معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات العلامة الطهراني > سلسلة محاضرات مباني السير و السلوك > المحاضرة الرابعة لمباني السير و السلوك

_______________________________________________________________

هو العليم

مباني السير و السلوك إلى الله

المحاضرة الرابعة

سماحة العلامة الراحل

آية الله الحاج السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

_______________________________________________________________

أعوذُ بالله منَ الشيطانِ الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنةُ الله على أَعدائِهم أجمَعين

ذَكرتُ خِلال الحديثِ عن مقدّماتِ "الطّريق إلى معرفة الله" عدّةَ أمورٍ أساسيّة, قدْ جَعلها الأساتذةُ الكبار, وعلماءُ "علمِ الأخلاق" محطّاً لأنظارهم, وينبغي على الإنسانِ مراعاتُها بشكلٍ تامّ. فقدْ ذُكِرَ ذلك في كتبِ الأخلاق, وفي "رسالة لبّ اللباب" ورسالة "السير والسلوك لبحر العلوم" وكذلك ضمن "زاد السالك" للفيض الكاشاني, وقد نبّهنا على بعضها ممّا هو بالغُ الأهميّة.
وقد تقدّم بيان واحدٍ منها هو: الهمّةُ العالية.
بمعنى, أنّه ينبغي أنْ يكون هدفُ السَّالك هو الله, فلا يَنحدِر إلى غير الله, ولا يعملنَّ لأجل الحُسْن أو الجمال.. فلا يَسعى مثلاً: نحوَ مكاشفةٍ في اليقظة.. أو مقامٍ ما.. فإنّ جميعَ ذلك فراقٌ وهِجران.. وإنّما على الإنسان أنْ يعملَ لله, وبعدَ ذلك, فإنْ أراد الله أنْ يعطي فهو منه.
ومنها الاستقامة:
أي الصّبر والثّبات والصّمود, فلا يسأمنّ الإنسان أبداً, إذْ سيَتِّفِقُ له مواجهةُ امتحاناتٍ كثيرة واختباراتٍ عديدة, فلا يفرّ من الميدان, ولا ينهزم, وإنما عليه أن يتحلَّى بالصّبر والتحمّل, حتى يصلَ إلى نتيجة إن شاء الله.
ومنها كتمان السِّر:
بمعنى, أنّه لو كان لدى الإنسان مطلبٌ باطنيّ, يجب أنْ لا يبيِّنه لأحد, لأنّ الله هو المطّلعُ على حاله, وما دام كذلك, فما معنى أن يبوحَ بما في داخله لشخصٍ لا يملك استعداداً لذلك, أو غير قادر على سماعه!! فينبغي أنْ لا يفصحَ عن شيء من ذلك, إذْ لا قيمة للكلام بذلك أصلاً.. ولا فائدة في التباهي به, فإن رأى الإنسان رؤيا حسنة في نومه, أو ظهر له مكاشفة, أو حصل له حال من الأحوال, أو اتضح له مطلب نورانيّ.. فكلُّ ذلك للإنسان نفسه.
وإظهار الحال للآخرين هو كشفٌ للسّر, والله لا يحبُّ كشف السّر, فيجب على الإنسان كتمان السرّ في أمثال هذه المسائل.

    

الطّاعة هي خروج الإنسان من إرادته و السّلوک طبق إرادة الله و مشیئته.

ومن المسائل المهمّة جداً الطّاعة.
فلا بدّ وأن تكونَ نفس الإنسان مطيعة, ومعنى أن يكون مطيعاً هو أن لا يبدي وجهة نظرٍ أو رأي من تلقاء نفسه.
فلدينا قرآن, ولدينا سنّة ومنهاج, وطبقاً لذلك يجب علينا أن نسلك ونسير قدماً, فمثلاً: يقول الله: يجب عليكم أن تصلّوا؛ فلو كنّا في مكانٍ ولم يكن من الصلاح أن نصلّي فيه, فهل نترك الصلاة!! وكذلك بالنسبة لحكم القراءة في الصلاة, فالسُّنة قائمة على وجوب القراءة جهراً في صلاة المغرب والعشاء.. فما معنى أنْ نقول: الجهر في العشاءين رياء, فلنقرأ بهدوء.. كما وقد سمعتُ أنّ بعض الطوائف الصوفيّة يقومون بفعل ذلك, وهو خطأ.
حينما يقول النبيّ اجهروا في صلاتكم, علينا أن نقول: سمعاً وطاعة. حتّى وإن يكنْ رياءً.. فما علاقتنا بذلك؟! فالذي شرّع وأمر هو صاحب الشريعة نفسه, فهو يحبُّ الرياء في مثل هذا الموضع!! بمعنى أنّه حينما يقول اجهر بالصلاة, يجب علينا أن نرتقي المئذنة ونقول: أشهد أن لا إله إلا الله, لنُسمعَ صوتنا للنّاس, ويجب عليك أن تذهب أثناء الليل إلى أعلى المئذنة, وتجهر بصوتك, وتوصله إلى النّاس: أنْ يا أيها النّاس استيقظوا من النّوم.. وها أنا أناديكم.. واكشف رأسك.. وكشّف عن قدميك.. واغتسل للإحرام.. وطفْ بأطراف الكعبة أمام جميع النّاس, وأظهِرْ نفسك.. بل إنّ نفس هذا العمل وهذه المناسك إبراز للنفس, وهو مع ذلك يوجبُ رضى الله.
وأما لو قالَ الإنسان مثلاً: أنا لا أقدر أن أحلق رأسي لأنّ الناس يتكلّمون عنّي ويقولون: انظروا لهذا, قد ذهب إلى الحجّ ويريد أن يبوحَ بذلك ويفصح عن عبادته ويبرز نفسه.. فحلق رأسه!! أو نقول مثلاً: أنا لا أكشف عن قدمَيّ.. ولا أُحرم بهذه الطريقة.. فكلّ ذلك خطأٌ أيضاً.
إذن, الطاعة واجبة, والله سبحانه بعد أن بعثَ الرسل أوجب على الناس اتباع شرائعهم, وجعل على عاتق أهل كلّ أمّة أن يطيعوا نبيّهم.
ففي القرآن الكريم
{ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}
[1]
أي تجب عليكم إطاعة الله وإطاعة رسوله, فإطاعة الله من خلال متابعة آيات القرآن. ووجوب إطاعة الرسول, بأن تنصتوا لكلّ ما يقول.. وأمّا لو أطعنا القرآن وأعرضنا عن كلام النبيّ, بدعوى أنّه اجتهادٌ منه ورأيه الخاص.. فإنّ ذلك يعني المواجهة مع النّبي ورفضه والوقوف بوجهه, وهو غلطٌ وغير صحيح.
مضافاً إلى ذلك, قد ذُكِرَ في نفس الآية أيضاً { وَأُوْلِي الأَمْرِ }, إذ يجب أن نصغي إلى الأئمّة ونطيعهم, ولا يمكن الاقتصار على إطاعة الله ورسوله فحسب, وإنما يجب أن نطيع الأئمّة, لأنّهم هم الولاة ومظهر الولاية والإمامة والحقيقة, ويجب علينا متابعة كلّ ما يهدوننا إليه من السّبُل.
فقد ورد في سورة الشعراء ـ ضمن خمس موارد حسب الظاهرـ خلال الكلام عن الأنبياء: لوط ونوح وشعيب والبقية, بما ملخّصه: أنّ هؤلاء الأنبياء قد أَتَوا ودَعَوا قومَهم, وكانوا جميعهم يخاطبون قومهم بـ { فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ }
[2] فيجب عليكم أن تتّقوا الله ويجب أن تطيعوني, وتذعنوا لي, لأنّ مجرّد ادّعاء تقوى الله لا يكفي, فلا بدّ من الاعتناء بسنّتي والالتفات إلى كلامي.
فماذا تعني الإطاعة إذاً؟
الإطاعة تعني الخروج عن إرادة ذاتك, والسلوك طبقَ إرادة الله ومشيئته, فمثلاً لو يقول لك اذهب وحاربْ, أو صالحْ, أو يقول لك تزوَّجْ, فافعل.. وإن يقلْ لا تفعلْ, فلا نفعل, ولو يقول لنا: اسكن في هذا المكان.. وعِش فيه, فافعلْ, أو يقول عِشْ في ذاك الطرف من الدنيا..أو هاجرْ, فافعلْ, وإن يقُلْ: اذهب إلى الحرب ومتْ, فعليك أن تفعل, هذا هو معنى الإطاعة.
ولا يخلوا هذا الأمر من صعوبة, لماذا؟
لأنّه من الطبيعي أنّ كلّ إنسان يحبّ أن يعمل بما ينسجمُ مع مراد نفسه وإرادته, وكلّ إنسان يحبّ أن يكون مختاراً, وحينئذ, يأتي الأنبياء ويأخذون هذا الاختيار الذاتيّ من الإنسان, ويمضون به في طريق التربية, فلو لم ينقَدْ إلى الطاعة, فسوفَ يبقى كالشّجرة البريّة التي لن تثمر حتى ولو عاشت ألفَ سنة, فعلَى المُزارع أنْ يأتي ويطعّمها, ويشذّبها, ويرعاها حتى تتحوّل إلى شجرة مثمرة, إلا أنّ الشجرة لا ترضى بأنْ يقوم البستانيّ بقطعِ أغصانها وتشذيبها, أو تطعيمها, لأنّ ذلك صعبٌ عليها, بل إنّ جذورها قد تتعفّن حينئذٍ وتنتُن, ولذلك فعلى المزارع أن يتولّى تربيتها بإحكام, فيسقيها المقدار اللازم من الماء, ضمن شرائط وظروف خاصّة.. ويشذبها.. يطعمها.. حتى تصبحَ شجرة مثمرة, وتبلغَ كمالها.
والورود كذلك, يجب أن تنشأ في ظل رعاية البستاني الخبير, والإنسان كذلك أيضاً.
افرضوا أنّ مريضاً يذهبُ إلى طبيبٍ ما ويقول له: أنا مريض.. فيسأله الطّبيب: ما هو مرضك؟ فيجيب: أشعر بالإعياء والتّعب, ونفسي تؤلمني.. أرجو منك أن تعالج ألمي الروحيّ, فيعاينه الطبيب, ويقول له: أنتَ لا تشكو من ألمٍ نفسانيّ, وإنّما لديك ألمٌ في قلبك, فيعود المريض يُكرّر ثانية, إلا أنّ الطبيب يقول له كذلك: أنت تعاني من داء في قلبك, اذهب فوراً إلى المشفى, وليعلّقوا لك سلكاً لقلبك ويأخذوا صور الأشعة وو... حسناً, ماذا لو لم يصغ هذا المريض؟!‍‍‍‍‍ إنْ لم يصغ إلى ما يقوله الطبيب, فسوف تفوته الفرصة من البداية.. فيجب عليه أن يذهب إلى المستشفى.. يعلقوا سلكاً لقلبه ويصوّروه, ثمّ يأخذوه إلى الغرفة ويقولون: لا يتكلمنّ أحدٌ مع هذا, ويلصقون ورقة خلف باب غرفته مكتوب عليها (ممنوع الزيارة), ويجب أن تبقى في الغرفة مدّة يومين (أو أسبوعين).. لا تتكلمنّ مع أحد.. ليبقَ المَصْلُ في يدك.. ولا بدّ من تزريق حقنٍ معيّنة في بعض أيّام الأسبوع.. وكذلك بعض الأقراص في اليوم الفلانيّ.. أو يقولون له: عليكَ أنْ تتناول كلَّ يوم ثلاثة أقراص صباحاً وظهراً ومساءً.. فإنْ يصغِ هذا المريض ويستمع لما يرشدونه إليه يشفى بشكلٍ واقعيّ.
ولا ينبغي له أنْ يقول: أنا كنت أخطبُ وأحاضر لمدّة ساعة مثلاً, فلن أنصاعَ لأمر الدكتور, لماذا يقولون لي الآن: أسكت؟! وكنت آكل "اللحم المشويّ" فلمَ لا يعطوني الآن الطعام؟! ويستبدلونه بوضع المصل في يدي؟! وأنا كنتُ أرفع الأثقال, فلمَ يقولون الآن: لا تنزل عن السرير؟! ولكي يتحسّنَ حالي بشكل أسرع أمرَ الطّبيب "بتزريقي" ثلاث أُبر يومياً! كذلك هذه الأقراص, فهي لا تتلاءم مع مزاجي, فلأقتصر بدلاً من الثلاث على اثنتين صباحاً ومساءً أو على واحدة يوميّاً!
حسناً, لا يخفى أنّه من خلال هذه التدّخلات سوف يُضرُّ بنفسه مائة بالمائة, ويكونُ قد تحرّكَ خلافاً لوجهة السّير المطلوبة, لماذا؟ لأنّ الطبيبَ بَذَلَ قُصارى جُهده لمتابعة أمره, فهو متخصّصٌ في هذا الفنّ وحاذقٌ في هذا المجال, أي هو مجتهدٌ فيه, والمريض جاهل بالنّسبة للطّبيب, وعلى الجاهل أن يمدّ يدَه للعالم ويلجأ إليه, وهي حقيقةٌ لا شَكّ بها, فإنْ كانَ الإنسان مريضاً, ولم يكن طبيباً, فمن الواجب عليه أن يذهب إلى متخصّص في هذا النوعِ من الضّعفِ المصاب به.. متخصّص في العين.. في القلب.. في الأذن.. في الرئة.. أياً يكن, ممّن يستطيع أن يشخّص حقيقة هذا الضّعف ويحدّد ماهيّة الألم, وبالتالي يعرف كيفيّة المعالجة, كما ولا بدّ وأنْ يتحلّى بالخبرة الكافية ويكون الأعلم في ذلك.
فمع الالتزام بتعاليمه سوف يصل إلى تكامل نفسه, ويتحسّن حاله بالتدريج. نعم, لا بدّ من الصبر, فللعلاج مرارة إلى حدّ ما, وفي المستشفى وحدة وعزلة, فلو كان يعيشُ في المجتمع, ثم يقال مثلاً: ينبغي أنْ لا يتكلّم معه أحدٌ لمدّة أسبوعين, وينبغي أن يمتنع عن الأطعمة الشهيّة ذات الرائحة الطيّبة.. لا بدّ وأنْ يعلّقَ المصْل في يده.. ولا بدّ منْ حقنه بالإبر.. وقد يلزمه في بعض الأحيان القيام بعمليّة جراحيّة.. فسيقول هذا الشّخص: أنا لا أريد أنْ أفقد وعيي.. لا تشقّوا بطني.. أرجوكم لا تمرّروا السكين على بدني.. فبدني غير معدٍّ للسكاكين!! والحال أنّ كلّ ذلك سيؤدّي إلى سلامتك وشفائك, فلو كان الإنسان عاقلاً, لكان من اللازم عليه أنْ يسلِّم نفسه للطّبيب, وبالمقدار الذي يتدخّل فيه, يكونُ مشتبهاً بنفس هذا المقدار, لأنّه لا يعلمُ حقيقة هذا الأمر, فنحن بالنّسبة إليه جاهلون بتمام معنى الكلمة, كذلك حينما يقول لنا العارف: افعل ذلك, فما علينا إلا الطاعة والالتزام. وإن امتثلنا فسوف نستفيد, وإلا فإننا وبدون أدنى شكٍّ, نكون قد أوقعنا أنفسنا في التهلكة بأيدينا.

     

وجوب رجوع الجاهل للعالم یشمل الأمور المادّیة و المعنویّة

كذلك الحال في الأمور المعنويّة, بل هو أعمّ منها, وكلّ شيءٍ مشمول لهذه القاعدة, فلو أراد الإنسان بناء منزل, عليه أن يذهب إلى المهندس ويسأله: كيف نبني هذا الأساس؟ كم حجمه؟ من أيّ مادّة نستفيد؟ كم هو وزن هذا البناء؟ كم حجم هذه القاعدة؟ كم يجب أن تتحمّل موادّه؟ ولكي يكون البناء تامّاً سالماً لا بدّ من الالتزام بالخريطة والعمل على أساسها. وأمّا لو يتدخل الإنسان ويقول: لا يحتاج هذا المكان إلى قاعدة مثلاً, فالأرض محكمة صلبة ولا داعي للقاعدة... أو لا حاجة إلى الإسمنت ولا إلى خلط الموادّ أو مزجها... حينئذ سوف يضعف البناء ويُهدم, أو كأنْ يقول المهندس يجب أن تتمّ تركيبة الإسمنت مع الرمل بنسبة واحد إلى ثلاث, فيزيد مقدار الرمل إلى أربع ليوفّر من الإسمنت.. فعلى الإنسان أن لا يتدخّل بعمل ذاك الشّخص الخبير المتخصّص الذي بذل قصارى جهده وأتقن عمله واحترفه.
لو أراد أن يشتري الإنسان سجّاداً, فيجب عليه أن يذهب إلى أهل الخبرة, أو أراد خياطة ثوب, فلا بدّ من الذهاب إلى خيّاط ـ إن لمْ يكن بنفسه خيّاطاً ـ ولو أراد أن يقصّ القماش بنفسه ويخيط بيده, فسوف يكون إما ضيّقاً وإما واسعاً, ولكن الخيّاط قد صرف عمره في إتقان هذه الحرفة.
فلأجل ذلك, نحن جاهلون في جميع الأمور, ما عدا الأمور التي تعلّمناها, ولا حياء في ذلك, بل يجب على الإنسان أنْ يلجأ في جميع أموره إلى شخصٍ متخصّص بها, وهو ممّا لا شبهة فيه, وحينئذ يكون قد سار على هدْيِ القرآن, فالقرآن يقول: { َاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }
[3] أي إنْ لم تكونوا ممّن يعلمون فاسألوا أصحابَ العلم والدراية.
الأشخاص العوامّ هم الذين يأخذون أحكامهم من المجتهد, وما يقومون بذلك إلا لأنّهم لا يعلمون بها, والمجتهد يقول: أنا بحثت, وأستطيع أن استنبط من الكتاب والسنّة وأبيِّن لكم المسألة, وهذا ليس من باب أنّ ذلك مختصّ بي وأنّي أفضل منكم.. لا, لا فضيلة في البين أبداً, وإنما أفنيتُ عمري وبذلتُ رأس مالي الوجوديّ في هذه المسائل, وأنتم بذلتم جهودكم في مسائل أخرى, فأنتم تفيدوننا في هذه الأمور, ونحن كذلك نفيدكم في تلك الأمور, وجميع أفراد البشر ينفعون بعضهم بهذا الشكل, والله يعطيهم الأجر جميعاً على أساس هذه النيّة.
فالطاعة والإطاعة من الأمور اللازمة والحتميّة للإنسان, لا في خصوص الأمور الشرعيّة والمسائل والأحكام الظاهريّة, وإنما في أمور الهداية والإرشادات الأخلاقيّة والأمور الباطنيّة؛ إذْ لو قال الإنسان مثلاً: أنا أصلي وأصوم وأقرأ القرآن وأتصدّق أيضاً, وأنا أكتفي بالقيام بهذه العموميّات.. لا, لا يكفي مجرّد ذلك, لماذا؟ لأنّ هذه الصلاة التي يصليها الإنسان, لا بدّ وأن يتوفّر فيها خصوصيّة تجعله يتكامل ويتطوّر, وإلا فمن الممكن أن يصلّي الإنسان تسعين سنة ويقوم ببقيّة الأمور, إلا أنّه لا يتطوّر من الناحية القلبيّة, ولا يتقدّم, ويظلّ مغبوناً لما فات من عمره فهو لمْ يطو شيئاً من المراحل, ولم يبلغْ منزلة من المنازل, وذلك لأنّه يقول: أنا أصلّي, والصلاة تسقط التكليف..

    

الأستاذ الباطني یهدي الإنسان إلی حقیقة الصّلاة و العبادات

وأما ذلك المعلّم, والأستاذ الباطنيّ فإنّه يهدي الإنسان إلى حقيقة الصلاة, ويبيِّن له السّبيل والطّريق. ويقول: أيّها الإنسان, أقمْ الصلاة مع حضور قلبك, وكيفيّةُ حضور القلب تتحقّقُ بهذا الأسلوب.. وهو ما يحصلُ بهذه الطريقة.. فيجب مثلاً, أن تختلي بنفسك حين الصلاة وتبتعد عن الضوضاء والازدحام وتجمُّعِ النّاس, ولا يكون أمامك صورة حين الصلاة, ولا ضوءً, ولا باباً مفتوحاً, وينبغي تركُ مكروهات الصلاة, وتفترش السّجادة, وتركِّز, وتلتفت إلى أنّ هذه الصلاة التي تصلّيها إنّما هي لله, فأنت تتكلّم مع الله, والصلاة هي التحدّث مع الله, وقراءة القرآن هي حديث الله مع العبد.
وتذكّر أثناء هذه الصلاة التي تصلّيها لله؛ هل الله يجيبك أم لا؟ هل يقول لبّيك أو لا يقول شيئاً؟! ومن الممكن أن يكون الله قد لبّى قبلَ ذلك, بحيث أنّه وفّقكَ إلى الصلاة التي تصليها الآن.. وإلا فلو لم يكن قد قال الله: "لبيك" لما كنت تستطيع أن تصلي!
فالأستاذُ يهدي الإنسان إلى هذه الإرشادات, وينبّهه على ضرورة إقامته للصلاة, فالله غنيّ عن هذه الصلاة وعن تكليف البشر بها والركوع والسجود, وغير محتاج إلى القيام بتكرارها, وليس لهذا العمل أيّ فائدة في حدّ نفسه.
فالعمل, هو العمل المقرّب وهو اللازم, أي إنّ الصلاة ترفع الحجاب للإنسان, وتجلب له القرب, فأنا أصلّي "متقرِّباً إلى الله" يعني هذه الصلاة تجعلني قريباً من الله.
وإلى أيِّ شيء يكون القرب؟ فهل القربُ يحصل بأن يقوم الإنسان ويرتقي في السماء؟! هل هذا هو التقرّب؟! أو أنْ يَتيهَ في الجبال والصحاري؟! هل يصبح بذلك قريباً من الله؟! أو تحت الأرض مثلاً.. فالله لا مكان له, والتقرّب منه يعني القرب من جهة السّير الأنفسي ومعرفة النّفس وإزالة الحجب النفسانيّة عنها, كالبخل, الحسد, التكبّر, الرّياسة, والغفلة..
والأستاذ هو الذي يأتي ويفصح عن ذلك للإنسان فيقول له: عليك أن تصلّي, وعليك أولاً أن تكون هكذا.. ويجب أن تكون هكذا.. لا بدّ أن تقفَ وتتوجّه إلى القبلة, وينبغي أنْ تكونَ صلاتُك بهذه الكيفيّة, من اللازم أنْ يكونَ خاتَمُك بهذا الشكل, لا بدّ وأنْ تُعطِّر نفسك, لا يكن لون ثيابك داكناً, وعلى العموم فإنّ اللون الأسود أو الكحليّ أو البنّي وأمثالها غير مستحسنة للمصلّي, فينبغي أن يكونَ لباس الشخص عادياً بدون تكلّف, ولونه فاتحاً وحسناً كالبياض أو اللون الأصفر, فالملائكة تحبّ هذه الألوان, وتبغض اللون الأسود وأمثاله, وغير هذه المسائل.. كما وهناك أمور أخرى لا بدّ من مراعاتها في الصلاة, فلا يكوننّ في المنزل كلب حراسة, ولا تعلّق أيّ صورة, فلا تحضر الملائكة أبداً, ولا تدع الزبالة في المنزل ليلاً, بل ضعها خارجاً, وإلا فغطّها وأغلقها, وإلا فلا تنزلُ الملائكة.. وهي إرشاداتٌ للتطبيق ينبغي الالتزام بها عملياً, كما وهناك الكثير مما ينبغي مراعاته كذلك.
فلا نستطيع أن نقول إذاً: أرادَ الله أنْ نُصلّي, وها نحن قد صلّينا, فماذا تريد منّا غير ذلك؟! قد ارتفع التكليف!! فالمسألة ليست مجرّد رفع التكليف, فليس الأمر لعِباً!!
فالصلاة تمثِّل برنامجَ تكاملنا, وقد شُرّعت على مبدأ حقّانِي, وإنْ نصلّي فسوف نتحرّك ونسير إلى الأمام, وأمّا لو بقينا تسعين سنة بلا توجيه وبدون إرشاد للباطن, فسوف نظلّ نراوح مكاننا, وكلّ عمل نقوم بتكراره حينئذ, سيكون تكراراً للشيء نفسه وهو لا يسمن ولا يغني, غاية الأمر أنّه يُسقطُ التكليف, دون أنْ يوصل إلى أيّ درجة أو مقام.
فقد أتى الإنسان إلى الدنيا أعمى, وكذلك يذهب أعمى.
{ وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً }
[4]
ما هو المراد من العمى؟ هل هو عمى العَين؟ لا, فقد ورد في القرآن الكريم: { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }
[5]
"أيّها البشر, لا تقولوا للأشخاص الذين يعيشون في هذه الدنيا عمي ولا يرون: إنّكم عمي, فهؤلاء ليسوا عمياً, بل العمى عبارة عن العمى الكائن في قلب الإنسان, ذاك هو العمى". بناءً على ذلك , فمن كانت عينه الثانية مكفوفة عن النظر فهو الأعمى, والصلاة هي التي تفتح عين الإنسان, بل حتّى لو كانت العين الدنيويّة معطّلة, فلا ضيرّ ما دامت تلك العين مبصرة.
والمعلّم هو الذي يرشد إلى ذلك, أي إنّ وظيفة المعلّم الروحانيّ والأستاذ الأخلاقيّ هي ذلك, فهو مثلاً في باب الصلاة لم يقتصر على البحث والاجتهاد, واستنباط أنّ من الواجب على الإنسان أن يصلّي أربع ركعات ظهراً, أو أنّ الشكّ بين الاثنين والثلاث مبطلاً في ركعات الصلاة الثنائيّة والثلاثيّة, وأنّ الشّك في الصلاة الرباعيّة صحيحاً.. فلم يقتصر بحثه على خصوص حدود الصلاة وأحكامها, وإنّما ذهب وتعلّمَ تلك الأسرار للصلاة واطّلع عليها, وأحاط برموزها وإشاراتها الخفيّة؛ ما هو القنوت؟ ما هي السجدة؟ وماذا يعني الهبوط على الأرض لأجل الله؟ ماذا تعني { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }
[6], وماذا تعني الصلاة نفسها؟
وليست هذه المسائل مجرّد مسائل شكليّة, بل هي شاملة لجميع شؤون الإنسان؛ من الصلاة والطهارة والصوم والحجّ والمعاملات والنّكاح التي شُرّعت بشكلٍ كلّي, وذاك المعلّم الأخلاقيّ والمربّي الروحانيّ والعرفانيّ, هو الذي يسبر أغوارها ويدرك سرّها, وهو الذي يقدر على ترقية نفس الإنسان من خلال هذا المحيط التعليميّ التربويّ, ليمكّنه من الاستفادة من هذه المظاهر العباديّة, وذلك بواسطة إدراك حقائقها النورانيّة.

     

العمل بالعبادات الظّاهریة لا یکفي لوحده للعروج بالإنسان في سلّم القرب

وأمّا لو عمل الإنسان ألف سنة بهذه العبادات الظاهريّة, لكن دون أن يكون عمله توأماً مع الحقيقة ولا مطابقاً للواقع, فسوف لنْ تستطيع هذه العبادات إعانته في سيره وحركته, تماماً كما لو أخذَ شخصٌ حبةً من الجوز لمجرّد الاستفادة من قشرها, دون أنْ يأكل لبّها ودون الانتفاع بمنافعها, وكذلك العكس من ذلك, فلو قال شخصٌ: أريدُ الجوز بدون القشر الداخليّ, وأنا آكل اللّب فقط, فلا فائدة في ذلك أيضاً, فالله سبحانه قضى بأنّ: هذه الحقيقة الواقعيّة إنمّا تعطي فائدة الجوز فيما لو تشكّلت بهذا الشّكل الخاصّ للجوز, وكذلك اللوز, فإنّه لوز فيما لو تحقّق بهذا الشّكل, وهذه الحقيقة سارية في كلّ أنواع الحبوب.. فالتفّاح تفّاحٌ بهذا القالب لا غير, وعلى الإنسان أن يأكله بما هو متكوّن بهذا الشّكل الخاص, حتى يحصل على خصائصه المطلوبة, ولا بدّ وأنْ تأكلَ الجوزَ كما هو عليه كيْ تحصلَ على خصائصه.
كذلك الأمرُ بالنسبة إلى الصلاة, فعلى الإنسان أنْ يتقرّب بها إلى الله, ويستقبل القبلة ببدنه, ويركع ويسجد مع التوجّه إلى تلك المعاني, كلّ ذلك مع استحضار تلك الحقيقة؛ بحيث يكون متوجّهاً بكلّ وجوده إلى كعبة الله في آن واحد, , فلا يستثنى بدنه, بل يضمّه إلى توجّهه المثاليّ وقوته المعرفيّة وقلبه فيستحضرها جميعاً, بل بتمام وجوده, حينئذ يكون مصلّياً لله, وهذه هي الصلاة, أي الصلاة الكاملة, وهذا هو الحرم, نسأل الله التوفيق لإقامة مثل هذه الصلاة, فحقيقة الركعتين التي يصلّيها الإنسان بهذا التوجّه هي التّكلم مع الله.
إذْ أين هو الله الذي نريد أن نبحث عنه ونعثر عليه؟ هل هو فوق السماء؟! في الشّرق؟! في الغرب؟! تحت الأرض؟! نعم؟! أو أنّ الله معنا, محيطٌ بكلّ موجود من الموجودات, فهو معنا قبل أن ننطق بأيّ كلمة, إنّه مع ذاتنا, أمامنا ومتقدّم علينا..
يقول أمير المؤمنين عليه السلام:
ما رأيتُ شيئاً إلا ورأيتُ اللهَ قبله وبعدَه ومعه[7]
حسناً, فلو نصلّي صلاة كهذه الصلاة, فهلاّ نرى الله بعد ذلك؟! أنراه فوق السماء؟! لا.. بل الله كائن في وجودنا.. في سرّنا.. فالصلاة تمدّ الإنسان بالبصيرة والنورانيّة, وتقرّبه إلى الله, وتُحرّكهُ نحوه, وهذا من آثار ولوازم هذا النّوع من العلم هذه المعرفة, والذي يُعتبرُ هدفاً بذاته, فهو بحدّ ذاته نوعٌ من العلم.
سابقاً كان في الحوزات الكبيرة, مكتبات علميّة وتربويّة, وكانَ معلمو الأخلاق وأمثالهم, ممّن هم من المجتهدين الكبار, يتكفّلون بتربية الطّلاب. وعلى العموم, بعضهم كانَ يتعهّد الأمور الاجتماعيّة وإدارة النّاس, إلا أنّ ثلّةً من المجتهدين العظام كانوا مربّين في الأخلاق, ففي الزمان السابق كانَ هناك الشهيد الأوّل, الشهيد الثاني, ابن مسكويه, ابن فهد, ابن طاووس, المرحوم السيد مهدي بحر العلوم, وفي زماننا الأخير, الآخوند الملا حسين قلي الهمدانيّ, وتلامذته من العلماء البارزين, فهؤلاء كانوا من الأساتذة الكبار في العرفان والأخلاق, وكمْ طوَوا من المدارج الكماليّة والمعاني الباطنيّة!! فكلُّ واحدٍ من هؤلاءِ كانَ أعجوبة زمانه, وكلّ واحد منهم كان وحيد عصره, وكلّ واحدٍ منهم يمثّل أحدَ أقطاب الأرض, ووتداً من الأوتاد, فكانتْ وظيفةُ هؤلاءِ تعهّد الأفراد الطالبين لهذا المقام وتربيتهم.
فليس كلّ الأفراد طالبين لهذا المقام, ولا يستطيع جميعهم أن يتحمّل ويصبر, ولذلك يعلنُ الله أمام الملأ: من أراد فليأت, ومن لا يرد فلا يأت, فالمسألة ترجع إلى اختياره بنفسه.
فقد قيل للإنسان: صلِّ الصلاة واجبة, فالله لا يُلجئُ الإنسانَ على الفعل بأنّ يلزمه عمليّاً فيجرّه بالسلاسل ليصحّح تفكيره.. بل يقول له: أوجبتُ الصلاة, فإنْ أردتَ أنْ تصحّح تفكيرك وأن تتحقّق في تلك المعاني فعليك أن تمتثل. كذلك لو أردتَ أن تُسقطَ التكليف, ورغبتَ في الفرار من جهنّم, فهذا جيّد أيضاً, وما عليك حينئذ إلا أن تصلّي, وأن تفعل الخيرات, فلا ندخلك جهنّم.. ونجعلك من أصحاب اليمين. وأمّا لو أردت أن تكون صاحب تفكير وبصيرة, وأردت بلوغ مقام الإنسانية, فتصير إنساناً كاملاً, وتوصلَ قابلياتك وقواك التي أعطاك الله إيّاها إلى مقام الفعليّة, فبلوغ ذلك محالٌ بدون معرفة الله ودون لقائه.
"عَبدي أَطِعْني حتّى أَجعلكَ مِثْلِي"[8] أو [مَثَلِي], وحينئذٍ, يعرف الإنسانُ اللهَ كما ينبغي, فيرى الله بدون حجاب, لا من وراء النظارة المعتمة أو الحمراء أو الصفراء والسوداء.. فمن يلبس النّظارة السوداء يستطيع أن ينظر, إلا أنّه يرى كلّ شيء معتماً ذا غشاوة, ويرى الشّمس مغبرّة, والقمر فاحماً كذلك, ويرى الضوء أسود, والحائط معتماً, والبرتقال معتماً, والعنب فاحماً, والورقة سوداء قاتمة, ومن يلبس النظّارة الحمراء فسوف يرى كلّ شيء أحمر اللون, وتصبح النظّارة الصفراء تُري الصفار, وكذلك الخضراء.. فهل هكذا لون الكائنات في الواقع؟! بالطبع لا.. وإنّما هو ناشئ من الحجاب, فقد وضع الإنسان حجاباً أمام ناظريه, وهذا الحجاب سوف يستولي على ذاك النّور الأزلي, الذي جاء ليُظهر الموجودات بواسطة حقيقته الواقعيّة الخارجيّة, وذلك بواسطة التبدّل والتصرّف النفسي. فلا بدّ إذاً من إزاحة النّفس وتدخّلاتها, وبعد ذلك انظر وشاهد ولكن دون أيّ تدخّلٍ من النّفس, وارفع النظّارات القاتمة: الحمراء والخضراء.. وانظر بالعين التي أعطاك الله إيّاها, انظر بالمنظار الذي لا يشوّه ولا يتصرّف بما يراه أبداً, بياض محض وشفّاف بشكل كلّي, حتّى تدرك كلّ مخلوق وتعرفه, فحينما يضع النظّارة الحمراء فسوف لا يفرّق بين شيئين أحدهما أحمر والآخر أبيض, وإنما يقول: ها هي كلّها حمراء, ولكن حينما يضع نظّارة بدون لون, فسيقول: هذا أحمر وذاك أبيض, هذا أصفر وذاك أخضر..
حينما يكون البخل والحسد والكبر وحبّ الرياسة وأمثالها والانغمار في الشهوات هو الحاكم في قلب الإنسان, ولا سمح الله التجبّر وأمثاله, فحينئذ حتّى وإن صلّى وصام ووضع القلنسوة على رأسه ليلاً وتزيّن, وظهر بمظهر القدّيس, فكلّ هذه الأعمال خاطئة وتوجب له الحجاب, وكذلك من يبرّر التعاطي بالربا من باب الحيل الشرعيّة, كأن يبيع علبة كبريت بمائتي ألف تومان ربوياً, فمن يريد أن يطوي طريق الله ويسلك فيه عليه أن لا يقوم بذلك, ومن يعمل بالحيلة الشرعية.. يكون قد صنع قلنسوةً شرعيّة لنفسه. فهو في الحقيقة ذاك الشّخص بعينه!! نعم, الفارق أنّه قد لبس قلنسوة شرعية, فهو ذاك التاجر تماماً!!
فقد قال الشّرع: الربا حرام, إلا أنّ هذا الشّخص يأتي ويخترع معاوضة بين مائتي ألف تومان من الربا وعلبة كبريت, ويكون قد وضع على رأسه قلنسوة بعنوان الشرع. وهذا غير صحيح.
يقول أستاذ الأخلاق للإنسان: لا فرق بين أنْ تكون مناجياً لله في نصف الليل, وبين أن تكون في السّوق وأنت تتعامل مع أيّ مشترٍ غريب, أو فلاّح لا خبرة له, فكلاهما شيءٌ واحد, وحينئذٍ سيكون خداعه ومراوغته مخالفة وخطأً وانحرافاً.
فالعرفان ليس مجرّد الجلوس على السجّادة, وإحياء الليل, والمناجاة, والعتمة.. العرفان يعني داخل السّوق.. داخل الكلّية.. في الشّارع.. في حافلة النقل(الباص).. حين التعامل مع المرأة.. ومع الأولاد.. التعامل مع الجار.. كيفيّة المعاملة مع كلب المنزل.. مع قطة المنزل.. ماذا تعني جميع هذه المعاملات؟ تعني أنّه يجب إعطاء المرأة حقّها, وكذلك يجب أن تعطي قطّة المنزل حقّها, نعم!! يجب أن لا يسيء الإنسان إلى خادمه, ثمّ لو أراد الخادم أن يتناول الطعام فينبغي أن يأكل معه, ولا يرى أن غذاءه أرفع منه ومتميّزاً عنه, يجب أنْ يتناول الطعام بنفسه مع سائقه, لا ينظر إلى أصدقائه نظر تحقير وهوان, فهو عبدٌ مثله, وكذلك بالنّسبة للخادم, بل بالنسبة لأيّ شخصٍ آخر, فما دام الله سبحانه قد عيّن لكلّ شخصٍ مسيره وحركته في الحياة, وقدّر له أن يكونَ خادماً, وعيّن لنا تكليفاً خاصّاً.. فكيف لنا أنْ نتكهّن أنّنا أعلى منه درجة؟! كيف لنا أن نطّلع على قلبه ونعرف أنّ قلبه ليس أنقى من قلبنا؟! أو أنّ إدراكه ليس أفضل من إدراكنا؟! ذلك بيننا وبين الله, فالله جعله أسوداً وجعل لوننا أبيض, وكذلك أغنى هذا وأفقر ذاك, وجعل هذا رئيساً وذاك مرؤوساً.

    

معلّم العرفان یرشد الإنسان إلی الإقتداء بالإمام في کلّ الأمور

هكذا كان الإمام الرضا عليه السلام يجلس مع سائر غلمانه بهذا الشكل ويجمعهم على سفرة واحدة ويأكل معهم, وكان يستمتع معهم, هذا هو الذي يقال له العرفان.
فمعلّم العرفان يرشدُ الإنسانَ إلى ضرورة الاقتداء بالإمام الرضا, فيجبُ أنْ يتّخذَ الإنسانُ الإمامَ قدوة نصبَ عينيه, ويسلك طبقاً لمسلكه وممشاه, ولا يقول: إنّ شأنيّتي تقتضي أن يتحرّك ورائي عشرة أشخاص حينما أدخل إلى مجلسٍ مّا, ويظهرون التعظيم والتبجيل وما شابه ذلك, فهذا العمل عبثيّ, وهو كلام فارغ تافه.
كانَ النبيّ صلى الله عليه وآله الرجل الأعظم, أعظمَ رجلٍ في العالم, أعظمَ موجود في عالم الوجود, فكيف كان؟ كيف كان يتنقّل ويتجوّل؟! كيف كان تواضعه؟ كان يجلس مع غلمانه, ويأكل مع خدمِه, كانت النّساء تأتي إليه, ويجلبون الأطفال معهم كي يسمّيهم, كانوا يجلسونهم داخل ثوبه المبارك, وفي بعض الأحيان قد يبول الطفل وهو في حضنه, فكان يعلو صياحهنّ على الطّفل ويُقمنَ الدنيا ويُقعِدْنَها, إلا أنّ النبيّ كان يجيبهنّ: حسناً, قد بال على ثوبي, آتوني بشيءٍ من الماء لأطهره, فالطفل لمْ يفعلْ شيئاً, لماذا تصرخون في وجه الطفل؟ دعوه يبول, لماذا تصِحن عليه؟ وبعد ذلك يصبّ عليه الماء بيده, وينتهي الأمر, وبدون معاتبة النّساء أيضاً.
في يومٍ من الأيّام كانَ النبيّ يمشي في أحدِ الأزقّة, وكانتْ هناك امرأة جالسة في طرف الزقاق, فنادت النبيّ وقالت له: يا رسول الله! تعالَ واجلس بجانبي, فذهب النبي إليها, وقالت له: كلْ من طعامي هذا, فأخذ النبيّ لقمة ووضعها في فمه, فقالت: يا رسول الله! أحبّ لو أنّك تخرج هذه اللقمة وتعطينيها لآكلها, فأخرجها النبيّ, فأخذتها وأكلتها.
ما هي حقيقة الأمر؟ ما هي حقيقة نظرة النبيّ صلى الله عليه وآله؟ فهو النبيّ وصاحب ذاك المقام والكمال, وهو ينظر إلى الأمور بنظر إلهيّ, يرى أنّ هذه المرأة هي مخلوق الله, ومنتسبة إلى الله, وهي إنسان.
فمن جهة, تقول هذه المرأة: تعالَ واجلس بجانبي, وهو طلب صغير ووضيع, ثمّ تطلب منه ثانية أنْ يأكل من الطعام, ثمّ بعد ذلك تعود وتطلب ثالثة.. والنبيّ لمْ يقل لها: أنا لا أقدر على تلبية طلبك.. فأنا النبيّ! وشأنيّتي تقتضي أن لا أجلس بجانبك.. وهو ممنوع عليّ.. ولا يليق بشأني!!
ومن جهة ثانية, فإنّ الآيات القرآنيّة تحذّر النبيّ! أنْ يا أيّها النبيّ احذر كلّ الحذر حينما تقترب من الكفّار, فإنْ تأثّرت بشركهم وعنادهم وعبادتهم للأصنام و ما شابه ذلك, ولو بمقدار رأس إبرة, فإّننا نُسقط جميع وجودك.
فنورانيّة النبيّ تقتضي أن يجلس جانب امرأة لا معين لها ولا ناصر.. فقيرة قد جلست على التراب جانب الطريق؛ والنبيّ كان يقول: الحمد لله رب العالمين,, أنا أفقر الفقراء, أيّ فقير أفقر منّي؟ وهو أمرٌ واقعيّ كذلك.
فحينما يرجع النبيّ إلى ذاته يرى نفسه فقيراً جداً, فالله هو الغنيّ ولا غير, وكلّ إنسان يدعي الغنى لنفسه فهو ادّعاء باطل, ولو ادّعى الإنسان الغنى في بدنه, فالله يريه أنّ ذلك ادّعاء خاطىء, فيأخذ منه ما ادّعى فيه, ولو اعتمد الإنسان على عينه واستند عليها, أو اغترّ بإدراكه الخاصّ.. أو فهمه.. أو أيّ شيء آخر, فآخر المطاف الموت! يأتي كـ "البلدوزر" التّي تنظّف كلّ شيء, وتأخذه, وينتهي الأمر. فعلى الإنسان أن يقول: هذه العين التي أعطيتني إيّاها هي نعمة منك وآيتك وهي لك, فوفِّقني لأستعملها في صراطك, ويدي لك وليست لي, قلبي لك, وادراكي لك, النّعم التي أعطيتنيها هي لك دوني, أنا فقير, وأنا عبد, أي ينبغي أن تسمع كلام المولى, وتقول: أنا مطيع لك.
فهذه المرأة تقول: يا رسول الله تعالَ واجلس بجانبي, وهذا النّبي هو عبدٌ لله, يلبّي طلبها, وهذا هو مقام العبوديّة, فقولنا:
"أشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله"
يعني أنّ الشّهادة بالعبوديّة مقدَّمة على الشّهادة بالرسّالة, ومقام العبوديّة أرقى من مقام الرسالة, فعلى الإنسان أولاً أن يصير عبداً كي يرسله الله رسولاً, لا أّنه ينصبه رسولاً ثمّ يُعطى فيما بعد مقام العبوديّة!! هذا غير صحيح, فما لم يصبح عبداً فإنّه غير لائق للرسالة.

     

الطّاعة هي بروز للعبودیّة التي تعني خروج الإنسان من ذاته و أفکاره الخاصّة

لعبوديّة تعني أن يخرج الإنسان من جميع أنانيّته وتمام ذاته ويترك آراءه الخاصّة ولا يدور حول محوريّة أفكاره, تماماً مثل ذاك المريض في المستشفى, يجب أن يهجر إرادته الذاتيّة ويخرج من قبضتها؛ ويسلّم تسليماً, مثل المنقاد الخاضع في يد الطبيب.. فيطيع.. سمعاً وطاعة.. وحينما يقول الطبيب له: زرّق الإبر هنا, سمعاً وطاعة, لا تأكل اليوم, فيطيع.. تعال إلى المبضع والتشريح, سمعا وطاعة, وأمّا لو قال للطبيب: لا تعطوني مخدراً لوقت طويل... يقول له الطبيب: لا تكن ثرثاراً متطفّلاً.. لِمَ تُؤخّر علاج نفسك!! فهذه هي القاعدة, ولا بدّ من إجرائه.. وهذا هو معنى العبوديّة, وهو مقام عالٍ جداً, أيّ بهجة هي وأيّ سرور.. أيّ خضوع هو؟! هذا هو حال النبيّ, وعلى الإنسان أن يجعل ذلك نصب عينيه, ويدرك حقيقة النبيّ, ويعرف في أيّ عالم هو؛ بحيث أنّ جميع وجود ذاته تحت نظر الله ورعايته, فهو دائم التحدّث مع الله.. دائم المناجاة مع الله.. يعني هو على الدوام مع الله, وأيّ لذّة يشعر بها في الواقع؟!
فهذا النبيّ, الذي تقول له تلك المرأة: تعالَ واجلس بجانبي, هل أحسّ من نفسه في الوهلة الأولى بنوعٍ من الرفعة والعلوّ, بحيث أنّه حينما أَتى وجلس بجانبها كان قد تنازل وتواضع؟! لا.. فإن كان ذلك فهو خطأ من الأساس. وإنّما كانَ حال النبيّ رقيقاً نقيّاً بحيث حينما قالت: تعال, أتى لتوّه وجَلَس, هذا هو مقام العبوديّة, ومن خلاله تظهر الطاعة, الإطاعة لأمر الله.
رسول الله والأئمة إنّما بُعثوا ليأخذوا بأيدينا طبقاً لهذا المنهاج, أي ليوضّحوا المسألة للإنسان, ولِيقولوا: أيّها الإنسان! أَنتَ بشر, وسوف تصل إلى مقام التوحيد, وأنتَ مظهر لتمام أسماء الله وصفاته, فأنت خليفة الله, والله قد أعطاك قابليّة واستعداداً غير محدود ولا متناهي, فإنْ أنفقت وجاهدت في سبيل الله, فسوف تصبح كسلمان وأبي ذر. فسلمان وأبو ذر والمقداد ورُشَيد وكُميل والأصبغ بن نباته وحبيب بن مظاهر, هؤلاء لم يدرسوا في الكليّة, ولم يكونوا يعرفوا العلوم الاصطلاحيّة, وهو ممّا لا شكّ فيه.

    

بعض النّماذج الإیجابیّة و السّلبیة في مجال التّحقّق بالطّاعة

 وإنّما نالوا ذلك من خلال إطاعة النبيّ حيثُ قال في حقّ سلمان: سلمان منّا أهل البيت, فسلمان منّا, أي منّا أهل البيت.
وبواسطة أيّ شيء نال ذلك؟ فقد وصلَ إلى النّبي وآمن به: وإن يقالُ له: افعل ذلك, فلا يتردّد بل يقول: سمعاً وطاعة, افعل ذاك, سمعاً وطاعة, لم يكن ليضيف نظرته الخاصّة ولم يبدها, لم يكن ليملي على الرسول, لم يكن ليرشد ولا لينصح الرسول.
هذا عُمرْ قد أسلم, ولكنّه كان يتدخّل ويدخل رأيه, كان يستشكل ويعترض, كان يحوّر ويؤوّل عملَ النبيّ.. يا رسول الله! لو تفعل هذا لكان أفضل.. يا رسول الله!! افعل ذلك..
ففي غزوة تبوك جاء عمر إلى النبيّ وقال: يا رسول الله لا تفعل!! وبقي إلى آخر عمره على هذا الحال, لا يستطيع الخروج من ذاته ولا من نفسه.
وبعدَ رسول الله شَرَعَ عمر في التحريف, فحذف من الأذان حيّ على خير العمل, مدّعياً: أنّه إنْ نقُلْ: حيّ على خير العمل, فهذا يعني أنّ أفضل الأعمال هي الصلاة, وهو ما يؤدّي إلى عدم المشاركة في الجهاد, فلنحذفها!! فحذفوها!! وصارت سنّة جارية عندهم حتّى الآن.
حسناً, ألا يدرك رسول الله حقيقة هذا الكلام؟! فما هو الجهاد المستحبّ في سبيل الله؟ أهوَ الجهادُ الواقع في ظلّ الصلاة أم بدونها؟! فهل الواجب على الإنسان أن يكون بالدرجة الأولى مصلّياً ثمّ بعد ذلك مجاهداً؟! أم أنّه يكون مجاهداً أولاً ثم مصلّياً؟!
لا.. بل يجب أن تكون ذات الإنسان ونفسه مصلّية لله, وعليه فالصلاة هي خير العمل وليس الجهاد, وغاية الإسلام هي الصلاة, بل إنّ نفس الجهاد لأجل الصلاة, والمسلمون ينطلقون للحرب حتى يصلّي الكفّار, وليقربوهم إلى حرم الله, ويمنحوهم الرّقي والتكامل, فـ " الصلاة قربان كلّ تقي"
[9], لأنّها تخرج جميع النّفوس البشريّة من نزعاتها ورغباتها الذاتيّة, وتأخذهم إلى عالم الخلوة مع الله, والأنس به, هذه هي خصوصيّة الصلاة.
يقول الإمام الصادق: ليس هناك عملٌ تحت هذه القبّة الزرقاء أفضل وأحسن وأشرف من الصلاة, { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ }
[10].
فهل يمكن أن نقول: لا تقولوا "حيّ على خير العمل"؟! لأنّها تخفّف من عزم المسلمين على الجهاد!! لا أبداً.. وإنْ نلتزم بذلك يصير الجهاد خارجاً عن الصلاة ومبايناً لحقيقتها, وهذا هو ما حصل بالفعل, فقد جاهدوا, وفتحوا الدنيا وسيطروا عليها, إلا أنّهم لم يستطيعوا تربية مصلٍّ واحد.
وهذا السلوك معاكس لنهج أمير المؤمنين, فمنهج أمير المؤمنين يقرر أنّ من الواجب على الإنسان أن يكون مصلّياً, وبعد ذلك يتحرّك إلى الجهاد, أمّا هم فقد تركوا الصلاة وزحفوا إلى الجهاد, وتسلّطوا على الدنيا ومن فيها, لكنْ دون أنْ يربّوا مصلّياً واحداً, فزال كلّ شيء وتلاشى, وكذلك استمرّ الأمر حتى الآن, فلا ذكر للصلاة في هذه الدنيا ولا خبر عنها.
ونحن الذين ننتظر ظهور إمام الزمان ونتعقّبه.. فسوف يأتي ويربّي الإنسان المصلّي, ويحوِّل الأفراد إلى مصلّين, ويحرّكهم باطنيّاً نحو الله ويوصلهم إليه, ويبلغ بهم هذا الهدف.
والخلاصة, أنّ جميع ذلك كان من أثر الطّاعة, فسلمان إنّما وصلَ إلى ذاك المقام بسبب الطاعة, وبها استطاع بلوغَ مقام أولياء الله ورفعَ الحجاب عن نفسه, وأوصل جميع قابليّاته واستعداداته إلى مرحلة فعليّتها, وصار أنساناً كاملاً, وأمّا لو مضى الإنسان دون أنْ يطويَ هذا الطريق, ولم يكن قد سلك صراط الطاعة, وإنمّا سار طبقاً لاجتهاداته وسليقته الخاصّة, فمهما يكن قد درس أو صار مجتهداً, وبلغ المقامات العالية كذلك, فسوف يظلّ محروماً من تلك الحالات القلبيّة مادام لْم يطوِ سيره ولمْ يبذلْ ذاك الجهدَ وتلك المجاهدة, ولم يصرف تلك الطاقة, وسوف لن يستطيع بلوغ شيء من هذه الحقائق حينئذ.
فمن يريدُ حلّ معادلة من الدرجة الثّانية, من اللازم عليه أنْ يشارك في ذاك الصّف الخاصّ ويتعلّم هذا العلم, وإلا فلن يستطيع أنْ يرسمَ خطاً منحنياً ممتدّاً من "إيكس".. ولن يقدرَ على حلّ المسألة وحسابها؛ بحيث يعرف أنّ فلاناً كذا, فلان, فلان.. وماذا يعادل..؟ بل لا بدّ وأنْ يذهب إلى الصّف, ويتعلّم مع الأستاذ كي يعرف ذلك.
كذلك دراسة مسائل الطهارة والمعرفة والأخلاق, ومثل ذلك صلاة رسول الله, وتطبيق سنّته, كيف كان يعمل؟ فحينما يقول النبيّ: يجب أن تقوم الليل, أو لا بدّ وأن تناجي, ويجب أن تختلي مع الله, وتحدّثَ الله بآلام قلبك وأحزانه, فالصّلاة هي البوح بآلام القلب, والإفصاح عمّا في مكنونه ومخفيّاته, وهي إبراز الحاجة والعوز, فـ { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }
[11] تعني الطلب من الله, و{الله أكبر} تعني أن لا مؤثّر في دائرة العالم إلا الله.. والله أكبر من أن يوصف, فحينما يكون الله أكبرَ من أن يوصف, فلا معنى أن يعبأ الإنسان بالشيطان!! ولماذا الخوف حينئذ؟! فهل تتشابك أغصان الشيطان بأغصان الله؟! هل يمكنه أن يمنع الله ويقطع طريقه؟! هل يؤخّر أمر الله؟! هل يسيطر على الله؟! لا, ليس له ذلك, الله أكبر من أن يوصف.. وحينما يلهج الإنسان بذلك, سوف يتنّور وجوده بحقيقتها, فمع قولنا: الله! يضاء لنا نور يعادل ألف شمعة وأكثر.. ويضيء جميع البيت, ويزيل جميع الظلمات.. ومع قولنا: الله أكبر.. تُشرق الشّمس وتسطع لتنير السماء والأرض, هذا هو ضياء القلب. فأيّ شيء يبقى للشيطان حتّى يستطيع فعله؟! فالشيطان للأناس الذين لا يقولون الله أكبر, التائهين في بحر الغفلة, المغرورين الذين يعتدّون بأنفسهم, القابعين في العناد والتكذيب والجحود.
{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ }
[12]
فهم يرون آيات الله, لكنّهم بسبب ظلمهم ينكرونها, ويجحدون بها, والشّيطان لهؤلاء, لا للذين يقولون: إلهي, نسألك أن تنزل علينا سرّ التسليم وحقيقته.. إلهنا, اهدنا إلى سبيلك.. فنحن مخلصون لك.. وسائرون إليك..
والله يحبّ هؤلاء, ويحضنهم في كنفه, ويجعلهم بجانبه, ويمسح على رؤوسهم, وهو من باب التّشبيه لحالهم حتماً, فالله يشملهم برحمته, ويرسل إليهم الملائكة فينزلون عليهم البهجة والسرور, فيفرحون ويبتهجون, وينشرح صدرهم, { أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ }
[13] فالمنشرح صدره هو الذي لا يوجد أيّ ضيقٍ لديه, وهو الذي تستطيع جميع المطالب الإسلاميّة ومفردات التّسليم أن تستقرّ في قلبه, فلا يضيق صدره من شيء في العالم, بل يتمتّع برحابة صدرٍ وسعة, وهو مسيطر على العالم وقادرٌ على حكومته والأخذ بزمام أمره, فهو يرى جميع الموجودات وسائر الأشياء مرتبطة بالله, وأيّ شيء يقابله في العالم, فإنّه يواجهه من خلال اللطف والرحمة دون أيّ غضب أو شدّة, لأنّ جميع ذلك مسخّر بيد القدرة الإلهيّة, فهو ينظر إلى الموجودات من خلال هذه الرؤية الإلهيّة لا من خلال النظرة النفسية والذاتيّة, وما ذلك إلا لأنّه صار عبداً, وخرج من ذاته.
فماذا تعني حقيقة كونه عبداً؟ تعني أنّه أطاع الله, بينما نرى المخالفين حتّى وإن كانت صيحتهم مرتفعة!! كعُمر حيث جاء وتربّع على الخلافة, وفتحَ إيران, وعمل كذا وكذا, ووصلت حكومته في ذاك الزمان إلى أبعد النّقاط, ولكن بقيت "اقتراحاته وأنظاره" كما هي: يا رسول الله! افعل ذلك, يا رسول الله! افعل هذا...
حسناً, هل أنَّ عقلَ رسول الله أقلّ من عقلك؟! هل لديك إيمان بنبوّة رسول الله ونورانيّته وولايته؟! فأنت جديد العهد به, وقدْ وصلت إليه مؤخراً!! ألم ترَ جميع هذه المعجزات والكرامات كيفَ أنّها صدرت من النبيّ؟! فما معنى هذه النصائح؟ ولِمَ تُدلي بها؟! لماذا تؤذي النبيّ!!
فكانوا يؤذون النبيّ, والقرآن يحدّثنا ويقصّ لنا, كيف كان النبيّ يخجل من نهرهم وطردهم, فمن باب المثال, كانوا يأتون إلى باب منزل النبيّ, حيث كانت كلّ واحدة من نساء النبيّ تسكن في غرفة من الدار, ولم يكن هناك عشر منازل, وإنّما هي حجرات عشر, فكانوا يأتون ويجلسون على باب الغرفة ينتظرون الطعام, ثم يجلسون ويتحدّثون على هذه الوتيرة ساعتين أو ثلاث ساعات, وماذا بوسع النبيّ أن يفعل حينئذ؟! هل يقول لهم: قوموا وانصرفوا من منزلي؟! كان يخجل من ذلك, فرسول الله كان رجلاً ذا حياء, كان نسيجاً من الحياء, فحينها تنزل الآيات القرآنيّة لتفهم هؤلاء الناس مصرّحة لهم: أن لا تظلّوا هناك, ولا تؤذوا النبيّ, إن يدعُكم فاذهبوا, ولا تأتوا قبل الموعد ترقباً لإناءٍ إضافيٍّ من الطعام فتجلسون قبل ساعة..{ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا }
[14] أي لا تبقوا بعد أن تأكلوا طعامكم.
وهو ما يدلّ على أنّهم كانوا يؤذون النبيّ, فالآية قد تضمّنت أوامر عدّة, كأنْ لا تقتربوا من نساء النبيّ, ولا تتكلّموا معهنّ, وإنْ تكلّمتم معهنّ فمن وراء حجاب, فكانوا يتكلّمون كلاماً فظيعاً ومن باب المثال: يا رسول الله: حينما ترتحل إلى ربّك, فسوف نأخذُ نساءك أيّها النبيّ! وأمثال ذلك, حتّى جاءت الآيات القرآنيّة وصرّحت بأنّه لا يجوز لنساء النبيّ أن يتزوّجن أحداً بعده, وبهذا الشّكل كانت تتوالى الآيات وتهدّد.. هكذا كان حال النبيّ.
وهذا أستاذنا العلامة الطباطبائيّ, فهو أحدُ الموجودات التي تجسّم الحياء والعفّة, فإن تشاهده تجده كالمعصومين, كتلة من الحياء, ونسيجاً من الحياء, فكلّما كنت أريد أن أضرب مثالاً عن الأئمّة لنتعرّف عليهم ونعرف مقامهم, كنت أقول: لا بدّ وأن نرى العلامة الطباطبائيّ, فهو آية ومرآة, وحينئذ نستطيع من خلال معرفته أن نتعرّف على مقام الإمام, فالعلامة الطباطبائيّ رجلٌ حيّ لا يموت, والقرآن يقول عن النبيّ { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }
[15], فروح النبيّ أعلى من العلامة الطباطبائيّ بمائة رتبة.. بألف رتبة.. بل هي لا تقبل المقارنة والمقايسة بغيرها, وحينئذ كيف سيكون الحال عند النبيّ!!
وفي ذلك الحين كانوا يأتون ويؤذون النبيّ, ويتطفّلون بأوامرهم وآرائهم.. إلا أنّ سلمان لم يكن ليفعل ذلك, أمير المؤمنين لم يفعل ذلك.
كان أمير المؤمنين يقول: أ
نا عبدٌ للنبيّ, أنا خادم النبيّ, روحي فداء للنبيّ, إنْ يقل: اذهبْ, فإنّي أطيع, حتّى وإن أقطّع قطعةً قطعة تحت الحجار وأُسحق سحقاً, وإنْ يقل تعال: فسمعاً وطاعة, أو يقلْ اذهب ومتْ: فإنّي أنفِّذ.. أو حاربْ: سمعاً وطاعة.. صالحْ: سمعاً وطاعة, اذهب وخذ الجزية مثلاً من اليمن.. فسمعاً وطاعة, ولذلك بلغ تلك المراتب وحاز على ما لديه من المقامات, وهذا نهج البلاغة والذي هو لأمير المؤمنين, لكن أين "نهج بلاغة" عمر؟! أين "نهج بلاغة" أبي بكر؟! "نهج بلاغة" عثمان أينَ هو؟! أين؟ أين هو؟! والحال أنّ فترة حكومتهم كانت أكثر وأطول, فقد تولّى أمير المؤمنين خلافة قصيرة لا تتجاوز الخمس سنوات, وهذه الخُطب التي جمعت له إنّما ألقاها طوال خمس وعشرين سنة والتي كان قد قضاها منعزلاً في المنزل, فهي خطبٌ صدرتْ منه حينما كان بستانيّا وكان يزرع, ولم يكن يتدخل في الجهاز السياسيّ, وفي هذا الوقت جمعت هذه الخطب, إذنْ, أين خطبُ عمر؟! أينَ كلماته؟!
فهذه الخطبُ الحقّة, فهي في الواقع, تمثّلُ بمجموعها كمّاً كبيراً من الحكمة والمعرفة وغور أعماق المعارف ودرك حاقّها وحقيقتها, وكأنّه قد أقامَ في حرم الله وشرعَ يخبرُ عن العوالم العليا من العرش والكرسيّ والعالم الربوبيّ وما سوى الله.. ولو سألناه ممّ ينشأ ذلك؟ فسيجيب:
نا عبد من عبيد محمّد"
[16]
ماذا يعني هذا الكلام؟ يعني: أنا عبد, بمعنى أنّه حينما يقول النبيّ: يا عليّ افعل ذلك, فلا أتململ ولا أقول: يا رسول الله, كلّف أحداً غيري بهذه المهمّة, أنا متعب, أرجوك لا يكوننّ ذلك على عهدتي..
إن يقل النبيّ: عليّ! اذهب واملأ هذه القِربة.. ففي معركة بدر, وسطَ ظلام الليل وفي قلب أرض المعركة في وقت متأخّر من الليل, والمكان مملوّ بالأعداء, حيث كانَ قد نفذ الماء, فأعطى النبيّ القِربة لسعد بن أبي وقّاص؛ أنْ اذهب إلى ذاك المكان واملأها ماءً, ولا تخفْ, فلم يستطع.. ثمّ قالَ النبيّ لغيره وغيره.. ولم يذهبوا, إلا أمير المؤمنين, فقد حمل القربة ومضى إلى قعر البئر!

 


[1] ـ سورة النساء قسم من الآية 59.

[2] ـ سورة الشعراء الآية 108 والآية 110 والآية 126 والآية 131 والآية 144 والآية 150 والآية 163 والآية 179.

[3] ـ سورة الأنبياء الآية 7.

[4] ـ سورة الإسراء الآية 72.

[5] سورة الحج, ذيل الآية 46.

[6] ـ سورة الفاتحة الآية 5.

[7] ـ شرح أصول الكافي 3: 83, مولى محمد صالح المازندراني.

[8] ـ بحار الأنوار 102: 165.

[9] ـ نهج البلاغة 4: 34 شرح الشيخ محمد عبده , دار المعرفة , بيروت. وكذلك الكافي 3: 265, المطبعة: الحيدريّة, تحقيق علي أكبر غفاري, الناشر دار الكتب الإسلامية.

[10] ـ سورة العنكبوت, قسم من الآية 45.

[11] سورة الفاتحة الآية 5.

[12] ـ سورة النّمل, قسم من الآية 14.

[13] ـ سورة الزمر, قسم من الآية 22.

[14] ـ سورة الأحزاب, قسم من الآية 53.

[15] ـ سورة القلم, الآية 4.

[16] ـ الكافي للشيخ الكليني 1: 90 وكذلك الاحتجاج للطبرسي 1: 313 وكذلك عوالي اللئالي لبن أبي جمهور الأحسائي 1: 292 وكذلك الفصول المهمة في أصول الأئمة للحر العاملي 1: 168 وكذلك بحار الأنوار 3: 283 و108: 45 وكذلك نور البراهين للسيد نعمة الله الجزائري1: 430 وغيرها.

 

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی