه ينبغي أن يكون طريق اللـه مصاحباً للشدّة والمرض والمصائب والديون والمتاعب والضغوط؟! وما الدليل على ذلك؟
والجواب على هذا السؤال هو: من قال بأنّه ينبغي أن يكون طريق اللـه مصاحباً لهذه المسائل المذكورة من ضغوط وضيق وما إلى هنالك من المسائل المزعجة؟! ما من أحد قال ذلك! بل لو كان هذا الطريق مصاحباً لهذه المسائل دائماً، فإنّه قد يحصل للإنسان بعدٌ وابتعاد عن السير والسلوك! فلو كان طريق اللـه مصاحباً للضيق والعسر، لأصيبت النفس بالاكتئاب، ولتملّكها الكسل والملل، ولو كان طريق اللـه مصاحباً دائماً للدَيْن والاستدانة والمرض، لاعتادت النفس على ذلك، كما أنّ ذلك الظهور الذي يحصل في حالة الانبساط، لن يحصل له بالطبع، ولو كان طريق اللـه محفوفاً دائماً بالمشقّات، فبالطبع ما كانت تلك الحالات لتحصل له.
إنّ طريق اللـه ينبغي أن يكون مطابقاً لنفس هذا البرنامج الذي وضعه اللـه للإنسان، لا أكثر ولا أقل.
هل أُعطي أحدٌ ما دستوراً بتلك المصاعب؟!
هل رأيتم حتّى الآن أيّ إنسان لم يأكل وجبة الغداء لأنّ عليه دين لم يسدده؟! كأن لا أتغدى ولا أتعشى لأنّه عليَّ دين! ما ربط هذا بذاك؟! هل رأيتم حتّى الآن أحداً لم يشرب الماء أو لم يتنفّس الأوكسجين لأنّ عليه ضغط من الضغوط؟! طبعاً إذا لم يتنفّس فسيموت.. إذا لم يتنفّس لمدّة دقيقة واحدة فسوف يموت، سيختنق ويموت، ما علاقة هذين الأمرين ببعضهما؟!

    

الحاجة هي التي تدفع الإنسان إلى الطلب

عندما يُحسّ الإنسان أنّه بحاجته لشيء يَجِدُّ في طلبه ويسعى إليه، فعندما يشعر أنّ خلايا جسمه تحتاج إلى الغِذاء والطعام، عندها يرسل الدماغ إلى المعدة علامات الجوع لاستجلاب الطعام، وعندها تستثار معدته. أمّا إذا كانت الخلايا شبِعة، وكان مقدار الطعام الواصل إليها كافياً، عندها لن يُرسل الدماغ أيّ إشارة إلى المعدة، وهذا أمر طبيعي. عندما يقلّ ذلك المائع الذي يحيط بالخليّة، والذي يعمل على إيصال الغداء والأوكسجين عندها تحسّ تلك الخلايا بالحاجة للسوائل، فتحصل لنا حالة من العطش. إذن هي الحاجة، هي الحاجة التي تبعثنا وتسوقنا نحو هذا الاتجاه، عندما تحتاج الخلايا (وخاصّة خلايا الدماغ) إلى الأوكسجين لتستخدمه في عمليّة الإحراق، عندها سنقوم بالشهيق والتنفّس، أمّا لو كانت الخلايا لا تحتاج إلى الأوكسجين، فما كنّا لنتنفّس في أيّ وقت من الأوقات؛ لأنّنا لا نحتاج إليه، أليس كذلك؟
وقد حصل مثيل ذلك للبعض ممّن يجعل نفسه في هكذا وضع، لكنّ هذا الأمر له بحث آخر، أليس كذلك؟
دائماً، الحاجة هي التي تبعث الإنسان على طلب الشيء الذي يحتاج إليه، وتجعله يسعى نحو الشيء الذي يحتاج إليه!
في طريق اللـه، ما هو الأمر والحاجة التي تبعث وتجعل الإنسان يسير في هذا الطريق؟ ما هي الحاجة التي تُجبره على المراقبة؟ ما هي الحاجة التي تحثّه وتجبره على أن يخطو خطوةً في مكانٍ معيّنٍ وأن يتوقّف في موطنٍ آخر؟ ما هي هذه الحاجة؟
هي الحاجة للوصول إلى الكمال.. الخوف من الخروج عن الطريق، والخوف من عدم الوصول إلى المطلوب وإغلاق الملف! هذه القضيّة هي التي تبعث على أن يرتجف الإنسان، وأن يبقى في حالة من التوجّس خيفة، وكلّما وصل الإنسان إلى هذه الحالة أكثر، كلّما زادت حالة المراقبة فيه، وكلّما قلّت عنده، قلّت مراقبته.
فالفرد الذي يقضي وقته في المسائل غير المهمّة.. من الواضح أنّه لم يشعر بتلك الحاجة بشكلٍ كبير، نعم لديه نوع من الادّعاء والتمنّي، وهذه حالة عابرة، أمّا ذلك الشخص الذي شعر بتلك الحاجة واقعاً [فتصرّفاته تدلّ على ذلك]، نعم حصل ذلك للبعض.

    

أثر افتراض الموت والحياة مجدداً في عمل الإنسان

هناك خطبةٌ لأمير المؤمنين عن أحد أصحابه، وكان قد غاب مدّةً من الزمن، وبطبيعة الحال لم يكن الهاتف موجوداً في ذلك الزمن، فظنّوا أنّ الرجل قد مات، ثمّ بعد فترة من الزمن جاء وتبيّن أنّه لم يكن ميّتاً، وأخذ يتعجّب من الناس كيف اعتقدوا بوفاته، فكتب له الإمام رسالةً وقال له في تلك الرسالة[3] أنّه كان قد أتانا خبر عن موتك فأحزننا ذلك، ثمّ جاء خبرٌ آخر عن حياتك فسُررنا لذلك، وعليك أن تعلم أنّ هذا الأمر له واقعيّة تجلّت لك بهذا النحو، فليس هناك من اختلاف بينك وبين من مات حقيقةً؛ لأنّ نفس هذا الموت سيحصل لك، غاية الأمر أنّك الآن حصلت على الآثار من دون أن يحصل نفس الموت لك.
فالأفراد عندما يموتون، ما الذي يحصل عند الناس حينما يسمعون بموت أحدهم، يقولون بتحسّر: «لقد مات فلان.. رحمه اللـه.. عجباً بالأمس كنّا معه.. لقد رأيته الأسبوع الماضي.. » وهذه الحالة تحصل حتّى لو لم يرَ جنازة صاحبه، حيث قد تحصل هذه الحالة له بوصول خبرٍ واحد، فهذا الإحساس مهمٌ.
لا شأن لنا بالواقع هل مات الرجل أم لا، بل قد يحيا الرجل بعد الموت، فقد يكون فَقَدَ وعيه ودخل في «كوما» ويعود بعد مدّة إلى الحياة، وقد شوهدت مثل هذه الحالة، حيث قد يدخل شخص في «الكوما» لشهرين ثمّ يعود إلى الحياة، وهذا ليس إلا الموت في الواقع، غاية الأمر أنّ إرادة اللـه تعلّقت بأن يعود إلى الحياة من جديد، والمهم هو تلك الحالة التي تحصل للإنسان، هذا هو المهم، فعندما تحصل لنا هذه الحالة بعد أن نسمع بأنّ فلاناً قد مات، نعلم عندها أنّ هذا الأمر قد يحصل لشخصٍ آخر أيضاً عندما يصله خبر موتنا إليه! فإنّ نفس هذه الحالة ستحصل عنده، ومن هنا ينبغي علينا أن نضع أنفسنا الآن مكانه، والإمام عليه السلام يقول لهذا الشخص: ضع نفسك مكان ذلك الشخص الذي مات واقعاً؛ لأنّ حقيقة المسألة واحدة، وما حصل هو أنّ المسألة تأجّلت ليومٍ أو يومين، ولكن سيأتي يومٌ وسيُسمع خبر موتك الواقعي، ونحن قد نكون أو لا نكون، ولكن في نهاية المطاف سيأتي خبر موتك الواقعي يوماً ما.
حسناً، إذا كان الأمر كذلك فعليك أن تفترض نفسك ميّتاً، وكأنّ اللـه أعطاك فرصة أخرى لتعود إلى الدنيا فأحياك مرّةً أخرى، وكتب لك حياةً جديدة، يعني: كشخصٍ ارتحل عن الدنيا، فرأى ما في ذلك العالم، وتيقّن بأنّه حقيقي، ورأى أنّ المؤمنين هناك مع بعضهم البعض، ورأى كذلك أنّ العاصين والمتكبّرين مع بعضهم، ورأى عذاب اللـه؛ لأنّ عالم البرزخ فيه عذابٌ أيضاً! غاية الأمر يختلف نوعه عن العذاب الموجود في القيامة، تجرّد العذاب يوم القيامة أكثر من تجرّده في البرزخ، كما أنّ الرحمة في عالم البرزخ أقلّ تجرّداً منها في عالم القيامة. حسناً هذا الرجل ذهب ورأى المراتب أيضاً، رأى أنّ البعض وضعهم ممتاز جداً ومقامهم عالي جداً، وبعضهم أدنى منهم، وأدنى منهم، وأدنى منهم، رأى كلّ ذلك.
وواقعاً الآن، هل نشكّ نحن في هذا الأمر؟ هل لدينا شكّ في ذلك؟ لا أبداً، فنحن إذا سُئلنا جميعاً عن ذلك، لنقولنَّ بأنّها حقيقةٌ وواقع.
لكن ما هي الطريقة التي تجعلنا نقبل ونتقبّل هذه الحقيقة؟ ماذا يصنع الأعاظم وبأيّ لغة يتحدّثون كي نقبل وكي نفهم؟ كيف يفهّموننا حتّى نقبل مع أنّنا نعلم بها؟!

    

علينا أن نتعامل انطلاقاً من يقيننا وحاجتنا فلا ندع أيامنا باطلاً

والعجيب في هذه الدنيا، كيف أنّه طالما يُغفَل هذا الأمر وطالما يُنسى!! نحن نعلم حقيقة الأمر؛ فأصدقاؤنا قد ارتحلوا، ومات أقاربنا، وتوفّي أمّهاتنا وآباؤنا، وكذلك أعمامنا وأخوالنا وأقاربنا الأبعدون والأقربون، ونحن نعلم أنّنا نقف في الصفّ وسيأتي دورنا يوماً ما، لكنّنا مع ذلك نقضي أيامنا وليالينا بمسائل لا تتناسب أبداً مع ما نعتقده، نقضيها باللعب والمسائل السخيفة، وببعض العلاقات واللقاءات مع بعض الأفراد، وبأسفار وغيرها من المسائل التي لا تتناسب أبداً مع ما وصلنا إليه من حقائق.
الذي يصل إلى حقيقة الأمر وواقعه، والذي يعلم أنّ في بدنه مرضاً عُضالاً يكبر ويتعاظم، فهل يذهب يوم الجمعة إلى الجبل للنزهة؟! ثم يذهب السبت إلى بعض المناطق الجميلة للسياحة؟! ثمّ يضع برنامجاً آخر للترفيه؟.
أمّ أنّه إذا قيل له تعال نذهب إلى الجبل، يقول لهم: عليّ أن أذهب الآن إلى الطبيب، الآن ينبغي أن أذهب!
لماذا؟ لأنّه فهم حقيقة الأمر، فهم أنّ الأمر لا مزاح فيه، لم يعد هذا المرض كوجع الرأس العادي، و«الأسبرين» لا ينفع مع هذا المرض، نعم لقد فهم ذلك الشخص حقيقة الأمر، ذلك الشخص هو من فهم «الحاجة» حقّ الفهم، واستقرّت هذه الحاجة في قلبه.
قال المرحوم العلاّمة رضوان اللـه عليه: «لم أقضِ ساعةً واحدة من عمري بالبطالة أبداً!»، واقعاً عندما يسمع الإنسان هذا الكلام يقشعرّ بدنه! من بإمكانه أن يقول مثل هذا الكلام: «لم أقضِ ساعةً واحدة من عمري بالبطالة أبداً!» واقعاً أليس الأمر كذلك؟
حينما أفكّر في قوله: «لم أقضِ ساعةً واحدة من عمري بالبطالة أبداً!» [أسأل:] نحن كم قضينا من وقتنا بغير البطالة؟ كم قضيناه بعمل صالح وصحيح؟
من يقول هذا الكلام؟ يقوله من شعر واقعاً «بالحاجة»! هذا الشخص فهم معنى «الحاجة»، هذا الشخص هو الذي فهم ما ينقصه وما يحتاج إليه، وهو الذي فهم مقامه وموقعيّته الحقيقيّة، ويعلم من جهة أخرى، بعد أن جعل المقصد والغاية نصب عينه، أنّه إذا وصل إلى مقصده وغايته، فلن يندم ولن يتأسّف ولن يشعر بالخزي أبداً، ولن يبقى عنده أمنية ولا رغبة في شيءٍ آخر. يعلم بكلّ ذلك، يعلم أنّ هناك مقاماً جعل لنا.
هذا هو حال ذلك الشخص، أمّا نحن فما حالنا؟ نحن لا نعلم عن شيء: «الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا!»[4]، يقضون هذه الدنيا هكذا وكأنّ شيئاً لم يكن، اليوم يأتي فلان إلى منزلنا ونصنع له الطعام، ونُتلف وقتنا، ثمّ [نقول في أنفسنا:] إن شاء اللـه سنلتفت إلى وضعنا غداً، وإن شاء اللـه ننظر ماذا كتبوا في تلك الكتب، أو نستمع قليلاً لتلك المحاضرات ونرى ما فيها، أمّا اليوم فلنُرَفِّه قليلاً عن أنفسنا، وغداً يأتي إن شاء اللـه.
ثمّ يأتي الغد، فيتصل بنا شخص آخر:
فلان هل أنت في المنزل؟
نعم، لا عيب في ذلك فلنقضي اليوم قليلاً بالمسرّة والترفيه، وإن شاء اللـه غداً نلتفت إلى وضعنا قليلاً، وإن شاء اللـه...
فيمضي الغد هكذا، وبعد الغد كذلك، وهكذا تمضي الأيام... أين وقتك أنت؟ ماذا حصل؟ اليوم يأتي فلان، وغداً فلانٌ آخر...
هل حصل إذا قيل له: «تعال نذهب إلى المكان الفلاني»، أن يقول: «أعتذر لدي عمل»؟! هل حصل؟.. حينما يقال له: «ما رأيك أن ننضمّ إلى المجلس الفلاني مع فلان وفلان؟» فيقول: «بلى سألتحق بكم سريعاً». ها!!
إنّ الشخص الذي أدرك أنّ اللـه جعل له مقاماً، فقد أخبره بذلك أفرادٌ لا شكّ في صدقهم، أو لأنّه هو بنفسه قرأ وطالع ووصل إلى اليقين بأنّ هذا الأمر لا شكّ فيه، فوصل إلى هذا الأمر من جهة، ومن جهة أخرى يعلم أنّ اللـه أودع فيه هذه القدرة للوصول، يعلم ذلك أيضاً.. يعلم أنّه يستطيع.. يعلم أنّ اللـه أودع فيه هذه القدرة، بل أودع هذه القدرة في الجميع، غاية الأمر أن الناس لا تستخدم من هذه القدرة إلا واحداً في المليون فقط، أو واحداً في المائة ألف، يتصوّر الناس أنّ الأمور يمكن أن تمضي من خلال الصلاة والصوم فقط وينتهي الأمر!
نحن لا نستخدم إلاّ واحداً في المليون من القدرة والاستعداد الذي منحنا اللـه إيّاه، أمّا التسعمائة وتسعة وتسعين ألفاً وتسعمائة وتسعة الباقية فإنّها تضيع وتدفن في موقعها ومكانها دون أن نستفيد منها! وإلاّ فكم تحتاج ركعتي صلاة من الطاقة والقدرة؟ وكم يحتاج من القدرة لكي يصوم الإنسان يومين؟ بل في الواقع الأمر لصالحه، إذ إنّ فقد بعض الوزن من جسمه يجعل صحتّه وحياته أفضل! طبعاً بشرط أن يقلّل الطعام؛ لأنّ البعض يصومون ويزيد وزنهم! فعلى تقدير أنّه صام فعلاً، ينقص وزنه وتتحسّن صحّته، أليس كذلك؟ هذا من الناحية الصحيّة، فماذا يريد أكثر من ذلك؟
لذا ينبغي على الإنسان أن يعمل بما لديه من القِوى والاستعدادات الباطنيّة ويستفيد منها.. تلك القابليّات التي تمكّنه من العبور، وتخرجه من عالم النفس، وهي في أغلبها تتعلّق بالأعمال الباطنيّة للإنسان ، ولا علاقة لها بالخارج أصلاً، بل تتعلّق بالمسائل الباطنيّة والنفسيّة والنفسانيّة.. تتعلّق بالأنانيّات والمراكز والخلافات، والإنسان شديد التعلّق بهذه المسائل إلى درجة أنّه يرضى أن يتنازل عن نفسه، ولكنّه غير حاضر لأن يتخلّى عن هذه التعلّقات!! هذه هي الأمور والعقبات التي ينبغي علينا أن نعبر عنها ونتجاوزها.

    

الحياة الدنيا ذات طبيعة متقلّبة

ومن هنا، من يقول: إنّ طريق اللـه صعب وشاق! نجيبه: لا ليس بشاق! ومن يقول: لا بدّ أن تكون المشقّة مصاحبة للطريق إلى اللـه. نقول له: لا الأمر ليس كذلك، بل طريق اللـه هو الطريق الذي رسمه اللـه للإنسان طوال عمره وحياته، وهذه الحياة فيها المرتَفع والمنخفَض، فيها الراحة وفيها المشقّة، فيها انشغال الفكر وفيها راحة البال، الحياة فيها كلا الأمرين.
في كثير من الأحيان يُخطّط الإنسان لنفسه، مثلاً يقول: سأعمل العمل الفلاني، وعندها أصل إلى الموقعيّة الفلانيّة ويُصبح حالي أفضل، ويبدأ بالانقطاع للـه والتوسل إليه للوصول إلى ذلك، يعني: هكذا يخطّط الإنسان لنفسه، أليس كذلك؟ يبدأ بالتمنّي: لو أنّ الأمر الفلاني يحصل.. لو أنّني انتقل إلى المكان الفلاني.. لو أنّني أذهب إلى المكان الفلاني.. لو أنّني أقوم بالفعاليّة الفلانية.. لو أنّني أتخلّص من المشكلة الفلانيّة.. لكنت ارتحت.
[يبتسم سماحته ويقول:] وعندما يصل إلى مراده، يُبتلى بشيء آخر ممّا كان فيه، هذا هو البرنامج والخطّة رسموها لنا، والتي علينا أن ننفّذها ونمضي على أساسها! غاية الأمر أنّهم لا يخبروننا بما سيحصل لنا بعد أن ننتهي من الخطوة التي بين أيدينا؛ بل يقولون: اشتغل بما بين يديك من أمور بحسب البرنامج الذي رسم لك، وسنبيّن لك المسائل واحدةً تلو الأخرى؛ لأنّنا لو أخبرناك بما سيحصل من الأوّل لأصابتك حالة من اليأس والفتور بحيث تعجز عن أداء حتّى العمل البسيط الذي بين يديك فعلاً، فضلاً عن ما بعده من مسائل! اللهم إلاّ بعض الأفراد الخاصّين الذين لديهم استعداد خاصّ.. أولئك الأعاظم الذين هيّئوا أنفسهم لأن يرون كلّ شيءٍ أمامهم ولمدّة من الزمن، ويرون القضايا التي ستحصل فيما بعد، ولكنّهم حصلوا على حالةٍ من الثبات، وصارت وضعيّتهم ثابتة.. فنفوسهم صارت راسخة في قبال القضايا التي تواجههم، بل إنّك تراهم ينتظرون تلك الوقائع لكي تحدث، أي أنّهم ينتظرون أن ينتهوا من هذا البرنامج ليبدأ البرنامج التالي!!
أمّا نحن فلسنا كذلك، نحن نقول: إذا انتهينا من هذا الوضع؛ سنرتاح قليلاً، ونجلس بهدوء وفراغ بال، ونتفرّغ قليلاً للصلاة.. أجل حينئذٍ يمكننا أن نصلّي صلاة الليل.. فتجدنا ننتظر أن تزول المصاعب والمشاكل التي تواجهنا، وأن تختفي هذه الهواجس التي تشغل بالنا من مرضٍ أو ضيق أو شدّة. فإذا زالت؛ نقول: الحمد للـه.. ها قد ارتحنا أخيراً!! لكنّ ذلك لا يستمرّ أكثر من يومين! وإذا بمسألة أخرى تبدأ من جديد، ويا لها من مسألة تعصى على الحلّ!! فنقول في أنفسنا: يا إلهي، كأنّك لا تريد لنا أن نجلس معك؟! لا تريد أن نتفرّغ قليلاً لنتعبّد لك ونسرّ بك، فأنت توقعنا في المشاكل والمصاعب دائماً.
عندها يقول اللـه: ماذا تريد أنت؟ هل تريد أن تصل إليّ أم تريد أن تـمضي أوقاتك بالفرح والسرور؟!
وهذا الموضوع مهم جداً، فهذا الموضوع هو نفسه الموجود في التغذية، فالمعيار والملاك الموجود هنا هو نفس المعيار والملاك هناك، لاحظوا أنّ هذه المسائل مرتبطة ببعضها البعض، كلّها مرتبطة ببعضها البعض! والإنسان يكون هنا بوضع يقول فيها: لا إله إلاّ اللـه، ولكن لا يعلم أنّه حينما قالها، كان يقولها عطشاً.
هو لا يقول: «لا إله إلا اللـه» إلاّ بشرط أن يكون في حالةٍ من السـرور، وفي حالة يكون لا مشكلة لديه، وفي فراغ البال.
يقول: سبحان اللـه، لأنّه مسرور، ولأنّه لا يعاني من مشكلة، تراه في الصباح يثني على اللـه ويسبّحه، ويبدأ بالأذكار واحداً تلو الآخر.. لأنّه يمتلك مجلساً ولأنّ مجلسه عامرٌ بالأصدقاء، ويقرؤون فيها مجالس العزاء في الليلة الكذائيّة، ويدعون في اليوم الفلاني دعاء الندبة، وفي الليلة الفلانيّة كذا وكذا.. لأنّ حالته خالية من كلّ مشقّة، لذلك يتذكّر اللـه ويذكره، فتراه يقول: الحمد للـه.. لقد وفّقنا اللـه مدّةً من الزمن لأن نفعل كذا وكذا، والحمد للـه فقد تحقّق فينا مصداق لـ {أَلا بِذِكْرِ اللـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب‏}[5]!

    

ظنّ الإنسان نفسه أنه في منأى عن المعصية خطر كبير

في يوم من الأيّام، جاء أحد الأشخاص من أولئك الذين لديهم مجالس العزاء في طهران، وممّن استطاع أن يجمع حوله بعض الأفراد ويُتلف وقتهم بلا طائل، ونصَّب نفسه مسؤولاً عليهم، كان ذلك في أحد الأماكن.. فكان أحدهم يشتري الخبز والآخر يشتري الحُمّص والثالث يشتري شيئاً آخر، ثمّ يصنعون لهم حساء اللحم، ويبدؤون باللطم (طاق وطوق) إلى الساعة الثانية عشر، ثمّ يضعون المائدة، فيأكلون الحساء، ثمّ يذهب كلّ منهم إلى منزله، وهكذا الأسبوع الذي يليه والذي يليه...
ذهب هذا الرجل إلى مشهد، وجاء إلى أحد أصدقائنا صغيري العقل ([متأسّفاً:] والحمد للـه لم يكن هؤلاء قليلين، في الزمان السابق!)، وكان هذا الصديق يريد أن يحضر ذلك الرجل إلى المرحوم العلاّمة رضوان اللـه عليه، أنا ذهبت إليه أوّلاً ورأيته، حيث كان قد أخبرني بذلك أوّلاً، فقلت له: هل تريد أن تذهب بهذا الرجل إلى العلاّمة؟!! وقلت له [يتبسّم سماحته]: إنّ والدنا مريض بضغط الدم، أرجو أن ترحمه، ثمّ من أين استطعت أن تجد شخصاً كهذا؟! لأنّه كان يقول أشياءً وأشياء، نعرض عن ذكرها الآن!
قلت له: أرجو أن لا تذهب به إلى العلاّمة. لكنّه لم يقبل، وأخذه إلى العلاّمة، فلما جلس معه ذلك الرجل قال:
«سيّدنا الحمد للـه.. بحمد للـه.. لقد منّ اللـه علينا.. ولا شكّ أنّ كلّ ذلك بلطفٍ من اللـه.. بفضل اللـه.. لقد وفّقنا اللـه لذلك.. فأصلاً لم يعد يتمشّى أن يصدر منّي ذنب.. وأصلاً لا يصدر منّي أيّ ذنب.. لم يعد بإمكاني أن أعصي اللـه بعد الآن».
عندها قال له العلاّمة قدّس سرّه: «إنّ هذه الحالة التي لديك، وادعاؤك أنّك لا تستطيع أن تقوم بذنب أبداً، هي أكبر ذنب!»، عندها بُهت وصُدم من هذا الجواب.
ما معنى أن يقول: «الحمد للـه أن وفّقني لأن لا أُذنب ذنباً»؟! من تكون أنت لتقول هذا الكلام، ثمّ تذهب عند هذا وذاك لتتبجّـح بأنّك وصلت إلى الحـالة التي لا تـعصي اللـه فيها؟
ما هي المعصية؟ هل تقتصر على التعدّي على سور منزل الغير؟ أم هي الاستكبار في قبال الحقّ؟ أيّهما هي المعصية؟ عندما كُنتَ في اليوم السابق مع ذلك الشيخ صغير العقل، وتحدّث بكلام، فعارضتُك فيه ألم تكن ترغب بأن تقطّعني قطعةً قطعة؟! لأنّ شخصاً عارض قولك؟! أو لأنّ سنّي كـان أربعـة وعشرين عاماً بينما سنّك كان سبعين عاماً اعتبرتني كالصوص أمامك فلا ينبغي أن أعارضك إذا قلت شيئاً؟! ولكن يا عزيزي، ما شأن العمر بذلك، فالرأي رأي، إن كان ما قلته خاطئاً فأجب عليه.
أنت قلت: إنّ الرجل العظيم الفلاني عندما كان يحتضر، كانوا يقولون له: «قُل: يا اللـه»، فكان يقول: يا علي. مبرّراً ذلك: بأنّ مقام عظمة الربوبيّة عال جداً إلى حدّ لا أستطيع معه أن أقول: يا اللـه بل أقول: يا علي.
فقلت له: إنّ ذلك الرجل لم يعرف عليّاً أيضاً! وإلاّ لم يستطع أن يقول «يا علي» أيضاً.
فقال: لا ليس الأمر كذلك.. ثمّ قال لي: أصلاً ما قدر فهمك أنت في هذه المسائل.
قلت: ها! الآن خرجنا عن أصل الموضوع، والآن صار الكلام في المسائل النفسانيّة، فقولك: «من تكون أنت؟ وما مقدار معرفتك؟» لا دخل له في الموضوع، نحن قلنا كلاماً، فأجب عليه وحسب.
أنا أقول: إن كان هذا الرجل قد عرف الولاية، فالولاية هي عين التوحيد، ونفس تلك العظمة التي تقول بها للتوحيد، ينبغي أن تقول بمثلها للولاية، فإذن أنت لم تعرف حتّى «يا علي». فلماذا ـ إذن ـ تطرق هذا الباب وذاك الباب؟
هل فهمتم الآن أنّ هذا الذي يقول: «لقد وفّقني اللـه لأن لا أعصيه» كم هو متصلّب في باطنه؟! وكم هي أنانيّته وفرعونيّته التي تتملّك باطنه ونفسه؟! بحيث أنّه لم يكن يستطيع أن يتحمّل كلاماً من شابٍ عمره أربعة وعشرين عاماً، فهو كان يتوقّع أنّه لا ينبغي لشابٍ بهذا العمر أن يتكلّم أمامه.
لكنّه في اليوم التالي: يأتي إلى المرحوم العلاّمة ويعطيه هذا الجواب بشكلٍ واضح، فيقول له: من تكون لكي تتصوّر بأنّك ممّن لا يتمشّى منك صدور الذنب؟ وهل الذنب يقتصر على التعدّي على سور منازل الآخرين؟! وهل الذنب يقتصر على السرقة وحسب؟! [يعلّق سماحته ساخراً]: ولكن بالطبع السرقة لم تعد ذنباً في هذه الأيام! وهل الذنب يقتصـر على الكذب وحسب؟! (هذا الذنب هو الآخر على ما يبدو لم يعد ذنباً في هذه الأيام! بل الذنب هو أن تقول الحقيقة! [يبتسم سماحته]: تحصل هذه المسائل.. تحصل؛ تصبح السـرقة أمراً مباحاً لا ذنباً، ويصبح الكذب مباحاً لا ذنباً... كل هذه الأشياء تصبح بالعكس! وتصبح الأمانة ذنباً، ويصبح الصدق ذنباً...).
هل الذنوب تقتصر على هذه المسائل وحسب؟! أم أنّ ما في نفسك من حالةٍ هي المعصية؟ إنّه عجوز عمره سبعون عاماً، فأصلاً كيف يمكنه القيام بهذه الذنوب حتى لو أراد! من يكون طاعناً في السنّ ما إن يريد أن يصعد الدرجة الأولى حتّى يقع على رأسه فكيف بتسلّق سور؟!
ما هو ذلك الشعر الذي يعبّر عن ذلك؟ هناك شعر لطيف ... :
در جوانی پاک بودن شيوه پيغمبریاست
                             ور نه هر گبری به پيریمی شود پرهيزگار
[6]
إنّ هذه الحالة التي لديك، من أنّك ترى بأنّك لا تقوم بذنب أبداً، هي أكبر ذنب! فماذا تصنع بهذه الحالة؟ هل تستطيع أن تتخلّص منها؟

    

ضرورة التخلّص من الأمور الاعتباريّة لأنها تعيق السلوك

هذه هي المسائل التي ينبغي على الإنسان أن يستعين بما منحه اللـه من الاستعدادات والقوى ليتعدّاها! وإلاّ فإنّ مسائل الظاهر إذا ما قسناها مع الباطن، ليس لها أهميّة أبداً.
هذه الحالة هي التي تجعل الإنسان في وضع: إن كان في راحـة ومسرّة، فيذكر اللـه ويقيم المجالس ويتواصل مع الناس. فعندما يكون الأفراد والأقارب والمقام والاعتبارات التي حوله كثيرة، تشعر نفسه بالمسرّة الشديدة، فيقول في نفسه: «الحمد للـه.. هل رأيت عدد الأفراد الذين جاؤوا؟!» وتراه يشرع بذكر «لا إله إلا اللـه والحمد للـه»، ولكن حينما يذهب شخصٌ من عنده تجده مضطرباً، وتجد بأنّ الذكر في هذه الليلة يختلف عن الليلة السابقة، وتراه يفكّر في ذهنه: «لماذا تركني فلان؟! هل هناك شيء جعله يغضب منّي؟ هل أذهب إليه لأرى ما المسألة؟ لا يكونن هذا الأوّل، وأنّ هناك آخرين سيتركونني!..» يا عزيزي إن كان ذهب فليذهب، فلماذا تغيّرت «لا إله إلاّ اللـه» في ذكرك؟ ولماذا هذا التشوّش والاضطراب؟ لماذا لم يعد ذكرك اليوم كما كان بالأمس؟ التفتوا فالأمر صار دقيقاً، ويتّجه نحو الدقّة!
لماذا ينبغي أن يتغيّر حال الإنسان؟ فإن ذهب شخصٌ ما فليذهب، ما شأنك أنت بذلك؟ قم بمسؤولياتك، واذكر ذِكرك.. سواء ذهب أو أتى.
ثم بعد ذلك يصله خبرٌ بأنّ فلاناً يعتذر، وإن شاء اللـه سيأتي المرّة القادمة.. فتجده عندها يعود إلى حالته الأولى، ويعود إلى ذِكره مع كامل المسرّة.. فيستأنف ذِكر اللـه من جديد، والذهاب إلى المجالس، والتركيز والتأمّل فيما يقول، والتوجّه في الصلاة، فنفسه سكنت وهدأت، نعم لأنّ الناس عادوا، وذلك الذي ترك المجلس قد عاد..
ولكن ما حقيقة هذه الأمور كلّها؟ ومن الذي يقف وراءها؟ إنّه الشيطان!! وبالتالي فهذا الذكر لم يكن ذِكراً، بل كان هوى النفس الذي جعل مقداراً من الطمأنينة تتجلّى بنحو من الروحانيّة، ولكن حقيقة الأمر أنه ليس هناك روحانيّة بل طمأنينة النفس وحسب.
هذه الحالة التي ينبغي أن نتخلّص منها، يعني: عندما تسمع بأنّ هناك شخصاً ذهب، فلا ينبغي أن يشعر الإنسان بأيّ شعور سلبي، أو يهتزّ لذلك أبداً، بل عليه أن يرى أنّ هذا الأمر هو الأفضل، ويجد أنّ إخلاصه يكبر أكثر، ويقول في نفسه: الحمد للـه، لقد زال قيد من القيود، وتخلّصت من تعلّق من التعلّقات!! شكراً للـه، فقد ارتحنا من نوع من الارتباطات.
طبعاً، حينما يتصرّف الإنسان تصرّفاً سيّئاً ويؤذي أحداً، عليه أن يتابع المسألة وأن يحلّ الأمر. ولكن الكلام ليس هنا، الكلام في أنه حينما لا يصدر منه أيّ خطأ أو اشتباه، ومع ذلك تركه، فعندها على الإنسان أن لا يعير للمسألة بالاً، فهذه العلاقة لا بدّ أن تنقطع شئنا أم أبينا، والسماء لم تنزل على الأرض بذلك، بل قل: الحمد للـه؛ فقد قَلَّت التعلّقات.

    

العارف لا يسرّ باجتماع الناس حوله ولا يحزن بافتراقهم عنه

إنّ الأفراد الذين كانوا يأتون في تلك الأزمنة إلى محضر السيّد الحدّاد كانوا يتخيّلون بأنّ نفس ذلك المجيء يبعث السرور في نفسه، كانوا يتخيّلون ذلك!!
كان العديد من الأفراد ـ ولكن لن أذكر الأسماءـ مثل ذاك الشخص الذي كان لديه مجلس في طهران، عندما كانوا يذهبون للزيارة، كانوا يقضون في منزل السيّد الحدّاد ليلة عرفة وغيرها من الليالي المباركة بالدعاء، وبعد ذلك كنت أراهم (كان سنّي صغيراً آنذاك، كنت في الثانية عشر أو الثالثة عشر من عمري) وأسمعهم يقولون: بلى، كم كانت تلك المجالس مميّزة، وكم كان السيّد الحدّاد في حالة من الانبساط، ذهب الرفقاء، وكان مسروراً من اجتماع هؤلاء الرفقاء، وأمثال ذلك.
قد يكون مسروراً فعلاً من رؤيتهم، فنحن لا نقول أنّه كان يستاء من وجود الرفقاء والأصدقاء، ولكن كان تصوّر هؤلاء هو أنّ هذا الأمر هو الذي أوجد حالة الانبساط عند هذا الرجل العظيم، وهذا التصوّر تصوّر خاطئ، بل كانت الإفاضة تأتي من ناحية ذلك الرجل العظيم، فتوجد عندهم تلك الحالة من الانبساط، فالمسألة كانت بالعكس تماماً.
لقد أشرت في التعليقات التي كتبتُها على الكتاب الشـريف «مطلع أنوار» للعلاّمة رضوان اللـه عليه.. أشرت هناك إلى بعض المسائل، لا أذكر في أيّ مجلّد منها، على الرفقاء أن يراجعوها ليروا النكات الدقيقة التي كانت في آفاق هؤلاء.
هؤلاء كانوا يظنّون أنّ ذهابهم هو الذي سبّب له هذا الانبساط!! ولكن عندما تغيّرت الظروف، وصار الأفراد يتركونه بسبب الشيطنة وبسبب النفوس الأمارة، وبسبب التوهّمات والتخيّلات والشيطنات التي كانت موجودة آنذاك، عندها رأينا أنّ حالته قدّس سره لم تتغيّر قيد أنملة أبداً، وكأنّ شيئاً لم يكن، وكأنّه لم يحصل أيّ تبدّل أو تحوّل، وكأنّ أحداً لم يتركه، بل شعر ذلك الرجل الكبير بالراحة، كان منزله مفتوحاً، وكان الجميع يأتون إليه ليكتسبوا الفيوضات عنده.. والآن أنتم لا تريدون المجيء، إذن الحمد للـه الذي هيّأ لكم مكاناً آخر.
قد يكون اللـه هو من هيّأه، وقد يكون غير اللـه هو من هيّأه، نحن لن ندخل في هذا الموضوع، ولن نُدخل المسائل التوحيديّة هنا، ولكن في النتيجة تهيّأ لهم مكان يذهبون إليه، فليست المسألة أنّ الإنسان يذهب هكذا وينتهي الأمر، لا، بل عندما يذهب، يجد له أصدقاء ورفقاء، فتجد أنّهم حتّى الأمس كانوا يتراشقون بالنبال، أما اليوم فتراهم [يبتسم سماحته] كالعاشق والمعشوق، يا عزيزي! بالأمس كنت ترشقه بالنبال، فما الذي حصل؟ صار كلاهما يمشي في نفس الطريق، وصار كلاهما يسير في نفس المسير؛ لذا تجده يُسـرّ به أشدّ السـرور ويعانقه، ويتحسّر على أيّام الخلاف.
ثمّ يأتي اللـه ويجمع لكلٍّ مجموعته، فيجلسون مع بعضهم، يقيمون مجالس العزاء، ويقيمون الجلسات، ويقرؤون الشعر، ودعاء السمات، ويقرؤون أشعار حافظ... كل مجموعة تجلس مع بعضها البعض، وكلّ مجموعة تجد أفقها الذي يتناسب معها.
وأمّا وليُّ اللـه الذي صار طاعناً في السنّ، فيرى أنّ اللـه وضع كلّ شيء في موضعه، أهل ينزعج من ذلك؟! أبداً، بل كان منتظراً ليومٍ كهذا، وليس لديه تكليفٌ ليقوم بعملٍ كهذا، وليس لديه تكليفٌ ليتصرّف بهذا النحو، هل التفتّم؟ هناك تجد أنّ حالته لم تختلف قيد أنملة.
في مرّة من المرات قال المرحوم الوالد رضوان اللـه عليه... (لا أدري أين نقلت هذه المسألة؟ نقلتها عن نفس المرحوم العلاّمة)، ينقل المرحوم العلاّمة عن المرحوم الميرزا الشيرازي رضوان اللـه عليه، وهو من الأعاظم، وهو نفسه صاحب فتوى تحريم التنباكو الشهيرة، كان عظيماً جداً، ومن أهل القلب والحال، وينقل عنه بعض الحالات.. ذلك الرجل هو المرجع! هو المرجع! ذاك هو الخبير في السياسة! وهو الخبير في الإدارة! لقد كان رجلاً عظيماً.
جاء البعض إلى المرحوم الشيخ محمّد بهاري في زمانه، وسألوه: هل نقلّد الميرزا الشيرازي أم لا؟ (طبعاً لقد سمعت نفس القصّة فيما يتعلّق بالميرزا محمّد تقي الشيرازي أيضاً، وقد تكون المسألة حصلت مع كليهما، لأنّهم كانوا يطلقون على الميرزا محمّد تقي الشيرازي «الميرزا كوچک» (= الميرزا الصغير)، وهو الآخر كان رجلاً لا تأخذه الأهواء، ويُنقل العديد من القصص عن خلوص نيّته وتجرّده عن الأهواء والعديد من الحكايات... فيجيب المرحوم البهاري: «سوف أمتحنه»، فيذهب ويمتحنه؛ إذ يأتي الشيخ في الوقت الذي كان يصلّي فيه الميرزا الشيرازي.. (طبعاً المرحوم البهاري كان من الأعاظم، وكان صاحب فكاهة، وكان يواجه البعض في الموطن المناسب).. يأتي ويجعل سجادته بجانب الموضع الذي يصلّي فيه الميرزا الشيرازي، ويشرع بالصلاة فُرادى، فكان الميرزا الشيرازي يصلّي صلاته.. والناس يقتدون به، وكان الشيخ يصلّي بجانب الميرزا الشيرازي! (طبعاً الفتاوى مختلفة، فالبعض يقول: لا ينبغي أن يصلّي الإنسان صلاةً بجانب صلاة الجماعة، ولكن القول الأصح أنّه لا إشكال في ذلك، وخاصّة إذا كان هناك سبب مُوجب لذلك، وكانت هذه التصرّفات تصدر من الشيخ محمّد البهاري، فقد كان من أهل المواجهة، والجميع يعرفه بذلك، وكان من الأعاظم، نعم كان رجلاً عظيماً جداً) إلى أن انتهت الصلاة.
كان لدى الشيخ البهاري إشرافاً على النفوس، فهو وليّ اللـه، وهو يعرف ما يجول في ضمير الميرزا الشيرازي، وكان يراقب الأمر!
هل اختلفت «لا إله اللـه إلاّ اللـه» في نفسه؟ هل اضطربت «إيّاك نعبد» عنده أم لا؟ ها؟! فالإنسان عندما يكون لوحده، يقول: «إيّاك نعبد» بنحو معيّن، ولكن عندما يرى قضيّة من هذا النوع: يقولها بنحوٍ آخر، [يقول في نفسه:] عجباً من هذا الرجل، لم أبدأ بالصلاة بعد، وإذا به يضع سجّادته بجانبي، ما الذي يحصل الليلة؟!
كان الشيخ البهاري، يُصلّي بشكل طبيعي، ويراقب حالة الميرزا الشيرازي من جهة أخرى ليرى: هل اضطرب وضعه؟ هل تغيّرت حالته أم لا؟ هل تغيّر خلوصه أم لا؟ هل تبدّل حضور قلبه أم لا؟
في الواقع لم يضطرب الميرزا الشيرازي أدنى اضطراب أبداً؛ ولذا عندما انتهت الصلاة، قال الشيخ البهاري: عليكم أن تقلّدوا هذا الرجل!
هل التفتّم؟ كان هؤلاء مراجعنا يا عزيزي، هؤلاء كانوا مراجعنا.
كان يراقبه أثناء الصلاة ماذا يفعل، كان يصلّي من جهة، وكان يراقبه من جهة أخرى، فهؤلاء عندهم مقام يختلف عن مقامنا وحالتنا. أو يُحتمل أنّ المرحوم الشيخ محمّد البهاري كان يُصلّي صلاةً مستحبّةً، وهذا الاحتمال موجودٌ أيضاً.
قال: كنت أراقبه، ورأيت أنّه لم يضطرب أبداً من أوّل الصلاة إلى آخرها، بل حافظ قلبه على الوضعيّة التي صلّى فيها الليلة الماضية، لقد كانت أفكاره في نفس المرتبة التي كانت عليها الليلة الماضية، ونيّته كانت بنفس النيّة التي كانت عليها الليلة الماضية، وهذا الشخص من الذين لا تؤثّر الكثرة في نظرتهم إلى الوحدة.
الناس تفرح من الكثرة ومن مجيء الناس، ومن ازدياد أعداد الناس والحضور حولهم، فتجد الإنسان يقول في نفسه: الآن يستطيع الإنسان أن يتكلّم بنحو مريح، وبنحوٍ أفضل، ولكن إذا كان عدد الأصدقاء قليلاً (عشرة أو عشرين)، يتغيّر حاله ووضعه... نحن هكذا أليس كذلك؟ تؤثّر فينا الكثرات. أمّا هو فقال: لا يتغيّر فيه شيء.
كان العلاّمة ينقل هذه الحادثة لنا مراراً وتكراراً، لكي نعلم كيف أنّ حقيقة الأمر تختلف بهذا النحو؟
حسناً الآن، ينبغي أن نبدّل هذه الحالة بتلك الحالة التي يرى فيها الإنسان اللـه في الظهورات المختلفة، يعني: كما يرى أنّه موجود في حالة الراحة، كذلك ينبغي أن يرى أنّ اللـه موجود في حالة الشدّة أيضاً.
له حضور وظهور، لكنّ ظهوره مختلفٌ، إذا استطاع الإنسان أن يحافظ على نفسه بين هذه المراتب، عندها يكون قد مشى في الطريق وعبره، يعني: هذه الحالات المختلفة للنفس وهذه الظروف المختلفة وهذه الكثرات المختلفة، هذه الحالات توصل الإنسان إلى نقطة الوحدة، وفي تلك النقطة من التوحيد لا يوجد إلاّ اللـه، سواء كانت الراحة موجودة أو غير موجودة فحالته واحدة، تجده في المرض كما هو في الصحّة؛ إذا سلّم عليه أحدهم لا يتغيّر وضعه، وإذا انصرف عنه أحدهم لا يتغيّر وضعه.
في هذه الأيام كثيراً ما يحصل بين الناس، وفي العائلة الواحدة، أن يأتي أحدهم فيتشاجر مع الآخر، ثمّ يتصالح معه، وهذه المسائل موجودة، وكما يشير الإمام في دعاء عرفة إلى أنّ هذا النوع من الاختلافات توصل الإنسان إلى نقطة واحدة، وهذا الأمر عجيب، فالأولياء وهؤلاء الأعاظم هم الذين أرونا الطريق.

    

السالك هو من لا يتأثّر بالحصول على شيء أو بفقده له

في يوم من الأيّام كنّا في كربلاء في محضر وخدمة السيّد الحداد، وكان سنّي آنذاك سبعة عشر عاماً تقريباً، فسأل حينها عن أحد الأفراد، وكان ذلك الفرد بائعاً للقماش، وقال للمرحوم العلاّمة: ما حال فلان الفلاني؟ فأجابه: «حاله لا بأس بها، ففي النهاية فهم أنّه هناك شيئاً موجوداً، ولن يترك الطريق».
كان هذا تعبيره.. يعني: هذا الرجل فهم الأمور إلى الحدّ الذي يجعله لا يترك السير والسلوك.
عندها قال السيّد الحداد هذه الجملة.. قال هذه العبارة العجيبة: «هل وصل إلى الحدّ الذي يفهم فيه أنّه حينما يعطي وحينما يأخذ، ففي كلا الحالتين الذي يعطي هو اللـه والذي يأخذ هو اللـه؟».
ما معنى هذا؟ يعني: هذا العمل الذي تقوم به، وهذا العمل الذي يصدر منك، عليك أن ترى أنّ هذا الفعل صادرٌ عن اللـه، سواءً أكان ينطوي على المنفعة أم على الضـرر، هل وصلت إلى هذه المرحلة أم لا؟ إن كنت وصلت إلى هذه المرحلة، فالأمل موجود عندها! أمّا إذا لم تصل إلى هذه المرحلة، فلا فائدة!
هذه هي حقيقة الأمر، يعني على الإنسان أن يعلم أنّ كلّ هذه الجلبة التي يواجهها في حياته، كلّها عبارة عن ظهورات مختلفة للـه عزّ وجلّ، ولكن مع ذلك لا ينبغي له أن يتزلزل أو يضطرب، وهذا الأمر هو ما ينبغي أن يضعه نصب عينيه.
لا أريد أن أقول: إنّ المسائل بسيطة وسهلة! لا لسنا بدون إنصاف إلى هذا الحدّ! [يبتسم سماحته، ويقول:] ففي النهاية علينا أن نعطي حقاً لأنفسنا بمقدار معيّن، ولكن ينبغي على الإنسان أن يسعى، وذلك باستطاعته وفي حدود قدرته، إنّ اللـه منحه هذه القوّة والقدرة، وهو لا يطلب منه إلاّ بمقدار ما أعطاه من قدرة.
على الإنسان أن يمشي دون أن يلتفت إلى هذه المؤثّرات لأنّها خارجة عن طريقه، تمشي بجانبه ثمّ تمضي؛ المسائل المختلفة، المشاغل الفكريّة، والمتاعب والمصاعب، سواءً أكانت في السراء أم في الضراء، سواءً أكانت ملائمة أم غير ملائمة، كلّ هذه المسائل تمشي بجانبه، وعلى الإنسان أن يمضي في سبيله، وعلى هذا الإنسان أن يسير في طريقه، فلا يجعلن تلك المصاعب أو تلك المسرّات تغيّر وضعه وحاله، وهذه هي المراقبة.
وقولنا: "لا يجعلنّ..." لا يعني أنّه يستطيع تحصيله بين ليلة وضحاها، كلاّ.. لا يستطيع تحصيله [بهذه السرعة]، ولا ينبغي أن يتوقّع حصول ذلك بين ليلة وضحاها، بل عليه أن يعمل وأن يسعى وأن يجتهد، وعليه أن يُبحر في باطنه، وعليه أن يحاكم الأمور حتّى يصل إلى هذه النقطة.
بالطبع هذه المسألة خارجة عن مسألة التغذية، ولكن لها ارتباط وعلاقة بها، وهذه المسألة هي بنفسها جارية في مسألة التغذية، ما يتطلّب منّا أن نوضّحها، لذا نتركها للجلسة القادمة إذا شاء اللـه.

اللهمَّ صلّ على محمّد وآله محمّد


[1] ـ إشارة إلى محاضرة عنوان البصري 203 حيث كان الحديث منحصراً حول كيفيّة إحياء مجالس عاشوراء بالنحو الصحيح.

[2] ـ إشارة إلى قوله عليه السلام في عهده لمالك الأشتر: «وَاجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللـهِ أَفْضَلَ تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ وَأَجْزَلَ تِلْكَ الأَقْسَامِ وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا لِلـهِ إِذَا صَلُحَتْ فِيهَا النِّيَّةُ وَسَلِمَتْ فِيهَا الرَّعِيَّة».

[3] ـ إشارة إلى ما ورد في بحار الأنوار (ط بيروت) ؛ ج‏6 ؛ ص134 : السرائر مِنْ كِتَابِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ قُولَوَيْهِ رَحِمَهُ اللـه قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللـهِ (عليه السلام): بَلَغَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مَوْتُ‏ رَجُلٍ‏ مِنْ‏ أَصْحَابِهِ‏ ثُمَّ جَاءَ خَبَرٌ آخَرُ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ فَكَتَبَ إِلَيْهِ‏: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ أَتَانَا خَبَرٌ ارْتَاعَ لَهُ إِخْوَانُكَ‏ ثُمَّ جَاءَ تَكْذِيبُ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَأَنْعَمَ ذَلِكَ أَنْ سُرِرْنَا، وَإِنَّ السّـُرُورَ وَشِيكُ الِانْقِطَاعِ‏ يَبْلُغُهُ عَمَّا قَلِيلٍ تَصْدِيقُ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ، فَهَلْ أَنْتَ كَائِنٌ كَرَجُلٍ قَدْ ذَاقَ الْمَوْتَ ثُمَّ عَاشَ بَعْدَهُ، فَسَأَلَ الرَّجْعَةَ فَأُسْعِفَ بِطَلِبَتِهِ فَهُوَ مُتَأَهِّبٌ بِنَقْلِ مَا سَرَّهُ مِنْ مَالِهِ إِلَى دَارِ قَرَارِهِ لَا يَرَى أَنَّ لَهُ مَالًا غَيْرَهُ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ دَائِبَانِ فِي نَقْصِ الْأَعْمَارِ وَإِنْفَادِ الْأَمْوَالِ وَطَيِّ الْآجَالِ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ قَدْ صَبَّحَا عاداً وَثَمُودَ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً، فَأَصْبَحُوا قَدْ وَرَدُوا عَلَى رَبِّهِمْ وَقَدِمُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ غَضَّانِ جَدِيدَانِ لَا يُبْلِيهِمَا مَا مَرَّا بِهِ، يَسْتَعِدَّانِ لِمَنْ بَقِيَ بِمِثْلِ مَا أَصَابَا مَنْ مَضَى‏. وَاعْلَمْ أَنَّمَا أَنْتَ نَظِيرُ إِخْوَانِكَ وَأَشْبَاهِكَ مَثَلُكَ كَمَثَلِ الْجَسَدِ قَدْ نُزِعَتْ قُوَّتُهُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا حُشَاشَةُ نَفْسِهِ، يَنْتَظِرُ الدَّاعِيَ فَنَعُوذُ بِاللـهِ مِمَّا نَعِظُ بِهِ ثُمَّ نَقْصُرُ عَنْهُ».

[4] ـ راجع معرفة المعاد، ج3، ص 16.

[5] ـ سورة الرعد، الآية: 28.

[6] ـ أي: إن الاستقامة في الشباب تحتاج إلى خلق الأنبياء، بينما في حال الكبر فكل كافر يستطيع أن يكون تقياً.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی <-- -->