معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
المقالات و المحاضرات > محاضرات العلامة الطهراني > كتاب رسالة المودة > رسالة المودة – المجلس الأول: محبة ذوي القربى ودورها في السلوك إلى الله

_______________________________________________________________

هو العليم

رسالة في مودّة ذوي القربى

تفسير قوله تعالى:
{قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى}

المجلس الأول

من مؤلفّات العلاّمة الراحل

آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني قدس الله نفسه الزكيّة

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف

أعوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم
وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيّدِنا مُحمَّدٍ وَءَالِهِ الطيِّبينَ الطَّاهِرين
وَلَعنَةُ اللهِ عَلَى أعْدائِهِمْ أجْمَعين مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدّين
وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاّ بِاللهِ العَليِّ العَظيم

    

سيرة أنبياء الله في عدم طلب الأجر

قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{قُلْ لا أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}. [سورة الشورى، الآية: 23]
‏(وهي مقطع من الآية 23 من سورة الشورى: السورة الثانية والأربعون من القرآن الكريم).
لا شكّ في أنّ أيّاً من أنبياء الله ورسله ممّن اختارتهم ساحة ربوبيّته المقدّسة لم يطلِب من قومه أجراً أو مكافأة, ولم يرد منهم مالاً أو جاهاً, كما لم يحتفظ لنفسه بأيّ حقّ من حقوق الناس, ولا سخّر لخدمته واحداً منهم.
وقد تعرّض القرآن المجيد إلى جواب هؤلاء الأنبياء العظام لأقوامهم في خمسة مواضع من سورة الشعراء في الآيات 109, 127, 145, 164 و180, التي تتطرّق لسيرة كلّ من نوح ولوط وهود وصالح وشعيب عليهم السلام, وكان جواب كلّ منهم على نفس النسق: {وَما أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى‏ رَبِّ الْعالَمين‏}.

نعم, كان حقّاً للأنبياء أن لا يبتغوا من قومهم أو غيرهم أجراً, وألاّ يطلبوا منهم جزاءً؛ لأنّ أجر كلّ إنسان في ذمّة من استأجره واستخدمه. ولا يخفى أنّ الرسل إنّما جاؤوا من قِبل الله تعالى, حيث كانت دعوتهم مبتنيةً على الوحي والاتّصال بعالم الغيب، لذلك كان أجرهم على من بعثهم وأمرهم، فأجرهم على الله تعالى.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بالإمكان عدّ هذه الحقيقة دليلاً على صحّة النبوّة وصدق ادّعائها، إذ من يتسلّط على الناس من قبل غير الله تعالى، فهو لا يقوم بذلك إلاّ في سبيل هدف أو غاية شاء ذلك أم أبى, وسيكون نفس هذا الهدف هو أجره, وتلك الغاية هي جزاؤه. وبما أنّ هذا المدّعي للنبوّة لم يصل إلى مقام التوحيد بحسب الفرض فيما لو كان كاذباً, وبما أنّ دوافعه ليست إلهيّة, فمهما يكن قصده وهدفه عالياً, فسوف لن يخلو من الشوائب النفسانيّة, ورغم عدم تعلّق هذا الهدف بالمال والنساء والأولاد, إلاّ أنّه لا يخلو من حبّ الجاه وسائر الدواعي الخفيّة. فنفس التمتّع بوزن اجتماعيّ أو شعبيّة ومكانة تخوّله للأمر والنهي وكذلك ما يراه في نفسه من ضرورة انصياع الآخرين له لهو أكبر هدف ومبتغى يُسعى إليه.
وعليه فإنّ الأنبياء وحدهم هم الذين يعملون مخلصين لوجه الله؛ وذلك لارتفاع الحجاب عن قلوبهم, واطّلاعهم على أسرار العالم, وحصولهم على رمز الموت والحياة والتكامل, ووفودهم إلى الوطن الحقيقيّ من خلال طيّ عوالم السلوك ومنازله, ومن ثمّ التحاقهم بالأبديّة, ولارتباط أرواحهم بإلههم ووصولهم لمقام المناجاة, بحيث لم يرتضوا أيّ أجر مقابل المشقّات والصدمات التي تحمّلوها في طريق تبليغ الشريعة وهداية الناس، بل انحصر أجرهم في رضاء الله تعالى وأداء التكليف وهداية الناس لا غير.
ومن هذا المنطلق وبنفس هذه الروحيّة, يلتحق حبيب النجّار ـ الذي كان يقطن في أقصى نقطة من مدينة أنطاكية ـ بمبعوثَي نبيّ الله عيسى عليه السلام من أجل مساندتهما, ويخاطب الناس في مقام المحاججة والمجادلة قائلاً: {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْألُكُمْ أَجْراً وهُمْ مُهْتَدُون‏}.[1]
فنجد هنا أنّ هذا الرجل العظيم ذا الضمير الحيّ قد اعتبر أنّ أحد الركنين اللذين يتميّز بهما الحكّام والقادة إنّما يتجلّى في عدم ابتغائهم الأجر والثواب, والركن الآخر هو امتلاكهم للبصيرة ووصولهم إلى مقام الإنسانيّة ومعرفة الباري عزّ وجلّ واهتدائهم إليه. وقد أمضى القرآن المجيد هذا الكلام, ولم يأت بأيّ طعن عليه، فصار يعدّ بنفسه دليلاً على صحّة النبوّة.
ولو كان لنبيّ مّا أن يطلب أجراً لنفسه, فإنّه سيفقد في مقابل ذلك الحريّة في التبليغ, ولن يمتلك الجرأة على التبليغ القويّ أمام من أخذ منهم الأجر, شاء ذلك أم أبى؛ إذ إنّ الحياء والخجل سيعتريان الواقع تحت إحسان الغير, فيذلاّنه ويحقّرانه، وبالتالي يقلّلان من حزمه في التبليغ. ولهذا يقول نبيّ الله نوح لقومه: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ}.[2]
ففي هذه الحالة, من شاء أن يقبل بالدعوة فليقبل, ومن لم يشأ فهو حرّ؛ فلن يعتريَ الرسولَ أيّ حياء أو خجل أمام المتمرّدين, ولن يرى نفسه أسيراً لإحسانهم, وسيوبّخهم ويعاتبهم بشدّة.

    

التزام الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله بعدم طلب الأجر

وبدوره لم يُستثن الرسول الأكرم محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله من هذا الحكم الكليّ, ولم يكن ليلتمس من الناس أيّ أجر؛ ففي سورة الأنعام التي تعرّضت لبيان حديثه صلّى الله عليه وآله مع قومه, يأمره الله تعالى: {قُلْ لا أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى‏ لِلْعالَمينَ}.[3]
وعليه فالرسول الأعظم لم يأت ليثقل كاهل الناس ويوقعَهم في المشقّة، ويذهبَ بحاصل أعمالهم وثمرات جهودهم، فيستفيد منها لحسابه الخاصّ، كثمن وأجرة على الدعوة النبويّة؛ {قُلْ ما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفينَ}.[4]
ويخاطب الله المشركين والمتمرّدين موبّخاً لهم في موضعين من القرآن: أوّلهما في سورة الطور, والثاني في سورة القلم, فيعاتبهم بشدّة على رفضهم دعوة الرسول صلّى الله عليه وآله قائلاً عزّ من قائل: {أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ}.[5]
فلماذا يمتنع هؤلاء المتمرّدون عن القبول بدعوتك, أفهل رُمت منهم أجراً كي يشعروا بهذا الثقل جرّاء أدائه؟

    

لماذا طلب الرسول صلّى الله عليه وآله الأجر على الرسالة؟

غير أنّنا نلحظ في موردين آخرين من القرآن أنّ الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله يطلب من أمّته أجراً وجزاءً مقابل النبوّة ومشقّات الرسالة، وعلينا أن نبحث هذين الموردين بدقّة لنكتنه حقيقة الأمر.
المورد الأوّل في سورة الفرقان، أعني: قوله تعالى: {قُلْ ما أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبيلاً}.[6]
قلْ يا أيّها الرسول: أنا لا أريد منكم أجراً، وأجري هو ذلك السبيل الذي يسلكه الناس إلى ربّهم, وذلك الطريق الذي يجدونه إليه.
والمورد الثاني في سورة الشورى، أي: قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}‏.[7]
قل يا أيّها الرسول: أنا لا أريد منكم أجراً إلاّ قيامكم بمحبّة أقربائي ومودّتهم.
وعند التدقيق في هذين الموردين نستنتج:
أوّلاً: أنّ هذين الأمرين اللذين وقعا مورداً للاستثناء لم يكونا في الواقع منفصلين في حقيقتهما، وأنّ الاستثناءين لم يدخلا في الواقع على عموم قوله: {قُلْ لا أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} ، وقوله: {قُلْ ما أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}؛ بل إنّ حقيقتهما شيءٌ واحدٌ, غاية الأمر أنّها تمتلك عنوانين وتعريفين اثنين. ففي الآية الأولى تمّ استثناء الاهتداء إلى الله تعالى, وفي الآية الثانية مودّة ذوي القربى. ويشير هذان العنوانان إلى حقيقةٍ واحدةٍ؛ فطريق الله هو مودّة ذوي القربى, ومودّة ذوي القربى هو السبيل الذي يتّخذه العبد للوصول إلى مقام التوحيد.
والنتيجة التي نخلص إليها بعد ضمّ الآيتين إحداهما إلى الأخرى هي: يا أيّها الرسول قل: إنّي لا أريد منكم أيّ أجر إلاّ أن تتخذوا سبيلاً إلى ربّكم من خلال مودّة قرابتي.
وعليه فمن ملاحظة انحصار استثناء عموم الآية بهذين الاستثنائين, وملاحظة اتّحاد هذين المعنيين, نخلص إلى أنّ مودّة ذوي القربى هي الطريق الأوحد المؤدّي إلى الله تعالى, وأنّ هذا الطريق الأوحد المؤدّي إليه تعالى هو مودّة ذوي القربى فقط. بمعنى: أنّ كلّ مسلم إذا ما رامَ أن يقدّم لنبيّه أجراً, فعليه أن يسعى حثيثاً في طريق الوصول إلى مقام التوحيد والاتصاف بصفات الحقّ جلّ وعلا, هذا مع أنّ الوصول إلى مثل هذا المقام والاتصاف بهذه الصفات لن يحصل إلاّ في ظلّ مودّة ذوي القربى فحسب.
وثانياً: أنّ هذا الاستثناء لا يتنافى مع عموم الآيات الدالّة على نفي الأجر والجزاء. وبعبارة اُخرى: إنّ المستثنى منه ههنا لا يستثنى منه شيء في الواقع, وبحسب اصطلاح أهل اللغة الاستثناء منقطع؛ لأنّ الآيات التي تدلّ على أنّ الأنبياء ـ ومنهم نبيّ الإسلام ـ لم يكونوا يبتغون أجراً وجزاءً إنّما تريد من الأجر والجزاء ما يتعلّق بالأنبياء ويعود عليهم. وأمّا الذي يعود على الناس من الاتّصاف بالصفات الربوبيّة والخروج من عالم البهيميّة والوصول إلى ذروة الإنسانيّة فهو مقصود كلّ نبيّ, وهدف نبيّ الإسلام أيضاً حيث يقول تعالى:
{هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي‏ ضَلالٍ مُبين وَآخَرينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ}.[8]
فالله هو الذي بعث من بين الأمّيين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته, ويعمل على ترقيتهم دائماً عن طريق السلوك النفسيّ, ويعلّمهم الكتاب وأسرار عالم الخلق, وقد كانوا قبل ذلك يعيشون في الضلال البيّن. ورسالته هذه لا تشمل هؤلاء وحدهم, بل تعمّ الذين لم يكونوا قد ولدوا بعد في ذلك الزمان، وسيأتون في زمان لاحق, فيقودهم إلى نفس ذلك الصراط, والله عزيز حكيم.
وبناءً عليه تشير هاتان الآيتان اللتان وقعتا مورداً للاستثناء إلى حقيقة مسلّمة واحدة، وهي عبارة عن العلّة الغائيّة من الرسالة والباعثة على البعثة والداعية إليها. وكذا الآية المتقدّمة من سورة الجمعة وبعض الآيات الأخر تشير إلى علّة الرسالة فقط، لا إلى شيء سواها.
فقد ظهر: أنّ تلاوة الآيات الإلهيّة على الناس وتعليمهم الكتاب والحكمة وتزكيتهم هو الطريق نحو الله الذي سيعبر بهم إليه تعالى من خلال مودّة ذوي القربى ليصلوا في النهاية إلى مقام التوحيد. وهذا الأمر راجع إلى نفس أمّة الرسول الأكرم عائد نفعه إليهم، لا أنّه أجرٌ وجزاء يستفيد منه الرسول، بحيث يكون باعثاً على نقصان ما عند الآخرين والزيادة في ماله ومآله وجاهه ومكانته. ونظير ذلك الأب الذي يقول لولَده: أنا لا أتوقّع منك أيّ جزاء أو مكافأة في قبال جميع المشقّات والمعاناة التي تحمّلتها في أيّام طفولتك وصباك وشبابك، وعند تربيتي لك وتعليمك وحفظ سلامتك، ودفع الأخطار والبلايا عنك, سوى أن تكون شخصاً سالماً مهذّباً مراعياً للنظام ومؤدّباً بالآداب.
والشاهد على هذا المعنى قوله سبحانه وتعالى في سورة سبأ مخاطباً الرسول الأكرم: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ}‏.[9]

    

ما العلاقة بين طريق الله و محبّة آل محمّد صلّى الله عليهم؟

وإذا عرفنا ذلك فلندخل في صلب الموضوع لنرى كيف جعل الله تعالى مودّة ذوي القربى نتيجة وثمرة للرسالة وأجراً عليها؟ وما هو التأثير الذي تتركه هذه المودّة في سلوك الطريق إلى الله؟ وما هي العلاقة بين طريق الله وبين محبّة آل محمّد صلّى الله عليهم؟ وهل يمكن أن يلتزم الإنسان بالبرامج العمليّة للرسول الأكرم بشكل كامل: بأن يقيم الصلاة ويصوم ويجاهد ويحجّ ويؤدّي جميع التكاليف الواحد منها تلو الآخر, ولكن من دون أن تكون له مودّة بذوي القربى؟ فهل سيصل مثل هذا الشخص إلى مقام السعادة ويجد طريقه إلى ربّه؟ أم إنّ هذه الأعمال لا تثمر أبداً إلاّ حينما تكون مقترنةً بمحبّة ذوي القربى ومودّتهم؟
يُستفاد من خلال ضمّ الآيتين السابقتين أنّ السلوك في سبيل الله عبارة أُخرى عن مودّة أهل البيت عليهم السلام, وبدون ذلك لن يتمكّن أحد من الاهتداء إلى ربّه.
وبناء على ذلك سنتعرّض إلى البحث عن سرّ هذا الأمر وتأثير الحبّ في صلاح العمل وفي السير التكامليّ للإنسان. ولتسليط الضوء على هذه الحقيقة نقول:

    

حقيقة الحبّ وآثارها السلوكيّة

إنّ الحبّ عبارة عن الجاذبيّة النفسيّة والانجذاب الروحيّ الذي يحصل للحبيب نحو محبوبه، ويختلف هذا الانجذاب بحسب اختلاف الأفراد والظروف, كما يتفاوت أيضاً من حيث تأثير المحبوب ودرجة فعاليّته على نفس المحبّ، وبمقدار ما تترك آثار جمال المحبوب ومحاسنه بصماتها على نفس المحبّ ـ أيّاً ما كان هذا المحبوب: سواءً أكان إنساناً أم حيواناً أم جماداً أم حجراً أم موجوداً آخر ـ فإنّ قوّة الانجذاب هذه في المحبّ ستكون أشدّ، وتعلّقه بالمحبوب سيكون أعظم.
ونظراً إلى أنّ صفات كلّ موجود وآثاره من اللوازم والتوابع النفسيّة والروحيّة لذلك الموجود, فإنّه وبسبب ذلك الانجذاب الروحيّ الذي يحصل للمحبّ نحو المحبوب, ستنعكس آثار المحبوب وصفاته في المحبّ إلى حدّ يصل فيه الانجذاب بين النفسين إلى المستوى الذي لا يغفل فيه أحدهما عن الآخر في حال من الأحوال. وكأنّ نفسَي هذين الاثنين قد امتزجتا والتحمتا وضمّت إحداهما إلى الأخرى، فصار الحبيبان متّصلين أو متّحدين إلى درجة أصبحا يمتلكان نفساً واحدة.
وفي هذه الحالة, ستتجلّى جميع آثار المحبوب وصفاته في المحبّ؛ إذ إنّ هذه الآثار بحسب ما فرضناه هي آثار المحبوب. وبناءً على علاقة المحبّة والانجذاب الروحي للمحبّ, ستصير نفس المحبوب حاكمةً على وجود المحبّ وستكون هي صاحبة الأمر والنهي عوضاً عن نفسه، وبذلك ستَحلّ آثار المحبوب وصفاته ـ تبعاً لنفسه ـ في نفس المحبّ. ويعدّ هذا الطريق أسرع طريق للاتصال بالأرواح الطيّبة.
فكثيراً ما شاهدنا أنّ العاشق صار متّصفاً بأوصاف محبوبه, مع أنّ ذلك كان خارجاً عن إرادته, أو أنّه عند مرض المعشوق وتعرّضه للمحن يصير هو مريضاً وممتحناً مثله, مع أنّه لم يكن مطّلعاً على ذلك أصلاً. ونجد أنّ جانباً مهمّاً من علوم ومعارف المحبوب ومدركاته تتجلّى بشكل تلقائي في نفس المحبّ, وبأنّ المحبّ مشرف على شؤون المحبوب من دون أيّة علاقة ماديّة حسيّة بينهما, فيناجيه في سرّه ويطّلع على أخباره وأحواله حالاً بعد حال.
والأرقى من ذلك أنْ تشرق صفات المحبوب في الحبيب. أي: يمكن للمبتلى بالصفات الرذيلة ـ نظير: الحسد والبخل وحبّ المال والشره وغيرها ـ أن يصير بدوره متّصفاً بالعفّة والإيثار: سواءً كان ذلك عن اختيار منه أم عن غير اختيار؛ وذلك لأنّ المعشوق الذي تعلّق قلبه به كان متّصفاً بالإيثار والعفو والعفّة. فعشق المتهتّك يجعل العاشق الذي يمتلك قليلاً من العفّة متهتّكاً, وعشق العفيف يجعل العاشق المتهتّك عفيفاً. كما أنّ محبّة الذي يعبد المال تجعل السخيّ حريصاً، و محبّة المُنفق السخيّ تجعل الحريص سخيّاً. والعشق الذي تعلّق بعالِم معيّن ستتجلّى علومه و إدراكاته في نفس العاشق بشكل مجمل, بل وبشكل تفصيليّ في مرحلة أعلى. والمحبّة الشديدة لبعض أصناف الجهّال من قبيل بعض النساء تجعل العالم النحرير بليداً جاهلاً.
وعلى أيّ حال. فإنّ أثر العشق والمحبّة وظهور آثار المحبوب وصفاته في نفس المحبّ بسبب انجذابه الروحيّ مشهودة وواضحة للعيان. وقد أوردتْ السيَر والتواريخ في هذا الباب العديد من القصص, فكان هذا الأمر واضحاً حتّى بالنسبة لنفس الأشخاص الذي ابتلوا بالحبّ، وإن تفاوتوا في ذلك شدّةً وضعفاً.
وإذا اتّضحتْ لنا هذه المقدّمة نقول: لو أنّ أحدهم أحبّ شخصاً ظالماً وجائراً, فإنّ الروح العدائيّة ستنبثق منه بشكل تلقائيّ ولو كان بنفسه لا يميل إلى الظلم والعدوان. ولو أنّ أحدهم أحبّ شخصاً عادلاً ومتوازناً ومستقيماً قد انطبعت التقوى والطهارة في روحه وسرت إلى باطنه, فإنّه سيصبح حائزاً بصورة تلقائية على صفة العدالة والطهارة والاستقامة.
وعلى ذلك لزم على قاصدي طريق الله أن يتخلّقوا بالصفات الإلهيّة, وهو محال بغير تحصيل المحبّة الإلهيّة، بمعنى: أنّه لو صرف أحدهم تمام عمره في القيام بأعمال الخير واجتناب أعمال السوء, لكنّه في المقابل لم يعمل على تنمية محبّة الله في قلبه, فإنّ روحه ستكون خالية من الصفاء والإخلاص وشبيهة بقبر زُخرف بالنقوش والرسوم.
فروح الإنسان وحقيقته هي قوته الجاذبة وجاذبيّته الروحيّة, وإلاّ فبأيّ شيء سيفترق عن الجدار الثابت والقبر المندرس! ومَثَل العمل الصالح الذي لا ينبعث من روح حيّة وطاهرة ومفعمة بالمحبّة كمثل قرط أو سوار وُضع في اُذن ميّت أو يده، غير أنّه إذا ما اقترن بالحبّ, كان مؤدّياً للفضل والكمال، نظير الزينة التي يتجمّل بها الإنسان الحيّ.

    

لزوم تقوية السالك محبّة الله في قلبه

ومن خلال الأعمال الحسنة يقوّي محبّ الله في قلبه محبتّه له تعالى بشكل دائم, كما أنّه ينمّي في قلبه عشقَه له سبحانه بواسطة المخالفة لهوى النفس والموافقة لرضا المحبوب إلى الحدّ الذي يحظى برضاه ويخرج عن هوى نفسه ويحيى بهواه. وفي هذه الحالة سيكون الله تعالى هو الحاكم على وجوده, وستصدر منه جميع الأعمال والتصرّفات من خلال إرادته تعالى بشكل تلقائي؛ وكأنّه قد فُرِّغ من ذاته ومُليء بالله, وتخلّى عن تحريك نفسه وتحرّك بتحريك الله.
يروي المرحوم الكلينيّ في «روضة الكافي» عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عليّ بن أسباط، عن الأئمّة عليهم السلام فيما وعظ الله تعالى به عيسى بن مريم عليهما السلام:
«يا عيسى أوصيك وصيّة المتحنّن عليك بالرحمة حتى حقّت لك منّي الولاية بتحرّيك منّي المسرّة».[10]
فإنّي أوصيك يا عيسى وصيّة المحبّ الرحيم المشفق لتزداد فيك قوّة الانجذاب فتصبح باحثاً عن محبّتي ورضاي، ولتصير ولايتي حاكمة فيك وتكون متّصفاً بجميع صفاتي وأسمائي.
إنّ دين الإسلام المقدّس ـ الذي هو خاتم الأديان المتكفّل بأكمل النظم والتشريعات من حيث العلاقات الروحيّة والطبيعيّة ـ قد جعل معيار المحبّة ميزاناً لقياس صحّة الأعمال وسلامتها، وقد شقّ هذا الدين أمام الناس أسرع الطرق للوصول إلى مقام الإنسانيّة والتوحيد متمثّلاً بطريق محبّة رسول الله وذوي قرابته صلّى الله عليه وآله.

    

حقيقة ذوي القربى ودور محبّتهم في السلوك إلى الله تعالى

والمقصود بذوي القربى هم أولئك الذين وصلوا إلى مقام الطهارة المطلقة، فرَسخت الطهارة في أرواحهم وخيالاتهم ونفوسهم وعقولهم وأسرارهم وسويدائهم، وخلصت من جميع شوائب الشرك، فلا يمكن العثور في موطن من مواطن نفوسهم على غير الله وآثاره وصفاته. إنّهم قوم غضّوا أبصارهم عن العوالم الدنيا الطبيعيّة المظلمة، وتعلّقوا بجمال الأبد. فهم عباد لا تساور وجودهم حكومة الشهوة والغضب والخيال، فهم دائماً أحياء بحياة العقل، منوّرون بنور الله، وقد وصلوا إلى مقام البلوغ والكمال الإنساني. إنّهم أفراد لم يعد في أفق وجودهم شيء من شوائب النفس الأمّارة والميل الحيواني، والحياة الحسيّة وتوابعها. لقد اختاروا من حرم أمن الله وأمانه سكناً لهم، وتنوّروا بنور الحقّ, ولا مصداق عندهم للذنب الذي هو من لوازم الغفلة، ولقد غدوا مطهّرين بطهارة الحقّ تعالى، معصومين بعصمة ذاته المقدّسة.
ومن الواضح أنّ حبّ هؤلاء وعشقهم يجعل الإنسان قريباً من أفقهم الفكريّ والوجوديّ، وكلّما اشتدّت تلك المحبّة فإنّ الإنسان سيقرب أكثر من ذلك الأفق, وبالملازمة فإنّ صفات المعشوقين وروحيّاتهم وأخلاقهم ستظهر في الإنسان، كما ستشرق فيه ملكاتهم وعقائدهم في نهاية المطاف. إنّ محبّ أهل بيت العصمة سيتحوّل إلى عابد تقيّ مؤثِر عفوّ منفقٍ باذل في سبيل الله مهجته وماله.
إنّ المحبّة كالصاعقة التي تصيب أكوام الحصيد فتتركها رماداً، فهي تحرق رذائل الصفات من الحسد والبخل وقسوة القلب والشره والجبن وأمثالها، فتحيلها هباءً منثوراً، فلا أثر له في وجود المحبّ، ومن الواضح أنّ هذا هو الطريق الأوحد إلى الله، فهو أسرع الطرق وأكملها وأيسرها في الوصول إلى الغاية.
وهذا على خلاف من أراد أن يطوي هذا الطريق الطويل بغير عشقهم ومودّتهم معتمداً على نفسه، فهيهات هيهات أن يصل! ففي كلّ يوم يخطو إلى الأمام فإنّ شوائب النفس الأمّارة والخواطر الشيطانيّة تعود به خطوات إلى الوراء، ليبقى دائماً كحمار الطاحونة يدور حول نفسه، وكلّما ازداد سيره لم يزدد من الله إلاّ بعداً، إلى أنْ يترك الدنيا مع كثير من العمل والجهد صفر اليدين منهوباً خاسراً، ويفارقها مع ألف حسرة وندامة.


[1] ـ يس (36), الآية 21.

[2] ـ يونس (10), صدر الآية 72.

[3] ـ الأنعام (6), الآية 90.

[4] ـ ص (38), الآية 86.

[5] ـ الطور (52), الآية 40، والقلم (68), الآية 46.

[6] ـ الفرقان (25), الآية 57.

[7] ـ الشورى (42), الآية 23.

[8] ـ الجمعة (62), الآيتين 2 و3.

[9] ـ سبأ (34), الآية 47.

[10] ـ روضة الكافي، الطبعة الثانية دار الكتب الإسلاميّة ص 131.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی <-- -->