معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
المقالات و المحاضرات > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 101 إلى 200 > شرح حديث عنوان البصري - الجلسة رقم 178

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح رواية عنوان البصري

المحاضرة رقم 178

ألقيت بتاريخ 23 جمادى الأولى سنة 1432 هجرية قمرية باللغة الفارسية

سماحة آية الله

السيد محمد محسن الطهراني حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف                                           تحميل الملف الصوتي للمحاضرة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين

    

ملكوت الطعام يتأثّر بالحالة الروحية للشخص الذي يطبخه ويطهيه

كان الكلام في الجلسة السابقة حول المأكل وكيفيّة تعامل الإنسان مع مسألة الطعام والغذاء والأكل, حيث تعرّضنا للتعاليم والدستورات التي أعطاها الإمام لـ "عنوان" فيما يتعلّق بالأكل والشرب. وقد ألمحنا إلى ضرورة ذكر مقدّمات عدّة قبل الورود في البحث, وذلك من باب المقدّمة للورود في تفسير كلام الإمام الصادق عليه السلام, حيث سنتعرّض إلى كيفيّة الطعام والشراب, ونذكر ما يمكن أن يؤثّره الغذاء على حالة الإنسان النفسيّة, كذلك سنتعرّض إلى منهج وممشى العلماء في تعاملهم مع المأكل والمشرب, وسنبيّن للإخوان مسائل متعددّة إن شاء الله, وبعد ذلك نصل إلى شرح كلام الإمام عليه السلام.

    

تأثير رضا الزوجة ورغبتها في تهيئة الطعام على نورانيّة وملكوت الطعام

من الطبيعي أنّ الكلام عن الأكل والشرب إنّما هو في الموارد المباحة لا المحرّمة, فلا كلام لنا في المحرّم منه, فما الذي يفعله الطعام المحرّم حينما يرد معدة الإنسان ويدخل جوفه؟! الله وحده الذي يعلم ما هو تأثيره!! كذلك الأمر بالنسبة إلى الطعام المكروه, حينما يدخل المعدة فلا يعلم تأثيره إلا الله, فالله وحده الذي يعلم مدى تأثيراته السيّئة التي يتركها على الإنسان!! فكثيراً ما كان يبيّن العلامة الوالد رضوان الله عليه أنّه إذا لم تكن الزوجة راغبة في صناعة الطعام فلا تقم بدعوتنا إلى منزلكم, لأنّ ذلك يترك أثر سيّئاً حينئذ, فإن كانت الزوجة راضية بذلك ومقبلة وتحبّ ذلك فهو جيّد, وأما لو كان طهيها للطعام إجباراً وإكراهاً, كما لو ألزمها الزوج بطهي الطعام لدعوة عامّة, وأجبرها على الطبخ! كأن يقول لها: نحن لدينا ضيوف وعلينا أن نقوم بواجبنا اتجاههم.. أو يقول: هذه الليلة لدينا زوّار أو ضيوف وعلينا أن نصنع العشاء لهم.. فحتّى لو افترضنا أنّ وظيفة الزوجة هي القيام بذلك ـ وهو محل كلام بل محلّ إشكال ـ فحتّى لو افترضنا أنّ ذلك من وظيفتها, فنفس عدم رغبتها في قيامها بهذا العمل وإكراهها بهذا الأسلوب له تأثير عجيب على تأثير الطعام؛ واقعاً عجيب.. عجيب جداً, يعني كيف يتحقّق هذا التأثير!! والحال أنّ الطعام لا ربط له بالإنسان أصلا؛ فالفواكه يحضرها الإنسان ويشتريها من مكان.. والبطاطا من مكان آخر.. والبصل والحبوب والحمص والأرز وسائر العناصر التي يمزجها مع بعضها ويضعها في الوعاء.. فكلٌّ منها من مكان ومن بائع ومن أماكن متباعدة!!

    

الارتباط بين المثال المنفصل والمثال المتصل وتأثير الأول على الثاني

والحقيقة هي أنّ الذي يؤثّر على ملكوت الغذاء هي الحالة التي تكون في قلب الشخص المتصدي للطبخ, فحتّى لو كان الطعام المطهيّ طيّب المذاق ولذيذاً ومرغوباً به, إلا أنّه من الناحية الملكوتيّة يؤدّي إلى كدورة.. يعني لا يمكن أن يعبر من البلعوم إلى المعدة!! يعني تحسّ أنّه علق في الوسط... فبعض الأحيان يذهب الإنسان إلى مكان معيّن, فيشعر أنّ يده لا تمتدّ إلى الطعام أصلاً, وكأنّه لا يشتهيه من الأصل, والحال أنّه جائع! يعني هو جائع حقّاً إلا أنّ يده لا تتحرّك نحو الطعام؛ فيحسّ بثقل وتثبّط, وهذه المسائل ليست اعتباطيّة وإنّما هي واقعيّة, فيترك ذلك تأثيراً على الجانب الملكوتي, ويترك أثراً على المحيط ويترك بصماته على الأشياء المحيطة هناك, ففي المكان الذي يكون هناك معصية يتغيّر ملكوت المكان ويتبدّل, وكذلك لو حصل في هذا المكان عبادة فكذلك يتغيّر المكان؛ فالإنسان متّصل بملكوته, وذلك من خلال اتّصال المثال المتّصل بالمثال المنفصل, أي بحيثيّة المثال البرزخي والمثالي, فهو متّصل به ولا يمكن أن ينفكّ عنه, فجميعنا لدينا مثال متّصل و هو ذهننا, فهو صورتنا المثاليّة والبرزخيّة, وأمّا المثال المنفصل فهو عالم المثال, وبواسطة ارتباط المثال المتّصل بالمثال المنفصل يمكن للمثال المتّصل التحقّق والوجود الخارجي, فجميع الأفكار والتفكّرات والتخيّلات والتوهّمات التي لدينا, هي جميعها مثال متّصل, وهو مرتبط بعالم المادّة, ويحمل الخصائص المادّية والفيزيائيّة, لذلك يمكنك حينئذ أن تنظر في وجه شخص وتراقب ملامحه فتعلم بماذا يفكّر؛ فهل أفكاره شيطانيّة أم لا, والحال أنّ الحواجب هي من الشعر كما لا يخفى, والعين عبارة عن عصب وحدقة وشبكيّة وقزحيّة مضافاً إلى بعض العضلات, وهي عامّة ومتشابهة من ناحية الشكل الخارجي وهي مشتركة, فمن أين نعرف إذن هذه المسائل؟ كيف يمكن لهؤلاء الذين يشخّصون هذه المسائل أن يعرفوها؟ إنّما تُعرف هذه المسائل بسبب ارتباط المثال المتّصل بالجانب الفيزيائي والماديّ للإنسان, حيث يترك المثال المتّصل أثره وبصماته على الجانب المادّي من الإنسان, فهؤلاء الأفراد المطّلعون على نوايا الإنسان وأفكاره إنّما يعرفون ذلك من الترابط القائم بين باطن الشخص المقابل وحقيقته الوجوديّة الماديّة ـ وخاصّة من العين ـ وقد توصّلت الاكتشافات العلميّة في الوقت الحاضر إلى معرفة ذلك, ففي علم النفس التحليلي أصبحت هذه المسائل ثابتة وواضحة لهم, فيمكن معرفة ذلك من نفس الشخص ونفس تركيبته المادّية, من خلال مادّة الإنسان وصورته ـ وبالخصوص العين ـ وذلك حينما يترك المثال المتّصل بصماته على الجنبة المادّية من الإنسان ويترك تأثيره الخاص, فحينما تنظر إليه تحسّ بالأفكار التي يفكّر فيها وتحسّ بخيالاته وتطّلع عليها, فإنْ كنت خبيراً إلى حدّ ما, يمكنك أن تحدّد نوع التفكير الذي كان يفكّر به, ويمكنك معرفة خيالاته التي يتخيّلها. حسناً.. كيف يحصل ذلك؟ يحصل ذلك بسبب اتصال مثالِي المتّصل مع مثال الشخص الآخر المتّصل أيضاً, وبسبب هذا الاتحاد بين المثالين المتّصلين ـ بيني وبينه ـ يعرف الإنسان كلّ شيء عن الطرف المقابل, وإلا فبدون هذا الاتّصال لا يمكن أن يحصل شيء أصلا, فيبقيان متباينان ومتباعدان, وتبقى البينونة بينهما دون أيّ التقاء, فلا هذا يطّلع على ذاك ولا ذاك على هذا. صحيح...!

    

عدم الاهتمام بملكوت الأشياء يوجب تقهقر السالك ويجعل عباداته وأذكاره خاوية لا أثر لها

وعليه فهذه الحقيقة الواقعيّة من أنّ الملكوت يؤثّر على الملكوت الآخر والمثال يؤثّر على المثال الآخر ويتّصل به, وبالتالي يترك بصماته وآثاره على نفسيّة الإنسان ومثاله ووجوده, هذه الحقيقة وهذه القاعدة بعيدة عنّا ونحن غير مطّلعين عليها, فنحن مثل الأشخاص المصابين بعدم التركيز أو المصابين بالدوار, فلا نفهم حقيقة هذه المسائل ولا ندرك واقعيّتها, نعم حالنا كهؤلاء الأفراد, تماما كالذي أخذ مخدّراً فلا يشعر ولا يحسّ.. فحتّى لو قطّعته ونشرته فلا يشعر أصلا, لا يعني أنّه ليس موجوداً, بل هو موجود إلا أنّه لا يشعر ولا يحسّ, فهو بلا وعي. ووظيفة هذه البلايا التي تأتي وتحلّ بالإنسان أنّها تفتح بوابة ونافذة فهم الإنسان, كي لا نعود نتخيّل أنّنا لسنا موجودين!! فنحن موجودون ولكن لا نشعر بوجودنا, فتأتي هذه البلايا لتفتح هذا الشعور وتشعرنا وتحسّسنا, فهذا الطعام المشتبه الذي أكلناه يترك بصماته وآثاره في وجودنا, ولكن نحن لا نشعر بهذه المسألة, فندعّي بأنّه لا أثر لذلك, فنحن ننظر إلى أنّنا نصلّي ونقرأ ولا شيء آخر وراء هذه الأعمال, فلا نشعر ولا نحسّ بتأثير ذلك علينا. كذلك النظرة المحرّمة التي ننظرها إنّما تترك أثرها على النفس, وكذلك تلك المخالفة وكذلك ذاك العمل... فكلّ شيء يترك أثراً ويؤثّر بشكل تدريجي, فبعد مدّة ستّة أشهر مثلاً نستغرب ونتعجّب من حالنا؛ ما الذي حصل بنا؟ لماذا تغيّر حالي؟ لماذا حينما كان يُذكر الإمام الحسين عليه السلام كنت أشعر بحالة من الرقّة؟ لماذا أصبحتْ هذه المجالس وهذه المحاضرات غير مؤثّرة بالنسبة لي ولم تعد تدرّ بالنفع عليّ.. فإنّي أشعر بعدم الجديد فيها؟! كنت أشعر بحال و وجد وعشق في مشاركتي بتلك المجالس, أما الآن فلم تعد أكثر من مشاهدة.. ولقاء بصديقي في المجلس!! صرتُ آتي فقط لسماع ما هو الجديد عند السيّد, وأراقب جديده فحسب؟ لأكون مواكباً للكلام الذي يطرح الآن؟ يعني هي مجرّد حالة من التفحّص والتتبّع فقط لا غير دون أيّ تفاعل حقيقي, وهنا يكمن الخطر.. هل التفتّم؟

    

المعصية تلطّخ النفس بكدورة من جنسها

يعني بسبب المعصية التي يقوم بها الإنسان يتولّد حالة معيّنة لدى النفس تؤثّر عليه بأثر من جنسها, من جنس نفس تلك المعصية وذاك الخطأ, يتولّد غطاء من جنسها لا من نوع وجنس آخر, ولا من فضاء ومحيط آخر, وإنّما هو غطاء من نفس نوع المعصية, فتأتي وتحلّ في النفس.. نعم نحن لا نذهب إلى السينما.. كذلك لا نذهب إلى مشاهدة المسرحيّات.. كذلك لا نذهب إلى الأماكن المحرّمة والعصيان والفجور, ولا نشارك في مجالس التهمة والكدورة, ولكن مع كلّ ذلك لا نفعل ما يجب أن نتمتّع به فعلا, فلا نستجلب الحال اللازم للروح, ولا نعمل على تحصيل الحال الضروري للنفس, والذي يحرّك الإنسان ويشدّه إلى الأمام, الآن ما هو موجود في أنفسنا لا يعدو كونه كشريط تسجيل؛ كتسجيلات القرآن والشعر والمحاضرة وبعض الكلمات.. فالشريط لا روح له ولا ملكوت له.. فأين هي روح هذا الشريط؟! فتلك الروح التي ينبغي أن تكون موجودة كي تحرّك النفس وتدفعها وتشدّها للأمام كي تعبر وتجتاز وتقطع التعلق... غير موجودة, فما نقوم به هو مجرّد أعمال متكرّرة لا روح لها, لماذا؟ لأنّ العمل الذي قمتُ به, جاء والتصق بالنفس, حيث كان بإمكان النفس أن تتّصل بواسطته بالملكوت المنفصل, إلا أنّه لم يكن التواصل الحقيقي صحيحاً, فلم يشتمل على الروحيّة اللازمة والنورانيّة الحقيقيّة, فالتصقتْ النفس بواسطة مثالها المتّصل مع المثال المنفصل, ولكن في ضمن تلك الرتبة فحسب, فحافظت على الظاهر وأهملتْ الباطن, فانطبعتْ فيها صورة مشوّهة!! والمشكلة الخطرة حينئذ هي أنّ ظاهر العمل الجميل قد تحقّق, ممّا يؤدّي إلى خداع الإنسان وتزيين الأمر له!! فيظنّ المسكين أنّ الباطن جاء مع الظاهر أيضاً.. فيا ليته لم يكن هناك ظاهر أصلاً كي لا يُخدعَ الإنسان ولا تُغشّ نفسه, فالمشكلة إنّما تنشأ لكون العمل محافظاً على الظاهر ومهملاً للباطن الحقيقي الذي تترتّب عليه آثار السير والسلوك والرقيّ والحركة والعلوّ والقرب, فلو لم يكن هناك ظاهر لانتبه الإنسان والتفت, إلا أنّ المشكلة في حفظ الظاهر, فالصلاة والصوم متحقّقان, وكذلك الجلسات محفوظة ومتحقّقة.. العدالة الظاهريّة محفوظة.. الشعار والأعلام المرفرفة والإعلانات والتبليغات هنا وهناك محفوظة.. ولكن!! ليتها لم تكن محفوظة ولا متحقّقة, فحفظ هذه المسائل يجعل الإنسان ضريراً لا يقدر على الالتفات والتوجّه.
كان هناك أحد أصدقاء المرحوم الوالد, وهو من تلامذة المرحوم القاضي أيضاً, وهو سيّد من أهل العلم أيضاً, وبعد ارتحال المرحوم القاضي تتلمذ عند المرحوم الشيخ الأنصاري, وبعده كان عند المرحوم الوالد بعنوان صديق وأخ ورفيق والمسألة معروفة, وكنتُ آنذاك في سنّ الطفولة, حيث كنت أرى كيفيّة محبّة المرحوم الوالد له في الجلسات وكيفيّة علاقته معه, حيث كان كلّ ذلك مشهوداً ومحسوساً, فكان فضاء المجلس يتغيّر حينما يلتقيان, بحيث حينما يتكلّمان معاً كان يتغيّر الجوّ ويتنوّر الفضاء ويتبدّل كلّ شيء, فأيّ حال يشعران به حينما يتكلّمان معا؟! و أيّ حال يبدو عليهما حينما يتكلّمان عن التوحيد, وحينما يسردان أشعار مثنوي ويتباحثان فيها ويشرحان تلك الأشعار.. فما إن يشرعا بذلك كان يتبدّل كلّ شيء..
أيّ تغيير وأيّ تبدل؟! وأيّة حياة وأيّ انبساط!!
وكان ذلك مشخّصاً ومشهوداً للجميع حتى مع أنّي كنت في سنّ الطفولة كنت أشعر بذلك.

    

حبّ الرياسة وجمع المريدين هي من أخطر النزوات على نفس السالك

حبّ الرياسة وجمع المريدين هي من أخطر النزوات على نفس السالك
لذلك فالأمور تبدأ بشكل تدريجي, فيعرض للإنسان امتحانات متعدّدة ممّا يحرّك بعضهم إلى هذا الجانب وبعضهم إلى ذاك الجانب, وهنا يبقى ملاك المحبّة والصداقة والرفاقة.. نعوذ بالله من تلك المسائل التي كان يحذّرنا منها المرحوم الوالد طوال عمره, فكان يقول: الحذر!! الحذر!! من المريد والتلامذة.. فالتلميذ يجرّك.. ويجرّك.. ويجرّك... حتّى يرمي بك في قعر جهنّم!! وبعد ذلك يصفّق بيديه ويرجع, وكلّما تقول له: عزيزي! أنا كنت مساعداً لك وكنت أعمل لأجلك في الدنيا.. يقول: مع السلامة.. في أمان الله.. لذلك علينا أن نهتمّ بملفّنا وبحياتنا, صحيح؟! عجيب كيف رأينا المسائل تتبدّل وتتغيّر, يعني واقعاً كانت أياماً عجيبة, يعني كنتُ طفلاً وعمري اثنا عشرة سنة تقريباً وكنت أتعجّب, والآن صرتُ أفهم عمق ذاك الكلام, فالكلام هو ذاك الكلام بعينه ولكنّه صار شيئاً آخر, فالمرحوم العلامة كان يحسّ ويشعر ويدرك جميع ذلك.

    

فتنة السيد الهندي مع المرحوم السيد الحدّاد سببها مداهنة أهل الباطل

كذلك قضيّة ذاك السيد الهندي, وما أوجده من الاختلاف وما أحدثه من فتنة.. وتلك التهم التي ألصقها بالسيّد الحدّاد... من أنّه ذهب لزيارة قبر أبي حنيفة في بغداد! وذهابه لزيارة الشيخ عبد القادر في بغداد.. وأنّ هؤلاء لا ولاية لهم أصلا, وأنّهم يقرؤون القرآن فحسب, ولا يقيمون مجالس العزاء وما شابه ذلك من الهرطقات.. وعلى كلّ حال فحينما يكون الشخص من هذا النوع فمن الطبيعي أن يتكلّم بهذا الشكل, وكان السيّد الحدّاد يقول: أصلاً أنا لا أدري أين دُفن أبو حنيفة في بغداد وفي أيّ شارع!! لذلك يجب علينا أنْ نراقب أنفسنا كثيراً وبشكل جدّي, ويجب أن نحذر جداً جداً, لماذا كان المرحوم الوالد يقول لهذا السيّد: عليك أن تحذر من الذين يصاحبونك ويحيطون بك!! ويقول له: أيّها السيّد! هل تدري شيئاً عن ذاك المنزل الذي تتردّد عليه؟ وهل تعلم ما هو الفعل الذي يقوم به صاحبه وماذا يخطّط؟! كان يقول للوالد: حاج سيّد محمّد حسين, الله غفّار.. الله غفور.. فنحن نذهب والباقي على الله!!
عزيزي! نعم الله غفّار ولكنّه بصير أيضاً.. نعم الله غفّار ولكنّه خبير أيضاً.. الله غفّار ولكنّه قهّار أيضاً.. الله غفّار ولكنّه شديد العقاب أيضاً.. فلا تكتفي بذكر أحد الأوصاف!! فكيف نراك لا تغمض عينيك بالنسبة لما جرى مع ابنك حينما فعل كذا وكذا, فلم تكن لتتناسى وتتجاوز وتتسامح!! ولكن الآن تذهب إلى منزل فلان مع ما يقوم به من أفعال شنيعة... فلماذا تقصر نظرك على غفّاريّة الله فحسب؟! فأنت الآن تقول: الله غفّار, وتذهب وتفرح بتلك السلامات والصلوات التي ترسل إليك من جانب فلان وفلان وتغترّ بها.. وتنخدع بهم.. وتتناول من غذاء ذاك المنزل.. وتنهل من جوّه وتتفاعل معه, فهل تدري ما هو الحمل الذي تضعه على رأسك؟! هل تدري أنّك بفعلك هذا إنّما تكسر وتتلف رأسمالك النفسي والحياتي؟! هل تدري ذلك أم لا!! حسناً.. لم يستمع ولم يُصغ, فبعد سنتين نرى أنّ المرحوم العلامة يقول: فلان أصبح مثل البالون الفارغ الذي أصبح خالياً وفارغاً ولم يبق منه إلا قشره الخارجي.. فقد أصبح باطنه خالياً وامتلأ الآن هواء فهو فارغاً..
حسناً.. يعني ذهبت تلك الحالات التي كانت لديه, وتلاشت تلك الآثار التي كان يختزنها ويجنيها جرّاء مشاركته في المجالس, وخفتتْ تلك النورانيّة.. فأين تلك الدعوات والمآدب التي كان يشارك فيها ليذكّركم الجنّة؟! وأين تلك المطالب التوحيديّة التي كان يلقيها؟! وأين تلك الحالات التي كانت لديه, حيث كان يضع يده على مريض ويقرأ الحمد فيشفى.. وكان يُشفي فلاناً وفلاناً من أمراضه القلبيّة ولا يعود بحاجة إلى عمليّة جراحيّة.. أين ذهب كلّ ذلك؟! علماً أنّ كلّ ذلك ليس بالشيء العظيم, فما خسره لهو أعلى منه, فأصبحت المطالب التي يتكلّم بها الآن وكأنّها شريط مسجّل! يتكلّم دون روح, فلا روح له أصلاً, فذاك الأصل قد خسره, وأما المحفوظات التي لديه فهي باقية لديه, وهو إنّما يقضي أيّامه بهذه المحفوظات دون حياته ودون روحه, فقد ذهبتْ تلك وولّت!! روحه رحلتْ وذهبتْ.. يصلّي ولكن ليستْ صلاته مثل تلك الصلاة التي كان يصلّيها.. فقد قال يوماً لأحد الأفراد: إنّ السيّد محمّد الحسين لم يعد يعتني بي.. فأجابه ذاك الشخص: هل فكّرت في هذه المسألة لتعرف ما هو السبب الذي جعل السيد محمّد الحسين لا يعتني بك؟ فقال: بالأخير هناك بعض الاختلافات.. فهذا يعني أنّه يفهم ويعلم كلّ شيء, والملفت هنا هو أنّ هذه النفس لا يمكنها أن ترجع!! وهنا يكمن الخطر.. وأمّا لو التفت وهو في تلك المرحلة بحيث تقبل نفسه وترضخ, فلا مشكلة حينئذ, ويمكن إصلاحه حتّى وإن كان كالبالون الهوائي الفارغ, فيمكن إعادة ملئه بشكل تدريجيّ وتعبئته ثانية, فيعمل على نفسه ومجاهداته ويعيد الارتباط إلى مكانه, ولكنّ المشكلة هي أنّه بلغ مرحلة أصبح خالياً وفارغاً, ولم يعد يمتلك شيئاً يعينه ويفيده لطيّ الطريق, فخسر رأسماله, وهذا هو الذي يسمّى بـ انقلاب الملكوت وارتداده.

    

الأصل في السير والسلوك الاهتمام بالولاية ونوعيّة الارتباط الولائي

فعلى السالك أن يهتمّ بهذه المسألة بشكل كبير جداً.. نعم, على السالك أن يراقب تلك الحقيقة الحيّة الموجودة في قلبه, وعليه أن ينظر إلى تلك الروح الكامنة في أعماق روحه وقلبه, وعليه دائماً أن ينظر إلى تلك الحقيقة, فهي الأصل وهي الملاك, لا أنّه ينتظر القيام ببعض الأذكار كي يحصّل تلك الحالات الروحيّة من الذكر الذي يقوم به!! فالذكر إنّما ينفع في حالة وجود تلك الحالة الروحيّة وذاك الربط. فهل نذهب إلى الطبيب قبل أن نشعر بالألم, أم أنّنا نذهب إلى الطبيب للعلاج بعد بروز الألم والشعوربه؟! من الطبيعي أنّنا لا نذهب إلاّ بعد أن نشعر بالألم في القلب, فلا يذهب أحد إلى الطبيب احتياطاً قبل أن يمرض؟! [السيد يضحك].. فذهابنا إلى الطبيب هل يكون حينما يبرز الألم أم قبل ذلك؟ من الطبيعي أنّنا لا نذهب إلى الطبيب إلا بعد أن نشعر بالألم. كذلك الأمر بالنسبة للذّكر والروحيّة الكامنة في النفس, فالذي يحرّك السالك هو نفسه وروحه الحيّة, هذا هو الذي يحرّك السالك للقيام بالذكر, وهذا هو الذي يحرّك السالك للقيام بصلاة الليل, وهو الذي يحرّك السالك نحو القيام بجميع الأعمال, دون العكس, فليست صلاة الليل هي التي تحرّك السالك!! أبداً, بل حينما تأتي تلك الروحيّة يقوم بصلاة الليل, وبقيامه بصلاة الليلة مع تلك الروحيّة تترقّى روحه وتتجرّد وتحلّق بشكل أكبر, فحينما تتجرّد روحه وترتفع يصبح مهيأً للولوج في مراتب أعلى, وبهذا الشكل إلى أن يصل إلى المسائل الأعلى والأرقى.
وأمّا حينما تصبح النفس معكوسة, بأن تتوجّه نحو الأمور التي ينبغي أن لا تتوجّه إليها, وفي الطرف المقابل تترك اهتمامها بالأمور اللازم عليها أن تهتمّ بها؛ كما لو لم يعد الإنسان يهتمّ كثيراً بنوعيّة الارتباط والعلاقة بالهداية والولاية.. ولا يهتمّ كثيراً بموضوع الغذاء والطعام الذي يتناوله.. وكذلك بالنسبة لسائر المسائل, فحينئذ وبشكل تدريجيّ تنحلّ النفس وتذهب روحانيّتها, والمرحوم العلامة يعبّر عن هؤلاء الأفراد بأنّهم يشبهون الفاكهة التي لم يبق منها إلا الجلد والبذرة, فقد ذاب شحمها اللذيذ والطيّب, يعني لمْ يبقَ منها شيء أصلاً, فترميها بعيداً ولا تعود تنتفع بها أصلا, نعم هؤلاء الأفراد يصبحون بهذا الشكل..

    

السبب في ورود النهي عن التملّي من الطعام والتلذّذ به والحال أنّه من الطيبات من الرزق

أمّا ما يتعلّق بموضوع الطعام، فنحن نرى أنّ هذا الأمر من الأمور المهمّة، يعني: مراعاة الدقّة في نوعيّة الطعام، وكيفيّة إعداده لهي مسألة هامّة جداً. وقد ورد في القرآن أنّه : {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}، وعليه يمكن للإنسان أن يأكل الطعام، وأن يستفيد من تلك الطيّبات التي خلقها الله له.
وأمّا أولئك الأفراد المتحجّرون, الذين يقدّسون الجمود والتحجّر، يتصوّرون أنّه لا بدّ من الأكل من الأنواع الرديئة والحقيرة من النعم التي خلقها الله، لكن هذا كلّه ناشئ من القصور في نظرتهم للأمور، وعدم فهمهم لهذه المسائل.
ولكن بحسب اعتقادي، وبحسب ما رأيناه وشاهدناه في طريقة وأسلوب الأولياء في ما يتعلّق بهذه المسألة، هو ضرورة الالتفات إلى هذه النقطة:
لماذا كان العظماء يمسكون عن الطعام؟! .. لماذا؟! ولماذا كانوا يصومون كلّ ذلك الصيام؟! ولِمَ وَردَنا في الروايات عن طعام أمير المؤمنين أنّه كان في أغلب الأحيان على النحو الفلاني؟! .. فما الداعي لهذا الأمر؟! أليس هذا الطعام ممّا خلقه الله؟!
فنحن لا نتحدّث عن التعدّي على الغير وأخذ ما لديه؛ وإنّما محلّ كلامنا هو أنّه لماذا لا يأكل الإنسان ممّا لديه وتحت قدرته وبين يديه؟! فما القضيّة وما هي حقيقة الأمر؟ وما هو السرّ في المسألة؟
هذه هي المسألة التي يريد هذا العبد أن يطرحها ويبحثها هذه الليلة.

    

أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام و قصة "الكبد المشويّة"

لقد خطرت في ذهني هذه الرواية، وأذكر أنّي قرأتها يوماً ما في الموسوعة الخطيّة[1] للمرحوم العلامة، ربما كان ذلك منذ ستّ سنوات؛ وأعتقد أنّ تلك الرواية في القسم الجاهز للنشر من تلك الموسوعة.
ولقد أورد رواية في أحد مجلّدات تلك الموسوعة ، وكانت عباراتها .. أو مضمونها كي لا أشتبه: " وقد كان عليٌ عليه السلام يشتهي كبداً مشويّة (فلم يكن الأمر في أيّامهم بهذه السهولة كما في أيّامنا ]يبتسم سماحته.. ويقول:[ ولابدّ أن نرى ما الذي حصل حتّى تحوّلت هذه الحادثة إلى رواية وخبر)، فقال للحسن يهيئ له كبداً مشويّة (طلب من الإمام الحسن عليه السلام أن يدعوَه في يوم من الأيام إلى منزله!! ويهيئ له تلك الكبد، ولا ندري ما الذي حصل بحيث نسي الإمام الحسن الأمر و نسيه أمير المؤمنين عليهما السلام؟ فهذه الأمور تحصل.. وحتّى يحصل لنا، فالمرحوم العلامة كان يطلب منّا ـ مثلاً ـ شراء شيء معيّن، فننسى، ثمّ بعد يومين أو ثلاثة يسألني عنه، فأقول: عذراً .. عذراً .. لقد نسيته ]يتبسّم السيّد[، ولكن هنا كأنّما أراد الله أن يُنسى الأمر سنة كاملة، فلم يقتصر الأمر على يومين أو ثلاثة، وإنّما سنة كاملة، حتّى مرّ الإمام الحسن في السوق فرأى قصّاباً و اشترى منه الكبد، وبعد سنة كاملة قال لأمير المؤمنين: يا والدي العزيز، لقد هيّأت لكم ما طلبتم قبل عام. فقال أمير المؤمنين: "جيّد جداً ..ممتاز" وعبارة "جيّد جداً.. ممتاز" هذه تتضمّن الكثير من المعاني في باطنها ثمّ أمره بإعدادها، فلما جاء وقت الطعام، طرق الباب فقير من الفقراء... ]يضحك سماحته ويمازح قائلاً:[ لا أعلم كيفيّة إرادة الله بهذه الأمور!؟ وكأنّ ملائكته لا يراعون الأوقات... !! ففي قضيّة {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً }[2] كان أهل البيت صائمين لمدّة ثلاثة أيّام بمعدة خالية جائعة، وفي يوم النذر الذي نذروه، وفي وقت إفطارهم تماماً كان لا بدّ أن يأتي فقير من الفقراء، وفي الغد يأتي يتيم، ثم في اليوم الذي يليه يأتي أسير. وكانوا يقولون: تعالَ وخذ.. خذ.. والآن حصل نفس الأمر، مضى على أمير المؤمنين سنة كاملة يشتهي فيها تلك الكبد، ثمّ بعد أن أعدّوها ـ ]يبتسم ويقول ممازحاً[ ـ يأتي جبرائيل إلى ذلك الرجل الفقير، فيقول له: تعال أدلّك إلى الطريق الصحيح .. اذهب من هنا.. من ذلك الطريق.. ثم ادخل من ذلك الزقاق.. نعم توقّف هنا عند هذه الدار.. اطرق الباب.. وصح: يا أهل الدار أنا رجل فقير.. جائع.. لا أملك الطعام.. !!!؟ عندها ينظر أمير المؤمنين إلى أهل المنزل، ويقول: اذهبوا بهذه الكبد إلى هذا الرجل ليأكل تلك مع عياله، ثمّ يقول عبارة عجيبة) : "لأن لا نقرأ في صحيفتنا غداً: { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون}[3] "

    

من يتشرّف بالمعرفة يتعلّق قلبه بمكان آخر ولا يعود يفكّر بالطعام والملذات

عجيب عجيب هذا الكلام!!! وما الأمر الذي فكّر به أمير المؤمنين عليه السلام؟!
فهل يجب أن نحمل نحن تلك النظرة المتحجّرة التي تحرّم الطعام اللذيذ؟ وهل هذه هي حقيقة المسألة؟ والحال أنّ الأولياء لم يكونوا كذلك، فقد رأيناهم ولم يكونوا كذلك، وهم في مواضع مختلفة مشابهة لهذه القضيّة تصرّفوا كأمير المؤمنين عليه السلام، فما هي حقيقة المسألة؟ هل كان أمير المؤمنين عليه السلام يحرّم على نفسه أكل الكبد؟ أم أنّه لو أكل كان سيحدث شيء؟ سينقص شيء من خزائن الله؟ أم أنّه عليه السلام كان يريد أن يفتخر على الله بأنّي تجاوزت عن رغبتي مدّة سنة، وبعد سنة عندما وصلت إلى ما أريد تصدّقت؟! لا معنى لهذا الكلام مع الله، فالله يقول أنت عبدي وقد خلقت لك هذه الأرزاق فخذ منها، وإلا فلمن هذه النعم؟ ولا يختصّ هذا الأمر بالطعام، فكلّ مشتهيات الإنسان تدخل في هذا الباب، فقد تحدّثنا عن مسألة الزواج والزواج المؤقت وتعدّد الزوجات وآية "مثنى وثلاث ورباع" ومتى ينبغي أن تطبّق، تحدّثنا فيما مضى من جلسات حول ذلك على ما أذكر، ومسألة الطعام هي واحدة من تلك المسائل وتخضع لنفس الضابطة، فمثلاً يتحدّث أمير المؤمنين عن المتّقين فيقول: "منزوراً أكله" ، فالتقيّ قليل الطعام، ولا بدّ أن نبحث يوماً عن السبب في ضرورة تقليل الطعام، ولماذا يوصَى بترك الطعام قبل حدّ الشبع؟ ولكن ما تقوله الرواية أن التقيّ ليس كثير الاشتهاء لأكل أيّ شيء. أو تلك الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وآله التي تقول: من عرف الله ( أي السالك .. الإنسان الذي يريد أن يسير في طريق الله، ولا يدع أيامه تنقضي سدى...) من عرف الله وعظّمه منع فاه من الكلام[4] ( فمن عرف الله وجعل نفسه على وفق مشيئته، وإلا فلو عرفنا الله وأنّه واحد فقط فما أثر ذلك علينا؟! لا ثاني لله جيد! لا فليست هذه بمعرفة! بل يعرف الله ونعمه والسعادة التي يجعلها للإنسان.. يعرف كيفيّة نزول الأسماء والصفات.. يعرف مآل نفسه بين يدي الله.. يعرف موقعه بين يدي الله في الدنيا.. هذه هي المعرفة! أنتم إذا عرفتم خصوصيّات الحاكم الذي يحكمكم فلا يمكن بعد ذلك أن تقوموا بما يحلو لكم من الأعمال.. تنظّمون زياراتكم وعلاقاتكم.. تدقّقون في كلامكم.. تهتمّون باتّصالاتكم الهاتفيّة.. لعلّه يخرّب كلّ علاقاتنا.. لعلّه يراقب كلامنا ويرسل العيون علينا.. إذا علمتم أنّ الحاكم لا يراقبكم تتحدّثون بما تشاؤون عبر الهاتف من الكلام المتعارف اليوميّ، أمّا إذا شعرتم أنّ مكالماتكم مراقبة فلا تتكلّمون بأيّ كلام، لماذا؟ لأنّكم صرتم على علم ومعرفة، من لا يعرف يتكلّم بما يخطر على باله، أمّا من يعرف فإنّه يراقب كلامه، حيث يأتون في اليوم التالي ويسألونه: أنت ليلة أمس قلت كذا وكذا، لماذا؟ فيضعونه في السجن حتّى يأتي وقته المناسب، فلا يقتلونه قبل وقته، هذا إسراف...!!! [ يبتسم السيّد] من يعرف حقيقة الأمر يمكنه أن ينظّم أعماله، من كان ذا معرفة بصديقه مثلاً أنّه يتميّز بخصوصيّات معيّنة، ويحتاج إلى حاجات خاصّة، ماذا ينبغي أن يقال له، وماذا لا ينبغي؟ هل يمكنه أن يضبط لسانه أم لا بل ينشر كلّ ما يسمع؟ كل ذلك يرجع إلى المعرفة، أما من لا معرفة له فإنّه ينشر كلّ ما لديه أمام الناس ويحكي قصّة حياته من أوّلها للناس، وهنا ما معنى المعرفة بالله هل معرفة أنّ الله موجود فحسب؟ أم لا، بل معرفة أنّ الله له شغل بنفسي وبعيالي وأطفالي ومعاملاتي وتجارتي.. بصداقاتي وعباداتي.. وبسيري وكتاباتي.. بلساني وفكري وتخيّلي وكافّة شراشر وجودي... إذا عرفت هذا الله فهل يمكنني بعد ذلك أن أتفوّه بأيّ كلام أريده؟ الإنسان يمتنع عن بعض الكلام خوفاً من أن يطّلع عليه فلان أو فلان.. فإذا خرج الكلام من الفم خرج عن سيطرتنا؛ لذا لا بدّ أن نبالغ في مراقبة اللسان، وفي الرواية أنّ الإنسان حاكم على كلامه ما لم يخرج من فمه فإذا خرج صار أسيراً له، إن قيل له لا تقل هذا الكلام لأحد وقاله يبدأ بالاعتذار لقد أخبرت فلاناً وفلاناً فماذا أصنع؟ اذهب الآن وابحث عمّن أخبرت...

    

الأولياء يكشفون الحقائق الباطنية أحياناً لغرض التربية وليس للترف النفسي أبداً

من عرف الله وعظّمه فعرف مقام عظمته وعرف قدره ومكانته وجعله في موقعه الحقيقيّ، هل يمكنه بعد ذلك أن يخطئ؟ هل تتأتى منه المخالفة؟! أولياء الله أحياناً يضطرّون ـ كما كنّا نراهم ـ لبيان بعض المطالب الخارقة للعادة، فقد قلت يوماً للمرحوم العلاّمة: لا نشكّ أنّ بإمكان الأولياء أن يبيّنوا المسائل للأفراد بنحو من الأنحاء كأن يقوموا ببعض الخوارق فيتنبّه الناس ويعوا حقيقة أحوالهم، وما لم يفعل الأولياء ذلك فإنّ الإنسان سيشتبه.
فقال: سيد محسن! إنّ هذا النزر اليسير مما تراهم يفعلونه ليس إلا للضرورة، كي لا يظنّ الناس أن لا شيء هنا، وإلا فكلّ واحدة من هذه الأفعال لها حسابها يوم القيامة، مثلاً إذا جاء أحدهم قالوا له: التفكير بهذه المسائل التي تفكّرون بها ليس في محلّه، أو أنت بالأمس قمت بالعمل الفلانيّ. فإنّهم أحياناً يضطرّون للقيام بذلك؛ كي لا يظن الإنسان أنّ المجيء إليهم كالمجيء إلى أيّ مكان آخر يمكنه معه ارتكاب ما يشاء، وإلاّ فإنّهم يعدّون القيام بذلك عاراً عليهم، وقد كنت أحسّ بذلك من المرحوم العلامة؛ فكم كان يضغط على نفسه ليظهر مثل هذه الأمور ويتصرّف على خلاف مقتضى الظاهر، لقد كان عاراً لديهم أن يقوموا بذلك، والحال أنّا نأتي إليهم ونقول لهم: اصنعوا معنا مثل هذه العجائب! نحن نأتي ونقول: إن كنتم محقّين فأرونا مثل ذلك! هم لا يريدون أن يتخلّوا عن مكانتهم في سبيل تحقيق رغباتنا في ذلك، إنّهم إذا فعلوا ذلك فمن جيبهم ينفقون، من شاء أن يصدّق فليصدّق ومن لم يشأ فبيده، وهم أنفسهم الذين عوّدونا ذلك وعاتبونا: لماذا لم تقف في وجه هذه التوقّعات المخالفة للصواب؟!
أمّا مسألة الإمام فهي تختلف، فالإمام لديه مقام الإمامة ومقام الولاية الكليّة، ولا بدّ أن يعرّف نفسه للجميع، أمّا وليّ الله فهو في مقام الأدب، ولا يمكنه أن يفعل ما يجعله في نظر العوام في مقابل الإمام لا سمح الله، أليسوا يفعلون ذلك، بعضهم لم يفعل شيئاً وهم يجعلونه نبياً، فكيف إذا طرح بعض المسائل؟!

    

وليّ الله يوقع نفسه في الاشتباه تواضعاً أمام مقام الإمام المعصوم عليه السلام

لكن وليّ الله ومراعاةً للأدب لا يقوم بأيّ عمل يؤدّي بالعوامّ إلى أن يجعلوه ـ لا سمح الله ـ في مصافّ الإمام عليه السلام. أفلا يجعلونه كذلك؟! مع أنّه لم يقم بأيّ عمل من هذا القبيل وإلاّ فإنّهم كانوا سيصفونه بالنبوّة إن يقصد التعرّض لمسّألة ما أو يقوم بفعل ما. وكانوا يقولون بأنّ هذه الأمور التي تقومون بها أحياناً يجب أن تكون من باب الاضطرار, وذلك لعدم وجود مفرّ في بعض الأوقات من طرح بعض المسائل أو ذكر بعض الأمور مثلاً. ولذلك عندما يقول عليه الصلاة والسلام من عرف الله منع فاه من الكلام, فإنّه لا يتفوّه بأيّ كلام كيفما كان, بل يتأملّ وينظر هل كان النطق بهذا الكلام لأجله تعالى أم لأجل هذه المسألة. وإذا أراد التفوّه بكلام ما, فإنّه ينظر ما هو المقدار الذي جُعل منه له تعالى وما هو المقدار الذي جُعل منه لتلك المسألة؛ فما كان منه لها يقوم بحذفه, وذلك الجزء الذي له تعالى يذكره. منع فاه من الكلام.. من حين لآخر يواجه الإنسان مثل هذه الأمور, فعندما أردت في أحد الأيّام أن أكتب إحدى المقالات ساورني الشكّ في أن أقوم بذلك أم لا، وغدوت متردّداً بين أن أكتبها أم لا ـ وقد كان ذلك قبل سنوات عديدة ـ وكم تفحّصت الأمر مع نفسي وتأمّلت! فمن ناحية, عندما كنت أفكّر, كنت أجد بأنّ الكتابة حول هذا الموضوع أمر واجب ويجب القيام به, ومن ناحية أخرى, كنت أقول في نفسي بأنّ وجوب المسألة محفوظ في محلّه, لكن ما هو مقدار الميل الذي أحسّ به تجاه طرح هذه المسألة والكتابة حولها. وقد كنت مشغول البال, فالعقل يقول بضرورة طرح هذه القضايا ولزوم نشرها, ولكن من الناحية الأخرى كنت أقول في نفسي: حسناً, لا ضير في ذلك, فتلك المسألة عقليّة, لكن يبقى أنّه من جهتي أنا, ما هو المقدار الذي تدخّلت به نفسي في إفشاء ذلك الأمر؟ فأنا لا أريد لنفسي أن تتدخّل هنا, وأريد أن أتنحّى جانباً ليبقى "هو" فقط وفقط؛ فإذا قال اكتب! أكتب, وإذا قال لا تكتب! لا أكتب, فماذا يعنيني في الأمر؟ وما هي علاقتي به؟ أَوَ أكون أنا هو صاحب الشريعة؟ أَوَ أكون أنا هو الوصيّ على الدين؟ أَوَ أكون موكّلاً من قِبَل الناس وقيّماً على أمورهم؟ فما هي علاقتي بهذا الأمر؟ وما الذي يعنيني منه؟ فالقيّم شخص آخر, والوليّ شخص آخر, وصاحب الشريعة الآن شخص آخر, وهو الذي سيُدلي بالحلّ بنفسه. والطريق الوحيد الذي بدا لي مناسباً أن أسلكه هو: أن أقوم وأغتسل.. أصلي وأتوسّل لكي أتنحّى أنا من البين, وباختصار ألاّ يكون لي دخل. وعندما قمت بهذا العمل ـ مع العلم أنّ هذه المسألة حصلت قبل مدّة طويلة, وترجع إلى سنوات ـ تفأّلت بالقرآن فجاءت هذه الآية: {وَمَا عَلّى الرسولِ إلاَّ البَلاغُ المُبينِ} , فتنفسّت الصعداء, هكذا إذن! نعم, هم يأتون ويساعدون؛ فعندما يسعى الإنسان إلى أن يبرز عجزه بين يدي مولاه, ماذا يفعل؟ ماذا نفعل نحن في هذه الحالة؟ كيف يمكن لنا أن نريح أنفسنا من هذه الوساوس؟ أّفَنمتلك اللياقة لهذا الأمر؟ أَوَ نستطيع القيام به؟ إلاّ أن نذهب صوب إمام الزمان, وأن نطلب ذلك من الله تعالى, وذلك بأن نقول: يا إلهي! نحن لن نقوم بهذا الأمر, وأنا كذلك قلت: لن أقوم بهذا الأمر إلى أن تتضح لي المسألة بشكل جليّ, والسلام. ... قلت: يجب أن يتبيّن لي أوّلاً عدم تدخّلي في هذه القضيّة, عند ذلك يمكن ... بدأت العمل, فرأيت بأنّ هذه الجملة لا محلّ لها هنا, فشرعت في الحذف إلى أن ظهرت المقالة في الأخير بتلك الصورة الخاصّة. أمّا لو لم أكن قد قمت بذلك العمل, فمن هذه الناحية يأمر العقل بالقيام بذلك الفعل, مع أنّه يُحتمل أن يكون العقل خاضعاً لتلك الخصوصيّات والصفات المخبوءة في النفس, بحيث أنّ العقل يأتي لها بالدليل ويختلق لها البراهين, ويسعى إلى أن يبرّر لها أفعالها. فإذا تمّت المسألة بهذه الكيفيّة والإنسان لم يكن ملتفتاً إلى ذلك بشكل جيّد, فإنّه يبدأ بالانغماس تدريجيّاً إلى أن يغرق.

    

أولياء الله لا يستغنون عن المراقبة و التوجّه إلى ساحة صاحب الزمان عجل الله فرجه وطلب العون والمدد منه

عندما أتأمّل في أفعال المرحوم الوالد رضوان الله عليه وتصرّفاته طيلة مدّة حياته وفي هذه الاثنين وعشرين سنة التي قضّاها في طهران وفي المسجد, وما هي المصاعب التي كان يعاني منها, والخلافات التي كان يواجهها، والتي لم يذكر منها في كتبه إلاّ مقداراً قليلاً وبشكل عرضي؛ فما ذُكر كان غيضاً من فيض، عندما أتأمّل في كلّ ذلك أجد أنّ العلّة الكامنة وراء ما كنت أرى هي أنّ قلبه كان متوجّهاً نحو الولاية عند اتخاذ القرارات في جميع تلك المسائل. فكان ذلك من الله, كما كان يستمدّ العون من إمام الزمان عليه السلام, وعندما كان يوجّه نفسه في ذلك الاتّجاه, وتصير النفسُ نقيّة وطاهرة؛ فإنّ المسألة تصبح واضحة و بالتالي يُنجز العمل. أتظنّون أنّهم كانوا من الأوّل ..., لا, الأمر ليس كذلك, فقد كانوا أهل مراقبة.

    

معنى استغفار النبي صلى الله عليه وآله

فالأولياء العظام هم بدورهم من أهل المراقبة أيضاً؛ فلا تظنّوا أنّ المراقبة مختصّة بنا, فقد كانوا جميعاً أصحاب مراقبة, ولا يوجد أيّ مانع من ذلك.. إنّه يُران على قلبي, فرسول الله يقول: يُران على قلبي, بالرغم من أنّني رسول الله, فإنّه وعند ارتباطي بالناس وخوضي في المسائل الاجتماعيّة, يصير قلبي المتصّل [بالله] مكسوّاً ببعض الغبار, ومعنى "يران" هو أن يعلوه غشاء. وإنّي لأستغفر الله كلّ يوم سبعين مرّة أو مائة مرّة, وليس بأن أجلس وأقول مائة مرّة أستغفر الله.. أستغفر الله.. لا ليس كذلك, بل هو أن أقول كلّ ساعة عند كلّ إحساس وشعور بالرين "أستغفر الله"، وعند ذلك سيكون الاستغفار مفضياً لانجلاء الرين. جاء ذلك الشخص وجلس عندي ثمّ قال: يا رسول الله لو أنّك في هذه القضيّة ..., فلو أنّك لم تقم بذلك لاتخذت المسألة مساراً آخر. قلت: نعم, هذا الكلام صحيح. فلمّا ذهب ذلك الشخص عرض لي إحساس ما.. أقول: أستغفر الله. الرسول يستغفر, لاحظوا, فالرسول بنفسه كان ملتفتاً لهذه النقطة, ولو أنّه لم يكن يحسّ بذلك لما قام بالاستغفار؛ فالرسول لا يهزل بالمسائل المرتبطة بالله تعالى, أو كأولئك الأشخاص الذين لا يسمحوا لنا بالالتفات لهذه الأمور. والرسول كان يعلم أيضاً بأنّ على الروح أن تكون دائمة الاتصال [بالله تعالى], وكان يحسّ بذلك, كما أنّه لم يقم هنا بأداء فيلم سينمائي.
فنحن نقول: النبي.. النبيّ أوّل ما خلق الله.. والعلّة الأولى.. والاسم الأعظم... ، ولكن نفس هذا الاسم الأعظم عندما يكون موجوداً في عالم النفس وفي عالم الكثرات، ينبغي أن يكون متصلاً [بالله تعالى] ، أن يكون هذا الاتصال هو الاستغفار، فأنا لا أقول أنّ استغفاره له نفس معنى استغفارنا الذي نفهم، لا يا عزيزي! فلو فكّرنا نحن لسنوات متمادية لن نستطيع أن نصل إلى كنه ومعنى ومفهوم استغفار الرسول، فنحن نقول: "أستغفر الله"، والرسول يقول: "أستغفر الله"، كلانا يقول ذلك، ولكن نحن نستغفر الله من المعاصي التي قمنا بها.. نستغفر الله من النوايا الخاطئة التي نويناها.. نستغفر الله من الخطورات والتوهّمات التي تطرأ في ذهننا. لكن! ممّ يستغفر الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله؟! إنّ استغفاره يتعلّق باضطراب السرّ وهذه الأمور... ، نعم في هذه المواطن يستغفر الرسول، ولكن نحن لا نفهم بم ترتبط استغفاراته ومن مّاذا؟
ولكن بالأخير، هل استغفر النبيّ أم لم يستغفر؟
بلى استغفر، ألم يقل ذلك؟ بلى قال ذلك: "إنّي أستغفر الله" .. وهذا لا يتنافى مع مقام الطهارة.

    

سكوت السالك المرتبط عبادة وذكر

وأمّا نحن فينبغي علينا أن نعتني بهذه المسألة بحسب قدرتنا وطاقتنا، ولذا قال الرسول : منع فاه من الكلام، وبطنه من الطعام.
لماذا يمنعها؟! لقد تعجّب الأصحاب جداً، حيث قال الأصحاب الذين كانوا جالسين بمحضر الرسول صلى الله عليه وآله: بآبائنا وأمّهاتنا يا رسول الله! أهؤلاء من الأولياء؟ (فأجابهم النبيّ كلا! هذا العمل لكم أنتم، هذا أول الطريق، فالأولياء ليسوا كذلك، من هم الأولياء إذن؟ الأولياء هم الذين سكوتهم ذكر إذا سكتوا، فسكوتهم بمثابة الذكر والكلام، أرأيتم أحياناً يقال ذاك الشخص جالس وحيداً وساكت، هلمّ نجلس ونتحدّث إليه، والحال أن ذاك الرجل يتأمّل في موضوع معيّن، أو أنّه ساكت، فيقال لنذهب ونتحدّث إليه، يقول المرحوم العلاّمة أنّ سكوت المرحوم العلامة الطباطبائي كان ذكراً، حيث كان يسكت لكن لا بمعنى أنه لم يكن يتحدث، بل كان في عالم آخر، الذكر يعني التوجّه.. التوجه إلى معاني وحقائق، يبحث في ذهنه أثناء سكوته عن مراتب وجوده، ما حصل معه في الليل يفكّر به في النهار، ويبحث حوله، (إذا سكتوا فسكوتهم ذكر وإذا نظروا فنظرهم عبرة)، أما فنحن ننظر إلى ما يسرّنا، ننظر إلى هذه السيّارة ونقول: كم هي جميلة! وننظر إلى البناء فنقول كم هو عال، وهكذا في سائر الآلات، بينما أولئك فنظرتهم نظرة عبرة، ومن هذه النظرة يحررون أنفسهم عن التعلقات. عبرة يعني اعتبار وفهم، وهو يختلف عن نظرتنا للأمور، (وإذا نطقوا فنطقهم حكمة)، وكلامهم متقن ومطالبهم عين الواقع، الحكمة يعني عين الواقع، لا أنهم ينظرون إلى الأمور ويحكمون عليها ثم يأتون في اليوم التالي ويقولون بعد التفكير: ماذا فعلنا! لقد اشتبهنا! اليوم يفتون بأمر وغداً يفتون بخلافه، هذا ليس حكمة، بل الحكمة هي أن يكون الإنسان من أول الأمر إلى آخره على نسق واحد، (وإذا نطقوا فنطقهم حكمة وإذا مشوا فمشيهم بين العباد بركة)، فالناس يلتفتون إلى حسن أعمالهم وتصرفاتهم، فوجود هؤلاء بين الناس يوجب الخشية والخوف والرغبة والأمل، فعندما ينظر الناس إلى شمائل هؤلاء يفهمون شيئاً آخر، ويلتفتون إلى وجود أمور أخرى غير ما يظنّون، عندما كان المرحوم الوالد يمشي من المنزل إلى المسجد كان هناك أفراد متعدّدون؛ حيث كان يمرّ طريقه على النصارى واليهود والمسلمين، أحياناً كانوا يقولون ـ ولا زال بيننا تواصل وأحياناً أراهم ـ عندما كان والدك يمرّ أمامنا كان ينتابنا شعور لا يحصل لنا مع سائر الأشخاص الآخرين، لا نعرف ما الذي كان يحصل، بل نعرف أنّ هذا الرجل يختلف عن سائر الرجال، فلديه أمر آخر، لذا كان يأتي النصارى ويسلّمون عليه واليهود كذلك، وكنت أرى أحياناً الدمع في عيونهم، عندما كانوا يتوجهون إلى المرحوم الوالد ويظهرون له الاحترام والحبّ، كنت أرى الدمع في عيونهم، هذا هو معنى كلامه (فكان مشيهم بين الناس بركة) أي موجباً لنزول البركة والنعمة على الناس، سواء قلنا إنها بركة ماديّة أو معنويّة، فقد كان يحصل تغييرات بين الناس بسبب ذلك. فمشيهم عبادة، (ولولا الآجال التي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين خوفاً من العقاب وشوقاً إلى الثواب) يقول رسول الله: لو لم يكن أجل هؤلاء مضروباً من الله تعالى لما بقيت هذه الأرواح في أجسادهم، هؤلاء هم أولياء الله، ولكن الذي عليه أن يراقب نفسه وكلامه ليس من الأولياء، بل نحن الذين نراقب, فهم كلّ ما يخرج من فمهم من كلام هو عين الحكمة, وكلّما كان كلامهم أكثر فهو أفضل, كلّما كثر كثُر الحسن. نحن الذين علينا أن ننتبه ونسكت, وإن شاء الله سوف نتعرّض إلى مسألة السكوت في محلّها, ونبيّن أنّها ليست مختصّة بالتهمة والغيبة والكذب.. لا.. بل إنّها تشمل حتّى التحدّث بالمطالب المنسجمة مع الأخلاق, فما إن يتجاوز الكلام عن حدّه يصبح له أثرٌ معكوس, هل التفتّم؟ يعني لو كان من اللازم أن لا تتكلّم لأكثر من عشر دقائق, فلو امتدّ الكلام إلى خمس عشرة دقيقة فسوف يكون له أثر معكوس حينئذ, لماذا؟ إنْ شاء الله نبيّنه في وقته.

    

السبب في تحذير الإمام من ملئ المعدة هو ترك التلذّذ النفساني المانع من التجرّد والوصول

حسناً, لماذا حذّر الإمام من ملئ بطنه من الطعام؟ يريد الإمام أن نفتح أعيننا على الهدف والغاية التي نأكل لأجلها, فهل نأكل لسدّ الجوع ولأجل الوصول إلى الغاية المقصودة والمرجوّة من عمليّة الأكل التي فطرنا الله عليها؟ أم أنّنا نأكل للاشتهاء والتلذّذ؟! هذه هي المسألة, حينما يكون الأكل الذي تأكله لأجل التلذّذ ألا يكون مانعاً وصارفاً للذهن عن المطالب الربوبيّة؟ لو يتذكّر الإخوة قد بينّت الأمر بالنسبة لمسألة الزواج والنكاح, فحتّى مع كون الزواج أمراً مباحاً من قبل الشارع, حيث يقول الله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} نعم في قوله تعالى {ما طاب} معنى عميق جداً وهو ينطوي على العديد من النكات, ولكن حينما تأتي وتقول: قد أجازني الشرع في الزواج سواء زواجاً دائماً أم مؤقتاً, فحيث أنّ الشرع قد أجازني فأنا سوف أُقدم على التلذّذ والاشتهاء وأنتفع بهذه الرخصة, ألا يوقفنا هذا العمل عن حركتنا وسيرنا نحو الله؟ ألا يوجّه ذهننا إلى الجانب الحيوانيّ؟ أم أنّه يجب أن يخضع جميع ذلك لقانون محكم ومعادلة دقيقة, يجب أن ندرس هذه المسألة بشكل عقلائي لمعرفة ما إن كانت ضروريّة أم لا, فهذا الغذاء الذي نقوم بتناوله هل هو ضروري أم لا؟ أم أنّنا نأكل لأجل الشهوة فقط, فحينما يكون الطعام لأجل الاشتهاء ألا يترك أثر سوء على الأعضاء والجوارح, وعلى الكبد والكلية؟ يعني: هل يمكننا أن نشرع بالأكل كيفما كان لمجرّد كونّه طعاماً لذيذاً دون أن نفكّر بكونه مضراً أم لا؟ ألا يجب أنْ ننظر إلى آثاره؟! فتناول اللحم إنْ كان يولّد لنا الأسيد يوريك ويرفع مستوى الدهون فعلينا اجتنابه, يجب أن نتعامل مع المسألة بشكل عقلانيّ لا شهواني, فلو كان طيّباً ولذيذاً فما شأننا وذلك.. فليكن لذيذاً.. يجب أنْ يكون منطقيّاً وبشكل عقلائي, فإن كان منطقياً ومبنياً على أساس التعقّل, فهذه النفس الحيّة والمشتملة على الحياة, والتي كلّ هدفنا هو الحفاظ عليها، ستبقى حياتها ونورانيّتها معها وهي أهمّ ما يملك الإنسان, ولأجلها يجاهد نفسه, فهذه الحياة ستبقى كما هي، ولن يمّسها حينئذ أي أذى، وأمّا لو أراد أنْ يُرجع نفسه إلى الحالة الشهوانيّة, فيبدأ يعترض على زوجته: لماذا لم تطهي الطعام الطيّب واللذيذ هذه الليلة؟ لقد أتعبتِ نفسك ثلاث ساعات... ألا تعرفين أنّي لا أحب هذا الطعام؟ فيشرع بالاعتراض على هذه المخدّرة المكرّمة, فيشغلها بألف مخمصة ويتعبها... ويشرع بالاعتراض: دسمه قليل.. ملحه قليل.. زيته قليل.. فبدلاً من الشكر يشرع بالضغط والمحاسبة وإتعابها ووضع الأثقال على كاهلها... هل هذا صحيح وجيّد؟
أم أنّ الأحسن أنْ ينظر إلى نوعيّة الطعام, فإن كان مفيداً يشكرها ويشجّعها ويمتدحها.. وهو ما يزيل التعب والعناء الذي تكبّدته, حينئذ ترى أنّ زوجها قد أتى وهو يمدح طعامها فتشعر بزوال حالة التعب وتحسّ بالنشاط, وحينما يزول التعب عن الزوجة يشعر الزوج في نفسه أنّ لهذا الطعام أثر على بدنه, وله آثر عجيب على الجميع.
هل هذا أفضل أم أن يأتي ويعترض ويتكلّم ويشرع بالتوهين.. بعد عشر سنوات من الزواج لا تحسنين طهي الأرز مع الفول [يضحك السيد] أو أنّك لا تجيدين طهي الحساء أو أو ... حينئذ يصبح حالها مكدّراً, وتصبح آثار الطعام عجيبة ومؤذية, وهذا مهمّ جداً وله حساب وكتاب,
وعلى الإنسان أن يهتمّ بجميع هذه المسائل واحدة واحدة, وإن شاء الله نترك تتمّة المسألة للجلسة الآتية..
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.

 

 

 


[1] ـ مجموعة من الأبحاث المخطوطة للمرحوم العلامة تسمّى في الفارسيّة بـ "الجُنگ"، ويُعمل حالياً على تنظيمها وطباعتها ونشرها وقد صدر المجلّد الأول منها باللغة الفارسيّة تحت عنوان "مطلع أنوار".

[2] ـ الإنسان8

[3] ـ الأحقاف 20

[4] ـ الكافي الشيخ الكليني ج 2 ص 237

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی <-- -->