معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
المقالات و المحاضرات > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 201 إلى الأخير > شرح حديث عنوان البصري ـ الجلسة 210: هل الوصول إلى أقصى درجات الكمال متاح أمام الجميع؟

_______________________________________________________________

هو العليم

هل الوصول إلى أقصى درجات الكمال
متاح أمام الجميع؟

شرح حديث عنوان البصري المحاضرة رقم 210

ألقيت في الحادي والعشرين من شهر رجب لعام 1434 هـ ق

سماحة آية الله

السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد للـه ربّ العالمين
وصلّى اللـه على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين

كان من المقرّر أن نتكلّم فيما يرتبط بأيّام رجب المباركة وكذا شهري شعبان ورمضان، ولعلّ جميع هذه الأمور معلومة لدى الإخوة، لكن نتحدّث بها من باب التذكير فقط.

    

الإنسان قادر على الوصول إلى ما وصل إليه الرسول والأئمة عليهم السلام

أمر بعض الإخوة بأن نمرّ على هذه المطالب، كما كان ديدَن المرحوم الوالد التذكير في بداية حلول شهر رجب بالأمور التي ينبغي أن تُفعل في هذه الأشهر.
أذكر أنّه في ذلك الوقت كانت هذه المطالب تُطرح بشكل جادّ من قبله، وكان يطرحها وكأنّه يعيش في تلك الأجواء ويشرف عليها، بل كان أحياناً يبيّن ملاحظات لبعض الإخوة.
رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «لولا تمريج في قلوبكم وتكثير في كلامكم لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع»، وهذه الرواية عجيبة جداً وتحتوي على نكات دقيقة ولطائف عميقة.
إذا كان الإخوة يتذكّرون في إحدى هذه الجلسات ـ ولعلّه في خطبتي عيد الفطر ـ ذكرت توضيحاً حول دعاء القنوت الذي ندعو به في صلاة العيد: «اللهمّ أدخلني في كلّ خيرٍ أدخلت فيه محمّداً وآل محمّد، وأخرجني من كلّ سوء أخرجت منه محمّداً وآل محمّد، صلواتك عليه وعليهم أجمعين»، ثم نقرأ: «اللهمّ إنّي أسألك خير ما سألك به عبادك الصالحون وأعوذ بك ممّا استعاذ منه عبادك المخلصون»، هذه الفقرة الأخيرة تشتمل على مسألة عامّة، أمّا الفقرة الأولى: «اللهمّ أدخلني في كلّ خير أدخلت فيه محمّداً وآل محمّد» فكيف يمكننا أن نتصوّر ما تفيده هذه الفقرة؟ إنّ تصوّر هذه المسألة صعب علينا لبعدنا عن المعارف.. حيث قيل بأنّنا في هذه الموارد مكلّفين بحكاية هذه القضية فقط؛ وقد ذُكرت هذه المسألة في الكتب، إذ أين نحن من رسول الله، وأين نحن من الأئمّة؟!
في هذا القنوت ندعو خمس مرّات في الركعة الأولى وأربعة في الثانية؛ أي تسع مرات! نطلب من الله أن يدخلنا في كلّ خير أدخل فيه محمّداً وآل محمّد، فما يعني ذلك؟ وكيف يمكن أن يصل الإنسان إلى تلك المرتبة من القرب والتجرّد التي يلزم منها نزول البركات والرحمات الإلهيّة بالنحو الذي ينزل على محمّد وأهل بيته؟ كيف يمكن أن يصل الإنسان إلى هذا الأمر، أو أن يتصوّر ذلك بذهنه؟ كيف يمكن للإنسان أن يتصوّر الدخول في كلّ خير..

    

معنى مقام العصمة والإمامة

إنّ الرسول وأهل بيته قد وصلوا إلى مقام العصمة، وواضح أنّ مقام العصمة ليس أمراً سهلاً، فمقام العصمة الذي لدى المعصومين يعني أنّ تلك النفس القدسيّة التي لديهم قد وصلت إلى مرتبة لا يبرز منها إلا الخير فقط، ويستحيل أن يصدر منها ما يخالف رضا الله تعالى.
الآن العبد [يعني السيّد نفسه] لديه طريقان في كلّ أمر؛ طريق الثواب وهو رضا الله، علماً بأنّ رضا الله له مراتب أيضاً؛ إذ هناك المرتبة الدنيا وهي مرتبة الصالحين وأعلى منها مرتبة الأبرار، وأعلى منها مرتبة المقرّبين وهكذا... لا أنّ رضا الله في مرتبة واحدة فقط؛ فقد يكون رضا الله أحياناً في القيام بالعدل، وتارة يكون أعلى من ذلك؛ بأن يكون في مراعاة الفضل والإيثار؛ {وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ}[1]، هل التفتّم؟!
عندما ننظر في كلمات العظماء وما يذكرونه من أوصاف للمعصومين عليهم السلام، ونرى في أيّ مرتبة من مراتب الكمال والقرب هم، نتحيّر من ذلك. إذ هل يمكن لبشر أن يصل إلى مرتبة؛ بحيث يضحّي بأعزّ وأنفس وأهم وأعلى ما لديه لكي يهدي الناس! لا يمكن تصوّر هذه المسألة إلا بالنسبة إلى من وصل وشعر بتلك الحقائق بشكل شهودي وحضوري، وذاق طعمها حقيقة. وقد شاهدت هذا الأمر حقيقة من خلال تجربة ارتباطي بالأولياء الإلهيّين؛ لذا يمكنني بيان المنطلق الذي كان العظماء يعبّرون فيه عمّا جرى للأئمّة عليهم السلام ولسيّد الشهداء!!
وعلى كل حال فقد طرح العظماء في هذا المجال كلاماً وبيّنوا أموراً [في علوّ الإمام]، لذا لا يطلق عليهم اسم "إمام" جزافاً، بل هناك أمر أوجب أن يكون الإمام إماماً، يعني في أيّ مرتبة من المراتب أمكنك أن تتصوّر إنساناً كاملاً، ينبغي أن يكون الإمام هو القدوة لك لا أيّ شخص آخر. في كلّ قضيّة؛ في العدالة، في الرحمة، في العفو والصفح، في الإنصاف والعطف والرأفة، في العلم والتقوى.. في كلّ شيء تريد أن تتصوّره من حسنات وملكات وفضائل، أيّ أمر في أيّ مرتبة يمكن أن تصل إليها لا يمكنك أن تتصوّر أنك مستغن عن الإمام فيها، ففي كلّ مورد تذهب إليه ترى الإمام أمامك، في كل قضيّة تريد القيام بها ترى أنّ الإمام قد سبقك إليها، وعندما تصل إليها ترى أنّ الإمام متقدّم عليها أيضاً، وهذا أمر عجيب؛ إذ أنّك في كل مرتبة ترى أنّ هناك مرتبة في داخل تلك المرتبة، مرتبة هي أعلى منها، وهكذا إلى أن يصل الإنسان إلى مرتبة الفناء، حيث لا يبقى هناك ذات حتى تتابع وتنقاد، وهذه المرتبة هي الفناء الذاتي، وحتّى هناك أيضاً وبعد أن يحصل السالك على مرتبة البقاء، والذي هو مصاحب لتجلّي الأسماء وتجلّي الصفات، يرى ويشاهد أنّ بقاء الإمام عليه السلام بنحو أتمّ وأكمل من غيره.
والحاصل أنّه في كلّ حال؛ سواء في مرحلة الصعود أو البقاء يبقى الإمام إماماً، وهو أمامنا وينبغي أن نبقى مطيعين له ومنقادين إليه، هذه النفس تصير مندكّة في نفس الإمام، وتأخذ من نفس الإمام وتقتات من فتات مائدة المعصوم عليه السلام. هذه القضيّة قضيّة الإمام، وهذا الذي يقال له إمام ويقال له معصوم، هل التفتم؟!

    

ضرورة الاقتداء بالمعصوم في كلّ شيء

يعني في كل مرتبة تتصورها ينبغي أن ترى ما الذي قاله المعصوم فيها؟ فإن كان المعصوم قد تكلّم فيها فلا حاجة بعد ذلك أن ننظر إلى ما قاله هذا وذاك، ينبغي أن نرى ما الذي قاله المعصوم وما الذي قاله الإمام؟ ما الذي قاله النبي؟ من هنا نقرأ في الدعاء: «اللهمّ أدخلني في كلّ خير أدخلت فيه محمّداً وآل محمّد»، يعني أنّه يا ربّ أدخلني في كلّ مرتبة من مراتب القرب التي أدخلت فيها محمّداً وآله، ما ذاك؟ يعني أنّ النبي إذا كان يشرب الماء، فإنّي أريد أن أشرب من ذاك الإناء الذي شرب منه النبي لا من إناء آخر ولا ماء آخر، وإذا كان النبي يشرب العصير فأريد أن أشرب من هذا العصير، وإذا كان يأكل فأريد أن آكل من طعامه، كل ما يقوم به أريد أن تمنحني إيّاه يا رب؛ ذاك العلم الذي يفاض عليه الآن أفضه عليّ أيضاً، وتلك القدرة التي تفاض عليه أفضها عليّ نفسها، وتلك البهجة والبهاء والنورانيّة التي تملأ وجوده الآن اجعلها تملأ وجودي أيضاً.. نعم السعة والظرفية تختلف.. لكن الأمر هو نفسه لا شيء آخر. يعني أنّ هذا الإبريق من الماء له سعة بهذا المقدار، بينما الكوب له سعة بمقدار مختلف، لكن الماء هو عينه دون أيّ اختلاف بينهما، لا أنّ هذا الماء من مكان وهذا من مكان آخر، وطعمهما مختلف، بل كلاهما من مصدر واحد وجنس واحد. هذا هو معنى «اللهمّ أدخلني في كلّ خير..» يعني أنّ مقام القرب ذاك والنورانيّة تلك أريدها منك يا رب! بنفس الكيفيّة، غاية الأمر كما ذكرنا فإنّ سعة الأشخاص تختلف بحسب اختلاف مراتب خلقتهم، فمثلاً لديك مصباح بقوة مائة شمعة وآخر بقوة ماءتين وهكذا.. لكنّ النور واحد، فالنور لا يختلط بالظلمة، غاية الأمر أن فيه شدة وضعف. لكن لا يوجد فيه شائبة الظلمة، ولا فيه مزج مع النفس، ولا مع الهوى والهوس.
أمّا نحن فما لدينا من صفات وملكات هي مختلطة؛ من جهة فيها نورانيّة وروحانيّة، ومن جهة أخرى ظلمانيّة. هاتان الجهتان موجودتان معنا دائماً؛ تنقص أحياناً وتزيد أخرى، فإن صلّينا ترتفع إحداها وتهبط الأخرى، وإذا جلسنا في مجلس غيبة يرتفع الآخر ويهبط الأوّل، فهاتان الجهتان لدينا في حالة تجاذب دائم، وإنّما تصل إلى الاعتدال ـ لا بمعنى التساوي بمقدار خمسين وخمسين ـ عندما لا يعود في وجود الإنسان شائبة من النفس والهوى ومحوريّة الأنا وحبّ الذات والأنانية..

    

مدّعو الوصول إلى الكمال كثير لكن الواصلين قليل

طبعاً هذا لا يحصل بسهولة، وإذا وجدتم من حصل لديه ذلك فأرشدوني إليه وسلّموا عليه، لكن لا يوجد شخص كذلك، بل جميعنا في حالة تخيّلات، وجميعنا نظنّ أنّنا نعمل لأجل الله، في حين أنّنا إذا نظرنا إلى أساس المسألة نرى أنفسنا غارقين في الهوى والهوس والدنيا والأنانيّة، بحيث أنّنا لا نرى شيئاً آخر غير هذه الأمور ولا نشعر بشيء آخر. فعندما يبتلى الإنسان بأدنى ابتلاء تراه ينفجر كالقنبلة، وعند ذلك نفهم ما هي القضيّة، أمّا الآن فكلّنا نقول بأننا تجاوزنا أنفسنا، والكلّ يقول بأنّه قد تجاوز هذه المسألة، لكن:
خوش بود گر محك تجربـه آيد به ميـان
                             تا سيه روى شود هر كه در او غشّ باشد

يقول: (ما أحسن محَكَّ التجربة في الحياة، حيث يُفضح ويسودّ وجه كلّ من كان سيّء السريرة)
وقد حصل هذا المحكُّ فعلاً!
وكما يقول المرحوم الحاج مرزا حبيب رحمة الله عليه:
عيان گردد چو در آب افتد اين مرغ
                             كـه مرغـابى بود يا ماكيـان اسـت‏

يقول: (ولو سقط هذا الطائر في الماء، لتجلّى عياناً أمِنَ البطّ هو أو من الدجاج)
الجميع يقول بأنّنا نعرف السباحة، لكن عندما يتمّ إلقاؤهم في الماء ترى الدجاج يغرق بخلاف البط، فإنّه يسبح ولا يغرق. جميعنا يقول الله الله!، وليس لدينا مظلوم أكثر منه تعالى؛ إذ الجميع يفعل ما يحلو له ثمّ يلقيه على الله تعالى، وهو يقول لا بأس ألقه عليّ! [ضحك].. كل ما نقوم به نقول هو لله، ولأجل الله.. الجميع يقول ذلك، لكن عندما يحصل أي تغيّر في برنامج الإنسان أو أن يحصل شيء معيّن نرى الجميع يغرق تحت الماء، جميع تلك المسائل التي كانت لسنوات في الداخل [ومخفيّة]تخرج ، لماذا؟ لأنّهم يريدون الغلبة! هل التفتّ الآن؟ حتّى الآن لم تكن تعلم، والآن فهمت وألهمت حقيقة المسألة؟! الآن فتحت عينيك وفهمت الأمور فجأة؟! جميع هذه الأمور كانت موجودة في الداخل، فهي تبقى في داخله حتى يتاح لها البروز، لماذا كنت ساكتاً إلى الآن، الآن صارت المسألة لأجل الله؟ الآن عندما بدأت الأمور تتّجه نحو النهاية تقول: آه المسألة كذا والمسألة كذا! هذا الأمر عجيب جداً حيث تصير المسألة دفعة واحدة بهذا الشكل! وتصير الأمور واضحة وجليّة للإنسان دفعة واحدة، وبعد ذلك يقول لأجل الله. من هنا نعرف كم هو مظلوم الله تعالى! وهكذا نقوم بهذا الأمر ونعيده ونستنسخه دون أيّ اختلاف.

    

اللـه الآمر بالدعاء وهو المجيب

إلهي أدخلني في كلّ خير أدخلت فيه محمّداً وآل محمّد، الله هو الذي يأمرني بأن أدعو بهذا الدعاء، وقال لي: ادع أنت وأنا أستجيب!
وهذا الأمر كنت أراه في حياة المرحوم الوالد حيث كان يقول: أنت تعال! وأنا آخذ بيدك! وما يفاض عليّ من أمور أعطيك إيّاه.. ما عليك إلا أن تتقدّم، فإن لم تصل ولم تر ولم تشعر ولم تحسّ بشيء فعندئذٍ قل ما تشاء! أمّا عندما تكون جميع حركاتنا وسكناتنا منطلقة من النفس؛ صلاتنا من خلال النفس، قرآننا من النفس، الجلسة التي نحضرها، العزاء الذي نقرأه.. نفعل ذلك من خلال النفس والنفسانيّات، الاحتفال الذي نقيمه فيه الكثير من الأنانيّة والنفسانيّة، فنحن عندما نخرّب أنفسنا بأنفسنا ونخرّب تلك النيّة الصافية التي لدينا فماذا نتوقع بعد ذلك؟! وبعد ذلك نقرأ: «اللهمّ أدخلني في كلّ خير.. » و«أخرجني من كلّ سوء..» لكن لا فائدة، ولا نتيجة في ذلك.
فعندما تقرأ: أخرجني من كلّ سوء ومن كلّ أنانيّة وكلّ نفسانيّة وكلّ هوى وتخيّل ومن كلّ توهّم واثنينيّة أخرجت منها النبيّ وآله، فهذا يعني العصمة، يعني أنّه يوصلني إلى ما أوصل إليه النبي.. أخرجني من كلّ سوء، لا من بعض السوء، أخرجني من كلّ ما يمكن أن يكون حائلاً بين العبد والرب في كلّ مرتبة من المراتب الوجوديّة والأفق الوجوديّ؛ في عالم الخيال والمثال وفي عالم المعنى وعالم اللاهوت وعالم الصورة وفي عالم الأسماء والصفات وعالم الذات.. في كلّ العوالم، كلّ مقام حفظت فيه النبيّ وآله فاحفظني فيه.. وهذا يعني أنّه ينبغي أن تعمل وأن تتقدّم في هذا الاتجاه، وأن ترتّب الأثر على ما قيل لك. بينما نحن في الواقع نقرأ الدعاء هكذا! لأنّهم قالوا لنا اقرأوا فنحن نقرأ، وإلاّ فأين نحن من ذلك!
لكن في الحقيقة أن بعض الأشخاص قرأ ذلك ووصلوا إلى ما وصلوا إليه. فهؤلاء فعلوا هذه الأمور وقاموا بهذه المراقبات وطووا هذه المسائل وفعلوا هذه الرياضات، إلى أن وصلوا إلى هذه النتيجة.

    

اصطفاء اللـه للمعصوم غير خارج عن دائرة المجاهدة والمراقبة

هل تتصوّرون أن النبي كان يذهب إلى غار حراء عبثاً، وكان يمكث هناك أيّاماً وليالي وأسابيع! لماذا كان يفعل ذلك؟ ولماذا كان الإمام أمير المؤمنين يحيي الليالي إلى الصباح في مزارع النخيل؟! ولماذا كانوا يجاهدون تلك المجاهدات؟ فالإنسان إذا نظر إلى ما حصل لهم يتعجب!!
عندما كنت قادماً بعد الظهر من قم للقاء أحد الإخوة، ذكرت أنّ الإمام موسى بن جعفر على أقلّ التقادير بقي في السجن مدة ثمان سنوات، وكان ينقل من هنا إلى هناك وهو مكبّل بالحديد؛ "وفي ظلم المطامير وحلق القيود.."
ذهبت مرّة في أحد البلدان إلى متحف يعرض فيه حال السجناء الذين كانوا في ذلك العصر، هناك رأيت حلقة القيد، وواقعاً تعجّبت من ذلك! يعني لو قيّد إنسان بهذا القيد في يديه ورجليه لتمنى الموت من الله بدلاً منه!
"ذي الساق الموثوق بحلق القيود" يعني أنّ حلق القيود قد أخذت من ساق الإمام بحيث أنّ عظمه كان بادياً! هكذا كان حاله.
عندما ننظر إلى أحداث كربلاء ننظر إلى ما جرى على عليّ الأكبر وسيّد الشهداء فقط، لا ننظر إلى ما جرى للإمام السجّاد عليه السلام.. ما جرى في كربلاء استمر لساعات فقط، ما جرى على عليّ الأكبر كان لساعة أو ساعتين وانتهى، أمّا الإمام السجّاد فقد كُبّل بالجامعة من كربلاء إلى الكوفة، وبقي في الكوفة لأيّام، وبعدها نقل إلى الشام.. وقد بقيت آثارها في بدن الإمام إلى آخر حياته، في كلّ يوم كان ينقضي على الإمام السجّاد كان عليه بمثابة ما جرى في كربلاء بعشر مرات! ما هذا التحمّل الذي تحمّله الإمام المعصوم في هذه الأيّام؟! وهكذا الحال بالنسبة إلى سائر المسائل، والحال أنّ هذه المسائل كانت ظاهريّة فقط، فما بالك بالأمور الأخرى! ومع ذلك نقول لهذا إمام وذاك إمام!!.
هؤلاء كانوا مبتلين بمثل هذه المسائل، ومع ذلك كان لديهم رياضات ومراقبات وغيرها، وبشكل عام كانوا قد طووا بالعمل عوالم الملكوت واللاهوت والجبروت، لا أنّه كان أمراً ممنوحاً لهم.

    

عدم قدرة الإنسان أن يتصوّر ما يتحمّله الإمام فضلاً عن تحمّله

تحدّثنا يوماً بهذا الأمر، فقال ـ لا أدري من هو ذلك الشخص ـ هذا من شأن الإمامة فلو أعطينا الإمامة لكنّا كذلك!
فيض روح القدس ار باز مدد فرمايد
                             ديگران هم بكنند آنچه مسيحا مى كرد

يقول: (وإذا أعانتْ روح القدس من فيضها بالمدد مرّة ثانية، فإنّ الآخرين أيضاً يفعلون ما فعله المسيح بإذن الله).
فقلت له نعم الإمامة إمامة، فهل نستطيع أن نتحمّل لحظة منها؟! هل يمكننا أن نتحمّل مرتبة من مراتبها؟! إذا فرضنا أنّ ولدك اشتكى ليلة من وجع، فهل تستطيع أن تنام تلك الليلة؟ إذا أخذته إلى المستشفى وجلست تنتظر خبره، فهل يمكنك أن تنام؟! تبقى مستيقظاً إلى الصباح! أو إذا فرضنا أنّه ابتلي بابتلاء؛ كأن أودع السجن لسـرقة أو لاقترافه جرماً، فهل تستطيع أن تنام ملء جفونك؟ كلاّ! فلديك تعلّق وارتباط؛ وكأنّك أنت الذي تعيش تلك الحالة! وكأنّك أنت الذي ابتليت بتلك المشكلة. حسناً إذا فرضنا أنّ ولدين من أولادك ابتليا بذلك، فسوف يكون اهتمامك بهما مضاعفاً، فإن وقعا في مشكلة معاً، وأتى شخص للتكلم معك فلن يكون لديك الرغبة في إجابته، فإن سلّم عليك قد لا تجيبه بل تبقى عابساً، فإن قال لك ماذا جرى، تقول: لو كنت تعلم ما الذي حلّ بي؛ فأحد الأولاد نزل به هذا البلاء وذاك مصاب بمرض، ويقال بأنّ مرضه مستعص.. والحاصل أنّ الذي ألمّ به يجعل ذهنه ملوّثاً وفكره مشغولاً، والحال أنّ الأمر حلّ بولدين من أولاده، لا أكثر.
أمّا الإمام ـ أتحدّث عن كرة الأرض فقط ـ فهو يشعر بمقدار ما يشعر به كلّ أفراد البشر على وجه الأرض، لا أتحدّث عن سائر المسائل والعوالم الأخرى؛ كالجنّ والملك والأفلاك وسائر الكرات، فإنّ شعوره بالنسبة إلى أفراد البشر الذين هم على وجه الأرض وتعلّقه بهم كشعور ذاك الوالد بالنسبة إلى ولده وتعلّقه به، فانظروا ما الذي سيحلّ به!! من يمكنه أن يتصوّر هذا الأمر! فضلاً عن إمكانيّة تحمّله؟! هل يمكن ذلك أم لا؟! لقد طوى الإمام جميع المراحل للوصول إلى هنا! من كان مستعدّاً لذلك فليتفضّل! فأنا أدلّه على الطريق. لا أحد يريد أن يصير إماماً؟ حتماً لا؟ بل لا نريد ذلك، بل يكفينا إمام الزمان! لماذا كانت المسألة كذلك؟ مع أنّ ما ذكرته هو مسألة واحدة فقط، والحال أنّ هناك مسائل لا يمكنني قولها، هذا الذي أستطيع أن أذكره لكم! هل التفتّم؟! ومع ذلك نقول هذا إمام، وذاك إمام! كم نحن بعيدون عن الثقافة الشيعيّة! كبعد الثرى من الثريا!
هذه المسألة وردت في رواية رسول الله، وقد وضّحها المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه للإخوة بمناسبة شهر رجب وشعبان وشهر رمضان، «لولا تمريج في قلوبكم»، والتمريج بمعنى الاضطراب والحركة والذهاب والإياب والصعود والنزول.. «وتكثير في كلامكم» إذ يجلس الإنسان إلى جانب صاحبه، ولا يصح أن يجلس هكذا، والحال أن الزمان ينقضي، لذا ينبغي أن يستفيد بالتحدث إليه بشيء.. [ضحك]! فهل من المفترض عندما يجلس شخصان أن يتحدّثا؟! من قال ذلك؟ وما هذه القاعدة؟ ما الإشكال في أن يجلس الإنسان صامتاً؟ فهل من الضروري لكي يمضي الزمان من أن يتحدّث؟ فيقول: الجوّ حار، يا أخي صحيح الجوّ حار، وبعد ذلك يقول ارتفع سعر البنزين، أليس كذلك؟ أو هبط سعره.. وهكذا يتكلم ويتكلم! هذا الكلام مضرّ جداً، بل ينبغي في السلوك إلى الله أن تكون القلوب ساكنةً، إذ القلب الذي يكون مشوّشاً لا يمكنه أن يتحرّك! فلو قرأ بدلاً من مائة مرة الذكر اليونسي مائة ألف مرة لن يستفيد أبداً! لن يتقدّم ولو بمقدار بسيط، لماذا لأنّ ذهنه مشوّش، يفكّر دائماً كيف يحتال على هذا وماذا يفعل بذاك... ويقول: إنّ هذا كلّه لأجل الله! إن شاء الله كلّ أفعالنا لله! نحتال على هذا لأجل الله، ونكذب على ذاك لأجل الله!! نضع كل شيء على الله، والله يقول لا بأس!

    

أهميّة السكوت في تحصيل تلك المقامات

يقول النبي: لو لم يكن في قلوبكم اضطراب.. متى يشعر الإنسان أنّه لا اضطراب في قلبه؟ عندما يكون كالعلاّمة الطباطبائي رضوان الله عليه؛ حيث يجلس ويوجّه رأسه إلى الأسفل، ولو بقيت ساعة جالساً دون أن تتكلم يبقى صامتاً، هذا الذي يسمّى الطمأنينة والسكون. أمّا نحن فإذا أردنا أن نجلس بدون تكلّم، فنذهب شرقاً وغرباً ونصعد وننزل ونتكلّم في كلّ شيء، وبعد ذلك ننظر أنّ ساعة قد مضت! فإن كان هناك كمبيوتر يمكنه أن ينزل ما تحدّثنا به خلال ساعة على الورق فسوف نرى أنّه طبع كتاباً بهذه السماكة، مع أننا لم نتحدّث.. لو فرضنا أنّه تمّ صنع آلة ـ وإن كان حتى الآن لم تصنع ـ فلو صنعت آلة يمكنها أن تنزّل كل ما يدور في الذهن على الورق، فسوف نرى ما الذي فعلته وماذا أنزلت بنفسك؟! هذا لا فائدة فيه أبداً.
بل عندما يجلس الإنسان وحده دون أن يكون معه أحد لمدّة خمس دقائق أو عشر دقائق، (لا حاجة أن يركّز فكره) بل يكفي أن يجلس ولا ينقل ذهنه إلى هنا وهناك، بل يبقى ذهنه ساكناً، فسوف يحصل له تدريجياً أمور ويكتشف أشياء.
لذا أوصى العظماء لأجل السرعة في المسير بأنّه من الأحسن أن يجلس الإنسان ربع ساعة في اليوم دون أن يتكلّم، ومن دون أن يفكّر في شيء. بعضهم كان يسأل بماذا نفكّر؟ هل نفكّر في الله.. في القيامة.. في نكير ومنكر؟! فقلت لهم لا تفكّروا في شيء من ذلك، بل شيئاً فشيئاً تظهر الأمور للإنسان.
هذه مسألة إيجاد السكون والهدوء، فعندما يكون لدى الإنسان سكون يبدو ذلك في حركاته الظاهرية، هل التفتّم؟ لكن بعضهم عندما يكون جالساً تراه يتقلّب من جلسة إلى أخرى يغيّر جلسته من حالة إلى حالة، فهذا لا هدوء لديه، أو تراه يذهب ثم يأتي ويجلس ثم ينهض.. اجلس يا أخي! لا يمكنه الجلوس؛ لأنّ نفسه في حالة تحرّك! وبما أنّها في حالة تحرّك فإنّها تعكس ذلك على الخارج!
على كل حال هذه المسألة مهمة جداً، وقد ذكرتها لكم بنحو الإجمال، وكنت أريد أن أتحدّث عن هذا الدعاء الذي يقرأ في شهر رجب: «إلهي خاب الوافدون على غيرك وخسر المتعرّضون...» وأترجمه وأشرحه بشكل أوّلي للإخوة، لكن الظاهر أنّ الحال لا يقتضي التحدث أكثر من هذا المقدار. وإذا شاء الله نكمل بقيّة هذه الرواية في جلسة أخرى، ونشير إلى ترجمة وتوضيح هذا الدعاء إن شاء الله.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد

 


[1] ـ جزء من الآية رقم 9 من سورة الحشر.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی <-- -->