معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات العلامة الطهراني > سلسلة محاضرات مباني السير و السلوك > المحاضرة الثانية لمباني السير و السلوك

_______________________________________________________________

هو العليم

مباني السير و السلوك إلى الله

المحاضرة الثانية

سماحة العلامة الراحل اية الله الحاج

 السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

_______________________________________________________________

 

أعوذُ بالله منَ الشيطانِ الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنةُ الله على أَعدائِهم أجمَعين

 

شروط السلوك إلى الله

لا بدّ من مراعاة عدّة أمور أثناء السّلوك إلى الله والسير إليه, وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار, أنّه من الممكن اعتبار هذا الطريق من أصعب الأمور وأشدّها على الإنسان, كما ومن جهة ثانية, قد يعدُّ من أسهلها.

 فالأمر الأصعب, إنّما ينشأ من تعلُّق نفسِ الإنسان بكثرات هذا العالم واعتيادها على ذلك, من الشهوة والغفلة, ولون الدنيا ورائحتها, وعلى الإنسان أن يقطع كلّ ذلك للوصول إلى الهداية, وهذا هو الذي يمثّل الصّعوبة.

وأما أنّه الأمر الأسهل, فإنما ينشأ ممّا يعتاد عليه الإنسان ويأنس به, من الكثرات الدنيويّة ومتاعها, والحال أنّ ذلك لا يوجب له السعادة, فهو وبالٌ عليه, وتوغّل في الظلمة, وإيغالٌ به في الأسر والظلمة والسّقم والقلق. فالارتباط بالله والعبور عن ذلك إنما يمثّلان الذهاب إلى عالم الإطلاق, والمضيّ إلى اللطف والرحمة.. هذا مضافاً إلى أنّ الله يأخذ بيده ويعينه, وعليه فمع الارتباط بالله واللجوء إليه سوف يكون الأمرَ الأسهل. لأجل ذلك كان لا بدّ وأن يراعى بعض المسائل, والتي ذُكِرَ بعضُها في رسالة لبّ اللباب, وفي رسالة السّير والسّلوك المنسوبة إلى بحر العلوم, وسوف أبيّن قسماً منها ممّا هو مهمّ.

فهذا الطريق يتطلّبُ محاسبة, ويحتاجُ إلى الذكر, والعبوديّة.. وقد أورد المرحوم الفيض خمساً وعشرين أمراً منها ضمن رسالة لبّ اللباب, وكذلك هي عند السيّد بحر العلوم خمسٌ وعشرون شرطاً, وبعضها مهمّ جداً, ويجب على الإنسان أن يتحلّى ويتجهّز بها دائماً, وإلى آخر مراحل سلوكه, وسوف نستعرضها بإيجاز:

الهمَّة العالية؛ أي يجب أن يتوجّه نظر الإنسان في هذا الطريق إلى الله فقط, ويعمل لله فحسب, ولا يتنازل عنه أبداً, ولا يقنع بغير الله, ولا يعمل لغير الله, فمن يعمل لغير الله سوف لن تستقرَّ نفسه, ولن يرتوي من مردود العمل الذي يقوم به لغير الله, ولا يُشبعه أبداً, لأنّ أجرة الإنسان عبارة عن ذاك الهدف الذي يعمل لأجله, فمثلا لو قام شخص بعمل كي يقال له: أنت عالم, وهذا عالم.. فعلى أيّ مكسب سوف يحصل يوم القيامة! فحينئذ سيقال له: قد قيل عنك في الدنيا كذا وكذا.. ماذا عملت لنا وماذا أحضرت لأجلنا؟! ولو أنّ شخصاً قام بالإنفاق وبذل المال, فيقدّم مثلاً الموائد كي يقال له: هذا الشّخص الفلانيّ من أهل الإنفاق والبذل, يمدُّ يد العون للمستضعفين, هو غنيّ.. نعم قد قيل ذلك, ولكن ماذا عمل لله؟! وأما لو عمل لله, وكان الهدف من هذا العمل هو الله, فماذا سيكون أجره حينئذٍ؟ ذات الله, فما يقعُ طرفاً للمعاوضة بالنسبة للإنسان هو الله لا غير... محبّة الله فقط.. وعشق الله.. وذكر الله {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [1] فإنْ تنازلَ وقَنِعَ بما دون الله, وعملَ لغير الله فسوف لن تشبع نفسه, ولا يُروَى ظمؤه, ولنْ يسدَّ جوعه, ولن يصل إلى هدفه.

   

غاية السالك في عمله هو الله

يجب على السالك أن يعمل لأجل الله, يصلّي.. يصوم.. ينفق.. يقوم بأذكاره... كلّ ذلك فقط لله, لأنّك أنت أمرت, فأنا أقوم به, فأنا عبد.. ويجب عليَّ أن أقوم بالعمل ولا غير, ولا ينبغي أن يكون في قلبي شيء آخر, كأن أعمل لكي أشاهد رؤيا حسنة... نعم, إنْ تزكّت نفسُ الإنسان فسوف تشاهد المنامات الحسنة بالطبع, ولكن ينبغي أن لا يقوم الإنسان بالعمل على أساس هذه النيّة, فيطلب حصول المكاشفة, أو يعمل ليطّلعَ في اليقظة على بعض المعاني, أو يظهرَ له حال معين, ليخبرَ عمّا في أفكار الناس وأذهانهم وخواطرهم, فيقرأ أذهان الناس ونفوسهم: ماذا فعل فلان البارحة؟! وماذا سيفعل غداً؟! أو أنْ يقوم الإنسان بعمل معين, من كيمياء[2] , أو شفاء مريضٍ مّا بإرادة خاصّة, أو تصرّف معيّن في موادّ الموجودات, كأن يهدم جبلاً من خلال إرادة خاصّة, أو يحرّك قطاراً.. أو يجلب كذا.. ويحضر كذا.. وأمثال ذلك, كلّ ذلك خارجٌ عن دائرة السّير والسّلوك, ومخالفٌ لمسلك العرفان وطريق الله, لأنّ جميع هذه الأهداف قليلة ودنيئة, لأنّها ما دون الله, والحال أنّ الغاية في طريق العرفان هي الله, والفناء في ذاته, وهذا هو عرفان الله. افرضوا أنّ إنساناً يسعى ويجاهد نفسه, حتّى استطاع ـ مثلاً ـ أنْ يطّلع على ما يتحدّث به طائرا الحمام (الأنثى والذكر) في حال طيرانهما الآن في الهواء؟ وأمكنه أنْ يخبر بذلك, وكان ما أخبر به صحيحاً.. أو أن يقوم برياضة خاصّة فيدركَ لغة الدجاج (أو منطق الطّيور) ويطّلع عليها اطلاعاً دقيقاً وصحيحاً.
حسناً, أيّ كمال في ذلك بالنّسبة لنفسه وذاته؟! فهو ليس كمالاً لنفس الإنسان, وإنّما هو كسائر الكمالات والعلوم الدنيويّة التي يمتلكها النّاس, هي علوم دنيويّة, فبعضهم مثلاً, يستجمع الأخبار بواسطة هذه الآلات الحديثة من آخر الدنيا, راديو.. رادار.. وما شابه ذلك, وبعضهم أيضاً, من خلال نفوسهم يشرفون على بعض المخلوقات: بماذا تتكلّم هاتان الحمامتان؟ أو ماذا يوجد خلف ذاك الجبل؟ وهو نوع من العلوم وقسم منها, ولا يعدو كونه دنيويّاً ينتهي أمده بالموت, ولا يستوجب للإنسان أيَّ كمالٍ في النشأة التالية وبعد الموت, فلا يوجب له القرّب إلى الله, فالذي يبقى له ليس كمالاً حقيقياً.
جاء أحد المرتاضين إلى حضرة الإمام الصادق عليه السلام, فسأله الإمام: أمسلمٌ أنت؟
قال: لا, لستُ مسلماً, أنا مشرك, ثمّ قال: باستطاعتي أن أخبركم عن الأشياء, ولديَّ إطّلاع على كذا.. وأعلم الغيب.. وشرع يتكلم بذلك.
فقال له الإمام: حسناً, قل لي ماذا في يدي؟
فأخذ يفكّر وقال: هي بيضة للحمامة الفلانية الموجودة خلف الجبل الكذائي في ذاك المكان المعين, فقد جلت جميع الأماكن ورأيت أنّ كلّ شيء ما زال على حاله إلا بيضة الحمام تلك, فعلمت أنّها في يدك.
ففتح حضرتُه يدَه وقال: إنّ ما قلتَه صحيح, ثمّ قال له: كيف وصلتَ إلى هذا المقام؟
فأجاب: بسبب مخالفة النفس. فقال الإمام: أسلم.
أجاب: لا أُسلم. فقال له حضرة الإمام: خالف نفسك في ذلك. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمدا رسول الله. فأغلق الإمام يده ثانية, وسأله: ماذا يوجد في يدي؟ فلم يعرف, ومهما فكّر لم يعُدْ ينكشفُ له شيء.
ففتح الإمام يده وقال: هي تلك البيضة. أنظر..
انتهى كلّ شيء.. فقد وصل الأمر إلى التوحيد, يعني قد وصل من خلال هذا التشهد "أشهد أن لا إله إلا الله" إلى نور الله وارتباط خاص بالله, وأصبحت جميع هذه العلوم بالنسبة لذلك صِفراً, ونُزعَ منه الآن كلّ ما كان بحوزته, لأنّ تلك العلوم والدراسات (والشهادات) كانت لعالم الدنيا, لعالم المادّة, وقد تحمّل المشقّة والمعاناة للحصول عليها, إلا أنّ حقيقته أَدْوَنُ منَ الله, وغير متّصلة بالتوحيد, وأما الآن فهو في تلك النقطة من التوحيد, في ذروة التوحيد, فما يفاض من هناك إلى هنا هو الثمين وهو الباقي
{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ} [3] فالإمام كان قد أخذ البيضة وأبداها بواسطة نور إلهيّ, وعلم ذلك يبقى عند الإمام, ولذلك استطاع أن يحضرها في المرّة الثانية, وبقي على علم وإحاطة بكلّ العالم, ولم يبق هذا العلم عند ذاك المرتاض, لأنّه كان ضالاً في طريقه, وحينما أسلمَ وصل إلى التوحيد.
يجب على الإنسان أن يعمل لله, وينبغي على العبد أن يعمل لسيّده, وليس اختيار العبد بيده, العبد ملك لسيّده, يعمل لله فحسب, وما يعمله لغير الله فإنّ قيمته ذاك الهدف وتلك الغاية, فلو بادر شخصٌ بالسّلام على شخصٍ آخر بقصد أنْ يسلّم ذاك عليه, فإنّ قيمة عمله ذاك السّلام فحسب, وذاك هو أجره, ولا يتوقّع أكثر من ذلك, وأما لو سلَّمَ شخصٌ بنيّة إدخال البهجة والسرور على الآخر, أو افرضوا أنّه دعا له بهذه النيّة, فهو مطلبٌ أرفع وأسمى سواء أجاب السّلام أم لا.
يقوم الإنسان ببعض الأعمال طالباً أنْ يدخله الله الجنّة, فهذا فعلٌ حسنٌ والجنّة جيدة جداً, ولكن لنا أن نسأل: هل الجنّة بنفسها أفضل وأعلى من الله أم أنّها دون الله؟! نعم الجنّة بما هي ظهور الله ومظهرٌ لإرادة الله ومشيئته, فهي تجلٍّ لله, لأنّها مخلوقة له, وآيات الله متجلّية في جميع أحوال الجنّة والله هو الظاهر من خلالها, وهذه الجنّة المعطاة, إنما يقبلها الإنسان لأنّها موضع رضا الله وعنايته وإرادته.. وأما لو عمل الإنسان لأجل الجنّة بما هي موضع لذّة, لأجل حور العين وأمثالها, وكان عمله لأجل ذلك فقط, فإنّ الله يعطيه هذه الجنّة, لأنّه عملَ لأجلها, إلا أنّه لا يستحقّ ما هو أعلى منها, ولا يستطيع أن يقول: إلهي أنا أريد لقاءك أيضاً, ولا يحقّ له أن يسأل ويعترض: إلهي لماذا وضعتني في الجنّة ولم توفّقني إلى لقائك؟ ولم تجعلني في مقام الرضوان
{رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [4] ولماذا لا يصدق هذا عليّ أنا؟ لأنّ الله سيسأله: ما هو هدفُك منْ هذا العمل؟ هل كانَ لأجل حور العين؟ الأشجار؟ جنّات تجري من تحتها الأنهار؟ حسناً, لك ذلك.. كذلك لو عمل الإنسان خوفاً من جهنم, فإنّ الله لا يدخله إيّاها, فلا يدخل جهنّم, لكن ليس من حقّه أن يقول لله يوم القيامة: إلهي.. أنا أريد لقاءك, أريد أن أُحشر في زمرة جُلسائِك, الذين يتحدّثون ويتكلّمون معك, وأكون كليمَ الله... لا, لأنّك لم تعمل لهذا المقام, نعم! كنتَ قد عملت للخلاص من جهنَّم, وهو لك.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: النّاس ثلاث طوائف:
((إنّ قوماً عبدوا الله رغبة, فتلك عبادة التجّار, وإنّ قوماً عبدوا الله رهبة, فتلك عبادة العبيد, وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار))
[5]
فعبوديّة الطامعين بالجنّة هي عبادة التّجار, وعبوديّة الخائفين من جهنّم عبادة العبيد والغلمان الذين إنّما يطيعون لأنّهم يخافون من مولاهم. إلا أنّ هناك فئة من عباد الله, يعبدونه حبّاً له, يريدون الله, نعم هذا لا يعني أنّهم يتحمّلون جهنّم ويحبّونها.. لا أبداً, كما ولا يعني ذلك أنّهم لا يستأنسون بالجنّة ولا يسرّون بها.. لا أبداً, وإنّما كان عملهم وسعيهم لله فحسب, فقلبهم متيقّن بالله مخبتٌ له, مذعنون بأنّ عملنا.. وأجرة عملنا.. ونيّتنا.. واعتقادنا.. لك أنت, إنّا تائهون بك وبحبّك, نحن عبيدك أنت, نعمل لأجلك, إن تُردْ أن تضعنا في جهنّم! أو تضعنا في الجنّة!‍ لا نتدخل.. فأنت وُجْهتُنا ونحن نسير إليك أنت .
ففي عالم العرفان, ينبغي أن يعمل السالك لله, فلا يعملنّ ـ لا سمح الله ـ من أجل مشاهدة رؤيا في نومه!! أو ليتّفق له حصول مكاشفة!! أو ليتحسّن حاله! أو ليحصل على المقامات والدرجات!! كأن يُرتقى به يوم القيامة فيجلس على منبر الوساطة للخلائق, أو يُعطى مقام الشّفاعة, أو أكون مثلاً جليس الملائكة.. كلاّ.. أبداً.. لا مجال لهذا الكلام, عليّ أن أعمل لأجل الله فحسب, وإن يأتِ جبرائيل ويقول للسالك: أيّها السّالك ما الذي تريده؟! أنا أعطيك كلّ ما تريده, وقد أمرني الله أنْ أطوف بك في الجنّة.. أو ما هو أعلى من ذلك.. حينئذٍ ماذا يجب على السالك أن يقول؟ عليه أن يقول: أنا عبدٌ لله, مولاي هو ذات الله, ولا أريد شيئاً سوى الله ولا أختار لنفسي شيئاً.
فإن يقل له ثانية: يريد الله أن يعطيك مقام الشّفاعة, اقبل, واختر ذلك لأعطيك إيّاه! فيجب أنْ يقول: أنا عبدٌ لله, إنْ يعطِ فَمِنْهُ, وإن لم يعطِ فله الاختيار, أمّا أنا فلا أقوم بأي اختيارٍ مقابل الله, ولا أختار مقام الشفاعة الكبرى لنفسي مقابل الله ومقابل اختيار الله!! لا أبداً.. بل عليّ أن لا أقوم بفعل ذلك أبداً.
يأتي جبرائيل ويقول: أجعلك ترتزقُ بدون صعوبة ولا تعب, ودون أي كلفة أو مشقّة, فالله يرزقك مباشرة.. هل تريد ذلك؟! وهنا, إن يقبل الإنسان ويقول: نعم, فإنّ الله يعطيه ما يشاء, وبهذا تنتهي المسألة ويتمّ الأمر.

  

قصة المرحوم القاضي مع الميرزا إبراهيم عرب


كان المرحوم القاضي ـ رحمة الله عليه ـ من كبار العرفاء والأساتذة, وكان من نوادر القرن, وكانَ أحدُ تلامذته اسمه الميرزا إبراهيم عرب يأتي إليه.. وكان عربياً يسكن في الكاظميّة, وكان يأخذ منه برنامجاً ثم يذهب, وقد وفّق للقائه الأوّل حينما كان المرحوم القاضي يذهبُ مشياً جانب الشاطئ, من مسجد الكوفة إلى مسجد السهلة ـ فالمرحوم القاضي كان مداوماً على الذهاب إلى مسجد السهلة حيث كان يبقى فيه ليالي متتالية يقضيها في العبادة ـ وكان المرحوم القاضي آنذاك كبيراً في السنّ, فكان يمشي جانب الشطّ بهدوء وسكينة, وكان الميرزا إبراهيم عرب يلتقي به ويلتمس منه دستور العمل ويطلب منه.. ويتردّد عليه.. وكان يقول: قد أَتينا بأنفسنا إلى محضركم الشّريف, لنأخذ الدستور وكذا وكذا, كما وأنّه كان من المجدّين كثيراً, وقد روّض نفسه وجاهدها, وكان قد تتلمذ عند بعض أساتذة العرفان من قبل, ولكن! لكنّه كان صفر اليدين.. إلى أنْ وصل إلى هذا الأستاذ العظيم مؤمِّلاً بمشيئة الله أن ينفتح الباب أمامه وتنفرج الأمور, ويصل إلى ذالك الهدف, ويدرك حقيقة العرفان, ويبلغ حاقّ توحيد الله, يعني إنّ كلّ هذه المدارج والمراحل التي يجتازها الإنسان إنّما هي مقدمة لذاك الهدف.
وذات مرّة كان يمشي مع المرحوم القاضي جانب الشاطئ حتى وصلا إلى مسجد السهلة, فقال له المرحوم القاضي: أخبرني ما هو شغلك؟
فأجاب: لا عمل لديّ. فسأله ثانية: لمَ لا تشتغل؟
فأجاب: لأنّي أحصلُ على كلّ ما أريده في لحظة واحدة, فما إن أطلب الشيء حتّى يتحقّق ويكون جاهزاً مباشرة, أنظرْ كيفَ سيخرجُ من الماء سمكة الآن! وما إن قال جملته هذه, حتّى خرجت سمكة من الماء مباشرة, فكلّ شيء نريده يتحقق لنا بهذا الشّكل...
إلا أنّ المرحوم القاضي لم يتكلّم بشيء, حتّى انقضى حديثهم بوصولهم إلى مسجد السهلة, ثمّ بعد أن أعطى المرحوم القاضي الدستورات والتعاليم للميرزا إبراهيم قال له: يجب عليك أن تعمل, فالشّغلُ والعمل أحدُ تعاليم الإسلام, وعليك أن تعمل.
ومن ذاك الحين لم يعدْ للمرحوم الحاجّ ميرزا إبراهيم عرب شيء من تلك الأحوال, فلم يعد يحصل له ما يريد.. ولم تعد السمكة تطلع من الماء.. وإن أراد قمحاً أو أراد خبزاً أو ماءً.. فلا شيء يتحقّق أبداً, انتهى الأمر وانقضى, فالمرحوم القاضي سلب منه في نفس ذاك المجلس ما كان لديه.
فهل تنبّهتم!! ذلك لأنّه يريد أن يأتي إلى صراط التوحيد.
ماذا يعني صراط التوحيد؟ يعني العبوديّة, أن يصير عبداً, عبداً لله, فما معنى أن أريد سمكة!! أو أريد دجاجة!! أو غير ذلك من الأطعمة وغيرها.. أو أنْ لا أعمل.. فما معنى ذلك؟! يجب على العبد أن يتنبّه ويقول: ماذا أمرني مولاي؟ ماذا قال النّبي؟ وإنْ تحضر أمامه جميع موائد الدنيا وأصناف أطعمتها, فإنّه بإرادة واحدة ثابتة يقول: أنا حاضرٌ أنْ آكل الخبز والخلّ, لأنّ الله قال ذلك, ينبغي أن يقول: إنّي أحمل المعول على كتفي, وأذهب مثل أمير المؤمنين, فأشقّ مجرى للماء, وأغرس فسائل البلح, لأنّ مولاي راض بذلك, وحقيقة المسألة من هذا الباب, والحالات التي يمتلكها أولياء الله موجودة بشكل أشدّ وأقوى عند النّبي والأئمّة الأطهار وأمير المؤمنين, فإنّهم وبإرادة واحدة قاهرة يُحيُون ويتصرّفون.. ومع ذلك كيف كان أمير المؤمنين عليه السلام يحمل المحراث بيده, ويذهب إلى بستان النّخيل ويغرس فسائل البلح ويشقّ القناة, وكان يعرَقُ ويتعب وغير ذلك.. ألم يستطع من خلال إرادة واحدة أن يفعل مثل الميرزا إبراهيم عرب! ليُخرج إلى الشاطئ سمكة فيقليها ويأكلها! فبحوزة هؤلاء قدراتٌ هائلة لا يمتلك شيئاً منها مائة ألف شخص أمثال الحاج الميرزا إبراهيم عرب, ولا بدّ لمن يطلب الوصول إلى مقام التوحيد أن يتجاوز عن هذه المسائل, والمرحوم القاضي حينما أعطى الميرزا إبراهيم الدستورات وأدخله عالم التوحيد, أخذ منه هذه الأمور, فقد كان يمتلك الكثير من هذه الحالات العجيبة, وكذلك كان لديه حالات توحيديّة أيضاً. وأنا لمْ أرَ الحاج ميرزا إبراهيم عرب, فقد توفي في ذاك الزمان الذي كنّا فيه في النّجف, توفّي بالكهرباء في الكاظميّة, حيث كانوا يعلّقون بعض الزينة في الشارع أمام دكانه, فتوفي بسبب اتصال كهربائيّ.. وكان رجلاً عظيماً ممّن كانوا قد وصلوا إلى عالم التوحيد.
فلا بدّ في عالم العرفان, والسير والسلوك, أن يكون العمل لله, سواء شاهد الإنسان رؤيا أم لم يشاهد, ولا يتوجّه إلى ذلك ولا يسعى إليه, وإن ظهرت مكاشفة, فالله هو الذي أعطى, وأمّا لو لم يُعطِ, فلا يتعقّبها ولا يطلبها, فما يعطيه الله من نفسه هو المهم والمثمر, لا الذي يطلبه الإنسان!!
فمن بداية الطريق لا بدّ وأنْ ننحّي طلبَ غير الله جانباً, فالرؤيا التي يراها الإنسان من تلقاء نفسه وبدون سابق تفكير هي الرؤية النافعة, إذ أنّ الاتصال بالأرواح المجرّدة والالتقاء بها أمر مفيد, كما وأنّ مشاهدة عالم الأنوار أمر حسن, لكن بشرط أن لا يطلبها الإنسان ولا يسعى نحوها, وإنّما يقدّمها الله له بذاته, فهذا هو الشيء القيّم والنّافع.
وعليه, ينبغي من بداية الطريق حتّى نهايته, أنْ لا يكون في فكر السّالك غير الله, ولا يعملنّ لغير الله, ولا يجعلَ شبيهاً لله, ولا يُبْدِلَ عمله وهدفه بما دون الله, وإن انكشف له شيءٌ أثناء سيره, فهو.. وإن لم يظهر شيئاً, فلا ضير.. إذْ ليست المكاشفة ميزاناً للقرب, ولا عدمها دليلٌ على البعد, فعلامة القرب هي التوجّه إلى الله, والتوجّه إلى ذكر الله, والورود في حرم الله, وعلامة البعد هي عدم الرغبة في العبوديّة, وعدم الشّوق إلى ذكر الله وعدم التوجّه إليه, وعدم الاعتناء بالكثرات والأمور الشهوانيّة, والغفلة عن الله والإعراض عنه, وحبّ الجاه والمال والرياسة, أو الشّغف بتلك الأنوار العليا النورانيّة وأمثالها التي تعتبر حجباً نورانيّة, فكلّ ذلك يفنى, ويبقى الله ولا غير, هذا هو علامة القرب.
ولذا ورد في الدعاء:
((اللهمّ ارزقني التّجافي عنْ دارِ الغرور, والإنابةَ إلى دارِ الخلود والاستعدادَ للموت قبلَ نُزوله))
[6]
فعلامة صحّة الطريق أنْ يتأمّل الإنسان في أعماق نفسه, ويبحث وينظر ما إذا كان توجّهه منصبّاً على ذاك العالم ومتوجّهاً إليه, إلى عالم الحقيقة والواقع, إلى عالم النّور, إلى عالم الطّهارة, إلى عالم الصدق, إلى عالم الخلوص, ثمّ يراقب نفسه هل هي معرضة عن دار الغرور والاعتبارات والأوهام؟ هل يرى من نفسه عدم الاعتناء بالخواطر والأفكار التي لا طائل منها؟! سواء النّزاعات الفرديّة والخصومات أم الصّراعات النفسيّة وحبّ التغلّب على الآخرين, فهذا يكسر ذاك, وذاك يطحنُ هذا, أو ليصيرَ مقام فلانٍ أعلى, أو ذاك يصير أعلى.. أو أنّ فلاناً يجمع من المال أكثر من ذاك.. وما شابه هذا الكلام, ممّا لا ينقطع عن الإنسان إلا بموته, فينبغي أن لا يفكّر في شيء من ذلك.
علامة صحّة الطريق هي أن يزداد اهتمام الإنسان بذاك العالم, ويتنحّى عن هذا العالم, ويهجره تدريجيّاً حتى يكون قبل الموت مستعدّاً, أي يكون قد سار إلى عالم المجرّدات, وتحرّك نحو عالم القدس, وأدرك عالم الخلوص قبل نزول الموت, هذا هو علامة صحّة الطريق, وحينئذٍ لا فرقَ بين أن يكون لدى الإنسان أثاثٌ وسجادٌ أم لا.. فليس وجود ذلك مضراً, ولا عدم وجوده مفيدا.
بل المسألة تتجاوز ذلك, لينتهي الأمر بالإنسان إلى بلوغه رتبة العبوديّة لله, فمثلاً, السجّاد إنّما يوضع على الأرض, ولا يدخل إلى قلب الإنسان وتفكيره, وأمّا لو صار موضع السجّادة هو القلب بأنْ صار الإنسان متعلّقاً به قلبيّاً, فحينئذٍ تكون حبائل هذا السجّاد قد أحاطت بالقلب وأغلقته, فهذا بلاء ومصيبة, والمشكلة تبرز هنا, سواء امتلكها أم لا, بل حتى ولو جلس على الحصير, فالمهمّ هو أن لا يكون في قلبه حبّ ذلك السجّاد, فلا يرى أيّ تعلق أو اعتناء به في قلبه, لأنّ حقيقة ذلك جهنّم. وأما لو كان بحوزته سجّادة ولكنّها لم تُلقِ بحبالها على قلبه, ولم يتعلّق بها, وإنّما يجلس عليها لأنّ الله أراد منه ذلك, لأنّه إن يجلس مثلاً على سجّادة وضيعة جداً أو حصير عاديّ, فسوف يظهر للنّاس بمظهر الزاهد, وحينئذ يُعنوِنُه النّاس بالزّاهد وينعتوه بذلك حسبَ عرفهِم وعاداتهم, ويؤول الأمر إلى منحه صفة التقديس.. والحال أنّه يجب على الإنسان أن يعتدلَ بالنسبة للأعراف والرسوم والعادات, فلا يغرق بها ولا يتوغّل فيها, وكذلك لا يهمل, ليكونَ ممّن يشارُ إليه بالبَنان, ويقال: أنظرْ إلى ذاك الزاهد!! وإنّما عليه أن يمنع كلام النّاس ويقوم بتكليفه وبرنامجه, وحينئذٍ ينتفي الضّرر.
فلا مانع من أن يكون لديه منزل يرفع من خلاله حاجته واحتياجات عياله, ويرتاح من قلق الإيجار ويستقرّ باله, فكلّ ذلك حسابات إلهيّة, غير شيطانيّة ولا نفسانيّة, وأمّا لو كان لدى الإنسان سجّادة مثلاً, أو كان يمتلك جبلاً, لكنّه يعتدّ به ويحسِبُ له في قلبه حساباً, وحينما يأتي الأمر الإلهي: أنفقْ وأعطِ.. لا يحتمِل الإنفاق, أو اعمل كذا.. فلا يعمل, تماماً كأحد الدراويش حيث كان يحبّ عصاه أو الصّرة التي كان يحملها, فهي حجاب بينه وبين الله, لأنّ نفس هذه العصا ونفس هذا الكيس حجاب. وأمّا لو كان شخصٌ يسكنُ في روضةٍ قربَ جدولٍ من الماء.. إلا أنّ قلبه غير ملتفت إلى ذلك أصلاً, فلا ضرر في ذلك.
فالعرفان مسألة دقيقة ولطيفة وظريفة وتحتاج إلى براعة, ولا يمكن أن يحصل لدى الإنسان عرفان من خِلالِ التوهّم والتخيّل والتصنّع, وإنّما العرفان متقوّم بالحقّ والواقعيّة, لأنّ وجهة السير فيه, هي الحقّ, فهو يُخرجُ كلّ الأوهام والخرافات, ويطردُ الشوائب والإضافات, ويزيل الاعتبارات الدنيئة والتقيّدات الضيّقة ويحرقها, ليتحرّك الإنسان إلى عالم رفيع, إلى تفكير رفيع المستوى, إلى نيّة راقية.. إلى صراطٍ عال جليل, هذا هو أثر العرفان.
فعلى الإنسان أن يتنبّه إلى أنّ الإطاعة مختصّة بالله, وعلينا أن نشكر الله على ذلك ونخرّ له ساجدين حينما ننهض من الفراش ونقول: >الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور< فنشكره أنْ بعثنا وأحيانا ثانية لنسير ونسلك إليه. >الحمد لله الذي ردّ عليَّ روحي لأحمده وأعبده< فلأيّ شيء رجوعي من الموت واستيقاظي من نومي ثانية؟ "لأحمده وأعبده", فالعبادة لله, وأيّ عمل يقوم به السّالك ليس لنفسه وإنّما هو لأجل الله, وهذه المسألة مهمّة جداً.

  

الاستقامة والتحمّل والصبر في السير إلى الله

من الشرائط الأخرى الهامّة جدّاً واللازمة للسلوك, والتي لا بدّ للسالك أن يضعها نصب عينيه: الاستقامة والتحمّل والصبر, أي تحمّل المصاعب والمشاكل المعقّدة, والصّبر على الأمور المزعِجة غير الملائمة, فيصبر عليها صبراً جميلا, لأنّ وجهة السير في هذا الطريق هو الله, ومن الواضح أنّ أيّ طريقٍ يريد الإنسان سلوكه, سوف يواجه فيه موانع ومصاعب.. موانع متعبة, طويلة الأمد, تماماً كهذه الطرق التي نسلكها في هذا العالم, فلو أراد شخصٌ أن يجتاز مسافة, ثم واجَهَ طريقاً وعراً, أو نهراً, أو خندقاً, فإن قال: لا أستطيع العبور! سيبقى في مكانه؛ مثلاً, من يريد الذهاب إلى مكّة, عليه أن يعبر النّهر ويجتاز الخندق, وعليه أن يزيل الموانع, ولا بدّ وأن يتحلّى بالهمّة العالية حتى يتسنّى له العبور وطيّ المسافة.
وطريق "السير والسلوك" مشتملٌ على موانع كثيرة, أكثر منها في الطّرق والمقاصد العاديّة الدنيويّة, ويرجع ذلك إلى طبيعة المعدّات, والشرائط اللازمة لاجتياز الطّريق, وكذلك كيفيّة رفع الموانع, فإنّها في عالم الدنيا معلومة واضحة, ومنسجمة مع النفس الإنسانيّة إلى حدّ لا يُعيرُ لها الإنسان كثيرَ أهميّة, فيتجاوزُها غير مكترث بها, وأمّا بالنسبة للسير الأخرويّ, فبما أنّه غير مأنوس للنّفس, سوف يكتسب شيئاً من الصّعوبة, وهذا هو السبب الحقيقيّ ليس أكثر, فمن باب المثال, إذا أراد شخص أن يتخصّص طبيباً, من الطبيعي جداً أنّه سيواجه موانع عديدة, وعليه أن يحطّم هذه الموانع ويكسرها, لا بدّ وأن يَتَغَرَّب, ويتحمّل الأذى والبلاء, لتنزل به ألف مصيبة, ويواجه عوائق عديدة, وحينما يريدُ أن يطالعَ ويقرأ ليلاً, عليه أن يهجر الراحة, ولا يفكّر بأيّ نزهة أو ترويح عن النّفس, ويترك كلّ ذلك جانباً, وبعد ترك كلّ الموانع, يمكنه أن يتوجّه إلى المطالعة.
وعليه, فبلوغ هذا الهدف متوقّفٌ على الحلم والصّبر والتحمّل. وكذلك من يريد أن يصير سلطاناً وحاكماً على الأرض, فإنّ الآلاف من العقبات والمشاكل تنتظره, فلا تظنّ أن هؤلاء السلاطين ورؤساء الجمهوريات قد بلغوا ما هم فيه براحة وسهولة, فقد بذلوا ألفَ مهجة لذلك, وألفَ سفرٍ بحريّ وبرّي, وكثيراً ما يجعلون أنفسهم تحت وطأةِ الفراعنة ورغباتهم, وقد يكلّفهم ذلك الائتلاف مع العدوّ أحياناً, كل ذلك كي يتسنّى لهم تجاوزَ بعضِ المِحن, أو تحصيل مقاماتهم التي يبغونها.
والأمر كذلك بالنسبة لطريق الله, فهو عبورٌ عن النّفس واجتياز للحجب الظلمانيّة والنورانيّة؛ فالحجب الظلمانيّة هي مثلُ حبّ الرياسة والبخل والحسد والعداوة والحقد, وسائر الصفات الرذيلة الكامنة في النّفس, من حبّ الجاه والاعتبارات.. فهي بأجمعها أمورٌ ظلمانيّة.
وأما الحجب النورانيّة, فهي مثلاً, كما لو كان على الإنسان أن يعبر عن مقام حور العين, وعليه أن يتجاوز المقامات الأخرويّة ويعبر عنها, ليحلّق عالياً, ويجعل هدفه وغايته الله, فلو أعطوه هناك شيئاً ثمّ لم يستطع اجتيازه, فسوف يظلُّ عالقاً عنده وماكثاً فيه.
هناك مسألة لعلها ذُكرتْ في كتاب "الشّمس الساطعة", فيما حصل للعلاّمة الطباطبائي حينما كان في مسجد الكوفة مشغولاً بالذكر, فأتته إحدى حور العين.. نعم كان حدثاً عجيباً, فحور العين قد جاءت لأجله.
سؤال(من أحد المستمعين): ألم يكن الگلبايگاني؟! الجواب(العلامة الطهراني): لا! حدث ذلك في مسجد الكوفة للعلامة الطباطبائي نفسه.
سؤال: نعم, نعم! ولكن السيد الگلبايگاني في.....
الجواب(العلامة): للسيد الگلبايگاني, نعم.. ذاك حصل لـ..[7] نعم فقد رأى أنّه كان في رابية ومسبح, كان هناك جمعٌ من الفتيات كنّ قد جلسنَ حوله, إلا أنّه علم أنّه لو توجّه إليهنّ, فسوف يكون ذاك مقامه ويتوقّف هناك وينتهي الأمر, والحال أنّ هذه الحوريّات حلال زلال له, فهي له بدون أيّ شبهة.. ملكٌ مطلق بالنسبة إليه, إلا أنّ وظيفتها أن توصله إلى مقامٍ أعلى, فهي تمثّل هناك معهد تأهيل, والتكليف في هذا الصفّ الدراسي هو العبور, فعليك أن تشاهد, وترى, ثم يجب أن تعبر وتجتاز, وإلا فسوف تبقى, ولا بدّ من العبور والتجاوز إذاً, لذلك قال رحمه الله: إنّ بقائي هنا في هذه الرابية حرام عليّ, يعني ذلك ممنوع, لأنّي إنْ أنشغل بذلك فسوف أبقى في هذا الحال, لذلك قال: عليّ أن أترك هذه الرابية, وكلامه هذا صحيح ومتين جداً, ومن فضل الله عليه أن خرج, وإلا لبقيَ في تلك المرحلة.
ومثله ما حَدثَ مع العلامة الطباطبائي, حينما أتتْ إليه حور العين, حيث كانت قد تأثّرت كثيراً من عدم اكتراثه بها, وعدم اعتنائه بها, فصارت تأتيه من هذا الجانب ثمّ من ذاك, محاولةً استجلابَ اهتمامه, وكان يقول: كلمّا أتذكّر حالَ تلك الحوريّة كيف أنّها ذهبت وغادرت وتنحّت بانكسار, يحترق قلبي, لأنّي أنا الذي أحزنتها, إلا أنّه لا سبيل آخر أمامي, فأستاذي أمرني (أنّه حينما تكون متوجهاً إلى الله, عليك أن لا تلتفتَ إلى غير الله) فمن باب المثال: حينما يكون مشتغلاً بالصلاة, وهو متوجّه إلى الله, فإن كان هناك امرأة جميلة, أجمل امرأة في العالم مثلاً, ويقولون له: هذه حلال عليك, وهي زوجة لك, فانظر إليها, انظر إلى جمالها ـ علماً أنّ بإمكانه النّظر في حال الصلاة؟! نعم ـ من الطبيعي أنّه من خلال ذلك, سوف يفقد توجّهه أثناء الصلاة, وأمّا لو فرضنا أنه مستغرق في التوجه إلى الله, ثمّ في تلك اللحظة واجهته هذه المكاشفة, وخطرت على ذهنه وهو في حال الصلاة, فرأى واحدة من حور العين, ففي هذا الحال هل يمكنه أن يلتفت إلى هذه الحوريّة!! أم أنّه سيرى ذلك من الله! فهو من خلال توجهه إلى الله يكون متوجّهاً إلى ما هو أجلى وأسمى, فالخلوة مع الله لحظة واحدة أثمن من حور العين بآلاف المرّات, فكلّ حسنهنّ منه هو, جمالهنّ منه, كمالهنّ.. كلّ ذلك ظهورٌ له, فهو خلاّق جميل الصّنع, وخالق الكمال.
فالسّالك يريد الوصول إلى ذروة ذاك الجبل. وإن واجه شيئاً في سفح الجبل, كأن يرى رابية خضراء, ويشتهي المكوث فيها, ولكي يصعد قليلا إلى الأعلى, فعليه أن يتحرّك ويسير ليبلغ قمّة التوحيد, والحال أنّ الوصول إلى هذا المرتفع الشّاهق صعب ومعقّد, فعلى الإنسان أن يتحمّل البرد, ويصبر على الحرارة, ولا بد وأن يجهّز نفسه ويأخذ العصا ويحملها بيده, ويهيّئ الزاد والرّاحلة.. ثمّ مع كلّ ذلك سوف يقولون له: إلى أين ذاهب أنت؟! أيّ عمل هذا الذي تقوم به؟! لماذا صرت زاهداً؟! عزيزنا, بإمكانك أن تكون كسائر الرؤساء الآخرين.. فافعل ذلك!! واترك كذا وكذا.. ألا تهتمّ بنفسك؟! أما تستجلب السرور والراحة لنفسك؟!
فأنت ما زلت في سنّ الشباب, تعالَ وشارك في هذا المؤتمر, وفي تلك الجلسة, كي تتغلّب على الخصم وتهزمَ الطّرف الآخر! فهو أقلّ منك مقاماً, وأوضعُ منك درجة, أو إنّ فلاناً يمتلك قصراً صيفياً وآخر شتوياً.. أو إنّ فلاناً يمتلك سيّارة.. فها هي الفرص أمامك, وقد سنحت لك الآن أن تمتلك عين ذلك!! وهنا يأتي الشيطان ويوسوس له, فإنْ رضي الإنسان بذلك وعزم عليه, فسوف يبقى عالقاً في هذه الأمور وسوف يتوقف. وأمّا من يريد السّير إلى قمّة الجبل, ولا يقدرُ على اصطحاب شيء معه, حتى السّجادة الصغيرة, فعليه أنْ يَتَخلّى عن حمل الراديو والتلفزيون, ويلقيها في الحفيرة أرضاً, لأنّه لا يقدر على حمل شيء من ذلك.. عليه أن يخفّف وزن نفسه, فيقال: إنّ لباس الأفراد الجبليّين خفيفة جداًً, يرتدون أخفّ الأحذية, ولا يحملون الطعام معهم, وإنّما يتناولون شيئاً من السّكاكر أو بعضَ حبّات التمر, وحينما يشعر أحدهم بالجوع يأكل حبة تمر كي يتقوّى وينشط, وإلا فلو أراد هذا المتسلِّق أن يصطحب معه المرق والحساء ويحمل الحَجَلَ المشويّ أو طائر الدرّاج المشويّ أو الدجاج.. فسوف لن يستطيع أن يتجاوز شيئاً من مسيره..
كذلك الأمر بالنسبة للتوحيد, حيث سيواجه مصاعب كثيرة ومشاكل متعدّدة, وعلى الإنسان أن يرفعها بالتوفيق الإلهيّ, من خلال الهمّة العالية, فلا بدّ وأن يمتلك همّة عالية, ويذلّل جميع المصاعب ويرفع كلّ الموانع بالتوكّل على الله والتوسّل بالأئمّة عليهم السلام, سيّما التوسل بحضرة إمام الزمان, حضرة الإمام المهديّ عجّل الله تعالى فرجه الشريف, صاحب مقام الولاية الكليّة الإلهيّة لحضرة الحقّ, الذي يمثّل الواسطة في الفيض بين الله والعباد في جميع الأزمان والأحوال, وفي الخلاء والملأ والنّوم واليقظة, فمن خلال التوكّل على الله والتوسّل به وبالأئمّة ترتفع جميعها.
مثلاً, يأتي زيد من النّاس ويقول: حضرة فلان! تعالَ نذهب هذا المساء إلى المجلس الفلانيّ.. نشارك في ذاك المجلس وتلك "القعدة" أو إلى هنا أو هناك.. نعم ذلك ليس حراماً, فهو ليس محرّم جزماً, بل هو حلال, ولكنّه لا ينفع, ما هو نفع ذلك؟! فهل هو إلا إتلاف للعمر!! ولذلك فإنّ عليه أن يقول حينئذ: عزيزي, اعتذر عن الذهاب, فأنا مشغول, لديّ ما يمنعني عن الذهاب إلى تلك الجلسة.. لا أستطيع الذهاب.. فيعود ذاك الشخص مجدداً ويقول: لمَ أنت راقد لا تخرج, وكأنك غبتَ في سجدة طويلة, كأنّك صرت صوفياً! لا تكوننّ قد شرعت بالمراودة معهم!!
فيا عجباً! هل صارت السجدة الطويلة من شعائر الصوفيين؟! بل حتى ولو فرضنا أنّ هؤلاء الصوفيين المخالفين قد قاموا بالسجود الطويل لله, فهنيئاً لهم على ذلك, فالسجدة الطويلة هي للإمام موسى بن جعفر علهيما السلام.. السجدة الطويلة لحضرة السّجاد عليه السلام.. السجدة الطويلة هي لحضرة أمير المؤمنين عليه السلام.. هل أنّ تلك الحالات والصلوات والعبادات.. هل أنّ كلّ ذلك أساطير وخرافة؟! أم أنّها لنا لنقتدي بهم ونحذو حذوهم؟! فما الذّي يقومُ به الأئمّة؟! ماذا يعني ذلك؟! إذن, وظيفة هذا السالك متابعة كلِّ من يريد أن يتحققّ بالحقّ تعالى ويصفّي قلبه ويطهّر نفسه.. ويشرعَ بإصلاحها.. ويؤوب عائداً إلى نفسه.. ويقرّب ذاته من هؤلاء العظماء ويقتدي بهم, وما إنْ يشرعَ حتى يثبَ هؤلاء الأفراد أمامه, ويقطعوا أمامه الطريق, ويعجزّوه ويوقفوه؛ ويشرعون بالكيل عليه, فيا للعجب! بحوزة هذا الشّخص سجّادة صلاة!! إنّه يتطهّر!! هو صوفيّ! يطيلُ سجوده!! لديه بعض الأذكار!! مواظبٌ على قراءتها! أصبح قليل الكلام!! صار كئيباً!! لماذا صار كذلك؟!
عزيزي, دعْ عنك ذلك, فأنت لا تدري ما الذي يختلج في قلب هذا السّالك! ماذا في قلبه! حسناً, لتبقَ أنت مشغولاً بما تحبّ, وابقَ حبيسَ جميعِ هذه القيود التي اصطنعتَها لنفسك! وتحمّل هذه المشقّات من الصباح إلى الغروب! وجميع الأعمال الدنيويّة لا تتعدّى ذلك, أمّا أنا فإني أحسُّ بالألم من داخلي وأشعر باللوعة في أعماقي, وألمي هو الله, ولن يسكن خاطري ما لم أصل إليه, ولا علمَ لك بما يشتعل في قلبي! وإلا لكنت ساكتاً مثلي, فأنا لستُ متصنّعاً بصمتي هذا, وإنّما هو من أثر تلك الغصّة.. وذاك الغمّ والحزن الكامن في قلبي.. تلك الشّرارة الملتهبة في قلبي قد أحرقت وجودي, ولا تدعني آتي إلى المجالس المألوفة بالنسبة لكم.. وأذاكر معكم.. وأقهقه معكم.. وأمزح معكم.. وأغتاب هذا.. وأغتاب ذاك.. وأسيء لهذا.. أو أُداهن.. فأمجّد وأُثني وأراوغ وأتملّق.. لا, أنا لا أقدر على فعل مثل ذلك.. قولوا فيّ ما تشاءون, فأنا لا أقدر..
وهذا يحتاج إلى الصبر والثبات, والمُضيِّ على هذا المنوال قُدماً, وبالتدريج يتمكّن من تجاوز هذه العقبة, وإلا فلو لم يتحلّ الإنسان بالأناة والصبر, فسيلفّه البلاء من كلّ صوب, وسوف يُنتقد, ويَواجه الكلام السّيئ والإهانة, كما ولعله يسمعُ مدحاً في غير محلّه, فعلى الإنسان أن يطرح كلّ ذلك جانباً, لأنّه إن يدخل هذا المديح إلى قلبه فسيكون مانعاً آخر, وعليه أن يصبر وأنْ لا يصغِ إلى ذلك, ويقول: مسيري هو الله, والمدح لا ينفعني بشيء, فلأُنتقد أيضاً, فلا يهمّ, وليقل: إنّي أعمل لله, وحينما يرضى الله, فلا ضير أبداً فلْتنتقدوا ولتعترضوا..
ومن الطبيعي أنّه على الإنسان أن لا يتخاصم مع النّاس ولايتحدّى, وإنّما يمشي في طريقه
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً } [8] فعباد الله ليسوا عبيد الشهوة والغفلة, ولا يتوجّهون إلى عبادة شيء غير الله, فهم عباده هو, ومن علامات هؤلاء, أنّ أسلوبهم وطريقة معاملتهم ليّنةٌ وسهلة.. يمشون بهدوء.. وإن يعترضهم الجاهلون أو يواجهوهم بالكلام, يقابلونهم بشكل هادئ وسهل, ويتجاوزون الموقف بسلامة, مع المحفاظة على صحّة عملهم ورزانته, نعم!! افرضوا أنّ شخصاً يمشي في الطريق جانب الحائط, وصادفه كلبٌ وعوى عليه, فهل يذهب إليه أحدٌ ويتحدّث معه ويقول: عزيزي!! أيّها الكلب, لماذا تواجهني هكذا؟! ينبغي أن لا تقابلني بهذه الأعمال فأنا لا أبغضك..!!
على الإنسان أن ينجزَ فعله ويعبُر بسرعة, ولا يُوقعنّ نفسه في زمرة الجاهلين, يجادل.. يصرخ ويصيح.. يتعدّى ويعتدي.. ويشرع بالاستدلال على أنّ مسيره كذا وكذا!! نعم, تارة يكون للإنسان مع هؤلاء بحث ومباحثة, بحيث ينفعهم, ويقرّبهم من الله, ويريهم الطريق, فلا بأس حينئذ؛ وأمّا الجاهلون الذين يريدون أن يجرّوا الإنسان إلى بوتقتهم.. ويريدون أن يُدخلوا النّاس في دائرة أفكارهم.. يريدون أنْ يجعلوا النّاس مثلهم, ونحن نعلمُ كما يشهد عليه أهل الخبرة أنّه حينما تعثر الكلاب على جيفة تجتمع عليها, وتشرع بالتخاصم والعواء, كلٌ يريد أخذَ قسمه الأكبر, فيتخاصمون فيما بينهم, ولكنْ حينما يرون شخصاً يمشي في الطريق أمامهم, يحملون عليه حملة واحدة جميعهم. وما ذلك إلا لأنّ اجتماعهم على أكل الجيفة منطبق مع إرادة كلّ الكلاب وهدفهم, فيتخاصمون فيما بينهم, وأمّا نباحهم على ذاك الشّخص, فهو لأنّه مخالفٌ لمسلكهم, فيشترك الجميع في العواء والهجوم عليه.. لمَ كنتَ إنساناً؟‍ لمَ أنتَ مخالفٌ لمَرامنا؟‍! لمَ أنت أرفع منّا؟! فيتّفقون على أكلهم الجيفة ويتنافسون على ذلك, فلا مشكلة عندهم مع أيّ شخص آخر حينئذ!! وأما فيما لو واجهوا إنساناً فإنّهم يحملون عليه حملةً واحدة, لمَ أنت إنسان؟!
كذلك هؤلاء الأشخاص الجاهلون, إنْ تتكلّم مع أيّ أحدٍ منهم, تجده كما قال أمير المؤمنين, فمن لم يسلك إلى الله ولم يتّخذ إليه سبيلا, فهو كما قال أمير المؤمنين عليه السلام:
النّاس ثلاث: عالمٌ ربّاني, ومتعلمٌ على سبيلِ النَّجاة, وهَمجٌ رُعاع
[9]
يريدون أن يوقعوا الإنسان في دائرتهم, وفحوى كلامهم وغاية مرادهم أن يقولوا: تعال إلينا وامشِ معنا! تعالَ وشاركنا في نمط تفكيرنا! تعالَ واركب نزعاتنا وأهواءنا! تعالَ وأدِنْ بعقائدنا! اختلط معنا وعاشرنا! صِرْ واحداً منّا!! ولو يسلّم الإنسان نفسه آناً واحداً, يقطّعوه كالبعير قطعةً قطعة, فعلى المؤمن أنْ يثبُتَ في مكانَه, متسلّحاً بالإيمان وبالتوكّل على الله, فالمؤمن كالجبل الراسخ, لا تحرّكه العواصف
[10], فباستطاعة الريّاح أن تحرك الأشجار وتزعزعها, كما وبإمكانها زحزحة الصفائح الحديديّة, أو تخريب المنازل.. ولكن هل طَرقَ سمعَكم أنّ زوبعةً عاتيةً, أو أنّ أشدّ الرياح العاصفة, سواء البريّة أم السماويّة وغيرها قد هزّت يوماً جبلاً من الجبال!! المؤمن كذلك, كالجبل الراسخ, إنْ عصفت به الأمور يظلّ كالجبل الراسخ, لا يمكنُ تحريكه ولا هزّه, حتى وإنْ كانت الزوبعة كالفيضانات الشديدة, فهو سائر على صراط الحقّ, يتسلّحُ خلال مسيره بقوّة الحقّ, قد وازنَ الأمور وحدّدها في قلبه ووجدانه, وعرفَ وجهة سيره, وشخّص الطّريق, يقابلُ كلّ ما يواجهه من العواصف التي تردُ على قلبه, ويواجه كلّ هذه الأفكار والتخيّلات والدعوات المنكبّة عليه, ويصمد أمامها, ويعلم في مكنون نفسه أنّ كلّ ذلك خطأ وزلل, ويعلم أنّه لو ركن إلى شيء منها فسوف يصير محروماً صفر اليدين, ويعرف أنّ نتيجة تلك الدعوة إلى المكان الفلاني ليقضيَ فيه ساعة, هو ضياع ساعة من عمره, بل لا يقف الأمر عند ضياع السّاعة فحسب, وإنّما هو ضياع للنّفس وللروح التي انحرفت نحو ذاك المسلك, فيجب عليّ أن أكون في صراط الإيمان وأتحرّك فيه, وحينئذ أكون من الموفقّين. هناك قصّة جميلة جداً, يذكرها "الشيخ العطّار" في كتابه "منطق الطّير", فمنطق الطير يمثّل مجموعةً من الحكايات, حيث يذكر:
تجمّعَ الطّيور من كلّ أرجاء الدنيا واجتمعوا سويّاً, وعزموا على البحث عن طائر الـ"سيمرغ"
[11] واللقاء به والوصول إليه.. وقالوا فيما بينهم: إنّ الجميعَ يلهجُ بذكر الـ"سيمرغ", والحال أنّنا لم نره قطّ.. فتعالوا.. تعالوا نعثرُ على الـ"سيمرغ"..فقال نصفهم: ما هذا الهُراء؟! لو كان هناك "سيمرغ" لكانَ قد شوهِدَ على الأقل, والحال أنّه لم يتّفق لأحدٍ أنْ رآه من قبل.. فهو أسطورة خرافيّة, وخيالٌ واهم.. عَمّا تبحثون!! أَقلِعوا عن هذا الهراء.. ودعوا هذه الأفكار الفاسدة.. فنحن غيرُ مستعدّين لسلوك طريقٍ كهذا.. ولسنا من أهل هذا الممشى, ولن نسلك فيه..
ثمّ تابع البقيّة السّير والبحث, محلّقين في السّماء, يتتبّعونَ أثرَ "سيمرغ", حتى مرّوا برابية خضراء, في وسطها عينٌ زلال, تنبع وتفور.. فحنّ إليها عدّة منهم, وما كان منهم إلا أنْ هبطوا من السّماء.. وجلسوا حول فوّارة النّبع, ومن حولهم الأعشاب والعَلَف و... أقاموا فيها يفكهون.. وافترقوا عن الآخرين الذين تابعوا السّير واستمرّوا في البحث, حتّى أدركوا شاطئ مستنقعٍ عميق.. فيه ماء آسن نتن, فهبط جمعٌ منهم كالبطّ مثلاً وحطّوا هناك.. ثمّ تابعَ البقيّة سيرهم.. فحطّت الإوز في مكان آخر.. وصار الكثير منهم يحطّ رحاله في المكان الذي يروق له, ويتلهّى بتلكَ الجيف, ويتوقّفَ عن المسير..
وقد عدّد "الشيخ العطار" في كتابه أصنافاً كثيرة من الطيور, كانت قد توقّفت عن الطيران والتحليق, وآثرت البقاء هنا أو هناك.
إلا أنّ جمعاً منهم كانوا قد استمرّوا بالسير قدماً, غير عابئين بمن تخلّف.. وكانت الشمس حارّة محرقة, والصيف يشتعل لهيباً.. فقالوا: إنّ سفرنا طويل وبعيد.. ومحفوف بالمخاطر من كلّ جانب.. وقد تغلّب الخوف علينا وملأ قلوبنا.. وإنْ نمضِ في سيرنا هذا فسوف نهلك ونموت.. فما كان منهم إلا أن هبطوا من الأعلى, ولم يبقى في السّماءِ إلا القليل منهم.
فبقيَ منهم ثلاثون طائراً فقط, ممّن شدّوا العزم على مواصلة البحث.. فمضَوا محلّقين في أعالي السماء.. وراحوا يبحثون.. ثم راحوا.. وراحوا.. وراحوا.. حتى بلغوا قمّة جبل "قاف", لِما كانوا قد سمعوا أنّ جبلَ "قاف" هو محلّ إقامة الـ"سيمرغ", فهبطوا على قمّته.. وأخذوا يبحثون.. علّهم يجدون الـ"سيمرغ".. فبحثوا هنا وهناك.. إلى أنْ التفتوا إلى شيءٍ عجيبٍ جداً!! وتنبّهوا إلى أنّ عددهم ثلاثون طائراً.. فها قدْ وَجَدَ الـ"سيمرغ"
[12] الـ"سيمرغ"[13] وبدا لهم أنّ حقيقة الـ"سيمرغ" هي عين ذاتهم وغيُر خارجة عنهم.
يعني إذا أردت الوصولَ إلى الله, فعليكَ أنْ تجدَ نفسك, وهنا يكمن خطؤنا, فنحن لم نعتنِ بأنفسنا, وقلّلنا من أهمّيتها, فلم نعرف ذاتنا, ولم نتوجّه إلى معرفة النّفس, لنرى ما هي حقيقة نفسنا. فكم ذهبنا إلى طلب العلوم من الخارج! حتّى صار هذا دكتوراً, وذاك فيزيائياً, وآخر كيميائياً, وفلان مهندساً, وذاك عالماً, وهذا ـ من باب المثال ـ صار مفسراً, أو محدّثاً, أو فقيهاً.. ولكن كلّ ذلك دون العرفان!
فما هي حقيقة علومنا إذاً؟ إنّها علومٌ خارجيّة أجنبيّة عن النّفس, فلم يذهب أحدٌ إلى البحث عن نفسه, ولم يسأل عن حقيقة ذاته, من أنا؟ ما هي حقيقة نفسي؟ هل علمتُ حقيقة ذاتي؟! لا بدّ لي من معرفة نفسي أولاً, وحينما يُصبحُ مستغنياً عن معرفة نفسه, يتوجّه إلى المعارف الخارجيّة, وله ذلك حينئذ, ومبروك عليه. وأمّا الآن فلا حول لي ولا قوة, إنّي عاجزٌ عن معرفة نفسي فـ [منْ عَرِفَ نَفسه فقدْ عَرِفَ رَبَّه]
[14], هذا الحديث من الأحاديث النفيسة التي وردتنا, وهو يحتوي على أدلّة كثيرة وشواهد عجيبة وغريبة, وهو يبيّن أنّه على الإنسان أنْ يجدَ الله في ذاته, لأنّ سرّ الله في ذات الإنسان, أي إنّ لله معيّة مع ذات الإنسان {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [15] فاذهبوا واعثروا على أنفسكم وابحثوا عنها, حتّى تلقوا الله وتجدوه وتصلوا إليه, فالـ"سيمرغ" موجودٌ غير خارج عن حقيقتنا, لذلك فسوف لن يُرى, ولم يُرَ, وغير قابلٍ للرؤيا كذلك, وكما ذُكر فإنّ حقيقة الـ"سيمرغ" هي تلك الـ"سيمرغ", وما عليكم ألا أن تتجاوزوا تلك المراحل.. وتعبروا عن هذه الشهوات.. فاهجروا الغفلة.. واتركوا هذه الينابيع.. والمياه.. والمهانة في الوحل والحياض الآسنة.. والجيَف.. اتركوا جميع ذلك حتّى يُتاح لكم الوصول إلى ذاك الـ"سيمرغ".
وما ذكر إشارة أيضاً إلى ضرورة أنْ يتحلّى الإنسان بالهمّة العالية, مثل أولئك الطيور الثلاثين, حيث قالوا: يجب علينا أن نذهب ونسير, وأن نجتهد ونبحث, فلا نُخدعنّ بتلك الينابيع, ولا بتلك المياه والعيون, فمثلاً كانت مجموعة الحمام ـ والتي تتشابه وتشترك عادة في رغباتها ـ قدْ حطّ قسمٌ منها وتوقّف عن السير, لكنّ الآخرين تابعوا مسيرهم ولم ينخدعوا.. فهم كالإنسان من ناحية الشرف والمقام.. لم ينخدعوا أبداً.. وتابعوا السير قدماً بجدّ وعزم.. جاعلين هدفهم ألا وهو الـ"سيمرغ" نصبَ أعينهم.. قائلين في أنفسهم: إلى متى سنبقى في الجهالة والجهل؟! ومهما كانت الشمس تحرقهم وتُلهبهم.. لم يعبأوا بها.. وساروا.. وساروا.. حتّى بلغوا الهدف.
هذه الحكاية لطيفة جدّاً, وهي تجسِّم للإنسان حقيقة معنى قوله تعالى
{نسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [16] وكلّ ذلك يرجع إلى مسألة [من عرف نفسه فقد عرف ربه] والتي لو عكسناها إلى عكس النّقيض ـ حسب الاصطلاح المنطقيّ ـ سوف تُنتجُ معنى الآية القرآنيّة {نسُوا اللَّهَ}, فأنساهم الله أنفسهم.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ من لم ينسَ نفسه, ويبقى متوجّهاً إلى نفسه حتّى صارَ عارفاً بها بصيراً بخفاياها, فسيكون دائمَ الذِّكر لله ولقاء الله ومعرفته.
فمن أيّ شيءٍ تنشأُ معرفة الله؟ تنشأُ من معرفة الإنسان نفسه, وجميع هذه السبل التي ذكرت في الشريعة المطّهرة, هي لأجل إرساء هذه الحقيقة وتحقيقها, والتي ترجع في آخر المطاف إلى تنقية الإنسان وتطهيره, ولأجل ذلك نقول: العمل المقبول هو ما كان لله, ونقصدُ بـ لله, هو أن لا يكون في العمل أيّ غرضٍ أو نقصٍ أو نيّة أخرى, أو رياء أو شيء آخر, وإنما يكون لله فحسب, والإتيان بالعمل على هذا الوجه هو ما يوجب تطهير الإنسان وتنقيته, وبالتالي إدراك الهدف والوصول إلى الـ"سيمرغ", فإنْ تُرِدْ أنْ تصلّي! فابتغْ بها تطهير نفسك, أو تُرِدْ الصّيام! فلأجل طهارة النّفس, أنفقْ لأجل تطهير نفسك, يعني, ألم يستطعْ الله أن يغني جميع فقراء الدنيا؟! فلماذا يأمرنا بهذه المشقّات! وتحمّل المتاعب والكدّ والعرق وطلب الكسب.. ثمّ إعطاء خمسه! فكلّ ذلك بغية التطهير, فالعطاء تطهيرٌ للنفس, لأنّ الإنسان مرتبطٌ بالمال ومتعلّقٌ به, والإنفاق لأجل الله ـ لا لغير الله! ـ ولله فحسب, يوجب تزكية النفس وطهارتها, ويقرّب الإنسان من الله..
أليس بمقدور الله أنْ يُلغي بإرادته استحباب القيام ليلاً!! حيث القيام في وسط الليل.. في الشتاء البارد.. يتوضّأ ويصلّي ركعتين لله.. إلا أنّه مع ذلك قد أمر بالقيام, وما ذلك إلا لتتطهّر النفس, وترتفع خباثتها ويزول دنسها, وحينئذٍ ينكشف له دفعة واحدة, واقعيّة كلّ ما كانوا يقولون له, ممّا كان يتصوره خيالاً ووهماً, من القيامة ولقاء الله, وسائر الأمور الروحيّة والمعنويّة.. يكتشف له أنّه كلّ ذلك كان صحيحاً.


 

[1] ـ سورة الرعد الآية 28.

[2] ـ نوع من التصرّف بالأشياء من خلال تبديل ماهيّاتها, كتبديل الفضّة ذهباً.. وذلك من خلال التصرّف بجوهرها.

[3] ـ سورة النحل الآية 96.

[4] ـ سورة المائدة, قسم من الآية 119.

[5] ـ نهج البلاغة شرح الشيخ محمد عبده, دار المعرفة بيروت, الجزء الرابع صفحة 53. وتحف العقول لابن شعبة الحراني صفحة 246, الناشر مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين.

[6] ـ كنز العمال, المتقي الهندي 1: 76 طباعة مؤسسة الرسالة بيروت, لبنان.

[7] ـ هكذا جاء في كلام المرحوم العلامة رضوان الله عليه, وقد عمدنا في ترجمة المحاضرة الصوتيّة إلى نقلها وترجمتها كما هي دون أي تصرّف أو تغيير ـ المترجم.

[8] ـ سورة الفرقان الآية 63.

[9] ـ تحف العقول, ابن شعبة الحرّاني ـ صفحة 169, مؤسسة النشر الإسلاميّ لجماعة المدرّسين, الطبعة الثانية.

[10]ـ إشارة إلى الحديث الشريف المرويّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله (المؤمن كالجبل لا تحرّكه العواصف) أصول الكافي 9: 181 شرح المولى محمد صالح المازندراني.

[11] ـ من المهمّ ذكره أنّ كتاب منطق الطير مكتوبٌ باللغة الفارسيّة ومنها تُرجم إلى سائر اللغات, و كلمة " سيمرغ" في الفارسيّة تعني ثلاثين طائراً, فهي مرّكبة من لفظي "سي" أي ثلاثين, و"مرغ" أي طائر, وكذلك هي كناية عن الطّائر المعشوق الذي يبحث عنه هؤلاء الطيور في القصّة, ولا يخفى أنّ المؤلفَ  الشيخ "فريد الدين العطّار النيسابوري" قد أبدعَ في استفادته من المعنيين لكلمة "سيمرغ" لإفادة إشارات أدبيّة بليغة ـ المترجم.

[12] ـ أي الثلاثون طائرا ـ المترجم.

[13] ـ أي الطائر المعشوق ـ المترجم.

[14] ـ ورد هذا الحديث الشريف في مصادر كثيرة منها:  شرح كلمات أمير المؤمنين صفحة 9, كمال الدين ميثم بن علي ميثم البحراني, وكذا كتاب الصراط المستقيم, زين الدين أبي محمد علي بن يونس العاملي1: 156الناشر المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية, وكذلك عوالي اللآلي, ابن أبي جمهور الأحسائي 1: 54 مطبعة سيّد الشهداء قم, وكذا الجواهر السنية للحر العاملي صفحة 116 الناشر مكتبة المفيد قم, وكذلك بحار الأنوار العلامة المجلسي 2: 32 الناشر مؤسسة الوفاء بيروت, وكذا نور البراهين للسيد نعمة الله الجزائري 1: 93 الناشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة.

[15] ـ سورة الحديد, قسم من الآية 4.

[16] ـ سورة الحشر, قسم من الآية 19.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی