دور الإمام‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌ في‌ عرض‌ الاُسس‌ الإسلاميّة‌

 وكان‌ الإمام‌ الناطق‌ بالحقّ جعفر بن‌ محمّد الصادق‌ عليه‌ أفضل‌ الصلاة‌ والسلام‌ أوّل‌ من‌ كشف‌ سرّ الولاية‌ وحقيقة‌ النبوّة‌ لعامّة‌ الناس‌.

 ومُنيَ الناس‌ بالشبهة‌ والخطأ في‌ أمرين‌ خطيرين‌ بعد وفاة‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌ وحادثة‌ سقيفة‌ بني‌ ساعدة‌. وهما:

 الاوّل‌: أمر الإمامة‌ والولاية‌ والإمارة‌، إذ خالوا أنّ كلّ من‌ مسك‌ زمام‌ الامور فهو الوإلی‌ الذي‌ تجب‌ طاعته‌. سواء كان‌ تقلّده‌ الامر بالتسلّط‌ والخداع‌، أم‌ بالاختيار، أم‌ بالوصيّة‌، أم‌ بالشوري‌، أم‌ بالاوامر التحكّميّة‌ التعسّفيّة‌. فلهذا كانوا يرون‌ أنّ يزيد بن‌ معاوية‌ هو الخليفة‌ المنصوب‌ من‌ قبل‌ أهل‌ الحلّ والعقد بنصب‌ معاوية‌ والمُغيرة‌ بن‌ شُعبة‌ وجلاوزتهما، وكانوا يعملون‌ حسب‌ هذا المنطق‌، ويرتّبون‌ آثاراً شرعيّةً حقيقيّة‌ عليه‌.

 الثاني‌: في‌ أخذ معالم‌ الدين‌ والسنّة‌ والعلوم‌ الظاهريّة‌ والباطنيّة‌ والتفسير والعرفان‌ ـ والخلاصة‌ جميع‌ المدركات‌ الإنسانيّة‌ والبشريّة‌ ـ فكانوا يعتقدون‌ أنّ مصدر هذه‌ الاشياء كلّها هم‌ الامراء الذين‌ تسلّموا مقإلید الاُمور حتّي‌ لو كان‌ ذلك‌ بالقوّة‌.

 وعلی هذا الاساس‌ كانوا يراجعون‌ حكّام‌ عصورهم‌ لحلّ مسائلهم‌ العلميّة‌ وعلاج‌ معضلاتهم‌ ومشكلاتهم‌. ويأخذون‌ مسائلهم‌ الشرعيّة‌ وصلواتهم‌ وصيامهم‌ وجهادهم‌ وسائر شؤونهم‌ الدينيّة‌ والسياسيّة‌ والاجتماعيّة‌ من‌ تلك‌ المصادر، ويتصرّفون‌ حسب‌ آرائهم‌ ونظريّاتهم‌. أي‌: كان‌ الحكّام‌ يمّونون‌ الاُمّة‌ في‌ مجإلین‌ هما: الإمارة‌ والحكومة‌ والعلوم‌ والافكار.

 وهذان‌ الامران‌ كلاهما يعاكس‌ النهج‌ الإسلاميّ المبين‌ تماماً. ذلك‌ النهج‌ الذي‌ يدعو إلی‌ الحقّ دائماً علی أساس‌ القرآن‌ والسنّة‌، ويحذّر عامّة‌ الناس‌ من‌ اتّباع‌ الباطل‌.

 أمّا بعد وفاة‌ النبيّ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ حيث‌ انحرف‌ محور الولادة‌ عن‌ قطبه‌، وانقلب‌ كلّ شي‌ء، لم‌ يجد المسلمون‌ أميراً بالحقّ، ولم‌ يحظوا بدرس‌ وتعليم‌ مستقيم‌. وشاع‌ هذا الامر بين‌ الطبقات‌ والاجيال‌ المختلفة‌ من‌ الناس‌ في‌ كلّ زمان‌ ومكان‌. واستحكم‌ حتّي‌ لم‌ يجرؤ أحد علی رفيع‌ عقيرته‌ ضدّه‌.

 وبعبارة‌ أُخري‌: اتّبعت‌ الاُمّة‌ الباطل‌ سنين‌ طويلة‌ وهي‌ تعتقد أ نّه‌ هو الحقّ، وعرفت‌ الباطل‌ علی أ نّه‌ هو الحقّ. وكانت‌ هاربة‌ من‌ الحقّ باعتقادها الباطل‌.

 مَنْ كان‌ يستطيع‌ أن‌ يرفع‌ صوته‌ في‌ هذه‌ المصيبة‌ الكبري‌، فيعلن‌ بصراحة‌ بطلان‌ جميع‌ الاجهزة‌ والحكومات‌؟ إنّه‌ الإمام‌ الحسين‌ عليه‌ السلام‌ الذي‌ توكّأ علی السيف‌ ونهض‌ بذلك‌ الوعي‌، وأنذر بقطع‌ دابر الظلم‌، وأيقظ‌ العالم‌، ودوّي‌ صوته‌ بالعدل‌ والحقّ والصدق‌ في‌ عالم‌ البشريّة‌ من‌ خلال‌ خطبه‌ وكلماته‌ المتكرّرة‌.

 والآخر هو الإمام‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌ الذي‌ تأسّي‌ بتلك‌ التضحية‌ العظيمة‌، ومارس‌ دوره‌ علی امتداد ثلاثين‌ سند بعناء لا يوصف‌، وكشف‌ سرّ تلك‌ التضيحة‌، وأصحر بروح‌ الدين‌ وحقيقة‌ الإسلام‌ التي‌ كانت‌ قد دُفنت‌ تحت‌ ركام‌ الجهل‌ وجباله‌ الراسيات‌.

 وتضافرت‌ تضحية‌ سيّد الشهداء عملاً، وتضحية‌ الإمام‌ الصادق‌ علماً، وتعاضدتا حتّي‌ وقفنا هذا إلیوم‌ ـ وللّه‌ الحمد وله‌ الشكر ـ علی حقائق‌ الدين‌ والنبوّة‌ وسرّ القرآن‌ والنبوّة‌ والولاية‌. أو بعبارة‌ أصحّ: أنّ تضحية‌ سيّد الشهداءبالسيف‌، وتضحية‌ الإمام‌ الصادق‌ باللسان‌ عاملان‌ قويّان‌ قد تكاتفا ودعم‌ أحدهما الآخر، حتّي‌ أبدي‌ الإسلام‌ وجهه‌ المتألّق‌ الزاهر من‌ بين‌ الغمائم‌ المظلمة‌ السوداء.

 لقد نطق‌ آية‌ الله‌ المظفّر حقّاً إذ قال‌: فما أصدق‌ القائل‌: إنَّ الإسلام عَلَوِيٌّ وَالتَّشَيُّعَ حُسَيْنِي‌ٌّ![1] أمّا أنا فأقول‌: إنَّ الإنسانيَّةَ وَالإسلام وَالتَّشَيُّعَ حُسَيْنِيُّ السَّيْفِ، وَصَادِقِيُّ القَلَمِ وَالبَيَانِ.

عمل‌ الإمام‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌ إبانة‌ الإسلام‌ الحقيقي‌ّ

 أجل‌، إنّ العمل‌ الذي‌ قام‌ به‌ الإمام‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌ هو أ نّه‌ عرّف‌ العالَم‌ الإسلام‌ الحقيقيّ من‌ خلال‌ علومه‌، وأزاح‌ الصدأ عن‌ وجهه‌ المتغيّر. وعرض‌ الشريعد الحقّة‌ كما هو حقّها. ويا لصعوبته‌ من‌ عمل‌! بعد أن‌ تغيّرت‌ الاُصول‌ والفروع‌ وتبدّلت‌، فألفت‌ ذلك‌ الاُمّة‌ بأسرها عالمِمها وجاهلها، وعإلیها ودانيها، وكبيرها وصغيرها، وشيخها وحَدَثها علی امتداد قرن‌ من‌ الزمان‌. وها هو الإمام‌ عليه‌ السلام‌ يقوم‌ بدوره‌، ويرشد الجميع‌ بلا استثناء ( إلاّ شرذمة‌ قليلة‌ ) لاعن‌ طريق‌ التبّعد ـ فالتعبّد هنا لا يُغني‌ شيئاً ـ بل‌ عن‌ طريق‌ المنطق‌ والبرهان‌، والقلم‌ والبيان‌، والهداية‌ إلی‌ كيفيّة‌ الاستدلال‌ بآيات‌ القرآن‌ وأخذ الاحكام‌ من‌ الفرقان‌، ويأخذ عليه‌ السلام‌ بأيدي‌ الناس‌ إلی‌ ذلك‌ الدين‌ الاصيل‌، ويبدّد عَقْدَ الافكار والمناهج‌ والمذاهب‌ التي‌ كانوا يسلكونها للحصول‌ عليه‌، ودلّ علی أنّ الطريق‌ الوحيد للوصول‌ إلی‌ الدين‌ القويم‌ هو هذا فحسب‌.

 لهذا فإنّ الطريق‌ الذي‌ نهجه‌ الإمام‌ جعفر الصادق‌ عليه‌ السلام‌، وأرشد إلی‌ ذلك‌ الدين‌ كالرائد الذي‌ يقود القافلة‌ إلی‌ المكان‌ الخصب‌ والماء والكلا في‌ الصحراء القاحلة‌ هو الطريق‌ الذي‌ هدي‌ به‌ الاُمّة‌ إلی‌ دين‌ جدّه‌ المصطفي‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وشريعته‌ المرسلة‌ من‌ الله‌ تعإلی‌.

 من‌ هنا، عُرف‌ مذهبه‌ الذي‌ كان‌ أوّل‌ المذاهب‌ بالمذهب‌ الجعفريّ. ولا يتوهم‌ الواهمون‌ أ نّه‌ عليه‌ السلام‌ قد أسّس‌ ديناً جديداً، أو أضفي‌ علی الإسلام‌ طابعاً خاصّاً، كما ذهب‌ إلی‌ ذلك‌ أحمد أمين‌ بك‌ المصريّ مع‌ شدّه‌ احترامه‌ وتقديره‌ للإمام‌ عليه‌ السلام‌، فإنّه‌ يعتقد أ نّه‌ قد أضفي‌ علی الإسلام‌ صبغة‌ خاصّة‌، والمذهب‌ الجعفريّ بمعني‌ الدين‌ الإسلاميّ مصطبغ‌ بهذه‌ الصبغة‌. [2] وهذا وَهْم‌ منه‌، وقد ذهب‌ مذهباً مغلوطاً في‌ هذا الضرب‌ من‌ الكلام‌.

 أجل‌، لمّا كان‌ الإسلام‌ الصحيح‌ عند أحمد أمين‌ هو الإسلام‌ الذي‌ يدين‌ به‌ سلاطين‌ الجور والطغيان‌ المتربّعون‌ علی عرش‌ الاعتساف‌ والعدوان‌، وأ نّه‌ هو المنهاج‌، فلا جرم‌ أ نّه‌ يعتقد بتلوين‌ الإمام‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌ الدين‌ الاصيل‌ والشريعة‌ المرسلة‌ بصبغة‌ خاصّة‌ ولون‌ مضاف‌. ويري‌ أنّ هذا المذهب‌ غصن‌ مقطوع‌ عن‌ أصل‌ الإسلام‌ بما يحمله‌ من‌ خاصّيّة‌ معيّنة‌.

 بَيدَ أنّ الامر ليس‌ كذلك‌، وشتّان‌ ما بين‌ كلامنا وكلامه‌. فعلوم‌ الإمام‌ عليه‌ السلام‌ التي‌ مضي‌ عليها ثلاثة‌ عشر قرناً، وهي‌ مسطورة‌ في‌ الكتب‌ تدلّ علی ما نقول‌. فكلّ ما قاله‌ الإمام‌، وكبته‌، ودرّسه‌ هو تفسير وتبيان‌ للكتاب‌ والسنّة‌، لم‌ يفرض‌ عليهما شيئاً، ولم‌ ينقص‌ منهماً أو يزيد عليهما شيئاً، وهذا ما تدعمه‌ الادلّة‌ الداخليّة‌ والخارجيّة‌.

 هذه‌ هي‌ رسالة‌ الإمام‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌ علی امتداد ثلاثين‌ سنة‌. وإذا كان‌ قد هدَّم‌ منهاجاً قديماً ينهجه‌ العامّة‌ بما كان‌ يعرضه‌ من‌ تعإلیم‌، فهذا لا يعني‌ إحباطاً لامر صحيح‌ وإبداً لامر باطل‌ وإضفاءً لصبغة‌ جديدة‌، بل‌ يعني‌ كسراً لكوز متصدّع‌ متلوّث‌ كان‌ يُسقي‌ الناسُ ماءَهُ علی أ نّه‌ ماء لذيذ طيِّب‌، واستبداله‌ بكوز جديد فيه‌ ماء زلال‌ بارد لذيذ غير آسن‌ وسقي‌ الاُمّة‌ منه‌.

 ومحصّلة‌ عمل‌ الإمام‌ عليه‌ السلام‌ إزالة‌ الطرق‌ الباطلة‌ المنحرفة‌ التي‌ فرّقت‌ بين‌ الناس‌ والدين‌. ومن‌ الطبيعيّ أنّ يبدو عمل‌ الإمام‌ في‌ المنهاج‌ والاُسلوب‌ سواء في‌ تعريف‌ الولاية‌ ومصدر الحكم‌ والإمارة‌، أم‌ في‌ تعريف‌ العلوم‌ والاسرار والحقائق‌ والاحكام‌ شيئاً جديداً في‌ أوّل‌ نظرة‌. وهو الشي‌ء الذي‌ يظنّه‌ أحمد أمين‌ صبغة‌ دينيّة‌ جديدة‌، وظنّه‌ خائب‌. فجِدَّة‌ هذا المنهاج‌ تعود إلی‌ اندراس‌ الطريقة‌ التي‌ أُخذ بها الإسلام‌ الصحيح‌ لا غير. وهو ما يراه‌ العامّة‌ شيئاً جديداً، بَيدَ أ نّه‌ ليس‌ إلاّ روح‌ رسول‌ الله‌، ونَفَس‌ القرآن‌ بلا شائبة‌، وقد تجلّيا في‌ سيرة‌ الإمام‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌ وأُسلوبه‌ كلّه‌.

 وبِلُغَة‌ العلم‌، ففد كان‌ لعمل‌ الإمام‌ عنوان‌ الكشف‌ عن‌ الدين‌ الصحيح‌، لا عنوان‌ نقل‌ الإسلام‌ بشي‌ء مضاف‌ وأثر مخصوص‌.

 وهو يماثل‌ بحث‌ الكشف‌ والنقل‌ الذي‌ يتناوله‌ الفقهاء العظام‌ في‌ باب‌ النكاح‌ الفضوليّ، أو البيع‌ الفضوليّ: هل‌ تقرّ إجازة‌ طرف‌ النكاح‌ أو البيع‌، أو تنقل‌ المال‌ إلی‌ الطرف‌ المعهود، فيتحقّق‌ حينئذٍ عمل‌ إجازة‌ النقل‌؟ أو أنّ إجازة‌ عمله‌ كشف‌ عن‌ تحقّق‌ النكاح‌، أو انتقال‌ المال‌ في‌ البيع‌ منذ صدور الصيغة‌ أوّل‌ الامر؟ يري‌ القائلون‌ بالكشف‌ أنّ الشقّ الثاني‌ هو الصحيح‌.

 وإنّما ذكرنا هذا التشبيه‌ هنا لمجرّد التنظير لإنارة‌ الاذهان‌، وإلاّ فإنّ هذا الموضوع‌ يختلف‌ كثيراً عن‌ باب‌ الكشف‌ والنقل‌ في‌ المعاملات‌ الفضوليّة‌.

 أجل‌، يستبين‌ ممّا ناقشناه‌ كم‌ كان‌ جهاد الإمام‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌ في‌ هذا المجال‌ عظيماً! فقد كان‌ مكلّفاً أن‌ يُتمَّ هذه‌ الرسالة‌ الإلهيّة‌. وهذا يستلزم‌ وقتاً كبيراً يمتدّ شهوراً بل‌ عشرات‌ السنين‌، إذ كان‌ للإمام‌ عليه‌ السلام‌ أن‌ يكشف‌ عن‌ آيات‌ القرآن‌ كلّها، ويوضّح‌ ويفسّر ويشرح‌ منهج‌ جدّه‌ وسنّته‌، ويتبيّن‌ مواضع‌ الخلاف‌ جميعها، وينبّه‌ علی كافّة‌ ضروب‌ الإعوجاج‌ والانحراف‌ والانتهاك‌ التي‌ قام‌ بها أُولئك‌ الرجال‌ الذين‌ هم‌ كآظار أعطف‌ من‌ أُمّهات‌، ويُفصح‌ عن‌ صواب‌ عمل‌ أجداده‌ الكرام‌ مع‌ تحمّل‌ الشدائد القاصمة‌ للظهر، ليستبين‌ حقّ الموضوع‌. وهذا مطلب‌ لاينتهي‌ بحديث‌ واحد ولا بمائة‌ حديث‌، ولا بمجلس‌ واحد، ولا بمائة‌ مجلس‌، بل‌ يحتاج‌ إلی‌ جلسات‌ ممتدّة‌ علی الشهور والسنين‌. وكان‌ الإمام‌ عليه‌ السلام‌ ملتفتاً إلی‌ هذه‌ المهمّة‌ وعب‌ء هذه‌ المسؤوليّة‌، فأعدّ نفسه‌ لهذا الامر الخطير.

 وعلی هذا الاساس‌ لم‌ يقبل‌ عليه‌ السلام‌ الخلافة‌ الظاهريّة‌ التي‌ كانت‌ عند البيعة‌ من‌ نصيب‌ صاحب‌ القباء الاصغر ( المنصور الدوانيقيّ ) بعد أخيه‌ عبدالله‌ السفّاح‌. ومع‌ أ نّه‌ ثورة‌ الشيعة‌ كانت‌ من‌ أجل‌ إمارة‌ العلويّين‌ وإمامتهم‌ بَيدَ أنّ العبّاسيّين‌ قبضوا علی السلطة‌، أو بتعبيرنا الصحيح‌ استلبوها أو اختطفوها، ولم‌ يفسحوا المجال‌ للعلويّين‌. وفي‌ ذلك‌ الميدان‌ كان‌ الإمام‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌ هو الشخصيّة‌ البارزة‌ الوحيدة‌ المؤهّلة‌ للخلافة‌. وقد اعترف‌ الجميع‌ بهذا. واعتذر عليه‌ السلام‌ عن‌ تقّبل‌ هذا المنصب‌، ولم‌يستعدّ لقبول‌ بيعة‌ الناس‌ بالخلافة‌. وامتنع‌ بشدّة‌ ورفض‌ رفضاً قاطعاً علی الرغم‌ من‌ إصرار الاُمّة‌ وأهل‌ الحلّ والعقد في‌ المدينة‌ علی ذلك‌.

 من‌ جهة‌ أُخري‌، حذق‌ العبّاسيّون‌ وبايعوا عبدالله‌ السفّاح‌، فتربع‌ علی أريكة‌ الحكم‌، وعُدَّ الإمام‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌ من‌ رعاياه‌.

  سبب‌ امتناع‌ الإمام‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌ عن‌ قبول‌ الخلافة‌ مع‌ أ نّه‌ كان‌ حائزاً علی مقامات‌ ودرجات‌ الإمامة‌ وأعلميّة‌ الاُمّة‌

 قد يُشكل‌ البعض‌ هنا فيقولون‌: لماذا امتنع‌ الإمام‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌ عن‌ قبول‌ البيعة‌؟! ولماذا ترك‌ الاُمّة‌ المسكينة‌ فريسة‌ بِيَدِ الفراعنة‌ والعفاريت‌ والجبّارين‌؟! ولِمَ تخلّي‌ عن‌ الاضطلاع‌ بهذه‌ المسؤوليّة‌ الإلهيّ؟!

 إذا كان‌ شرط‌ الإمامة‌ هو النصّ من‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌، فقد أجمعت‌ الاُمّة‌ علی أ نّه‌ منصوص‌ عليه‌. وإذا كان‌ شرطها وصيّة‌ الإمام‌ السابق‌، فقد أوصي‌ الإمام‌ محمّد الباقر عليه‌ السلام‌ له‌ بالإمامة‌. وإذا كان‌ شرطها هو الاعمليّة‌، فقد كان‌ عليه‌ السلام‌ أعلم‌ الاُمّة‌ غير منازَع‌. وحينئذٍ فالارضيّة‌ مُمَّهدة‌، والاُمّة‌ مستعدّة‌ للقبول‌. وقام‌ المسلمون‌ في‌ خراسان‌ بنسف‌ صرح‌ الاستبداد والظلم‌ الامويّ لمصلحة‌ العلويّين‌، وألحقوا الهزائم‌ بالامويّين‌ من‌ خلال‌ حروبهم‌ المتوإلیة‌ المستمرّة‌. أي‌: أ نّهم‌ قضوا علی عدوّهم‌ الوحيد السفّاك‌ وخصمهم‌ العنيد المستبّدّ « بني‌ أُميّة‌ » ومَن‌ مَتَّ إلیهم‌ بصلة‌ من‌ قرابتهم‌ وأتباعهم‌ وشيعتهم‌. فهل‌ هناك‌ أفضل‌ من‌ هذه‌ الفرصة‌؟ وهل‌ ثمّة‌ أنسب‌ من‌ هذا الوضع‌؟ وهل‌ هناك‌ إمكانيّات‌ متاحة‌ كهذه‌ الإمكانيّات‌؟

 ولو كان‌ الإمام‌ عليه‌ السلام‌ قد تقلّد أمر الخلافة‌، وأحقَّ الحقوق‌ الضائعة‌، فهل‌ هناك‌ شي‌ء أفضل‌ من‌ هذا العمل‌؟ وهل‌ هناك‌ أحسن‌ من‌ بسط‌ العدل‌ وتحرير الاُمّة‌ الإسلاميّة‌ من‌ نير الطغيان‌؟ إلیس‌ من‌ الاولي‌ أن‌ يهتمّ الإمام‌ بشؤون‌ الضعفاء والمعوزّين‌ الذين‌ ضاعت‌ حقوقهم‌ خلال‌ قرن‌ من‌ الزمان‌! إلیس‌ من‌ الامثل‌ أن‌ يُخرِج‌ الاُمّة‌ من‌ نير الاستعباد والاسترقاق‌ الذي‌ مارسه‌ سلاطين‌ الجور، ويمنّ عليها بالحرّيئة‌؟ إلیس‌ من‌ الافضل‌ أن‌ يجعل‌ الجهاد مبتنياً علی أساس‌ جهاد رسول‌ الله‌، ويصنع‌ من‌ العالَم‌ كلّه‌ عالماً إسلاميّاً؟ وهَلُمَّ جَرّاً فَأَحْصِ ما شئتَ أن‌ تحصيه‌ من‌ هذه‌ الاسئلة‌!

 ويبدو الجواب‌ عن‌ هذه‌ الإشكالات‌ والاسئلة‌ يسيراً نوعاًما.

 أوّلاً: رفض‌ الإمام‌ عليه‌ السلام‌ الخلافة‌ مع‌ ما كان‌ يتمتّع‌ به‌ من‌ فهم‌ ودراية‌ وكياسة‌ وقدرة‌ علميّة‌ وذكاء، ورفضه‌ ليس‌ سطحيّاً ساذجاً فيندم‌ عليه‌، ويقول‌ وهو يري‌ جرائم‌ المنصور بأُمِّ عينيه‌: وَدِدتُ لو كنتُ قبلتُ الخلافة‌، ولم‌ أدَعِ الاُمّة‌ تعاني‌ من‌ المشاكل‌ والآلام‌.

 وكان‌ عليه‌ السلام‌ علی تلك‌ السجيّة‌ حتّي‌ آخر عمره‌، ولم‌ يُرَ متأسِّفاً علی مافات‌، مؤئلاً الراحة‌ والرخاء، مع‌ أنّ المشاكل‌ كانت‌ تتفاقم‌ يوماً بعد آخر في‌ العصر العبّاسيّ، وجرائم‌ المنصور قد فاقت‌ جرائم‌ غيره‌ من‌ الظالمين‌.

 هذا الدليل‌ مهمّ، لانّ كلّ عمل‌ يقوم‌ به‌ الإنسان‌ إذا لم‌ ينطلق‌ فيه‌ من‌ تدبّر في‌ عاقبته‌ وتفكير بالمصلحة‌، فإنّه‌ يندم‌ ويأسف‌ إذا واجه‌ آثاره‌ السلبيّة‌. بَيدَ أنّ لا ندم‌ علی العمل‌ الصحيح‌ علی الرغم‌ من‌ ازدياد المشاكل‌ والمشاقّ علی مرّ الايّام‌.

 ثانياً: كان‌ الإمام‌ عليه‌ السلام‌ يعيش‌ في‌ ذلك‌ العصر وما اتّصف‌ به‌ من‌ خصائص‌ وما لابسه‌ من‌ أوضاع‌ اجتماعيّة‌ وما كانت‌ فيه‌ من‌ إمكانيّات‌ ومتطّلبات‌، أمّا الذي‌ نلحظه‌ من‌ ذلك‌ فهو شَبَحٌ لا غير، فقد كان‌ يري‌، ونحن‌ نسمع‌. وهو كان‌ في‌ العين‌ والشّهود، ونحن‌ في‌ الاثر والخبر. والشَّاهِدُ يَرَي‌ مَا لاَ يَرَي‌ الغَائِبُ.

 والحال‌ أشبه‌ بواقف‌ خارج‌ الحلبة‌ وهو ينادي‌: ابطحه‌ علی الارض‌!

 ثالثاً: كان‌ عليه‌ السلام‌ يدرك‌ جيّداً أ نّه‌ لو قبل‌ البيعة‌ فلا يعني‌ ذلك‌ أنّ العالم‌ الإسلاميّ ينخضع‌ له‌ ويسلّم‌ ويطيع‌، وأ نّه‌ كان‌ ينتظر أوامره‌ ردحاً من‌ الزمن‌، بل‌ لكان‌ علی العكس‌ من‌ ذلك‌ ولخالفه‌ وحاربه‌ أوّلاً حثالات‌ الامويّين‌ المنبثّين‌ في‌ أرجاء العالَم‌، ولضحّوا حتّي‌ بآخر قطرة‌ من‌ دمائهم‌ للحؤول‌ دون‌ اعتلاء حكومته‌.

 ثمّ يأتي‌ بعدهم‌ العبّاسيّون‌ ثانياً، الذين‌ يرون‌ أنفسهم‌ أولاد عمّ النبيّ ووارثيه‌، فقد ظهروا بألف‌ دليل‌ ودليل‌، وادّعوا وراثة‌ المحراب‌ والمنبر، والسلاح‌ والسيف‌، والعصا والنصل‌، والعلم‌ والراية‌، كما رأينا وقرأنا في‌ التواريخ‌ والسير، وشاهدنا في‌ الآثار والاخبار أ نّهم‌ تربّعوا علی العرش‌ بهذه‌ العناوين‌ خمسمائة‌ سنة‌، وأدانوا العلويّين‌ بأباطيلهم‌ وتُرَّهاتهم‌، ودعموا بيعتهم‌ وإمارتهم‌ وحكومتهم‌ الغاصبة‌ بأدلّة‌ شاعريّة‌. وكان‌ شعراؤهم‌ ينشدون‌ القصائد علی هذا المنوال‌.

 ولَمَا اكتفوا بإقامة‌ الدليل‌ والبرهان‌، بل‌ لاظهروا طغيانهم‌ بالسيف‌ والسنان‌. وحينئذٍ يقف‌ الإمام‌ عليه‌ السلام‌ حياته‌ كلّها علی الحروب‌، ويُمضي‌ عمره‌ ووقته‌ لقمع‌ المعاندين‌ والمعارضين‌، ثمّ لا يُغْلَم‌ في‌ أيّ حرب‌ يُسْتَشْهَدُ.

 ولا ننسي‌ بعض‌ العلويّين‌ المطالبين‌ بالإمامرة‌ ثالثاً، فإنّهم‌ يرفعون‌ لواء المعارضة‌ ضدّه‌. وما عليه‌ إلاّ أن‌ يقاتلهم‌ أو يُسكتهم‌ بتوليتهم‌ الامصار، أو بتفويض‌ القضاء أو صلاة‌ الجمعة‌ الجماعة‌ إلیهم‌، أو بجعلهم‌ علی بيت‌ المال‌، وأمثال‌ ذلك‌ مكافأة‌ لسكوتهم‌.

 ولا يمكن‌ أن‌ نتصوّر الخيار الثاني‌ لوليّ الله‌ الذي‌ كان‌ يمارس‌ أعماله‌ علی أساس‌ الحقّ، أمّا الخيار الاوّل‌ فإنّه‌ يؤدّي‌ إلی‌ القتل‌ الاعتباطيّ وارتكاب‌ المذابح‌ في‌ غير موضعها، وإتلاف‌ النفوس‌ في‌ غير المسار الحقيقيّ.

 ولو تغضينا عن‌ ذلك‌ كلّه‌، فقد كانت‌ للإمام‌ عليه‌ السلام‌ مهمّة‌ إلهيّة‌ خاصّة‌ تمتثّل‌ في‌ إحياء الشريعة‌ المندرسة‌. وإذا فرضنا أ نّه‌ تمكّن‌ من‌ جميع‌ أعدائه‌ ومعارضيه‌، وتقلّد الامر، فغاية‌ ما يستطيع‌ أن‌ يقوم‌ به‌ هو النظر في‌ الشؤون‌ العامّة‌، وفصل‌ الخصومات‌ ورفع‌ المنازعات‌ الشخصيّة‌، والإفتاء في‌ الحلال‌ والحرام‌. أمّا إغاثة‌ الشريعة‌ المندرسة‌ والدين‌ المنقلب‌ فلاتتحقّق‌ أبداً، إذ ذكرنا أنّ ذلك‌ يحتاج‌ حاجة‌ ماسّة‌ إلی‌ سنين‌ طويلة‌ من‌ التدريس‌ والتربية‌ والتعليم‌ والبحث‌ والنقد والحلّ ولإبرام‌. من‌ هنا، لابدّ أن‌ يشمّر عليه‌ السلام‌ عن‌ ساعد الجدّ ويستفرغ‌ همّته‌ لهذا الامر الخطير، ويبذل‌ وقته‌ كلّه‌ من‌ أجل‌ ازدهار مدرسة‌ العلم‌ والفهم‌ والبيان‌ والقلم‌.

 ولا يُقاس‌ هذا الامر من‌ حيث‌ الاهمّيّة‌ بأمر الخلافة‌، فهو في‌ درجة‌ عإلیة‌ من‌ الاهمّيّة‌. وكان‌ الإمام‌ عليه‌ السلام‌ يري‌ نفسه‌ بين‌ أمرين‌: إمّا يقبل‌ الخلافة‌ والنظر في‌ شؤون‌ ولاية‌ الناس‌، وإمّا يرفض‌ البيعة‌ ويهتمّ بإحياء الإسلام‌ المدمَّر المندرس‌. فاختار الثاني‌ لعظمته‌، إذ إنّه‌ بمستوي‌ أصل‌ نبوّة‌ الرسول‌ الاكرم‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌، وإمامة‌ أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌، واستشهاد سيّد الشهداء عليه‌ السلام‌، وهذا الخيار الثاني‌ يُسِرُّ حياة‌ روح‌ النبوّة‌ والولاية‌ وسرّ الشهادة‌ وإن‌ استلزم‌ مشاقَّ مرهقة‌ وأفضي‌ إلی‌ فَقْدِ الحقوق‌ الظاهريّة‌ والإمارة‌ الدنيويّة‌. لكن‌ هل‌ تعلم‌ أنّ تحمّل‌ هذه‌ المشاقّ يصبّ في‌ مجري‌ المشاقّ التي‌ عاني‌ منها الرسول‌ الاكرم‌ وأميرالمؤمنين‌، وأنّ فقد الخلافة‌ والإمارة‌ لا يساوي‌ عنده‌ شروي‌ نفير في‌ مقابل‌ المحافظة‌ علی ذلك‌ الامر العظيم‌ بمنظار الإمام‌ الذي‌ لا يري‌ إلاّ الحقّ والواقع‌؟!

 اختار الإمام‌ عليه‌ السلام‌ الشقّ الثاني‌، ورفض‌ الخلافة‌ والإمارة‌ من‌ أجل‌ إقرار هذا الامر الخطير، واستنكف‌ عن‌ الاقتراب‌ إلی‌ الجهاز الحاكم‌ أيضاً، وخرج‌ من‌ نطاق‌ الحكومة‌ والإمارة‌ حتّي‌ كأنّ هاتين‌ المفردتين‌ لم‌ تَرِدا في‌ قاموسه‌ قطّ، وكأنّ الله‌ لم‌ يمنحه‌ ذلك‌ المقام‌ فيحقّقه‌ عمليّاً إذا تطّلبت‌ المصلحة‌. كان‌ له‌ بستان‌ واسع‌ في‌ المدينة‌ لاستقبال‌ الوافدين‌ عليه‌، وللتدريس‌ والإجابة‌ عن‌ أسئلة‌ المتقاطرين‌ عليه‌ من‌ شّتّي‌ الانحاء. ووقف‌ أيّامه‌ وليإلیه‌ علی المسائل‌ والمناقشات‌ والمناظرات‌ العلميّة‌ وجميع‌ فروع‌ الدراسة‌ والبحث‌ العلميّ ليتمكّن‌ من‌ القيام‌ بأعباء المسؤوليّة‌ العظيمة‌ المتمثّلة‌ بعرض‌ الدين‌ القويم‌، وإرواء الناس‌ السادرين‌ من‌ المنهل‌ الفرات‌ اللذيذ للآيات‌ القرآنيّة‌ والسنّة‌ النبويّة‌. وهذا المنهل‌ هو المذهب‌ الجعفريّ، سلام‌ الله‌ علی موجده‌ والذاهب‌ إلیه‌.

 وكان‌ هذا العمل‌ مهمّا خطيراً ذا جوانب‌ متعدّدة‌ إلی‌ درجة‌ أنّ الإمام‌ عليه‌ السلام‌ قد زاوله‌ علی امتداد ثلاثين‌ سنة‌ تامّة‌ إلاّ الفترة‌ التي‌ جاء بها إلی‌ العراق‌. يضاف‌ إلی‌ ذلك‌ أنّ أعماله‌ العلميّة‌ الاُخري‌ التي‌ مارسها في‌ رحلاته‌ خارج‌ المدينة‌ كانت‌ قائمة‌ علی هذا الاساس‌ أيضاً.

