معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > الاخلاق والحكمة و العرفان > رسالة‌ لُبّ اللباب‌ في‌ سير وسلوك‌ أولي‌ الالباب
کتاب رسالة لب اللباب / القسم الثالث: الشرح تفصیلی للطریق، سلسلة أساتید المؤلف فی المعارف الإلهیة،انکشاف عوالم التوحید الأربعة

 الاوّل‌ : ترك‌ العادات‌ والرسوم‌ والمجاملات‌

 والابتعاد عن‌ الاُمور الاعتباريّة‌ التي‌ تمنع‌ السالك‌ من‌ طيّ الطريق‌. والمقصود أن‌ يعيش‌ السالك‌ بين‌ الناس‌ بنحوالاعتدال‌. فالمجتمع‌ يحتوي‌ علی‌ طائفة‌ من‌ الناس‌ قد غرقت‌ في‌ المراسم‌ الاجتماعيّة‌، لا همّ لها سوي‌ جلب‌ الاصدقاء والخلاّن‌، ولا تبخل‌ بأيّ شكل‌ من‌ أشكال‌ المجاملة‌ والزيارات‌ المضرّة‌ أوالتي‌ ليست‌ لها فائدة‌ حفاظاً علی‌ شخصيّتها ومقامها الخاصّ، وتتكلّف‌ العادات‌ والتقاليد التي‌ تحفظ‌ لها حُسن‌ الظاهر، تاركة‌ صميم‌ الحياة‌ لحفظ‌ هامشها، جاعلة‌ المعيار في‌ التقبيح‌ والتحسين‌ آراء عوامّ الناس‌، واضعة‌ الحياة‌ والعمر في‌ معرض‌ التلف‌ والهلاك‌ حتّي‌ صارت‌ سفينة‌ وجودهم‌ لعبة‌ تتقاذفها الامواج‌ المتلاطمة‌ للرسوم‌ والعادات‌ المفتعلة‌، فأينما سارت‌ الامواج‌ بآداب‌ العوامّ وأخلاقيّاتهم‌ سارت‌ معها، فاقدة‌ للإرادة‌ قبال‌ المجتمع‌، منساقة‌ انسياق‌ العبيد. وفي‌ المقابل‌ هناك‌ طائفة‌ أُخري‌ اعتزلت‌ الجماعة‌، وابتعدت‌ عن‌ كلّ نوع‌ من‌ العادات‌ والآداب‌ الاجتماعيّة‌، وتنصّلت‌ من‌ الاجتماعيّات‌، فلا معاشرة‌ ولا مزاورة‌ لهم‌ مع‌ الناس‌، وبقي‌ أصحابها كذلك‌ حتّي‌ عرفوا بالمنزوين‌.

 ولكي‌ يتمكّن‌ السالك‌ من‌ الوصول‌ إلی‌ المقصد، علیه‌ أن‌ يختار طريق‌ الاعتدال‌ بين‌ هذين‌ المسلكين‌، ويتجنّب‌ الإفراط‌ والتفريط‌، ويسير علی‌ صراط‌ مستقيم‌، وهذا الامر لا يحصل‌ إلاّ بمراعاة‌ المقدار الذي‌ تقتضيه‌ الضرورة‌ في‌ مجال‌ المعاشرة‌ ومزاولة‌ المجتمع‌، نعم‌ لوحصل‌ امتياز قهريّ بين‌ السالك‌ وغيره‌ علی‌ أثر اختلاف‌ كمّيّة‌ المعاشرة‌ أوكيفيّتها، فإنَّ هذا الامر لن‌ يكون‌ مضرّاً، وبالطبع‌ فإنَّ مثل‌ هذا الاختلاف‌ ليحصل‌، فالمعاشرة‌ لازمة‌ وضروريّة‌، ولكن‌ لا إلی‌ الحدّ الذي‌ يجعل‌ السالك‌ نفسه‌ تابعاً لاخلاقيّات‌ الناس‌، وَلاَ يَخَافُونَ (فِي‌ اللَهِ) لَوْمَةَ لآئِمٍ، [1] هذه‌ الآية‌ تحكي‌ عن‌ مدي‌ ثباتهم‌ علی‌ هذا النهج‌ المستقيم‌، وتصلُّبهم‌ في‌ رأيهم‌ ومسلكهم‌.

 وبشكل‌ عامّ، يمكن‌ أن‌ نقول‌ إنَّ علی‌ السالك‌ أن‌ يقيس‌ ويحدّد النفع‌ والضرر في‌ كلّ أمر اجتماعيّ، ولا يجعل‌ نفسه‌ تابعاً لآراء الناس‌ وأهوائهم‌.

العزم‌ الراسخ‌ في‌ طريق‌ السلوك‌

 الثاني‌ : العزم‌

 ما أن‌ يضع‌ السالك‌ القدم‌ الاُولي‌ في‌ ميدان‌ المجاهدة‌ حتّي‌ تنصبّ علیه‌ الحوادث‌ الشديدة‌ والبلاءات‌ من‌ جانب‌ الناس‌ والمعارف‌، أُولئك‌ الذين‌ لا يتّبعون‌ سوي‌ هوي‌ النفس‌ والرغبات‌ الإجتماعيّة‌، يعاتبونه‌ ويوبّخونه‌ بالقول‌ والعمل‌ لكي‌ يبتعد عن‌ وجهته‌ ومقصده‌، وهذا الاختلاف‌ في‌ نمط‌ الحياة‌ والسلوك‌ فيما بينه‌ وبين‌ الناس‌ يؤدّي‌ إلی‌ تخوّفهم‌، فيسعون‌ بكلّ وسيلة‌ ممكنة‌ أن‌ يحرّفوا السالك‌ المبتدي‌، موجّهين‌ له‌ سياط‌ اللوم‌ والتوبيخ‌ لإمالته‌ عن‌ الطريق‌ وهكذا.

 فإنَّ السالك‌ سوف‌ يواجه‌ في‌ كلّ منزل‌ من‌ منازل‌ السفر مشكلة‌ جديدة‌ يبدوأنـّها لا يمكن‌ دفعها إلاّ بالعزم‌ والصبر، لذا علیه‌ أن‌ يطلب‌ من‌ الله‌ المدد والقوّة‌ حتّي‌ يصمد أمام‌ كلّ هذه‌ المشاكل‌ ويزيلها بسلاح‌ الصبر والتوكّل‌، وبالالتفات‌ إلی‌ عظمة‌ المقصد علیه‌ أن‌ لا يسمح‌ للخوف‌ مجالاً أمام‌ هذه‌ العواصف‌ الهوجاء التي‌ هي‌ عوائق‌ طريق‌ الله‌ وموانعه‌.

 وَعَلَي‌ اللَهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [2] ـ وَعَلَي‌ اللَهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ. [3]

الرفق‌ والمداراة‌ في‌ العمل‌

 الثالث‌ : الرفق‌ والمداراة‌

 وهي‌ من‌ أهمّ الاُمور التي‌ ينبغي‌ أن‌ يراعيها السالك‌ إلی‌ الله‌، لانَّ أدني‌ غفلة‌ في‌ هذا الامر تكون‌ ـ إضافة‌ إلی‌ منعه‌ من‌ السير والترقّي‌ ـ سبباً كلّيّاً في‌ انقطاع‌ السفر. فالسالك‌ يجد في‌ نفسه‌ في‌ بداية‌ السفر حماساً وشوقاً زائداً علی‌ الحدّ المترقّب‌ من‌ أمثاله‌، بل‌ تلازمه‌ تلك‌ الحال‌ أثناء السفر وحين‌ ظهور التجلّيات‌ الصوريّة‌ الجماليّة‌ حيث‌ يحسّ في‌ نفسه‌ بالعشق‌ والشوق‌ الكثير، فيعزم‌ علی‌ أداء الاعمال‌ العباديّة‌ الكثيرة‌، فتراه‌ يقضي‌ معظم‌ أيّامه‌ في‌ الدعاء والندبة‌ مقتفياً كلّ عمل‌، ومتعلّماً من‌ كلّ شخص‌ كلمة‌، ومتناولاً من‌ كلّ غذاء روحي‌ لقمة‌. إلاّ أنَّ هذا الاُسلوب‌ من‌ العمل‌ ليس‌ مفيداً فحسب‌، بل‌ يؤدّي‌ إلی‌ الخسران‌، لانـّه‌ علی‌ أثر تحميل‌ النفس‌ أعمالاً ثقيلة‌ تأتي‌ النتائج‌ معاكسة‌، وبالتالي‌ تتراجع‌ النفس‌ إلی‌ الوراء، ويعود السالك‌ بعد ذلك‌ خالي‌ اليدين‌، ويفقد الرغبة‌ والميل‌ للقيام‌ بأدني‌ عمل‌ مستحبّ.

 وسرّ هذا الإفراط‌ والتفريط‌ هوأنَّ السالك‌ قد جعل‌ الذوق‌ والشوق‌ المؤقّتين‌ ميزاناً لاداء الاعمال‌ المستحبّة‌، وحمّل‌ النفس‌ عبئاً ثقيلاً، ولمّا انتهي‌ هذا الشوق‌ المؤقّت‌، وخمد لهيبه‌ المتأجّج‌، ضجرت‌ النفس‌ من‌ هذه‌ الاحمال‌ الثقيلة‌، وألقت‌ عصي‌ الترحال‌ في‌ البداية‌ أوأثناء الطريق‌، واشمأزّت‌ من‌ السفر وتبرأت‌ من‌ معدّاته‌ ومملاّته‌. إذن‌ علی‌ السالك‌ أن‌ لا يسقط‌ في‌ فخّ الشوق‌ المؤقّت‌، بل‌ علیه‌ أن‌ يقيس‌ بدقّة‌ مدي‌ استعداده‌ وحالته‌ الروحيّة‌ ووضعيّة‌ عمله‌ وأشغاله‌ ومقدار قابليّته‌ للتحمّل‌، وينتخب‌ العمل‌ الذي‌ يمكنه‌ أن‌ يداوم‌ علیه‌ علی‌ أن‌ يكون‌ أقلّ من‌ مقدار ومدي‌ استعداده‌، مكتفياً به‌ ومزاولاً له‌ حتّي‌ ينال‌ حظّه‌ الإيمانيّ من‌ هذا العمل‌.

 وبناء علی‌ هذا فالسالك‌ يشتغل‌ بالعبادة‌ طالما وجد في‌ نفسه‌ الميل‌ والرغبة‌، ويقلع‌ عنها مع‌ بقاء الشوق‌ لها حفاظاً علی‌ هذه‌ الرغبة‌ وهذا الميل‌، وبالتالي‌ يري‌ نفسه‌ دائم‌ الظمأ للعبادة‌. فمثل‌ السالك‌ الذي‌ يريد أن‌ يؤدّي‌ العبادات‌ كمثل‌ الذي‌ يريد تناول‌ الغذاء، علیه‌ أوّلاً أن‌ ينتخب‌ الغذاء الذي‌ يلائم‌ مزاجه‌، ثمّ يدعه‌ قبيل‌ الشبع‌ لتبقي‌ فيه‌ الرغبة‌ والميل‌ دائمين‌. وإلی‌ هذا الامر إشارة‌ في‌ حديث‌ الإمام‌ الصادق‌ علیه‌ السلام‌ مع‌ عبدالعزيز القراطيسيّ :

 يَا عَبْدَ العَزِيزِ ! إنَّ لِلإيمَانِ عَشْرَ دَرَجَاتٍ بِمَنْزِلَةِ السُّلَّمِ يُصْعَدُ مِنْهُ مِرْقَاةً بَعْدَ مِرْقَاةٍ ـ إلی‌ أن‌ قال‌ علیه‌ السلام‌ ـ وَإِذَا رَأَيْتَ مَنْ هُوَأَسْفَلُ مِنْكَ بِدَرَجَةٍ فَارْفَعْهُ إلَيْكَ بِرِفْقٍ، وَلاَ تَحْمِلَنَّ عَلَيْهِ مَا لاَ يُطِيقُ فَتَكْسِرَهُ.

 إجمالاً، يتبيّن‌ أنَّ العبادة‌ المؤثّرة‌ في‌ السير والسلوك‌ هي‌ تلك‌ العبادة‌ التي‌ تنشأ من‌ الرغبة‌ والميل‌، وإلی‌ هذا المعني‌ أشار علیه‌ السلام‌ :

 وَلاَ تُكْرِهُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَي‌ العِبَادَةِ.

الوفاء

 الرابع‌ : الوفاء

 وهوعبارة‌ عن‌ عدم‌ العود إلی‌ ما تاب‌ عنه‌، وعدم‌ التقصير في‌ أداء ما عاهد نفسه‌ علی‌ القيام‌ به‌، وأن‌ لا يترك‌ ما عاهد علیه‌ شيخه‌ ومربّيه‌ العارف‌ في‌ طريق‌ الحقّ حتّي‌ آخر الامر.

الثبات‌ والمثابرة‌

 الخامس‌ : الثبات‌ والمثابرة‌

 وتوضيح‌ هذا المعني‌ يحتاج‌ إلی‌ ذكر مقدّمة‌ : فالمستفاد من‌ الاخبار والآيات‌ أنَّ الذي‌ ندركه‌ بحواسّنا من‌ الذوات‌ الخارجيّة‌، والذي‌ نؤدّيه‌ في‌ الخارج‌ من‌ الافعال‌ ويكون‌ له‌ تحقّق‌ في‌ عالم‌ المادّة‌، له‌ حقيقة‌ في‌ ماوراء هذه‌ التجسّمات‌ الخارجيّة‌ المادّيّة‌ الجسمانيّة‌، وماوراء هذه‌ الظواهر والمحسوسات‌، حقائق‌ عالية‌ المرتبة‌ مجرّدة‌ من‌ لباس‌ المادّة‌ والزمان‌ والمكان‌ وسائر عوارضها، وعندما تتنزّل‌ هذه‌ الحقائق‌ من‌ مقامها الواقعيّ تتجسّم‌ وتتمثّل‌ بهذه‌ الصور المادّيّة‌ المدركة‌ في‌ عالم‌ الخارج‌، وتصرّح‌ بذلك‌ الآية‌ القرآنيّة‌ المباركة‌ :

 وَإِن‌ مِن‌ شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَآئِنُهُ و وَمَا نُنَزِّلُهُ و´ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ. [4]

 وتفسيرها ـ مجملاً ـ هوأنَّ الذي‌ يتحقّق‌ في‌ عالم‌ المادّة‌ عموماً قد كان‌ له‌ قبل‌ تحقّقه‌ الخارجيّ حقيقة‌ أُخري‌ عارية‌ عن‌ لباس‌ التقدير والحدّ، لكنّه‌ في‌ حال‌ النزول‌ والتنزيل‌ يتحدّد ـ وفقاً لعلم‌ الباري‌ تعالي‌ ـ بدرجات‌ معيّنة‌، ويقدّر بالتقديرات‌ الإلهيّة‌.

 مَآ أَصَابَ مِن‌ مُصِيبَةٍ فِي‌ الاْرْض‌ وَلاَ فِي‌´ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي‌ كِتَـ'بٍ مِن‌ قَبْلِ أَن‌ نَبْرَأَهَآ إِنَّ ذَ 'لِكَ عَلَي‌ اللَهِ يَسِيرٌ. [5]

 ثمّ إنَّ الصور الخارجيّة‌ لمّا كانت‌ محدّدة‌ ومملوءة‌ بالعوارض‌ المادّيّة‌ من‌ الكون‌ والفساد فهي‌ لعبة‌ بيد الفناء والزوال‌ والنفاد : مَا عِندَكُمْ يَنْفَدُ، لكنَّ تلك‌ الحقائق‌ العالية‌ المعبّر عنها بالخزائن‌ لها وجهة‌ التجرّد والملكوتيّة‌ ولا يترتّب‌ علیها سوي‌ الثبات‌ والدوام‌ والكلّيّة‌ : وَمَا عِندَ اللَهِ بَاقٍ، وإلی‌ هذا المعني‌ وإلی‌ هذه‌ الحقيقة‌ أُشير في‌ الحديث‌ المتّفق‌ علیه‌ بين‌ الفريقين‌ :

 نَحْنُ مَعَاشِرَ الاَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَي‌ قَدْرِ عُقُولِهِمْ.

 وهذا الحديث‌ راجع‌ إلی‌ جهة‌ بيان‌ كيفيّات‌ الحقائق‌ لاكمّيّاتها، ومدلوله‌ : أنـّنا معاشر الانبياء ـ دائماً ـ ننزّل‌ الحقائق‌ العالية‌ ونبيّنها بحسب‌ فهم‌ وإدراك‌ السامع‌، لانَّ العقول‌ البشريّة‌ ـ بسبب‌ انشغالها بزخارف‌ الحياة‌ وأمانيها الفارغة‌ وآمالها البعيدة‌ ـ قد تكدّرت‌ فلاتستطيع‌ أن‌ تدرك‌ تلك‌ الحقائق‌ بنفس‌ الدرجة‌ من‌ الصفاء والواقعيّة‌ التي‌ هي‌ علیها. لهذا فالانبياء العظام‌ هم‌ كمن‌ يريد أن‌ يبيّن‌ للاطفال‌ حقيقة‌ ما، يضطرّون‌ إلی‌ التعبير عنها بما يتناسب‌ مع‌ القوي‌ الإدراكيّة‌ والحسّيّة‌ للطفل‌. وكم‌ عبّر الانبياء العظام‌ بواسطة‌ مقام‌ الشرع‌ والشريعة‌ (وهم‌ حماتها) عن‌ هذه‌ الحقائق‌ الحيّة‌ بتعابير قد توحي‌ إلی‌ أنَّ هذه‌ الحقائق‌ تفقد الحسّ والشعور، والحال‌ أنَّ كلّ واحدة‌ من‌ هذه‌ الظواهر الشرعيّة‌ من‌ صلاة‌ وصوم‌ وحجّ وجهاد وصلة‌ رحم‌ وصدقة‌ وأمر بالمعروف‌ ونهي‌ عن‌ المنكر و... لها حقائق‌ حيّة‌ ذات‌ شعور وإدراك‌.

 والسالك‌ هومن‌ يريد أن‌ يزيل‌ ـ بخطي‌ السلوك‌ والمجاهدة‌، وبعون‌ الله‌ وتوفيقه‌ ـ كدورة‌ وحجاب‌ النفس‌ والعقل‌ في‌ ظلّ ذلّ العبوديّة‌ والانكسار والتضرّع‌ والإبتهال‌، ليشاهد ـ بالعقل‌ الظاهر والنفس‌ المضيئة‌ النورانيّة‌ الصافية‌ من‌ الاغلال‌ والشوائب‌ ـ تلك‌ الحقائق‌ العالية‌ في‌ هذه‌ النشأة‌ المادّيّة‌ والعالم‌ الظلمانيّ. وكثيراً ما يتّفق‌ للسالك‌ أن‌ يشاهد كلاّ من‌ الوضوء والصلاة‌ بصورته‌ الواقعيّة‌ ويري‌ مقدار تفاوتها مع‌ صورته‌ الجسمانيّة‌ الخارجيّة‌ بآلاف‌ المراتب‌ من‌ حيث‌ الشعور والإدراك‌. كما وردت‌ في‌ أحاديث‌ الائمّة‌ الاطهار علیهم‌ السلام‌ مطالب‌ قيّمة‌ ونفيسة‌ حول‌ تلك‌ الصورة‌ المثاليّة‌ للعبادات‌ في‌ عالم‌ البرزخ‌ والقيامة‌، وتكلّم‌ الإنسان‌ معها، كما وردت‌ في‌ مسألة‌ نطق‌ الجوارح‌ والسمع‌ والبصر في‌ القرآن‌ الكريم‌. فالمسجد ليس‌ هوذلك‌ البناء الحجريّ، بل‌ هوواقعيّة‌ حيّة‌ ومدركة‌ وشاعرة‌، كما جاء في‌ الاخبار حول‌ شكاية‌ القرآن‌ والمسجد إلی‌ ربّهما يوم‌ القيامة‌.

 يروي‌ أنَّ أحد السالكين‌ كان‌ يوماً طريح‌ الفراش‌، وأثناء تقلّبه‌ علی‌ فراشه‌ سمع‌ أنيناً من‌ الارض‌، فلمّا استعلم‌ عن‌ السبب‌، أدرك‌ أوقيل‌ له‌ إنَّ هذا الانين‌ من‌ الارض‌ إنَّما كان‌ لفراقك‌.

 بعد هذه‌ المقدّمة‌ نقول‌ : إنَّ علی‌ السالك‌ أن‌ يثبت‌ في‌ نفسه‌ من‌ خلال‌ الاستمرار والمداومة‌ علی‌ الاعمال‌، تلك‌ الصور الملكوتيّة‌ المجرّدة‌ حتّي‌ يرتقي‌ من‌ الحال‌ إلی‌ مقام‌ الملكة‌. وعلیه‌ ـ بواسطة‌ تكرار كلّ عمل‌ ـ أن‌ يحصّل‌ حظّه‌ الروحانيّ والإيمانيّ من‌ ذلك‌ العمل‌، فما لم‌ يحصل‌ لديه‌ هذا المعني‌ لا يترك‌ العمل‌. وهذه‌ الجهة‌ الملكوتيّة‌ الثابتة‌ للعمل‌ إنّما تحصل‌ عندما يثبت‌ السالك‌ ويداوم‌ علی‌ العمل‌ حتّي‌ تترسّخ‌ الآثار الثابتة‌ للاعمال‌ الفانية‌ الخارجيّة‌ في‌ أُفق‌ النفس‌ وتتحجّر بحيث‌ لن‌ تكون‌ بعد التثبيت‌ والاستقرار قابلة‌ للرفع‌.

 إذن‌ يجب‌ علی‌ السالك‌ أن‌ يسعي‌ لانتخاب‌ العمل‌ الذي‌ يطابق‌ ويناسب‌ استعداده‌، فما عرف‌ من‌ نفسه‌ عدم‌ الاستمرار علیه‌ لا يختاره‌، لانـّه‌ عند ترك‌ العمل‌ سوف‌ تقف‌ حقيقته‌ وواقعيّته‌ للمخاصمة‌، فتجمع‌ آثارها وترحل‌ بها، فتظهر حينئذٍ الآثار المضادّة‌ للعمل‌ في‌ النفس‌، نَعوذُ بالله‌.

 ومعني‌ المخاصمة‌ أنَّ السالك‌ لمّا ترك‌ العمل‌ ارتدَّ هذا العمل‌ وابتعد عنه‌ ذاهباً بآثاره‌ وخصائصه‌ معه‌، ولانَّ ذلك‌ العمل‌ كان‌ عملاً نورانيّاً وخيراً، فعندما تخلو ناحية‌ من‌ النفس‌ من‌ تلك‌ الآثار النورانيّة‌، لا مفرّ من‌ أن‌ تحلّ محلّها آثاره‌ المضادّة‌ من‌ الظلمة‌ والكدورة‌ والشرور، والحقيقة‌ أنـّه‌ لاَ يوجَدُ عِندَ اللَهِ إلاّ الخَيْرُ. وَأَمّا الشُّرورُ وَالقَبائِحُ وَالظُّلُماتُ فَإنَّما هِيَ مِنْ أَنْفُسِنا.

 بناء علی‌ هذا فإنَّ كلّ عيب‌ أونقص‌ يظهر يكون‌ من‌ قبل‌ أفراد البشر، وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ، وعلی‌ هذا الاساس‌ يتّضح‌ أيضاً أنّ الفيوضات‌ الإلهيّة‌ ليست‌ خاصّة‌ بفرد دون‌ فرد، بل‌ إنَّها تتّجه‌ من‌ الصقع‌ الربوبيّ ومقام‌ الرحمة‌ اللامتناهية‌ بنحوغير متناهٍ إلی‌ عموم‌ أبناء البشر من‌ المسلم‌ واليهوديّ والنصرانيّ والمجوسيّ وعبَدَة‌ النار والاصنام‌، لكنَّ الخصوصيّات‌ الموجودة‌ في‌ قابليّاتهم‌ ـ بسوء اختيارهم‌ ـ تصير سبباً لان‌ تكون‌ هذه‌ الرحمة‌ الواسعة‌ عند البعض‌ باباً للسرور والبهجة‌، وعند البعض‌ علّة‌ لإيجاد الغمّ والحزن‌.

المراقبة‌ في‌ جميع‌ الاحوال‌

 السادس‌ : المراقبة‌

 وهي‌ أن‌ يكون‌ السالك‌ في‌ جميع‌ الاحوال‌ مراقباً ومنتبهاً لا يتجاوز تكليفه‌، ولا يتخلّف‌ عمّا عزم‌ علیه‌.

 والمراقبة‌ معني‌ عامّ، فهي‌ تتفاوت‌ باختلاف‌ مقامات‌ ودرجات‌ السالكين‌ ومنازلهم‌. ففي‌ بداية‌ السلوك‌ تكون‌ المراقبة‌ عبارة‌ عن‌ اجتناب‌ ما لا يتماشي‌ مع‌ دين‌ السالك‌ ودنياه‌، والابتعاد عمّا لا يعنيه‌، والسعي‌ لئلاّ يصدر منه‌ ما يسخط‌ الله‌ في‌ القول‌ والفعل‌، ولكن‌ شيئاً فشيئاً تشتدّ هذه‌ المراقبة‌ وترتقي‌ درجة‌ فدرجة‌، فقد تتمثّل‌ في‌ التوجّه‌ والإنتباه‌ إلی‌ سكوته‌ أو إلی‌ نفسه‌، وقد ترتقي‌ فتكون‌ عبارة‌ عن‌ التوجّه‌ لمراتب‌ حقيقة‌ الاسماء والصفات‌ الكلّيّة‌ الإلهيّة‌. وسوف‌ نبيّن‌ إن‌ شاء الله‌ مراتبها ودرجاتها.

 وليُعلَم‌ أنَّ المراقبة‌ من‌ أهمّ شروط‌ السلوك‌، وقد أكّد علیها المشايخ‌ العظام‌، بل‌ قد عدّها الكثير منهم‌ من‌ اللوازم‌ الحتميّة‌ للسير والسلوك‌، لانـّها بمنزلة‌ الحجر الاساس‌، فالذكر والفكر وسائر الشروط‌ الاُخري‌ مبنيّة‌ علیها، فإذا لم‌ تتحقّق‌ المراقبة‌ لا يكون‌ للذكر والفكر أيّ أثر. والمراقبة‌ بمنزلة‌ اجتناب‌ المريض‌ عن‌ الغذاء اللامناسب‌، والذكر والفكر بمنزلة‌ الدواء، فما لم‌ يبتعد المريض‌ عمّا لا يناسبه‌ من‌ الطعام‌، يعود الدواء بلا أثر، بل‌ قد يؤدّي‌ إلی‌ نتيجة‌ عكسيّة‌، لهذا فإنَّ الاساتذة‌ العظام‌ ومشايخ‌ الطريقة‌ منعوا عن‌ الذكر والفكر دون‌ المراقبة‌، وهم‌ ينتخبون‌ الذكر والفكر حسب‌ درجات‌ السالك‌.

المحاسبة‌، المؤاخذة‌

 السابع‌ : المحاسبة‌

 وهي‌ عبارة‌ عن‌ اتّخاذ وقت‌ معيّن‌ في‌ الليل‌ والنهار يقوم‌ خلاله‌ بمحاسبة‌ نفسه‌ عن‌ كلّ ما عمله‌ في‌ ليله‌ ونهاره‌. وإلی‌ هذا الامر إشارة‌ في‌ حديث‌ الإمام‌ موسي‌ بن‌ جعفر علیه‌ السلام‌ في‌ قوله‌ : لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُحَاسِبْ نَفْسَهُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً. فإذا تبيّن‌ له‌ أنـّه‌ قد أخطأ، فعلیه‌ أن‌ يستغفر، وفي‌ حال‌ عدم‌ الخطأ يجب‌ أن‌ يشكر الله‌ تعالي‌ شأنه‌.

الثامن‌ : المؤاخذة‌

 وهي‌ عبارة‌ عن‌ تأديب‌ النفس‌ بعد صدور الخيانة‌ منها، وينبغي‌ أن‌ يكون‌ ذلك‌ حسب‌ مقتضي‌ الحال‌.

المسارعة‌، الحبّ

 التاسع‌ : المسارعة‌

 بأن‌ يسارع‌ إلی‌ فعل‌ ما قد عزم‌ علیه‌، فطريق‌ السالك‌ تحفّه‌ الآفات‌، ويقف‌ في‌ كلّ مقام‌ منه‌ مانع‌، فينبغي‌ أن‌ يكون‌ السالك‌ حاذقاً وواعياً جدّاً، فيؤدّي‌ تكليفه‌ ووظائفه‌ قبل‌ أن‌ يحول‌ دونها المانع‌ ويلوّث‌ ساحته‌، فلا يضيّع‌ دقيقة‌ واحدة‌ في‌ سبيل‌ الوصول‌ إلی‌ المقصد.

 العاشر : الحبّ

 حبّ صاحب‌ الشريعة‌ وخلفائه‌ بالحقّ، فينبغي‌ أن‌ يُخلص‌ في‌ هذه‌ المحبّة‌ بحيث‌ لا يكون‌ فيها أيّ غشّ، ويصل‌ في‌ هذه‌ المرحلة‌ إلی‌ حدّ الكمال‌، لانَّ للمحبّة‌ مدخليّة‌ عظيمة‌ في‌ التأثير علی‌ الاعمال‌، وكلّما كانت‌ المودّة‌ أكثر وأعظم‌ فإنَّ أثر الاعمال‌ سوف‌ يكون‌ أعظم‌ وأشدّ رسوخاً.

 ولانَّ كلّ الموجودات‌ هي‌ مخلوقات‌ الله‌، فعلی‌ السالك‌ أن‌ يحبّها جميعاً، ويحترم‌ كلّ واحد حسب‌ مرتبته‌ ودرجته‌. فالعطف‌ والإشفاق‌ علی‌ كلّ ما ينتسب‌ إلی‌ الله‌ سواء كان‌ حيواناً أوإنساناً، كلٌّ في‌ مرتبته‌ ومقامه‌، كلّ هذا من‌ آثار محبّة‌ الله‌، كما ورد في‌ الحديث‌ : «إنَّ عمدة‌ شعب‌ الإيمان‌ الشفقة‌ علی‌ خلق‌ الله‌». إِلَهِي‌ أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ...

 أُحِبُّ بِحُبِّهَا تَلَعَاتِ نَجْدٍ وَمَا شَغَفِي‌ بِهَا لَوْلاَ هَوَاهَا

 أَذِلُّ لآلِ لَيْلَي‌ فِي‌ هَوَاهَا وَأَحْتَمِلُ الاصَاغِرَ وَالكِبَارَا

حفظ‌ الادب‌

 الحادي‌ عشر : حفظ‌ الادب‌

 تجاه‌ الحضرة‌ المقدّسة‌ لربّ العزّة‌ وخلفائه‌. وهذا الامر يختلف‌ عن‌ معني‌ المحبّة‌ الذي‌ ذكر سابقاً. والادب‌ عبارة‌ عن‌ الالتفات‌ إلی‌ النفس‌ كيلا تتعدّي‌ حدودها، وتخالف‌ مقتضي‌ العبوديّة‌، فكلّ ممكن‌ له‌ حدّ وحريم‌ في‌ قبال‌ الواجب‌، ولازم‌ حفظ‌ الادب‌ رعاية‌ مقتضيات‌ عالم‌ الكثرة‌، ولكنَّ الحبّ هوانجذاب‌ النفس‌ إلی‌ الحضرة‌ الإلهيّة‌، ولازمه‌ الالتفات‌ إلی‌ الوحدة‌.

