معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
المقالات و المحاضرات > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1432 هـ > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1432 هـ - الجلسة التاسعة: محورية الحق والولاية في حياة السالك

_______________________________________________________________

هو العليم

سلسلة شرح دعاء أبي حمزة الثمالي للعام 1432 هـ

المحاضرة التاسعة:

محورية الحق والولاية في حياة السالك

ألقيت هذه المحاضرة في الليلة الرابعة عشر من ليالي شهر رمضان المبارك لعام 1432 هـ

ألقاها:

سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين

«وقد رجوت أن لا تخيب بين ذين وذين منيتي فحقّق رجائي واسمع دعائي يا خير من دعاه داعٍ وأفضل من رجاه راجٍ»
لقد رجوت جزماً أنك لن تردّني خائباً في نيل منيتي، والحال أنّني أرى نفسي بين هذين الأمرين وذينك الأمرين، ومكاني هو بينهما..
لقد ذكرنا للإخوة ما هما هذان الأمران وذانك الأمران؛ فقد بيّنا أنّ أحدهما هو الجرأة على السؤال، والثاني هو اقتراف الذنب والتمرّد والعصيان وعدم الشكر لله تعالى، مع التوجّه إلى جود وكرم الله تعالى. والأمران الآخران هما أن زاد الطريق ورأس المال في شدة الابتلاء مع قلة الحياء من العمل الذي قمنا به أمام الله هو الرأفة والرحمة والعطف واللطف الإلهي ونعمك الجزيلة التي تنعم بها على عبدك العاصي. هذان الأمران وذانك الأمران من الأمور الواقعية، وكلاهما له حقيقة. الإمام السجاد يقول بأني وصلت إلى هذه المطالب الأربعة، اثنان منها مرتبطة بي واثنان مرتبطان بك يا الله، ما هو مرتبط بي هما السؤال والطلب في عين التمرد والذنب، والآخر هو قلّة حيائي وعدم خجلي منك ومن لطفك وكرمك وجودك ونعمك عليّ.

    

سبب قلة حياء الإنسان من الله

والسبب في قلّة حيائنا بالنسبة إلى هذه الأمور وقلّة خجلنا منها واضح، فلو كان لدينا خجل وحياء لما صدر منا هذا التجرّؤ، ولما وضعنا مكانة مولانا تحت الأقدام.. هذه الأمور التي صدرت منا كانت بسبب عدم الحياء والخجل ـ مع أنّ نعم الله تعمّنا جميعاً ـ وبسبب أنّنا لا نضع أنفسنا في الموضع الذي ينبغي أن نضعها فيه أمام الله.. ولا نشعر بأننا مسؤولون أمامه. طبعاً ينبغي أن أذكر في المقام بأنّ الإنسان لا يمكنه أن ينكر نعم الله عليه، إذ يرى أن الله يحبّه ويشعر بقربه منه.. فهو أفضل موجود يمكن أن يساعد الإنسان في الدنيا والآخرة.. فنحن عندما نلاحظ الأشخاص الذين يمكن أن يقدّموا لنا المعونة في اليومين اللذين نعيشهما في هذه الدنيا، سنجد أنّنا نعمل من الصباح إلى المساء حتّى يبقى هذا الإنسان راضياً عنّا.. أليس الأمر كذلك؟ كلّ ذلك لأننا بحاجة إليه في عملنا وفي مكانتنا، و نخاف أن يصدر منّا كلام غير صحيح يصل سمعه، ونحرص على أن لا يأتي من ينقل عنّا ويفتن بيننا.. فنسعى بشكل دائم أن تكون عباراتنا وكلامنا بحيث لا يساء فهمها أبداً..

    

احتيال بعض الأشخاص للوصول إلى مراده

ألا ترون بعض الأشخاص عندما يريد أن يذهب لطلب فتاة؟ عندما يجلس في البداية يتحدث بلباقة و لطف شديد.. وقد شاهدنا الكثير من هذه الأمور.. كلّ ذلك حرصاً منه على أن لا يحصل ما يمكنه أن يخرّب المسائل، ولكن عندما يتمّ العقد وتصير الفتاة زوجته تنقلب المسألة مائة وثمانين درجة.. فتجده يطالبها: ما كان مرادك من الكلمة التي قلتيها في ذلك اليوم؟ ولماذا لم تحترميني في اليوم الفلاني؟!... وغيرها من الأمور التي لم تكن موجودة إلى ما قبل العقد.. لماذا لم يكن هذا الكلام وهذه المسائل بالأمس؟ إذاً حتّى الأمس كنتَ تمثل أمامنا وتعرض مهاراتك التي تخفي حقيقتك.. ما هو التمثيل؟ التمثيل هو أن يتخلّى الإنسان عن شخصيّته التي لديه و يتلبّس بشخصيّة أخرى، ويتقن الدور المطلوب منه بحيث لا يصدق الإنسان ما يشاهده من هذا الرجل الذي كان ذا أخلاق عالية، فإذا به قد صار الآن سيء الأخلاق.. هذا هو التمثيل. هناك أشخاص تكون كل حياتهم عبارة عن تمثيل وأفلام، تراه يمثّل أمام الناس من الصباح حتّى المساء؛ أي ما يقرب من ثمانية عشر ساعة، كل همّه يكون منصبّاً على ما يقوله الناس عنه، وما رأيهم فيه.. كل ما يشغله هو هذا الأمر. هؤلاء الأشخاص هم أتعس الناس على وجه الأرض حظاً، فهؤلاء الأشخاص لا يفكرون فيما ينبغي أن يكونوا عليه فعلاً، وأين هم الآن، وماذا سيصيرون، بل كلّ اهتمامهم منحصرٌ في رأي الناس فيهم ونظرتهم إليهم.. هذا الذي يشغلهم دائماً. هذه المسألة مهمّة لنا؛ أي من ناحية التطوّر السلوكيّ والنفسانيّ، وهي أن يبقى الإنسان بعيداً عن هذه المسائل.
ونلاحظ أن أمثال هؤلاء الأشخاص عندما يحصلون على ما يريدون و يصلون إلى غرضهم فإنّ ملامحهم تتغيّر و يزول ذلك اللطف الظاهري، و تظهر حقيقتهم و يبرز مكنون ضميرهم، فهو يترك إظهار ذلك حتّى ينتهي إجراء العقد و يُمضى، وحينئذٍ تختلف ملامحه و نظراته، ويبدو ما كان مختفياً في ضميره وباطنه، والمر كذلك عندما يكون الإنسان مبتلى بابتلاء معيّن، فيبدأ بمدح فلان الذي يمكن أن يساعده في حلّ مشكلته، وعندما يأخذ مراده منه يذهب كأنّ شيئاً لم يكن، و هكذا الأمر عندما يكون لديه طلب وحاجة، (والإنسان يشعر بهذه الأمور) فيمدحه ويمجّده للوصول إلى غايته...
كان هناك شخص ليس قريباً منّا، وكان في كل مجلس نجلسه يمدحنا ويتكلّم عنّا بكلامٍ حسن.. والحال أنّنا لسنا كذلك.. لكن انتظرنا حتّى نرى ما هي نهاية هذه الأمور.. لذا رأينا أنّ العلاقة بيننا يجب أن تبقى في حدودها السطحيّة.. وبعد مدّة شرع بالشكوى والتململ والقول: سيّدنا عليّ دين هنا وعندي ابتلاء هناك وقد اقترضت من البنك مبلغاً من المال... فقلت له: إن شاء الله ندعو لكم ونسأل الله تعالى أن يرفع عنكم هذه الابتلاءات!! ثمّ أعاد الكرّة، فقلت: إن شاء الله ندعو لكم، وبعد ذلك سمعت بأنه شرع بالكلام و الانتقاد.. بأن هذا السيد كذا وهو كذا... فقلت: أجل.. هكذا أفضل...

    

ضرورة إبعاد أهل الدنيا والكثرات عن السالك

ينقل المرحوم العلاّمة بأنّه كان يتحدّث مع المرحوم المطهّري فقال له: عندما تتعامل مع بعض الأفراد، ترى أنك لا تتحمّل الكلام معهم أبداً، بل تفضّل أن يبقوا بعيدين عنك حتّى لو تكلموا عليك ما شاءوا، لكن بشرط أن لا يقتربوا منك أبداً.. تقول له: اذهب بعيداً وقل ما شئت، لا تقترب من هنا، قل فينا ما تريد وافعل ما شئت، لكن لا ترينا وجهك، فقال المرحوم المطهري: نعم الأمر كما تقول سيدنا.. وكأنّ المرحوم المطهّري نفسه كان مبتلىً بهذه المسألة أيضاً. ثم قال السيّد الوالد: لقد تشرّفت في إحدى المرّات بالمجيء إلى قم، فحضرنا عند العلاّمة الطباطبائي رضوان الله عليه، وصار بيننا كلام، ومن باب الصدفة تكلّم حول هذه المسألة بالذات، فقال: سيد محمد حسين! يرجّح الإنسان في تعامله مع بعض الأشخاص أن لا يشغلوه بالكثرات والدنيا، فيأتي ويلقي كلاماً من هنا وهناك، وهذا قال كذا، وذاك قال كذا، ويشغل فكرك وخيالك بهذا الكلام.. فمن الأفضل أن لا يحصل لقاء بمثل هؤلاء الأشخاص، حتّى وإن قالوا عنك ما قالوا بغيابك، ولكن بشرط أن لا يأتوا و يحدّثوك بذلك، لماذا؟ لأن الإنسان لديه عمل، وهذه الأمور إنما هي للأشخاص الذين لا عمل لديهم، للذين عملهم ليس إلاّ نقل الكلام من هنا إلى مكان آخر، ونقله من هناك إلى هنا.. نطلق على هؤلاء الأشخاص اسم العاطلين.. فحياتهم هي هذه.. ليس لديهم شيء غير ذلك، والبعض تكون حياتهم عبارة عن الخوض في القاذورات، فلو أخرجتهم من هذه القاذورات يموتون.. تماماً كالحشرات التي تعيش في تلك الأماكن العفنة، والحال أن هذه ليست حياة واقعاً، بل هي عبارة عن الانشغال بالأوهام والخيالات واللهو واللعب، فهل على الإنسان أن يسعى وراء هذه الأمور؟ لماذا لا تسعى هذه الأمور وراءنا؟ لماذا علينا أن نكون في هذه الأجواء والأحداث؟ لماذا؟ فهذان اليومان اللذان نعيش فيهما لن يتكرّرا.

    

عدم اكتراث أولياء الله بما يقال فيهم

في مجالس الأولياء التي كنت أشارك فيها عند المرحوم الوالد والمرحوم الحداد، كنا نشاهد هذه المسألة بشكل كامل، وكنا نلمس الفرق الواقعي بين هذين المسيرين، إذ كيف يمكن لأولياء الله أن يفرّغوا أنفسهم عن هذا الكلام وهذه الأمور، بل هم سكارى في عوالم من جمال المعشوق وبوارق الجلال الإلهي، ويسبحون في ذلك الفضاء، وفي مقابلهم هناك أفراد يتحدّثون عن الله تعالى أيضاً، ويتحدّثون عن السير والسلوك، ولكن مع ذلك نرى أن مجالسهم تفوح منها رائحة العفن، فكلامهم مليء بكلام الأطفال ومطالب بلهاء ومسائل أولاد وقضايا عوام.. لا كلام عن التوحيد والنور والبهجة والرقيّ والانبساط، بل كلّ كلامهم يدور حول أنّ فلاناً نقل هذا الكلام وذاك قال كذا وذاك اتصل بهذا...
فعندما يكون الأمر كذلك، فوظيفتنا ستكون من الآن فصاعداً هي أن يختار الإنسان منّا رفيقه السلوكي بحيث لا يكون متّصفاً بمثل هذا، وبناء على هذه المطالب فعندما يرى الإنسان أن رفيقه يغوص في مثل هذه الأمور، عليه أن يقول له نحن لدينا دستور أن لا نغوص في هذه المطالب، فإذا فرضنا أن فلاناً تكلّم بهذا الكلام، فلماذا تريد أن تنقل كلامه، وافرض أنّ فلاناً اتّصل وقال كذا، فما هو المبرر لأن تأتي وتذكر ذلك، وفلان قام بهذا العمل، فلا موجب لنقل ما قام به إلينا، لماذا نأتي وننقل هذا الكلام وهذا الموقف؟ إلى متى ينبغي أن يبقى ذهن الإنسان وقلبه وعقله ملوثاً بمثل هذه المطالب؟ إلى متى؟ ما أذكره لكم إنّما هو للذين يريدون أن تتّضح الأمور لديهم ويستمروا في سلوكهم وطريقهم، أما الأشخاص الذين لا يهتمّون بشكل جادّ بهذه الأمور ـ وهم كثيرون ـ فكلامي ليس موجّهاً إليهم، ولذا فأنا لا أنزعج من عدم التفاتهم للعمل بها. وهم أيضاً لا يسعون للعمل، و منهنا فإنّ تكليفي هو قول هذا الكلام، وكلّ شخص يعمل بمقتضى فهمه وإدراكه. وعندما يشعر الإنسان بأنّ تكليفه قد تغيّر في هذا الأمر فلا شكّ أنّ تعامله سوف يتغيّر، ولا مزاح في هذه المسألة أبداً. والدستور الذي لدينا كان كذلك منذ زمن المرحوم العلاّمة، ففي ذاك الزمان لم يكن لدينا دستور بأنه يجب التعامل مع أيّ إنسان بأيّ شكل من الأشكال، وأن نمشي مع أيّ شخص كيفما كان، كلاّ، بل الكثير منهم كانوا ينحرفون وإن اتصفوا بأنّهم من السالكين.. كان فكرهم فكراً منحرفاً.
في أواخر حياة المرحوم العلاّمة كان لديّ كلام مع أحد طلاب العلم المشايخ، فقال:
أنا أقلّد فلاناً الذي كان أحد المراجع في ذلك الزمان؛ لأنّي أعتبره أعلم من المرحوم العلاّمة.
فقلت له: هل تراه أعلم من العلاّمة؟! في أيّ مسألة هو أعلم منه؟ فأنا لست سماحة العلاّمة، بل أنا طالب علم صغير، فأخبرني ما هي المسألة التي وجدته أعلم من العلاّمة فيها؟ فأنت من أهل الفضل ودرست الأصول والفقه... ففي أيّ مسألة هو أعلم؟
فقال: إنّه قد اشتغل في الأصول كثيراً،
فقلت له: افتح أذنيك جيداً.. لقد سألتك بأيّ مسألة هو أعلم؟ لا تلقي كلاماً عامّاً، بل حدّد لي المسألة التي هو أعلم فيها بشكل دقيق، ما هي؟
فضرب لي مسألةً كمثال يدلّ على أعلميّته، فناقشته فيها وبيّنت له حقيقة الأمر بوضوح، وأثبتّ له بطلان المبنى الذي يتبنّاه ذلك المرجع في هذه المسألة بشكل مسلّم، وبعد ذلك قلت ماذا بعد؟ هات المسألة الثانية!!
انظروا! في السنوات الأخيرة من حياة المرحوم العلاّمة، نرى أن فهم طالب علم فاضل حضر عنده ما يقرب من خمسة عشر عاماً في مسجد القائم وأيام الجمعة.. هو بهذا المقدار.. ومع ذلك المرحوم العلاّمة لا يقول شيئاً، ماذا يقول؟ هل يقول للناس قلّدوني؟ هل رأينا ولياً إلهياً قال لأحد من تلاميذه قلّدني؟ أبداً لم يحصل ذلك.. بل يقول لا أريد أن تفعل ذلك أبداً!! إنّه يقول هذا أنا.. وهذا طريقي.. وكلٌّ يعرف الأمر ويعمل به بمقدار فهمه، ما علاقتي أنا بذلك...
لقد قلت لذاك الشيخ ما هي المسألة الثانية؟ واللطيف بالأمر أنّ هذه المسألة بالذات كنت قد درّسته إياها في "الكفاية" وناقشتها هناك، فقلت من المعلوم أنّك لم تفهم الدرس جيّداً... وهؤلاء هم الأشخاص الذين انحرفوا بعد وفاة المرحوم العلاّمة، هم الذين انحرفوا..

    

ضرورة طرح الأسئلة ضمن حدود الاستفهام لا التشكيك

لذا كان المرحوم العلاّمة يوصينا بأن نختار الرفقاء الذين يقوونا في رفقتنا لهم، ويقوونا في السلوك والسير، وفي معرفة المباني، ويكونوا لنا عوناً في طريقنا، لا أن يكونوا موجبين للشك والترديد والفتور والشبهات وغيرها، أمّا أولئك الذين يلقون الشبهات...
إنّ الشبهات لها جواب في النهاية ، ولكن ما هي المصلحة في أن نلقي الشبهة على شخص لا اطّلاع لديه على المطالب؟ ما الحُسن في ذلك؟ ما الحسن في أن يلقي الإنسان الشبهة على هؤلاء الأفراد، ويكون موجباً لشكّهم وترديدهم؟ ما الفائدة في ذلك؟ إذا كان لديك شبهة، تفضّل واطرحها، لتجد الإجابة على الشبهة.. وإلاّ فلماذا نقيم هذه المجالس؟ إنّنا نقيمها لأجل أن نجيب على هذه الشبهات. لقد أعلنّا منذ عشرين عاماً إلى الآن بأنّ كل من لديه شبهة في مسألة فلسفيّة أو عرفانيّة أو سلوكيّة أو اجتماعيّة أو فقهيّة أو غير ذلك.. فليأت وليطرحها، وسيجاب عليها، فنحن ليس لدينا شيء نخفيه وراء الستار أو بالخفاء، بل ما لدينا هو ما نطرحه على الملأ.
لقد كتبت رسالة في الطهارة الذاتيّة للإنسان.. فقيل بأنّ هذه الرسالة تحتوي على أمور منحرفة.. وقد صدر هذا الكلام من أشخاص يدّعون بأنّهم هم الناشرون للعلم والمبلّغون للأحكام... فأرسلت لهم رسالة كتبت فيها: هذا الأسلوب من طرح الكلام لا يناسب أهل العلم والاختصاص، فقد ذكرت في نهاية الرسالة بأنّه إذا كان لدى شخص نقد أو إشكال فليمنّوا به علينا حتّى نقوم بإصلاحه، وقد أرسلت هذا الكتاب للجميع، وحتّى الآن لم يأتني أيّ ردّ. إن أسلوب أهل العلم والفضل قائم على تبادل العلم والمطالب.. فهل نحن معصومون؟ كلاّ ! إذ قد أرى أمراً طبقاً لبعض الأدلة، ويمكن أن تكون هذه الأدلّة مفيدةً لأمر آخر بناء على اختلاف النظرة وظروف المسألة وجهاتها، وإمام الزمان ليس ظاهراً لنا حتّى نسأله عن حقيقة المسألة؛ هل هي هذه أو تلك؟ بل وظيفتنا أن نعمل على أساس الظاهر وطبقاً لهذه الأدلة. ومن هنا فلا داعي لإطلاق الشائعات والشعارات و القول بأنّها مسائل منحرفة..
وقد كتبت رسالة أخرى باسم الإجماع، ناقشت فيها أصل الإجماع وأثبتّ عدم حجيّته من الأساس، وذكرت بأنّه نحن [الشيعة] ليس لدينا إجماع أصلاً، بل الإجماع إنما نشأ من قِبل العامّة، وليس لدينا أكثر من ثلاثة مدارك أساسية هي: العقل بصفته حجّة متصلة، وكتاب الله بصفته حجّة منفصلة، وسيرة الأئمة المعصومين فقط. وهذه المدارك الثلاثة هي الحجّة لدى الشيعة.. لكن بعد ذلك شرع بعضهم بإطلاق الكلام والاتّهام... نعم.. كان ذلك بوتيرة أقلّ من الكتاب الأول. وفي النهاية قلنا: هذه المطالب هي ما لدينا، وكلّ من لديه مطلب آخر، فليأت وليعرضه.. هذا هو طريق المدرسة الحقّة التي لا تفرّ من البحث والمناقشة، والذي يخاف هو الذي يفرّ من المناقشة والمباحثة، لا الذي يرى نفسه ممكن الخطأ ومع ذلك يقرّ ويذعن بالسنّة وإشراف الإمام صاحب الزمان عليه السلام.. فهذا لا خوف لديه، لماذا يخاف الإنسان من مطلب الحقّ؟ لماذا أخاف من أيّ مسألة؟ لا معنى لذلك.
بناء على ذلك، يجب علينا أن يكون أسلوبنا وطريقتنا هي أن لا نتحدث حول ما يمكن أن يوجب لنا التشويش والتشكيك والترديد، ولا نشغل أذهاننا ونخرّبها بلا طائل، هذا هو الواقع. فعندما يأتي إنسان وينقل مطلباً بشكل مخالف، فلا شكّ في أنّ ذلك سيترك أثراً سيئاً في نفس هذا الإنسان.. سوف تتغيّر حالة عبادته في تلك الليلة، فلماذا يتكلّم الإنسان بذلك؟ بل عليه أن يمسك لسانه، ويطبق فمه، إذ لا ضرورة لهذا الكلام.. والكثير من المطالب التي نرى أنها ضروريّة.. هي في الواقع ليست كذلك، نعم أحياناً تكون المسألة ضرورية، فعندئذٍ إذا لم يتكلّم الإنسان قد تحصل أمور غير صحيحة، وعليه أن يدفع ذلك بالكلام و ينبغي أن نقف في وجهه، لكن إذا كان الكلام عاديّاً؛ بأنّ فلاناً قال كذا وفلاناً قال كذا.. وينقل مطالب تؤدي إلى اليأس والقنوط.. فلا داعي لها بتاتاً، متى كان كلامنا صحيحاً مائة بالمائة؟
وبشكل عامّ، نرى أن بعض الأشخاص مرضى؛ حيث يسعون دائماً لمعرفة نقاط الضعف عند الآخرين.. وإذا كان هذا الشخص مسؤولاً عن عمل معيّن تراه يعرض نقاط القوّة فقط، بينما إذا لم يكن هو المسؤول فإنّه لا يلاحظ إلاّ نقاط الضعف فقط. وقد شاهدنا هؤلاء الأشخاص بعد وفاة المرحوم العلاّمة؛ حيث شاهدنا حصول اختلاف في المطالب، وكان هناك إصرار من الطرف المقابل علينا لكي نقبل بالمطالب الباطلة، ولكنّنا لم نقبل بذلك، بل كنّا نقول الباطل باطل ولا يمكن أن نقبل به، وما دامت صحة الأمر لم تثبت لنا فلن نقبل به أبداً. والآن نقول ذلك تماماً بعد انقضاء سبعة عشر عاماً، فالأمر لم يختلف بالنسبة لنا.

    

من الخطأ مقارنة الحق بالباطل والمساواة بينهما

وكم هو مجحف ما يتمّ عرضه من أن هناك نمطين للتفكير مختلفين، ولكلّ منهما أتباع، فهؤلاء لا يقولون بأنّ هذا النمط من التفكير باطل والآخر حقّ، إنّ هذا الكلام مجحف تماماً و بعيد عن المروءة، والآن يقال هذا الكلام أيضاً؛ حيث يقولون بأن هناك شخصين ونمطين وطريقين ومشروعين وأسلوبين في التفكير.. لكلّ منهما أتباع وأنصار. في زمن الحركة الدستوريّة كان الكلام كذلك؛ حيث كان هناك بعض الناس يقول بأن الحكومة يجب أن تكون على أساس السلطنة واستبداد الحاكم بالحكومة؛ فهو الذي ينصب ويعزل ويوكّل ويقوم بجميع الأعمال، هذا النظام نظام باطل، وفي المقابل كان هناك أشخاص يقولون بأن الأمر بيد الناس، وعلى الحاكم أن يطيع الناس فيما يقوم به، هذه هي الحركة الدستوريّة.. ومن الواضح أن كلا الرأيين باطل، وكلٌّ من الأمرين يحتوي على نقاط ضعف، لذا المرحوم العلاّمة قال: لم يقم أحد في ذلك العصر لينادي بالحكم الإسلامي، لا نظام السلطنة ولا النظام الدستوري، بل علينا أن نرى ما يقوله الإسلام ونعمل به.. ونرى بيَدِ أيّ شخص وضع الإسلام هذا الأمر، فعلينا أن نرى الإسلام ماذا يقول في هذه الأمور، الإسلام يقول بأن الراية يجب أن تكون بيد الإمام المعصوم عليه السلام، أو بيد من يرتبط بالإمام فقط؛ كسلمان.. وفي المراتب اللاحقة هناك مباني وأمور أخرى سوف نطرحها فيما بعد إن شاء الله..
ولكنّ الأمر هنا فيما نحن فيه ليس كذلك، إنّه مثل قولنا ـ مع الفارق الكبير ـ بأنّ الخوارج وأمير المؤمنين مذهبان مختلفان، وكلّ من هذين المذهبين له أتباع، فالخوارج لهم أتباعهم، ولعليّ أتباعه وأنصاره.. كلاّ.. بل أحدهما باطل حتماً، فالخوارج على باطل، عليٌّ هو الحقّ وأتباعه على الحقّ، وقولنا بأنّهما مذهبان تعبير خاطئ، نعم إذا أردنا أن نقيس الخوارج مع معاوية يمكن أن نقول هما مذهبان، إذ كلاهما على الباطل.. الخوارج ومعاوية، أما أن يأتي رجل ـ كأبي موسى الأشعري ـ ويقول: لقد رأينا بأن الخلاف وقع بين الأمّة الإسلامية؛ قسم اتّبع معاوية وقسم اتّبع عليّاً، ولذا وفقت جانباً حتّى لا يراق الدم الحرام.. [فهذا خطأ، و نحن نقول له:] لقد أخطأت في ذلك.. بل عليك أن تذهب وترى الحقّ أين هو فتتّبعه.

    

المدار هو اتباع الحق والانقياد له

الكلام ليس في إراقة الدماء، بل الكلام في الحقّ، فأين وجد الحقّ، فاذهب وقف تحت رايته، وحينئذٍ فإن قيل لك انهض! فانهض، وإن قيل لك اجلس! فلا يجوز لك القيام.. فالحقّ فقط هو الذي يجب أن يلاحظ ويُتّبع. وفي زمن عليّ كان الحقّ يدور حول محور أمير المؤمنين، فلو قال: اذهب يجب الذهاب.. وفي زمن الإمام المجتبى كان هو محور الحقّ، فإن قال لا تذهبوا ـ مع ملاحظة الأمور التي جرت في عصره ـ فهل يجب الذهاب؟ كلاّ، في زمن الإمام المجتبى أتى بعض الأصحاب الذين كانوا مادّيين في فكرهم، غاية الأمر أنّهم كانوا مسلمين.. أتوا وطلبوا من الإمام المجتبى القيام ومحاربة معاوية، لا أنّهم أتوا إلى الإمام وانتظروا منه ما يقول وامتثلوا أمره.. لا، بل قالوا له: لماذا لا تحارب؟ لماذا لا تقوم؟ لماذا تسببت بالذلّ للمؤمنين؟! لا تظنّوا أنّ المسألة مختصّة بهذا العصر.. كلاّ بل هي موجودة دائماً؛ في عصر الأئمّة وبعد عصر الأئمّة؛ حيث كان هناك أفراد لا يرون أن محوريّة الحقّ تدور حول خصوص الولاية، بل كانوا يرون أنّ المحور ـ بحسب نظرتهم ـ هو الظاهر والعمل بالظاهر.. فكانوا يرفعون شعار محاربة الظلم مثلاً... نعم.. محاربة الظلم أمر مطلوب، لكن هذه المحاربة في أيّ ظروف ينبغي أن تحصل وفي أيّ شروط؟ فهل فكروا في هذا الأمر؟ عندما نرى أن عدداً من السارقين والمجرمين اقتحموا عليك دارك ليلاً.. فماذا تفعل؟ فهل تقوم بمواجهتهم؟ لو فعلت لما صمدت أمامهم أبداً، ولأراقوا دمك مباشرة، ماذا تفعل؟ ما هي وسيلة مواجهة هؤلاء؟ هل هي المصارعة والمحاربة، باعتبار أن ذلك وقوف أمام الظلم؟ إذا كان كذلك فسوف تخسر كل شيء، ولن يبقى شيء حتّى تدافع عنه مقابل الظلم، فتكون قد خسرت روحك ومالك وكل شيء لديك، أليس كذلك؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فلماذا لم يثُر الإمام السجّاد؟! ولو لم يكن الأمر كذلك فلماذا لم يقم الإمام المجتبى والإمام الصادق، وكذا الإمام الرضا؟! ستقول الظروف لم تكن مناسبة! إنّ هذا هو الذي نقوله.. نقول بأن الموقعيّة والظروف لم تكن مناسبة لقيام هؤلاء الأئمّة.. ولا خلاف في ذلك. وبذلك يمكن أن نفهم الروايات التي وردت عنهم في هذا الأمر...

    

ضرورة تحديد الوظيفة العملية على أساس الحق والإمام والمرتبط بالإمام

في ذلك الزمن كان الأمر كذلك، لم تكن الولاية هي المحور عند هؤلاء الأفراد، ولم يكن إمام الزمان هو المحور، المحور كان هو "وجود معاوية"، و ليس المقصود أنّهم كانوا يريدون اتّباع معاوية، فحجر بن عديّ لم يكن من أتباع معاوية، بل كان من أصحاب الإمام المجتبى، لكنّ تفكير حجر بن عدي كان في وجود معاوية المنحوس، بمعنى أن وجود معاوية هو الذي كان يملأ ذهنه، ولم يدع مجالاً لورود الوجود المقدس والمبارك للإمام المجتبى. هذه هي المسألة، فعندما نرى أن هناك وليّاً إلهيّاً، فلن يكون لدينا مجال في التفكير بما ينبغي القيام به؛ لأن القلب لا يقبل وجود محبوبين، لو كان ذهن حجر بن عدي وفكره مملوءاً بالإمام المعصوم لما أتى واعترض، بل كان يقول: ما دخلي أنا بذلك، و ما علاقتي به؟! لنفكّر الآن في هذه المسألة، فلو فرضنا أن معاوية هو الذي يستلم زمام الأمور، فما دخلي أنا بذلك، ألا يوجد رؤساء سيّئون في العالم؟ كرئيس أمريكا واستراليا وروسيا وغيرها من الدول... فهل لدينا علاقة بهم؟ فهؤلاء يحكمون بلادهم.. ونحن علينا أن نراعي ما هو المطلوب منا في حدودنا المطلوبة.. حسناً، في عصر الإمام المجتبى كان معاوية هو الذي يدير أمر الحكومة، ما علاقتنا نحن بذلك؟ فهل حكومته تكون مانعاً لنا من الصلاة؟ وهل تمنعنا من الصوم؟ أو من الحجّ؟ الإمام المجتبى جلس وسكت، أمّا نحن فتركنا قول الإمام المجتبى ولم نلتفت إليه، وقلنا بأن معاوية في الشام يحكم البلاد الإسلاميّة، يا عزيزي، إن كان معاوية الحاكم فليكن.. فمعاوية في الشام، وملك الروم في بلاد الروم، فهل علينا أن نحاربه ايضاً؟ و بعد ذلك، فهل علينا أن نحرّر العالم بأسره من الحكّام الظالمين؟ ماذا نريد أن نفعل؟ إنّ المقدار الذي أتيح لنا هو المقدار الذي يكون تحت طاعة الولي الإلهي الذي هو الإمام المعصوم عليه السلام أو من يكون متّصلاً بالإمام المعصوم، لقد أتيح لنا أن نعيش تحت ظلّه و نؤدّي عبادتنا و صلاتنا و صومنا و نقضي حياتنا و انتهى الأمر. المهمّ أن نكون تحت إشرافه عليه السلام.. هذا هو الذي يسمّى بالتشيع العلويّ، إنّ الشيعيّ الحقيقيّ هو ذلك الذي يؤدّي أموره و تكاليفه تحت ولاية الإمام المعصوم أو المتّصل بالإمام المعصوم ـ لا المدعين للاتصال الذين كثروا في هذه الأيام ـ تلك الأمور التي توصل الإنسان إلى مرتبة الكشف والفعلية، هذه هي وظيفتنا، وهذا هو ما يسمى بالتشيّع.
و لكن إذا أتينا ووضعنا هذا الأمر جانباً، ونظرنا إلى المسألة من جهة أخرى ولحاظٍ آخر، وقلنا بأنّه يجب علينا أن نفعل هذا الأمر.. فقولنا بأنه يجب الإتيان بهذا الأمر: هل الإمام المعصوم أمضى ذلك أم أنّنا نظنّ بأنّه أمضاه؟ أليست مواجهة الظلم واجبة؟ فلماذا إذاً قال أمير المؤمنين لا تقتلوا عثمان؟ ألم يكن عثمان ظالماً؟ لماذا قال الإمام لا؟ الجواب أوّلاً: لا علاقة لنا بفعل الإمام عليه السلام ولا بأن نسأله لماذا قمت بذلك، بل هذا من فضول الكلام منّا، وهذا من جملة الأخطاء التي نقوم بها مع الإمام المعصوم عندما نطالبه بدليل على فعله، بل نفس كلام المعصوم هو الحجّة؛ سواءً بيّن ذلك بدليل أم لم يبيّن، فوظيفتنا إطاعة الإمام المعصوم لأنه معصوم فقط، ألا تقول بأنه إمام معصوم، وأنّ كلامه عين الحقّ وعين الواقع؟ فإن قال لك كلْ هذا! فعليك أن تمتثل دون أن تسأل، وتقول له: يا ابن رسول الله هل ما أمرتني بأكله طاهر أم نجس؟ وإن كان طاهراً فهل هو مفيد أم مضر؟ وهذا المفيد هل هو ضروريّ أم لا؟ لا داعي لذلك أبداً، فعندما يقول الإمام الرضا كلْ هذا! فعليك أن تأكله، دون أن تسأل عن أيّ شيء آخر.. فإمّا أن ننكر عصمة الإمام عليه السلام ونقول بأن الإمام كسائر الأشخاص يشتبه ويخطئ في تشخيص الأمور؛ بأن يأمر بما فيه ضرر الإنسان عوضاً عن أمره بما فيه مصلحته.. أو أن نكون معتقدين بعصمة الإمام، وعند ذلك لا يجوز لنا أن نسأل لماذا وكيف ومتى... كل ذلك لا معنى له.
عندما دخل هارون المكّي على الإمام الصادق عليه السلام وقال له الإمام ادخل إلى التنّور، هل سأله هارون لماذا تأمرني بذلك؟ كلا، بل قام ودخل في التنّور مباشرة.. هذا الذي يسمّى شيعيّاً، هذا الذي جعل محور فكره ورأيه وفعله يدور حول العصمة والولاية، هذا هو الشيعيّ الحقّ. أمّا إذا تنازلنا عن ذلك، ولم نقبل به، بل قمنا بجعل التكاليف للإمام... فلن نكون كذلك.
عندما كان المرحوم الوالد في طهران، وكنت في قم في ذلك الوقت، أتيت في إحدى المرات إلى طهران لأمرٍ ما، فأتى يوماً شخص إلى المنزل، وبما أنّي كنت أقدّم الشاي وسائر الأمور، بالإضافة إلى أنني كنت في الغرفة الملاصقة لمكان جلوسهما؛ بحيث كان الصوت يصل إلى مسامعي.. فقد اطّلعت على ما كان يجري في تلك الجلسة، ومن جملة الكلام الذي جرى فهمت أن هذا الشخص مع إقراره بأنّ المرحوم الوالد أعلم منه وأبصر منه في الأمور، ومع المحبّة التي كان يكنّها له.. إلاّ أنّه كان يريد أن ينتزع منه موافقة بخصوص قضية معيّنة (ولا داعي لبيان هذه القضيّة).. يعني أنّ هذا الشخص من جهةٍ يعلم بأنّ هنا شيئاً غير موجود في مكان آخر، وأنّ الرأي الموجود هنا رأي ثاقب.. ولكن من جهة أخرى فإنّ ميله وهواه في الجهة المقابلة...
هاهنا ينطبق ما بيّنته لكم قبل قليل من أنّ المسألة لا ترتبط بنا، و لا علاقة لنا بما سوف يحصل من أحداث، بل علينا أن نقوم بتكليفنا و واجبنا؛ فنؤدّي صلاتنا وصومنا و نقوم بتبليغ الدين في الحدود التي رُسمت لنا، لقد قالوا لنا: اذهب و بلّغ الدين، و تولّ إمام الجماعة، و ألقِ المحاضرات و الخطب، اذهب إلى هنا .. و لا تذهب إلى هناك... فلنفعل ذلك و لنكتفِ به... علينا أن نقوم بذلك، ثمّ نترك مسؤوليّة الباقي على كاهلهم هم.
كان المرحوم السيد الحداد يقول: القوا الثقل والحمل علينا فنحن حمّالو الأثقال، يعني امضوا ونحن نضمن لكم الأمور، وما نقوله لكم الآن نتحمل مسؤوليّته يوم القيامة.. ونحن مع أنّنا نقبل بذلك، لكننا لا نعمل به بل نمضي في السبيل المعاكس!! إنّ هذا لشيء عجيب!! فهذا الأمر و هذا الكلام قد صدر من نفس هؤلاء الأشخاص.. أولئك الذين ذهبوا إليه وقابلوه وقالوا عنه بأنّه إنسان عجيب وغير سائر الناس.. فإن كان الأمر كذلك، فلماذا لا تأتي وتستشيره في أمور هامّة ومصيريّة بالنسبة إليك؟ وتسأله: هل نُقدِم على هذا الأمر أم لا؟ لماذا لم يسأل؟ لأنه خاف أن يجيبه بـ "لا".. خاف أن يقول له لا تدخل في هذه القضايا، وهنا قد تنقلب جميع الأمور رأساً على عقب..

    

اتّباع كلام الناس يؤدي إلى المهالك

فقد يأتي أحدهم ويقول له: مولانا لماذا لم تأت أمس؟ فماذا يقول له؟! ثمّ يتصل آخر به ويقول له: لقد كان الجميع بانتظارك في المجلس.. ثمّ تأتيه رسالة من هنا و كلام من هناك.. ويبدأ الناس بالكلام.. نعوذ بالله من هؤلاء الناس، نعوذ بالله من هؤلاء الناس الذين يحيطون بالإنسان ويأخذونه من جميع جهاته؛ بعضهم يمسكه بيده وبعض بقميصه وبعض برقبته.. ويسوقونه إلى جهنّم!! إلى جهنّم الهوى والتخيّل والكثرات!
هنا يحتاج الإنسان أن يكون رجلاً شجاعاً.. فإن قيل له: لماذا لم تأت أمس؟ فعليه أن يقول: لم أستطع القدوم.. لم يحصل ذلك.. عذراً. وإن قيل له: هل ستشارك في تلك الجلسة، فعليه أن يقول: لن أشارك. وإن قيل له: لماذا؟ يقول: لا يوجد لماذا، أنا لا أريد المشاركة... فهل المشاركة بالقوة؟ وإن قيل: لقد أقمنا الترتيبات والجميع ينتظرون قدومك، فإنّه يجيبهم: فلينتظروا وليحملوا مسبحة في أيديهم ويذكروا الله... إنّ هذه المسائل كانت تحصل مع المرحوم العلاّمة.. لا أنّي أذكرها لكم هكذا.. ولكنّ المرحوم العلاّمة كان رجلاً .. كان حراً .. كان مستقلاً متمكّناً ومتقناً.. وكان متغلّباً على إحساساته؛ فعندما كان يشعر بأن المسألة خارجة عن إطار رضا الله تعالى، فقد كان ينهيها سريعاً؛ سواء اتصلوا به ـ لم يكن لديه تلفون في ذلك الوقت ـ وسواء أتوا إليه وأقاموا جلسات.. وكذا الأمر عندما كان في مشهد.. فكان يقول لهم: إما أن تكون المسألة هكذا، أو ننسحب منها، وكان ينسحب منها نهائياً.
أمّا الآن فقد رحل أكثر هؤلاء من هذه الدنيا، فعلينا الآن أن ننظر إلى ذلك العالم لنرى أيّهم هو المتقدّم وأيّهم المتأخّر؟ فجميعهم ذهبوا إلى ذلك العالم، وصاروا ينظرون بعين البصيرة، وهناك يُعلم من الذي فاز، ومن الذي تغلّب على إحساساته ولم يستسلم لها.. إذا أتى الناس وقاموا بمدح أحدهم، ينهار الإنسان من ذلك.. فهل من الواجب علينا أن نستمع إلى كل ما يقال لنا؟ نقول بأننا إذا لم نستمع إليه و نتبع ما يقوله فسينكسر قلبه.. من قال أن عليّ فعل ذلك؟ فلو قيل لي: تناول هذا السمّ، فهل أتناوله؟ كلاّ، إذا تناولته فسأموت.. جميع هذه الأمور.. هي سمّ. هذه المجالس والعلاقات والكلام والمدح والإعلانات والمواقف.. جميع هذه الأمور هي سمّ، وهذا السمّ يأتي ويتفاعل وتظهر نتائجه تدريجيّاً.. لا أنّه يظهر بشكل دفعي كسائر السموم القويّة، بل بعض السموم تؤثر بشكل تدريجي؛ فيبدأ الإنسان بالضعف والتأثّر به تدريجياً، فيضعف جهاز مناعته شيئاً فشيئاً... إلى أن يموت بأدنى مرض؛ إنّه يهيّئ جسم الإنسان بالتدريج ليتلقّى المرض في مرحلة أخرى، ولكن إذا كان الإنسان قويّاً فإنّه يردّه و يرفضه من بداية الأمر.

    

ضرورة أن يكون الإنسان حرّاً أمام الآخرين

الدرس الذي أعطانا إياه المرحوم العلاّمة هو أنه علينا أن نكون في علاقاتنا بالآخرين أحراراً، إذا أراد شخص أن يخدعك.. فامنعه دون تردّد، وإذا أراد أحد أن ينصر عليك ميولك وأهواءك.. فقفْ، ولا تقبل بذلك؛ سواء كان صديقاً لك أم لا، وسواء كان الذي يريد أن يخدعك هو المجتمع بأسره.. فالمجتمع عبارة عن هذه الأحجار والجدران، ليس أكثر. عليك أن تقف بصلابة إلى أن تصل إلى مقصدك.
في تلك الليلة ـ التي جرت فيها هذه الجلسة ـ شاهدت في الرؤيا بأنّا كنّا جالسين: ذلك الرجل والمرحوم العلاّمة وأنا، والمرحوم العلاّمة كان ينقل أموراً، وكان ذلك الرجل مطرقاً برأسه إلى الأرض، لكنّه لم يأخذ بما قاله المرحوم العلاّمة، مع أنه كان في باطنه مقتنعاً تماماً بما كان يقوله، ولكنّه لم يرتّب على هذه المطالب أيّ أثر. وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى المرحوم العلاّمة وقصصت عليه الرؤيا، فقال هذه رؤيا صادقة، والأمر كما شاهدت في الرؤيا. هذا والحال أن العلم والاعتقاد والإذعان.. كلها تقتضي في هذه الموارد أن يختار الطريق الأولى والأفضل والأرجح.
صارت الساعة الثانية عشر وعشر دقائق، والرفقاء قد تعبوا، و أنا كذلك...
هذا هو الدستور الذي أعطانا إياه العظماء، وهو أن لا نقدم على ما فيه ضررنا وهلاكنا وتضييع استعداداتنا لأجل إرضاء الآخرين.
إنشاء الله بقية المطالب نتركها لليالي اللاحقة.
اللهم صل على محمد وآل محمد.

    

 

 

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی <-- -->