 وقد حقّق‌ عليه‌ السلام‌ هدفه‌ عبر تربية‌ أربعة‌ آلاف‌ تلميذ في‌ فنون‌ مختلفة‌، وتإلیف‌ أربعمائة‌ كتاب‌ لاربعمائة‌ مؤلِّف‌ في‌ أُصول‌ متنوّعة‌، وتفصيل‌ حقائق‌ القرآن‌ والسنّة‌ وتفسيرهما وتأويلهما. وسدّ طريق‌ الجور والاعتساف‌، الذي‌ سلكه‌ البلاط‌ الحاكم‌ وعملاؤه‌، من‌ خلاف‌ إراءة‌ الاحكام‌ المستدلّ عليها والقوانين‌ الصحيحة‌. وفتح‌ الطريق‌ للناس‌ العُمي‌ الصُّمّ المطبوع‌ علی قلوبهم‌ نحو ملكوت‌ السماوات‌ عبر الفلسفيّة‌ الإلهيّة‌ والحكمة‌ العإلیة‌ وعرفان‌ عوالم‌ الغيب‌ والتجرّد. ودلّ علی طريق‌ العبوديّة‌ لربوبيّة‌ الحقّ عزّ اسمه‌. ولحق‌ الناس‌ بعد عصر النبيّ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وصحابته‌ أُولي‌ البصائر القائمين‌ الليل‌ بصفوف‌ عبّاد الليل‌ علماء النهار. وها هم‌ يلتقون‌ بعد عصر أميرالمؤمنين‌ بأمثال‌ أصحابه‌ الزهّاد العبّاد النسّاك‌ السالكين‌ العارفين‌ كعثمان‌ بن‌ مظعون‌، وابن‌ التَّيِّهان‌ ونظائرهما.

 وهنا ينطلق‌ اللسان‌ بلا اختيار ليُحيّيه‌ عليه‌ السلام‌ من‌ أعماق‌ القلب‌ والفكر مترنّماً بقوله‌ تعإلی‌: وَسَلَـ'مٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا. [3]

 وأصرّ عليه‌ السلام‌ علی صيانة‌ حياته‌، وتموين‌ كلّ طالب‌ بالعلوم‌ حسب‌ استعداده‌، وعدم‌ إرباكهم‌ وإحراجهم‌ بإيداعهم‌ الجسن‌ أو إبعادهم‌ أو تعذيبهم‌ أو قتلهم‌ بلا مبِّرر ممّا يستبين‌ أنّ ذلك‌ كلّه‌ كان‌ من‌ أجل‌ المحافظة‌ علی الحياة‌ وتأمين‌ القوي‌ والعِدّة‌ والعُدّة‌ ابتغاء الوصول‌ إلی‌ تلك‌ الغاية‌ الرفيعة‌، إذ من‌ الواضح‌ أ نّه‌ لو كان‌ قد قُتِل‌، أو نُهبت‌ أمواله‌، أو اجتيح‌ مكان‌ درسه‌، فلا تعليم‌ عندئذٍ، ولا إحياءً للدين‌ بعد ذلك‌. علماً أنّ داره‌ عليه‌ السلام‌ قد أُحرقت‌، وأمواله‌ قد سُلبت‌، وختمت‌ حياته‌ شهيداً بالسمّ. [4]

 فهو كسيّد الشهداء عليه‌ السلام‌ الذي‌ ما ادّخر وسعاً في‌ سبيل‌ تنفيذ ذلك‌ الامر المهمّ، وقد أعدّ واستعدّ وتأهّب‌، وأرسل‌ أصحابه‌ وأهل‌ بيته‌ إلی‌ ميدان‌ القتال‌ فاستشهدوا بأرفع‌ طريقة‌، وبقي‌ء إلی‌ عصر عاشوراء يذود عن‌ حياض‌ الإسلام‌، وظلّ حتّي‌ آخر رمق‌ من‌ حياته‌، ولم‌ يهدر دمه‌ اعتباطاً، وإلاّ فإنّ قتله‌ كان‌ حتماً مقضيّاً. وكان‌ ممكناً أن‌ يقتل‌ في‌ أوّل‌ هجوم‌ صباح‌ عاشوراء أو ليلة‌ عاشوراء، ويستريح‌. فالكلام‌ لا يدور حول‌ الخلاص‌ والاستراحة‌، بل‌ يدور حول‌ البقاء، والدفاع‌ عن‌ الحريم‌ حتّي‌ آخر قوّة‌ وقدرة‌.

 وحينئذٍ قال‌: قبول‌ البيعة‌ واجب‌ علی الإمام‌ المفترض‌ الطاعة‌! ويتحقّق‌ اللزوم‌ والوجوب‌ إذا تهيّأت‌ جميع‌ الإمكانيّات‌ ومحاسن‌ القبول‌، ولا إشكال‌ عنده‌ في‌ البيعة‌.

 وللإمام‌ شأنيّة‌ مقام‌ الإمارة‌ وفعليّته‌، سواء قَبِلَ الناس‌ أم‌ رفضوا، وبايعوا أم‌ لم‌ يبايعوا. أمّا قبول‌ البيعة‌ فيتوقّف‌ علی إقبال‌ الناس‌ وفقدان‌ المحذورات‌، وهو ما ينبغي‌ أن‌ يكون‌ ثابتاً عند الإمام‌. ويجب‌ علی الناس‌ أن‌ يلتفّوا علی الإمام‌ ويطوفوا حوله‌ كطوافهم‌ حول‌ الكعبة‌، لا أنّ الكعبة‌ تأتيهم‌ فيطوفوا حولها.

 عندما أخذ أصحاب‌ السقيفة‌ البيعة‌ لابي‌ بكر بعد وفاة‌ الرسول‌ الاكرم‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌، وجاء العبّاس‌ وأبو سفيان‌ إلی‌ أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ ليبايعاه‌، فإنّه‌ قد رفض‌ البيعة‌.

 وحينما قُتل‌ عثمان‌ وأجمع‌ المهاجرون‌ والانصار علی بيعته‌ عليه‌السلام‌، وانتثال‌ الناس‌ علی بيته‌ من‌ كلّ حدب‌ وصوب‌، فإنّه‌ قد رفض‌ أيضاً حتّي‌ مضت‌ ثلاثة‌ أيّام‌ وفي‌ آخر إلیوم‌ الثالث‌ إذ سئم‌ الناس‌، وعمّت‌ الجلبة‌ والضوضاء أجواء المدينة‌، وتوسّط‌ عمّار بن‌ ياسر، ومالك‌ الاشتر، ومحمّد بن‌ أبي‌بكر، ونظائرهم‌ بينه‌ وبين‌ الناس‌، وامتنع‌ بشدّة‌، وكلّمه‌ مالك‌ الاشتر، فقال‌ له‌ ما مضمونه‌: يا عليّ! جميع‌ أهل‌ الحلّ والعقد حتّي‌ طلحة‌ والزبير راغبون‌ في‌ بيعتك‌، فإن‌ أمسكتَ، والوقت‌ ضيّق‌، بايع‌ الناس‌ أحدهما، وستتأوّه‌ من‌ فعالهم‌ غداً، وتأتينا لدفع‌ الظلم‌! وها نحن‌ قد جئناك‌ الآن‌، فاقبل‌ البيعة‌ لئلاّ تبأسَ غداً!

 قبل‌ عليه‌ السلام‌ البيعة‌، فرفع‌ طلحة‌ والزبير لواء المعارضة‌، وأوقدا نار الجمل‌ بالبصرة‌. ثمّ انتهت‌ حرب‌ الجمل‌ بحرب‌ صفّين‌، وحرب‌ صفّين‌ ولّدت‌ حرب‌ النهروان‌. ثمّ قتله‌ خوارج‌ النهروان‌ في‌ محراب‌ العبادة‌. وكان‌ عليه‌ السلام‌ منهمكاً في‌ مواجهة‌ الفتن‌ الداخليّة‌ علی امتداد أربع‌ سنين‌ وأشهر كان‌ فيها إمام‌ المسلمين‌ وخليفتهم‌، إذ لم‌ يقتنع‌ الناس‌ بحقّهم‌، وكانوا يتوقّعون‌ منه‌ أشياء كثيرة‌. وهو رجل‌ الحقّ وعنوان‌ الحقّ.

 وكان‌ الإمام‌ جعفر الصادق‌ عليه‌ السلام‌ ابن‌ عليٍّ هذا. وهو يعلم‌ أ نّه‌ لو رضي‌ ببيعة‌ الناس‌. لتوقّع‌ منه‌ إلین‌ أصرّوا علی بيعته‌ أشياء في‌ غير موضعها. وهو ليس‌ كمعاوية‌ والمنصور لينفق‌ بيت‌ المال‌ خدمة‌ لمآربه‌ الخاصّة‌، أو يولّي‌ من‌ ليس‌ أهلاً للولاية‌. لهذا فإنّ أنصار إلیوم‌ المتدافعين‌ حوله‌ سيكونون‌ من‌ معارضيه‌ وخصومه‌ غداً.

 ما هو الافضل‌؟ أقبول‌ مثل‌ هذه‌ الخلافة‌ أم‌ ما اضطلع‌ به‌ الإمام‌ عليه‌ السلام‌ من‌ مهمّة‌ رسإلیة‌؟

 وبعد أن‌ استبانت‌ هذه‌ الاُمور علينا أن‌ نناقش‌ الاحداث‌ الواردة‌، والعلوم‌ المترشّحة‌ عن‌ الإمام‌ عليه‌ السلام‌. وهذا ما سنستعرضه‌ في‌ سياق‌ عدد من‌ البحوث‌ بحول‌ الله‌ وقوّته‌.

 البحث‌ الاوّل‌: يدور حول‌ اتّصالات‌ المنصور الدوانيقيّ ومعارضاته‌، وهو عبدالله‌ بن‌ محمّد عليّ بن‌ عبدالله‌ بن‌ عبّاس‌، وعبّاس‌ عمّ النبيّ الاكرم‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌.

 المنصور هو أخو أبي‌ العبّاس‌ السفّاح‌، عبدالله‌ بن‌ محمّد. فهما سميّان‌ وأبوهما محمّد. وبويع‌ لابي‌ العبّاس‌ السفّاح‌ ـ علی ما نقل‌ الطبريّ ـ في‌ الثامن‌ عشر من‌ ربيع‌ الثاني‌ سنة‌ 132 ه. وكان‌ بالكوفة‌، وبايعه‌ أهلها. ونقل‌ الطبريّ هذا القول‌ عن‌ هشام‌ بن‌ محمّد.[5] ولكنّه‌ قال‌ في‌ موضع‌ آخرين‌ من‌ كتابه‌: « قال‌ الواقديّ: بويع‌ لابي‌ العبّاس‌ بالمدينة‌ بالخلافة‌ في‌ جمادي‌ الاُولي‌ في‌ سنةاثنتين‌ وثلاثين‌ ومائة‌.[6]

تفصيل‌ مواقف‌ المنصور الدوانيقي‌ّ من‌ الإمام‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌

 وذكر المحدّث‌ القمّيّ رحمه‌ الله‌ أ نّه‌ لمّا كانت‌ الحكومة‌ الامويّة‌ علی وشك‌ الانهيار، اجتمع‌ جماعة‌ من‌ بني‌ العبّاس‌ فيهم‌ أبو العبّاس‌ السفّاح‌، وأخواه‌: أبو جعفر المنصور، وإبراهيم‌ بن‌ محمّد، وعمّه‌ صالح‌ بن‌ عليّ، وجماعة‌ من‌ الطالبيّن‌ منهم‌ عبدالله‌ المحض‌، وولداه‌: محمّد، وإبراهيم‌، وأخوه‌ لاُمّه‌ محمّد الديباج‌ وغيرهم‌ بالابواء ( المدينة‌ »، واتّفقوا علی مبايعة‌ أحد وَلَدَي‌ عبدالله‌ المحض‌. فبايعوا جميعهم‌ محمّداً. لا نّهم‌ كانوا قد سمعوا من‌ بيت‌ الرسالة‌ أنّ مهديّ آل‌ محمّد سميّ رسول‌ الله‌. [7] ثمّ بعثوا وراء الإمام‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌، وعبدالله‌ بن‌ محمّد بن‌ عمر بن‌ عليّ عليه‌ السلام‌ لاخذ البيعة‌ منهما.

 فلم‌ يبايع‌ الإمام‌ الصادق‌، وقال‌: المهديّ ليس‌ هذا، وقد غرّكم‌ اسمه‌. وقال‌ لعبدالله‌ المحض‌: إذا كانت‌ هذه‌ البيعة‌ للخروج‌ والامر بالمعروف‌، فَلِمَ لانبايعك‌ وأنت‌ شيخ‌ بني‌ هاشم‌؟! فقال‌ عبدالله‌: كلامك‌ غير سديد، وأنت‌ لا تبايع‌ حسداً!

 فقام‌ الإمام‌ ووضع‌ يده‌ علی ظهر السفّاح‌، وقال‌: هذا هو الخليفة‌، وإخوته‌ وأولاده‌ هما لخلفاء بعده‌. ووضع‌ يده‌ علی كتف‌ عبدالله‌ المحض‌، وقال‌: الخلافة‌ ليست‌ لك‌ ولا لولَدَيك‌ وسيُقتلان‌. وقال‌ لعبد العزيز: سيقتل‌ صاحبُ الرداء الاصغر ( المنصور ) عبدالله‌، ووَلَده‌ محمّداً.

 حجّ المنصور سنة‌ 140 ه، ثمّ دخل‌ المدينة‌ وحبس‌ عبدالله‌ وبني‌ الحسن‌ ومحمّد الديباج‌. [8]

 وذكر الطبريّ أيضاً [9] أنّ أباالعبّاس‌ السفّاح‌ مات‌ في‌ 13 ذي‌ الحجّة‌ سنة‌ 136. وكانت‌ ولايته‌ من‌ لَدُن‌ قُتل‌ مروان‌ بن‌ محمّد إلی‌ أن‌ توفّي‌ أربع‌ سنين‌. وكان‌ له‌ يوم‌ توفِّي‌ 33 سنة‌، أو 36، أو 38 سنة‌.

 وفي‌ هذه‌ السنّة‌ عقد أبو العبّاس‌ عبدالله‌ بن‌ محمّد بن‌ عليّ لاخيه‌ أبي‌ جعفر المنصور ( عبدالله‌ بن‌ محمّد ) الخلافة‌ من‌ بعده‌، وجعله‌ وليّ عهده‌، ومن‌ بعد أبي‌ جعفر عيسي‌ بن‌ موسي‌ بن‌ محمّد بن‌ عليّ. وكتب‌ العهد بذلك‌، ودفعه‌ إلی‌ عيسي‌ بن‌ موسي‌. وفي‌ هذا السنة‌ بويع‌ لابي‌ جعفر المنصور بالخلافة‌.

كان‌ المنصور الدوانيقي‌ّ يعطي‌ الامان‌ ويقتل‌

 وفي‌ سنة‌ 137 ه قتل‌ المنصور القائد الكبير أبا مسلم‌ الخراسانيّ الذي‌ مهّد الامر لبني‌ العبّاس‌. قتله‌ غيلة‌ بعد ما كاتبه‌ متلطّفاً وآمنه‌ ودعاه‌.

 وما أن‌ دخل‌ أبو مسلم‌ مجلس‌ المنصور، هجم‌ عليه‌ الغلمان‌ وقطّوه‌ إرباً إرباً. وكان‌ قتله‌ فتكاً. وورد ذلك‌ في‌ « تاريخ‌ الطبريّ »، ج‌ 7، ص‌ 488. وقال‌ السيوطيّ في‌ « تاريخ‌ الخلفاء »: فأوّل‌ ما فعل‌ ( المنصور ) أن‌ قتل‌ أبا مسلم‌ الخراسانيّ صاحب‌ دعوتهم‌ وممّهد مملكتهم‌. [10]

 وأعطي‌ المنصور الامان‌ ليزيد بن‌ عمر بن‌ هبيرة‌ أميرالعراقين‌، ثمّ قتله‌. وذكر المحدِّث‌ القمّيّ قضيّة‌ معن‌ بن‌ زائدة‌ الشيبانيّ الذي‌ كان‌ معاشراً لابن‌ هُبَيْرة‌، وكان‌ من‌ أجواد زمانه‌ وشجعانه‌، حين‌ فرّ بدهاء من‌ بغداد خوفاً من‌ المنصور.[11]

 وأعطي‌ الامان‌ لعمّه‌ عبدالله‌ بن‌ عليّ،ثمّ قتله‌. [12]

 كان‌ الوفاء بالعهد معظَّماً عند العرب‌. وإذا أعطوا الامان‌ لاحدٍ، فإنّهم‌ يقاومون‌ للمحافظة‌ عليه‌ حتّي‌ بذل‌ المهج‌. وإذا غدر امرؤ بالعهد ونقض‌ أمانه‌ فإنّه‌ يظلّ معروفاً بالقُبح‌ والشناعة‌ عند قومه‌ وأرحامه‌ إلی‌ الابد. وكان‌ المنصور يعطي‌ الامان‌ بيُسر. فيأتي‌ الشخص‌ عنده‌ علی أساس‌ هذه‌ السنّة‌ السنيّة‌ في‌ حفظ‌ ذمّته‌ وعهده‌، وإذا المنصور يضرب‌ عنقه‌ في‌ أوّل‌ ما يراه‌.

وعندما كتب‌ رسالة‌ إلی‌ محمّد النفس‌ الزكيّة‌ نجل‌ عبدالله‌ المحض‌، وآمنه‌ فيها مفصلاً وذكر أنّ له‌ عليه‌ عهد الله‌ وميثاقه‌ وذمّته‌ وذمّة‌رسوله‌،[13] أجابه‌ محمّد عنها، ومن‌ جملة‌ ما قال‌ له‌ في‌ الجواب‌:

 أَنَا أَوْلَي‌ بِالاَمْرِ مِنْكَ وَأَوْفَي‌ بالعَهْدِ! لاِنَّكَ أَعْطَيْتَنِي‌ مِنَ العَهْدِ والامَانِ مَا أَعْطَيْتَهُ رِجَالاً قَبْلِي‌! فَأَيُّ الاَمَانَاتِ تُعْطِينِي‌؟! أَمَانَ ابْنِ هُبَيْرَةَ؟! أَمْ أَمَانَ عَمِّكَ عَبْدِاللَهِ بْنِ عَلِيٍّ؟! أَمْ أَمَانَ أَبِي‌ مُسْلِمٍ؟! [14]

 ذكر الطبريّ أنّ المنصور لمّا حجّ سنة‌ 140 ه أمر رياحاً [15] بأخذ بني‌ حسن‌، ووجّه‌ في‌ ذلك‌ أبا الازهر المهريّ.

 وقد كان‌ حبس‌ عبدالله‌ بن‌ حسن‌، فلم‌ يزل‌ محبوساً ثلاث‌ سنين‌ ( حتّي‌ مات‌ ). فكان‌ حسن‌ بن‌ حسن‌ قد نصل‌ خضابه‌ تسلّياً علی عبدالله‌. فكان‌ أبو جعفر المنصور يقول‌: مَا فَعَلَتِ الحَادَّةُ؟!

 قال‌: فأخذ رياح‌ حسناً ( المثلّث‌ ) وإبراهيم‌ ( الغمر ) ابنَي‌ حسن‌ بن‌ حسن‌، وحسن‌ بن‌ جعفر بن‌ حسن‌ بن‌ حسن‌، وسليمان‌ وعبدالله‌ ابنَي‌ داود بن‌ حسن‌ بن‌ حسن‌، ومحمّداً وإسماعيل‌ وإسحاق‌ أبناء إبراهيم‌ ( الغمر ) بن‌ حسن‌ بن‌ حسن‌، وعبّاس‌ بن‌ حسن‌، ( المثلّث‌ ) بن‌ حسن‌ بن‌ حسن‌ بن‌ عليّ بن‌ أبي‌ طالب‌.

 أخذوه‌ علی بابه‌، فقالت‌ أُمّه‌ عائشة‌ ابنة‌ طلحة‌ بن‌ عمر بن‌ عبيدالله‌ بن‌ معمر: دَعُونِي‌ أَشُمَّهُ! قَالُوا: لاَ وَاللَهِ مَا كُنتِ حَيَّةً فِي‌ الدُّنْيَا!

 وعليّ بن‌ حسن‌ ( المثلّث‌ ) بن‌ حسن‌ بن‌ حسن‌ العابد، وحبس‌ معهم‌ أبو جعفر الدوانيقيّ عبدالله‌ بن‌ حسن‌ بن‌ حسن‌ أخا عليّ ( أي‌: الابن‌ الآخر للحسن‌ المثلّث‌ وكان‌ أخا عليّ ). [16]

 وحدّثني‌ ابن‌ زبالة‌، قال‌: سمعتُ بعض‌ علمائنا يقول‌: مَاسَارَّ عَبْدُاللَهِ بْنُ حَسَنٍ أَحَداً قَطُّ إلاَّ قَتَلَهُ عَنْ رَأيِهِ. [17]

 وحجّ أبو جعفر المنصور في‌ سنة‌ 144 ه أيضاً، فتلقّاه‌ رياح‌ بالزبدة‌. فردّه‌ إلی‌ المدينة‌، وأمره‌ بإشخاص‌ بني‌ حسن‌ إلیه‌، وبإشخاص‌ محمّد بن‌ عبدالله‌ بن‌ عمرو بن‌ عثمان‌ بن‌ عفّان‌، وهو أخو بني‌ حسن‌ لاُمِّهم‌. أُمّهم‌ جميعاً فاطمة‌ ابنة‌ حسين‌ بن‌ عليّ بن‌ أبي‌ طالب‌.

اعتقال‌ المنصور بني‌ الحسن‌ في‌ سجن‌ الهاشميّة‌

وبعد حبس‌ بني‌ حسن‌ بالمدينة‌ ثلاث‌ سنين‌، سير بهم‌ إلی‌ الكوفة‌. وتوجّه‌ المنصور من‌ الربذة‌ إلی‌ الكوفة‌، وهو في‌ محمله‌. وقيّد بني‌ حسن‌ ومحمّداً الديباج‌[18] بالاغلال‌ وأجلسهم‌ في‌ المحامل‌ بلا غطاء ولاوطاء وأخذهم‌ معه‌ إلی‌ الكوفة‌، وحبسهم‌ بالهاشميّة‌ قرب‌ القنطرة‌.

 وكان‌ السجن‌ مظلماً حتّي‌ أ نّهم‌ لم‌ يعرفوا الليل‌ من‌ النهار، وورمت‌ أجسامهم‌ بسبب‌ رائحة‌ السجن‌ التنة‌ وماتوا جميعهم‌ في‌ السجن‌. [19]

 وكان‌ السجن‌ مظلماً إلی‌ حدٍّ أ نّهم‌ كانوا لايعرفون‌ أوقات‌ الصلاة‌ إلاّ بأحزاب‌ كان‌ يقرؤها عليّ بن‌ حسن‌ ( ابن‌ الحسن‌ المثلّث‌ وكان‌ يُسمّي‌ العابد ).

 قال‌ عمر: وحدّثني‌ ابن‌ عائشة‌، قال‌: سمعتُ موليً لبني‌ دارم‌، قال‌: قلتُ لبشير الرحّال‌: ما يُسرعك‌ إلی‌ الخروج‌ علی هذا الرجل‌؟!

 قال‌: إنّه‌ أرسل‌ إلی بعد أخذه‌ عبدالله‌ بن‌ حسن‌ فأتيتُه‌، فأمرني‌ يوماً بدخول‌ بيت‌ فدخلته‌، فإذا بعبدالله‌ بن‌ الحسن‌ مقتولاً. فسقطتُ مغشيّاً علَيَّ. فلمّا أفقتُ أعطيتُ الله‌ عهداً ألاّ يختلف‌ في‌ أمره‌ سيفان‌ إلاّ كنتُ مع‌ الذي‌ عليه‌ منهما. وقلت‌ للرسول‌ الذي‌ معي‌ من‌ قبله‌: لاتخبره‌ بما لقيتَ، فإنّه‌ إن‌ علم‌ قتلني‌.

 قال‌ عمر: فحدّثتُ به‌ هشام‌ بن‌ إبراهيم‌ بن‌ هشام‌ بن‌ راشد من‌ أهل‌ همدان‌، وهو العبّاسيّ أنّ أبا جعفر أمر بقتله‌. فخلف‌ بالله‌ ما فعل‌ ذلك‌، ولكنّه‌ دسَّ إلیه‌ مَن‌ أخبره‌ أنّ محمّداً قد ظهر فقُتل‌، فانصدع‌ قلبه‌، فمات‌.

 قال‌: وحدّثني‌ عيسي‌ بن‌ عبدالله‌، قال‌: قال‌ من‌ بقي‌ منهم‌ ( غير الذين‌ قتلوا ): إنّهم‌ كانوا يسقون‌. فماتوا جميعاً إلاّ سليمان‌ وعبدالله‌ ابنَي‌ داود بن‌ حسن‌ بن‌ حسن‌، وإسحاق‌ وإسماعيل‌ ابنَي‌ إبراهيم‌ بن‌ حسن‌ بن‌ حسن‌، وجعفر بن‌ حسن‌. فكان‌ مَن‌ قتل‌ منهم‌ إنّما قتل‌ بعد خروج‌ محمّد.[20]

موقف‌ المنصور من‌ محمّد الديباج‌ وتعذيبه‌

 ولمّا حُمِل‌ المحبوسون‌ من‌ بني‌ الحسن‌ إلی‌ المنصور في‌ الربذة‌. بعث‌ إلی‌ محمّد الديباج‌ فلمّا أُدخل‌ عليه‌، قال‌: أخبرني‌ عن‌ الكذّابَيْنِ ما فعلاً؟ وأين‌ هما؟ (يريد المنصور محمّداً وإبراهيم‌ ابنَي‌ عبدالله‌ بن‌ حسن‌ ).

 قال‌: والله‌ يا أميرالمؤمنين‌ ما لي‌ بهما علم‌! قال‌: لتَخبرنيّ!

 قال‌: قد قلتُ لك‌، وإنّي‌ والله‌ لصادق‌! ولقد كنتُ أعلم‌ علمهما قبل‌ إلیوم‌، وأمّا إلیوم‌ فما لي‌ والله‌ بهما علم‌!

 قال‌: جرّدوه‌. فجُرِّد، فضربه‌ مائة‌ سوط‌، وعليه‌ جامعة‌ حديد في‌ يده‌ إلی‌ عنقه‌. فلمّا فرغ‌ من‌ ضربه‌ أُخرج‌ فأُلبس‌ قميصاً له‌ قوهيّاً [21] علی الضرب‌، وأُتي‌ به‌ إلینا. [22]

 فوالله‌ ما قدروا علی نزع‌ المقيص‌ من‌ لصوته‌ بالدم‌، حتّي‌ حلبوا عليه‌ شاةً. ثمّ انتزع‌ القميص‌، ثمّ داووه‌.

 فقال‌ أبو جعفر: احدروا بهم‌ إلی‌ العراق‌! فقدم‌ بهم‌ إلی‌ الهاشميّة‌، فحُبسوا بها. فكان‌ أوّل‌ من‌ مات‌ في‌ الحبس‌ عبدالله‌ بن‌ حسن‌: فجاء السبّحان‌، فقال‌: ليخرج‌ أقربكم‌ به‌ فليصلّ عليه‌. فخرج‌ أخوه‌ حسن‌ بن‌ حسن‌ بن‌ عليّ عليهم‌ السلام‌، فصلّي‌ عليه‌.

 ثمّ مات‌ محمّد بن‌ عبدالله‌ بن‌ عمرو بن‌ عثمان‌. فأخذ رأسه‌، فبعث‌ به‌ مع‌ جماعة‌ من‌ الشيعة‌ إلی‌ خراسان‌. فطافوا في‌ كور خراسان‌. وجعلوا يحلفون‌ بالله‌ أنّ هذا رأس‌ محمّد بن‌ عبدالله‌ بن‌ فاطمة‌ ابنة‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌؛ يوهمون‌ الناس‌ أ نّه‌ رأس‌ محمّد بن‌ عبدالله‌ بن‌ حسن‌ الذي‌ كانوا يجدون‌ خروجه‌ علی أبي‌ جعفر في‌ الرواية‌. [23]

 وممّن‌ أفتي‌ بالخروج‌ مع‌ محمّد علی المنصور هو مالك‌ بن‌ أنس‌. وعندما قيل‌ له‌: إنّ في‌ أعناقنا بيعة‌ لابي‌ جعفر، قال‌: إنَّمَا بَايَعْتَمُْ مُكْرَهِينَ وَلَيْسَ علی كُلِّ مُكْرَةٍ يَمِينٌ![24] فأسرع‌ الناس‌ إلی‌ محمّد، ولزم‌ مالك‌ بيته‌.

 وذكر المحدِّث‌ القمّيّ رحمه‌ الله‌ أنّ محمّداً النفس‌ الزكيّة‌ خرج‌ بالمدينة‌ في‌ غرّة‌ رجب‌ سنة‌ 145 ه وقُتل‌ بأحجار الزيت‌ بالمدينة‌ في‌ أواسط‌ شهر رمضان‌. وكانت‌ المدّة‌ منذ ظهروه‌ حتّي‌ مقتله‌ شهرين‌ وسبعة‌ عشر يوماً. وكان‌ له‌ من‌ العمر خمس‌ وأربعون‌ سنة‌.

 وخرج‌ أخوه‌ إبراهيم‌ بالبصرة‌ في‌ غرّة‌ شوّال‌ ـ وعلی قول‌ ـ في‌ رمضان‌ سنة‌ 145 ه. ثمّ قدم‌ الكوفة‌ بدعوة‌ من‌ أهلها، وقُتل‌ بباخَمرْ في‌ أرض‌ الطفّ علی ستّة‌ عشر فرسخاً من‌ الكوفة‌. [25] وكان‌ قتله‌ في‌ يوم‌ الاثنين‌ من‌ شهر ذي‌الحجّة‌ سنة‌ 145 ه، وهو ابن‌ 48 سنة‌. وأمر المنصور بأخذ رأسه‌ إلی‌ أبيه‌ عبدالله‌ في‌ سجن‌ الهاشميّة‌ ببغداد. [26]

 قال‌ الملاّ جلال‌ الدين‌ السيوطيّ: وكان‌ ( المنصور ) فحل‌ بني‌ العبّاس‌ هيبةً وشجاعة‌ وحزماً ورأياً وجبروتاً، جمّاعاً للمال‌، تاركاً اللهو واللعب‌، كامل‌ العقل‌، جيّد المشاركة‌ في‌ العلم‌ والادب‌، فقيه‌ النفس‌. قتل‌ خلقاً كثيراً حتّي‌ استقام‌ ملكه‌. وهو الذي‌ ضرب‌ أبا حنيفة‌ علی القضاء، ثمّ سجنه‌، فمات‌ بعد أيّام‌. وقيل‌: إنّه‌ قتله‌ بالسمّ لكونه‌ أفتي‌ بالخروج‌ عليه‌. وكان‌ فصيحاً بليغاً مفوَّهاً خليقاً للإمارة‌. وكان‌ غاية‌ في‌ الحرص‌ والبخل‌، فلقِّب‌ « أبا الدوانيق‌ » لمحاسبته‌ العمّال‌ والصنّاع‌ علی الدوانيق‌ والحبّات‌.

 أُمّه‌ سلامة‌ البربريّة‌ أُمّ ولد. وفي‌ سنة‌ ثمان‌ وثلاثين‌ ومائة‌ كان‌ دخول‌ عبدالرحمن‌ بن‌ معاوية‌ بن‌ هشام‌ بن‌ عبدالملك‌ بن‌ مروان‌ الاُمويّ إلی‌ الاندلس‌. واستولي‌ عليها وامتدّت‌ أيّامه‌. وبقيت‌ الاندلس‌ في‌ يد أولاده‌ إلی‌ بعد الاربعمائة‌. وكان‌ عبدالرحمن‌ هذا من‌ أهل‌ العلم‌ والعدل‌، وأمّه‌ بربريّة‌.

 قال‌ أبو المظفّر الابيورديّ: فكانوا يقولون‌: ملك‌ الدنيا ابنا بربريتين‌: المنصور وعبدالرحمن‌ بن‌ معاوية‌. [27]

المنصور أوّل‌ مثير للخلاف‌ بين‌ العبّاسيّين‌ والعلويّين‌

 وكان‌ العلويّون‌ والعبّاسيّون‌ حتّي‌ عصر المنصور متّفقين‌ علی رأي‌ واحد، وكانوا يتعارفون‌ لحلّ المشاكل‌. ويواصلوان‌ طريقتهم‌ جميعاً بوصفهم‌ أرحام‌ رسول‌ الله‌. وكان‌ عدوّهم‌ الوحيد وخصمهم‌ المعارض‌ هم‌ بني‌ أُميّة‌ الذين‌ شكّلوا جبهة‌ مناوئة‌ لبني‌ هاشم‌ مارست‌ ضدّهم‌ الحرب‌ والجدال‌ والاسر والنهب‌ والقتل‌ وسائر الاعمال‌ العدائيّة‌. أمّا المنصور فقد مزّق‌ أوصال‌ هذا الاتّحاد، ولم‌ يأل‌ جهداً في‌ التفريق‌ بينهما. فانكسر العلويّون‌ وغُلبوا علی أمرهم‌ بعد ذلك‌. وصارت‌ القدرة‌ والسلطة‌ والشوكة‌ للعبّاسيّين‌. وظلّ الخلاف‌ بينهما متأجّجاً علی امتداد خمسمائة‌ سنة‌ من‌ الحكم‌ العبّاسيّ. ويعود هذا إلی‌ ما كان‌ يحمله‌ المنصور من‌ روح‌ استكباريّة‌ فرعونيّة‌ جبروتيّة‌ فحسب‌. ويُلحَظُ في‌ التأريخ‌ أ نّه‌ هو الذي‌ سنّ هذا الخلاف‌ ووضع‌ قواعده‌.

 قال‌ السيوطيّ: وكان‌ المنصور أوّل‌ من‌ أوقع‌ الفتنة‌ بين‌ العبّاسيّين‌ والعلويّين‌، وكانوا قبل‌ شيئاً واحداً. وآذي‌ المنصور خلقاً من‌ العلماء ممّن‌ خرج‌ مع‌ محمّد وإبراهيم‌ أو أمر بالخروج‌ قتلاً وضرباً وغير ذلك‌. منهم‌ أبو حنيفة‌، وعبدالحميد بن‌ جعفر، وابن‌ عجلان‌....

 وفي‌ سنة‌ سبع‌ وأربعين‌ ومائة‌ خلع‌ المنصور عمّه‌ عيسي‌ بن‌ موسي‌ من‌ ولاية‌ العهد. وكان‌ السفّاح‌ عهد إلیه‌ من‌ بعد المنصور. وكان‌ عيسي‌ هو الذي‌ حارب‌ له‌ الاخوين‌ محمّداً وإبراهيم‌ فظفر بهما. فكأفأه‌ بأن‌ خلعه‌ مكرهاً، وعهد إلی‌ ولده‌ المهدي‌. [28]

 وفي‌ سنة‌ ثمان‌ وخمسين‌ ومائة‌ أمر المنصور نائب‌ مكّة‌ بحبس‌ سفيان‌ الثوريّ، وعبّاد بن‌ كثير فحُبسا. وتخوّف‌ الناس‌ أن‌ يقتلهما المنصور إذا ورد الحجّ. فلم‌ يوصله‌ الله‌ مكّة‌ سالماً، بل‌ قدم‌ مريضاً ومات‌، وكفاهما الله‌ شرّه‌. وكانت‌ وفاته‌ بالبطن‌ في‌ ذي‌ الحجّة‌، ودُفن‌ بين‌ الحجون‌ وبئر ميمون‌. وقال‌ سلم‌ الخاسر:

 قَفَلَ الحَجِيجُ وَخَلَّفُوا ابْنَ مُحَمَّدٍ               َهْناً بِمَكَّةَ فِي‌ الضَّرِيحِ المُلْحَدِ

 شَهِدُوا المَنَاسِكَ كُلَّهَا وَإمَامُهُمْ               َحْتَ الصَّفَائِحِ مُحْرِماً لَمْ يَشْهَدِ [29]