معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات العلامة الطهراني > سلسلة محاضرات مباني السير و السلوك > المحاضرة الثالثة لمباني السير و السلوك

_______________________________________________________________

هو العليم

مباني السير  و السلوك إلى الله 

المحاضرة الثالثة

سماحة العلامة الراحل

 آية الله الحاج السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

_______________________________________________________________

 

أعوذُ بالله منَ الشيطانِ الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنةُ الله على أَعدائِهم أجمَعين

 

من الأمور الهامّة جداً في السير والسلوك, والتي ما يزال علماء الأخلاق يوصون تلاميذهم بها من المرحلة الأولى حتّى الآخر كتمانُ السِّر.
السّر هو ما يقابل العلن, السرّ يعني ما ليس بظاهر, أي الشيء المخفيّ, فالشيء الذي لا يكون علنيّاً في طريق السير والسلوك ومدّخراُ, هو الأمر الإلهيّ بالطبع, أو الحال النفسانيّ, أو الهدف الذي لم يظهره الله للجميع, إلاّ أنّه أظهره لهذا الشخص, فهذا الشخص هو الواجد لهذا الحال دون الآخرين, وإفشاء ذلك لا يجوز, ولا بدّ أن يحتفظ به.

           

1ـ مراحل کتمان السّر

حينئذٍ, سيكون في كلّ مرحلة وفي كلّ منزلة سرٌ خاص بها, مثلاً: في المراحل العاديّة يكون للإنسان رتبة عاديّة من الإيمان والتقوى والإسلام, وحينما يجلس مع المؤمنين والمسلمين يقول: أنا مسلم, أنا مؤمن, وأنا متّقي, أنا موالي, لكنّه في بعض الأحيان فيما لو كان في الأوساط السنّية لا يستطيع أن يقول: أنا موالٍ لأمير المؤمنين, لأنّ ذلك يعتبر أمراً كبيراً بالنسبة إليهم.
وأمّا بين المؤمنين الذين يمتلكون إيماناً وقدرة على ذلك, فلو تكلّم السالك عن مطلب, وكان له نورانيّة خاصّة أو انكشف له بعض ذلك واتّضح له, فلا يحقّ له أن يبوح به لأيٍّ من الآخرين, لأنّ ذلك موهبة إلهيّة له, وإفشاؤه للآخرين له تبعات وخيمة, أمّا لو صرّحَ به للأفراد المساوين معه في الرتبة وفي نفس الدرجة, فلا إشكال حينئذٍ, لأنّ إظهاره حينئذٍ ليس كشفاً للسّر, فهو أمرٌ مفهوم ومعلوم للطرف الآخر أيضاً.
ثمّ بعد أن يتقدّم إلى المراحل الأعلى, سوف ينكشف له مطالب أعلى, وحينئذٍ سوف لا يكون هناك إلا أفراداً معدودين ممّن يستطيعون أن يشاركوه هذا التفكير ويدركوا حقيقة تلك المطالب, فبيان ذلك لخصوص هؤلاء لا إشكال فيه.
وذلك حتّى يصل إلى حدٍّ, يبلغ حرم الله ومقام الوصل ولقاء الله, أي في مقام الدخول في حرم الأمن والأمان الإلهيّ, وهناك! لا يحقّ له أن يبوح بذلك لغير الذات الأقدس, لأنّه كشفٌ للسرّ, فذاك المقام حرم, وهو سرّ الإنسان وسريرته أيضاً, فهناك ذات حضرة الحقّ المقدّس, وينبغي أن لا يُرسلَ لسانه هناك ولا يفتحه أبداً! لأنّ الكلام هناك هو نوعٌ من الإبراز والظهور, والحال أنّه مقامٌ وحرم.. فليس مقامَ الإبراز والظهور, وليس مقامَ الإفصاح باللسان.. هناكَ عالم الذات, فذاته هي المطّلعة على ذاته وهي العالمة بذاتها.
وكشفُ السرّ هناك, يعرّضه لغضب الله ومقته, لأنّ ذلك حرم.. حرم الأمن.. وهو طريق.. طريق العشق, طريق المحبّة, إذ من المحال أن يُطوى هذا الطريق بدون العشق والمحبّة, وشعار العشق والمحبّة كتم أسراره المكنونة داخل الحرم, وعدم إفشائها خارجاً.
لاحظوا فيما نراه من العشق المجازيّ , تجدون مثلاً: أنّه عندما يُبرز العاشق السرّ الذي بينه و بين معشوقه إلى الغير , يكون قد ارتكب أكبر المعاصي , بل هي معصية لا تساوَى مع ذنب, ولا يقاس إليها معصية بالنسبة لمعشوقه, فقدْ جِئتَ و أبرزتَ ذلك السرّ إلى الآخرين. فكلّ ذنبٍ يُغفرُ إلا الإعراض عنّي. فهذا السرّ الذي أفشيته للآخرين هو إعراض عن ذلك المقام وتوجّه إلى الآخرين.. إعراضٌ عن مقام الوصال و الوحدة و المحبّة والإخلاص و الوداد و الأحديّة معي, وذهبتَ و راجعتَ الغير, وهو حقيقة الذنب.. هو ذنبٌ لا يغفر.
و لذا فإنّ الله غيور. وقد قال النبيّ في رواية: إنّ سعداً لغيور وأنا أغيرُ من سعد والله أغيرُ منّي, ومن غَيرته حرّم الفواحشَ ما ظهرَ منها و ما بطن[1] فسعدٌ (سعد بن معاذ) كانَ رجلاً غيوراً, وقد نقل عنه حكايات في كتب التاريخ فيما يتعلّق بذلك.
فالفواحش هي الأعمال القبيحة , الأعمال التي يجب أن لا تظهر , وتحريمه لما ظهرَ منها وما بطن إنّما هو لأجل كونه غيوراً, يكره القبائح, وهذه الأمور قد أخفاها الله , فالله العليّ الأعلى أخفى ما يجب أن يخفيه, وهو ناتج عن غيرته.
فالأسرار التي بين العبد و بين الله, المتعلّقة بالعلاقة القائمة بين العبد وبين الله, لو أبرزها الإنسان للآخرين, فإنّ الغيرة الإلهيّة لا تسمح بذلك ولن ترضى به وهو ما يقتضي إبعاده وتبعيده.

       

2ـ أسوأ نتيجة لإفشاء السرّ هي الاستدراج

وحينئذٍ فما هي الآفّة التي سوفَ يتعرّض لها هذا الشخص المسكين المطرود من الله؟ سوف يَعرض له أكبر آفّة و أكبر بلاء. ما هو ذلك البلاء؟ هو الاستدراج , أي قليلاً قليلا, بحيث لا يدركُ ذلك ولا يلتفت, بل تدريجيّاً, يندحر به إلى الأسفل.. درجةً درجة, حتّى يصلَ إلى درجة الانحطاط.. ويدركَ أسفلَ سافلين. فقد بُحتُ لك بأمرٍ خاصّ, وذلك من منطلق مقام الإخلاص والاتحاد, فكشفتُ لك حالاً معيّناً.. وأقمتُ بيني وبينك علاقة وارتباطاً خاصّاً.. ثمّ رحتَ وأفشيتَ السرّ فيما بيننا!! ذلك السرّ الخاصّ بيننا.. الذي لا ينبغي لأحدٍ غيرنا أنْ يطّلع عليه! وقلبُكَ ووجدانك يعرفُ أنّ ذلك سرّ بيني وبينك!!
سؤال: لو أفشاه إلى من هو في رتبته؟ لأنّ,,,
الجواب: نعم, نعم نعم! المقصود هو الغير, فمن هو في نفس رتبته لا يُعدّ غيراً, فلا يصدق عنوان الغيريّة.
سؤال: أيصدرُ ذلك ممّن وصلَ إلى مقام حرم الله؟!
الجواب: نعم, فهو قد أباحَ السرّ وأفشاه, وحينئذٍ يستدرجه الله, والاستدراج يعني الهبوط والتسافل ولكنْ بشكلٍ تدريجيّ, حتّى يصلَ إلى الحضيض والانحطاط, وهي أكبر المصائب وأعظم الابتلاءات, إذ لو كان في حالة السقوط العادي, لأمكنه أن يلتفتَ إلى معصيته وطرده, ويتوجّه إلى الله ويطلب التوبة والغفران؛ ويقول: إلهي أنا عصيت, إلهي أنا اشتبهت, إلهي أرجعني وتب عليّ! وأمّا لو لم يكن يشعر بأنّه هبطَ إلى الأسفل, فهو غيرُ ملتفتٍ إلى ما حَلّ به من البلاء, لأنّه هَبَطَ بشكلٍ تدريجيّ وغير محسوس بالنسبة له.
ففي السير والسلوك يظهر للإنسان حالات متعدّدة, أي في كلّ مرتبة يطويها و في كلّ منزل يجتازه, سوف يكون له في تلك المرتبة و في ذلك المنزل حال خاصّ, ويكون لديه توجه معيّن.. ولديه إخلاص.. عنده خلوص.. عنده توجّه إلى الله.. عنده إعراض و ابتعاد عن غير الله.. وقلبه متصل بالله.. ولديه عشق بالله.
واجعلْ قلبي بحبّك متيّما [2] فأمير المؤمنين يقول: اجعل قلبي متحيّراً تائهاً بك, اجعلني مذهولاً بك, اجعل قلبي متحيّراً و والهاً و مغرماً في محبّتك.. وهو حال من الأحوال, وسوف تتكوّن لدى الإنسان مدركاتٌ فكريّة تبتني على أساس هذا الحال الذي يمتلكه, فمثلاً, لكلّ مرحلة حالاتها الخاصّة بها, والإنسان يعرف ذلك ويشعرُ بلوازم تلك المنزلة وخصوصيّاتها, وحينما يُفشي الإنسان السرّ, ويستدرجه الله ويُنزلُه, فسوف يُسلبُ منه حاله بالتدريج, إلاّ أنّ مدركاته الفكريّة تلك تبقى لديه, وذلك إنّما يتمّ درجةً درجةً, فلا يتمّ بأنْ تسلبُ منه أفكاره ومدركاته.. وهذا ما يؤدّي إلى أنْ يظلّ يتوهّم أنّه مازالَ حائزاً على تلك الآثار والخصوصيّات, فحينما يشاهد هذه الأفكار المتبقّية من تلك المراحل والحالات, يتخيّل أنّها مازالت على حالها باقية, والحال أنّه فاقدٌ لحالِه ذاك, ولمْ يبقَ سوى بعض التصوّرات والتخيّلات الذهنيّة, فالأساس هو ذاك الحال الذي فقده, فذاك الحال يعني: الخلوص, والانجذاب والانشداد, والإعراض عن الدنيا, وعشق الله, والمحبّة, فتبدأ تبردُ العلاقة وتفتر رويداً رويداً وتتنزّل, فيبدأ يعاشر الأفراد الآخرين.. ويمكن ـ لا قدّرَ الله ـ أن يشرع بالمعصية, ويبدأ يسخّف ويقلّل من شأنِ لقاء الله وقداسته.. وينال من العرفان.. فيقول: ليس السلوك سوى بعض الجلسات المشتملة على شيءٍ من الحرارة والشوق الظاهريّ.. وجلسات ليليّة.. لا واقعيّة له وراء ذلك.. ولا يمثّل العرفان إلاّ هذه العاطفة والحرارة الاعتباريّة.. فلا واقعيّة له.
وحينئذٍ يصبحُ قلبه أسيراً للدنيا, وحيثُ إنّه كان قدْ سار وسلك قليلاً, وحصلَ على بعض القوى واشتدّتْ قوّته قليلاً, فيشرع في الاستفادة من ذلك لأغراضه ومآربه الدنيويّة.
فقد أخذَ القوّة من الله, ثمّ يذهب ويصرفها في طريق الشيطان, فهو ما زال يحتفظ بتلك المدركات العلميّة, فيتصوّر نفسه أنّه وليّ الله! أو يخال نفسه أنّه عارف! ويتوّهم أنّه وصلَ إلى ذلك بالشهود والوجدان.. وفلان وفلان! والحال أنّ هذا المسكين لا يدري أنّه صفر اليدين, وأنّه سُلبَ منه كلّ ما لديه من الحالات, وأنّه مسرور وفرحان ببقايا تلك الصوَر الذهنيّة, إلى أن يبلغَ ساعة موته وتركه الدنيا, فيقول الله له: إنّك كنتَ توصل المطالب إلى الآخرين! لماذا أبرزتَ سرّي للآخرين؟!

        

3ـ الآثار السّلبية لکشف السّر

فكشفُ السرّ للآخرين له مضارّ كثيرة:
أـ سدّ الطّريق أمام الآخرين:
أولاً: يقول الله له: لستَ أنتَ مخلوقي الوحيد! فالناس كلّهم خلقٌ لي, و قد أفشيتَ سرّي إلى الآخرين, فسددتَ طريقهم, لأنّ المفروض أنّها سرّ وأنت تعلم ذلك, وذاك الشخص لا يستطيع هضمَ هذا الأمر ولا يقدر على تفهّمه! فإنْ تخبره بذلك يتزعزع ويضعف, ولا يقبل, ويبرد إيمانه بالدين ويفتر, وتضعفُ علاقته بي, وإنْ كانَ له سبيل وطريق فقد سددته بواسطة هذا الإفشاء, وأغلقت الباب أمامه.
لذلك, يلاحظُ أنّ الأفراد الذين يكشفون السرّ, كأنْ يُبرزون حالاً معيّناً, أو مكاشفةً ما, أو يتحدّثون عن رؤيا, أو كرامة ينقلونها عن أنفسهم للآخرين, في مجلسٍ أمام الآخرين, ثمّ لا يقبلونها هؤلاء, فذلك يستعقب الفتور والتشدّد والتصلّب في المجلس! وما ذلك إلاّ لأنّ الأمر لم يطرح في محلّه, ولم يقعدِ الموضوع في مكانه, بل أثّر على قلوبهم بشكلٍ معكوس, وأوجب لهم الفتور, وأغلق عليهم باب الوصول إلى الله.
فإنْ يكن لديك كمال, فليبقَ لك, فما الذي تريده من الناس؟! فالله يقول: هؤلاء العباد هم عبيدي أنا, فلعلّ التوفيق يشملهم ويصبحون مثلك يوماً مّا, وعليك أنْ تأخذَ بأيديهم وتستجلبهم إلى الطريق رويداً رويداً, لا أنْ تكشف السرّ أمامهم دفعةً واحدة!! وتحمّلهم ما هو خارجٌ عن طاقتهم وسعتهم من المعاني والحقائق!
يقول حضرةُ الإمام جعفر الصادق عليه السلام لـ "عبدِ العزيز القراطيسي": يا عبد العزيز! إنّ للإيمان عشرَ درجات بمنزلة السلَّم, يُصعدُ منه مرقاةً بعدَ مِرقاة [3] فلا يمكنُ للإنسان أنْ يرفع نفسه إلى الأعلى دفعة واحدة, ولا يمكنه أن يتجاوز أكثر من درجة أو درجتين أو ثلاث.. فحينما تريد أن تضيف على إيمان غيرك وترفعه وتتقدّم به إلى الأمام, فسوف لن تستطيع أن تعطيه إيّاه دفعة واحدة, وإنّما يحصل ذلك بواسطة التدرّج, وإلاّ...! تكون قد كسرته, كمن يريد رفع شخص آخر إلى الأعلى بواسطة السلّم دون مراعاة الترتيب في درجاته! فسوف يوقعه من الأعلى ويكسر عظمه.
لذلك يقول الإمام: كلّ من ينكسر عظمه بسببك, وإنّ عليك تجبيره.. عليك أن تجبّره حتّى يلتئم, فقد أضعتَ هذا العبد المسكين, وحمّلته ما لا يطيق, ووضعتَ في عهدته ما هو زائد عن استعداده فكسرته, وعليك ديّته, ديّته النفسيّة, وسيكون جبران المسألة على عهدتك.
فرافق الناس بهدوء, وارفعهم واستجلبهم تدريجيّاً, شيئاً فشيئاً.. ذرّة ذرّة.. علّمهم.. دعهم يحيطون بالمسائل ويتعلّمون, وبعدَ ذلك تشرع بمطلبٍ آخر, فتظهر لهم أمراً من الأمور, ثمّ تشرع بمطلبٍ آخر, فإيمانهم متفاوتٌ وله درجاتٌ ومراحل, تماماً مثل الطعام, فمنْ يأكلُ شيئاً عليه أنْ يهضمه أوّلاً, ولو أدخلَ عليه طعاماً آخر لأُصيبَ بالتُّخمة, ولصارَ نفس الطعام سبباً لهلاكه, ولكن لو فهم المطلبَ, وقبِلَه, وهَضَمَه, فسوفَ يمكنُه فهمَ مسألة أخرى, سواء كانت مسألة علميّة أم عمليّة, وسوف لن يقدرَ على تفهّم أيّ مطلبٍ جديد أو مقام أو درجة أو صفّ آخر.. ما لم يتجاوز المرحلة السابقة.
كلّ ذلك يرجع إلى مسألة كتم السرّ, فيجب كتم الأسرار والاحتفاظ بها في النفس, ولا بدّ من معاشرة الناس على أساس المراعاة والمماشاة والأخذ بأيديهم بهدوء.. هذا.

ب ـ الإبتلاء بالعجب
ومن جهة ثانية: فإنْ تُظهر ما أعطاك الله للآخرين, فسوف يوجب ذلك العجبَ في نفسك, لأنّ الإنسان لم يتجاوز عالم النفس بعد, فهو ما زال يمشي ويسعى للوصول إلى حرم الله, فلو كان متّصلاً بحرم الله, فكلّ ما يفعله هو فعل الله, وليس فعلَ نفسه. وأمّا لو لم يكنْ تجاوزَ نفسه بعد, ثمّ يبيّن حالاته ومشاهداته, فتصبحُ النفس مغرورةً من تلقاء نفسها وبلا إرادة, وعلى الإنسان أن يأمنَ من كيد النفس.
فهذه الكمالات التي لديه ليستْ له, وإنّما هي من الله, قد أعطاه إياها, لا أنّها جاءت من نفسه هو!
فالكمال الذي يعطيه الله إيّاه, لا بدّ وأن يبقى في طريق الله, نعم, لو كان من تلقاء نفسك فمبروك عليك!! افعل به ما تشاء! ولكن الله هو الذي أعطاك...
فتأتي وتبيّنه..! وحينئذٍ فمع عدم بلوغه مرحلة الطهارة الذاتيّة, سوف تصاب النفس بالعجُب, العجب يعني تكبير النفس وتعظيم الذات, فيرى الأمور من نفسه فيعظّمها, وهو خطرٌ كبير جدّاً, لأنّ طريق العرفان والسلوك إنّما هو في الطرف المقابل من العجب, وضدّ العجب.
السلوك هكذا؛ انظروا! السلوك هو أن يضعّف نفسه على الدوام, يعني يضَعِّف نفسه!! كلّ يوم تضعف النفس, يضعفها.. يضعفها, ومهما ينظر إلى نفسه يقول: أنا لست شيئاً, وإنّما هو الله, ففي بادئ الأمر يتخيّل أنّه شيء عظيم, عالم.. قادر.. قدير.. حيّ.. مُدرِك.. فعّال.. هذا عملي.. وهذا علمي.. وهذا عملي أيضاً.. هذا منّي.. هو قدْ قلّلَ من شأنيّتي.. ماذا عَمِلَ فلان؟! أنا! أنا!
وحينما يرِدُ السلوك ويشرع في المعرفة: عجيب!! كلّ ما كنت ألهج به هو عيب! ما معنى الـ أنا؟! ما هذه الـ أنا؟! فهو عاجزٌ قطعاً عن دفع بعوضة عن نفسه, هو عاجز إلى حدّ أنّه يمكن أنْ يصاب بسكتة في قلبه, وفي لحظة واحدة, وهذا اللسان الذي يتكلّم وتلك القدرة على التفكير والحركة وتلك اللطافة والنشاط وهذا التجوّل وهذا وهذا.. كلّ ذلك يتبدّل إلى جسدٍ هامدٍ ينادون عليه ويقولون: أسرعوا في دفنه! فرائحة جيفته لوّثت الدنيا, فلو كانت هذه الكمالات لنا, لما كنّا تركناها وتخلّينا عنها أبداً, فالله هو الذي منّ بالعطاء, والله هو الذي يأخذ ثانية, فإنْ نعلم أنّه من عند الله يصبحُ ذات قيمة حينئذٍ, وأمّا لو تخيّلنا أنّه من أنفسنا فهو أمرٌ خاطئ, وهو طريق الشيطان والفرعونيّة, وهنا نعرف خطرَ بيان الأسرار وكم أنّه يزيد من العُجب.
سؤال: العجب؟
الجواب: العُجُب, العجب, عين وجيم وباء.
العجب يعني تكبير النفس.. استحسان النفس والذات.. الغرور بالذات.. التباهي بالذات.. يرى نفسه عظيماً.. هذا هو العجب. فوجود الإنسان صفر, كيف يرى الإنسان نفسه شيئاً؟! فرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هو المخلوق الأوّل في العالم, ففي القرآن الكريم, يأمره الله أنْ يقول:
{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً}[4] وفي مكان آخر { وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً }[5] نعم هذا هو الواقع, لذلك نرى أنّ الأئمّة والأنبياء وبالأخص الرسول الأكرم, مع ما هم عليه من المقامات العالية الرفيعة جدّاً, فلا يوجد لديهم شيء من العجب, ولا يصدر منهم كلمة لأجل التفاخر؛ أنا كذلك! أنا لديّ حال فلانيّ!! فلم يُسمع منهم ذلك مرّة من المرات, وإنّما يقولون: أنا عبدٌ ضعيف, مسكين, لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً.
فذاك الذي أتى إلى حضرة الإمام الباقر عليه السلام, في طريقه إلى الشام حيث كان مع الإمام الصادق (وذلك لمّا كان قد أحضرهم عبد الملك بن مروان
[6], فحينما رجعوا التقى بهم أحد النصارى, ودار بينهما حديث مفصّل) فسأل النصرانيّ الإمامَ: أمِنْ علمائها أمْ جهّالها؟ فلم يقل الإمام أنا عالم هذه الأمّة, وإنّما قال عليه السلام: لستُ منْ جهّالها [7] والحال أنّه في مقام التعليم والتربية..! وعليه فحتّى لو كان علمه كعلم الإمام الباقر, فلله أنْ يسلبَ منه كلّ علمه, فينام عالماً ويستيقظ لا شيء لديه.. صفر..
بعضُ كبار العلماء, ابتُليَ في آخر عمره بنسيان حادّ, لم يعد يميّز بين يمينه ويساره, فحينما يذهب إلى الحرم في النجف, لا يستطيع العودة إلى منزله, فكان يضع علامة على الحيطان, إمّا بالفحم أو الجصّ ونحوه, كي يتمكّن من الرجوع إلى منزله, ومع ذلك كانَ لا يهتدي إلى منزله وكان يتِيه.. هو من علماء الدرجة الأولى.. هلْ تنبّهتم!
كذلك ينقلون عدّة حوادث عن أفرادٍ مختلفين, حيثُ يقولون: كانَ نسيانُ أحدهم إلى حدّ أنّه ذات يوم كان في مسجد السهلة, فدعاه أحدُ الخدّام إلى الغداء, فأحضر الخادم الغذاء, من التمر والعسل واللبن, وكان يضعُ إصبعه في العسل مثلاً, وبدلاً من أنْ يضعه في فمه, كانَ يضعُ إصبعاً آخر في فِيه! وهو أمرٌ عجيبٌ.. إلى هذا الحدّ يبلغُ الأمر!! لا يمكن تصوّر ما هو أعلى من ذلك, يعني يغلب عليه النسيانُ إلى الحدّ الذي تغيبُ معه تلك المدركات والخاطرات المرتكزة في الذهن, بحيث يضعُ في فمه إصبعاً مكانَ الآخر ولا يلتفت إلى أنّ طعمه ليس عسلاً! إصبعه..! فعلى ماذا يدلّ ذلك؟! ماذا نستنتج من ذلك؟! والحال أنّه كانَ مؤلّفاً سابقاً, كان كاتباً, كان مدرّساً, كان مشهوراً, كان معروفاً.
سؤال: يمكن أن نسمي ذلك أنّه بيد الله؟
الجواب: نعم... هو الله, حينما يكون الإنسان كذلك فلماذا يتفاخر؟! حينما تكون حقيقة المسألة من هذا الباب, فلماذا يرى الأمور من نفسه؟! النظرُ إلى الذات هو عمدة عمل الشيطان, حينما نقول: "الإنسان موجود" فإنّ هذه الـ"موجود" تعني عدم رؤية الله, فهو ينظر إلى نفسه ويراها, ولذلك يقول القرآن:
{ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }
[8] أنا أفضل منه, راقبوا كيف أنّه يقدّم الـ "أنا" ويجعلُها أوّلاً, فيقول: "أنا", ولا يقول: "هو أقلّ منّي"!! وإنّما يقول: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ, حسناً.. فمن آثار إفشاء السرّ العجب.

ج ـ عدم الوصول للمقصد
كذلك من آثار إفشاء السرّ أنّه لا يستطيع الوصول إلى مقصده وهدفه, فكلّ من يريد بلوغ هدفه عليه أنْ يخفيه ولا يفشيه, يقول النبيّ: استر ذهبَك وذهابَك ومذهَبَك[9] والمراد بالذهب هو رأسمال العمر, فعليك أن تخفيه وتحتفظ به, لأنّ السارق كامن مستعدّ للانقضاض عليك, فما إن يطّلع على سرّك حتّى يباغتك, فليس السارق سارقَ المال فحسب! وإنّما هناك لصوص الإيمان, وسارق النفس, وسارق العقيدة, يختلسون الهدوء والراحة.
فبعضهم يكونون حسودين, لديهم نفوس تؤثّر على نفوس الآخرين؛ ففي وسط الليل تبدأ تلك النفوس الخبيثة تتصرّف وتؤثّر على الإنسان؛ فقدْ أتى جبرائيل إلى رسول الله وقال له: يا رسول الله! ـ وذلك مدوّنٌ في الصحيفة العلويّة الثانية لحضرة أمير المؤمنين عليه السلام ـ إنّ عفريتاً من الجنّ يكيد بك, فإذا أويتَ إلى فراشك فقل: الله لا إله إلا هو الحي القيّوم.. حتّى تختم آية الكرسي
[10] فتبقى في حفظ الله وعينه, ولا يعود ذاك العفريت والشيطان يقوى على أذيّتك؛ يعني عليك أنْ توكلَ نفسك لله حتّى في النوم, وإلاّ فهناك شياطين, وهناك عفاريت وأجنّة, وهم يريدون أن يرهقوا رسول الله ويتعبونه ويؤذونه, لذلك:

چون كه اسرارت نهان در دل شود                                    
                             زان مــرادت زودتر حاصل شود
[11]

فهو يريد أن يقول: لو نضع البذرة تحت التراب, فسوف تبقى وتشرع في النّمو, وتبدأ بالتدريج بإفراز الجذور والبراعم, وتبدأ تنبتُ.. ثمّ تتحوّل إلى شجرة وهكذا, وأمّا لو نلقيها على سطح التراب, فتأتي دجاجة وتأخذها ولا يبقى لها أيّ أثر.
فعلى الإنسان أن يحتفظ بالسرّ كي لا يبرد ولا يفتر, تماماً كما لو نُشعل الفحم المتوهّج ونضعه تحت الرماد في فصل الشتاء, فهو فحمٌ ممتاز جداً وسوف يدوم ويبقى, ولكن ما إن تضعه في مجرى الهواء, ويواجه الهواء البارد مقابل ذلك النسيم حتّى يبرد, وينتهي أثره حتّى الآخر, وأمّا لو وضعته محفوظاً, على "المنْقَل".. وترشّ عليه شيئاً من الرماد.. كذلك.. فسوف يدوم ويولّد الدفئ والحرارة ليوم كامل.. وحينئذٍ يمكننا الانتفاع من حرارة الفحم, والإنسان كذلك.
فحقيقة الإنسان متعلّقة بقلبه ومرتبطة به, وقيمة الإنسان تتقوّم بقلبه, وليست قيمته ببدنه, ولا بوجوده المادّي, كما وليست تابعة لمثاله وتخيّلاته, بل إنّ قيمة الإنسان ترجع إلى الحقيقة الواقعيّة التي تمثّل المركزيّة الإداريّة المعنويّة, والتي منها تترشّح الآثار إلى عالم المثال ثمّ منه إلى عالم البدن, فقيمة الإنسان تعود إلى قلبه, هذا القلب الذي خلقه الله لأجله, وجعله مركزاً لتجلّياته الذاتيّة, وجعله محلاًّ لذاته, وقال:
لا يسعُني أَرضي ولا سمائي ولكنْ يسعُني قلبُ عبدي المؤمن
[12].

     

4ـ موارد کتمان السّر

أـ الرّؤی و المکاشفات
وعليه, سوف يتحقّق كتمان السرّ في مرحلتين؛ المرحلة الأولى: في الحالات التي يظهرُ فيها للإنسانِ شيءٌ مّا, كما لو شاهدَ رؤيا جيّدة في منامه, فينبغي أنْ لا يبوحَ لأحدٍ بذلك, حتّى لعياله, حتّى لوالده, هل انتبَهتُم لهذه المسألة!! هذا إنْ لم يكونوا في تلك الرتبة ونفس الدرجة, وإلاّ فإنْ كانوا في نفس رتبة سيره ودرجته, فلا ضير في ذلك.
سؤال: لو رأى مناماً عن أمّه, فهل هو مشمول بذلك أيضاً؟
الجواب: نعم, لو كان مناماً عاديّاً فلا بأس, وأمّا لو كانت رؤيا معنويّة, روحانيّة, مثلاً, مناماً جليّاً جدّاً, فيجب أنْ لا يخبرها, وأمّا الرؤيا العاديّة فلا بأس, فالمنامات العاديّة ليست سرّاً, لأنّ الناس عادة يرون ما يشابه هذه المنامات, ويخبرون الآخرين بها.
وأمّا تلك المنامات؛ فبعض المنامات سرّ, مثلاً: ترى حضرة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم, احتضنك في صدره, وقبّلك, وأعطاك خاتماً من الزمرّد, وقال لك: يا ولدي! هذا هو المقام الذي سوف تناله, فإنّ ذلك سرّ, لأنّ حضرة الرسول له معنى, والاحتضان له معنى, و"وَلَدي" له معنى خاص, وخاتم الزمرّد له معنى, ولو عرَف غيُرك هذا الأمر, ولم يفهمه جيّداً, فسوف يسدّ عليك الطريق, وسوف يكون كتلك الشياطين التي تكيد بك, فإنّ نفوسهم تكيد, (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) فهؤلاء الأشخاص يُوَسْوِسونَ للإنسان ويوقعونه, تلك النفوس الشريرة من الأجنّة.. من كفّارهم.. وكذلك من الناس, بل قد يكونُ الإنسان أسوء حالاً منهم, لأنّ الإنسان أقوى من الجنّ, فمن يكون كافراً ونفسه قويّة وغير مؤمن, فإنّه يؤذي أكثر من الجنّ, لأنّ أصل وجود الجنّ أضعف, فهو ليس من عالم الملكوت, ولا من عالم الروحانيّات, فالجنّ من عالم النار, وأصله من الدخان, من النار والدخان وما شابه ذلك, ووجوده أضعف من الإنسان, نعم, هناك المؤمن من الجنّ, وهناك الكافر, وذلك حسب تصريح القرآن, فالمؤمنون منهم لا يتعرّضون للإنسان, بل هم ضعفاء, وعلى الإنسان أن لا يميل إليهم ولا يتعامل معهم, وذلك لأنّ وجودهم ضعيف, وعلى الإنسان أنْ لا يعاشر الهزيلين فينتقل إليه ضعفهم.
سؤال: كنت أظنّ أنّ الجنّ أقوى؟!
الجواب: لا, هم أضعف بكلّ ما للكلمة من معنى.
وحينئذٍ يشرع هؤلاء الأجنّة والنّاس بالوسوسة حتّى يحرفون الإنسان عن وجهته.
لأجل ذلك, حينما يرى الإنسان رؤيا حسنة, أو يظهر له مكاشفة, كأنْ تجلس هنا, ثمّ ترى أنّ أمّك ـ رحمة الله عليها ـ أتتْ وقالت: آقا سيّد ...! كيف حالك؟ فتسمع وترى وتتكلّم معها, وتكون أمّكم واقعاً دون أدنى شبهة أو تردد, تماماً كما أنّك لا تشكّ الآن في حضوري أمامك, فهي كذلك, هكذا هي المكاشفة, يعني ما نراه في عالم الرؤيا من تلك الأطياف والصور في منامنا, قد يتّفق بعينه للسالك ولكن في حال اليقظة.
سؤال: أستبعد أن يفتحوا لنا الباب!
الجواب: المسألة بيد الله, أصلاً مسألة حضور أمّك لا تعادل شيئاً, بل يمكن أن ترى إِمامَها!! وتشاهد المقامات, وكلّ ذلك يقال له مكاشفة.
وبعد تجاوز هذه الحالات, يُعطَى للإنسان الحال التوحيديّ, يعني مثلاً: افرضوا أنّكم في حال العبادة, وداومتم على فعل أربعين معيّن, أو أربعينيّتين, أو ثلاث, وتحمّلتم وجاهدتم نفسكم حتّى قمتم بذلك بإخلاص, فمن الممكن أن يتّفق لك في حال الصلاة أو في غيرها, أنْ ترى أنواراً.. أنواراً عجيبة جدّاً, بحيث أنّها تظهر ضعيفة ثمّ تبدأ تتزايد حتّى تبلغَ حدّ الشمس, وكلّ ذلك في اليقظة.. فينبغي أنْ لا تخبر أحداً بذلك.
أو أنْ تتجلّى لك حقيقة التوحيد, فترى دفعة واحدة أنّ جميع قدرة العالم هي قدرة واحدة, فترى أنّ القدرة الكائنة في هذه الشجرة مثلاً.. وفي ذلك الجبل.. والقدرة الموجودة في الإنسان.. وجميع القدرات الكائنة في الموجودات.. إنّما هي قدرة واحدة, وأنّ حقيقتها هي الله.
كذلك ترى أنّ العلم الكائن في جميع المخلوقات هو علمٌ واحد, وهو ما يسمّونه التوحيد الأسمائيّ, أو أن ترى جميع الأعمال, وكلّ الحركات فعلاً واحداً, وهو ما يقال له التوحيد الأفعاليّ, فهي واحد, حينئذٍ يكون فعل الدكتور الفلانيّ والدكتور الفلانيّ, والسيد الفلانيّ.. كلّ هؤلاء عملهم منطوٍ في فعل الله, والكلّ مقهورون له, يندرجون تحت الإرادة الإلهيّة الحقّة والحقيقيّة, ولا يوجد إلا سيّدٌ واحد في هذا العالم, له العلم وله القدرة.. هو الذات الإلهيّة المقدّسة, اللهمّ مولايَ مولايَ, يا مدبّري, يا مولاي.. يا ربّي.. فليس لي مولى غيرك في كلّ عالم الوجود, مولاي يا مولاي.. هكذا جاء في المناجاة.
فعلى الإنسان أن لا يبوحَ بهذه المطالب أبداً بأيّ نحوٍ من الأنحاء, فهو عبور إلى عالم التوحيد وهو سرّ, وإنْ يصرّح ويقول فسوف يضيع ويخرب.
والخلاصة, أنّه إذا أراد الإنسان أنْ يتكلّمَ حولَ حقيقة معيّنة, فلينقلها من مصدرها عن الأئمّة ويقول مثلاً: عن الإمام الباقر عليه السلام في تلك الرواية المعيّنة الموجودة في ذاك الكتاب, ولا يقول: قدْ اتحدَ سرّي مع سرّ الإمام الباقر عليه السلام وأدركتُ هذا المطلب.. أو أنْ يقول: قدْ ألقى الإمام هذا المطلب في قلبي, وها أنا أُطلِعُكم عليه! فكلّ ذلك اشتباه وخطأ, وقد صدرَ من بعضهم ذلك, وقد سُمعَ أنّ بعضهم يقول مثلاً: قدْ أعطيتُ تكليفاً على هذا النحو, وقد أُلقي عليّ هكذا.. فكلّ هذا الكلام تزييف ولا طائل منه, وكلّ من يتفوّه بهذه الكلمات فهو أبله ساذج.
على الإنسان أن يتعامل مع الناس حسب العرف العاديّ, نعم, من الممكن أن يبلغَ الإنسانُ مقاماً, بحيث يتّصلُ بسرّ الإمام الصادق, فسرّ الإمام الصادق موجود أم معدوم في عالم الوجود؟! أقسم بالله إنّه حيّ, ودون أدنى شكّ! فالمسألة تحصل تماماً كما نستطيع أن نرفع الحجب الماديّة, بأنْ آتي إلى منزلك وأطرق الباب فتفتحَ لي وأزيل تلك الفاصلة بيني وبينك, وكذلك انصرام الزمان الماضي المتعلّق بالبارحة ومجيء الزمن الحاضر لهذا اليوم حتّى ألتقي بك اليوم.. فإنّ الله قادر على أن يزيل هذه العقبات الماديّة ويرفعها, أليس كذلك؟! هو قادرٌ على إزالة تلك الحواجز الماديّة كذلك وتحقيق الارتباط بسرّ حضرة الإمام الصادق, بسرّ حضرة الباقر, فإنْ وفّقَ لذلك, يجب عليه مضافاً إلى عدم استحسانِ نفسه وعدم الشعور بالعجب في نفسه, لا بدّ وأن لا يخبر أحداً بذلك, ليبقى هذا السرّ مكنوناً في نفسه فحسب.
مثلاً, يتضّحُ للإنسان مطلباً معيّناً, سواء كانت تلك المكاشفات حقيقيّة وواقعيّة أم لا, فهي لنفسه, ومن الممكن أنْ تكون المكاشفات في بعض الأحيان خاطئة, وغير منطبقة مع الواقع, وعليه أن لا يعمل على طبقها إلا بعد أن يعرضها على أستاذه, فالأستاذ هو الوحيد الذي يقدر على معرفتها, وتمييز الصحيح منها من الخاطئ, ولا يقدر الإنسان على التشخيص من تلقاء نفسه.
سؤال: قد اتفق لي شيءٌ البارحة, ولكنّي الآن أتصوّر أنّه كان شيئاً....
الجواب: نعم.
سؤال: البارحة, حينما كنتم تتفضلون بالتكلّم, قدْ رأيت لبرهة بحيث الآن لا أرى شيئاً... ولكن كان البارحة بشكل واقعيّ... رأيت أنّ وجهكم تبدّل إلى وجه العلاّمة الطباطبائيّ؛؛
الجواب: نعم سيّد.
سؤال: وقد أخبرت أختي بذلك, وهذا ما حصل...
الجواب: لا! لا تقل بعد, لا.. لا.
سؤال: يعني ما حصلَ منّي لا إشكال فيه؟
الجواب: لا, لأنّك قلتَ وأنتَ لا تعرف, وأمّا من الآن فصاعداً فلا.
سؤال: لم أكن ملتفتاً إلى خطورة المسألة, يعني لم أكن لأعتني بالأمر أصلاً.. غاية الأمر أنّه وللحظة بل يمكن جزء من ألف ثانية, كنت قد رأيتكما متشابهان.
الجواب: نعم, فهذا من أثر شيء آخر.
سؤال: وقد رأيتُ أنّ ردّة فعل أختي لم تكن جيّدة.
الجواب: نعم... هلْ توجّهتم إلى الأمر؟‍ فها قد وصلتَ إلى النتيجة بنفسك, حيث إنّك شاهدت مسألة بسيطة جزئيّة, وحينما صرّحتَ بها, لم يستطع الطرف المقابل تحمّل النتيجة.
سؤال: نعم, قالت: أساحرٌ هو؟!
سؤال: حينما أخبرتها قالت: هل هو ساحر؟!
الجواب: نعم هكذا, المسألة كذلك.
سؤال: يعني ألا يترك ذلك أثراً حيث أنّي لم أتنبّه؟
الجواب: نعم, وعلى كلّ حال...
سؤال: لا مشكلة في الأمر... وأنا أعتذر.
الجواب: عجيب! بابا! هذا شيء قد مضى بابا! نحن نتكلّم عن الآن, وما ربط الآن بالسابق؟
حسناً, هل التفتّم! فمن المسائل المهمّة رعاية هذا الأمر.
وعلى العموم, ففي حال حصول الواردات, أو ظهور الحالات, فإنّ ذلك للإنسان نفسه, ولا حقّ له أنْ يفصحَ عنه لشخصٍ آخر, أيّاً كان, وحينئذٍ من الضروريّ أنْ يقول لأستاذه, ومن الخطأ أن يخفي ذلك عن أستاذه.
سؤال: ما اتّفقَ معي الآن, هل كان لأجل هذا السبب؟
الجواب: نعمْ, هو خطأ, لأنّه إنْ يخفيه عن أستاذه, فهو يدلّ على أنّ هناك حجاب وحاجز, وأنّ لي تعيّناً وحدوداً فاصلة, والحال ينبغي عدم وجود أيّ حاجب بين الإنسان وأستاذه.

ب ـ الدّستورات و البرامج العمليّة الخاصّة
المرحلة الثانية التي ينبغي معها كتمان السرّ: الدستورات والتكاليف التي يعطيه إيّاها الأستاذ, مثلاً لو قال له: من الأمور اللازمة عليك أنْ تداومَ على النوافل مع الصلوات الواجبة, أو غسل الجمعة, أو افرضوا مثلاً: قراءة دعاء كميل ليلة الجمعة, أو لا بدّ من القيام بصلاة الليل, أو أن تصوم بعض الأيّام, أو تقول مثلاً: ألف مرّة "لا إله إلاّ الله"وما شابه ذلك.
سؤال: أنتم تقولون ذلك على نحو العموم؟
الجواب: نعم.. نعم.. بشكلٍ كلّي, نعم كلّ ذلك على نحو العموم والتمثيل.
سؤال: وبعد ذلك تعطون الدستور؟
الجواب: ليس فيها أيّ دستور, لا أبداً, كلّ ذلك كان من باب المثال.
فهذه الأمور هي لأجل الإنسان نفسه, وعليه أن لا يفصحَ للآخرين بذلك, فلو جلسَ ليذكر الله, ثمّ أتى شخصٌ آخر وسأله: ماذا كنت تقول؟ هل كنت في حال الذكر؟ عليه أن لا يخبر ولا يفصح, ولا يقول كنت أقول: لا إله إلاّ الله, ولا يقول: أنا سالك, ولديّ أستاذ... كلاّ أبداً. وهذه المسألة مهمّة جدّاً.
سؤال: هل أقول شيئاً لزوجتي, مثلاً أنّكم تأتون إلى هنا!.. ماذا؟
الجواب: فعلاً اسمحوا لي أنْ... هذا ليس من الأمور السلوكيّة, وإنّما هي مسائل شرعيّة وفقهيّة ومسائل عامّة لحلّ بعض المشاكل العقائديّة والدينيّة.
سؤال: في مرّة من المرات, قلت فيما يتعلّق بـ ...
الجواب: فعلاً لا تقل...
سؤال: حسناً سوف لا أقول...
لأنّ السلوك مسألة دقيقة جدّاً, وإنْ تخبرهم, فسوف يشرعون هم بإخبار الآخرين, صحيح؟! وذلك له تبعاته بالطّبع, نعم؟! وحينئذٍ, تكون النفوس مختلفة, وقد ينظرون إليك نظر التحقير والسخرية؛ فلانٌ يأخذُ دينه عن فلان.. ويتعلّم إيمانه من فلان.. ويشرعون بالاستشكال ويعترضون قائلين: ألا يمكن للإنسان أن يرجع إلى وجدانه وضميره؟! ويستلهمَ من باطن نفسه! فالإنسان يأخذ كتاب "مفاتيح الجنان" ويعمل على أساسه.. يعمل مباشرة على أساس القرآن.. فما الحاجة إلى الأستاذ! لذلك فإنّ إفشاء هذه المسائل أمامهم أمرٌ خاطئ, ويؤدّي إلى الإضرار بالإنسان. أو أنْ يكونوا راغبين في ذلك, فيشرعون من تلقاء أنفسهم بالعمل, والحال أنّ موقعيّتهم وحالهم لا يسمح لهم الآن بـ .. فلا يمكنْ لأيّ بذرة تُلقَى في التراب أنْ تثمر!! وإنّما توضع في التراب في وقتها وفي الفصل المناسب لها, فالورود والأزهار لها فصلها, والبذور لها وقتها, وحينئذٍ تثمر وتنمو فيما لو سُقيتْ ماءً وكان الطقس مناسباً لها, وأخذت ما تحتاجه من حرارة الشمس كي تنمو, هل تنبّهتم؟! وأمّا الإفشاء في غير وقته, فإنّه يوجب الهدم والخراب, والهزالة والاسترخاء.. يسبّبُ الضعف.. فتصبح شتلة ذابلة.. ويضيع ذاك البذر ويفسد استعداده.
لذلك, فليس من الصحيح أنْ تذكرَ اسماً أو تعرّفهم, وذلك لأنّ المسألة ليست من طرف واحد, بل هناك محذور من الطرف الآخر أيضاً, فلو أصبحَ الإنسان معروفاً, فسوف يهجمون ويتدافعون عليه, ويشرعون بالطلبات والتوقّعات, والحال أنّ الكثير منهم لا يريدون العرفان, فبعضهم يريد أداءَ دَينه, وآخرُ يريدُ بناءَ منزل, وثالثٌ أخته في البيت.. يقول: هيّا سيدنا!! افعل شيئاً كي يأتي الزوج.. وآخر مبتلى بمرضٍ.. فادعُ لي! أيّها "الفلان"! ادعُ لي, أو افعل كذا! اشفِ أختي! فهي مصابة بالفلج, أو أنّ ابني أصبح ضريراً, اشفه!
هلْ نعلم الغيب؟! أهو الإمام! هل يمكن للإنسان أن يتخطّى ذرّة واحدة عن إرادة الله؟! وحينئذٍ ينطبق عليه: "المرءُ لنفسِهِ ما لمْ يُعرَفْ فإذا عُرفَ كانَ لغيره", وقد يغيبُ هذا المطلب عن الإنسان بشكلٍ كامل, لذلك يحتاج السالك إلى ضبط ومراقبة, فيقوم بأعماله دون ضجّة ولا إفشاء, فإنْ تأكل قلْ: الحمد لله, أو تشرب الماء فقل: الحمد لله, دون أنْ يلاحظ عليك أحد, لذلك فلا يطّلعنّ أحدٌ بأنّ لديك هذه النعمة, وإلا فيأتون ويلوّثون هذا الماء المعين, ويرمون فيه الأوساخ إلى الحدّ الذي لا تعود تستطيع أنت شربه!! ولا يمكن للآخرين شربه كذلك!! فيُهدَر حينئذٍ, وما ذلك إلاّ لأنّ النفوس غيرُ طاهرة ولا نقيّة, ولديها توقّعات ومطالب مختلفة, فهذا الشخصُ يريدُ المعجزةَ وإمكانيّة التصرّف! بحيث ما إنْ يَلْمس... يتحوّل إلى ذَهَبٍ!!
سؤال: هل من الممكن أنْ أُجيبهم غير ما هو الواقع؟ مثلاً: حينما يسألون: ماذا كنت تفعل؟ فإن كان الصباح فأقول لهم مثلاً: كنتُ نجساً فذهبتُ واستحممت, فهل فيه إشكال؟
الجواب: لا.. بل هو صحيح واقعاً, علماً أنّه لا يجب أن تقول: كنتُ نجساً, وإنّما يكفيك أن تقول: ذهبت لأطهّر نفسي, فليس من اللازم أن تقول: كنتُ نجساً, فهو لم يكن نجساً واقعاً.
سؤال: يعني لا إشكال فيه؟
الجواب: نعم لا إشكال فيه, فمثلاً حينما تجلس للدعاء, تقول: أنا متوجّه لله, دون أن تقول: أنا أدعو أو في حال الذكر والورد, فلا تذكر خصوصيّة الفعل, ولا تفصح عن نوعيّة الارتباط, تماماً كما ذكرنا, فلا تبيّن أنّك مرتبط مع فلان أبداً وبأيّ وجه من الوجوه, وإن اطّلعَ أحدٌ على أنّ لديك علاقة مع العبد الحقير وسألك, فقل له: بعض المسائل الشرعيّة. نعم! فكلّ إنسان لديه مسائل شرعيّة ويسأل عنها ويستوضحها ويفهمها.
سؤال: أنتم تفضّلتم أنْ لا يفهم أحد, والحال أنّ عائلتي قد عرفت بالأمر.
الجواب: لا.. لا مشكلة في معرفة عائلتكم, ولكن ليس في تلك الأمور, فلا تعرّفوا أحداً عن ذاك الجانب, مثلاً, إن ظهر لكم حال من الأحوال.. أو أنْ تقولوا مثلاً: لفلان تعالَ وعاينْ! وانظر كيفَ سيتغيّر حالك هناك!! فهذا غير صحيح, لأنّه وكما بيّنت لكم, إنّ النفوس مختلفة, فهم ضائعون, يعني أنت تحسّ الآن بحالٍ خاصّ وتقول لي: ليتكَ تخرّب كلّ حياتي وأرتاحَ وينتهي كلّ شيء.. فأنت ترى هذا النوع من الحياة مصيبةً وعذاباً.. والحال أنّ أولئك الأفراد يطلبون هذه الحياة وهي هدفهم!! افعل لنا حديقة نعِشْ فيها! واجرِ فيها المياه! أعطني كذا وكذا!

     
5ـ دور الأنبياء و الأئمّة هو الإرتقاء بالنّاس روحيّاً لا تسمينهم مادّياً
فليس طريق العرفان ولقاء الله ألعوبة, ولمْ يأتِ الأنبياء والأئمّة كيْ يزيدون في خفّة عقول الناس ويضاعفون هَوَسَهم,
{ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ}
[13] الكتاب, الحكمة, التزكية, لتنميتهم ولرشدهم, أيّ الرشد والنموّ الروحانيّ, لا أنّهم يسمّنونهم في عالم المادّة ويحضرون لهم الطعام اللذيذ ويمدّونهم بالأموال, فكلّ ذلك وبالٌ على الإنسان, وإنّما أَتَوا لرُشدِ الناس, فالنبيّ هو الذي يمدّ الناس بالرشد, هذه هي وظيفة النبيّ, وحينئذٍ يأتي الناس ويأخذون بأذيال النبيّ أنْ يا نبيّ الله! اجعل لنا نهراً جارياً! وبإرادتك حوّل لنا ذاك الجبل إلى ذهب, كما كانَ مشركو مكّة يطلبون ذلك من النبيّ وقد بيّن القرآن ذلك { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً } [14] حسناً! يقول النبيّ لهم أيضاً: سوف ألبّي لكم ما تطلبون, "بسم الله" هذه هي العين التي تطلبونها.. وهنا لنا أنْ نسأل: هل جاء النبيّ لشقّ الأنهار!! أمْ أنّه بُعثَ ليربّي أفراداً مؤمنين! ثمّ إنْ فجّر لهم تلك الينبوع, هل يؤمنون بالله! فالنبيّ فعلَ ذلك بلْ قد شقّ القمر أيضاً!! أو أنّ المسألة تأخذ منحى آخر, كما أنّه حينما تكلّم مع أعمدة "الحنّانة",,,,,
سؤال: وإذا يظهر لهم ذلك, سوف يقولوا له افعل لنا شيئاً آخر.
الجواب: نعم, لأنّ تلك النفس التي لا تقبل المعجزة, حينما تشاهد المعجزة سوف تقول هذا سحر, وكلّما فعل معجزة فسوف يقولون: سحر, ويقولون: قد سحر أعين الناس, مشعوذ ساحر, وذلك لأنّ قلوبهم لم تؤمن بالله, فحينما ينقلب القلبُ على عقبيه, يصبح كالمريض المصاب بـ "التيفوئيد" والحمّى, لو قدّمتَ له أشهى الأطعمة وأطيبها رائحة, فسيقول: ما هذا؟ أبعده عنّي! لا أستطيع تحمّل رائحته.. والحال أنّ الغذاء ليس رديئاً, وإنّما حاله هو الرديء, ومزاجه مضطرب, وشامّته فاسدة.
كذلك الشركُ والكفرُ والنفاق في القلب فإنّه يضيّع الأمور ويفسدها, وحينما يخرّب الأمور, فلا ينفعُ معه حتّى ولو أكثرْتَ من نُصحه, أصلاً حاله لا يفهم النصيحة.. وكلّما تقول له: الله, فلا يفهم معنى الله, أو تقول له: الإيمان, أو: الصدق, أو: الأمانة.. فإنّه يفهم الأمر معكوساً ويقلب المعنى, تماماً كذاك المصاب بالـ "تيفوئيد", فقد ذهبتم وأحضرتم له أشهى الطعام النظيف المعطّر, ووضعتم عليه الزعفران... ولكن حينما قدّمتموه له, سوف يقول لك: أنتَ عدُوّ لي!! ذهبتَ وأحضرتَ لي أسوءَ أنواع الطعام وأقبحها رائحة!! وذلك لأنّ حاسّة الشمّ لديه معطّلة.
والأمراض المعنويّة مثلُ الأمراض الجسمانيّة, فالنفس تَفسد, والمدركات تَفسُد, وتتبدّل قوّى الإدراك والتشخيص, فأنتم مثلاً حينما أرعبتم ذاك الطبيب, أنْ لماذا لم تأتِ الساعة الثالثة وتأخّرت إلى السابعة, فمن الممكن أنّه في وجدانه قد اتّهمكم أنْ لماذا عنّفتم عليّ اليوم وشدّدتّم بهذا الشكل؟! إلاّ أنّه قد يكون في الواقع أعمى, فلا يدرك قبح عمله وشناعته, فلا يبالي أبداً ولا يكترث, نعم, بعضهم كذلك, يقولون: إنّ بعض الجلادين الذين يمارسون التعذيب كما في زمان الطاغوت وأمثاله, كانوا بحيث أنّهم يتلذّذون بالتعذيب, فهم يشعرون باللذّة, وإنْ يأتِ يوم دون أن يعذّب ويجلد وفلان وفلان وما شاكل ذلك.. فلا يرتاح في الليل؛ فإنّه يلتذّ بالتعذيب ويرتاح, هذا نوع من النفوس, إلاّ أنّه هناك نفوس بحيث لو شاهدَتْ إبرة تدخل في قدم شخصٍ مّا وتؤذيه, فإنّها لا تستطيع النوم, بل ليس الإبرة, وإنّما رأس الإبرة تنغزُ في قدمه, أو تسمع صوت نحيب وتألّم, فسوف لا تستطيع النوم, لما أصابه من رأس الإبرة تلك!!
فالأعمال التي نقوم بها نحن, والتي كلّفنا الله وأمرنا بها, هي ليست مجرّد أعمالٍ وطقوس خارجيّة وبشريّة لفائدة البدن, بل إنّها تؤثّر على النفس وتغيّرها, التكاليف الإلهيّة: العبادة.ز العبوديّة.. القرآن.. والتي على رأسها ذاك النوع من عبوديّة النبيّ والأئمّة وأمثالهم, فإنّها تبدّل النفس, وتحوّل نفسَ الشقيّ إلى سعيد, وتربّيه؛ كما لو كان لديك سكّينا قاطعة مهملة في المستودع ..والرطوبة والصدأ, فحينما تأخذها وتشرع بصقلها بـ "السمبادج" الخشن ثمّ الأنعم ثم الأنعم ثمّ تطليها من الصدأ, ثمّ تصقلها على الناعم الدقيق جدّاً, فسوف تلمع كالمرآة, يمكن أن ترونَ وجهكم بواسطتها؛ كيفَ يتمّ ذلك؟ لأنّ الشقاوة تبدّلتْ بالسعادة, وعلى هذا الأساس استصلح ذاك الحديد, وبشكلٍ تدريجيٍّ ظهرت تلك القابليّة.
فالله منحَ هذه القابليّة للإنسان, وأعطاه هذا الاستعداد, ومنحَ النفوس هذه القدرة على التبديل, وجاءتْ أوامر الأنبياء لضبط هذه الحركة وهذا المسير
{ اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ }
[15]
وعليه, فإنّ كتمَ السرّ ضروريّ في مرحلتين, المرحلة الأولى: في مرحلة ظهور الحالات والسير وطيّ المنازل والمشاهدات, المرحلة الثانية: الدستورات والتكاليف, فإنّها مختصّة بالإنسان نفسه.
وإنشاء الله أبيّن لكم بعض المطالب ولو بشكل إجماليّ, إنشاء الله في وقتٍ آخر.
سؤال: الدستورات وهذه الأمور, هي أمرٌ ضروريّ؟
الجواب: نعم, هذه الأمور إنشاء الله نتركها لما بعد, وفعلاً التزموا بهذه البرامج التي هي معكم الآن.
سؤال: إنْ أخبرتُ أنّ هناك بعض المسائل.. طبعاً ليس لكلّ أحد.. وإنّما كان لزوجتي, وأخي أو أختي, حيث قلت لهم: أنا أطالع بكتاب السير والسلوك.
الجواب: لا مشكلة في ذلك.
سؤال: أريد أن تعطيني دستورات إنشاء الله, هل هناك مانع؟
الجواب (العلامة): لا يوجد مشكلة... هو أخوكم؟! إن شاء الله.. يعني هل يتلقّى هذا الكلام بالقبول أم أنّه يردّ ويقول مثلاً: هو ليس صحيحاً أو أنّه شيءٌ خاطئ؟
الجواب: لا يقول شيء, فحينما أقول له افعل ذلك, لا يقول شيئاً.
سؤال (العلامة): لا.. أقصدُ أنّه هل ترون أنّه ينكر أو يردّ..
الجواب: لا.. لا يرفض.. سنّه في السابعة أو الثامنة عشرة.

 


[1] ـ مجمع الزوائد للهيثمي 4: 328 وكذلك المعجم الأوسط للطبراني 3: 160وكذلك كنز العمال للمتقي الهندي 11: 688 وكذلك الطرائف للسيّد ابن طاووس صفحة 223 وغيرها.

[2] ـ دعاء كميل بن زياد النخعي الذي علّمه إيّاه أمير المؤمنين عليه السلام؛ مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي صفحة 850 وإقبال الأعمال للسيد ابن طاووس الحسني 3: 337 ونهج السعادة للشيخ المحمودي 6: 160.

[3] ـ الكافي للشيخ الكليني 2: 45 والخصال للشيخ الصدوق صفحة 447 ووسائل الشيعة للحر العاملي 11: 428 وبحار الأنوار 22: 351.

[4] ـ سورة الأعراف صدر الآية 188. 

[5] ـ سورة الفرقان ذيل الآية 3.

[6] ـ القصة مروية في كتب التاريخ عن هشام بن عبد الملك, راجع دلائل الإمامة لمحمّد بن جرير الطبري صفحة237, ومدينة المعاجز للسيد هاشم البحراني 5: 72 وبحار الأنوار 46: 309.

[7] ـ المصدر السابق.

[8] ـ سورة ص الآية 76.

[9] ـ التحفة السنيّة للسيد عبد الله الجزائري (مخطوطه) صفحة 330 إلاّ أنّه ينسبها إلى الحكماء.

[10] ـ مكارم الأخلاق الشيخ الطبرسي صفحة 38, وبحار الأنوار 16: 253 وسنن النبي ص للعلامة الطباطبائي صفحة 354, والمصنف لابن أبي شيبة الكوفي الجزء الخامس صفحة 35, وكنز العمال للمتقي الهندي 15: 328, والدر المنثور لجلال الدين السيوطي المجلد الأول صفحة 327. ولكن بعبارات متفاوتة تحاكي هذا المضمون بعينه.

[11] ـ حينما تكون أسرارُك مخفيّة ومخبّأة ومحفوظة في القلب, فستحصلُ مراداتك وأهدافك وطلباتك بشكل أسرع.

[12] ـ عوالي اللألي لابن أبي جمهور الأحسائي الجزء الرابع صفحة 7.

[13] ـ سورة البقرة الآية 129.

[14] ـ سورة الإسراء, ذيل الآية 90.

[15] ـ سورة البقرة, صدر الآية 257.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی