معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 101 إلى 200 > شرح حديث عنوان البصري - الجلسة رقم 167

_______________________________________________________________

هو العليم

سلسلة شرح رواية عنوان البصري

المحاضرة رقم 167

سماحة آية الله الحاج

السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

_______________________________________________________________

أعوذُ بالله منَ الشيطانِ الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنةُ الله على أَعدائِهم أجمَعين

    

انقسام المجتمع البشري إلى مدرستين: أصالة المادّة و أصالة المعنى

أثناء شرحنا الأسبوع الماضي لفقرات رواية عنوان البصري الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام, كان كلامنا يدور حول الرياضات الشرعيّة, وقد أشرنا في الأسبوع الفائت إلى وجود مدرستين في المجتمعات البشريّة, وذلك منذ خلق آدم إلى زماننا الحاضر وما بعده, فهناك نمطان من التفكير؛ أحدهما قائم على أصالة المادة, والآخر قائم على أصالة الروح وأصالة النفس وأصالة المعنى. ولا يختصّ هذا النمط بمدرسة الإلهيّين بالمعنى الاصطلاحي, كما ولا يختصّ ذاك النمط بالماديّين بحسب المعنى الاصطلاحي أيضاً؛ فالمعتقدون بمدرسة أصالة المادة ليسوا خصوص الأفراد المنكرين لعالم المعنى وعالم الروح والمنكرين لعوالم ما بعد الموت, بل كل شخص يهمّش الرضا الإلهي من حياته العملية ويبعده عن مسيره وممشاه الخارجي, ويرجّح المصالح الفرديّة والشخصيّة والدنيويّة على المصلحة الإلهيّة فهو حامل للنزعة المادية, ويستقي من المدرسة الماديّة. ولا فرق في ذلك بين الأفراد الماديّين وبين أتباع سائر الأديان؛ فالمسيحي الذي يضع المسيح عليه السلام جانباً, وبدلا من أن ينصبّ اهتمامه على السيد المسيح يقوم بصبّ اهتمامه على نفسه ومنافعه وشخصيّته وشؤونه, فهو من أصحاب النزعة المادّية.
كذلك اليهودي, فإنْ تجاوز عن تبعيّته للنبي موسى عليه السلام وقام بوضعه جانباً, و قام بصبّ اهتمامه على المسائل الدنيويّة والنفسانيّة, وأذاب نفسه وأفناها في حبّ البقاء, فهو خارج عن ربقة اليهوديّة, وهو إنسان مادّي حينئذ, كذلك المسلمون فيما لو همّشوا سنّة رسول الله وابتعدوا عن الرضا الإلهي, واستبدلوا المصالح الواقعيّة بالمنافع الشخصيّة والدنيويّة, و كان محور حياتهم هو شؤونهم الخاصّة فأفنوا أنفسهم فيها, فمثل هذا المسلم إنما هو إنسان مادّي, حتى وإن كان ظاهراً يشهد بلسانه بالشّهادتين, ويعيش ظاهراً حالة الادّعاء لتبعيّة مدرسة الإسلام وسنّة رسول الله, فهو كاذب في ادّعائه هذا, بل هو في الواقع إنسان مادّي بتمام ما للكلمة من معنى, حتى لو كان ظاهره مخالفا لذلك. كذلك الشيعي الذي يرى نفسه من أتباع نهج أمير المؤمنين عليه السلام, إلا أنّه في الموارد العملية التي يواجه فيها مفترق طرق بين الحقّ والباطل، أو بين الصدق والكذب، أو يواجه موقفاً حرجاً على شخصيّته الاجتماعيّة، أو يواجه موقفاً يضعه تحت وطأة المسائلة والمحاسبة؛ فإنه يشرع بالقيام ببعض الأعمال والحركات، ويشرع بالمواجهة والمصادمة مع الحق، ويضع الحقّ جانباً، ولا يسلّم نفسه للحق والواقع، وحينما تعرض المسألة عليه بشكل واقعي ومنطقي فإنّه يعمد إلى التكذيب والتلبيس، وحينما يعرض الحقّ والواقع عليه فإنّه يبدأ بخلط الأوراق ويمزج الحقّ ويلفّقه بالمسائل والمنافع الظاهريّة، حينما يعرض الحقّ عليه ويُرى الواقع بشكل ناصع وجليّ, يبدأ باستخدام مختلف التوجيهات ويتذرّع بالتأويلات ويقفز فوق الحقّ ويتجاوزه؛ فهذا الشخص مادّي وهو من أنصار وأتباع النزعة المادية وملتزم عملاً بأصالة المادة, وهو رافض ومواجه لأصالة الروح وأصالة المعنى وأصالة التوحيد, و هو معادٍ لها حتّى وإن كان بحسب الظاهر ملتزماً بإجراء الشهادتين على لسانه ولاهجاً بالشهادة لأمير المؤمنين عليه السلام بالولاية أيضا, ومدّعياً أنّه من أنصار الأئمة وخصوصاً إمام العصر عليه السلام!! فهو شخص مادّي، وهو من أتباع المدرسة المادّية وأنصارها, لماذا؟ لأنّه ليس في وجوده ذرّة من ذرّات الإمام عليه السلام؛ فهو يكذب.. ويمكر.. ويحتال.. وهو مستعدّ ليضحي بجميع القيم لأجل تثبيت شخصيّته الظاهريّة؛ فهذا الشخص كاذب, وهو من أتباع المدرسة المادّية.
إنّ الذي يمثّل حقيقة الإنسان الوجوديّة عبارة عن المعتقدات والممشى العملي والأسلوب الحياتي, فالمعمّم الذي يطرح نفسه على أنّه مبلّغ لمباني الإسلام, ومبلّغ للتشيّع, ومبلّغ لأهل البيت, إلا أنّه حينما يريد مواجهة الواقع العملي, ويقف أمام مفترق الطريق, أي بين الحق ، والمصلحة والمنفعة, نجده ـ كما ذكرنا ـ يرجّح جانب المنفعة والمصلحة؛ فهو حينئذٍ شخص مادي !!
فالإخوان يعلمون أنّ المرحوم العلامة في يوم من الأيام, وأمام عدّة من الأصدقاء يزيد عددهم على العشرين أو ثلاثين شخصاً, كان يقول: حينما كنّا في النجف (وشبيه هذا المطلب ورد في كتاب وظيفة الفرد المسلم, أو لا.. بل سمعته ضمن إحدى دروسه.. وكنت أنا حاضرا في نفس المجلس الذي كان يتحدّث فيه) حيث كان يقول: كنت مع أحد العلماء الأعاظم ـ ولم يذكر اسمه, كما أنّي لم أسأله عن اسمه بعد ذلك ـ فقال: دار بيننا بحث وكلام حادّ جداً, حيث كان كلامنا يدور حول أنّه على العالم أن يكون حاله سيّاناً وبلا فرق و دون اختلاف في جميع الحالات سواء كان الموقف يؤول إلى نفعه أم إلى ضرره.. ولا فرق في ذلك بين العالم و غيره, أو الطبيب وغيره, و كذلك المهندس أو التاجر أو صاحب الحرفة أو الفنّان.. فكان يذكر هذه القصة ـ وهي حكاية مشوّقة ـ حيث أن المرحوم العلامة كان يقول: حينما كنّا نذهب إلى كلية العلوم الفنّية حيث كانوا يسمّونها [مدرسة العلوم الفنية الصناعية], كان لدينا أستاذ لا يؤمن بوجود الله, يعني كان ملحداً, وقد ذكر اسمه لنا, وقد كانت معتقداته وممشاه معاكسة لممشى المؤمنين بشكل تام, إلا أنّ بعض أعماله كانت جيّدة, فقد كان كلامه جيّدا وحسناً, والعلامة كان يقول: مع أنّ هذا الشخص هو ضدّ المسائل الروحانيّة, إذ كان بادياً عليه جيّداً من ظاهر حاله أنّه لا يرتضي الأمور الروحيّة, إلا أنّه حينما كان يرانا كان يعرفنا ويعرف مشربنا, وكان يفهم مرامنا وممشانا, ويعرف علاقاتنا وارتباطاتنا, ويعلم بصدقنا, ويعرف كيفيّة سلوكنا في الجامعة, حيث كانت تلك السنة الأخيرة في الجامعة, والتي تعادل أعلى مستوى جامعي بما يساوي شهادة الدكتوراه, فكان يقول: كان أحد أساتذتنا يقول: لو كان هناك عالم روحانيّ في هذه الدنيا, لكان هو فلانا, وكان يسمّيه ويطلق عليه اسم "حسيني", يعني إذا كان ولا بدّ, فالذي يمكن أن يكون عالماً هو السيد محمد حسين, يعني لا يمكن لهذا الأستاذ أن ينفي حالة الصدق في وجوده.. هل التفتّم؟ فهو ينكر وجود الله بواسطة بعض المعادلات الواهية التي شاعت في تلك الفترة, حيث كان شديداً في إنكاره, وكان يخال نفسه أنّه مثقّف متحرّر, مثلاً اليوم يعمد المثقّفون المدّعون للتنوير والتحرر إلى نسف مباني القرآن ونفيه وإنكار حقائقه, ففي ذاك الزمان كانوا يظهرون بذاك اللباس, أمّا الآن فبهذه المسائل...

    

التشكيك و الادعاء دون دليل و برهان لا يصلحان أساساً لبناء العقيدة

في هذا الزمان أصبح التشيّع هدفاً, وبتنا نشاهد كلّ يوم مسلكاً جديداً وانحرافات جديدة، كذلك الأمر في ذاك الزمان, غاية الأمر أنّه بشكل وصورة أخرى ففي ذاك الزمان كانوا يقولون: الله ليس موجوداً, ولا وجود للماورائيات, وكلّ ما هو موجود منحصر بالمادة والوجود الفيزيائي, و قائدهم في ذلك الزمان كان الدكتور تقي آراني, وكان شخصاً عالماً, و قد قرأت جميع كتبه زمان الشباب ـ بالطبع أنا ما زلت في سنّ الشباب غاية الأمر أنّ الشيب قد ظهر قليلا ـ [ضحك من السيد] نعم قرأنا كثيراً وكثيراً من هذه الأمور أيام ريعان الشباب, وبعد ذلك حينما قرأنا في كتب الشهيد مطهري وجدناه يؤكّد أيضاً على قراءة هذه الكتب, وكان ينقل عنها بعض الأمثلة. والآن في هذا الزمان نجد أنّ الحداثويّين يقومون بنفس الشيء, حيث أنهم يشكّكون بالقرآن والوحي, ويشكّكون بالإمام.. وبالتدريج يهدمون كلّ شيء؛ حسناً لمَ لا تريحوا أنفسكم من البداية, و قولوا: لا يوجد إله أصلاً! وأريحوا الجميع.. أتصوّر أنّ ذلك أفضل.
والحقير ضمن كتابه الأخير ـ وإن شاء الله يقوم الإخوة بقراءته ويقوموا بلفت النظر ويقدمون ملاحظاتهم ـ قد ذكرت أنّه: إذا تقرّر أن نتكلّم بدون دليل وبالتالي نصوغ ونلفّق قائمة من المزخرفات والتقوّلات بدون أي حجّة ولا برهان فالحقير أقوى منكم بتقليب الأمور وتسطير المزخرفات!!! فأنا أدّعي أصلا عدم وجود الله من الأوّل! لماذا نلفّ وندور بالناس؟ لماذا نسطّر هذه العبارات والمزخرفات؟؟
ـ إذا تقرّر ذلك فأنا أدّعي عدم وجود النبي أصلا!!
ـ هل كنتَ من قبل ألف وأربعمائة سنة كي تتمكّن من رؤية النبي؟!!
ـ وحينما تولّد النبيّ وذهب إلى غار حراء وبلغ مقام النبوّة والرسالة, هل كنت أنت معه لتشهد على صحة وقوع ذلك؟!
ـ يقولون: لا
ـ أقول: من الذي قال إنّ هناك نبيّ؟ وبكلّ بساطة...
ـ يقولون: مكتوب ذلك في الكتاب.
ـ أنا أقول: لا قيمة لهذا الكتاب, فهو مجرّد ادّعاء..
ـ تقول: هناك شاهدان على ذلك.
ـ أقول: كذلك لا.. فهم يشهدان من تلقاء أنفسهم, فمن الممكن أن يكونا قد رأيا ذلك في المنام..
فحينما يكون المِلاك مجرّد الادعاء وإنكار الحقّ, حينئذ يمكن لنا أن ننكر ما نشاء, فننكر جميع الأسس ونهدم كلّ الأصول..
بل يمكننا أن نرسل لساننا ونقول:
ـ أصلا الإمامة تتنافى مع خاتميّة النبوّة..
ونقول: لا يوجد هناك مدرك صحيح على الإمامة..
ونقول: كلام الإمام ليس حجّة.. حسناً!!
الحمد الله, في الأخير نأتي ونقول: النبيّ أيضاً كان يخطئ وكان يتوب.. يعني حسب الظاهر فإنّ سوق المدّعيات مفتوح.. يعني الأمور إلى تطوّر بحمد الله!!
يا للأسف.. أو يا لحسن الحظ!! يعني وكأنّ المسألة خرجت عن دائرة الضبط بشكل هستيري ودون أي ضوابط أخلاقيّة...
أيها السيّد المحترم، إمّا أنك تتكلّم وأنت غير ملتفت لمعنى ما تتفوّه به, لأنك إن كنت ملتفتاً فالأمر واضح حينئذٍ, وإن كنت غير ملتفت لما تقوم به, فمن حقّ الناس أن يسألوك عما تقوم به من القفز والتنقل بين هذا المبنى وذاك والالتفاف والدوران بين هذا الأصل وذاك؛ فما إنْ يقال لك: قد اشتبهتَ, تقفز إلى مبنى ثاني!! ثمّ في المرّة الثانية يتم تنبيهك أيضاً إلى اشتباهك, فتقوم بتغيير المبنى والأصل الذي اعتمدت عليه, ثمّ في المرّة الثالثة كذلك, ولكن حينما يتكرّر اشتباهك مائة مرّة وأنت تغيّر المبنى وتقفز وتعدل عن مبانيك، فهذا إنّما يعني أنّك مريض, و قولك: قد اشتبهت ومقصودي كذا وكذا, إنّما هو مرض كامن فيك, فالمسألة تدخل ضمن دائرة المرض حينئذ؛ جيد جداً, حينما يُقرّ الإنسان بمرضه، فإنّ الآخرين سيعرفون كيف ينبغي أن يتعاملوا معه, وسيفهمون أنّهم يتعاملون مع شخص مريض, وحينئذ تتخّذ المسألة شكلاً آخر خارجاً عن دائرة البحث العلمي!!
وعلى جميع الأحوال فإنّ الناس يفهمون هذه المسائل, تماماً كما فهم ذاك الأستاذ أنّه لو كان هناك عالم ديني حقيقي فهو هذا الشخص... فالناس تفهم الصدق والصحة وتميّزه عن الكذب والسقم, والناس يدركون الكلام المتخفّي والمعسول, ويفهمون النفاق, فالبشر يشخّصون الاشتباه ويميّزونه عن الحقّ.

    

اختلاف الظاهر عن الباطن يدل على القول بأصالة المادّة

يقول المرحوم العلامة: حينما كنت أتحدّث مع ذاك الشخص وأقول له: يجب أن تراعي المصالح الإلهية بشكل دائم؛ أي عليك أن تتأمّل في ممشاك وسلوكك وأقوالك وأفعالك وتخيّلاتك وتفكيرك. فكان يجيب بقوله: لا.. ليس الأمر كذلك, فكثيراً ما يضطّر الإنسان إلى ترجيح المصالح الاجتماعيّة على المصالح الإلهيّة!! فهذا الكلام لم يكن مجرد كلام شخص عاديّ وعامّي, بل هو كلام يتفوّه به أحد الكبار والأعاظم في الميدان العلمي!! حسناً, انظروا إلى أيّ حدّ يمكن للأمر أن يصل! في نفس الحديث الذي بيّن فيه العلامة هذه القضيّة و كان يتكلّم حينئذ عن العلم والعمل ـ والإخوة قد سمعوا ذلك حيث أنّ المسألة قد أشيعت وأذيعت ـ كان العلامة يقول: حينما كنتُ في النجف, ذهبت إلى أحد مجالس البحث والدرس العلمي, و كان مجلس احد العلماء المعروفين، و كنت قد وصلت قبل الأستاذ، فجلست جانباً, و عندما جلست وجدت أن شخصين أو ثلاثة من أفراد ذلك البيت كانوا جالسين و كانوا يتبادلون الحديث قبل شروع الدرس, فكان أحدهم يقول للآخر معترضاً:
لماذا فسحت المجال لفلان كي يأتي و يقيم في هذا المنزل؟! ينبغي ألا يعطى أيّة فرصة أو مجال للمجيء إلى هذا المجلس لأكثر من يوم أو يومين, و بعد ذلك عليه أن يرحل من هنا وينتقل إلى مكان آخر, وذلك لأنّ أمثال هؤلاء الأشخاص إذا ما أقاموا أكثر من ذلك فإنهم سيطّلعون على سائر الأمور والمسائل, وليس من الصلاح أبداً أن يكتشفوا هذه المسائل ويطّلعوا عليها!!!
هل رأيتم؟!
هل رأيتم إلى أين تصل الأمور؟!
فليس من الصلاح أن تنكشف أسرار فلان؟!
يعني هناك اختلاف بين الواقع الموجود فعلاً وبين ما نبديه للآخرين!! فالذي نبديه مختلف مائة وثمانين درجة مع ما هو حالنا الواقعي!! وهذا الكلام ليس كلامي, بل لا بدّ وأنّ الإخوة قد سمعوا ذلك من قبل.
وهذا هو بيت القصيد, فالشخص الذي يتعامل مع المجتمع والناس بوجهين, ويقول: علينا أن نظهر للناس الأمور بشكل مزّين ومزيّف ومتلوّن, فيسعى لإبداء نفسه أمام الناس بشكل حسن و لطيف... مثل هذا الشخص يحمل في قلبه النزعة المادّية, وهو مادّي حتى وإن كان على رأسه عمامة, أو حتى لو كان رأسه بهذا القدر!! فلا فرق أبدا بين أن يكون معمّماً أو عامّياً, ولا فرق بين أن يطرح نفسه بعنوانه شيعيّاً أو سنّياً, يهودياً أو نصرانيّاً, فهو إنسان مادّي على جميع الأحوال, لماذا؟ لأنّه يسير في ممشى الماديّين, وينهج بنهجهم ويعمل بسيرتهم وسنّتهم, ويعيش بأسلوبهم و وطريقتهم التي يخوضون فيها غمار حياتهم الدنيويّة, ويقضون فيها عمرهم ويصلون بواسطتها إلى ملذّاتهم الكبرى, فيقترفون كل ما يوجب رفاهيّتهم والتذاذاتهم النفسيّة, فحقيقة هذا الأمور موجودة في قلب هذا الشخص بلا تفاوت. ومن يكون كذلك فليس له ما يمنعه عن ممارسة ما يشتهيه, فإنّه يفعل كل ما يريده!
إن مثل هذا الشخص يعتقد أنه عندما ينقطع الارتباط بين روحه و جسده ، أو حسب تعبيره كشخص ماديّ لا يؤمن بالروح: عندما تتوقّف خلايا الجسد و تكفّ عن العمل، و عندما يتوقّف الدماغ ويسكن، و حينما يتوقّف القلب عن الحركة (فالذي يتحرّك برأيهم هو الجانب المادّي فقط وفقط!) وحينئذ عندما يتوقف الجانب المادي سيكون ذلك توقّفا لكلّ شيء!! يعني قدّ تمّ وانتهى كلّ شيء! ويكون الحاكم حينئذ هو العدم, هذه هي حقيقة اعتقاد القائلين بأصالة المادة, ولا فرق في ذلك بين أن يكون الإنسان شيعيّاً يسير عمليّاً على هذا المنهج المادّي, وبين أن يكون منتمياً إلى المدرسة المادّية والنزعة المادّية, فكلاهما واحد من الناحية العملية،فصلاة هذا مثل الرياضة التي يقوم بها ذاك، و لا فرق بينهما, فأنت تصلّي صلاتك بشكل معكوس ومقلوب!! فأنت تصلّي في صحن أمير المؤمنين عليه السلام, إلا أنّك من الناحية العمليّة تقوم بمجرّد حركات رياضيّة فحسب.. وهذه هي الحقيقة وبكل صراحة! فصلاتك هذه لا تقرّبك حتى ولا سنتمترا واحدا! فهي لا تتجاوز أعلى رأسك.. و لذا فأنت تمارس الرياضة لا أكثر ولا أقل.
كذلك الأمر بالنسبة للصيام, فنحن نصوم {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان}[1] إلا أنّك في الواقع تقوم بتخفيف الوزن وتمارس الرجيم فقط لا غير.. فشهر رمضان الذي تمضيه وأنت جائع, إلا أنّك تلهج فيه بالغيبة والتهمة من الصباح إلى المساء, وتقوم بالخزعبلات.. وإراقة ماء وجه الآخرين.. وإشاعة الأكاذيب.. وهدم موقعيّة الناس.. والقدح باحترامهم.. والتخريب.. والتعالي.. لاستجلاب الصدارة والمكانة الأرفع, مرتكباً في سبيل ذلك جميع أنواع الفضائح المشينة... فهل هذا هو الصوم الذي أوجبه الله؟ لا.. هذا هو صوم الماديّين والملتزمين بأصالة المادّة.
إنّ كثيرا من الأشخاص بهدف تخفيف الوزن يأكلون وجبة واحدة من الطعام صباحاً, حتى لا يعود لهم أيّ نوع من الاشتهاء حتّى الليل..
صحيح!!
فهذا النوع من الجوع هو بعينه الذي يحصل في صوم هؤلاء, لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش [2]، فهذه مرتبة أعلى وأدقّ, إذ من الممكن أن يكون نصيب الصائم مجرّد الجوع والعطش, كما لو كان يغتاب أثناء صيامه, فهذا الصوم في الحقيقة ليس صوماً, لذلك فلتأكل حينئذ!!
تماماً كما حصل زمن هارون, حيث كان هناك شخص قد جاء إلى الإمام موسى بن جعفر عليه السلام وقال له:
لقد ذهبت لزيارة منزل أحد أصحابي, حيث كان يعمل كمسئول عن الديوان, ورأيته يأكل في شهر رمضان, فسألته لماذا تأكل؟
قال: لقد ارتكبت جناية لا ينفع معها أصُمتُ أم لم أصم, صلّيت أم لم أصلّ. لقد استدعاني هارون في إحدى الليالي ـ وقصّته طويلة ـ وقال لي: إلى أيّ حدّ أنت تواليني وتفديني؟
قلت له: أفديك بكل أموالي.
فأعاد السؤال عليّ ثانية.
فقلت: أنا حاضر لأفديك بزوجتي وعيالي, (يعني هارون كان عجيباً جداً!! كيف كان يسيطر على القلوب ويتلاعب بها!! ما أعجب الإنسان، إلى أي حدٍ يصل؟!)
ثمّ في المرّة الثالثة سأله: إلى أيّ حدّ تفديني؟
فقال: أفديك بديني..
فقال له: هذا ما كنت أرومه, فلا حاجة لنا بعيالك فهم لك! فلدينا من ذلك الكثير ولا حاجة لنا بزوجتك!! فما أريده منك هو دينك!!
حسناً ماذا تريد منّي الآن؟
فأمر به إلى أحد السجون, وكان فيه ستّون شخصاً من بني هاشم, فقطع رؤوسهم جميعاً...
فقال: بعد قيامي بهكذا عمل فما الفائدة من أن أصلي أو أصوم, ولم أُتعب نفسي بعد ذلك, بل أنتظر عزرائيل ليأتي ويقبض روحي..
فقال له الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: قنوته ويأسه من رحمة الله أشدّ ذنباً ومعصية.

حسناً, ماذا يقول هؤلاء؟ يقولون: نحن نستفيد من جميع الملذات ونقترف كلّ المشتهيات, وهكذا حتى النهاية. فماذا يقول لهم رسول الله صلى الله عليه و آله؟ يقول لهم: إنّ ذلك الشخص الذي يصوم ويصلّي والحال أنّه يعصي الله ويخالف أمره, فلماذا يصوم إذاً؟! وذاك الذي يحيي الليل بالقيام بالصلاة, فأين هي آثار هذه الصلاة؟ وعلى أيّة نتيجة حصل؟ لقد كان عمله مجرّد سهر ومشقّة.. فالخوارج كان يصلون أيضاً, وتلاوتهم للقرآن كانت تُسمع من بُعد مسافة كبيرة, إلا أنّهم في الواقع هو خوارج يتلون القرآن, إن الشخص من هؤلاء قد حبس نفسه في دائرة أفكاره و سوره الخاصّ مما أوجب حرمانه وفقدانه لطيباته, فهو محروم من جميع أنواع الحريّات التي كانت لديه, و قد أصبح محروماً من جميع أنواع الرشد والوعي وفرص الترقّي.

    

عدم الحرية هو أحد أشكال القول بأصالة المادّة

لقد أصبح محبوساً في دائرة ضيقة, وفضاء لا يتجاوز أنانيّته ونفسه وحالة التنافس والجشع وممارسة الأمور الدنيئة والوضيعة, فهمّه أن لا يسقط ولا يقع, وهدفه أن يحافظ على كيانه, و هو يرى ان تغيير كلامه أو تنازله عن موقفه، يعني أنّ كلامه قد تغيّر!! و مكانته قد اهتزت!! لذلك فهو لا يغيّر رأيه ولا يبدّل مرامه وكلامه, بل يبقى على كلامه إلى آخر عمره! يبقى محاصراً ومحبوساً في دائرة هذا الفضاء الذي رسمه لنفسه حتى لا يرى كوّة ونافذة تريه النور..! فقد حبس نفسه في صندوق نفسه, وأبعدها عن الهواء الطلق, ومنعها من الأكسيجين المتواجد خارجاً, حيث كان من الممكن أن يدخل هذا الأكسيجين إلى هذا القفص, إلا أنّه بعناده قد أمات كلّ الفرص أمام وصوله إلى نافذة الحياة وملامسة النور واستشمام الهواء اللطيف. حينئذ يشرع بالقيام بالصلاة والصيام في ظلّ هذه البوتقة المغلقة, فيسهر الليالي ويحييها إلى الصباح في ظلّ هذا المحيط, ويقرأ القرآن في هذا الحبس, فيقرأه بصوت عالي.. فيظنّ أنّه برفع صوته سوف يتحرّر وسوف يتمكّن من إخراج نفسه وكسر قيودها وبالتالي يتحرّر ويحرز مقام العقل والفهم والمعرفة.. إلا أنّه في الحقيقة يقوم بعمله هذا بمحاصرة نفسه وحبسها أيضا.
كان أحد الأصدقاء يقول: كنت أتكلّم مع أحد الأشخاص وكنّا مختلفين على حدّي نقيض من الناحية الاعتقاديّة, و عندما أثبتُّ له عكس ما كان يعتقد, وسدَدْتُ له جميع الأبواب التي كان يستدلّ بها على مدّعاه, أطرق برأسه إلى الأسفل وقال: أنا معتقد بهذا الاعتقاد ولا أتنازل عنه!!!
هل رأيتم كيف ينتهي الأمر؟! هكذا كان يفعل الخوارج, فهذا هو حال الخوارج.. فحينما يُقام الدليل على عدم صحّة مرامك ومدّعاك, فاذهب وفكّر وتأمّل وجدّد نظرك؛ لماذا تنهار وتشعر بالاختلال في شخصيّتك؟ لماذا لا تستطيع أن تفتح قلبك كي يتمكّن ذاك النور من السطوع فيه, فتنحل تلك المسائل المعقّدة بالنسبة لك وتغيّر نفسك وتلمس التغير والتحوّل في ذاتك حينئذ؟ لماذا تعاند و تصرّ على الجمود؟ لماذا تهرب إلى داخلك وتقبع في قفصك؟! لماذا تختبئ في ذاتك, وتربط نفسك خلف الستار, فتغطّي نفسك بغطاء سميك لا يزال يزداد يوما بعد يوم؟ ألأجل النفوذ والسيطرة وحبّ التسلّط تقوم بجلب المصائب على رأسك؟ هل التفتّم إلى حقيقة المسألة؟!! فنحن في قرارة أنفسنا لا نريد أن نستمع إلى كلام الطرف المقابل حتّى وإن كان كلامه حقّاً, ولا نريد أن نتأمّل في أسلوبه وكيفيّة طرحه, ولا نريد أن نفكّر به!!, فنعمد من أول الأمر إلى إقفال أنفسنا.
أنا أعترف بأني ولطوال عمري لم يكن حالي كذلك، حتى بالنسبة للعلماء الآخرين والمخالفين... يعني: حينما كان يأتي شخص من العلماء أو أحد الأفراد وينقل مطلباً عن العلماء أو عن أي شخص آخر, بحيث يكون كلامهم تاماً ومتضمّناً للعبرة ومقتضياً للتفكير والتأمل, فحينما يطرح المسألة على مسامعي فإنّي أستمع, و أنا حتى الآن كذلك أفكّر و أتأمّل به أيضاً, فلم يصدر منّي أن أتى شخص ونقل مطلباً عن أحد الأعلام الكبار, فأقول له: اسكت! لا تتكلّم!! لا أريد أن أسمع ذلك! ولا أقول له: أنا عالم بما تنقله، وأعرفه سابقاً! بل أستمع إلى كلامه وأفكّر جيّداً في خباياه, وأتأمّل في مراده ومقصوده وهدفه, وأتفكّر في المبدأ الذي ينطلق منه ويعتمد عليه؛ هل هناك اشتباه أم لا؟ هل وصله المطلب بشكل خاطئ؟ ففي العديد من المواضع يكون الأشخاص معاندين ومخالفين لهذه المدرسة, بحيث يقابلونها ويواجهونها, إلا أنّهم بعد الكلام والحديث والتوضيح يتغيّر حالهم, وينقلبون بشكل معاكس بسبب إصغائي وتفهّمي لكلامهم, فيقولون في أنفسهم: إذا كان الأمر كذلك والحال أنّ الطرف المقابل قد وُلد و نشأ وترعرع وكبر في هذه المدرسة, فمع جميع ذلك إلا أنّه يتمتّع بالحريّة والاستقلال والنزاهة, فلا إصرار لديه ولا تعصّب عنده, فلو كان في هذه المدرسة تعصّبٌ للزم أن يكون متعصّباً أكثر من أيّ شخص آخر, وللزم أن يكون مصرّاً على رأيه أكثر من جميع الناس, فيشعر الطرف الآخر بأنّ هناك حرّية وراحة وأمان, وهذا هو منهجنا وأسلوبنا.
كنتُ قد قلت للإخوان أنّي حينما أردت كتابة المجلد الثاني من أسرار الملكوت, لم أقم بذلك إلا على أساس الوظيفة الشرعية, فاغتسلت وصليت صلاة الاستخارة, وتفاءلت بالقرآن, إذ على عهدة من تقع مهمّة بيان هذه المسائل؟ ومن الذي يجب أن يبيّنها للأفراد ويوضّحها لهم, ويوضّح نقاط الإبهام التي تكتنف مدرسة العلماء والعرفاء, وعلى عاتق من تقع مهمّة اقتلاع هذه الشبهات من أذهان الأفراد الذين يظنّون أنّ مدرسة العرفان مصابة بالانحراف وحاوية للمطالب الخلافيّة؟ ليس هناك من يقوم بهذه المهمّة, بل إننا نرى أنه كلّ يوم تضاف إلى هذه الشبهات شبهات جديدة, وكل يوم يزداد الغموض بشكل أكبر, فإن لم أقم بكشف القناع عن هذه المسائل ـ حيث أنّي كنت شاهدا وحاضرا في خضمّ هذه الحوادث ـ فمن يفعل ذلك إذاً !! فمن الطبيعي أن يكون هناك إلزام عليّ في أن أتصدّى لبيان هذه المسائل.
حسناً.. فما هي المسائل التي طرحتْ حتّى أصبح النظر إلى غلاف هذا الكتاب محرّماً!!! هل رأيتم إلى أين يصل التعصّب؟! عزيزي! النظر إلى غلاف الكتاب ليس جناية أبداً, فأنتم تشاهدون أموراً أخرى كثيرة! وغلاف هذا الكتاب لا يعادل شيئاً بالنسبة لمشاهدة تلك الأمور!
صحيح..؟
ولكن في الطرف المقابل, حينما أُلّف كتاب يتناول حياة المرحوم العلامة, فجاء عدّة وقالوا لي: لقد انتشر كتاب في الأسواق يتناول حياة المرحوم العلامة. فمباشرة وبدون أن أطّلع على الكتاب وبدون أن أراه, وقبل أن يصل هذا الكتاب إلى يدي, وقبل أن أتحسّر وأضرب يدي على الأخرى لما يحتويه من المسائل... قبل أن أشاهده, فما إن سألوني: هل نشتريه؟ قلت: ضعوا في كلّ غرفة عشر نسخ منه, كلّ ذلك قبل أن أراه...
لماذا؟ لأنّه على الإنسان أن يكون عاقلاً, أي يكون لديه عقل.. يكون فهيماً.. فلا ينبغي أن يكون في ذلك أيّ اعوجاج, اقرؤوه بشكل دقيق وتأمّلوا فيه, فإن كان حسناً ونافعاً فعليكم أن تقبلوه, فلا إشكال في كلّ ذلك, ولا حرمة في ذلك, ولا معنى للتلاعب والتلوّن في مواجهة أمثال ذلك, نعم قد تأسّفت كثيراً حينما قرأت مقدّمته, ورأيت أنّه على عكس النقيض مع مدرسة المرحوم العلامة, وعلى الخلاف من عقيدته التي صرّح بها في المجلّد الثامن عشر من معرفة الإمام, فرأيت أنّ الأمور قد أُخرجت بثوب آخر وبشكل مغاير لما تضمّنته مطالب المرحوم العلامة هناك, حينها قلت: وا ويلاه!!
هل رأيتم؟ نحن لا نستطيع أن نقابل المطالب الواضحة والشفافة والصريحة والنورانية التي تلقى على مسامعنا دون أن نحرّك ساكناً ودون اكتراث بها, فحينما كان يقول المرحوم العلامة: يجب أن يبقى حريم الإمامة محفوظاً ومحميّاً.. ينبغي أن يبقى حريم الولاية محفوظاً.. يجب أن يبقى حريم العصمة محفوظاً.. يجب أن يبقى حريم الإمام المعصوم عليه السلام محفوظاً.. ويجب أن تظهر هذه الحقيقة في الخطب والعبارات والكلمات والمختلفة, بحيث لا نستعمل تلك التعابير التي نستعملها للإمام المعصوم عليه السلام في مكان آخر, فهذا المقام مختص بالإمامة وخاص بها حصراً.. أمّا هذا المقام فعبارة عن المحيط المقدّس المختص بالرسالة.. و ذاك هو المجال والنطاق المنحصر بالألوهيّة، وليس لنا أن نتعرّض في مسألة الألوهيّة لإنزال مقام الطهارة والتوحيد واستعمالها لظهورات ومظاهر أخرى في عالم التعيّنات, وإلباسها لفرد آخر وتسريتها إلى شخص آخر ومظهر آخر, فتعاملنا مع مقام الدعوة والرسالة يقتضي أن لا ننزّل تلك الأوصاف والعناوين.. وتلك الشخصية.. وذاك المقام المنيع لرسول الله.. المختصّ فقط وفقط بالنبي والأئمة المعصومين الأربعة عشر حصراً, والمتصفين بهذه الأوصاف دون غيرهم حسبما اقتضته المشيئة الإلهية, فلا يمكننا أن نسرّي حريم هذه الحقيقة المختصّة بالمعصومين الأربعة عشر عليهم السلام على أي شخص آخر.. أو أي عالم فذّ.. حتى لو كان عالماً كبيراً وعظيماً.. فهو على رأسنا وعيننا.. فنحن نأمل نيل الشفاعة من جميع العلماء, ونحن نشعر بالشكر والامتنان اتجاه جميع العلماء الأعاظم, سواء من حيث طريقهم الذي مضوا فيه, أم من ناحية المشقات التي تحمّلوها, إن شاء الله الجميع مأجورون, ولكن! يجب أن يبقى ذاك الحريم محفوظا! فهذه الرسالة التي قاموا بالمنّة بتبليغها لجميع شيعة أمير المؤمنين عليه السلام فرداً فرداً وبالخصوص طبقة الفضلاء وأهل العلم الذين نالوا أعلى نقطة من هذه المدرسة حيث وقعت على عاتقهم وبعهدتهم, فمع جميع ذلك هل يحقّ لنا أن نورد بعض التعابير في استعمالاتنا وندخل فيها عناوين كنّا نألفها ونستعملها سابقاً للإمام فنطلقها الآن على هذا العالم؟!! أليس ذلك مضحكا؟! أليس ذلك مثيراً وغريباً؟! تماماً كما لو أنا الآن أتكلّم معكم.. فأنا الآن عمري ثلاث وخمسين سنة أو أربعا, فأنا لم أدقّق في الهوية [ضحك من الحضور] يعني خمسين فصاعداً..
صحيح؟!
كيف تتعاملون معي؟! فلو أردتم أن تذكروا اسمي فبماذا تخاطبوني؟ تقولون: السيد الطهراني, أليس كذلك؟! فهذا اللقب متعارف وشائع لي, حسناً, فلو كان يناديني الجميع أيّام طفولتي بـ طفل, ويقولون: تعالَ أيّها الطفل... فهل تنادوني الآن بـ طفل!! هل تقولون: صعد "الطفل" إلى المنبر؟! وتكلم "الطفل" على المنبر؟! ها؟! أليس ذلك مثيراً للسخرية؟! فعلى من تضحكون حينئذ؟! فأنت تستعمل لقب أحد الأشخاص ثم تستبدله مكان لقب شخص آخر لديه خمسون سنة من العمر!! أيها الأحمق! كلّ من يقرأ كتابك يفهم أنّك ضدّ مدرسة الأولياء, ويفهم أنّك تتفوّه بالكلام الكاذب, يفهم أنّ صاحب هذه الكلمات مكّار, ويشمّ رائحة النفاق, ويفهم أنّك مخالف لمدرسة الأولياء, وأنّك تقوم بذلك بهتك أساتذتهم, كل من يقرأ كتابك يفهم ذلك.
صحيح؟!
الأجدر ألا تتصدى للكتابة, فأنت الذي لا تمتلك الجرأة على فهم كلام العلماء والتعاطي معها بنَفَس التحقيق والبحث والدقة، لا يحقّ لك أن تنقل مطلباً عن والدي وصاحب هذه المدرسة بشكل معكوس ومخالف لما قد دوّنه ضمن مجلّد كامل!! ليس لك حقّ أن تفعل ذلك أبداً! فأنت قمت بخيانة مدرسة العلماء ومدرسة أولياء الله..
صحيح؟!
ولكن, ومع كلّ ذلك, فحينما نُسأل نقول: اذهب واشتر كتابه واقرأه, فلا مشكلة في ذلك, اقرأه.. لا مشكلة بذلك, لماذا؟ لأنّ هذه المدرسة مدرسة الحريّة, مدرسة أمير المؤمنين عليه السلام تقول: أبق رأسك مرفوعاً وعالياً, امض إلى الأمام مستقيماً عالي الرأس.. اخط إلى الأمام بشكل مستقيم.. ولا تلو رأسك إلى الأسفل.. لا تغمض عينيك.. لا تلقّن نفسك وتقول أنا حمار! لا تلقّن نفسك تلقين البهيميّة! بل حتّى لو كنت حماراً فعلى الأقل لا تفش ذلك أمام الناس! أمير المؤمنين لا يقول: احن رأسك إلى الأسفل وأغمض عينك, وامسح نفسك أمام مختلف الناس وعظّمهم كيفما كان!! بل يقول لنا: ارفع رأسك إلى الأعلى واجتز الطريق بشكل صحيح, واجعل مسيرك في المجتمع بشكل متين ومتقن, وافهم ما تنطق به, وكن مؤدّبا, وتكلم كلاماً صحيحاً, وكن منطقياً, حينئذ سيقبل الكل كلامك.. والجميع يستمعون لك..
صحيح؟!
وأما حني الرأس إلى الأسفل!! والقيام بالتبسّم!! وإظهار التواضع!! مع وجود ألف شيطان يترعرع ويغدو في داخلك وباطنك... فهو ممّا لا مجال له في مدرسة علي! لا مجال لكل ذلك في مدرسة القرآن.
كان المرحوم العلامة حينما يواجه الأشخاص المتلوّنين الذين يهرجون ويمرجون ويهرطقون... يعني تمثيل وتهريج ولعب... لا أدري ما إن رأيتم أمثال هؤلاء الأشخاص؟! كان حينما يواجه مثل هذه المسائل, كنّا نرى منه العزّة والمناعة والحرية والثبات... هذا الذي كنّا نراه منه في هذه الظروف, كان يقول: أصلا الإنسان لا يحتاج إلى هذا التهريج والخزعبلات أمام مرأى الناس, فليس الإنسان مضطرا لأن يعرض نفسه أمام مرأى الناس بهذا الشكل أبدا, لا يحتاج لهذه الكلمات, بل عليه أن يمشي ويسير بشكل واضح ومستقيم, بشكل منظّم.. مرتّب.. هكذا يسير ويمضي في طريقه, وكلّ من يريد أن يتقبّل فليتقبّل, وكلّ من يريد أن يتّهمه بالتكبّر فليتّهم!! ليقل إنّي متكبّر أصلا, نعم, التكبّر غلط وخطأ, ولكن هذا التواضع النفاقي, وهذه الحالة التي نُلبس بها أنفسنا, ونتصوّر أنّنا قد أعرضنا عن الدنيا وأنّنا قد اجتزنا المقامات... فهذا الحال أسوء بألف مرّة, فهذه الحالة أسوأ من التكبّر على النفس بألف مرتبة, فالتكبّر أن أرى نفسي أنّي أعلى من الآخرين وأشعر بذلك, والبقية يسبّونه ويهزؤون به ويسخرون منه, ولكن هذا الذي يتصنّع ويطرح نفسه بأنّه ذو رفعة ومقامات ويتصنّع ويمثّل على مرأى ومسمع من الناس بأنّه كذا وكذا, بحيث يجعل نفسه مصداقاً لتعريف وتمجيد الآخرين, فهو يخرّب باطنه, وهو آناً بعد آن يقوم بإضافة حجاب بعد حجاب, وينصب أمام ناظريه ساتراً تلو الساتر، تمنعه من فهم الحقيقة المتلألئة والبادية من حوله.

    

مدرسة العرفاء تقتضي الاعتماد على أصالة المعنى

إذن, ما تقتضيه مدرسة العظماء والأولياء هو أن يخطو الإنسان في ممشاه ومسيره معتمداً على أصالة الروح وأصالة المعنى وأصالة الغيب؛ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [3] لا الذين يؤمنون بالظاهر, ولا الذين يؤمنون بالمسائل الاجتماعية, ولا الذين يؤمنون بالشؤون الاجتماعية والمسائل الشخصية, فهمّهم أن يطرحوا أنفسهم أمام الناس بحيث يمكنهم أن يتكلّموا, يطرحون المسائل المغلوطة والمخالفة ويدخلونها بشكل مخفي وتدريجي!! مثلا: حينما يتكلّم الناس معنا, ويكون المصورون مجتمعين من حولنا يلتقطون صورنا, تماما كما أنّ الآن السيد [فلان] يقوم بتصويرنا.. [ضحك من الحضور] حينئذ أتكلّم بشكل خاص, ولكن حينما أذهب إلى الداخل أتكلّم بشكل آخر وأغيّر وأبدّل, وأقول: عزيزي! ما كنّا نتكلّم به هو للناس, أمّا الآن تعال نجلس ونأنس ونتسامر مع بعضنا!!! حينئذ هذه هي أصالة المادّة, هذه هي أصالة الظاهر, هذه هي أصالة المجتمع, هذه هي أصالة الشؤون الشخصيّة والمصالح الفرديّة, هذه هي أصالة الشيطان وأصالة إبليس وأصالة جنود إبليس.
وأما أصالة الروح وأصالة الغيب، {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} فإنّها تقتضي أن يكون تعاطي الأشخاص المؤمنين وحركاتهم مع الناس هي عين الغيب, يعني أن يكون كلامهم مع الآخرين مبنيّ على أساس الغيب.. يعاشرون الناس على أساس الإيمان بالغيب ويختلطون معهم بناء على ذلك, من باب المثال: نجد أنّ شخصين يأتيان من زيارة كربلاء, فيذهب الناس لزيارة الوجيه منهما دون الآخر, فهذه أصالة المادة, وزيارتهم لهذا الشخص ليست للإمام الحسين عليه السلام, بل هي زيارة لأجل الشيطان, وهي زيارة للخيالات والأوهام.
كذلك لو كان هناك شخصان أحدهما ثري وله موقعية بارزة أمام الناس, فحينما نذهب إلى زيارته نبدأ باستعمال العبارات الطنانة والاستعراضية: (كم اتصلنا بكم لنتشرف بزيارتكم..!! كنّا منتظرين لتشريفكم لنأتي إلى زيارتكم..!!) والحال أنّ الجميع يعلم أنّه بذلك يسخر من نفسه ويخادعها.. بينما ذاك الشخص الآخر الفقير مع كونه صديقاً ورفيقاً له, فإنّه لا يكاد يعتني به أبداً حتى لو ابتلي بمرض أو فاقة, بل يقول في نفسه: إن شاء الله سيشفى دون الحاجة إلى زيارتي!!! حينئذ هذه العيادة للمريض الثري هي زيارة للشيطان, وهي زيارة للتخيلات والأوهام, و صاحب هذه الزيارة لن ينال بذلك أي ثواب أصلاً, بل ستدوّن في سجلّه معصية و سيئة إضافية, أليس كذلك؟!
صحيح؟!
إنّ حقيقة {الذين يؤمنون بالغيب} يجب أن تظهر بشكل عملي, و يجب أن تتجلى على أرض الواقع, والحال أنّ جميع الأعمال التي نقوم بها نحن, إنّما هي على أساس "يؤمنون بالظاهر" و "يؤمنون بالعلم المشهود" و "يؤمنون بعالم المادة" و "يؤمنون بالمادة" نعم هو إيمان بالمادة.. إيمان بالظاهر.. إيمان بالدنيا.. إيمان بهذه العلاقات.. العلاقات الاجتماعية، فنحن نعتقد ونؤمن بذلك فقط, ولا أثر أصلا لوجود الله تعالى في أعمالنا.
يتلو الإمام الحسين في يوم عاشوراء قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [4] يعني: إنّ هؤلاء القوم قد أصبحوا أناساً ماديين؛ فهم بمجيئهم لمحاربتي وقتالي وقتلي, قد أصبحوا مبتلين بتقديس المادة وأصالتها, فهم إنّما فعلوا ذلك لأجل بقاء يزيد! ليت ذلك كان لأنفسهم!! كان ذلك لبقاء يزيد وابن زياد!! كانت فعلتهم لأجل شؤونهم الاجتماعية، بغية ألف درهم، بل بغية مائة درهم! لقد جاءوا لقتل ابن النبي رجاء كيس من الحنطة.. بالله عليكم هل رأيتم فعلة كهذه؟! عزيزي، إذا أردت أن تقتل فليكن العوض مليون مليون... لا كيساً من الطحين!! يُحضرون إلى بيتك كيساً من البطاطا ويقولون لك: اذهب واقتل ابن النبي!! (لا أدري ماذا كان في ذاك الوقت, هل كان بطاطا! أم كان حنطة!! في ذاك الزمان كان الموجود حنطة) فلو أردت أن تبيع دينك فلماذا يكون الثمن كيساً من البطاطا لتكون ضمن جيش عمر بن سعد؟! عزيزي.. على الأقل فلتأخذ ثمناً أغلى من ذلك, فلتكن متعتك أكثر من ذلك! وليكن تلذذك أكبر!!
هذه هي أصالة المادة, يعني يأتون للإنسان ويعطونه كيساً من الحنطة.. وهو ما فعله ابن زياد حينما جاء إلى شُرَيح القاضي وأغدق عليه النقود الذهبية!! فـشُريح قبْلَ ذلك لم يكن ليقبل، و كان يقول: ماذا؟! أنا أُمضي ذلك؟! أنا أصدّر فتوى بمروق الحسين بن علي عن الدّين، و أحكم بخروجه عن دين جدّه؟!
فيأتيه الجواب: حسناً.. انتظر.. فما دام هناك منفذ، لعلّنا نتمكّن بواسطته من تغيير رأيك..
فهو لم يكن من الأول ليتجرأ ويقول بشكل صريح: لا مشكلة في ارتكاب هذه الفعلة.. لا مشكلة فأنا أُمضي ذلك.. كل ما تريدونه، فأنا أمضيه.. لم يكن يجرؤ على أن يقول لهم: اكتبوا ما تشاؤون واملؤوا الورقة بما تشاؤونه وأنا سأوقع في الأسفل..! لم يكن ليجرؤ على قول ذلك من البداية أبداً أبداً, بل كان يبدي الانزعاج وعدم الراحة من عرضهم.
لكن لو تأمّلنا بشكل دقيق فهو في الحقيقة يتربّص ويراقب وينتظر ردّة فعلهم, ويقوم بنوع من التفاوض النفسي و الأخذ و الردّ أمام عروضهم، ويدرسها دراسة نفعية دقيقة {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [5] فهذا يعلم ما بداخل ذاك, وذاك مطّلع على ما في قلب هذا الشخص ويعرفه جيدا!! فهم يرسلون إليه الشخص المناسب والذي يعرف ما الذي ينطوي عليه قلب هذا الشخص, لذلك فما إن يجلس معه عدّة دقائق حتى يخرج صرّة الذهب التي ترنّ وتطنّ!! كم هو جميل صوتها حينما ترنّ!! يعني لو نقوم نحن بهذا الدور فماذا نفعل!! نتأمّل قليلاً.. فنقوم بإخراج كيس آخر ونضعه بجانب الأول, وما إن يمضي قليل من الوقت, بعد عشرين دقيقة مثلاً, نخرج كيساً ثالثاً, ولا نقوم بإخراجها جميعاً من الأول! بل واحداً تلو الواحد, فيبدأ الطرف المقابل بالتراخي.. والتمايل.. ويبدأ بإظهار الليونة.. والتقارب والميل إليك.. ويبدأ يبتعد عن {الذين يؤمنون بالغيب} ويدخل في زمرة الذين [يؤمنون بالظاهر], أي يؤمنون بالسمعة والشرف! أي: الذين يؤمنون بالعملات الذهبية... فلهم عذاب أليم... هذه آية جديدة قد نزلت لتوها [مزاح ـ وضحك من الحضور].
نعم.. يخرج الصرّة الأولى, ثمّ الثانية, ثمّ يعطيه الثالثة، ذهب، فضّة.. وفي النهاية، يقدّم له الورقة ليوقّعها!!! فهو لا يعطيه إياها من البداية, بل ينتظر إلى النهاية فيقدمها له ثم يقول: لو تتلطّف علينا وتوقّع هنا، فيوقّع!!!!! وينتهي الأمر وتثبت المسألة بذمّته, فلا يمكنه التراجع بعد ذلك أبداً!! ولا ينتهي عملهم عند هذا الحد, بل يأتون في اليوم التالي ويجمعون الناس, ويحضرون ذاك المدرك, ويقفون على المنبر ويحضرون ذاك القاضي, ذاك القاضي الذي كان اسمه معروفاً زمن الخلفاء الراشدين الأربعة, يعني حتى زمن حكومة الإمام علي عليه السلام, هل التفتّم..؟! حينما يحضرون مثل هذا القاضي ويستغلّون اسمه ومكانته, فماذا سيقول الناس؟ حينئذ تتعقّد الأمور كثيراً, فالعمل الذي قام به شريح القاضي لهو أصعب ممّا تحمّله جيش يزيد الذي ذهب إلى كربلاء! فعمله هذا كان أصعب من كل ذلك, فجميع تلك الحوادث التي وقعت كانت بسبب فتواه وتوقيعه, فتواه بحقّ الحسين بن علي أنّه قد خرج عن الدين, وأنّ مجاهدته أصبحت واجبة.
عن أيّ دين أصبح خارجاً؟! فهو الحسين بن علي الذي كان يصلي ليلة عاشوراء على مرأى ومسمع من الجميع.. كان يتلو القرآن, فما هو الدين الذي خرج عنه؟! هذا هو الحسين بن علي الذي كان يصلّي الظهر والسهام تترامى عليه, أفأصبح الآن خارجاً عن الدين؟!! أصلاً لو كنّا نحن مكان الإمام الحسين، فهل كنّا سنصلّي في مثل هكذا ظرف خطر وحرج؟!
ولكنّهم أصبحوا عمي القلوب, لا يرون كلّ ذلك؛ فلماذا كل هذه التهم؟ لأنّه لم يرضخ للبيعة تحت حكم يزيد, فيزيد الذي يلاعب الكلاب ويمارس الفواحش!! يزيد خليفة الإسلام و هو غارق بارتكاب الفواحش وأنا ابن رسول الله, (ومثلي لا يبايع مثله), لا يمكنني أن أبايع شخصاً غارقاً بفعل الفواحش في بيته، فأنا ابن رسول الله ولا يمكنني أن أبايع شخصاً بصفته خليفة للمسلمين وأضع أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم وكلّ شيء تحت تصرفه! فالبيعة إنّما تعني ذلك, البيعة تعني: أنّه عليكم أن تقبلوا وترضخوا لكلّ ما أقول.. كلّ عمل أقوم به وأمارسه عليكم أن تفعلوه أنتم أيضا!!
ما الذي قاله هارون لذلك الشخص؟ قال: عليك أن تعطيني كل شيء، و تسلّم لي في كلّ شيء, فقال له: أعطيك مالي, وأفديك بناموسي وعرضي, إلى أن قال: أهبك ديني!! فقال له: حسناً، الآن تمّ الأمر!
صحيح..؟!
بهذا الموقف يكون هذا الشخص قد خرج من دائرة {الذين يؤمنون بالغيب} ودخل في زمرة [الذين يؤمنون بالظاهر].. الذين يؤمنون بالشؤون الشخصية والشؤون الاجتماعية والمصالح والمنافع الدنيوية وما شابه ذلك, لذلك يصفهم سيّد الشهداء بأنّهم: {استحوذ عليهم الشيطان}, هل تدرون ماذا يعنيه قوله تعالى {استحوذ}؟ يعني أن يجلس الإنسان القرفصاء ويربط نفسه ولا يدع لنفسه منفذاً ولا مهرباً, الاستحواذ يعني: أن يحبس نفسه بحيث لا يبقي لنفسه منفذا للتنفس ورفع الرأس, بحيث يفقد نفسه, يعني أن يدخل نفسه في دائرة {فأنساهم ذكر الله} أي حينما يبلغون هذا المبلغ فلا يعود ذكر الله يدخل في قلوبهم, فحتى لو أقول لهم: أنا (ابن النبي) فلا ينفع, ولو يعود النبي بنفسه إلى الدنيا ويقول لهم: هذا ولدي الحسين! فلا ينفع, لأنّهم سيقولون حينئذ: لقد مات النبي وتمّ الأمر, وما ترونه هو توهّم وخيال.. هي مكاشفة.. مكاشفات غير واقعية, فيحكمون عليها بأنّها لا فائدة منها أيضاً!
{فأنساهم ذكر الله} ماذا يعني ذلك؟ إنّها تعني أصالة المادة, إذاً لا نتوهمنّ أنّ أصالة المادة مختصّة بالأشخاص الملحدين والماديّين, كلا.. ولا تختص بالمنكرين للألوهيّة, الذين ينفون وجود الصانع و الموجد لعالم الوجود، الذين ينفون عالم الغيب, لا.. بل نحن ملتزمون بأصالة المادة أيضاً, ونحن ماديّون أيضاً, ونحن قد همّشنا أصالة الروح والمعنى, وأبعدناها وأمتناها بأيدينا, واعتمدنا على ممشانا ومنهجنا الخاص!!
بناء على ذلك، نصل إلى هذه النكتة؛ وهي أنّ كلّ شخص في أي نقطة من الدنيا ومهما كان انتماؤه؛ يهودياً أم نصرانياً, مجوسياً أو عدواً لله, أو منكراً لوجود الله إلا أنّه من الناحية العملية ومن خلال علاقته بالناس وسائر المنافع الشخصية والدنيوية, إن كان كلّ ذلك مبنيا على أساس الصدق والحرية والإنسانية, حينئذ يعتبر هذا الشخص من القائلين بأصالة المعنى وأصالة الروح حتى وإن لم يكن في حد ذاته من المعتقدين بذلك! والقرآن الكريم يشير إلى هؤلاء الأفراد بعنوانهم مستضعفين في الأرض, حيث لم تصلهم آيات الله ولم يعرفوا أكثر من هذا المبنى, والأمر بالعكس بالنسبة للطرف المقابل, فكلّ شخص في أي بقعة من الأرض وهو يدّعي ويعلن كلّ يوم أنّه شيعيّ موالٍ لأمير المؤمنين عليه السلام مائة بالمائة بل ألف بالمائة, ويذكر اسم الأئمة عليهم السلام في كلامه مائة مرّة, وينسب نفسه إلى الأئمة عليهم السلام, إلا أنّه لا يلتزم عملياً بمرامهم وممشاهم, ويتحرّك على أساس معاكس معهم, فهو إنسان مادّي وملتزم عملياً بأصالة المادة, ومنكر للألوهيّة والتوحيد والرسالة والحقيقة وعالم الغيب.

    

بناء مدرسة الأسلام على أصالة الروح و أصالة الغيب

هذه هي مدرسة الإسلام, فالروح المخيّمة على جميع أبعاد الإسلام في هذه المدرسة هي أصالة الروح وأصالة الغيب وأصالة المعنى, وفي ظل هذه الروح قد شرّعت الأحكام الإسلامية والشرعية, هذا هو الذي أردت قوله اليوم, فلا يمكن للإنسان في هذه المدرسة أن يسير على رسله وفكره وطبق برنامجه وطريقه الخاصّ به, ثمّ بعد ذلك يقوم بادّعاء أنّ ذلك هو حكم الإسلام!! عزيزي.. هذا الممشى الخاص بك لا ينسجم مع مباني الإسلام, فلو كنّا معتقدين بأحكام الإسلام حقّاً, ولو كنّا واقعاً معتقدين بحقانيّة شريعة رسول الله وتكاليفه وتشريعاته ووظائفه, فيجب أن نذعن بجميع الفرائض المنزّلة على قلب رسول الله ونقبل بجميع الواجبات والمحرمات وساير التكاليف كمجموعة متكاملة وواحدة, ونسير ضمن هذا الجو وعلى أساس هذه البيئة أي على أساس أصالة المعنى وأصالة الغيب, لا ضمن دائرة أصالة المادة, و إلا فإننا حينئذ سنصبح وكأنّنا نرقّع الأمر ترقيعاً, فهذا يأخذ بهذا الجانب وذاك بذلك الجانب وهكذا..
إنّ شريعة رسول الله إنّما تستطيع إثبات حقّانية نفسها وحجيّة ذاتها ضمن دائرة وأرضية أصالة الروح وأصالة الغيب, وهي إنّما يمكنها أن تظهر وتتلألأ في عالم الواقع في أحضان أصالة الروح والمعنى, وكذلك الأمر بالنسبة لولاية أهل البيت عليهم السلام, فهذه الولاية إنّما تتضّح معالمها في ظل أصالة المعنى, وإلا فأبو حنيفة كان لديه أحكام أيضا!! ولكن أيّة أحكام!! كان أبو حنيفة جالساً في الكوفة, فجاء إليه عدة أشخاص من قبل الحاكم يشكون له قضية قد حصلت آنذاك, فقال: هذه سرقة, فسألوه ما هو حكم السرقة؟ فقال: يجب أن تقطعوا يده, فذهب ذاك الشخص إلى دار الإمارة إلى الحاكم و نقل له فتوى أبي حنيفة ـ وقد نقلتُ هذه المسألة في المجلد الثالث من كتاب أسرار الملكوت ضمن إحدى المناسبات ـ و كان في مجلس أبي حنيفة شخص جالس يستمع, فقال لأبي حنيفة: هذا ليس سارقاً ولا ينبغي أن يقام عليه الحد، و بيّن له وجهة نظره حتى اقتنع أبو حنيفة بأنّ ذاك الشخص ليس سارقاً, وسلّم له بذلك فعلاً, فقال له في آخر المطاف: لتذهب إذن إلى الخليفة وتصلح ما أفتيت به بسرعة!! فقال له: لا داعي لذلك!! لأنّه يعرف أنّه لو تراجع عن فتواه فعليه أن يذهب بنفسه إلى قصر الملك ويعترف أمام الملأ بذلك!!! فبقي جالساً ليحافظ على مكانته وشخصيّته, وتمّ قطع يد ذلك الشخص البريء بلا دليل موجّه!! هذا هو رئيس مذهب أهل السنّة, يعني هو مستعدّ للقيام بفعل كل شيء, بل حسب اعترافه بأنهّ هو حاضر لأن يخالف الإمام الصادق في كلّ شيء!! وبعد ذلك نطلق عليه أنّه من مفاخر الإسلام؟! بحجّة أنّه دخل سجن المنصور!!!
الشخص الذي يفتي بحكم ما.. لا, الحقيقة أنّها ليست مجرّد فتوى عادية, بل هي قطع ليد إنسان, حسنا..ً لماذا لا تقوم وتقطع يدك أنت؟!
فهل يمكن لمثل أبي حنيفة أن يتولّى إدارة الحكم الإسلامي؟! أصلاً هل يمكن لغير المعصوم أن يدير عملية الحكم الإسلامي ويصدّر الأحكام الشرعية؟! فالمعصوم الحائز على مقام الطهارة إلى حدّ العصمة, هو الذي يمكنه أن يشعر ويحسّ بأصالة المعنى وأصالة الغيب وأصالة الروح, لماذا؟ لأنّه هو المحيط بالعالم والمسيطر عليه, حينئذ يشرع ببيان الأحكام من منطلق أصالة المعنى وأصالة الغيب, فكم يفرق حاله حينئذ مع حال الآخرين أمثالنا, فنحن الغارقون في عالم المادة, كيف يمكن لنا أن نستوحي تلك الحقائق الواقعية المنسجمة مع أصالة الغيب وأصالة المعنى؟! إنّ هذه المسألة دقيقة جداً, والإخوة الفضلاء يفهمون دقّة وعمق هذه المسألة, و هي أنّ الأحكام التي يجب أن تكون هي الملاك العملي للمجتمع بشكل فعلي, فعلى أيّ ملاك وعلى أيّ أساس يجب أن تبتني وتتركّب وتظهر, ومن أيّ شخص يجب أن تظهر هذه الأحكام؟ ومن أي شخص يجب أن تبرز وتبلّغ؟! وهو أمر هامّ جداً, هذه هي مدرسة أصالة المعنى..
صحيح..؟
لأجل ذلك يقول رسول الله: (ترى المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو..) واقعاً رواية عجيبة, يعني من يبلغ حقيقة هذا المعنى, ويدرك هذه الحقيقة, تصبح جميع آيات القرآن قابلة للفهم بالنسبة له, وتصبح الروايات الواردة عن الأئمة ممكنة الفهم والإدراك بالنسبة له, حينئذ يمكنه أن يفهم علل كلام الإمام ووجوهها, ويستطيع فهم ملاك آيات القرآن, ويفهم سبب اختلاف هذه الآية عن تلك, حينئذ يفهم وجه وسبب افتراق الأحكام وتفاوتها, ويدرك سرّ اختلاف انطباقها على الموارد المختلفة.
من يفهم ذلك يعرف حقيقة ما كان يقوم به المرحوم العلامة رضوان الله عليه, فذات يوم جاء أحد المراجع المعاصرين حفظه الله إلى ذاك الوليّ المعظّم, حيث كان قد سأله ذاك الولي العظيم ـ وأنا كنت حاضراً ـ وقال له: لو جاء شخص ولم يكن قد بلغه الحكم الشرعي لمدة ثلاثين سنة, وظلّ طوال مدة ثلاثين سنة يغتسل بشكل خاطئ, فكان يغتسل من الجنابة, إلا أنّه بدلا من أن يغسل الجانب الأيمن أولاً كان يغسل الجانب الأيسر قبل الجانب الأيمن, أو أنّه كان يغسل بدنه قبل رأسه, فمن الواضح حينئذ أنّ غسله سيكون باطلاً كما لا يخفى, تماماً كما لو توضأ المكلّف بادئاً باليد اليسرى قبل اليمنى, فمن الطبيعي أن يكون الوضوء باطلاً كما هو واضح, وبعد هذه المدّة المديدة, علم هذا الشخص بالحكم وعرف أنّه كان مشتبهاً, فما هو حكمه حينئذ؟ كان ذلك سؤال المرحوم العلامة لذلك المرجع.
والجواب الذي كان قد أجاب به هذا المرجع كان ناقصاً, يعني لم يكن جوابه تاماً. يعني في الحقيقة إنّ الغسل باطل بلا شكّ, ولكن نحن نريد الإجابة عن حكم هذا الشخص بعد مضي ثلاثين سنة, لا أدري ما إن كان الإخوان قد سمعوا هذه القضية سابقاً, فلا أدري في أي مكان كنت قد ذكرتها. فكان جواب هذا المرجع بأنّه: بناء على عدم شرطية التوالي في أفعال الغسل, بحيث يمكن للإنسان أن يغسل رأسه أولاً, ثم بعد مدّة يغسل جانبه الأيمن, ثم الأيسر وهكذا, فلا يشترط الترتّب في أفعال الغسل كما هو شرط في الوضوء, ففي الوضوء يجب أن يأتي المكلف بأفعال الوضوء مباشرة بشكل مترتب ومتوالي, وأما في الغسل فيمكنه أن يفصل بين الأفعال ـ طبعا هذا بناء على فتواه وإلا فالحقيقة أنّ هناك محدودية وضابطة من هذه الجهة, ولا يمكن أن يفصل بين أفعال الغسل بزمن طويل بحيث يغسل رأسه في هذا الأسبوع وجانبه الأيمن في الأسبوع اللاحق.. لا ليس الأمر كذلك يعني هذا اشتباه, نعم أن يفصل بين أفعال الغسل عدة دقائق بحيث يتحقق الغسل ضمن نصف ساعة تقريباً فلا إشكال وإلا فإنّه يبطل لأكثر من ذلك ـ حسناً فقال هذا المرجع: إنّ الغسل سوف يتحقّق منه بشكل تدريجي, ففي أغساله المتعاقبة خلال هذه الأيام سوف يكون قد غسل رأسه في أحدها, ثم جانبه الأيمن في الثاني, ثم الأيسر في الثالث وهكذا, فيتحقّق الغسل منه بشكل تدريجي مع الفاصلة الزمنية...
عزيزي! لو كان الأمر كذلك فهذا جيّد، ولكن حينما تصدر منه موجبات جديدة للغسل وبشكل متكررة.. [ضحك من السيد ومن الحضور] يعني على الإخوان أن يتصوروا الأمر.. وما الذي يحصل أثناء هذه الأيام والليالي!! التي تتوالى [ضحك من الحضور] فسوف يحصل مبطلات متعددة للغسل وموجبات جديدة للغسل.. حينئذ سوف لا يتأتّى منه الغسل أبداً, هل التفتّم؟! ففي الأسبوع الأول يكون قد غسل رأسه ثم بعد ذلك يكون قد أتى بالمبطل للغسل, فكيف يمكن أن نحسب أنّه قد غسل جانبه الأيمن والأيسر؟! بناء على ذلك فلا شك أنّ غسله وصلاته باطلة, حسناً, فالشخص الذي عكف على الصلاة ثلاثين سنة بهذا الشكل فماذا عليه أن يفعل؟؟
بهذا السؤال أراد ذاك الرجل العظيم أن يلفت نظر هذا الشخص إلى خطورة هذه المسؤوليّة الخطيرة للإفتاء, فهل توصّلت إلى هذه النكتة وهذا الملاك؟! فهل وصل هذا المرجع إلى أصالة الغيب وأصالة الحقيقة التي تترتّب الأحكام على أساسها, وهل اطّلع على الملاك الذي يتحكّم بأفعال المكلّفين؟! وهل عرف أنّه لكلّ شخص أحكامه الخاصّة بحسب ظرفيّته وإمكاناته وسعته الوجودية, والله يكلّفه بتكليفه الخاص به مراعياً جميع ذلك, والحقيقة أنّك لم تلتفت إلى جميع ذلك, لذلك تضطر إلى اللجوء إلى التوجيه بهذا الشكل وذاك..
بناء على ذلك, كيف يمكن للإنسان أن يتصدى ويتكفّل برعاية هذه الدائرة من الأحكام والحال أنّها إنّما شرّعت بناء على هذه الروحية وضمن هذه الدائرة. وإن شاء الله نطرح هذه المسألة بشكل فنّي ومستدلّ ومستقل ضمن رسالة الاجتهاد والتقليد للمرحوم العلامة, وهذه الرسالة عبارة عن كتاب عجيب جداً جداً, والحقير مشغول فعلا بتحقيقها وتنقيحها وإضافة بعض المسائل الفنيّة ومحل هذا البحث هناك إن شاء الله.
حينئذٍ يفهم الإنسان أنّه علينا أن نحذر ونخاف, يجب أن نكون محتاطين ومتّقين وحذرين بالنسبة لموقعيّتنا ومستقبلنا, فحينما نواجه مطلباً غير مفهوم بالنسبة لنا, فلماذا نقتحم ونوقع أنفسنا في المهلكة والمخمصة؟! لماذا نسبب الاضطراب لأنفسنا وندخل أنفسنا في كلّ شيء؟! لماذا!! فمن الذي حمّلنا هذه المسائل على عاتقنا!! فلو لم يقم أحد بتحميلنا ذلك فلماذا نقوم نحن ونوقع أنفسنا تحت وطأة هذا الحمل الثقيل؟! نحن علينا أن نقوم بالأمور التي يمكننا أن نفهمها ونعلم أبعادها فقط لا غير.
يقول رسول الله: ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم.. أي هذا الود وهذه المحبة والرحمة والعطوفة تجعلهم كالجسد الواحد, المؤمنون مثل الجسد الواحد, رسول الله لم يأت ليشرع مجرد مجموعة من القوانين, ويبثّ سلسلة من الألفاظ وأمثال ذلك, هذا عملنا نحن, فنحن الذين نتكلّم هكذا وكيفما كان, بينما رسول الله صلى الله عليه وآله إنّما كلامه من الوحي.. كلامه من الباطن والروح.. وهو عين الحقيقة, فحينما أريكم هذا الكوب الموجود أمامي وأقول لكم هذا ماء, فهو في الحقيقة ماء ولا يكون شيئاً آخر, لأنّي بإخباري هذا إنّما أسعى لأريكم الواقع, وأعرض عليكم المسألة بشكل واقعي وحقيقي, فأقول لكم: أنّه ماء وليس ملحاً أو مادة أخرى, فأنا أريكم الواقع. وكذلك رسول الله صلى الله عليه وآله إنّما يسعى من خلال أوامره الاجتماعية والأخلاقية ليرينا الواقع, يقول: المؤمنون والمسلمون كالجسد الواحد, وعلى جميع الملتزمين بالدفاع عن حقوق البشر... عليهم أن يكتبوا عبارة رسول الله كشعار لهم ـ بدلا من أن يكتبوا شعر سعدي!! ـ فرسول الله يقول: إذا اشتكى عضو, أي إذا وقع أحدهم بمخمصة وضعف وواجه مشكلة, فسائر الأعضاء يشعرون بما يمرّ به ويعرض عليه, تماماً كما يحدث للجسد, فحينما ترتفع الحرارة في الرأس فإنّ جميع أعضاء الجسد تشعر بالرجفة والاضطراب, كذلك لو حصل ألم في المعدة فإنّ جميع البدن يشعر بالحرارة والألم؛ من الظهر والأيادي وسائر الأعضاء, وكلّ البدن يشعر بعدم الراحة, فالألم الحاصل لأي عضو يعمّ سائر أعضاء البدن, لماذا؟ لأنّ جميع هذه الأعضاء مربوطة بأصل واحد ترجع إليه, وهذا الأصل هو الروح والنفس المحيطة والحاكمة على جميع هذه الأعضاء.
وما يزرع هذه الحقيقة في وجود الإنسان هو مدرسة أصالة المعنى, فحينما يبتلى أحد المسلمين في أحد الأماكن بألم معين فلا يمكن أن يمرّ ذلك بشكل طبيعي على سائر المسلمين, فالجميع مسلمون والكل يشعرون بمشاعر وأحاسيس واحدة, فمساعدة المسلمين واجبة ولازمة سواء كان المسلم هنا أو هناك. وما هو منقول عن الشاعر سعدي:
بنى آدم اعضاى يك ديكرند
                              كه در آفرينش زيك كوهرند
چوعضوى بدرد آورد روزكار
                             دكر عضو هارا نماند قرار
تو كز محنت ديكران بى غمى
                              نشايد كه نامت نهند آدمى

هو مأخوذ من رسول الله, حيث لم يقم سعدي بنقل مصدر الشعر وأنّه عن رسول الله, والحقيقة أنّه مأخوذ عن النبي, والآن منظمات حقوق البشر ينقلونه على أنّه من أشعار سعدي, والحال أنّه رواية عن النبي, , فما تقومون بنقله، هل تعلمون مصدره؟ هذه الروحية مأخوذة من أمير المؤمنين عليه السلام؛ الحاكم والحامي لهذا الدين وحامل لواء هذه المدرسة وهذا الدين. حيث يتأسّف ويقول من على المنبر: سمعت أنّه قد حدثت فاجعة في بقعة من البقاع الواقعة تحت حكومتي, أن جاء العدو إلى امرأة يهودية, فأخذوا زينتها وخلخالها من قدمها, (امرأة يهودية وليست مسلمة!!) عمدوا إلى سرقة ذهبها من قدمها, فبعض النساء يتزيّنون بجعل الذهب في قدمهنّ, فيقول أمير المؤمنين: لو متّ تأسّفاً على سماع هذه الجناية فلا عتب عليك!!
هذا هو الحاكم الإسلامي, وهذا هو المتولي للشؤون الإسلامية الذي يقدر على تحمّل هذه المسؤولية والإحساس بهذه المشاعر, ويحسّ بحقيقة: ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم... فيعيش ذلك في تمام وجوده وحقيقة وجوده, ويشعر بالأسف ويصرخ من أعماق قلبه, بحيث يستغرب الناس من حوله ويتعجبون من شدّة جدّيته في تأسّفه, بينما هو يقول: لو تموت تأسفاً فهو طبيعي جدا!! يعني: تلك المرأة اليهودية لها حقّ في رقبتي, فهؤلاء الغزاة الذين سلبوها خلخالها من قدمها كأنّهم سلبوه من عليّ مباشرة!! ولا يقال: عليّ مسلم بينما تلك المرأة من دين ومذهب آخر ولا دخل لي بها!! بل هو يرى نفسه وكأنّه هو الغريم, لأنّه هو المسئول عن ذمّة الإسلام, فكلّ ما يجري إنّما يقع على عاتق وعهدة وذمّة حكومة أمير المؤمنين. فهذا الإحساس الذي يشعر به أمير المؤمنين أشدّ وأقوى منّا بمئات المرات, فنحن ينبغي أن نحسّ بهذه المشاعر وهذا صحيح, بينما أمير المؤمنين يحسّ بها بشكل أقوى, لماذا؟ لأنّه يمتلك سعة وجودية أشدّ وأكبر منّا بكثير, فهناك فرق كبير بيننا وبين أمير المؤمنين, نعم صحيح أنّنا لا نمتلك مثل هذا الوجود, ولا نحوز على هذه السعة الوجودية, ولكن على الأقل فلنعرف من هو الشخص الذي يمتلكها, فلا أقل علينا أن نعرف أنّ هذه المسألة لها تحقّق عيني وخارجي وواقعي, وعلى الأقل فلنفهم كيفيّة فهم هؤلاء وكيفيّة عملهم, ونسعى لتقليدهم وتطبيق مبانيهم, فنحن لا ندرك هذه المسائل بل لا يمكن أن ندرك حقيقة هذا النمط من التفكير أصلاً, والذي يمكنه إدراك ذلك فقط وفقط هو الواصل إلى مقام الولاية من شيعة أمير المؤمنين, فهذا هو الذي يمكنه أن يدرك حقيقة ذلك, وأما غيرهم فلا.. ولا يتعب نفسه أبداً لأنّه لن ينال من هذا المقام شيئاً, ولكن على الأقل فلنعرف أنّ هذه المسألة لها واقعية وصحّة وحقيقة, وعلينا أن نقرّب أنفسنا إلى هذه الرتبة لتصبح أنفسنا قريبة من هذه المرحلة كي نصل إليها ونبلغها بالتدريج, وهذه هي أصالة الروح والمعنى, وكل ما هو مقابل لذلك هو على العكس منه.

    

قصة توضح مدى الانحطاط الذي يصل إليه القائلون بأصالة المادّة

المرحوم الوالد كان يقول: بعد زمان المرحوم البروجردي كان أحد الأفراد المعمّمين وكان شخصاً فاضلاً اسمه المرحوم الشيخ مهدي المحقّقي، و كان قد أرسله المرحوم البروجردي إلى ألمانيا لرعاية بعض الشؤون الإسلامية هناك، و حينما رجع إلى إيران ذهبت لزيارته,و كان يبيّن العديد من المطالب الجذّابة من الناحية الثقافية, ومن الناحية العلمية, ومن حيث ميزان إدراك المجتمع الغربي لمسائل الميتافيزيقيا, كالفلسفة وأمثالها من العلوم الموجودة عندهم, وكان يظهر الأسف والتأسّف الشديد اتجاه كيفية تعاملهم وتعاطيهم مع هذه العلوم, ومن ضمن المطالب التي نقلها هذه المسألة, يقول: كان هناك عائلة مسيحيّة، ثم أسلم أحد أفرادها بواسطة أحد الأشخاص وصار من الشيعة, وكان يقول: كانت تربطنا علاقة مع هذا الشخص, فعائلته كانت مسيحية إلا أنّه قد اعتنق الإسلام وأصبح شيعيا ولكن أولاده بقوا مسيحيين, ثم مرض وذهب إلى المستشفى, وكنّا نذهب نحن لزيارته, و لم نكن لنرى أحداً من أفراد عائلته بجانبه, وكنت كلّما أتكلّم معهم وأحثّهم على ضرورة أن يبقوا بجانبه ويخدموه كانوا يقولون: المستشفى تقوم بمهمّتها على أكمل وجه ولا داعي لوجودنا!! لماذا نذهب إلى المستشفى ونبقى بجانبه؟! (لماذا نذهب؟!! هل التفتّم..؟ لا قيمة لديهم لعالم المعنى.. ولا وجود للعاطفة.. ولا معنى لحقيقة الوجود.. الأصالة للمادة.. فهو مادّي حتى لو كان مسيحيا إلا أنّه مادّي.. فما دام يذهب ويأتي ويتحرّك وروحه متصلة بالبدن ويعمل كالحمار فهو حيّ, وأما حينما يضعف وتقل قدرته حينئذ فلا فرق بينه وبين الحائط والحجارة.. هذه هي مدرسة أصالة المادة.)
يقول: مات هذا الشخص, وطبقا لوصيّته غسلناه ودفنّاه, و حيث أنّه لا يجوز دفنه في مقابر المسيحيّين, فقد قمنا بنقله إلى مقبرة من مقابر المسلمين ودفنّاه هناك. وفي اليوم الثاني كنّا جالسين فطُرق الباب, فتحنا الباب فوجدنا عائلته قد جاؤوا وشرعوا بالسبّ والشتم و وتوجيه الإهانة لنا... وصاروا يقولون: أنتم قمتم بتجاوزنا وإهمالنا وعدم مشورتنا, فمن الذي سمح لكم أن تتدخلوا وتضيّعوا حقّنا من أبينا.. فقلنا لهم: ما الذي فعلناه نحن, كل ما قمنا به هو أنّنا دفنّاه في مقبرة من مقابر المسلمين وما شابه ذلك.. فقالوا أنتم ضيّعتم حقّنا من أبينا.. وقال: كانت زوجته وأولاده يبكون ويقولون: كان يمكننا أن نقوم نحن بما فعلتم به ولكن قبل أن ندفنه نقطعه إلى أعضاء متشتّتة ونبيع تلك الأعضاء!!! ونستغل ذلك لكسب العديد من الأموال والمكاسب وما شابه ذلك!!! فأنتم بدفنكم له قد حرمتمونا من حقّنا وضيعتم فرصة نادرة علينا!!
هل رأيتم...؟! هذه هي أصالة المادة, ليس لديهم عاطفة، ولا لديهم شيء من الرحمة، ولا لديهم محبّة، وليس لديهم وجدان ولا محبة ولا إنسانية، أنت مجرّد حيوان, أنت تفكر بنفسك فحسب.. تفكّر فقط وفقط بالـ فرنك و اليورو و الدولار.. تفكّر فقط وفقط بقيمة عينه, وقيمة القرنية وقيمة الكلية وقيمة...
كان يقول لنا أنّهم كانوا يستخدمون هذه العبارة: أنت قد قمت بالتعدّي والجناية اتجاهنا.. وهذه المدرسة في الطرف المقابل لكلام رسول الله حينما يقول: ترى المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كالجسد الواحد, فهذا في الطرف المقابل, فتلك المدرسة هي مدرسة الإنسانية وروح الجماعة ومدرسة الإنسانية الجماعية والروحانية الجماعية ـ والروحانية أهم من الجميع ـ بينما تلك المدرسة هي مدرسة الانفصال.. ومدرسة الاستقلال.. ومدرسة الوحدانية.. ومدرسة الشخصانية.. ومدرسة إرجاع الآخرين إلى كلامي.. ومدرسة شخصيتي أنا.. ومدرسة ترفّعي وتعاليّ وتكبّري.. ومدرسة جعل الآخرين مسخّرين تحت خدمتي وتحتي.. هذه هي تعاليم وأهداف تلك المدرسة, بينما في الطرف المقابل نجد أنّ مدرسة الإسلام تؤسّس لقاعدة الزوجيّة وعدم التفرّد, الزوجية على أساس أصالة المعنى وأصالة الغيب, وليس على أساس المذهب المادي والمادية..
وإن شاء الله نسعى للجلسة التالية أن نمتثل أمر الأصدقاء الأحبة [ضحك من السيد والحضور] كي نفي بوعدنا ونبيّن حقيقة ذلك, إن شاء الله, فبدون (إن شاء الله) لا يحصل شيء إلا بمشيئة الله, المرحوم الوالد كان يقول: بدون إن شاء الله لا يحصل شيئ, وكلّ عمل تريدون أن تعملوه لا يحصل إلا بمشيئة الله, وبدون ذلك لا يتحقق حتى ولو قتلنا أنفسنا, فالتقدير الإلهي والتوفيق الإلهي وعناية إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف, والذي هو ولي نعمتنا, وهو صاحبنا ومالكنا, وهو مولانا, وهو والدنا, وهو كل شيء عندنا, وبدونه نكون صفراً وباطلاً ولغواً وعبثاً, وعنايته هي التي تجلب الأمور, وعناياته هي التي ترفع الموانع, وعنايته هي التي تؤمّن الظروف والمقدمات, حتى يتمكّن الإنسان أن يتكلّم كلمتين ويتفوّه ببعض الجملات من المسائل والمطالب, ويعيش مع الآخرين بشكل عطوف ورؤوف ومشفق...
نسأل الله أن تشمل ألطاف حضرته وعنايته جميع الشيعة خصوصاً من كان منّا توقّعه أكثر من الآخرين, وأن يشملنا بعنايته دائماً وكثيراً, وأن لا يحرمنا في الدنيا من زيارتهم وفي الآخرة من شفاعتهم...
اللهم صل على محمد وآل محمد...


[1] ـ سورة البقرة (2) الآية 185.

[2] ـ بحار الأنوار, المجلد 93, باب36, صفحة294.

[3] ـ سورة البقرة: الآية 3.

[4] ـ سورة المجادلة: الآية 19.

[5] ـ سورة الأنعام: الآية 121.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی