معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
المقالات و المحاضرات > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 201 إلى الأخير > شرح حديث عنوان البصري ـ الجلسة رقم 224: السلوك هو الالتزام بالحق والدفاع عنه لا عن النفس

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح حديث عنوان البصري المحاضرة 224

السلوك هو الإلتزام بالحق والدفاع عنه لا عن النفس

ألقيت في 26 ذي الحجّة 1436 هجري قمري

 

ألقاها:
سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه اللـه

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد وعلى أهل بيته الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين

[يقول الإمام السجاد عليه السلام :] (وأمّا اللواتي في الحلم، فمن قال لك: إن قلت واحدة سمعت عشرًا، فقل: إن قلتَ عشرًا لم تسمع واحدة)
يعني: فيما يتعلق بالحلم وكفّ النفس في مسائل السلوك، إن قال لك شخص: إن قلتَ واحدةً سمعتَ عشرًا، فقل له: إن قلتَ عشرة لم تسمع حتى جوابا واحدًا، وإن شتمك شخص فقل له: إن كنتَ صادقًا فيما تقول، وكان كلامك صحيحًا، وحقيقيّاً، و واقعيا، فأسأل الله أن يغفر لي، وإن كان كذبًا وبهتاناً، فأسأل الله أن يغفر لك، ومن وعدك بالكلام الفاحش فعِده بالنصيحة والرعاية.

    

مرجع هذا البحث هو حرص الإنسان على مكانته الاجتماعية وتعلّقه بها

لقد تكلّمنا حول هذه الفقرات، وبيّنا للرفقاء أنّ مرجع كلّ هذه المطالب يرجع إلى حالة الإنسان النفسيّة، وكيفيّة تعامله في المسائل الاجتماعيّة؛ فالمطلب، في الواقع، يدور حول هذه المسألة، وهي: أنّ الإنسان يريد أن يقيّم مكانته و موقعيّته في مثل هذا النوع من المواقف، وهذه المسألة مهمّة، وكلّنا ـ بدون مجاملة ـ متورّطون فيها، كلّنا عالقون بها. فذاك الذي يقول: (إن قلتَ واحدةً سمعتَ عشراً) لو قيل له: (هو لم يقل إلا واحدة، فرُدّ عليه بواحدة) ، [فماذا سيكون جوابه؟ ] وما الذي يجعله يقول: (إن قلتَ واحدةً سمعتَ عشراً)؟ ما الذي دعاه لذلك؟ أليس الداعي هو إثبات نفسه؟ فهو لا يريد إثبات المطلب بل يريد أن يثبت نفسه، وإلا فإنّ جواب الكلمة الواحدة يكفي فيه كلمة واحدة، ويعتبر حينئذ قد ردّ عليه، فلماذا يقول سأردّ عليك بعشرة؟ لأنه يريد أن يقول بأن تسعة من الكلمات كانت لأجلي، وواحدة جوابًا عليك، فتسعة ترجع لي "أنا"، ولأنّك قلتَ هذا الكلام لي "أنا" وتعرضّت لشخصيتي "أنا"!!
ولكن الإمام في المقابل يقول: قُل: (لو قلتَ لي عشراً، فلن أردّ عليك حتى بواحدة)؛ فلماذا لا يردّ عليه؟! هذه المسألة تحتاج إلى كلام موسّع، وهي مسألة: لماذا لا ينبغي على الإنسان أن يَرُدّ؟ وأين ينبغي على الإنسان ألاّ يرد، وألاّ يعتني بكلام المخاطب وبالردّ عليه؟
في أحد الأيّام كنتُ في خدمة المرحوم العلامة رضوان الله عليه، فقلت له: الشخص الفلاني تكلّم عنكم بكذا، وعن المطالب التي قلتموها بكيت وكيت، حسب ما سمعت، فهل تسمحون لنا أن نذهب ونوضّح له الخطأ الواقع فيه، ونرفع الإبهامات والإشكالات الموجودة عنده، فأجابني قائلاً: إنّ هذا الشخص ليس شخصًا يحتاج لرفع الإبهام والإشكال، فهو يعرف القضايا والأمور بشكل جيد، فلن يكون هناك نتيجة لذهابكم، وذلك أنّه في بعض الأحيان يكون هناك شخص قد فهم المسألة بشكل خاطئ، ووقع في الجهل؛ ففي هذه الحالة يجب أن ترفع الإبهام والإشكال الحاصل عنده، وهذه هي وظيفتك وتكليفك، فعندما يكون عند مؤمنٍ سوءُ ظنٍّ، فينبغي على الإنسان أن يرفع سوء الظن ذاك.

    

ديدن الأولياء هو السعي لرفع سوء الظنّ من نفوس المؤمنين

قال لي أحد الأصدقاء (وهو مازال على قيد الحياة): كنتُ في خدمة المرحوم السيّد الحدّاد، وكان قد سمع بأنّ أحد الأشخاص قد وقع تحت تأثير بعض المسائل، فكان يقول عن السيد الحداد بأنه سنّي، وليس من أهل الولاية، وما شابه ذلك من هذا الكلام الموجود دائماً. يقول صديقنا: كنّا نمشي في الشارع مع بعضنا أنا والسيّد الحدّاد فالتقينا بهذا الشخص، فقام السيد الحداد بالسلام عليه، وكان شخصًا معمّمًا، فتجاوز السيّد الحدّاد ولم يرد عليه السلام! ثم بعدها قال لنا السيد الحدّاد: ما الذي فعلناه نحن حتى لا يُرد السلام علينا؟! أليس ردُّ السلام واجبًا؟!
فأنت مع أنك معمّم ألا تعلم بأن ردّ السلام واجب؟! لقد كنّا نتوقّع هذا من غيرك لا منك. غريب جدًا هذا الأمر، حيث أنّك ترى أنّه عندما يصل الإنسان إلى المحكّ بنفسه فإنّك ترى أنه لا فرق بينه وبين الآخرين، فهؤلاء لسانهم فقط هو الذي يتحرّك [ويدعو الناس إلى الدِّين] ولكن قلوبهم لا تتحرّك من مكانها مع تلك الألسن، فهؤلاء يتكلّمون ويعطون محاضرات وينصحون ويهبّون إلى هنا وهناك، ويكتبون مقالات، ويبلّغون، وينتقلون من مجلس إلى مجلس؛ ولكنهم لا يحرّكون في جميع ذلك إلا ألسنتهم.
ثم قال السيد الحداد: (لنذهب ونصحّح الخطأ الموجود عند ذلك الشخص؛ إذ ليس من الجيّد أن يبقى على اشتباهه)... انظر إلى أولياء الله كم يهتمون بمسألة مساعدة الآخرين وهدايتهم، فهم لا يتوقّعون شيئاً من الآخرين ولا يريدون شيئاً منهم، و هم لا يذهبون و يقدّمون هذه النصائح لكي يأتي هذا غدا إلى منزلهم و يصبح من مريديهم، فهم ليس لهم رغبة في الكلام مع أحد وحالتهم تقتضي ترك الحديث حتى نسائهم وأولادهم!
حسناً، يقول صديقنا: ذهبنا مع بعضنا إلى منزل ذلك الرجل، ودققنا الباب ففتح الباب، فقال له السيد وهو واقف على الباب دون أن يدخل: عندي سؤال واحد لك فقط؛ نحن نشهد بالتوحيد وبرسالة النبي وولاية أمير المؤمنين صلوات الله عليهما؛ فلماذا لم تردّ علينا السلام؟ وعلى أيّ أساس؟ فما هي المسألة؟ وأنا أسأل ذلك منك حقيقة وواقعًا. فلَم يَرُدّ عليه ذلك الشخص بأيّ شيء، وبقي مطرقاً برأسه إلى الأسفل وخجل من عمله جدّاً، وندم عليه، ثم اعتذر على ذلك، و انتهى الأمر بذلك فقط.
فلماذا كان الأمر كذلك من الأول؟ فانظر، إنّ الأمر بهذه السهولة؛ قال له: لماذا لا تردّ عليّ السلام، وأنا أشهد ألاّ إله إلاّ الله، وأنّ محمّدًا رسول الله، وأن عليّاً وليّ الله، فلماذا لا تردّ عليّ السلام؟! فبُهت ولم يحر جوابًا؛ إذ لو قال: (إنك لستَ من أهل الولاية)، فسيقول له: (أنا أشهد أن علياً ولي الله أمامك فلا معنى لأن تقول لي ذلك). هل التفتم؟ حسناً، لقد كان شخصاً صافيًا قد أثّروا عليه، فانفعل؛ ولكنه صار يحترم السيّد بعدها.
لو دقّقنا في هذا المطلب لوجدنا أن المسألة ترجع إلى نفس الإنسان، فالذي يُهتمّ به هنا في الواقع هو مسألة النفس وإثباتها، فهي تريد أن تثبت نفسها، فعندما تريد النفس أن ترفع من مقامها وشأنها فلا علاقة لها بمحتوى هذا الكلام الذي يُقال، أهو صحيح أم خطأ؟ لأنها تريد أن تثبت نفسها، وألاّ تفقد موقعيّتها ومكانتها، وألاّ تبدو مقصّرة أمام الآخرين، فيقولون إنّ فلانًا قد أخطأ.

    

التراجع عن الكلام؛ متى يكون مذموماً ومتى يكون ممدوحاً

ذات مرّة، قال لي أحدهم في إحدى الوقائع: (إنّك قد قلتَ هذا الكلام ثم تراجَعت عنه)
فقلتُ له: (نعم. صحيح، أنا قلتُ هذا الكلام ثم تراجعتُ عنه)
فقال لي: (بناءً على هذا، كلامك لا يُعتمد عليه أبدًا؛ لأنك تتراجع عنه).
فقلتُ له: نعم كما تقول، فأنا عندما أشخّص أمرًا، فإنّني أقول ما شخّصته في ذلك الوقت؛ فهل أنا معصوم حتى يكون كلامي الأوّل والآخر واحدًا دائماً؟! كلاّ، بل أنا بشر كباقي الناس، أقول ما شخصّته في ذلك الزمان بناءً على تشخيصي في ذلك الوقت، ولو لم أقُل فسأكون قد أخطأت خطأً كبيرًا.
فمثلًا عندما أكون معتقدًا بعدالة شخصٍ ما، أقول: إنّه عادل، وأصلي خلفه؛ فإذا رأيت منه فسقاً في يومٍ آخر، فهل ينبغي أن أصرّ على قولي: (إنه عادل)؟ لا طبعًا، بل يجب عليّ أن أقول عنه: إنّه فاسق. ولكنّهم يقولون: لا، بما أنك قلت عنه عادل فيجب عليك أن تبقى على قولك، وإلا فإنّ هذا يسبّب كسر شأنيّتك، فقد قمت بمدحه سابقا فلماذا تراجعت عنه الآن؟!
إنّ التراجع المذموم عن الكلام، هو أن يقول الشخص خلاف الكلام الذي قاله أوّلاً في نفس تلك الحالة والظروف التي قال فيها الكلام الأول، فهذا مذمومٌ وغلطٌ؛ ولكن إن تبيّن له أمرٌ جديدٌ، فيجب عليه أن يتراجع عن كلامه، لا أن يقول: أنا مصرّ على كلامي إلى يوم القيامة، وبما أنني قلتُ: (إنّ فلانًا شخصٌ جيّدٌ) ، فمهما عمل من عملٍ فلن أتراجع عن كلامي لأنّني قد قلته، فهذا عين الحمق، ولا ينبغي أن يصدر مثل ذلك إلاّ من شخصٍ عديم الفهم.
أو أن يوجد شخصٌ فاسقٌ، فيقول الحقير: (عليكم أن تنتبهوا منه)، ثمّ بعد مدّة يصبح شخصاً صالحاً، ويتوب ويغيّر من مسلكه؛ فهؤلاء يأتون ويقولون: (لا، بما أنّك قد قلت عنه: إنّه فاسد، فعليك ألاّ تغيّر رأيك فيه حتّى لو تاب مائة مرّة؛ فأنت نفس ذلك الشخص السابق، ومن المعيب تغيير الكلام). إنّ هذه القضية هي نفس قضيّة أبي حنيفة التي ذكرتها في عيد الغدير، عندما جاؤوا له بشخص ليحكم عليه فحكم عليه بقطع اليد، فقال له أحدهم: (إنّ المسألة ليست كما حكمتَ، فعليك أن ترسل أحداً بسرعة حتى لا يقطعوا يده) فقال: (أنا لا أغيّر كلامي، ولو غيّرت كلامي فلن أكون أبا حنيفة) فذهبوا وقطعوا يده!![1] لهذه الدرجة تصل المسألة! فحتّى لا يتراجع عن كلامه يقطع يد شخص بريء! ثمّ يقولون عنه: (إنه من مفاخر الإسلام)! أجل، لقد قال عنه أحد العلماء في كتابه: إنّه من مفاخر الإسلام!
ما الذي يعنيه هذا الكلام؟ فالحقير قد قال هذا الكلام في أحد الأيام وقد كان حينئذٍ في محلّه، ثم ظهر لي بعض المسائل وظهرت الحقيقة بشكل آخر، فيجب عليّ أن أغيّر كلامي وأقول الكلام الجديد، ولو ظهر لي أمر آخر في السنة الآتية فعليّ أن أقول الكلام المطابق لما ظهر؛ بل حتّى لو مرّ عليّ مائة سنة وفي كل سنة قلتُ كلامًا جديدًا مخالفاً للكلام السابق فبناء على ذلك الفهم و تلك الموقعيّة التي تحصل لي حينها، ينبغي عليّ أن أقول ما ظهر لي. وكلّنا علينا أن نكون كذلك، وهذا هو ما يسمى اتّباع الحق وعدم اتّباع النفس، فالذي يتبع نفسه يقول: (لا، من المعيب عليّ أن أغيّر كلامي؛ فإن غيرته فسيقولون: (كيف لفلان أن يغيّر كلامه بعد أن قاله؟!)).
مَن الذي يجرؤ على قول هذا الكلام إلاّ الشخص الذي يجعل نفسه في مكان المعصوم؟ فالمعصوم هو القادر على هكذا فهم، وهو من يُتوقّع ذلك منه ويُنتظر. أمّا نحن، بما أنّنا بشر، فعلينا أن نلبس لباسنا المناسب لنا، لا أن نلبس اللباس المتناسب مع الإمام عليه السلام؛ لأنه لا يناسبنا، علينا أن نحفظ حدودنا وألاّ نتجاوز الخطوط الحُمر، علينا أن نعمل طبقًا لما شخّصناه، وألاّ نتجاوز الحدود، وألاّ ندخل في حريم المراتب التي لا تليق بنا؛ فإن تلك الآفاق والمراتب متعلّقةٌ بأشخاصٍ آخرين.
جاء أحد الأشخاص وسألني عن أحد المسائل الاقتصادية، فقلت له: إنّها بالنحو الفلاني، فقال: (كنتُ قد ذهبت إلى أبيك في السابق وقال لي كلامًا مخالفًا لكلامك)، فقلت له: أولاً هذا الزمان يفرق عن ذلك الزمان إذ الفاصل بينهما عشرون سنة، وثانيًا أنا لست والدي فلو كنتُ أنا هو، وكانت لي نفس موقعيته فمن المحتمل أني كنت سأحكم بنفس حكمه؛ ولكن بما أنّي لست والدي فسأعمل طبقا لتشخيصي، فتشخيصي الآن هو هذا، فإن أردت أن تعمل طبقًا لتشخيص والدي فأنت المسؤول، ولا علاقة لي أنا بذلك، فأنا عليّ أن أعمل بنحو أستطيع أن أقدّم جوابًا عن ذلك غداً؛ نعم لو كانت موقعيّتي ورؤيتي وإشرافي واطلاعي مثله فلعلّ المسألة كانت ستختلف، بل لعلّها تجاوزت ماهي عليه الآن؛ ولكن بما أنّ هذا العبد ليس عنده هكذا إشراف، فعليه أن يعمل طبقًا للشرع وطبقًا لما يمليه علينا ظاهر الشرع وأن أحكم بناء عليه، وإلاّ فإنّ الله سيعاقبنا غداً، ويقول لنا: بما أنّ تشخيصك كان على هذا النحو فلماذا غيّرت رأيك بمجرّد أن قال لك فلان هذا الكلام؟!! من أين عرفت أنّ كلامه صحيح؟! من أين عرفت أنّه غير مخطئ؟ من أين عرفت أنّ التفسير الذي فسّر به ذلك الرجل عمل العلاّمة لم يكن تفسيرًا خاطئًا، فلعله حمل عمل العلّامة على خلاف ما هو الحق. لعلّ العلاّمة رضوان الله عليه عمل معك في ذلك الوقت على أساس مصلحةٍ ما، وعلى أساس أمر معيّن ليس عندك اطّلاع عليه، وأنت الآن تقيس كلّ أمورك ومسائلك على تلك المسألة التي تعامل معك بها، وتقول: (يجب أن يكون المطلب هنا أيضا على نفس النسق)! هذه هي النكات الدقيقة الظريفة التي يجب على الإنسان أن يلتفت إليها، وإلاّ ـ لا سمح الله ـ فإنّ كثيراً من الانحرافات والمهالك ستحصل له بسبب اشتباهه في نظرته للأمور، واشتباهه في الطريق.
إنّ كلّ ذلك يرجع إلى النفس، يعني عندما يقول الشخص: (إن فعلتَ هذا العمل فإنّي سأردّ عليك بهذا الجواب) فهذا يعني أنّني أقدّم نفسي هنا، فهو لا يهتم بصحّة المطلب وسقمه؛ لأنّه ذكر المسألة الفلانيّة فلا بد أن يسعى لإثباتها بأي طريقة، وبأيّ شكل كان، أو لأنّه أفتى بالفتوى الفلانية، فيجب أن يدافع عن تلك الفتوى بأيّ شكل كان ويجب أن يحافظ عليها وإلاّ فسيقال: (السيّد فلان المجتهد قد أفتى قبل شهرين بهذه الفتوى ثم تراجع عنها الآن)!
يا عزيزي، ما الضير في ذلك؟! إن تراجع عنها فليتراجع! هل المجتهد معصوم؟! لا، بل المجتهد كالأشخاص العاديين، فعندما يأتيه شخص ويقول له: (لقد رأينا الهلال بهذه الكيفيّة وبهذا الشكل) فعندها يفتي بناء لذلك على أنّ الليلة هي أوّل ليلة في الشهر، ثم يُقال له: (يا عزيزي لقد خدعوك، فلا يوجد هلال، ولا يوجد شيء، والكلام الذي سمعته كله هراء) فيقول: يا للعجب !! ثم يقول للناس: (تراجعوا، تراجعوا، فاليوم ليس أوّل يومٍ من الشهر فقد اتّضح الأمر).
أمّا الإمام عليه السلام فلا يمكنك أن تخدعه، لماذا؟ لأن الإمام معصوم، ويعلم هل الهلال موجود أم لا، أمّا نحن فلا، نحن يأتي إلينا شخصان ويحيكان المسألة ويرتّبانها بشكل جيّد، خصوصًا إذا كانا من أهل الاختصاص، فيأتون إليّ أنا العبد الطهراني لا إلى شخصٍ آخر ، فيقولان لي: (يا سيّد لقد رأينا القمر، وكان لهذه الجهة، ورأسه كان لأعلى وذيله لأسفل، وقطره بهذا المقدار، وفوق الأفق بهذا المقدار؛ يذكران كل شيء يتعلّق به، فأسأله: هل أنت رأيته؟ وتقسم على ذلك؟ فيقسم بالأقسام المغلّظة وبكلّ أنواع الأقسام...
في أحد الأيّام كنا في إحدى الغرف، وقال لي أحد الأشخاص: أنا أقسم لك بالأيمان المغلّظة أنّي لم أفعل ذلك الأمر.
فقلت له: أقسم. فقال: والله العلي العظيم أنّي لم أقل المسألة الفلانية،
فقلت له: هل أنت متأكد من قسمك؟
فقال: نعم.
فقلت له: ولكن قد سمعك الحقير بأذنه تقول هذا الكلام.
فسكت وأبكم ولم يحر جواباً، رغم أنّه قد حلف بالله العظيم، قد حلف أمامي أنّه لم يقل هذا الكلام، فقلت له: إن كنتُ أنا بنفسي سمعتك تقول هذا الكلام فماذا تقول، إمّا أن أكون أنا الكاذب أو أنت. فقال: هل تستطيع أن تحلف على ذلك. فقلتُ له: والله وبالله وتالله وربّ الكعبة، لقد سمعتك تقول هذا الكلام، وكأنّي أسمعها منك تقولها الآن!
إنّ القسَم عند بعضهم سهل كشربة الماء، ولا يردّهم عنه شيء فهم على كل شيء يحلفون بالله العظيم، هل التفتم؟ يقولون: نعم رأينا الهلال بهذه الكيفية. [و هنا يقول المجتهد :] (نعم أنتم مؤمنون وآثار الإيمان بيّنة على وجناتكم، فعلى هذا نحكم بأن الليلة هي أول ليلة من الشهر)، ثم يتبيّن أنهم كاذبون ولا صحة لكلامهم أصلاً. حسنٌ جداً، فهذا المجتهد الفقير ليس بيده شيء، إذ ماذا يمكن له أن يعمل؟ فهو يحكم طبقًا للظواهر وهذه الأمور.
ولكن هنا مسألة سأقولها لكم بشكل سريع وأمضي عنها فهي أحد الأسرار، وهي أن ذلك الشخص الذي قد نوّر الله قلبه عندما ينظر إلى هؤلاء ـ وبدون أن يعتني بسلسلة الأسباب الظاهريّة ـ فعندما يرى أنّ كلامهم بدأ يتأرجح شيئًا مّا، فإنّه يفهم المسألة كما هي عليه وعلى حقيقتها، ولعلّه لا يفهم الكلام الذي يفهمه الآخرون من المسائل التفصيلية وبنفس الوضوح؛ ولكنّه بمجرد أنه يرى أن كلماتهم بدأت تتغيّر فإنه يعرف حقيقة المسألة، ويدرك أنهم يريدون أن يخدعوه، فيقول لهم: (حسن جدًا، حسن جدًا، شكرًا لكم) وأمّا ذلك الشخص العادي الذي يعرف هذه القواعد والقوانين وليس عنده هذا النور فإنه يبني على الظاهر، فيصل إلى هذه النتيجة، وهذا الشخص بناءً على حاله ليس مقصّرًا؛ لأنه شخص عادي.. هذا هو الفرق بين هذين الاثنين.

    

على الإنسان أن يدافع عن الحق لا عن نفسه و رأيه

حسناً، إنّ هذا الشخص [الذي همّه أن يدافع عن نفسه] لا يهتمّ بالكلام هل هو صحيح أم خطأ، بل كل همّه هو ألاّ يذهب ماء وجهه بأن يتبين خطأُ كلامه؛ ولأجل ذلك عندما يشعر بأن المسألة تغيّرت فالسماء عنده تنطبق على الأرض، ويبدأ بحرث الأرض باحثاً عن أيّ مطلب من أيّ مكان ليساعده في إثبات مدّعاه، فتجد يريد أن يحصل على تلك النتيجة التي يتوخّاها من كل أمرٍ.
هذه الحالة ليست جيّدة، ولا توصل الإنسان إلى مكان، ولا تعطيه أيّة فائدة. من الجيد للإنسان أن يكون دائماً صافي النفس أمام الحقائق والأمور الواقعية وما هو موجود، وليس عنده اعتراض، وألاّ يلتفت إلى مسألة أنه قد يأتي يوم ويظهر الأمر على خلاف كلامه؛ فليكن خلاف كلامه، ما المشكلة؟! عندما يفكر الشخص كالتالي فيقول: عندما قلتُ ذلك الكلام الذي قلتُه هل كنتُ صادقًا فيه بيني وبين الله أم لا؟ فإن كنت فيه صادقًا فما هي المشكلة أن أغيّر نظري طبقاً للشواهد والقرائن الجديدة؟! لقد بيّن الله لي ذلك المطلب في ذلك الحين بذلك النحو، فما علاقتي أنا بذلك؟ ليقُل ذلك بكل شهامة وافتخار وهو مرفوع الرأس.. لقد قلت ذلك الكلام في ذلك الحين، وقلته كما كان قد بدا لي، ولكنّه تبيّن لي الآن بنحو آخر، فعليّ أن أقول إنّ المسألة بهذا النحو الآخر. فإن قيل لك: يا سيّد قد تكون المسألة غداً بنحو آخر! فقُل: الغد لم يأتِ بعدُ، فإن أتى الغد أو شهرين أو ثلاث فإنّ نفس هذا المسألة قد تتغيّر؛ هذا هو السلوك.
السالك هو الذي يأخذ نفسه بنفسه ويضعها أمام الله ويكون مسلّمًا فيها لأمره ورضاه، فمهما يرد الله أن يفعل بها يفعل، فمثلاً اليوم بيّن اللهُ له المسألة بهذه الكفيّة ، فله الحمد والشكر، وغدًا يوضّح له الأمر بتلك الكيفيّة، فليكن ، وفي اليوم الثالث يتضح للإنسان أمرٌ آخر، فليكن. هكذا يكون السلوك، يعني السلوك أن يكون الإنسان دائماً في مقام الالتزام بالحقّ والاهتمام به، لا في مقام الإجابة عن كلامه الذي قاله هو ، عليه أن يشعر بالمسؤولية أمام الحقّ فقط.

    

الحكم يتغيّر بتغير الظروف و المعطيات ؛ تغيّر موقف العلامة الطهراني نموذجا

والمسألة تتغيّر، وكذلك الظروف تتغيّر، نعم الظروف تتغيّر أيضًا، يعني ترى في أحد الأزمنة أنّ مقام المشيئة والتقدير هيّأ المقدّمات حتّى يصل الإنسان إلى تلك النتيجة التي ينبغي عليه أن يصل إليها، ثم تتغيّر الظروف والمقدمات فترى أنّ التقدير والمشيئة تُهيء المقدمات بنحوٍ آخر، وتظهر الأمور للإنسان بنحو آخر. وقد حصلت هذه المسألة لكثير من الناس، وقد شاهد الحقير في الفترات المختلفة في زمن المرحوم العلامة هذه الأمور، فقد حصلت في زمان المرحوم العلامة أيضًا ـ وقد بينتها سابقًا للرفقاء على نحو الإجمال وعبَرت عنها بسرعة ـ حصل ذلك في تلك المسائل الاجتماعية التي كانت تحدث له، وفي صحبته للعظماء في مثل هذه المسائل التي حدثت له، فقد بيّنت للرفقاء كيف كانت المسألة معه سواء في جلساته، أو محاضراته أو مطالبه التي كان يبيّنها، حيث كان الجميع قد تأثّروا بالأجواء، وآثاره ومؤلّفاته التي كانت من ذلك الزمان (وإلى الآن موجودة) تحكي عن حالة وأجواء ذلك الزمان.
أذكر أنّ المرحوم المهندس "بازرگان" رحمه الله كان يحاضر في "مسجد الهداية" في طهران. يقول: عندما أغلقت جميع المساجد أبوابها ولم تكن تتكلم عن هذه الأمور ولا تجري لها ذكرًا، كنا نسمع نداء "اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة" من "مسجد القائم" فقط.
وقد قمنا بطباعة تلك المقالة [التي كان يوزعها المرحوم العلامة من مسجد القائم] ولابد للرفقاء أنهم قد رأوها، كان المرحوم العلامة في ذلك الزمان يشعر بالتكليف نحو هذه القضية، وكان يحاضر ويجمع الأشخاص، وكان يقول لي: (يا سيّد محسن إنّ الأشخاص الذين يحضرون جلسة عصر الجمعة تكفيهم جلسة واحدة لكي يتغيّروا) يعني لو أنهم يحضرون إلى جلسة واحدة يستمعون فيها إلى كلامنا مرّة واحدة فقط؛ فإن ذلك كافٍ في تغيير أفكارهم ومنهجهم. ولكن هل بقي العلامة إلى الأخير هكذا؟ لا طبعًا، فبالالتفات إلى المسائل الأخرى التي حصلت، والقضايا الأخرى التي اتّضحت، رأينا أن العلّامة بدأ يبتعد شيئاً فشيئًا عن هذه المسائل، إلى أن أمست المسائل بشكلٍ آخر؛ فلكلِّ زمان مقتضياته الخاصّة به.
التفتوا لذلك، فأنا أقول هذا الكلام متعمّدًا، لأنّ هناك مطالب رأيتها قد كُتبت أو قيلت وأرى أن وظيفتي هي أن أدافع عن حريم العظماء والأولياء الإلهيّين، ففي تلك الحال كانت الأمور بنحوٍ ما، ثمّ انتهت المسألة بصورةٍ أخرى. لقد كان العبد حاضرًا ـ وكان عمري 12 أو 13 سنة ـ عندما تشرّفنا بالذهاب إلى كربلاء والنجف، وفي ذلك السفر كنّا نحن ووالدتنا برفقة المرحوم العلامة، وكان ذلك منذ فترة بعيدة جدًا ، فقد ذهبنا إلى كربلاء والظاهر أنها كانت فترة حكم "عبد الرحمن عارف" الذي كان بعد "عبد السلام عارف"، فكانت الطرق مفتوحة بين إيران والعراق، وقد كان الإيرانيون كثيراً ما يذهبون إلى العراق، وفي تلك السفرة كان الناس كثيرون جدًا هناك، وكانوا يذهبون بسيّاراتهم الشخصيّة، ومن كثرتهم كانت كل شوارع كربلاء والمناطق المحيطة بها مملوءة بسيارات الإيرانيين الشخصيّة، وكان الازدحام عجيبًا، فقد كانت العلاقات جيّدة، وكان الناس يأتون ليستفيدوا. تشرّفنا في هذا السفر بالذهاب إلى النجف، وفي أحد الأيّام بعد الظهر تشرّفنا بالذهاب إلى الحرم مع المرحوم العلاّمة، فتحرّكنا ووصلنا مقابل صحن أمير المؤمنين عليه السلام، وعندما أردنا أن ندخل كان هناك المرحوم آية الله الخميني ـ رحمة الله عليه ـ في الجهة المقابلة مع عدّةٍ كانوا حوله، وكانوا يريدون الخروج من الصحن، فتلاقى هذان الشخصان ببعضهما وتسالما وعانق أحدهما الآخر وأمثال ذلك، ثم قال المرحوم آية الله الخميني للمرحوم العلاّمة: متى وقت جلوسكم؟
فقال له العلامة: مجيئنا إلى هنا لعدّة أيام لأجل الزيارة، فلن يكون هناك مجال للجلوس، فالزيارة كلّها يومان أو ثلاثة، فقام آية الله الخميني من جهته بتوديع العلّامة، ثمّ دخلنا الحرم وتشرّفنا بزيارته.
وعلى كلّ حال على الإنسان أن يعمل طبقًا لتشخيصه بما يتوافق مع الظروف والأجواء المحيطة به حينها. وما بيّنته للرفقاء كان هو إحدى الأمثلة على هذه المسألة؛ وهناك أمثلة أخرى تحققت في السابق وتتحقق الآن، هل التفتم؟
في ذلك الزمان كان التقدير والمشيئة الإلهية على نحوٍ مختلف، فعلى الإنسان أن يعمل طبقًا لهذه الكيفيّة، وطبقًا لتلك النظرة، وطبقاً لذلك الفكر وذلك الفهم؛ وإن تغيّر ذلك التقدير وتلك المشيئة في أجواء مختلفة وانتقلت إلى أُفق ومرحلة أخرى، وتبيّنت شواهد وقرائن جديدة، فلا يمكننا حينها أن نستصحب الحالة السابقة، ونفكّر بنفس الطريقة السابقة ونعمل بكيفية التأمّل السابقة نفسها، فنمضي على نفس النحو الذي كان في الزمان السابق. والتعذّر بأن: مخالفة الرأي السابق غير مناسبة، ولا تصلح، وقد كنّا سابقًا كذا فكيف لنا أن نغيّر رأينا؟! [هذا التعذّر غير صحيح،] فقولنا: (لقد كنّا سابقًا كذا وعلينا أن نبقى على ما نحن عليه) لا أصل له؛ فالمسألة تتغير من ثانيةٍ لأخرى، ففي هذه الثانية هناك تكليف وفي الثانية التالية هناك تكليفٌ آخرٌ، وهذا الأمر واضح، فالآن ـ على سبيل المثال ـ هذا المنديل طاهر (هذا مثال على أن التكليف يتغيّر من ثانية لأخرى فما بالك بمضي السنوات أو الشهور) فأستطيع بهذا المنديل أن أنشّف وجهي، وألمسه بيدي، و إن لم يكن هناك تربة أستطيع السجود عليها فيمكنني أن أسجد على هذا المنديل؛ وأمّا عندما يتنجس هذا المنديل فلا أستطيع بعدها أن أنشّف وجهي به، مع أنّ الفاصلة بين الحالتين ثانية واحدة فقط، أو مثلًا لا يجوز لي أن أسجد عليه؛ لأن السجود يجب أن يكون على مكان طاهر، فالتكليف مختلف بين الثانية الأولى والثانية، فحالة الإنسان يجب أن تكون على هذا النحو.

    

أهم أمر في السلوك هو أن يلتزم السالك بما يظهر له من الحق والمشيئة الإلهية

وليكن بعلمكم أيها الرفقاء بأنه بحسب تجربتي مع العظماء، ومصاحبتي لهم فإنهم قد علّموني هذا الأمر، وهو أنّه لا يوجد شيء أهم وأشدّ ضرورة للإنسان من أن يلتزم بما يمليه عليه التقدير والمشيئة الإلهية والتي تظهر بصور مختلفة: سواء كانت أمرًا من ولي الله، أو نفس نظر الإنسان ورأيه، فهناك بعض الموارد على الإنسان أن يشخص فيها المسألة هو بنفسه؛ وليس هناك شيء أكثر إهلاكًا وضررًا من أن يُصرّ على مخالفة أوامر ولي الله، أو الأمور التي يدركها هو بنفسه أو يراها بعينه، فالخطر يكمن هنا، فالأشخاص الذين أتوا ثم رحلوا إنما كان سبب سقوطهم وابتعادهم هو من هذه الجهة وبهذا السبب؛ ففي كلّ ظرف يجب على الإنسان أن يقوم بتكليفه في ذلك الوقت.

    

عظمة الإمام الحسين عليه السلام في اتّباعه لمشيئة الله لا في الحرب والثورة

فهذا سيّد الشهداء عليه السلام .. ما هي معرفتنا به؟ انظر لمعرفتنا! معرفتنا بالإمام الحسين عليه السلام واقعة في أفق بعيد جدّاً [عن الحقيقة التي هو عليها]، فما نعرفه عنه عليه السلام أنّه شخص وقف أمام الظلم، ولم يستسلم له، واعترض عليه، وبارز وحارب وقاوم وقاوم حتى استشهد؛ ولكن الإمام الحسن لم يَقُم بذلك، بل أتى وسلّم وبايع وصالح، وكلّما قيل له شيء كان يقول: حسنًا. ويسكت و لا يرد على الأغلاط التي يقوم بها معاوية، ويرى تجاوزات معاوية على حريم المسلمين ويسكت عليها، ولا ينبس ببنت شفة. إنّ هذه النظرة خاطئة، وهي توهين لمقام لإمام عليه السلام؛ فالإمام الحسين مثل الإمام الحسن صلوات الله عليهما، لا فرق بينهما، فشجاعة الإمام الحسن في حروبه مع أمير المؤمنين إن لم تكن أكثر من شجاعة الإمام الحسين فهي ليست بأقلّ منها.
المشكلة أنّنا نرى أنّ الشجاعة منحصرة بالقبضة، وضرب السيوف، والحال أنّ هذه الشجاعة موجودة أيضًا عند "رستم دستان"[2]وأمثاله، وهي ليست بشيء، وقد يكون هناك شخص أقوى من الإمام الحسين عليه السلام ويقوم بضرب الإمام الحسين، ألم يكن عمرو بن عبد ود كذلك، هل هذا يُعدّ فنّاً؟! هل لابدّ للإمام أن يكون أقوى من جميع الأشخاص؟ لا طبعًا، فالإمام قدرته محدودة بحسب متطلبات الحياة التي هو فيها، وكل شخص له شكل معين، فالإمام إذا مرض لا يستطيع حتى أن يقوم، فالإمام السجاد عندما كان إماماً في يوم عاشوراء لم يكن قادرًا حتى على القيام فما بالك بالقتال والدفاع، لم يكن للإمام عليه السلام قدرة لأن يجلس من فراشه فطلب من السيدة زينب أن تعطيه عصًا وسيفًا، وتأخذ بيده لكي يقوم ويدافع عن إمامه، فقد كان ذلك وهو إمام حينها؛ وذلك عندما أتى إليه الإمام الحسين لكي ينقل الإمامة له، أو أنه أتى لكي يهيئ الأرضيّة له لكي تنتقل الإمامة له بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام، فهناك كلام في هذه المسألة.. على كل حال في ذلك الوقت لم يكن مستطيعًا أن يحرّك حتى يده؛ فقد تمكّن منه المرض، وأضعفه، وهو مثل سائر الأشخاص [يؤثّر عليه المرض]. نعم، لو أراد أن يستفيد من إمامته فإنّه قادر على أن يقلب عالمي الملك والملكوت على بعضهما البعض، ولكن بحسب الظاهر فهو غير قادر؛ لأنه مريض، فلو كان الإمام عليه السلام في زماننا هذا لأخذ من هذه الأدوية مثل: "البينيسيلين" و "الاستامينوفين" ـ طبعًا من نوعها الجيد لا الرديء ـ والمغذّي وما شابه ذلك، ولو كان في المشفى فلعلّه يرقد في المشفى ويأخذوه لكي يرتاح هناك، ويضعون له تلك المسائل التي هناك؛ نعم في بعض الأحيان يكون الأطباء سيخطئون فيقول لهم: لا تفعل هذا بل هذا، ونحن المسؤولين. فإن مثل هذه المسائل قد حصلت مع المرحوم الوالد؛ ولكن بحسب الظاهر يجارون الجميع، و يضحكون مع الجميع، ويتعاملون بحميميّة مع الجميع، ويتوافقون مع الجميع، ويتعاملون بأريحية، فلا يحسبون لأنفسهم حسابًا خاصّاً، وليس عندهم أحد أعلى من الآخر، فالشخص عندما يدخل المسجد يفتّش ليعرف أيهم هو رسول الله، فلا يرى اختلافًا بينهم فهم كلهم مثل بعضهم البعض، نعم .. هذه المسألة فيها كلام مفصّل، فالأعرابي عندما يدخل للمسجد يقول: أيّكم محمد؟ هل التفتم؟ المرحوم العلامة عندما يدخل إلى مجلس الفاتحة لأحدهم لم يكن لينظر إلى جهة الجدار حتى يجلس بجانب الجدار، بل كان يدخل ويجلس وسط المجلس، وقد تكرر هذا الأمر لعدّة مرات في مسجد "بازار" طهران [مسجد سوق طهران]، في ذلك المسجد الذي كان يصلّي فيه الشيخ حسن سعيد، لعلّ اسم المسجد "چهل ستون" [الأربعون اسطوانة]، فكم مرّة ذهبنا إلى هناك بصحبته وبمناسبات مختلفة، مثل: مناسبة فاتحة السيد الحكيم ـ رحمه الله ـ وفاتحة المرحوم الشيخ حسين الحلّي، وكذلك فاتحة صاحب المجلس .. فكنّا نذهب مباشرة إلى وسط المجلس المكتظّ بالناس فنجلس إلى جانب الناس العاديين، أمّا باقي المحترمين، فإنهم يأتون ويقفون لكي يقوم لهم أحدٌ جالس إلى جانب الجدار، فينتظرون ـ والحال أنه لا يوجد مكان خالٍ بجانب الجدار ـ حتى يَفسح لهم أحد الجالسين قليلاً من هذا الجانب والآخر من الجانب الآخر حتى يجد بعض السانتيميترات القليلة لكي يجلس فيها، يا أخي لماذا لا تذهب وتجلس في الوسط؟! هل هناك مسامير في الوسط؟! يقول: (بما أنني أنا مُعمّم فيجب أن أجلس إلى جانب الجدار). هل هناك مسمار في الوسط فتخاف أن يدخل فيك؟! اذهب واجلس في الوسط؛ هل التفتم؟ اجلس، ليرى الناس أن هناك معمّمين جلسوا إلى جانبهم، هل التفتم؟ هذه المسائل هي التي تُخرج الإنسان من الكثرات، وهذه هي التي تدخله في الكثرات، و التوهمات، والاعتباريات أكثر، فمجرد جلوسه في مكان يستطيعُ أن يتّكِئ عليه يصبّ على رأسه بلاءً عظيماً، ومجرد جلوسه في الوسط وإلى جانب الناس ينزل عليه بركاتٍ اللهُ أعلم بقدرها!! فلا بدّ من اتّباع أوامر أولياء الله، وليس هناك طريق آخر.
الإمام الحسين عليه السلام هذا هو نفسه الذي لم يحارب لمدّة عشر سنوات في زمان معاوية، لماذا لم يحارب؟ ألم يكن إمامًا؟ ألم يكن معاوية حاكمًا ظالماً؟ لماذا لم يحارب لعشر سنوات في زمان معاوية وبقي في المدينة؟ لماذا؟ لأن أخاه كان قد صالح معاوية، وإن كان ذلك اللعين لم يلتزم بذلك الصلح وعمل بخلافه من بداية الأمر، وفي نهاية المطاف قام بدسّ السمّ للإمام الحسن عليه السلام فاستشهد على أثرها؛ ولكن مع ذلك احترم الإمام الحسين ذلك الصلح وقال: (لأنّ الإمام السابق كان قد عقد هذا الصلح بينه وبين معاوية فهذا الصلح محترم، فمادام معاوية حيّاً فالحكومة متعلّقة به، فإذا هلك معاوية فإن الأمور ترجع إلى الإمام عليه السلام، والحال أن معاوية لم يمت بعد، فكيف يحق لي أن أُخرج سيفي من غمده وأثور).
يمكن لأحدهم أن يقول: كلامك هذا يا سيّد غير صحيح، فالإمام الحسين هو إمامٌ مثل الإمام السابق عليه، فبما أنّه إمام فله حقّ الفيتو على صلح أخيه؛ لأنه إمام؛ ولكنّ الإمام يقول (لا ، فإني إن أتيت وأجريت الفيتو وأزلت تلك المعاهدة ، فإن احترام الإمام السابق سيكون موردًا للسؤال، وسيُقال: ألم يكن أخاك إمامًا؟ ألستَ تقول: بأن الإمام مطّلع على كل شيء، وعنده علم الغيب فلماذا لم يقل: إن هذه المعاهدة سارية ما دمتُ حيًا، أمّا بعد موتي فإن هذه المعاهدة أنت المسؤول عنها فتستطيع أن تفعل فيها ما تريد فافسخها إن أردت ؛ ولكن المعاهدة كانت مطلقة)، تلك الشخصيّة التي هي الإمام الحسن التي أمضت المعاهدة لم تكن قد أمضتها وأجرتها بما هي شخصيّة حقيقية بل بما هي شخصية حقوقيّة، أي بعنوان الإمامة لا بعنوانه هو كشخص عيني خارجي، فهذا الشخص الخارجي يموت ويُدفن ويضعون عليه الحجارة، فالإمام عندما يفعل الفعل بعنوان كونه إماماً فلا يوجد فرق حينئذ، سواء كان الذي أجرى المعاهدة هو أمير المؤمنين أم الإمام الجواد عليهما السلام، فجميع الأئمة الذين يأتون بعده ملزمون بالعقد الذي أجروه الأئمة السابقون، وعليهم أن يعملوا على أساسه، ويسيرون بناء عليه، وهذا ما فعله الإمام الحسين، هل التفتم؟
ولكنّنا نحن نأتي وننظر إلى الإمام الحسين عليه السلام من جهة واحدة فقط، وهي أن الإمام الحسن صالح معاوية ولكن الإمام الحسين وقف أمام ظلم يزيد، هل كان ظلم يزيد أسوء أم ظلم معاوية؟! كان معاوية أسوء من يزيد بمائة ضعف، فـ "يزيد" لم يكن إلاّ حمارًا جاهلًا بلا فهم، فقد كان حماراً وإلا لو لم يكن حمارًا لما فعل هذه الأفعال التي فعلها، أمّا معاوية فقد كان ثعلبًا مكارًا، وقف مقابل أمير المؤمنين والإمام المجتبى، واشترى القادة، وأرسل الرسائل إلى هنا وهناك، وسمّى نفسه خال المؤمنين، أمّا يزيد فقد كان شخصًا عديم الفهم محبّاً للنساء، شهوياً، يلاعب القردة ، وأمثال هذه الأمور التي لا تساوي شيئًا.
بناءً على هذا؛ فالقيام والثورة أمام أيهما كان أولى؛ يزيد أم معاوية؟! قطعًا القيام أمام معاوية كان أولى منه أمام يزيد بلا كلام؛ ولكن الإمام عليه السلام لم يقم بهذا العمل، لماذا؟ لأن الإمام إمام، لا في الحرب والمبارزة فقط، بل إمام لأنه لا يقوم بأيّ عمل إلا بتقدير الله [وإرادته]، فإن كان تقدير الله أن يكون هناك حرب ومبارزة وجهاد فبسم الله [تراه يقوم]، وإن كان التقدير هو المعاهدة والصلح فلا بد أن يُبقي السيف في غمده ولا يتحرّك، هكذا هو الإمام، في تلك الموارد التي ينبغي أن يحارب فيها يحارب، وفي الموارد التي ينبغي أن يسكت فيها ويقعد يقعد، فعليه أن يتحرّك طبقًا للتقدير والمشيئة الإلهية.

    

خطأ الذين لا يرون في الإمام الحسين إلا الثورة و مقارعة الظلم

ولكننا نحن نأتي ونطرح المسألة بشكل آخر، حتّى وصل الأمر ببعضهم إلى أنّهم يشبّهون الإمام الحسين في محاضراتهم ببعض الأشخاص الثوريّين الذين أتوا إلى الدنيا ورحلوا عنها وهم من المعروفين من قادة الثورات، فيقولون: إنّ الإمام الحسين مثل الشخص الفلاني ـ الذي لا يمكننا أن نأتي حتى باسمه ـ إلاّ أنّ الفرق بينهما أنّ كلًا منهما في زمان خاص، فهذا الشخص في الزمن الفلاني، وذاك قبل ألف وأربعمائة سنة، فهؤلاء لا يعرفون مِن الإمام الحسين عليه السلام إلا هذا الأمر، فتراهم لا يستطيعون أن يتحدّثوا عن الإمام الحسن، ولا يستطيعون أن ينبتوا ببنت شفة عن الإمام السجّاد، فبحسب فهمهم لا مكان لغاية وطريقة الإمام السجاد، فهم لا يرون إلاّ الإمام الحسين ولا يرونه إلاّ في هذه المسألة، مع أنّ قضيّة كربلاء كلّها لم تكن إلا عدّة أيام أو عدّة ساعات، والحال أن الإمام الحسين عليه السلام كان إمامًا لمدة عشر سنوات، فلماذا لا تتحدّث عن تلك السنوات العشر؟! وكأنّه لم توجد إلاّ تلك السويعات التي حدثت فيها عاشوراء، ثم قتلوه شهيدًا عليه السلام! وكأن شخصية الإمام الحسين عليه السلام لم تكن إلاّ تلك السويعات التي كانت فيها حادثة كربلاء فقط، وأمّا تلك العشر سنوات قبلها ومخالطته للناس، ورسائله التي أرسلها، وأحاديثه التي تحدّث بها وكلامه، والمسائل الشرعية التي قالها، و المسائل الأخلاقية، وتربيته للأفراد، وإرشاده للناس، فجميع هذه الأخلاق والأفعال والصّفات نضعها جانبًا، ونجعل ما يحكي عن شخصية سيد الشهداء هي تلك الساعات الأخيرة لا غير.. إنّ هذا لم يعد إمامًا!! هل التفتّم ؟
في أحد الأيام رأيت أمراً كان عجيبًا جدًا بالنسبة لي واقعًا، وذلك أنّ أحد هؤلاء العلماء كان يقول في أحد كتاباته: (يجب على الإنسان أن يكون ذو شجاعة و جرأة وبطولة بحيث يقدر أن يبيّن المطالب ويتحدّث عنها ويظهرها؛ ولقد كان هناك أشخاص عندهم شجاعة وجرأة في بيان الحق، كالعالم المصري المعروف من علماء الأزهر الشيخ شلتوت فقد جاء بعد مئات السنين، وطرح مذهب التشيّع كأحد المذاهب المعتمدة إلى جانب المذاهب الأربعة الحنفية والحنبلية والشافعية والمالكية، بجعله كمذهب خامس ، فأمضاه وقال بأنّ من يعمل طبقًا لمذهب التشيّع فإنّ عمله صحيح)، ولكن النكتة التي هي محلّ تأسّف ومحل تعجّب شديد هي أنّ هذا الشخص كان يقول في تتمّة كلامه السابق: (ولكن نحن الشيعة ليس عندنا حتّى عالمٌ واحدٌ تكون له هذه الجرأة وتلك الشجاعة التي تحلّى بها الشيخ شلتوت حينما جعل مذهب الشيعة مذهباً رسمياً مع المذاهب الأخرى.. فنحن ليس عندنا عالم شيعي واحدٌ كان عنده هذه الشجاعة ليأتي ويعلن أنّ المذاهب الأخرى هي أيضاً مقبولة مع المذهب الشيعي).
يا للعجب! ما شاء الله! يعني حضرة هذا الشخص يقول: إن عليّ أن أتّبع أبا حنيفة وأجعله في صف الإمام الصادق وفي عرضه؟! حسناً، أنا سأكون شجاعاً و جريئاً، فمنذ هذه الّليلة وهي ليلة السبت سأكون شجاعًا جدّاً كما طلبت ـ وأنا أتكلم عن نفسي ولا علاقة لي بغيري ـ فمن اليوم سأبين شجاعتي .. ولكن قل لي: من أتّبع؟! [يضحك سماحته] فمن الغد ستكون صلاتي بالكيفية الفلانية... [يقول سماحته ممازحاً:] طبعًا في بعض الموارد المسألة تستحقّ، خصوصاً بالنسبة لفتاوى أبي حنيفة فالمسألة ليست سيئة!! يعني هل تريد منّي أن أترك تبعيّتي للإمام الصادق، والإمام الباقر عليهما السلام وأترك التشيّع، وأضع أبا حنيفة في قبالهم؟ هل هذا ما تعنيه؟!
إن الشيخ شلتوت أبرز شجاعته لأجل الحقّ لا لأجل الباطل، ما بالك يا هذا؟!! فعندما وقف أمام الحق أظهره وبيّنه، عندما وقف أمام الإمام الصادق ورآه قال: أين هذا من أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل، فإذا أردنا أن نقارن هؤلاء بالإمام الصادق والإمام الباقر عليهما السلام فأين هؤلاء منهما؟! أمّا أن آتي أنا وأترك الإمامين الصادقين، وأذهب إلى كلام هؤلاء فأقول: عليكم بتبعيّة مالك من الغد؟! هل أنا مجنون لأفعل ذلك؟! هل يصحّ من عالم شيعي بأن يقول: يجوز لكم اتباع مذهب السنة؟! هل يعقل ذلك؟! هل تعرفون بماذا يفتي هؤلاء [السنّة]؟ لا حاجة لأن نقول ذلك.
يا عزيزي، إن كانت فتواهم كفتوى الإمام الصادق عليه السلام، فإن اتّباعها لن يكون تبعيّة لهم في الحقيقة، وإن كانت فتواهم مخالفة لفتوى الإمام عليه السلام فهذا يعني ـ يا أيّها المحترم ـ بأنّنا نضع الإمام الصادق جانبًا، ونجعل بمكانه أحمد بن حنبل، فيكون هو الذي يبيّن لنا تكليفنا!
إنّ هذه المشكلة هي نفسها التي ذكرتها و بينتها سابقاً، لا أذكر أين ذكرتها، ولكن على أيّ حال سأوضّح هذه المسألة بشيء من البسط إن شاء الله في كتاب "سيماي عاشوراء"[3]؛ وهي أنّنا ننظر إلى الإمام من بعدٍ واحد فقط، وهو أنّنا ننظر إليه على أنّه محاربٌ مواجهٌ ثائر، فهذا هو الإمام عندنا، أيّ الذي يفعل مثل هذه الأمور؛ فنحن لا ننظر إلى الإمام من نفس جهة كونه إمام؛ وبسبب هذه النظرة [الضيّقة] وهذه الطريقة بالتفكير نصل إلى حالةٍ بحيث أنه عندما يريد العلاّمة الطهراني أن يرشدنا ويهدينا، من خلال بيان الشواهد والقرائن لنا، فإننّا لا نستجيب بل نتجاوز المسألة التي بيّنها لنا، ونرجع لكي ندور حول نفس المحور الذي كنّا فيه؛ والسبب في ذلك هو سيطرة الجوّ علينا، فنحن في فضاء و جوّ غير الجو الذي هو فيه، وأجواؤنا مغايرة لأجوائه، فهذه الطريقة بالتفكير تنتج هذه المسألة.
هذا من جهة، و من جهة أخرى، يا أيها المحترم الذي تدعونا لنتحلّى بالجرأة: هيّا تفضّل أنت، لماذا لا تطبّق أنت هذا الأمر الذي تتحدّث عنه؟! فلتكن هذه الجرأة والشجاعة موجودة عندك، فإن لم تكن قادرًا على التصريح بذلك أمام الناس فقم بذلك في الخفاء، فمن الليلة ولمدة شهر واحد تعهّد بأنك ستكون في هذا الشهر من أتباع أبي حنيفة في صلاة الليل و صلاة الصبح والمسائل الأخرى، فابدأ أوّلاً بنفسك، ابدأ بنفسك! ثم في الشهر الذي بعده قل: سأتبع أحمد بن حنبل. والشهر الآخر اتبع الشافعي.. أو قم بعمل دورة كاملة، فقسّم السنة كالتالي: شهرين للإمام الصادق، وشهرين لأحمد بن حنبل وشهرين ...[ضحك من السيد].
لماذا نصل إلى هنا؟ واقعاً لماذا نبتعد عن مدرسة أهل البيت عليهم السلام؟ فعندما يبتعد الإنسان عن مذهب أهل البيت فإنه يصل إلى هذا المستوى من التفكير، فيقول: أقبل بالمذاهب الأخرى في قبال الإمام الصادق وأعمل طبقًا لها!

    

بعض التوصيات المهمّة الخاصّة بشهر محرّم الحرام ومجالس العزاء

على كل حال، لقد اقترب شهر محرّم، وهو شهر يستطيع الإنسان أن يستفيد فيه بشكل كبير واقعًا، وكلّ واحد من الأيام والسنين والدهور التي تمضي ـ والتي هي من مظاهر الله سبحانه وآثاره ـ له آثارٌ خاصّةٌ على الإنسان، وله خصوصيّات، فالعيد وأيام الفرح لها نوعٌ خاصٌّ من التأثير، والمصيبة لها نوع آخر. فإن نظرنا إلى واقعة كربلاء من جهة المصيبة التي فيها نرى أنّ لها تأثيرًا خاصًا، وأمّا إن نظرنا إليها من جهة الجلال، والعظمة، والبهاء، وكبريائية مقام سيّد الشهداء عليه السلام؛ فسيكون لها تأثير مختلف، فإننا عندما ننظر إلى واقعة سيد الشهداء ونستمع إلى مجلس عزاء سيد الشهداء، هل نقوم بتنزيل الإمام الحسين وتحديده ـ حقيقةً ـ بحدود القتل والطعن، والسهم والرمح، والدماء في الصدر والجبهة؟ هل ننظر إلى الأمر بهذه الطريقة؟ أم ننظر إليها كما يراها حافظ عليه الرحمة؟

    

النظرة الصحيحة لكربلاء وعاشوراء

واقعا رحمك الله يا حافظ، ما [أعظم وأجمل] الذي تقوله؟!
تا شدم حلقه به گوش در میخانه عشق                               هر دم آید غمی از نو به مبارک بادم
يقول: ( منذ أن أمسيت عبداً ذليلاً على باب العشق، صار يأتيني في كلّ لحظة بلاء جديد، فبارك الله بها مِن عبوديةٍ وبلاءٍ)
هذه هي حقيقة كربلاء، وهكذا يجب علينا أن ننظر إلى الإمام الحسين عليه السلام.. من هذه الزاوية وبهذه النظرة؛ فكلّ سهم يأتي، فإنّه يصعد بالإمام الحسين إلى تلك الجهة، فالإمام عليه السلام يقول له: تعال أيّها السهم، بل زد في سرعة مجيئك، لماذا تؤخّرنا؟! لماذا لا تقطّعني السيوف والأسنّة أسرع من ذلك؟! لماذا تمنعني هذه الأشياء عن العروج إلى ذلك العالم الذي يستحيل لوهمنا وخيالنا وعقلنا أن يصل إليه؟ ومن المحال أن ندرك ماهي الأمور التي يجري تكوينها والأمور التي تريد أن تجلبها كربلاء، فهذا لا يدركه إلا العرفاء وأولياء الله الذين هم على نفس هذا الطريق، فهؤلاء هم الذين يعرفون ما الذي يحصل.
لقد كان الحقير في واقعتين إحداهما كان عمري فيها قرابة سبعة عشر سنة وكانت أيام عاشوراء، فكنت في كربلاء وشاهدتُ حالة العظماء والأولياء الإلهين في كربلاء في تلك الأيام، وقد كنتُ أشاهد تلك الحالة التي تكلّم عنها المرحوم العلّامة في الروح المجرد، فقد كانت دموع المرحوم السيّد الحداد تسيل على خدّيه مثل المطر؛ ولكن بكاءه لم يكن لأجل السهم، لِمَ قد أصاب جبهة الإمام؟ بل كان ذلك البكاء يُنبئ عن حالة الابتهال والتوجّه التامّ لتلك العوالم والأجواء، وتلك المنزلة التي كان يصل إليها سيّد الشهداء بواسطة هذه الأمور [التي هي الطعن والضرب والقتل، وكل واقعة كربلاء] ؛ وكان ذلك الذي وصل إليه ويحصل له بعد إمامته ، فالإمام الحسين أوجد واقعة كربلاء بعد إمامته لا قبل إمامته؛ يعني أحدثها حال كونه إماماً، حال كونه واسطة بين المبدأ الأول والخلق، حال كونه حبل الله المتين، عندما كانت جميع عوالم الوجود بإرادته، فالإمام أوجد هذه الوقائع والأحداث وهو في مثل هكذا موقعيّة ومكانة، فتراه يأتي ويعطي الحرّ بن يزيد الرياحي الماء، ما أعجب تصرفه هذا! فالإنسان يقف متحيّرًا من هكذا فعل! فحتّى الطفل المميّز أو الشاب ذي الخامسة عشر يستطيع أن يميّز ويعرف ما هي النتائج التي ستنتج من هكذا عمل، فـ[بطبيعة الحال]سيقف أمامها ويمنعها، فانظر لما يحدث هذه الأيام في الدنيا وما نفعله نحن هذه الأيام، المسألة واضحة.
ولكنّ الإمام الحسين عليه السلام يسقي الحرّ الماء ويقول له: أوجد واقعة كربلاء. ويُعطي الماء لأصحاب الحرّ وهم موشكون على الهلاك من شدّة العطش، فلو أنّه تركهم لمدّة ساعة واحدة لماتوا لوحدهم، ولم يكن هناك حاجة للحرب و أوزارها. فنأتي نحن والحال هذه ونقول: (آه لقد ضُرب الإمام الحسين بالسيف على جبهته)، في الدنيا كلها يُضرب الناس بالسيوف والرماح على جباههم، فهذا واحد منهم، [أو نقول:] (آه لقد أصاب السهم قلب الإمام الحسين)، ألم يصيبوا قلب حمزة في معركة أحد بالرمح كذلك؟! بلى، قد أصابه ومزّق صدره، وهذا ما يحدث في هذه الدنيا دائماً، يطلقون الرصاصة فتأتي في القلب أو الرأس، و يتقطّعون في الحروب إلى أشلاء وما شابه ذلك؛ ولكن عندما ينظر الإنسان إلى واقعة كربلاء يرى أنّها تحمل وزنًا مختلفًا، لماذا نُنزِل أنفسنا إلى مستوى متدنٍّ؟ لماذا لا نستفيد؟! لماذا لا نستفيد من إزاحة هذه الستائر التي أزاحها لنا الأولياء ـ وقد أزاحوها قليلًا فقط ـ والتوضيحات التي وضّحها العظماء لنا؟! لم لا نستفيد منها لأجل تغيير أنفسنا؟!

    

البكاء على الإمام الحسين سبب لنزول الرحمة ولكنه ليس أعلى المراتب

لا شكّ في أنّ البكاء على الإمام الحسين وذكر مصيبته رحمة؛ إذ "عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة"[4] ، فما بالك بالإمام الحسين، كما أنّ عندنا رواية تقول: من بكى على الإمام الحسين ونزلت دموعه ولو بمقدار جناح بعوضة غفرت ذنوبه[5] ؛ ولكننا لا نريد الإمام الحسين لأجل غفران ذنوبنا فقط، بل نريد الإمام الحسين لكي يأخذ بأيدينا، ويوصلنا إلى المكان الذي هو فيه، فلأجل هذا الأمر نريده، لا لكي تُغفر ذنوبنا وحسب؛ نعم عندما تُغفر ذنوبنا سنكون طاهرين وما شابه ذلك، ولكننا نحن لا نريد الإمام لأجل هذا؛ بل نريده حتى يغيّر من فَهمنا ومعرفتنا، لكي يزيد في تعقّلنا، ويجعلنا في ذلك الأفق وتلك المرتبة التي هو فيها، هل التفتم؟ إنّ اختصار مقام الولاية الرفيع والعظيم بهذه المسائل الظاهريّة والعاديّة يحرم الإنسان من الوصول إلى تلك الدرجات؛ نعم، لا شكّ أنّه سينال ثوابًا على كلّ حال ولكن في المراتب الدانية و ستغفر ذنوبه و ما شابه ذلك، فهذا محفوظ في مكانه.
عندما كنت أطالع كتاب الرّوح المجرّد وصلتُ إلى المقطع الذي يصف فيه حالات السيّد الحداد في أيام عاشوراء، وقد رأيتُ حالاته بعيني أيضاً، فقد كنتُ هناك ورأيتُ ذلك، فقد كان يقرأ زيارة عاشوراء يوميّاً بعد صلاة الصبح أوّلًا، ثم بعدها يقول لنا نفس السيد الحداد: (قوموا وشاركوا مع مواكب العزاء هذه وشاهدوها، وعندما تأتي "ركضة طويريج" اذهبوا هناك؛ فللإمام عنايات خاصّة بها، وإن لم تحبّوا أن تشاركوا فيها، فلا أقلّ قِفُوا هناك وانظروا ما هي المسألة) فكان هو بنفسه يحثّنا على المشاركة، ويأمرنا بالمشاركة بتلك المجموعات الموجودة هناك. وعندما كنّا ننظر إلى حالته، كنّا نرى أنه لم يكن متوجّهًا إلى السيف والرمح والسهم؛ بل كان غارقاً في الإمام الحسين!! غارقًا في سيد الشهداء!! ولم يكن ذلك خفيّاً بل كان بيّناً، فالإنسان يفهم أنّه لم يكن متوجّهًا إلى تلك الأمور، فالمسألة كانت واضحة ولا تحتاج إلى كثير تأمّل، التفتم؟ [فالإنسان يفهم ذلك] من كلامه عندما كان يتكلّم عن حالة سيّد الشهداء، وعن المطالب التي كان يقولها عليه السلام لحبيب أو لمسلم، وعندما كان يشرح هذه المطالب ويبيّن معانيها، وما هو مقصود الإمام عليه السلام من ذلك.
أو لماذا لم يأذن الإمام في هذه اللحظة لذلك الشخص أن يذهب للحرب ويستشهد؟ فالشهادة واحدة سواءً كانت الآن أو بعد قليل؛ فلماذا قال له: انتظر. يقول السيّد الحداد: قال له: (انتظر)؛ لأنّ إحساساته في تلك اللحظة كانت هي الغالبة و هي التي كانت تدفعه للشهادة، فأَمره الإمام بالانتظار حتى تخفّ عنده هذه الحالة، وتبرد عنده هذه الإحساسات، فيرتقي هو بنفسه!! فهل يمكن لنا أن نقول بعد هذا: إنّ كربلاء مثل غيرها؟! كما قال البعض: يا حسين إن كنت قد قدّمت "علي أكبرٍ" واحد، فقد قدمنا آلاف "علي الأكبر". وإن كنتَ قد قدّمت "حبيب بن مظاهرٍ" واحد فقد قدمنا آلاف "حبيب ابن مظاهر"!!
هل رأيتم كيف لكلام أولياء الله أن يرتقي بفكر الإنسان ولأيّ حد؟!
فالإمام عليه السلام يقول لذلك الشخص: لا تذهب الآن وانتظر. لماذا؟ لأنّه إمام. فهو بإمكانه أن يقول له: (اذهب)؛ ولكن سيكون نصيبه قليلًا، والإمام عليه السلام يريد منه أن يصل إلى تلك المرتبة وباله مرتاح، ونفسه مطمئنة، لا أن يصل بواسطة غلبة الإحساسات، يعني تغلب إحساساته عليه، [فيقول:] لأن رفيقي "مسلم بن عوسجة" حارب وقُتِل، أنا أيضًا عليّ أن أذهب، وأقاتل. فيذهب ويتقدّم ثم يُقتل بعدها، وهو عاشق للإمام الحسين؛ ولكن ما يريده الإمام الحسين عليه السلام منه أن يكون العشق في محلّه المناسب له، ويكون العقل أيضًا في محلّه، فالأمران جنبًا إلى جنب يؤتيان نتيجة، فلا بد أن يكون هناك تعقّل وعشق، ونشاط، ومطابقة مع خطّة وبرنامج الإمام، وغيرها من الأمور؛ فحينئذٍ، وبعد أن حصلت على هذه الموهبة، فأنت مجاز بالقتال، ولك أن تذهب الآن؛ وأمّا إن ذهبتَ قبل ذلك فإنّك ستكون من الشهداء؛ ولكنّ درجتك ستكون أقل بقليل!
و الحال أنّ سيّد الشهداء عليه السلام إمامٌ، ولا يمكن للإمام عليه السلام أن يقوم بالعمل بأيّ نحو كان؛ لأنّ وظيفته هي أن يهدي كل شخص، فيجب عليه أن يهدي مسلم بن عوسجة إلى ذلك المقام الخاصّ به، وكذلك زهير وبرير، وعليه أن يوصل حبيب أيضًا إلى مقامه الخاصّ به، وكما أن لكلّ واحد منهم مقام خاصّ فله وقت خاصّ به أيضًا؛ بل إنّ هذا في حدود ما وصل إلينا [في الأخبار و التواريخ]، وأمّا ما خفي علينا في واقعة كربلاء، وما هي الأفعال التي قام بها الإمام هناك، وماهي الكلمات التي تكلّم بها؛ فلا علم لنا بها، بل استنتجنا هذا من بعض الكلمات التي وصلتنا من خلال التواريخ، وأرباب السير، والمقاتل، وهذه المسائل.
لقد أخبرتُ الرفقاء بأنّي عندما طالعت "الرّوح المجرد"[6] وجدت أنه ينسجم مع ما شاهدته وفهمته بنفسي؛ ولكن عندما قرأت الصفحة التي بعدها قلت: هذا الكلام ليس كلام العلّامة، فهاتان الصفحتان فيهما مطلبان. فذهبت إليه وقلت له... كلاً، عفواً، بل لم أذهب إليه لأنّه كان قد انتقل إلى رحمة الله ولم أستطع أن أتحدّث معه حول هذه المسألة، فبقي هذا السؤال في قلبي، حيث أنّ قَلَم العلّامة ينسجم مع الكلام الموجود في الصفحة الأولى، وإن كان الكلام في الصفحة الثانية فيه جنبة تُكمّل ما في الصفحة الأولى، ولكن ـ باختصارٍ وبصراحة ـ بقي في قلبي منه شيء، فبنظري أنّ هناك مسألة لم يستطع أن يصرّح بها المرحوم العلّامة؛ يعني ذلك الصعود والعروج الذي كان في بيان ذلك المطلب الأوّل، توقّف ثم بدأ بالتنازل والانخفاض.
ثم بعد مدّة كنت أتحدّث مع أحدهم وفي ضمن كلامه نقل لي أمراً، فرأيت أنّه: ها! لقد حلَلت لي الشبهة التي كانت عندي. وذلك أنّه نقل لي أنّ هناك شخصًا جاء للعلامة وقال له: (يا سيّد، إنّ ما كتبتَه هنا [في الروح المجرّد] لا يحتمله الناس، فمن الجيّد أن تضيف على هذا الكلام بعض التوضيح حتى يصير هذا الكلام مقبولًا للناس ومحتملًا)، فقام العلّامة بإضافة هذا التوضيح الذي في الصفحة التالية، فقلتُ: لقد اتّضحت المسألة الآن، وقد أُجيب على سؤالي.
لم يأتِ هؤلاء العظماء ليكتبوا لنا مقتًلا؛ بل أتوا لكي يرفعوا مستوانا من خلال الاستفادة من هذه الواقعة، ويأخذوا بأيدينا ويرفعوا مستوانا عن المستوى الذي عليه سائر الناس.

    

من توصيات العلامة الطهراني رضوان الله عليه بالنسبة لعاشوراء ومجالس العزاء

حسناً، كان المرحوم العلامة قد أعطى توجيهات بالنسبة لمسائل كربلاء، ومجالس العزاء، والمصائب وما شابه ذلك:
أولًا: كان يؤكّد على مجالس العزاء بين الطلوعين، وكان يقول: (إنّ الفيوضات التي بين الطلوعين، وبالخصوص بالنسبة للعزاء بين الطلوعين، لا توجد في غيره من الأوقات) لا أنّه لا يوجد فيوضات أصلاً لكنّها قليلة، فبين الطلوعين تحصل تلك الفيوضات الخاصّة للإنسان؛ نعم قد يكون الضجيج والأصوات في الليل أو بعد الظهر أكثر، وكذلك اللطم، ولكن ما يحصل للإنسان بين الطلوعين له تأثير أعمق، وذلك ما كان [العظماء] ينظرون إليه ويهتمّون به، فمثلاً بالنسبة لزيارة الإمام الرضا عليه السلام كان يوصي أن: لتكن زيارتك دائمًا بين الطلوعين؛ نعم في بعض الأحيان لا يكون هناك فرصة كافية كأن يذهب للزيارة لمدّة يومين أو ثلاثة ففي مثل هذه الحالة عليه أن يذهب للزيارة متى ما سنحت له الفرصة؛ أمّا في الوقت العادي فإنّ زيارة ما بين الطلوعين لها أثر خاصّ، حتى إنّ هذا الأثر ليس موجودًا في الليل، بل يختص بوقت بين الطلوعين، وقال السيد الحداد أيضًا: رزق الإنسان لذلك اليوم يكون بين الطلوعين. لذلك قال: ينبغي على الإنسان ألاّ ينام بين الطلوعين؛ لأن ذلك الرزق يُقطع عنه أو يُقلّل، والمقصود من الرزق ليس هو الطعام والشراب، بل المقصود منه هو تلك الفيوضات، والحقائق الوجودية النازلة على القلب، والتي تكون مقدّرة للإنسان في ذلك اليوم، وهو ما يسمى بالرزق المعنوي، أو الرزق العلميّ.
حتى أنه قال: من الجيّد للأشخاص أن يقيموا مجلس عزاء في منزلهم ليلة الجمعة أو صبح الجمعة، فقد كان العظماء يؤكّدون كثيرًا على مجلس عزاء سيّد الشهداء، فإنهم يرون بأن التوسّل بسيّد الشهداء مفتاح يفتح لهم باب تلك الأمور التي تهمّهم، وقد نقلوا في كتبهم أو محاضراتهم مسائل حول هذا الموضوع.
وقالوا: من الجيّد أن يعلّق الإنسان بعض السواد في منزله أو في أيّ مكان يكون فيه، مثل: محلّه أو مكان عمله، أو حتى عيادته، فذلك شعار يدلّ على العزاء والحزن؛ حتى يحسّ الأشخاص بذلك في وجودهم، طبعًا كثرة السواد ليست مطلوبة أيضًا، كأن يغطي الأرض والسماء وما بينهما بالسواد!! لا، فإنّ هذا غير جيّد، بل اللّازم هو بحدود المتعارف، فكلّ شيء إنما يكون حسنًا إذا كان متعارفًا، وبمقدار محدّد.
و كان العلاّمة يقول أيضًا: على الرفقاء أن لا يكون عندهم [في هذه الأيام خاصّة] مكسّرات وحلويات وهذه الأمور، فعليهم أن يرفعوها من منازلهم، وألا تكون الهديّة التي يتهادونها بينهم من هذه الأمور؛ نعم يمكن أن يأخذوا معهم فواكه، فلا إشكال في ذلك، فحُرمة هذه الأيام ينبغي أن تراعى، وأن تشاع هذه الثقافة بين الناس، أتذكّر أنه جاء أحد الأشخاص إلى العلامة وكان ذلك اليوم يوم شهادة الإمام الهادي أو الجواد عليهما السلام، وكان قد أحضر معه "گز"[7] للعلامة، وقد كنتُ أنا في القسم الداخلي للمنزل، فقال العلامة: (أَرجع الگز له وقل له: لو أنّ أباك كان قد توفّي فهل كنت لتحضر هذه الحلويات؟!) وقد قال أيضًا أمرًا آخر ولكن .. الخلاصة أنه واجه الأمر بطريقة شديدة جدًا، فأولياء الله والعظماء كانوا يدقّقون في هذه المسائل، وينظرون إليها باهتمام.
ومن المسائل الأخرى أيضًا التي على الإنسان أن يراعيها هذه الفترة، مسألة المجالس، فحضور الشخص لمجالس كثيرة لن يكون مثمرًا وذو فائدة كما ينبغي، فعليه أن يحضر مجلسًا واحدًا أو مجلسين مثلًا، فالأكثر من ذلك ليس ذا ثمرة، أو يحضر مجلسًا في اللّيل ومجلسًا بين الطلوعين إن كان موجودًا، فلا تتصوّروا أنكم كلّما شاركتم في المجالس بشكل أكبر فستستفيضون أكثر، لا فالأمر ليس كذلك، إذ لو فعل الإنسان ذلك [وشارك في كثير من المجالس]، فإنّه سيتعوّد على هذه المجالس وستصبح عاديّة بالنسبة له، والتعوّد على هذه المجالس ليس جيّدًا؛ فعلى الإنسان دائماً أن يحضر في مثل هذه المجالس وذهنه متفتّح، وخاطره مرتاح، حتى يستطيع أن يستفيد منها ويستفيض.
ومن الجيّد على السالك ألاّ يأنس بمجرد استماعه لهذه المطالب ويكتفي بذلك، بل عليه أن يجعل نفسه في أجواء عاشوراء تلك، فهذه المجالس قد أكّد عليها الأئمة فقالوا: (رحم الله من أحيا أمرنا)[8]. فهل إحياؤها هو بمجرّد ذكر المصيبة، مصيبة الإمام الحسين وأنه قُتل، وأن عليًا الأكبر قد قتل، وحصل بكربلاء كذا؟! هذا ليس إحياءً حقيقةً، على الإنسان أن يضع نفسه في ذلك الفضاء وتلك الأجواء، وأن يتخيّل كأنّه في كربلاء، فحينها ما الذي سيفعله؟ وما الذي سيفعله عندما يأمره الإمام الحسين بأمر؟ وما هي ردّة الفعل التي يبديها آنذاك؟ فليجرب ذلك ويشرع بذلك وكأنه الآن في عاشوراء. فبهذه الكيفيّة سيكون للمجالس أثرٌ آخر، وستؤثّر في حالة الإنسان وفي أوضاعه.
طبعًا هناك أمور أخرى مرتبطة بنفس الإخوان والأحبة والأعزة من الفضلاء والمشايخ، فإنهم يعلمون ما عليهم أن يبيّنوا للناس من أمور؛ عليهم أن يبينوا تلك الحقائق التي كانت مصبّ اهتمام الأئمة عليهم السلام. ومن جهة أخرى علينا أننتبه بأنّ مدرسة سيّد الشهداء في مكان رفيع ومنيع جدًا؛ لذا ينبغي أن نحترز من استعمال العبارات والمصطلحات التي قد تكون ثقيلة، وإن كانت تلك المسائل موجودة حقيقة، فيجب أن تكون التعابير التي يستعملها في كيفيّة بيان المقاتل متينة ومحكمة، وأن تكون الاصطلاحات المستعملة متناسبة مع شأن الإمام؛ فعندما كان الحقير في محضر العظماء كالمرحوم الوالد، أو في مسجد القائم عندما كنتُ أستمع إلى العزاء لم أسمع بمثل هذه التعابير، فإن أراد أن يطرحها فليستعمل كلمات مناسبة، ولا داعي لطرحها، فقراءة هذه المقاتل الموجودة كافٍ، ويجعل الناس كأنهم في تلك الأجواء والفضاء، لذا على الأشخاص أن يتأملوا في طريقة بيان المطالب. كما أنّ العلامة كان يقول يجب المطالعة، وأن يكون العزاء بحيث يجعل الإنسان يحسّ بالحادثة وكأنه موجود في تلك الحادثة.
على كل حال مسألة عاشوراء وعشرة محرم لها شأن ومكانة خاصة، ويجب على الإنسان أن يستفيد أكثر ما يمكن من هذه الفرصة التي هيأها الله له، ويستفيض من فيوضات سيّد الشهداء عليه السلام.
إن شاء الله نأمل من الله أن يوفّقنا لإدراك تلك المعارف التي وفّق أولياءه للوصول إليها بشكل أكبر، وأن يثبّتنا ويبقينا على طريقهم.

اللهمَّ صلِّ على محمّد وآلِ محمّد


[1] ـ يشير سماحته إلى ما جاء في تاريخ بغداد ج 13، ص 408: عن أبي عوانه، قال: كُنتُ جالِسًا عِند أبِي حنِيفة فأتاهُ رسُولٌ مِن قِبلِ السُّلطانِ , فقال: يقُولُ الأمِيرُ: رجُلٌ سرق ودِيًّا [الودي: ما يخرج من أصل النخل فيُقطع من محلّه ويُغرس في محلّ آخر]، فما ترى؟ فقال غيرُ مِتتعتِعٍ: إِن كانت قِيمتُهُ عشرة دراهِم فاقطعُوهُ، فذهب الرّجُلُ، فقُلتُ لأبِي حنِيفة: ألا تتّقِي اللّه حدّثنِي يحيى بنُ سعِيدٍ عن مُحمّدِ بنِ يحيى بنِ حيّان عن رافِعِ بنِ خدِيجٍ , أنّ رسُول اللّهِ صلّى اللّهُ عليهِ [وآله]وسلّم قال: "لا قطع فِي ثمرٍ ولا كثرٍ [الكثر: جمار النخل وهو شحمه الذي وسطه النخلة]" أدرِك الرّجُلُ فإِنّهُ يُقطعُ, فقال: غير مُتتعتِعٍ ذاك حُكمٌ قد مضى فانتهى. وقد قُطِع الرّجُلُ . (المترجم)

[2] ـ رستم أو رستم دستان أو رستم ابن زال يسمى بالفارسية ( رستم بسر جال ) هو بطل أسطوري فارسي خيالي أبعدهم صيتا وأبقاهم ذكرا. و هو حسب الأسطورة الفارسية فارس ومغامر تغنٌى به الفردوسي في ملحمته الشاهنامة. ومآثره ملأت القصص الفارسية، واسمه مردّد في الشعر القديم والحديث. (المترجم)

[3] ـ يشير سماحته إلى كتاب (سيماي عاشوراء = معالم عاشوراء) الذي كان قيد التأليف في وقت إلقاء هذه المحاضرة وترجمتها. نسأل الله التوفيق لترجمته وتقديمه لطلاّب الحقّ و المعرفة.(المترجم)

[4] ـ بحار الأنوار، ج 90، ص 349.

[5] ـ هناك العديد من الروايات التي في هذا المعنى، منها خبر الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال : (من ذُكرنا عنده ففاضت عيناه، ولو مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر). ومنها خبر أبي هارون المكفوف, قال أبو عبد الله(عليه السلام) في حديث: (ومن ذُكر الحسين عنده فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على الله ولم يرضَ له بدون الجنّة) ، و غيرها الكثير. (م)

[6] ـ راجع كتاب الروح المجرّد، ص82 إلى ص96.

[7] ـ وهو نوع من الحلويات الإيرانية. (م)

[8] ـ قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام للفضيل بن يسار: تجلسن وتتحدثون؟ فقال الفضيل: نعم. فقال الإمام الصادق عليه السلام: إن تلك المجالس أحبها، أحيوا أمرنا فإن من جلس مجلسًا يُحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب. انظر كتاب وسائل الشيعة ج10، الباب:66.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی <-- -->