 إنَّ النسبة‌ بين‌ الحبّ والادب‌ مثل‌ النسبة‌ بين‌ الواجب‌ والمحرّم‌ من‌ الاحكام‌، لانَّ السالك‌ أثناء أداء الواجب‌ يتوجّه‌ إلی‌ المحبوب‌ وفي‌ الاجتناب‌ عن‌ الحرام‌ يتوجّه‌ إلی‌ حريمه‌ الخاصّ كيلا يخرج‌ عن‌ حدوده‌ الإمكانيّة‌ ومقتضي‌ عبوديّته‌، فالادب‌ يرجع‌ ـ في‌ حقيقته‌ ـ إلی‌ جانب‌ اتّخاذ الطريق‌ المعتدل‌ بين‌ الخوف‌ والرجاء، ولازم‌ عدم‌ رعاية‌ الادب‌، كثرة‌ الانبساط‌ بمقدار يوجب‌ تجاوز الحدود المرسومة‌ للسالك‌.

 كان‌ المرحوم‌ الحاجّ الميرزا علی‌ّ القاضي‌ رضوان‌ الله‌ علیه‌ يغلب‌ لديه‌ جانب‌ الحبّ والإنبساط‌ علی‌ جانب‌ الخوف‌، وكذلك‌ كان‌ المرحوم‌ الحاجّ الشيخ‌ محمّد البهاريّ رحمة‌ الله‌ علیه‌، وفي‌ المقابل‌ الحاجّ الميرزا جواد الملكيّ التبريزيّ رضوان‌ الله‌ علیه‌ حيث‌ كان‌ مقام‌ الخوف‌ غالباً علی‌ الرجاء والانبساط‌، وهذا الامر مشهود من‌ خلال‌ جوانب‌ وزوايا أحاديثه‌. والذي‌ يكون‌ رجاؤه‌ أكثر يقال‌ له‌ «الخراباتيّ»، وأمّا من‌ يطغي‌ خوفه‌ فيسمّي‌ «المناجاتيّ». ولكنَّ الكمال‌ في‌ رعاية‌ الاعتدال‌، وهو عبارة‌ عن‌ حيازة‌ كمال‌ الرجاء في‌ عين‌ كمال‌ الخوف‌، وهذا ما ينحصر وجوده‌ في‌ شخص‌ الائمّة‌ الاطهار علیهم‌ السلام‌.

 نعود إلی‌ صلب‌ الموضوع‌ فمحصّل‌ الكلام‌ أنَّ الادب‌ هوأن‌ لا ينسي‌ الممكن‌ حدوده‌ الإمكانيّة‌، ولهذا نري‌ الإمام‌ الصادق‌ علیه‌ السلام‌ يخرّ ساجداً للّه‌ تعالي‌ واضعاً جبينه‌ المبارك‌ علی‌ التراب‌ عندما يسمع‌ بضع‌ كلمات‌ في‌ حقّه‌ يشمّ منها رائحة‌ الغلوّ.

 والمرتبة‌ الكاملة‌ من‌ الادب‌ هي‌ أن‌ يعتبر السالك‌ نفسه‌ دائماً وفي‌ جميع‌ الاحوال‌ في‌ محضر الحقّ سبحانه‌ وتعالي‌، ويلاحظ‌ الادب‌ في‌ حال‌ التكلّم‌ والسكوت‌، في‌ النوم‌ واليقظة‌، في‌ الحركة‌ والسكون‌، وفي‌ تمام‌ الحركات‌ والسكنات‌، ولوالتفت‌ السالك‌ دائماً إلی‌ الاسماء والصفات‌ الإلهيّة‌ لظهرت‌ علیه‌ علائم‌ الادب‌ والصغر.

النيّة‌ وأنواعها

 الثاني‌ عشر : النيّة‌

 وذلك‌ أن‌ لا يكون‌ للسالك‌ قصد من‌ السلوك‌ سوي‌ نفس‌ السلوك‌ والفناء في‌ الذات‌ الاحديّة‌، وعلیه‌، ينبغي‌ أن‌ يكون‌ سير السالك‌ خالصاً للّه‌ تعالي‌ : فَادْعُوا اللَهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. [6] وقد جاء في‌ عدّة‌ أخبار أنَّ للنيّة‌ ثلاث‌ مراتب‌، منها ما قاله‌ الصادق‌ علیه‌ السلام‌ :

 العُبَّادُ ثَلاَثَةٌ : قَوْمٌ عَبَدُوا اللَهَ خَوْفاً فَتِلْكَ عِبَادَةُ العَبِيدِ. وَقَوْمٌ عَبَدُوا اللَهَ طَمَعاً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الاُجَرَاءِ. وَقَوْمٌ عَبَدُوا اللَهَ حُبّاً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الاَحْرَارِ.

 بالتأمّل‌ والتدقيق‌ يتّضح‌ أنَّ عبادة‌ الطائفتين‌ الاُوليينِ ليست‌ صحيحة‌ حقيقة‌، لانَّ عبادتهم‌ لم‌ تكن‌ للّه‌ وإلی‌ الله‌، وإنَّما تعود إلی‌ عبادة‌ النفس‌، فهم‌ ـ في‌ الواقع‌ ـ كانوا يعبدون‌ ذواتهم‌ دون‌ الله‌ تعالي‌، لانَّ عبادتهم‌ تعود في‌ واقعها إلی‌ تلك‌ العلائق‌ والمشتهيات‌ النفسانيّة‌، ولانَّ عبادة‌ النفس‌ لا تجتمع‌ مع‌ عبادة‌ الله‌، لذا تعدّ هذه‌ الجماعة‌ ـ حسب‌ النظرة‌ الاُولي‌ ـ كافرة‌ بالله‌ ومنكرة‌ له‌، لكن‌ باعتبار أنَّ القرآن‌ الكريم‌ ينصّ علی‌ أنَّ أصل‌ عبادة‌ الله‌ فطريّ في‌ كلّ البشر، وينفي‌ حدوث‌ أيّ تغيّر أوتبدّل‌ في‌ خلقه‌ :

 فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَهِ الَّتِي‌ فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَهِ ذَ 'لِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ولَـ'كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ. [7]

 لا يرجع‌ انحراف‌ البشر ـ بناء علی‌ ذلك‌ ـ إلی‌ أصل‌ عبادة‌ الله‌، بل‌ يرجع‌ إلی‌ مقام‌ التوحيد، أي‌ عدم‌ الإيمان‌ بوحدانيّة‌ الله‌ في‌ الفعل‌ والصفة‌ وجعل‌ شركاء له‌، ولهذا نجد أنَّ القرآن‌ في‌ كلّ مجال‌ يصرّح‌ بثبوت‌ توحيد الله‌ ونفي‌ الشرك‌ عنه‌، وعلی‌ هذا الاساس‌ فإنَّ أهل‌ الطائفتينِ الاُوليينِ يشركون‌ بالله‌ بالقصد. ويمزجون‌ في‌ مقام‌ العمل‌ بين‌ عبادة‌ الله‌ وعبادة‌ الذات‌، ويؤدّون‌ الافعال‌ والاعمال‌ العباديّة‌ بكلا الداعيينِ. وهذا هوالشرك‌. وفي‌ الحقيقة‌ هم‌ مشركون‌ بالله‌ وبنصّ القرآن‌ لن‌ يغفر لهم‌.

 إِنَّ اللَهَ لاَ يَغْفِرُ أَن‌ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَ 'لِكَ لِمَن‌ يَشَآءُ. [8]

 وهكذا فإنَّ عبادتهم‌ لن‌ تكون‌ مثمرة‌ أبداً، ولن‌ تقرّبهم‌ إلی‌ الله‌ المتعال‌.

 أمّا الطائفة‌ الثالثة‌ التي‌ تعبد الله‌ علی‌ أساس‌ المحبّة‌، وهي‌ عبادة‌ الاحرار، وفي‌ بعض‌ الروايات‌ : تِلْكَ عِبَادَةُ الكِرَامِ، فها هي‌ العبادة‌ الصحيحة‌ الواقعيّة‌ التي‌ لن‌ يصل‌ إلیها إلاّ المطهّرون‌ في‌ الساحة‌ الإلهيّة‌. فَهَذَا مَقَامٌ مَكْنُونٌ لاَ يَمَسُّهُ إلاَّ الْمُطَهَّرُونَ.

 فالمحبّة‌ عبارة‌ عن‌ الانجذاب‌، أي‌ الانجذاب‌ نحو شي‌ء وحقيقة‌، والطائفة‌ الثالثة‌ هم‌ الذين‌ بنوا عبادتهم‌ علی‌ أساس‌ المحبّة‌ والانجذاب‌ إلی‌ الله‌، وليس‌ لهم‌ أيّ هدف‌ أومقصد سوي‌ الميل‌ نحوه‌ تعالي‌ والتقرّب‌ إلیه‌، وهذا الانجذاب‌ الذي‌ يشعرون‌ به‌ تجاه‌ المحبوب‌ هوالداعي‌ والمحرّك‌ لهم‌ نحوه‌، والموجب‌ لسيرهم‌ باتّجاه‌ ذلك‌ الحريم‌ المقدّس‌.

 قد جاء في‌ بعض‌ الروايات‌ أن‌ اعبدوا الحقّ تعالي‌ من‌ حيث‌ إنَّه‌ أهل‌ للعبادة‌. ومعلوم‌ أنَّ هذه‌ الاهليّة‌ لا تعود إلی‌ الصفات‌ الإلهيّة‌، بل‌ إلی‌ مقام‌ ذاته‌ المقدّسة‌ جَلَّ جَلالُه‌ وعَظُمَ شَأْنُه‌، فيكون‌ مفاد ذلك‌ أن‌ اعبدوا الله‌ لانـّه‌ الله‌ :

 إلَهِي‌ مَا عَبَدْتُكَ خَوْفاً مِنْ نَارِكَ وَلاَ طَمَعاً فِي‌ جَنَّتِكَ، بَلْ وَجَدْتُكَ أَهْلاً لِلْعِبَادَةِ فَعَبَدْتُكَ.

 أَنْتَ دَلَلْتَنِي‌ عَلَيْكَ، وَدَعَوْتَنِي‌ إلَيْكَ، وَلَوْلاَ أَنْتَ لَمْ أَدْرِ مَا أَنْتَ.

 ويخطو سالك‌ طريق‌ الله‌ في‌ بداية‌ سلوكه‌ بقدم‌ المحبّة‌، ولكن‌ بعد أن‌ يطوي‌ المنازل‌، ويحصل‌ إجمالاً علی‌ بعض‌ الكمالات‌، سوف‌ يدرك‌ أنَّ المحبّة‌ أمر مغاير للمحبوب‌، فيسعي‌ لترك‌ المحبّة‌ التي‌ كانت‌ حتّي‌ هذا الحين‌ وسيلة‌ لسلوكه‌ ومعراجاً لرقيّه‌، ويدرك‌ أنَّ هذه‌ الوسيلة‌ التي‌ كانت‌ مؤثّرة‌ أصبحت‌ الآن‌ مضرّة‌ ومانعة‌ للطريق‌. ومن‌ هنا يضع‌ السالك‌ فقط‌ وفقط‌ محبوبه‌ نصب‌ عينيه‌ ويعبده‌ بعنوان‌ المحبوبيّة‌ لا غير، ولكن‌ عندما يتقدّم‌ أكثر ويطوي‌ منازل‌ عدّة‌، يدرك‌ أنَّ هذا النوع‌ من‌ العبادة‌ لم‌ يكن‌ خالياً من‌ شائبة‌ شرك‌، لانـّه‌ قد عدّ نفسه‌ في‌ هذه‌ العبادة‌ عاشقاً ومحبّاً، واعتبر الله‌ معشوقاً ومحبوباً، فيري‌ لذاته‌ كمحبّ وجوداً في‌ قبال‌ ذات‌ المحبوب‌، لذا فإنَّ النظر إلی‌ المحبوب‌ بعنوان‌ المحبّ مغاير ومناف‌ لعبادة‌ الذات‌ المقدّسة‌ للّه‌ تعالي‌، ومن‌ هنا يسعي‌ لينسي‌ عنواني‌ الحبّ والعشق‌ حتّي‌ يتجاوز المغايرة‌ والكثرة‌، ويضع‌ قدمه‌ في‌ عالم‌ الوحدة‌، وعندها تختفي‌ النيّة‌ من‌ السالك‌ وتمحي‌، لانـّه‌ لن‌ يكون‌ بعد ذلك‌ شخصيّة‌ وذاتيّة‌ للسالك‌ تصدر عنها النيّة‌.

 إلی‌ ما قبل‌ هذه‌ المرحلة‌ كان‌ السالك‌ طالباً للمكاشفة‌ والشهود، ولكنّه‌ في‌ هذا المقام‌ يدع‌ تلك‌ الاغراض‌ كلّها عرضة‌ للنسيان‌، فلن‌ يكون‌ بعد ذلك‌ إرادة‌ ليكون‌ اعتبار للمراد والمقصود. وفي‌ هذه‌ الحالة‌ يُغمض‌ السالك‌ عينيه‌ عن‌ الرؤية‌ واللارؤية‌، والوصول‌ واللاوصول‌، والمعرفة‌ واللامعرفة‌، والردّ والقبول‌. يقول‌ حافظ‌ الشيرازيّ :

 با خرابات‌ نشينان‌ ز كرامات‌ ملاف‌                                هر سخن‌ جائي‌ وهر نكته‌ مقامي‌ دارد [9]

 ورد عن‌ الإمام‌ السجّاد علیه‌ السلام‌، في‌ دعاء أبي‌ حمزة‌ الثماليّ، قوله‌ : مَعرِفَتِي‌ يَا مَولاَيَ دَلِيلِي‌ عَلَيكَ، وَحُبِّي‌ لَكَ شَفِيعِي‌ إلَيكَ؛ وَأَنَا وَاثِقٌ مِنْ دَلِيلِي‌ بِدلاَلَتِكَ، وَسَاكِنٌ مِنْ شَفِيعِي‌ بِشَفَاعَتِكَ.

 ونقل‌ عن‌ بايزيد البسطاميّ أنـّه‌ قال‌ : «تركت‌ الدنيا في‌ اليوم‌ الاوّل‌، وفي‌ اليوم‌ الثاني‌ تركت‌ العُقبي‌، وفي‌ اليوم‌ الثالث‌ تخطّيت‌ ما سوي‌ الله‌، وفي‌ اليوم‌ الرابع‌ سُئِلتُ : ما تُرِيدُ ؟ فقلت‌ : أُريدُ أَنْ لا أُريدَ».

 ويشير إلی‌ نفس‌ المطلب‌ ما يصرّح‌ به‌ البعض‌ في‌ تعيين‌ المنازل‌ الاربعة‌ : الاوّل‌ : ترك‌ الدنيا. الثاني‌ : ترك‌ العقبي‌. الثالث‌ : ترك‌ المولي‌. الرابع‌ : ترك‌ الترك‌، فَتَدَبَّرْ. والمراد من‌ نبذ الطمع‌ عند السالكين‌ هوهذه‌المرحلة‌ العظيمة‌ والعقبة‌ المشكلة‌، وعبورها في‌ غاية‌ الصعوبة‌، وليس‌ تحصيلها بالهيّن‌، لانَّ السالك‌ في‌ هذه‌ المرحلة‌ بعد التأمّل‌ والتدقيق‌ يجد أنـّه‌ لم‌ يكن‌ خالياً من‌ النيّة‌ في‌ تمام‌ مراحل‌ السير، بل‌ كان‌ له‌ غاية‌ ومقصود في‌ سويداء قلبه‌، وإن‌ كانت‌ تلك‌ الغاية‌ هي‌ العبور من‌ مراحل‌ الضعف‌ والنقص‌ والوصول‌ إلی‌ الكمال‌ والكمالات‌. ولوسعي‌ السالك‌ ـ عن‌ طريق‌ تجريد الذهن‌، والضغط‌ علی‌ نفسه‌ مرّات‌ عديدة‌ ـ ليعبر هذه‌ العقبة‌، ويعرّي‌ ويجرّد نفسه‌ من‌ هذه‌ المعاني‌ والمقاصد، سوف‌ لن‌ يحصل‌ علی‌ أيّة‌ نتيجة‌، لانَّ نفس‌ هذا التجريد مستلزم‌ لعدم‌ التجريد، وذلك‌ لانَّ نفس‌ ذلك‌ التجريد لم‌ يكن‌ من‌ السالك‌ إلاّ لداعٍ وغاية‌ وهذا النظر إلی‌ الغاية‌ دليل‌ وعلامة‌ علی‌ عدم‌ التجريد.

 ذات‌ يوم‌ طرحتُ هذا السرّ علی‌ أُستاذي‌ المرحوم‌ الحاجّ الميرزا علی‌ّ القاضي‌ رضوان‌ الله‌ علیه‌، والتمست‌ منه‌ حلّ هذه‌ المعضلة‌، فقال‌ : «يمكن‌ حلّها بواسطة‌ اعتماد طريقة‌ الإحراق‌، وذلك‌ بأن‌ يدرك‌ السالك‌ ـ حقيقة‌ ـ أنَّ الله‌ تعالي‌ خلقه‌ مفطوراً علی‌ هذه‌ الصفة‌، وكلّما أراد أن‌ ينبذ الطمع‌ لن‌ يحصل‌ علی‌ نتيجة‌، لانَّ فطرته‌ جبلت‌ علیه‌، فسعيه‌ لنبذ الطمع‌ عن‌ نفسه‌ مستلزم‌ لطمع‌ آخر، لانـّه‌ لا يسعي‌ لذلك‌ إلاّ طمعاً في‌ الحصول‌ علی‌ مرتبة‌ أعلی‌ من‌ التي‌ هوفيها، وهكذا إلی‌ أن‌ يشعر بالعجز التامّ عن‌ التخلّي‌ عن‌ هذه‌ الصفة‌، فلا يجد حينئذٍ مفرّاً سوي‌ اللجوء إلی‌ الله‌ تعالي‌ وتوكيل‌ الامر إلیه‌، وهذا الشعور بالعجز كفيل‌ بأن‌ يحرق‌ بناره‌ جذور الطمع‌ في‌ نفسه‌، فيعود السالك‌ بعدها نزيهاً طاهراً».

 وليعلم‌ أنَّ الوصول‌ إلی‌ إدراك‌ هذا المعني‌ لا يكون‌ بمجرّد إعمال‌ النظر والتفكير، بل‌ إنَّ إدراكه‌ الواقعيّ يحتاج‌ إلی‌ الذوق‌ وحصول‌ الحال‌. ولوأنَّ أحداً أدرك‌ هذا المعني‌ بالذوق‌ لفهم‌ أنَّ إدراك‌ تمام‌ لذّات‌ الدنيا وما فيها لا يساوي‌ هذه‌ الحقيقة‌.

 ثمّ إنَّ سبب‌ تسمية‌ هذه‌ الطريقة‌ بالإحراق‌ هوأنـّها تحرق‌ أكوام‌ الوجودات‌ والنيّات‌ والغصص‌ والمشكلات‌ دفعة‌ واحدة‌، وتجتثّها من‌ الجذور، ولا تبقي‌ لها من‌ أثر في‌ وجود السالك‌.

 وقد استفيد في‌ القرآن‌ الكريم‌ من‌ هذه‌ الطريقة‌ في‌ بعض‌ الموارد، فمن‌ يستخدم‌ هذه‌ الطريقة‌ لاجل‌ الوصول‌ إلی‌ المقصود، ويسير في‌ هذا السبيل‌، فإنَّ الطريق‌ الذي‌ يجب‌ طيّه‌ في‌ سنوات‌ يطويه‌ في‌ مدّة‌ قليلة‌. وأحد الموارد التي‌ استفيد فيها من‌ هذه‌ الطريقة‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌، كلمة‌ الاسترجاع‌ :

 إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَ 'جِعُونَ.

 فالإنسان‌ يستطيع‌ حين‌ الشدائد والمصائب‌ ونزول‌ البلايا والفتن‌ أن‌ يسكِّن‌ نفسه‌ بطرق‌ مختلفة‌، كأن‌ يتذكّر أنَّ الموت‌ للجميع‌، والمصيبة‌ تحلّ علی‌ كلّ الناس‌، وبهذه‌ الوسيلة‌ تهدأ نفسه‌ شيئاً فشيئاً. ولكنَّ الله‌ يقصّر الطريق‌ بواسطة‌ الطريقة‌ الإحراقيّة‌ وتلقين‌ كلمة‌ الاسترجاع‌، ويرفع‌ المشكل‌ مرّة‌ واحدة‌، لانَّ الإنسان‌ لوتذكّر أنَّ نفسه‌ وكلّ متعلّقاتها وما يملكه‌ هوملك‌ مطلق‌ للّه‌، قد أُعطي‌ له‌ ذات‌ يوم‌ وسوف‌ يؤخذ في‌ يوم‌ آخر، ولا حقّ لاحد في‌ التدخّل‌ فيه‌، عندما يدرك‌ الإنسان‌ جيّداً أنـّه‌ منذ البدء لم‌ يكن‌ مالكاً، وإنّما كان‌ عنوان‌ الملكيّة‌ له‌ مجازيّاً وقد كان‌ يتخيّل‌ أنـّه‌ المالك‌، سوف‌ لن‌ يتأثّر في‌ حال‌ فقدانه‌، فإذا بأُفقه‌ مُتَّسع‌، وطريقه‌ معبّد.

 فإدراك‌ السالك‌ أنَّ الله‌ تعالي‌ فطره‌ علی‌ الحرص‌ والطمع‌ كإدراكه‌ أنَّ الخالق‌ الغنيّ خلق‌ عبده‌ فقيراً محتاجاً قد خمرت‌ طينته‌ بالفاقة‌ والعوز، وأنَّ السؤال‌ والطلب‌ لديه‌ ـ باعتباره‌ لازم‌ فقره‌ وحاجته‌ ـ غنيّ عن‌ الدليل‌ والبرهان‌، فلا يحقّ لفرد الاعتراض‌ علی‌ سؤال‌ فقير ما، فافتراض‌ الفقر فيه‌ يوازي‌ افتراض‌ السؤال‌ والطلب‌، فلا ينبغي‌ للسالك‌ ـ بناء علی‌ ذلك‌ ـ أن‌ يرتاب‌ حينما يلمس‌ من‌ ذاته‌ حرصاً أوطمعاً خلال‌ سيره‌ وحركته‌، إذ ليس‌ بمقدوره‌ اجتثاث‌ عنصر الطمع‌ من‌ ذاته‌ بعد أن‌ خلق‌ مفطوراً علیه‌. هذا من‌ جانب‌، ومن‌ جانب‌ آخر باعتبار أنَّ الفناء في‌ الذات‌ الإلهيّة‌ ـ المبتني‌ علی‌ أساس‌ عبادة‌ الاحرار ـ لا يتلائم‌ هو وداعي‌ الطمع‌ في‌ النفس‌، فسوف‌ تعتري‌ السالك‌ حالة‌ من‌ الخوف‌ والهلع‌، وشعور بالاضطراب‌ والمسكنة‌، تلك‌ الحالة‌ وذلك‌ الشعور يأخذان‌ بيد السالك‌ ليتخطّي‌ ذاته‌ الملازمة‌ لتلك‌ الصفة‌، فلا تبقي‌ ـ بعد اجتياز هذه‌ المرحلة‌ ـ ذات‌ لتكون‌ محلاّ للحرص‌ والطمع‌. فافهَمْ وتأمَّل‌ جيِّداً.

الصمت و السکوت

 الثالث‌ عشر : الصمت‌

 وهوعلی‌ قسمين‌ : سكوت‌ عامّ ومضاف‌، وسكوت‌ خاصّ ومطلق‌. فالسكوت‌ العامّ والمضاف‌ عبارة‌ عن‌ حفظ‌ اللسان‌ من‌ التكلّم‌ بالقدر الزائد عن‌ الضرورة‌ مع‌ الناس‌، فيجب‌ علی‌ السالك‌ أن‌ يكتفي‌ بقدر الضرورة‌، وبأقلّ ما يمكن‌. وهذا الصمت‌ لازم‌ في‌ جميع‌ مراحل‌ السلوك‌، وفي‌ كلّ الاوقات‌، بل‌ يمكن‌ القول‌ بأنـّه‌ ممدوح‌ في‌ مطلق‌ الاحوال‌. ويشير إلی‌ هذا الصمت‌ قوله‌ علیه‌ السلام‌ : إنَّ شِيعَتَنَا الخُرْسُ، وأيضاً ما نقل‌ عن‌ الصادق‌ علیه‌ السلام‌ في‌ «مصباح‌ الشريعة‌» :

 الصَّمْتُ شِعَارُ المُحِبِّينَ، وَفِيهِ رِضَا الرَّبِّ، وَهُوَ مِنْ أَخْلاَقِ الاَنْبِيَاءِ وَشِعَارِ الاَصْفِيَاءِ.

 وفي‌ حديث‌ البزنطيّ عن‌ الإمام‌ الرضا علیه‌ السلام‌ :

 الصَّمْتُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الحِكْمَةِ، وَإنَّهُ دَلِيلٌ عَلَي‌ كُلِّ خَيْرٍ.

 القسم‌ الثاني‌. السكوت‌ الخاصّ والمطلق‌، وهوعبارة‌ عن‌ حفظ‌ اللسان‌ من‌ التكلّم‌ مع‌ الناس‌ حين‌ الاشتغال‌ بالاذكار الكلاميّة‌ الحصريّة‌، وفي‌ غيرها غير مستحسن‌.

الجوع وقلّة الأکل

 الرابع‌ عشر : الجوع‌ وقلّة‌ الاكل‌

 وهوما لا يؤدّي‌ إلی‌ الضعف‌ واضطراب‌ الحال‌. قال‌ الصادق‌ علیه‌ السلام‌ :

 الجُوعُ إدَامُ المُؤْمِنِ، وَغِذَاءُ الرُّوحِ، وَطَعَامُ القَلْبِ.

 ذلك‌ أنَّ الجوع‌ موجب‌ لخفّة‌ الروح‌ ونورانيّة‌ النفس‌، ويمكن‌ للفكر في‌ حال‌ الجوع‌ أن‌ يحلِّق‌ إلی‌ الاعلی‌. أمّا كثرة‌ الاكل‌ والشبع‌ فإنَّه‌ يُتعب‌ النفس‌ ويُملّها ويثقلها ويمنعها من‌ السير في‌ سماء المعرفة‌. والصوم‌ من‌ العبادات‌ الممدوحة‌ جدّاً، وفي‌ الروايات‌ الخاصّة‌ بالمعراج‌ التي‌ يخاطب‌ الله‌ تعالي‌ فيها حبيبه‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ ب «يا أحمد» والمذكورة‌ في‌ «إرشاد الديلميّ» والجزء السابع‌ عشر من‌ «بحار الانوار» يوجد تفاصيل‌ عجيبة‌ بشأن‌ الجوع‌، تبيّن‌ خصائصه‌ في‌ السير والسلوك‌ بشكل‌ مدهش‌. وينقل‌ المرحوم‌ الاُستاذ القاضي‌ رضوان‌ الله‌ علیه‌ رواية‌ غريبة‌ بشأن‌ الجوع‌، وهي‌ :

 «كان‌ في‌ زمان‌ الانبياء الماضين‌ ثلاثة‌ رجال‌ قد تصاحبوا في‌ سفر، وعندما حان‌ الليل‌ تفرّق‌ كلّ واحد منهم‌ للاستراحة‌، واتّفقوا علی‌ الالتقاء في‌ اليوم‌ التالي‌ في‌ وقت‌ محدّد، فنزل‌ أحدهم‌ ضيفاً عند معارفه‌، والآخر نزل‌ في‌ أحد المضايف‌، وأمّا الثالث‌ فلم‌ يكن‌ لديه‌ مكان‌، فقال‌ في‌ نفسه‌ : فلاذهب‌ إلی‌ المسجد وأكون‌ ضيفاً عندالله‌، وبقي‌ هناك‌ جائعاً إلی‌ الصباح‌. وفي‌ اليوم‌ التالي‌ التقوا في‌ الموعد المحدّد، وأخذ كلّ واحد منهم‌ يروي‌ ما حصل‌ له‌ في‌ الامس‌، فأوحي‌ الله‌ تعالي‌ إلی‌ نبيّ ذلك‌ الزمان‌ أن‌ قل‌ لضيفنا : إنّنا قبلنا ضيافته‌، وقد أردنا أن‌ نحضر له‌ أفضل‌ غذاء، لكن‌ عندما بحثنا في‌ خزائن‌ الغيب‌ لم‌ نجد له‌ أفضل‌ من‌ الجوع‌ غذاءً».

العزلة‌ وأقسامها

 الخامس‌ عشر : العزلة‌

 وهي‌ علی‌ شكلين‌ : العزلة‌ العامّة‌، والعزلة‌ الخاصّة‌.

 العزلة‌ العامّة‌، عبارة‌ عن‌ اجتناب‌ واعتزال‌ غير أهل‌ الله‌، وبالخصوص‌ أصحاب‌ العقول‌ الضعيفة‌ من‌ عوامّ الناس‌ إلاّ بقدر الضرورة‌.

 وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَـ'وةُ الدُّنْيَا. [10]

 وأمّا العزلة‌ الخاصّة‌، فهي‌ الابتعاد عن‌ جميع‌ الناس‌. وهي‌ وإن‌ كانت‌ غير خالية‌ من‌ الفضيلة‌ في‌ العبادات‌ والاذكار، إلاّ أنـّها تعتبر ـ عند مشايخ‌ الطريق‌ ـ شرطاً في‌ طائفة‌ من‌ الاذكار الكلاميّة‌ بل‌ في‌ جميعها.

 فالعزلة‌ والابتعاد عن‌ محلّ الإزدحام‌ والضوضاء والاصوات‌ المشوّشة‌ للحال‌ وحلّيّة‌ المكان‌ وطهارته‌ حتّي‌ السقف‌ والجدران‌، وصغره‌ بحيث‌ لا يسع‌ أكثر من‌ شخص‌ واحد، والسعي‌ أن‌ لا يكون‌ فيه‌ أيّة‌ زخارف‌ دنيويّة‌، كلّ هذه‌ باعثة‌ علی‌ تركيز الحواسّ.

 يروي‌ أنَّ أحد الاشخاص‌ طلب‌ من‌ سلمان‌ رضي‌ الله‌ عنه‌ أن‌ يجيز له‌ بناء بيت‌ له‌، لانـّه‌ لم‌ يكن‌ قد امتلك‌ بيتاً حتّي‌ ذلك‌ الزمان‌، ولمّا لم‌ يجز له‌ سلمان‌ قال‌ : أنا أعرف‌ لماذا لا تريد، فقال‌ سلمان‌ : ما هي‌ العلّة‌ ؟ فقال‌ البنّاء : سبب‌ ذلك‌ أنـّك‌ تريد بيتاً طوله‌ وعرضه‌ بمقدارك‌، وهذا ليس‌ ميسوراً، فقال‌ سلمان‌ : بلي‌؛ قد صدقت‌. وبعدها أخذ البنّاء إجازة‌ لبناء مثل‌ ذلك‌ البيت‌ وبناه‌.

السهر، المداومة‌ علی‌ الطهارة‌، المبالغة‌ في‌ التضرّع‌

 السادس‌ عشر : السهر

 وهوالاستيقاظ‌ في‌ السحر بقدر ما تحتمله‌ طبيعة‌ السالك‌، فقد ورد في‌ ذمّ النوم‌ وقت‌ السحر ومدح‌ القيام‌ فيه‌ قوله‌ تعالي‌ :

 كَانُوا قَلِيلاً مِنَ الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وبِالاَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. [11]

 السابع‌ عشر : المداومة‌ علی‌ الطهارة‌

 وهي‌ المحافظة‌ علی‌ الوضوء والاغسال‌ الواجبة‌، وغسل‌ الجمعة‌ وسائر الاغسال‌ المستحبّة‌ قدر المستطاع‌.

 الثامن‌ عشر : المبالغة‌ في‌ التضرّع‌

 والمسكنة‌ والبكاء والتذلّل‌.

الاحتراز عن‌ اللذائذ، كتمان‌ السرّ

 التاسع‌ عشر : الاحتراز عن‌ اللذائذ

 والمشتهيات‌ قدر المستطاع‌، والاكتفاء بما يقوم‌ علیه‌ البدن‌ والحياة‌.

 العشرون‌ : كتمان‌ السرّ

 وهومن‌ الشروط‌ المهمّة‌ جدّاً، وقد اهتمّ به‌ عظماء الطريق‌ كثيراً، وأمعنوا في‌ توصية‌ تلاميذهم‌ به‌، سواء كان‌ في‌ العمل‌ والاوراد والاذكار، أم‌ في‌ الواردات‌ والمكاشفات‌ والحالات‌، بل‌ وفي‌ الموارد التي‌ لا يمكن‌ التزام‌ التقيّة‌ فيها، ويكون‌ السرّ فيها أقرب‌ إلی‌ الذياع‌ والانكشاف‌، صرّحوا بلزوم‌ التورية‌ والكتمان‌ حتّي‌ لوكان‌ كتمان‌ السرّ مستلزماً لترك‌ العمل‌ يجب‌ رفع‌ اليد عنه‌.

 وَاسْتَعِينُوا عَلَي‌ حَوَائِجِكُمْ بِالكِتْمَانِ.

 فبالتقيّة‌ والكتمان‌ تتقلّص‌ المصائب‌ والشدائد معهما، وترك‌ التقيّة‌ يؤدّي‌ إلی‌ ازدياد الفتن‌ والبلايا والمصائب‌، لكن‌ علی‌ الرغم‌ من‌ ذلك‌ ينبغي‌ للسالك‌ ـ حين‌ بروز المصائب‌ ـ مواصلة‌ السير مستعيناً بالصبر والاحتمال‌ :

 وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَـ'وةِ وإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَي‌ الْخَـ'شِعِينَ. [12]

 المراد من‌ الصلاة‌ في‌ هذه‌ الآية‌ هونفس‌ المعني‌ اللغويّ، أي‌ الالتفات‌ إلی‌ الربّ العظيم‌، وهكذا تخفّ الشدائد والمصائب‌ بذكر الله‌ والصبر والاحتمال‌، ويسير السالك‌ نحوالنصر والنجاح‌، ولهذا نجد أنَّ نفس‌ أُولئك‌ الذين‌ ينتحبون‌ لجرح‌ يصيب‌ أيديهم‌ مثلاً، نجدهم‌ في‌ ميدان‌ الجهاد ومقاتلة‌ أعداء الدين‌ لا يخافون‌ من‌ أن‌ تقطع‌ أيديهم‌ وأرجلهم‌ وسائر أعضائهم‌، بل‌ إنـّهم‌ لا يشعرون‌ في‌ أنفسهم‌ بأيّ ضعف‌ أوخوف‌. علی‌ أساس‌ هذه‌ القاعدة‌ الكلّيّة‌ أوصي‌ الائمّة‌ الاطهار علیهم‌ السلام‌ بكتمان‌ الاسرار في‌ وصايا عديدة‌ وعجيبة‌ إلی‌ درجة‌ أنـّهم‌ عدّوا ترك‌ التقيّة‌ من‌ الذنوب‌ الكبيرة‌.

 ذات‌ يوم‌، سأل‌ أبوبصير الإمام‌ الصادق‌ علیه‌ السلام‌؛ قال‌ : قُلْتُ لَهُ : أَخْبِرْنِي‌ عَنِ اللَهِ عَزَّوَجَلَّ. هَلْ يَرَاهُ المُؤْمِنُونَ يَوْمَ القِيامَة‌ ؟

 (إذ يعتقد الاشاعرة‌ أنَّ الناس‌ يرون‌ الله‌ تعالي‌ علی‌ نحوالجسميّة‌ في‌ يوم‌ القيامة‌ وفي‌ عالم‌ الآخِرة‌، تعالي‌ الله‌ عمّا يقول‌ الظالمون‌ علوّاً كبيراً).

 قَالَ : نَعَمْ؛ وَقَدْ رَأَوْهُ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ. فَقُلْتُ : مَتَي‌ ؟ قَالَ : حِيْنَ قَالَ لَهُمْ : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ؟ قَالُوا : بَلَي‌؛ ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ : وَإِنَّ المُؤْمِنِينَ لَيَرَونَهُ فِي‌ الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ، أَلَسْتَ تَرَاهُ فِي‌ وَقْتِكَ هَذَا ؟ قَالَ أَبُوبَصِيرٍ : فَقُلْتُ لَهُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ فَأُحَدِّثُ بِهَذَا عَنْكَ ؟ فَقَالَ : لاَ؛ فَإِنَّكَ إذَا حَدَّثْتَ بِهِ فَأَنْكَرَهُ مُنْكِرٌ جَاهِلٌ بِمَعْنَي‌ مَا تَقُولُهُ ثُمَّ قَدَّرَ أنَّ ذَلِكَ تَشْبيهٌ كَفَرَ، وَلَيْسَتِ الرُّؤْيَةُ بِالقَلْبِ كَالرُّؤْيَةِ بِالعَيْنِ. تَعَالَي‌ اللَهُ عَمَّا يَصِفُهُ المُشَبِّهُونَ وَالمُلْحِدُونَ». [13]

الشيخ‌ والاُستاذ

 الحادي‌ والعشرون‌ : الشيخ‌ والاُستاذ

 وهوعلی‌ قسمين‌ : أُستاذ عامّ وأُستاذ خاصّ. الاُستاذ العامّ لا يكون‌ هو بخصوصه‌ مأموراً بالهداية‌، والرجوع‌ إلیه‌ هومن‌ باب‌ الرجوع‌ إلی‌ أهل‌ الخبرة‌. فيدخل‌ في‌ عموم‌ : فَاسْئَلُو´ا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن‌ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [14]، ولزوم‌ الرجوع‌ إلی‌ الاُستاذ العامّ يكون‌ في‌ بداية‌ السير والسلوك‌ فقط‌، أمّا عندما يشرف‌ السالك‌ علی‌ المشاهدات‌ والتجليّات‌ الصفاتيّة‌ والذاتيّة‌، فلا تعود الصحبة‌ له‌ لازمة‌. وأمّا الاُستاذ الخاصّ فهو الذي‌ نُصّ علیه‌ بخصوصه‌ بالإرشاد والهداية‌، فهو رسول‌ الله‌ وخلفاؤه‌ بالحقّ، ولا ينفكّ السالك‌ في‌ أيّ حال‌ من‌ الاحوال‌ عن‌ ملازمته‌، وإن‌ كان‌ واصلاً إلی‌ الوطن‌ المقصود. والمراد بالمرافقة‌ هومرافقة‌ السالك‌ الباطنيّة‌ للإمام‌، وليس‌ المراد بها الصحبة‌ والملازمة‌ في‌ مقام‌ الظاهر، لانَّ حقيقة‌ الإمام‌ تتجلّي‌ في‌ مقامه‌ النورانيّ الذي‌ له‌ السلطة‌ علی‌ العالم‌ والعالمين‌، وأمّا بدنه‌ المادّيّ، فهووإن‌ كان‌ يمتاز عن‌ سائر الابدان‌، لكنّه‌ ليس‌ منشأ للآثار، ولا متصرّفاً في‌ أُمور الكائنات‌.

 ولتوضيح‌ هذه‌ المسألة‌ نذكر بأنَّ الذي‌ يتحقّق‌ في‌ عالم‌ الخلقة‌ إنَّما منشأه‌ الصفات‌ والاسماء الإلهيّة‌، وحقيقة‌ الإمام‌ هي‌ أسماء الله‌ وصفاته‌، ولهذا قالوا علیهم‌ السلام‌ : إنَّ دائرة‌ عالم‌ الوجود والافلاك‌ وجميع‌ الكائنات‌ تتحرّك‌ بأيدينا، وما يحدث‌ إنّما يحدث‌ بإذننا : بِنَا عُرِفَ اللَهُ، بِنَا عُبِدَ اللَهُ. إذن‌ فالسالك‌ في‌ حال‌ السير إنّما يسير في‌ المراتب‌ النورانيّة‌ للإمام‌، وكلّما ارتقي‌ درجة‌ أومرتبة‌ فإنّ هذه‌ الدرجة‌ أوالمرتبة‌ هي‌ في‌ متناول‌ يد الإمام‌ الذي‌ يرافقه‌ في‌ تلك‌ الدرجة‌ أوالمرتبة‌.

 وكذلك‌ بعد الوصول‌ أيضاً، فإنَّ مرافقة‌ الإمام‌ لازمة‌، لانَّ لدولة‌ اللاهوت‌ آداباً يجب‌ أن‌ يعلّمها الإمام‌ للسالك‌. فمرافقة‌ الإمام‌ في‌ جميع‌ الحالات‌ من‌ الشروط‌ المهمّة‌، بل‌ من‌ أهمّ شروط‌ السلوك‌، وهنا ملاحظات‌ ـ مهمّة‌ لن‌ يتيسّر بيانها ـ علی‌ السالك‌ أن‌ يدرك‌ حقائقها بواسطة‌ الذوق‌.

 ذهب‌ محيي‌ الدين‌ بن‌ عربي‌ يوماً إلی‌ أُستاذه‌ وشكا إلیه‌ كثرة‌ الظلم‌ والعصيان‌، فقال‌ له‌ : «توجّه‌ إلی‌ ربّك‌، ثمّ ذهب‌ بعد مدّة‌ إلی‌ أُستاذ آخر وشكا إلیه‌ الظلم‌ وشيوع‌ المعاصي‌، فقال‌ الاُستاذ : توجّه‌ إلی‌ نفسك‌. وعندما سمع‌ ذلك‌ بدأ بالبكاء ملتمساً من‌ الاُستاذ بيان‌ سبب‌ اختلاف‌ الإجابات‌، فقال‌ له‌ : يا قرّة‌ عيني‌؛ إنَّ الاجوبة‌ واحدة‌، فهوقد دعاك‌ إلی‌ الرفيق‌ الاعلی‌، وأنا دعوتك‌ إلی‌ الطريق‌».

 لقد أوردنا هذه‌ القصّة‌ هنا حتّي‌ يُعلم‌ أنَّ السير إلی‌ الله‌ لا يتنافي‌ مع‌ السير في‌ مراتب‌ الاسماء والصفات‌ الإلهيّة‌ التي‌ هي‌ نفس‌ مقام‌ الإمام‌، فهما قريبان‌ جدّاً، بل‌ هما أمر واحد حقّاً، وليس‌ للثنائيّة‌ وجود في‌ هذه‌ المرحلة‌، فكلّ الوجود نور واحد هونور الله‌، غاية‌ الامر أنـّه‌ يُعبّر عن‌ ذلك‌ النور بتعابير مختلفة‌، أحياناً بالاسماء والصفات‌ الإلهيّة‌، وأحياناً بحقيقة‌ الإمام‌ ونورانيّته‌.

 عِباراتُنا شَتَّي‌ وَحُسْنُكَ واحِدٌ وَكُلٌّ إلَي‌ ذَاكَ الجَمالِ يُشيرُ

 أمّا الاُستاذ العامّ فلا يُعرَف‌ إلاّ بالصحبة‌ والرفقة‌ في‌ السرّ والعلانية‌، حتّي‌ يدرك‌ السالك‌ يقيناً واقعيّته‌، فظهور خوارق‌ العادات‌، والاطّلاع‌ علی‌ المغيّبات‌ و أسرار خواطر الناس‌، والعبور فوق‌ الماء والنار وطيّ الارض‌ والهواء والاطّلاع‌ علی‌ الماضي‌ والمستقبل‌ وأمثال‌ هذه‌ الغرائب‌ والعجائب‌، لا يمكن‌ أن‌ تكون‌ دليلاً علی‌ وصول‌ صاحبها، لانَّ هذه‌ كلّها إنَّما تحصل‌ في‌ مرتبة‌ المكاشفة‌ الروحيّة‌، ومنها إلی‌ الوصول‌ والكمال‌ طريق‌ بلا نهاية‌. وإلی‌ ذلك‌ الحين‌ الذي‌ لم‌ تظهر علی‌ الاُستاذ التجلّيات‌ الذاتيّة‌ الربّانيّة‌ فهوليس‌ بأُستاذ، ولا يمكن‌ الاكتفاء بمجرّد التجلّيات‌ الصفاتيّة‌ والاسمائيّة‌ واعتبارها كاشفة‌ عن‌ الوصول‌ والكمال‌.

 والمقصود من‌ التجلّي‌ للصفات‌ هوأن‌ يشاهد السالك‌ في‌ نفسه‌ صفة‌ الله‌، فيري‌ علمه‌ أوقدرته‌ أوحياته‌ حياة‌ وعلم‌ وقدرة‌ الله‌، كأن‌ يدرك‌ أن‌ الشي‌ء الذي‌ يسمعه‌ قد سمعه‌ الله‌ وهوالسميع‌، أويدرك‌ أنَّ الشي‌ء الذي‌ يراه‌ قد رآه‌ الله‌ وهوالبصير، أوأنَّ العلم‌ في‌ العالم‌ منحصر بالله‌، وأنَّ علم‌ كلّ موجود مستند إلی‌ علمه‌، بل‌ هونفس‌ علمه‌.

 والمراد من‌ التجلّي‌ للاسماء هوأن‌ يشاهد في‌ نفسه‌ صفات‌ الله‌ المستندة‌ إلی‌ ذاته‌، مثل‌ القائم‌ والعالم‌ والسميع‌ والبصير والحيّ والقدير وأمثالها، كأن‌ يري‌ أنَّ العلیم‌ في‌ العالم‌ واحد وهوالله‌ تعالي‌، ولا يري‌ نفسه‌ علیماً في‌ قبال‌ الله‌، بل‌ كونه‌ علیماً هوعين‌ كون‌ الله‌ علیماً، أوأن‌ يدرك‌ أنَّ الحيّ واحد وهوالله‌، وأنـّه‌ ليس‌ حيّاً أصلاً، بل‌ الحيّ هوالله‌ فقط‌، وأخيراً أن‌ يدرك‌ أن‌ ليس‌ القدير والعلیم‌ والحيّ إلاّ هُوَ تَعالَي‌ وتَقَدَّسَ.

 وبالطبع‌ يمكن‌ أن‌ يتحقّق‌ التجلّي‌ للاسماء في‌ خصوص‌ بعض‌ الاسماء الإلهيّة‌، ولا يلزم‌ من‌ تجلٍّ واحدٍ أواثنين‌ من‌ هذه‌ الاسماء في‌ السالك‌ أن‌ تتجلّي‌ البقيّة‌ فيه‌.

يجب‌ للاُستاذ العامّ أن‌ يصل‌ إلی‌ مقام‌ التجلّي‌ الذاتيّ

 أمّا التجلّي‌ الذاتيّ فهوأن‌ تتجلّي‌ الذات‌ المقدّسة‌ للباري‌ تعالي‌ في‌ السالك‌، وهذا إنّما يحصل‌ بعد أن‌ يعبر السالك‌ من‌ الاسم‌ والرسم‌، وبعبارة‌ أُخري‌ حينما يكون‌ قد فقد نفسه‌ كلّيّاً، فلا يجد أثراً لذاته‌ في‌ عالم‌ الوجود، ويودّع‌ الذات‌ والذاتيّة‌ دفعة‌ واحدة‌ في‌ غياهب‌ النسيان‌ وَلَيْسَ هُنَاكَ إلاَّ اللَهُ، فلا يتصوّر بعد ذلك‌ ضلال‌ وضياع‌ لمثل‌ هذا الإنسان‌، لانـّه‌ مادام‌ هناك‌ ذرّة‌ من‌ الوجود في‌ السالك‌، فإنَّ طمع‌ الشيطان‌ لا ينقطع‌ عنه‌، وما زال‌ يأمل‌ في‌ إضلاله‌ وغوايته‌، ولكن‌ عندما يطوي‌ السالك‌ ـ بحول‌ الله‌ وقوّته‌ ـ بساط‌ الذاتيّة‌ والانانيّة‌، ويدخل‌ إلی‌ عالم‌ اللاهوت‌ ويرد إلی‌ حرم‌ الله‌، ويرتدي‌ لباس‌ الإحرام‌، ويشرف‌ علی‌ التجلّيات‌ الذاتيّة‌ الربّانيّة‌، فإنَّ الشيطان‌ ييأس‌ من‌ غوايته‌، ويغلق‌ باب‌ الطمع‌ في‌ إضلاله‌، ويجلس‌ محسوراً، فيجب‌ أن‌ يصل‌ الاُستاذ العامّ إلی‌ هذه‌ المرتبة‌ من‌ الكمال‌، وإلاّ فإنَّه‌ لن‌ يُبايع‌ أيّ شخص‌ ولا ينقاد له‌.

 هزار دام‌ به‌ هر گام‌ اين‌ بيابان‌ است‌                     كه‌ از هزار هزاران‌ يكي‌ از آن‌ نجهند [15]

 إذن‌ لا ينبغي‌ أن‌ يسلّم‌ الإنسان‌ لكلّ من‌ عرض‌ متاعه‌ وأظهر بضاعته‌ وادّعي‌ الكشف‌ والشهود، نعم‌ ينبغي‌ أن‌ يتوكّل‌ علی‌ الله‌ في‌ الموضع‌ الذي‌ يكون‌ التحقيق‌ والفحص‌ في‌ أمر الاُستاذ متعذّراً وصعباً، ويعرض‌ كلّ ما يسمعه‌ منه‌ ويأمره‌ به‌ علی‌ كتاب‌ الله‌ وسنّة‌ رسول‌ الله‌ وسيرة‌ الائمّة‌ الاطهار صلوات‌ الله‌ وسلامه‌ علیهم‌ أجمعين‌، فإذا وافقها يعمل‌ به‌، وإلاّ فلا يرتّب‌ علیه‌ أثراً، ولن‌ يكون‌ للشيطان‌ أيّ سلطة‌ علی‌ من‌ يسير بقدم‌ التوكّل‌ علی‌ الله‌ :

 إِنَّهُ و لَيْسَ لَهُ و سُلْطَـ'نٌ عَلَي‌ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَي‌ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَـ'نُهُ و عَلَي‌ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ و وَالَّذِينَ هُم‌ بِهِ مُشْرِكُونَ. [16]

الورد

 الثاني‌ والعشرون‌ : الورد

 وهوعبارة‌ عن‌ الاذكار والاوراد الكلاميّة‌، وكيفيّتها وكمّيّتها منوطة‌ برأي‌ الاُستاذ، لانَّ مَثَلها مثل‌ الدواء، بعضها نافع‌ وبعضها ضارّ، وقد يحدث‌ أن‌ يشتغل‌ السالك‌ بنوعين‌ من‌ الورد، أحدهما يوجهه‌ إلی‌ الكثرة‌ والآخر إلی‌ الوحدة‌، وفي‌ حال‌ اجتماعهما تكون‌ النتيجة‌ أن‌ يبطل‌ كلّ منهما الآخر، فلا يعودان‌ علیه‌ بفائدة‌. فالاُستاذ إذَن‌ شرط‌ في‌ الذكر الذي‌ لم‌ يأت‌ بخصوصه‌ إذنٌ عامّ، وأمّا الذي‌ جاء فيه‌ إذن‌ عامّ فلا مانع‌ من‌ الاشتغال‌ به‌.

 الورد علی‌ أربعة‌ أقسام‌ : قالبيّ، وخفيّ، وكلّ منهما إمّا إطلاقيّ أوحصريّ. وأهل‌ السلوك‌ لا يعتنون‌ بالقالبيّ، لانَّ الورد القالبيّ عبارة‌ عن‌ تلفّظ‌ اللسان‌ دون‌ الالتفات‌ إلی‌ المعني‌، وفي‌ الواقع‌ هولقلقة‌ لسان‌، ولانَّ السالك‌ يبحث‌ عن‌ المعني‌ لا عن‌ شي‌ء آخر، فلن‌ يكون‌ الذكر القالبيّ مفيداً له‌.

نفي‌ الخواطر، والذكر، والفكر

 الثالث‌ والعشرون‌، والرابع‌ والعشرون‌، والخامس‌ والعشرون‌ : نفي‌ الخواطر، والذكر، والفكر

 وهذه‌ المراحل‌ الثلاث‌ من‌ مهمّات‌ الوصول‌ إلی‌ المقصد، وأكثر الذين‌ انقطعوا في‌ الطريق‌ ولم‌ يتمكّنوا من‌ الوصول‌ إلی‌ المقصد كان‌ توقّفهم‌ عند إحدي‌ هذه‌ الثلاث‌، فتوقّفوا عندها أوأصبحوا عرضة‌ للهلاك‌ والبوار. وأخطار هذه‌ المنازل‌ عبارة‌ عن‌ عبادة‌ الاصنام‌ والاوثان‌ والكواكب‌ والنار والبقر والزندقة‌ والفرعونيّة‌ وادّعاء الحلول‌ والاتّحاد ونفي‌ التكليف‌ والإباحة‌ وأمثالها، وسوف‌ يُشار إلی‌ جميعها، ولكنّنا الآن‌ نبيّن‌ بشكل‌ مجمل‌ الحلول‌ والاتّحاد اللذين‌ هما من‌ الاخطار المهمّة‌ التي‌ تظهر للسالك‌ من‌ خلال‌ تصفية‌ الذهن‌ بواسطة‌ نفي‌ الخواطر.

 فالسالك‌ لانـّه‌ لم‌ يكن‌ قد خرج‌ من‌ وادي‌ الاسم‌ والرسم‌، لهذا والعياذ بالله‌ من‌ الممكن‌ وعلی‌ أثر التجلّي‌ الصفاتي‌ّ أوالاسمائيّ يمكن‌ أن‌ يتخيّل‌ أنَّ الله‌ متّحد مع‌ شخصيّته‌، وهذا هومعني‌ الحلول‌ والاتّحاد وهوكفر وشرك‌. والحال‌ أنَّ معني‌ وحدة‌ الوجود ينفي‌ كلّيّاً معني‌ التعدّد والتغاير، ويعدّ تمام‌ الوجود المتصوّر مقابل‌ الوجود المقدّس‌ للحضرة‌ الالهيّة‌ من‌ الوهميّات‌، ويعتبره‌ ظلاّ له‌، والسالك‌ بواسطة‌ الارتقاء إلی‌ هذا المقام‌ يفقد تمام‌ وجوده‌، ويُضيّع‌ ذاته‌، ويصير فانياً، ولا يدرك‌ ذا وجود غير الذات‌ المقدّسة‌ في‌ عالم‌ الوجود وَلَيْسَ فِي‌ الدَّارِ غَيْرُهُ دَيَّارٌ، فأين‌ هذا من‌ الحلول‌ والاتّحاد ؟!

نفي‌ الخواطر بسيف‌ الذكر

 أمّا نفي‌ الخواطر : فهوعبارة‌ عن‌ تسخير القلب‌ والسيطرة‌ علیه‌ حتّي‌ لا يقول‌ قولاً أويعمل‌ عملاً أويرد علیه‌ خاطر أوتصوّر إلاّ بإذن‌ صاحبه‌ واختياره‌، وتحصيل‌ هذه‌ الحالة‌ صعب‌ جدّاً، ولهذا قالوا إنَّ نفي‌ الخواطر من‌ أعظم‌ مُطَهِّرات‌ السِرِّ. فالسالك‌ عندما يسير في‌ مقام‌ نفي‌ الخواطر يلتفت‌ فجأة‌ إلی‌ أنَّ سيلاً جارفاً من‌ الخواطر والاوهام‌ والخيالات‌ قد أحاط‌ به‌، وحتّي‌ تلك‌ الخواطر التي‌ لم‌ يكن‌ يتصوّر أن‌ تخطر علی‌ باله‌، من‌ وقائع‌ الماضي‌ المختبي‌ أوالخيالات‌ المستحيلة‌ الوقوع‌، فإنَّها تجد طريقاً إلیه‌ لتشغله‌ بنفسها دائماً. ينبغي‌ للسالك‌ في‌ هذا المقام‌ أن‌ يبقي‌ ثابتاً كالجبال‌ الرواسي‌ بوجه‌ كلّ خاطرة‌ تظهر لتزاحمه‌، فيهلكها ويقطّعها بسيف‌ الذكر، والمراد بالذكر هنا هوالاسماء الإلهيّة‌ التي‌ يجب‌ أن‌ يتوجّه‌ السالك‌ إلی‌ أحدها حين‌ بروز الخواطر ويديم‌ التوجّه‌ إلیها مراقباً بالعين‌ والقلب‌ حتّي‌ تغادر تلك‌ الخواطر فناء القلب‌.

 وهذا الطريق‌ صحيح‌ جدّاً، إذ يجب‌ أن‌ تُطرد الخواطر وتُبعد بالذكر فقط‌، ذلك‌ الذكر الذي‌ يعني‌ التوجّه‌ إلی‌ أحد أسماء الله‌، قال‌ تعالي‌ :

 إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَـ'´ئِفٌ مِنَ الشَّيْطَـ'نِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم‌ مُبْصِرُونَ. [17]

نفي‌ الخواطر بالطريقة‌ المذكورة‌ في‌ رسالة‌ بحر العلوم‌ رحمه‌ الله‌

 ولكن‌ جاء في‌ الرسالة‌ المنسوبة‌ إلی‌ المرحوم‌ بحر العلوم‌ عدم‌ جواز هذه‌ الطريقة‌، وهويؤكّد فيها علی‌ ضرورة‌ نفي‌ الخواطر دون‌ استخدام‌ الذكر، ومن‌ ثمّ يدخل‌ السالك‌ مرحلة‌ الذكر، لانَّ نفي‌ الخواطر بسيف‌ الذكر خطر جدّاً، ونحن‌ هنا نذكر إجمالاً ما ورد في‌ الرسالة‌، ثمّ نتعرّض‌ له‌ بالردّ. قال‌ رحمة‌ الله‌ علیه‌ :

 «كثير من‌ المتشيّخين‌ ينصحون‌ بطيّ مرحلة‌ نفي‌ الخواطر بالذكر (بديهيّ أنَّ المراد من‌ الذكر الالتفات‌ والتوجّه‌ القلبيّ لا الذكر اللسانيّ الذي‌ يصطلح‌ علیه‌ بالورد)، وهذا خطر جدّاً، لانَّ حقيقة‌ الذكر عبارة‌ عن‌ ملاحظة‌ المحبوب‌ وقصر النظر علی‌ جماله‌ من‌ بعيد، والنظر إلی‌ المحبوب‌ جائز عند غضّ البصر عن‌ غيره‌ بالمرّة‌، لانَّ المحبوب‌ غيور ومن‌ غيرته‌ أنَّ العين‌ التي‌ تنظر إلیه‌ لا ينبغي‌ أن‌ تنظر إلی‌ غيره‌، و أنّه‌ يُعمي‌ العين‌ التي‌ ترتفع‌ عنه‌ لتنظر إلی‌ الغير، ورؤية‌ غيره‌ تتنافي‌ مع‌ غيرته‌، وتكرار هذا الامر بمنزلة‌ الاستهزاء، والمحبوب‌ يردّ علی‌ هذا الاستهزاء بحيث‌ لا يبقي‌ للناظر نظر :

 وَمَن‌ يَعْشُ عَن‌ ذِكْرِ الرَّحْمَـ'نِ نُقَيِّضْ لَهُ و شَيْطَـ'نًا فَهُوَ لَهُ و قَرِينٌ. [18]

 نعم‌، هناك‌ نوع‌ من‌ الذكر جائز في‌ نفي‌ الخواطر، وهوأن‌ لا يكون‌ المراد من‌ الذكر النظر إلی‌ المحبوب‌، بل‌ ردع‌ الشيطان‌، مثل‌ الذي‌ يريد أن‌ يخرج‌ الآخرين‌ من‌ المجلس‌ فيدعومحبوبه‌، فالغرض‌ هنا التخويف‌ وتهديد الغير، وبهذه‌ الطريقة‌ إذا هجم‌ علیه‌ خاطر في‌ حال‌ الاشتغال‌ بنفي‌ الخواطر بحيث‌ يصعب‌ دفعه‌، يشتغل‌ بالذكر من‌ أجل‌ رفعه‌.

 أمّا طريقة‌ محقّقي‌ الطريق‌ والعرفاء الواصلين‌، فهي‌ أنـّهم‌ يأمرون‌ المبتدئين‌ ـ أوّل‌ الامر حين‌ تعلیمهم‌ وإرشادهم‌ ـ بنفي‌ الخواطر ومن‌ ثمّ الاشتغال‌ بالذكر، ولهذا يأمرون‌ السالك‌ أوّلاً بالتوجّه‌ إلی‌ شي‌ء من‌ المحسوسات‌ كالحجر أوالخشب‌ وتركيز النظر إلیه‌ مدّة‌ لا يزيل‌ نظره‌ عنه‌ قدر الإمكان‌، ويتّجه‌ إلیه‌ بجميع‌ قواه‌ الظاهريّة‌ والباطنيّة‌، والافضل‌ أن‌ يداوم‌ علی‌ ذلك‌ أربعين‌ يوماً، وأثناء هذه‌ المدّة‌ يستفيد من‌ الاذكار الثلاثة‌ : «الاستعاذة‌» و«الاستغفار» وذكر «يا فَعَّال‌»، ويشتغل‌ بها بعد فريضتي‌ الصبح‌ والعشاء. بعد هذه‌ المدّة‌ يتوجّه‌ إلی‌ قلبه‌ الصنوبريّ، ويديم‌ التوجّه‌ إلیه‌ مدّة‌ أُخري‌ توجّهاً تامّاً، ولا يسمح‌ لخيال‌ آخر ـ غير هذا الخيال‌ـ أن‌ يجد طريقاً إلیه‌، وخلال‌ هذا العمل‌ لوهجم‌ علیه‌ خاطر أوعَرَض‌ له‌ تشويش‌ فإنَّه‌ يستمدّ العون‌ من‌ كلمة‌ «لاَ مَوجُودَ إلاَّ اللَهُ» وكلمة‌ الله‌.

 فيداوم‌ علی‌ هذا العمل‌ مدّة‌ حتّي‌ يحصل‌ له‌ الذهول‌ عن‌ النفس‌. ويكون‌ الذكر خلال‌ هذه‌ المدّة‌ «الاستغفار» وذكر «يا فعَّال‌» وتكرر اسم‌ «يا باسِط‌»، وعندما يصل‌ السالك‌ إلی‌ هذه‌ المرحلة‌ يُؤذَن‌ له‌ أن‌ يتمّ بقيّة‌ المرحلة‌ بواسطة‌ الذكر النفسيّ والخياليّ، حتّي‌ يندفع‌ الخاطر مطلقاً، لانَّ بقيّة‌ الخواطر سوف‌ تندفع‌ بذاتها بالدخول‌ في‌ مراتب‌ الذكر والفكر إن‌ شاءالله‌» ـ انتهي‌ ملخّصه‌.

 وليُعلم‌ أنَّ طريقة‌ نفي‌ الخواطر هذه‌ مأخوذة‌ من‌ الطريقة‌ النقشبنديّة‌، والنقشبنديّة‌ جماعة‌ من‌ الصوفيّة‌ تقطن‌ في‌ بقاع‌ مختلفة‌ من‌ تركيا وبعض‌ المناطق‌ الاُخري‌، وكان‌ مرشدهم‌ الخواجة‌ محمّد النقشبند، فلذا عرفوا بالنقشبنديّة‌.

المراقبة‌ ومراتبها

 أمّا طريقة‌ المرحوم‌ الملاّ حسين‌ قلي‌ الهمدانيّ رضوان‌ الله‌ علیه‌ فلم‌ تكن‌ بهذا الشكل‌، ولم‌ يعمل‌ هوأوتلامذته‌ علی‌ نفي‌ الخواطر دون‌ الذكر العمليّ، فكانت‌ نظريّتهم‌ عبارة‌ عن‌ الالتزام‌ الشديد بالمراقبة‌، أي‌ الاهتمام‌ بمراتبها، وقد ذكرنا هذا قبلاً وهنا سوف‌ نبيّنه‌ بشكل‌ مفصّل‌.

 أوّل‌ درجات‌ المراقبة‌ أن‌ يتجنّب‌ السالك‌ المحرّمات‌، ويؤدّي‌ كلّ الواجبات‌، ولا يتسامح‌ في‌ هذا الامر بأيّ وجه‌ من‌ الوجوه‌.

 والدرجة‌ الثانية‌، أن‌ يتشدّد فيها، ويسعي‌ أن‌ يكون‌ كلّ ما يعمله‌ لرضا الله‌ تعالي‌، ويتجنّب‌ كلّ ما يسمّي‌ لهواً ولعباً. وباهتمامه‌ بهذه‌ المرتبة‌ يحصل‌ له‌ التمكّن‌ بحيث‌ لا يضعف‌ بعدها، ليوصل‌ هذه‌ التقوي‌ إلی‌ حدّ الملكة‌.

 الدرجة‌ الثالثة‌، هي‌ أن‌ يري‌ الله‌ تعالي‌ دائم‌ النظر إلیه‌، وشيئاً فشيئاً يعترف‌ ويذعن‌ بأنَّ الله‌ المتعال‌ حاضر في‌ كلّ مكان‌ وناظر إلی‌ كلّ المخلوقات‌، ويجب‌ أن‌ تراعي‌ هذه‌ المراقبة‌ في‌ كلّ الحالات‌ وفي‌ جميع‌ الاوقات‌.

 الدرجة‌ الرابعة‌، وهي‌ أعلی‌ وأكمل‌ من‌ سابقتها، وهي‌ أن‌ يري‌ بنفسه‌ حضور الله‌ تعالي‌ ونظره‌ إلیه‌، وبتعبير مجمل‌ يشاهد الجمال‌ الإلهيّ، وفي‌ وصيّة‌ الرسول‌ الاكرم‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ إلی‌ أبي‌ذرّ إشارة‌ إلی‌ هاتين‌ المرتبتين‌ الاخيرتين‌ من‌ المراقبة‌ :

 اعْبُدِ اللَهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإنَّهُ يَرَاكَ.

 وعلی‌ هذا، فإنَّ العبادة‌ في‌ المرحلة‌ التي‌ يراه‌ الله‌ فيها هي‌ أدني‌ من‌ المرتبة‌ التي‌ يري‌ هوالله‌ فيها.

 عندما يصل‌ السالك‌ إلی‌ هذه‌ المرتبة‌ ينبغي‌ علیه‌ طرد كلّ ما سوي‌ الله‌ عن‌ ذهنه‌ وأن‌ يقوم‌ بنفي‌ الخواطر ضمن‌ أحد الاعمال‌ العباديّة‌، ولا يجوز في‌ الشرع‌ المقدّس‌ أن‌ يتوجّه‌ إلی‌ صخرة‌ أوخشبة‌، فماذا سيكون‌ جوابه‌ إذا أدركه‌ الموت‌ في‌ هذه‌ اللحظات‌ من‌ التوجّه‌ ؟

 أمّا نفي‌ الخواطر عن‌ طريق‌ سلاح‌ الذكر فهوعبادة‌ وممدوح‌ من‌ قبل‌ الشرع‌، وأفضل‌ طرقه‌ التوجّه‌ إلی‌ النفس‌، فهوأسرع‌ الطرق‌ للوصول‌ إلی‌ المقصد، لانَّ التوجّه‌ إلی‌ النفس‌ ممدوح‌ ومقبول‌ من‌ الشرع‌ المقدّس‌، والآية‌ الكريمة‌ :

 يَـ'أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم‌ مَن‌ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ. [19]

 تشير إلی‌ هذا. وطريقة‌ التوجّه‌ إلی‌ النفس‌ هي‌ طريقة‌ المرحوم‌ الملاّ حسين‌ قلي‌، وقد سلك‌ تلامذته‌ جميعاً هذا الطريق‌ المستلزم‌ لمعرفة‌ الربّ.

سلسلة‌ أساتيذ المؤلّف‌ في‌ المعارف‌ الإلهيّة‌

 إنَّ حقيقة‌ العرفان‌ مأثورة‌ عن‌ أميرالمؤمنين‌ علیّ بن‌ أبي‌ طالب‌ علیه‌ السلام‌، والطرق‌ التي‌ نشرت‌ هذه‌ الحقيقة‌ بالتواتر تتجاوز المائة‌، بينما لا تتجاوز أُصول‌ جماعات‌ التصوّف‌، الخمس‌ وعشرين‌ مجموعة‌، وجميع‌ هذه‌ السلاسل‌ تنتهي‌ إلی‌ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌، ومن‌ بين‌ هذه‌ الجماعات‌ اثنتان‌ أوثلاث‌ منها من‌ الخاصّة‌ والبقيّة‌ من‌ العامّة‌، وبعض‌ هذه‌ السلاسل‌ ينتهي‌ إلی‌ «معروف‌ الكرخيّ» ومنه‌ إلی‌ الإمام‌ الرضا علیه‌ السلام‌، أمّا طريقتنا أي‌ طريقة‌ المرحوم‌ الملاّ حسين‌ قلي‌ فهي‌ لا تنتهي‌ إلی‌ أيّ واحد منها.

 وإجمال‌ المطلب‌ هو: قبل‌ أكثر من‌ مائة‌ سنة‌ كان‌ يعيش‌ في‌ شوشتر [20] عالم‌ جليل‌ القدر، وكان‌ هذا العالم‌ مرجعاً للناس‌ في‌ القضاء والاُمور العامّة‌، ويدعي‌ السيّد علی‌ الشوشتريّ، فكان‌ كباقي‌ العلماء الاعلام‌ متصدّياً للاُمور العامّة‌ من‌ التدريس‌ والقضاء والمرجعيّة‌ الدينيّة‌. في‌ أحد الايّام‌ طرق‌ بابه‌ شخص‌ وهويقول‌ : لي‌ معك‌ حاجة‌، عندما فتح‌ السيّد بابه‌ رأي‌ نسّاجاً، فقال‌ له‌ : ماذا تريد ؟ فأجاب‌ بأنَّ الحكم‌ الفلاني‌ ـ الذي‌ حكمت‌ به‌ طبق‌ دعوي‌ الشهود بملكيّة‌ فلان‌ للملك‌ الفلاني‌ ـ غير صحيح‌، وذلك‌ الملك‌ لطفل‌ يتيم‌، وسنده‌ مدفون‌ في‌ المحلّ الفلاني‌.

 فما قمت‌ به‌ ليس‌ صحيحاً، وليس‌ هذا النهج‌ نهجك‌. فيجيبه‌ آية‌ الله‌ الشوشتريّ : أَوَقَعتُ في‌ خطأ ؟ فأجاب‌ النسّاج‌ : الكلام‌ هوما قلته‌، ثمّ انصرف‌. ففكّر آية‌ الله‌ السيّد الشوشتريّ طويلاً، وتساءل‌ عمّن‌ يكون‌ هذا الرجل‌ وماذا قال‌، ثمّ يقوم‌ بالتحقيق‌ ويتبيّن‌ له‌ أنَّ سند ملكيّة‌ الطفل‌ مدفون‌ في‌ ذلك‌ المكان‌، وأنَّ الشهود علی‌ ملكيّة‌ فلان‌ شهود زور. فانتابه‌ شعور بالخوف‌ وقال‌ في‌ نفسه‌ : ربّما كان‌ الكثير من‌ الاحكام‌ التي‌ أصدرتها من‌ هذا القبيل‌، فأخذه‌ الاضطراب‌ والخوف‌. وفي‌ الليلة‌ التالية‌ وفي‌ نفس‌ الوقت‌ يطرق‌ النسّاج‌ الباب‌ من‌ جديد ويقول‌ له‌ : يا سيّد؛ ليس‌ الطريق‌ ما تسير إلیه‌، وفي‌ الليلة‌الثالثة‌ تتكرّر هذه‌ الواقعة‌ بنفس‌ الكيفيّة‌، ويقول‌ له‌ النسّاج‌ : لاتتأخّر، اجمع‌ الاثاث‌ وبع‌ البيت‌ فوراً، ثمّ اتّجه‌ إلی‌ النجف‌ الاشرف‌، وافعل‌ ما أقوله‌ لك‌، وبعد ستّة‌ أشهر كن‌ بانتظاري‌ في‌ وادي‌ السلام‌ هناك‌.

 فقام‌ السيّد لوقته‌ وعمل‌ بالتعاليم‌، وباع‌ البيت‌ وجمع‌ الاثاث‌ ثمّ تهيّأ للسفر إلی‌ النجف‌، وفي‌ اللحظة‌ الاُولي‌ من‌ دخوله‌ المدينة‌ الشريفة‌ يري‌ الرجل‌ ذاته‌ عند طلوع‌ الشمس‌ في‌ وادي‌ السلام‌، وكأنـّه‌ خرج‌ من‌ بطن‌ الارض‌ ليقف‌ أمامه‌ ويعطيه‌ بعض‌ التعلیمات‌ ثمّ يختفي‌. ويدخل‌ المرحوم‌ الشوشتريّ إلی‌ النجف‌ الاشرف‌ عاملاً بما يمليه‌ علیه‌ ذلك‌ النسّاج‌ ليصل‌ بعدها إلی‌ درجة‌ ومقام‌ لا يمكن‌ وصفهما رضوان‌ الله‌ تعالي‌ وسلامه‌ علیه‌.

 وكان‌ السيّد علی‌ّ الشوشتريّ ـ مراعاة‌ للاحترام‌ ـ يحضر دروس‌ الفقه‌ والاُصول‌ عند الشيخ‌ مرتضي‌ الانصاريّ الذي‌ كان‌ بدوره‌ يحضر دروس‌ السيّد الاُسبوعيّة‌ في‌ الاخلاق‌، وبعد وفاة‌ الشيخ‌ رحمة‌ الله‌ علیه‌ يتصدّي‌ السيّد الشوشتريّ رحمة‌ الله‌ علیه‌ لإتمام‌ الابحاث‌ التي‌ انتهي‌ إلیها الشيخ‌، ولكنَّ الاجل‌ لم‌ يمهله‌ طويلاً، فبعد ستّة‌ أشهر يلتحق‌ بالرفيق‌ الاعلی‌. خلال‌ هذه‌ المدّة‌ (الستّة‌ أشهر) يكتب‌ المرحوم‌ الشوشتريّ ورقة‌ إلی‌ أحد تلامذة‌ الشيخ‌ الانصاريّ البارزين‌، المدعوّ الملاّ حسين‌ قلي‌ الدرجزينيّ [21] الهمدانيّ الذي‌كان‌ له‌ مع‌ السيّد علاقة‌ في‌ أيّام‌ المرحوم‌ الانصاريّ وكان‌ يستفيد من‌ دروسه‌ في‌ الاخلاق‌ والعرفان‌، وكان‌ عازماً علی‌ التدريس‌ وإتمام‌ مباحث‌ الشيخ‌ التي‌ كان‌ يحرّرها بنفسه‌، وفي‌ هذه‌ الورقة‌ يذكّره‌ بأنَّ نهجكم‌ هذا ليس‌ كاملاً، وأنـّه‌ ينبغي‌ علیكم‌ الحصول‌ علی‌ المقامات‌ العالية‌ إضافة‌ إلی‌ ذلك‌، غرضه‌ من‌ ذلك‌ التعبير، إرشاده‌ إلی‌ طريق‌ الحقّ والحقيقة‌.

 وتمرّ الايّام‌ ليكون‌ المرحوم‌ الملاّ حسين‌ قلي‌ ـ الذي‌ كان‌ يستفيد قبل‌ سنوات‌ من‌ وفاة‌ العلاّمة‌ الانصاريّ من‌ محضر المرحوم‌ السيّد علیّ في‌ المعارف‌ الإلهيّة‌ ـ من‌ أعاظم‌ عصره‌ وعجائب‌ دهره‌ في‌ الاخلاق‌ ومجاهدة‌ النفس‌ وكسب‌ المعارف‌ الإلهيّة‌. وقد ربّي‌ تلامذة‌ عظاماً، أصبح‌ كلّ واحد منهم‌ آية‌ عظيمة‌ وواحداً من‌ أساطين‌ المعرفة‌ والتوحيد، ومن‌ أبرزهم‌ المرحوم‌ الحاجّ الميرزا جواد الملكيّ التبريزيّ، والمرحوم‌ السيّد أحمد الكربلائيّ الطهرانيّ، والمرحوم‌ السيّد محمّد سعيد الحبّوبي‌ّ، والمرحوم‌ الحاجّ الشيخ‌ محمّد البهاريّ.

 ومن‌ طلاّب‌ مدرسة‌ السيّد أحمد الكربلائيّ الاُستاذ الاعظم‌ والعارف‌ الامثل‌ المرحوم‌ الحاجّ الميرزا علیّ القاضيّ التبريزيّ رضوان‌ الله‌ علیه‌. هذه‌ هي‌ سلسلة‌ أساتذتنا التي‌ تعود إلی‌ المرحوم‌ الشوشتريّ وأخيراً إلی‌ الرجل‌ النسّاج‌. فمن‌ كان‌ هذا الإنسان‌ ؟ ومن‌ أين‌ كان‌ يحصل‌ علی‌ هذه‌ المعارف‌، وبأيّ وسيلة‌ ؟ لا نعلم‌ شيئاً من‌ ذلك‌.

 ومنهج‌ الاُستاذ القاضي‌ مطابق‌ لمنهج‌ الاُستاذ الكبير الملاّ حسين‌ قلي‌، أي‌ طريق‌ معرفة‌ النفس‌، فكانوا لنفي‌ الخواطر يأمرون‌ في‌ المرحلة‌ الاُولي‌ بالتوجّه‌ إلی‌ النفس‌، وأن‌ يُعيِّنَ السالك‌ كلّ ليلة‌ مقدار نصف‌ ساعة‌ أوأكثر لنفي‌ الخواطر، وفيها يتوجّه‌ إلی‌ نفسه‌، شيئاً فشيئاً وعلی‌ أثر التوجّه‌ القويّ تزول‌ عنه‌ الخواطر، وتحصل‌ له‌ معرفة‌ النفس‌، ليصل‌ إلی‌ الوطن‌ المقصود إن‌شاء الله‌.

 وأكثر الذين‌ وُفِّقُوا لنفي‌ الخواطر، واستطاعوا أن‌ يُطَهِّروا أنفسهم‌ ويصفّوها حتّي‌ ظهر فيها سلطان‌ المعرفة‌، إنَّما كان‌ ذلك‌ منهم‌ في‌ إحدي‌ حالتين‌: الاُولي‌، حين‌ تلاوة‌ القرآن‌ المجيد، والالتفات‌ إلی‌ القاري‌ الحقيقيّ للقرآن‌، لينكشف‌ لهم‌ أنَّ قاري‌ القرآن‌ هوالله‌ جلّ جلاله‌.

 الثانية‌، عن‌ طريق‌ التوسّل‌ بمقام‌ أبي‌ عبدالله‌ علیه‌ السلام‌، لانّ له‌ علیه‌ السلام‌ عنايات‌ عظيمة‌ في‌ رفع‌ الحجب‌ والموانع‌ عن‌ طريق‌ سالكي‌ طريق‌ الله‌.

 وبناء علی‌ ما ذكر فإنَّ لشيئين‌ مهمّين‌ ثقلاً كبيراً في‌ تجلّي‌ سلطان‌ المعرفة‌ : الاوّل‌، المراقبة‌ بجميع‌ مراتبها. و الثاني‌، التوجّه‌ إلی‌ النفس‌. فبالتوجّه‌ إلی‌ هذين‌ الامرين‌ سوف‌ يتّضح‌ للسالك‌ تدريجيّاً أنَّ الكثرة‌ في‌ هذا العالم‌ تنبع‌ من‌ عين‌ واحدة‌. وكلّ ما يتحقّق‌ فيه‌ هو من‌ مصدر واحد، وأنَّ أيّ موجود بقدر ما له‌ من‌ النور والجمال‌ والبهاء يستقي‌ من‌ تلك‌ العين‌ المعِين‌، وأنَّ ذلك‌ المصدر العظيم‌ يفيض‌ علی‌ كلّ موجود بقدر سعة‌ وجوده‌ ـ التي‌ هي‌ قابليّاته‌ الماهويّة‌ ـ أنوار الوجود والجمال‌ والعظمة‌. وبعبارة‌ أُخري‌ أنَّ الفيض‌ من‌ جانب‌ الفيّاض‌ المطلق‌ يفاض‌ بشكل‌ مطلق‌ وبدون‌ قيد وشرط‌ أوحدّ، وكلّ موجود يأخذ منه‌ بقدر وسع‌ ماهيّته‌.

انكشاف‌ عوالم‌ التوحيد الاربعة‌ إثر المراقبة‌ التامّة‌ والتوجّه‌ إلی‌ النفس‌

 نعم‌؛ وتنكشف‌ للسالك‌ ـ نتيجة‌ للمراقبة‌ التامّة‌ والاهتمام‌ الشديد بها وعلی‌ إثر التوجّه‌ إلی‌ النفس‌ وبالتدريج‌ ـ عوالم‌ أربعة‌ هي‌ كالتالي‌ :

 العالَم‌ الاوّل‌ : توحيد الافعال‌، أي‌ إدراك‌ السالك‌ في‌ المرحلة‌ الاُولي‌ أنَّ كلّ ما تراه‌ العين‌ ويلفظه‌ اللسان‌ وتسمعه‌ الاُذن‌ وتقوم‌ به‌ اليد والرجل‌ وسائر الاعضاء والجوارح‌، كلّ ذلك‌ يستند إلی‌ نفسه‌، وأنَّ النفس‌ هي‌ الفاعلة‌ المحضة‌، ثمّ يدرك‌ أنَّ الافعال‌ التي‌ تتحقّق‌ في‌ الخارج‌ تستند إلی‌ نفسه‌، وأنَّ نفسه‌ هي‌ مصدر جميع‌ الافعال‌ في‌ الخارج‌، ثمّ يدرك‌ أنَّ نفسه‌ قائمة‌ بذات‌ الحقّ، وأنـّها قبس‌ من‌ فيوضات‌ الله‌ ورحمته‌، وبالتالي‌ تعود جميع‌ الافعال‌ في‌ العالم‌ الخارجيّ إلی‌ ذاته‌ المقدّسة‌.

 العالَم‌ الثاني‌ : توحيد الصفات‌، ويكون‌ بعد العالم‌ الاوّل‌. وفي‌ هذا العالم‌ لا يري‌ السالك‌ من‌ نفسه‌ سمعاً أوبصراً، ويدرك‌ أنَّ حقيقة‌ سمعه‌ وبصره‌ من‌ الله‌ تعالي‌، وكذا كلّ ما يُري‌ في‌ الموجودات‌ الخارجيّة‌ ـ من‌ الصفات‌ كالعلم‌ والقدرة‌ والحياة‌ ـ يستند إلیه‌ تعالي‌.

 العالَم‌ الثالث‌ : التوحيد في‌ الاسماء، ويأتي‌ بعد العالم‌ الثاني‌. وهوأن‌ يدرك‌ السالك‌ قيام‌ جميع‌ الصفات‌ بالذات‌ الإلهيّة‌، كأن‌ يري‌ أنَّ العالم‌ والقادر والحيّ هوالله‌ المتعال‌، فيدرك‌ أنّ علمه‌ وقدرته‌ وسمعه‌ وبصره‌ هوعلم‌ الله‌ وقدرته‌ وسمعه‌ وبصره‌، وأنَّ الحيّ والقادر والعالم‌ والسميع‌ والبصير ـ في‌ كلّ العوالم‌ ـ هو واحد فقط‌، وهوالله‌ جلَّ جلاله‌، وكلّ موجود من‌ الموجودات‌ يحكي‌ ـ بقدر سعة‌ وجوده‌ ـ عن‌ ذلك‌ العالِم‌ والقادر والسميع‌ والبصير والحيّ، ويدلّ علیه‌.

 العالَم‌ الرابع‌ : التوحيد في‌ الذات‌، وهوأعلی‌ من‌ العالَم‌ الثالث‌، وينكشف‌ للسالك‌ بواسطة‌ التجلّيات‌ الذاتيّة‌، فيدرك‌ فيه‌ أنَّ تلك‌ الذات‌ التي‌ تستند إلیها جميع‌ الافعال‌ والصفات‌ والاسماء هي‌ ذات‌ واحدة‌، وأنـّها حقيقة‌ واحدة‌، تقوم‌ بها جميع‌ الحقائق‌، فلا يعود للسالك‌ توجّه‌ إلی‌ الاسم‌ والصفة‌، بل‌ يكون‌ مشهوده‌ هوالذات‌ فحسب‌، وهذا حين‌ يتخطّي‌ السالك‌ وجوده‌ الخاصّ المستعار كلّيّاً فاقداً ذاته‌ في‌ ظلّ الفناء في‌ الذات‌ الإلهيّة‌ المقدّسة‌، حينها يحصل‌ التجلّي‌ الذاتيّ، وا لمسمّي‌ لضيق‌ التعبير أحياناً بمقام‌ الذات‌ أوحقيقة‌ الذات‌ أوالاحديّة‌، لانَّ كلّ ما يُكتَب‌ أويقال‌ عبارة‌ عن‌ أسماء، والذات‌ الإلهيّة‌ المقدّسة‌ أرفع‌ مقاماً من‌ ذلك‌، فلا يمكن‌ لايّ اسم‌ أن‌ يطالها أويدرك‌ مقامها، بل‌ هي‌أعلی‌ من‌ هذا العجز، لانَّ العجز هوفي‌ عين‌ السلب‌ والنفي‌ إثبات‌ حدّ، والحقّ تعالي‌ أعلی‌ من‌ الحدّ. فإذا دخل‌ السالك‌ إلی‌ هذا المنزل‌ فاقداً اسمه‌ وذاته‌ عندها لن‌ يعرف‌ نفسه‌ أوأحداً آخر غير الله‌، بل‌ يري‌ الله‌ في‌ ذاته‌ فحسب‌.

 فالسالك‌ يفقد في‌ كلّ واحد من‌ هذه‌ العوالم‌ الاربعة‌ مقداراً من‌ آثار وجوده‌ الخاصّ، حتّي‌ يفقد تمام‌ وجوده‌ وإنّيّته‌.

 ففي‌ العالم‌ الاوّل‌ الذي‌ يصل‌ فيه‌ إلی‌ مقام‌ الفناء في‌ الفعل‌ يفهم‌ أنَّ الفعل‌ لا يصدر منه‌، بل‌ من‌ الله‌، وهنا يفقد تمام‌ آثاره‌ الفعلیّة‌.

 وفي‌ العالم‌ الثاني‌ عندما يصل‌ إلی‌ التجلّي‌ الصفاتيّ يفهم‌ أنَّ العلم‌ والقدرة‌ وسائر الصفات‌ تختصّ وتنحصر بذات‌ الحقّ سبحانه‌ وتعالي‌، وهنا يفقد صفاته‌ ويضيّعها فلا يجدها بعد ذلك‌ في‌ ذاته‌.

 وفي‌ العالم‌ الثالث‌ عندما يحصل‌ التجلّي‌ الاسمائيّ يدرك‌ أنَّ العالِم‌ والقادر هو الله‌ جلَّ جلاله‌، وهنا يضيّع‌ أسماءه‌، فلا يجدها بعد ذلك‌ فيه‌.

 وفي‌ العالم‌ الرابع‌ الذي‌ هوالتجلّي‌ الذاتيّ يضيّع‌ وجوده‌ ويفقد ذاته‌ فلا يجدها بعد ذلك‌ أبداً، فلا ذات‌ سوي‌ ذات‌ الله‌ المقدّسة‌.

 هذه‌ المرحلة‌ من‌ الشهود أي‌ التجلّي‌ الذاتيّ يعبّر عنها العارفون‌ بـ «العنقاء»، لانَّ العنقاء موجود لا يمكن‌ اصطياده‌. وهذه‌ الصفات‌ البحتة‌ والوجود الصرف‌ يعبّر عنه‌ بـ «عالم‌ العمي‌» و«الكنز المخفيّ» و«ذات‌ ما لا اسمَ لَهُ ولا رَسْمَ لَهُ».

 برواين‌ دام‌ بر مرغ‌ دگر نه‌                   كه‌ عنقا را بلند است‌ آشيانه‌ [22]

أشعار حافظ الشیرازی المشیرة إلی مقام ذات غیب الغیوب

 ما أجمل‌ ما ينظمه‌ حافظ‌ الشيرازيّ علیه‌ الرحمة‌ في‌ مثنويّاته‌ مبيّناً هذا الامر باستعاراته‌ اللطيفة‌ :

 الا اي‌ آهوي‌ وحشي‌ كجايي‌                        مرا با توست‌ چندين‌ آشنايي‌

 دوتنها ودوسرگردان‌، دوبي‌كس‌                      دَد ودامت‌ كمين‌ از پيش‌ واز پس‌

 بيا تا حال‌ يكديگر بدانيم‌                              مراد هم‌ بجوييم‌ ار توانيم‌

 چنينم‌ هست‌ ياد از پير دانا                          فراموشم‌ نشد هرگز همانا

 كه‌ روزي‌ رهروي‌ در سرزميني‌                       به‌ لطفش‌ گفت‌ رندي‌ ره‌ نشيني‌

 كه‌ اي‌ سالك‌ چه‌ در انبانه‌ داري‌                     بيا دامي‌ بنه‌ گر دانه‌ داري‌ [23]

 جوابش‌ داد كآري‌ دام‌ دارم‌                            ولي‌ سيمرغ‌ مي‌بايد شكارم‌

 بگفتا چون‌ به‌ دست‌ آري‌ نشانش‌                  كه‌ اوخود بي‌نشانست‌ آشيانش‌

 بگفتا گرچه‌ اين‌ امري‌ محال‌ است‌                   وليكن‌ نااميدي‌ هم‌ وبال‌ است‌

 نكرد آن‌ همدم‌ ديرين‌ مدارا                            مسلمانان‌ مسلمانان‌ خدا را

 مگر خضر مبارك‌ پي‌ تواند                              كه‌ اين‌ تنها بدان‌ تنها رساند [24]

 ومعلوم‌ أنّه‌ إذا لم‌ يكن‌ لعشّ العنقاء أثرٌ أصلاً فكيف‌ يمكن‌ صيدها؟! ولا يمكن‌ ذلك‌ إلاّ بلطف‌ الرحمن‌ الهادي‌ الذي‌ يقود التائهين‌ في‌ وادي‌ المحبّة‌ وعاشقي‌ جماله‌ السرمديّ إلی‌ وادي‌ التوحيد والفناء. نسألك‌ اللهمَّ بحقّ السائرين‌ في‌ وادي‌ المحبّة‌ وحاملي‌ لواء الحمد والمعرفة‌ محمّد المصطفي‌ وعلیّ المرتضي‌ والاحد عشر كوكبا من‌ أبناء فاطمة‌ البتول‌ الزهراء علیهم‌ سلام‌ الله‌ الملك‌ المتعال‌ وَفِّقِ اللَهُمَّ جَمِيعَ المُحِبِّينَ وَإيَّانا لِكُلِّ مَا يُرْضِيكَ وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ.

 بحمد الله‌ ومنّه‌، تمّت‌ هذه‌ الرسالة‌ الشريفة‌ الموسومة‌ ب «رسالة‌ لبّ اللباب‌ في‌ سير وسلوك‌ أُولي‌ الالباب‌» بقلم‌ الفقير الحقير في‌ ليلة‌ الثامن‌ من‌ شهر رمضان‌ المبارك‌، سنة‌ تسع‌ وستّين‌ وثلاثمائة‌ وألف‌ للهجرة‌. وَلَهُ الحَمْدُ فِي‌ الاُولَي‌ والآخِرَةِ، وَآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

 وأَنا الحقير الفقير السيّد محمّد الحسين‌ الحسينيّ الطهرانيّ في‌ بلدة‌ قمّ الطيّبة‌.

 

ارجاعات


[1] ـ الآية‌ 54، من‌ السورة‌ 5 : المائدة‌.

[2] ـ الآية‌ 160، من‌ السورة‌ 3 : آل‌ عمران‌.

[3] ـ الآية‌ 12، من‌ السورة‌ 14 : إبراهيم‌.

[4] ـ الآية‌ 21، من‌ السورة‌ 15 : الحجر.

[5] ـ الآية‌ 22، من‌ السورة‌ 57 : الحديد.

[6] ـ الآية‌ 14، من‌ السورة‌ 40 : غافر.

[7] ـ الآية‌ 30، من‌ السورة‌ 30 : الروم‌.

[8] ـ الآية‌ 48، من‌ السورة‌ 4 : النساء.

[9] ـ يقول‌ : «تعرّف‌ علی‌ قدرك‌ و لا تتحدّث‌ عن‌ الكرامات‌ في‌ حضرة‌ من‌ اتّخذ من‌ البيوت‌ المهجورة‌ سكناً له‌، فإنّ لكلّ مقام‌ مقال‌».

[10] ـ الآية‌ 70، من‌ السورة‌ 6 : الانعام‌.

[11] ـ الآيتان‌ 17 و 18، من‌ السورة‌ 51 : الذاريات‌.

[12] ـ الآية‌ 45، من‌ السورة‌ 2 : البقرة‌.

[13] ـ «التوحيد» للشيخ‌ الصدوق‌، ص‌ 117.

[14] ـ الآية‌ 43، من‌ السورة‌ 16 : النحل‌.

[15] ـ يقول‌ «ألف‌ فخٍّ تحت‌ كلّ خطوة‌ في‌ هذه‌ البسيطة‌ لا يمكن‌ اجتيازها إلاّ لواحد من‌ بين‌ ألف‌ ألف‌ شخص‌».

[16] ـ الآيتان‌ 99 و 100، من‌ السورة‌ 16 : النحل‌.

[17] ـ الآية‌ 201، من‌ السورة‌ 7 : الاعراف‌.

[18] ـ الآية‌ 36، من‌ السورة‌ 43 : الزخرف‌.

[19] ـ الآية‌ 105، من‌ السورة‌ 5 : المائدة‌.

[20] ـ شوشتر ـ وهي‌ (تستر) معرّبة‌ ـ : مدينة‌ عريقة‌ واقعة‌ في‌ الجنوب‌ الغربيّ من‌ إيران‌، قريبة‌ من‌ مدينتي‌ دزفول‌ والاهواز.(م‌)

[21] ـ درجزين‌ : قرية‌ من‌ توابع‌ مدينة‌ همدان‌ الواقعة‌ في‌ الشمال‌ الغربي‌ّ من‌ إيران‌.(م‌)

[22] ـ وترجمته‌ :

 اذهب‌ ضع‌ الشراك‌ لغيرها                         فالعنقاء في‌ الاعالي‌ عشّها.

[23] ـ يقول‌ : «أين‌ أنتِ أيّتها الظبية‌ المستوحشة‌ ؟ فلي‌ بك‌ معرفة‌ قديمة‌.

 كلانا غريب‌ وشريد ووحيد، والوحوش‌ والشراك‌ حاصرتك‌ من‌ جهتين‌.

 فتعالي‌ لكي‌ يشكو كلّ واحد منّا همّه‌ إلی‌ الآخر، ونبحث‌ عن‌ مطلوبنا إذا أمكن‌ ذلك‌.

 فلا أزال‌ أذكر نصيحة‌ لشيخ‌ عارف‌ لا أنساها أبداً، إذ قال‌ لي‌ : إنَّ ماكثاً

 قال‌ لمستطرق‌ يضربه‌ في‌ الارض‌ : ما الذي‌ يحتويه‌ جرابك‌ أيّها الساري‌؟ أقم‌ وانصب‌ شركاً إن‌ كان‌ فيه‌ حبّاً. فأجابه‌: أجل‌؛ عندي‌ شراك‌ ولكن‌ أروم‌ صيد العنقاء.»

[24] ـ فقال‌ : كيف‌ السبيل‌ إلی‌ ذلك‌ مع‌ استحالة‌ الوصول‌ إلی‌ عشّها؟!

 أجابه‌ : مهما كان‌ هذا مستحيلاً غير أنَّ اليأس‌ أشدّ وطأة‌ عَلَيَّ منه‌.

 فلم‌ يستجب‌ لي‌ ذلك‌ الجليس‌ القديم‌، واغوثاه‌ يا مسلمون‌ !

 أفهل‌ يمكن‌ للخضر علیه‌ السلام‌ أن‌ يربط‌ هذه‌ الوحيد الفريد بذلك‌ الاوحد؟».

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی