معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 101 إلى 200 > شرح حديث عنوان البصري - الجلسة رقم 176

_______________________________________________________________

هو العليم

محاضرة عنوان البصري

رقم 176

ليلة التاسع من صفر سنة 1431 هجرية قمرية

 

 

_______________________________________________________________

أعوذُ بالله منَ الشيطانِ الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنةُ الله على أَعدائِهم أجمَعين

    

الأسباب التي أدت إلى تغيير مسار جلسة عنوان البصري

هذا المساء هو ليلة التاسع من صفر سنة 1431 هجرية قمرية المصادف للذكرى السنوية لوفاة المرحوم الوالد رضوان الله عليه, حيث توفي سنة 1416 هجرية قمريّة رحمه الله. وقد مرّ إلى الآن خمس عشرة سنة من ذاك التاريخ.
لا يخفى أنّ جلسات عنوان البصري التي كانت بالكيفيّة السابقة؛ حيث كان الرفقاء يجتمعون ويشاركون بها, وكانوا يظهرون الرغبة في المشاركة, وكانوا يأتون من أماكن بعيدة أيضاً, بل يتحمّلون أعباء السفر وما يلحق بذلك, كذلك كنّا نواجه مشكلة عدم اتّساع المكان للجميع, وبعض الإخوان كانوا يأتون من أماكن بعيدة متعبين من عناء السفر, وكانوا يجلسون في الخارج والهواء البارد و.. وهذا ما جعلنا نفكّر بشيء من التريّث والتأمّل, فاقترح بعض الأصدقاء أن يُعمد لتجهيز مكان أوسع وأكبر, يتّسع لظرفيّة وعدد الإخوان الموجودين فعلاً أو لمن سيأتي مستقبليّاً.. ولكنّ الحقير قال: بأنّه حتى مع ذلك فقد يضيق المكان للواردين في المستقبل فالعدد في ازدياد مطّرد, والحقيقة أنّها معضلة تحتاج إلى تفكير وتأمّل، هذا من جهة... ومن جهة ثانية فإنّ حالتي النفسيّة في هذه الأيام تقتضي عدم الاختلاط مع الأفراد والجماعات والجماهير الغفيرة, بل إنّي من مدّة مديدة كنت ألمّح للإخوة بأنّه قد يأتي يوم تتغيّر فيه آلية هذه الجلسات.. وهو ما وصلنا إليه فعلاً؛ حيث لم تعد حالتي النفسيّة تمكنّني من التمادي في الاختلاط والمشاركة والحضور مع الإخوان والتكلّم مع الآخرين بشكل عام, فالتكلّم والتحادث مع الآخرين يتطلّب طاقة خاصة, والتواجد في المجلس إنّما يقتضي أن يتكلّم الإنسان ويتبادل أطراف الحديث, أي يتكلّم بالشيء المناسب بهذه المجالس العامة, وحالي لا يساعد على ذلك بشكل عام.
لذا فكّرت بالأمر, وخلصت إلى أنّه إما أن نعطّل الجلسات من أساسها, وإمّا أن يأتي في كلّ جلسة عدّة خاصّة من الإخوة فقط لا غير, وذلك أنّ الهدف من الجلسات هو بيان المطالب وتوضيح هذه المسائل التي أرى أنّ العظماء والأولياء قد تحمّلوا الشدائد لأجلها وبذلوا النفس والنفيس بغية إيصالها لنا وتحملوا المتاعب في طريق إبلاغها بهذا الشكل, كلّ ذلك كي يوصلوها للذين يأتون في المستقبل, وكم راعوا من الدقّة في نقلها وانتقالها!

    

مشكلة السالكين في عدم تطبيق ما يعلمونه

بناء على ذلك, فلا معنى لأن يحزن الإخوان أو أن يدخل في نفوسهم شيء من المؤاخذة, فلا يتوقعون أكثر من ذلك, بل عليهم أن يدركوا موقعيّتنا ويتفهّموا الشروط المكتنفة والمحيطة بنا, وبالتالي سوف تصل هذه المطالب إلى الجميع, و تبلغ مسامع وآذان الكلّ إن شاء الله.
والمهم هو أن نلتزم بهذه المضامين والمباني, فالإتيان إلى هذه المجالس مع عدم رعاية مضمونها ومحتواها لا فائدة فيه, فحينما أرى جماعة يأتون إلى هذه الجلسات لكنّهم يسيرون في منهجهم ويتحرّكون على ضوء تفكراتهم وأفكارهم.. فأنتم تعلمون أن مرادي وهدفي من هذه المجالس ليس كثرة العدد.. فلماذا آتي ولأي شيء آتي؟! فيمكن للإنسان أن يذهب إلى أي مكان وذلك على أساس سليقته وأفكاره الخاصة, ولا مشكلة في ذلك, فلكلّ إنسان هدفه ومقصده؟ صحيح..؟ ونحن ضمن هذه البيئة التي نهيّئها نحسّ بالراحة والأخوّة والصفاء بشكل كبير, فذاك الصفاء وذاك الحال الذي نعيش في مناخه لهو مناخ لا بدّ من وجوده كمقدّمة لطرح هذه المباني, هو مناخ هام جدّاً للسير والحركة ولا مثيل له من بين المجالس التي نشاهدها بأمّ أعيننا, لذلك فإنّ عدم اكتراث البعض بذلك قد سبّب لنا التعب والإحساس بالضغط والإرهاق, وهو ما كان يشعرني بالضيق ويسبب لي التعب..
فلو كان هناك تكليف وأمر خاص بأن أتابع مع هذا الحال, فبه, إذ تارة يكون للإنسان وظيفة تلحّ عليه بأن يقوم بذلك ويمشي كيفما كان, فلا مانع حينئذ من تحمّل التبعات, ولكن ما معنى أن يزجّ الإنسان نفسه في هذا الجوّ ويضع نفسه عرضة لهذه التكاليف الإضافية والتحميليّة!! كلا يا عزيزي! لا تظنّ بأنّ ذلك هو تكليفك الشرعي, جرّب!! وحاول أن تتركه دون أن تقوم به.. فلن تقع السماء على الأرض!! وبشكل عام, كان كلّ ذلك يتعبني و يقلقني, مضافا إلى ما ينقل إليّ وما يطرق سمعي من هنا وهناك... لذلك كان لا بدّ من إنهاء جميع ذلك يوماً من الأيام, بحيث أرجع مسيري وحركتي إلى المسار الطبيعي.
وها أنا أعلن للإخوة أنّه كلّ من لم يعمل بالأمور الواجبة ويطبّق المباني ويعمل على أساسها وبالتالي يتعدّى تكاليفه المفروضة والواجبة عليه والملقاة على عاتقه, ويوسّع دائرة تكاليفه فليس من الضروري أن يحضر في هذه الجلسات أصلاً!! فالمطالب واضحة وشاخصة للجميع, والمباني مشخّصة أيضاً, والمسائل واضحة ومبيّنة ومحدّدة وذلك حسب فهمنا ومستوانا ولا ندّعي العصمة. فمع كوننا نعتقد بأنّنا لسنا معصومين أبداً عن الخطأ؟ فمن يمكنه أن يدّعي أنّه لا يخطئ غير صاحب الزمان؟! ومن الذي يدّعي أنّه معصوم قولاً وفعلاً وقلباً وأنّ لديه حقيقة العصمة غير صاحب الزمان؟! لذلك فمع كوننا ملتزمين بأنّنا غير معصومين إلا أنّنا بالنسبة للأمور التي نتيقّن بصحتها وكونها حقّاً, فإنّنا نلتزم بها ونلزم بها أنفسنا حتى ينكشف لنا الخلاف, فكلّ ما هو معتقد لنا وقد التزمنا به وقد تعلّقنا وارتبطنا به وتيقنّا به إلى أنْ ينكشف لنا خلافه, فلا يمكن لنا رفع اليد عنه, فلا يمكن رفع اليد عن ما التزمنا به واعتقدنا بصدقه وصحّته وحقانيّته, بناء على ذلك كان من حقّنا أن نقف في وجه كلّ عمل منتسب لنا ومحسوب علينا لنحاسب أنفسنا وما يرتبط بنا, فمن الطبيعي جداً أن نحافظ على مبانينا ونصونها من الانحراف, كما ومن حقّنا أن نمنع من الانحرافات وإظهار الأنظار الجاهلة, بل من الطبيعي جداً أن نقف بوجهها, أما إذا لم يكن منتسباً إلينا فلا دخل لنا به..
ومن جهة ثالثة هناك العديد من موارد الاختلاف وتصادم الآراء.. وعلى الإنسان أنْ يصرف كلّ وقته لذلك، يقولون: سيدنا! انظروا ماذا قال فلان؟ سيدنا!! انظروا بالذي أقوله أنا أيضاً؟ سيدنا!! أهذا هو الصحيح أم ذاك؟ كلّ ذلك لماذا؟ جميع ذلك لأنّنا ـ في الواقع بيننا وبين الله ـ لا نريد أن نمشي بشكل سوي ومستقيم إلى الله, فنحن نريد أن نجمع بين السلوك وبين دنيانا, والرفقاء يعلمون أنّي من أوّل الأمر لم أكن متساهلاً, بل كنت واقفاً وبقوّة وبكلّ صراحة ولم أكن لأخفي شيئاً, بل كنت أبيّن المباني وأوضّح القواعد والأسس..
فلم يكن من رأي العبد الحقير أن أتابع هذه الجلسات أصلاً, إلا أن الشيخ... قد اقترح بأنّه لا بدّ وأن نمضي ونتابع.. طبعاً لم يكن اقتراحه بأن تصبح الجلسات بهذا الشكل الذي نراه اليوم, ولكن جاء شخص آخر واقترح أمراً آخر, ومن الطبيعي أنّ كلّ شخص له اقتراحه وسليقته وقد يكون صحيحاً وقد لا يكون.. وقد تكون المشيئة قاضية بأن تأتي المقدّرات والآراء الصحيحة والسليمة عبر اقتراحات غيرنا, فلا يوجد دليل على كوننا نحن كعلام الغيوب!! ولا دليل على كوننا حائزين على رتبة الإشراف على كلّ شيء, فعلام الغيوب وواجد جميع الجوانب هو شخص واحد فقط لا غير, وهو حضرة الإمام عليه السلام, والبقية إنّما هم بشر وأناس ولهم ادعاءاتهم المختلفة وتوهّماتهم وتخيّلاتهم، وهذا أمر واضح.
ولطالما كنت أؤكّد على ضرورة أن نلتزم بهذا المبدأ, ألا وهو أن أقوم ببيان كلّ ما نتوصّل إليه من مباني العظماء والأولياء وإيصاله للإخوان بدون تغيير أو تصرّف أو تدخّل, وكم كنت أطرح مسائل متعدّدة ومتنوّعة, والحال أنها لم تكن متوافقة مع أنظاري الخاصّة, ولكن كنت أؤثر أن أطرحها كما هي, كي تصل سالمة من التدخّل, سواء في ذلك الأمور الاجتماعية أو الشخصية أو العلمية وأمثال ذلك. والتجربة التي لمسناها بأيدينا إنّما تقضي أن لا نغيّر ولا نبدّل ما أثرناه من الأولياء والعظماء. كما أننا لا نعتقد بأنّ كلّ ما نطرحه من أنفسنا صحيح وتامّ مائة بالمائة! بل قد نكون مشتبهين فيه, والخطأ والاشتباه إنّما يرتفع بعد حين, و هذا هو اعتقادي.
لذلك لا يعتقد الحقير بأنّ المشي والسير قدماً إنّما هو متحقّق على أساس هذا المنوال الذي نسير عليه فعلاً, وكذلك هو حال الرفقاء السائرين بصدق وأمانة وجدّية وإخلاص باتجاه هدفهم ومقصودهم.. فهم يريدون أن يجعلوا أنفسهم في فضاء مساعد على السير والسلوك, وضمن محيط آمن يؤمّن لهم فرصة التكامل وسكون الخاطر والطمأنينة بغية السير قدماً والسلوك في طريقهم.. وعليه, فحينما يكون الأمر كذلك فلا ينبغي لهم ـ بسبب وجود بعض الأفراد ممّن لهم بعض الأهواء وما شابه ذلك ـ أن يوقعوا أنفسهم تحت مطرقة التعدّي والتشويش والاضطراب بسبب المسائل التي يشاهدونها ويعاينوها ويلامسونها.. ومسؤولية متابعة هذه المسألة الحسّاسة على عهدة من؟! ومن هو الذي يتحمّل هذه المسؤولية؟ فكثيرة هي المطالب التي كنت أطرحها بشكل واضح وناصع ونقي وصريح لا خفاء فيه ولا اعوجاجا, كوضوح القضية القائلة (2+2=4), إلا أنّه وبعد ذلك نجد أنّ مسائل تتهاوى من هنا ومن هناك, ويتفق حصول أمور ومسائل أخرى بحيث يتحقّق في الخارج غير ما كان قد تقرّر أن يتحقّق ويجري!!!
ففي تلك المجريات التي وقعت بعد وفاة المرحوم الوالد, قالوا لي لماذا لم تقف في وجه الوساوس الشيطانيّة.. فقلت: ألا يكفيني أن أرعى تكاليفي الخاصّة بي؟! فالمرحوم الوالد قال لي عليك ببرامجك وبوظائفك, فليس من وظيفتي أن أذهب وأدقّ أبواب الناس وأصلح الأمور بهذا الشكل وبذاك الشكل!! بل حتى وإن قمت بذلك، فقد يأتي شخص بعدي ويقوم بعكس ذلك أيضا!! بل يلزم حينئذ أن أدخل إلى كلّ غرفة وأقف وراء كلّ باب وأختفي خلف آذانهم!! هههه... يعني لا يمكن ذلك أصلاً, بل اللازم على الإنسان أن يقيم الحجّة فقط لا غير, ويمضي بعد ذلك في طريقه.
وقد شاهدت في هذه المدّة أنّ بعضهم لا يريدون أن يكون المناخ والمحيط هادئاً وسالماً وخالياً من النقل لحديث فلان وفلان ونقيّاً عن النقض والأقاويل...
حسناً, في آخر المطاف لا بدّ وأن نواجه هذه الظاهرة, ولا بدّ وأن نقف يوماً ما أمام هذه الأمور, لنقول لهم: عزيزي! هل تريد هذا المسير وهذا الطريق أم لا؟ العبد الحقير لا يدّعي العصمة, ولكن بالنسبة لما هو متيقن لي فإنّي أقف وألتزم وأعمل به, وهذا هو منهج الوالد, ففي زمان الشاه كان الوالد يرى حرمة التعامل مع البنك, ومن الطبيعي أن يكون ذلك بشكل آكد بالنسبة لرفقائه وتلامذته بالنسبة لهذه المسألة, ولكن كنّا نرى أنّ بعضهم لا يهتمّون بذلك, فكانوا يتعاملون مع البنك ويقترضون ويدخلون في معاملات بنكيّة!! وهو كان يعلم.. وكان يذكّرهم ويلفت نظرهم مرة.. مرتين.. ثلاث.. ولكن بعض الأوقات يقوم الإنسان بتشويه المحيط من حوله بحيث يتلوّث بشكل تام ولا يعود بإمكانه فهم كلام الأستاذ واستيعاب الحقيقة, بحيث لا يعود يمكنه مداومة السير في هذا الطريق, وبالتدريج تتبدّل الروحيّة ويتبدّل التوجّه... وفي يوم من الأيّام حصل أن جاء أحد الأشخاص إلى منزل الوالد, وكان من الذين يتعاملون مع البنك, لذلك كنت قد قرّرت من الأوّل أن أواجهه, فجاء هذا الشخص من إحدى المحافظات, ورأيت أنّه قد أتى استجابة لتحذير مّا, وكأنّه كان قد أُرسل إليه بلاغ, حيث كان واضحاً من كيفيّة مجيئه, حيث كان مضطرباً جداً, فجاء وقلتُ له: تفضل اجلس في الطابق العلوي, فرأيت أنّ الوالد قد لبس عمامة رسميّة وعباءة وجبّة! يعني لباسه الرسمية وكأنّه يريد أن يخرج من المنزل في كامل لباسه فقال ذاك الشخص للوالد: ـ وكلامه عجيب جداً ـ بالنسبة لهذه المسائل قد أخذتُ إجازة من العالم الفلاني, فهو يجيز المعاملات البنكيّة, أو أنّ جميع العلماء ليس نظرهم واحداً ومتفقاً في ذلك, فقال له الوالد: أنا فرد لي مبانيّ الخاصّة وقد درست وحقّقت ولنا تحقيقاتنا ولنا منهجنا الخاص بنا ولنا فكرنا ونظرنا بهذه المسائل والأحكام الشرعيّة, كذلك في كلّ الأمور الاعتقادية, وقد توصّلنا إلى هذه المباني وهذه النتائج, ولسنا ندعي العصمة في ذلك, بل من الممكن أن نشتبه ونخطئ, ولكن مع عدم التفاتنا إلى خطئنا علينا الالتزام بالمبنى الذي نعتقد به. بناء على ذلك فنحن لا عمل لنا معك, وأنت يمكنك أن تتعامل مع من تشاء وتعمل مع من تشاء, ولكن لماذا تأتي إلى هنا بعد ذلك!! كم هو كلام منطقي وصحيح!!
فأنت تأتي إلى هنا ليس بعنوان الصداقة والرفاقة, فنحن إنّما تجمعنا رابطة الصداقة والرفاقة بناء على وجود ملاكات وضوابط خاصة أدّت إلى هذه الصداقة والرفاقة, وعليك أن تحترم ملاكات الصداقة هذه, وإلا فإن لم تتوافق المسألة مع المباني فلا يضيّع الإنسان وقته وحياته مع هذه الصداقة, وذلك أنّنا إنّما نتوقّع نتيجة وثمرة نجنيها من هذه الرفقة والصداقة, فلماذا يمشي الإنسان ويستمر.. والحال أنّه غير مقتنع بذلك, بل عليه حينئذ أن يذهب إلى الأمور التي يقتنع بها أنّها توصل إلى الرضا الإلهي, وعليه فما دمت تعلم بأنّ مبانينا لا توصل إلى الهدف والمقصد ولا تبلغ بك الغاية, وتعتقد بأنّ ارتباطك المالي قد عقدته مع أولئك الأفراد وأنّك تستمع لأولئك فلماذا تأتي إذاً؟ نعم من الطبيعي أنّ هذا الشخص قد أثّر به هذا الكلام كثيراً, وتغيّر في آخر المطاف بحمد الله. هل التفتم؟؟ هذه هي المسألة.
فحينما يقول الإنسان أمراً ثمّ يستمر الآخرون بطريقهم وممشاهم, فما هو الملزم بالاستمرار.. أصلاً لماذا؟!
بناء على ذلك وحسبما توصلنا إليه هو أنّ الأفراد الذين تربطهم بهذا الجمع علاقة حميمة وحشر ونشر, وهم يفهمون مطالبنا, بل بشكل جيّد يفهمون.. ويشخّصون المسائل بشكل دقيق. لذلك فإن كان الإنسان يحسّ بالثقل والصعوبة جراء الالتزام بهذه المباني, فعليه قبل أن يصل المطلب إليه ويطرق سمعه, عليه أن يحلّل نفسه من قيدنا وعقودنا, فنحن نحن ولم نغيّر مرامنا, فنحن لنا منهجنا وما زال هو بعينه.. نعم! هو بعينه وهو نفس المطلب وعين ذاك الممشى. فلماذا يأتي شخص ويريد تقييد وتكبيل نفسه بهذه الأنظار وهذه الآراء والمباني والمبادئ, ثم بعد ذلك يشرع ليقول ويتعلّل: هذا نظر فلان!! وهذا نظر فلان!! والحال أنّنا بريئون من كلّ هذه الآراء, وروحنا بريئة من هذه الأفعال الشنيعة وهذه المنقولات، كما أنّ روحنا أيضاً بعيدة كلّ البعد عن هذه المسائل الدنيويّة, ولا اطلاع لدينا على كلّ ذلك أصلا!!
أليس هناك الآن أفراد لديهم عين مطالب المرحوم العلامة؟! أليس هناك الكثير من الناس يقيمون نفس هذه المجالس... هم كثيرون؛ في المحافظات, في المناطق داخل وخارج إيران, وذلك ليس من عندهم وإنّما بسبب ارتباطهم بهذه المدرسة, فيقرؤون ويأخذون وينشرون في مناطقهم, لا مشكلة في ذلك, فليأخذوا ذلك وليحملوه وينشروه وذلك حسب الطاقة وحسب استعداد الأفراد.. افعلوا ما تشاءون.. ولكن ما بالكم تنسبون الأمور إلينا؟! لماذا الانتساب إلينا والتستّر بنا؟! فأنتم أتعبتمونا!! فأنتم تحمّلون المسائل علينا.. وأنتم بذلك تضيقّون علينا.. وتسندون إلينا المسائل.. بناء على ذلك فلماذا نحافظ على ارتباط الأشخاص الذين لا يتّبعون ولا يطبّقون ولا يعملون؟! وهل من اللازم علينا أن نحافظ على صلته وارتباطه بنا وعلاقته معنا!!
فكراراً وتكراراً أقول وأنقل عن الوالد بأنّ رفقائنا سواسية كأسنان المشط, وقد نقلت ذلك مراراً وتكراراً, وكلام الأولياء ليس مزاحاً, بل هو كلام ووصف واقعي, وهو يعيّن كيفية ومستوى وآليّة ارتباطهم معنا, فلا مجال في مدرستنا للتعالي والقرب والبعد والطبقية والعاجية والتميّز ووو.. لا.. لا معنى لكلّ ذلك, إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم, أنتم تقولون ذلك, فلا يوجد أيّ تفاوت من الناحية الظاهرية أبداً, وأما لو نأتي ونقول: بأنّه لا تمايز من الناحية الظاهرية ونظهر التواضع ووو, ولكن من الناحية النفسيّة نشعر بالرفعة والتميّز فهذا باطل وخطأ أيضاً, وهو متعارض مائة وثمانين درجة مع ما نعتقد ونصرّح به, وهو يذهب كلّ أتعابنا ومشقاتنا أدراج الرياح..
فما هي فائدة وأهمّية ما يقوله العظماء؟ ولماذا هو؟ لأجل أن نفهم ونفيق ونلتفت.. كي نستفيد من هذه السفرة التي أتينا إليها, فهي مفيدة ومهمّة لنا, وهي تفتح طريقنا للسير قدماً, وإلا فلو بقي الإنسان ثمانين سنة وقرأ كلّ كتب العلامة وقرأ وهو يتصوّر أنّه بكلّ راحة يصل..! فمثله مثل الحمار الذي يدير حجر الطاحونة فيسير ويمشي من الصباح إلى المساء ثم يجد نفسه في آخر الليل أنه ما يزال مكانه!!
نعم! هذه هي حقيقة الذين لا يلتفتون إلى المطالب التي يتفوّهون بها, لأنّه لم يتوجّه إلى ما يقوله بل كان يتوجّه إلى غيره, وإلا فلو كان يوجّهه إلى نفسه لكان تغيّر منطقه!! فالمشكلة ليست من الآخرين المحيطين بي أبداً, فالآخرون يتعاملون معه بشكل طبيعي وعادي ولا يعطونه ألقاباً ولا ينظرون إليه على أنّه متميّز ومترفّع, بل المشكلة هي أنّ الذي يريد أن يترفّع هو أنا!! فأكون قد انتخبت طريق التخطّي والتجاوز والتعدّي، وأدخلت نفسي في طريق الضلالة ووادي التجاوز والعصيان, فأنا الذي أريد أن أجمع الناس من حولي وأتزعّم.. ولو لم أرد ذلك فيمكنني أن أقول لمن يريد أن يقدّسني بسرعة اجلس!! فيجلس هذا.. وذاك يجلس.. وينحل التكبر ويزول كلّ شيء, بل الحقيقة أنّنا نحن نريد التزعّم والتألّه والتكبّر..
وعليه فلا يعود يبلغ الإنسان ما يقوله العظماء ولا يعود بإمكانه أن يبلغ المقامات الواقعية والحقيقية التي يصفونها.
وهذه الليلة هي ليلة التاسع من صفر وهي ليلة وفاة المرحوم العلامة, ووددت أن أتعرّض لذكر شيء من حالاته وأحواله, وإن شاء الله نتمّم تلك المطالب من شرح رواية عنوان البصري في المستقبل. ولكن كنت أفكّر اليوم في نفسي: ماذا علينا أن نذكر في هذه الليلة؟ وما هو الأنسب لمثل هذه المناسبة التي نحن فيها؟ فارتأيت أن أتعرّض إلى بعض من خصوصيات أحواله وكيفيّة ممشاه ومنهجه, بحيث يمكن أن ندّعي إنّه كان في ذلك متميّزاً حتى عن الآخرين..

    

أهم وصايا العلامة الطهراني معرفة الحق واتباعه

فديْدن الناس في تعريف العظماء هو أن يذكروا عنهم الأمور غير العادية, فحينما يموت أحد يقولون: إنّه كان يعرف كذا.. ويعلم كذا.. ومطّلع على الغيب.. وكان مطّلعاً على تلك الأمور.. وكان يرى بعين السماء.. يا للعجب!! فهل أقوم بذكر ذلك بالنسبة للمرحوم الوالد وأمشي على هذا المنوال؟!
فالمرحوم الوالد لديه العديد من هذه المطالب.. إلى ما شاء الله.. بل أكثر من ذلك.. ولكن لو تأمّلنا في ممشاه ومنهج فكره وتفكيره, وكذلك لو تأمّلنا في أسلوب تعامله وتعاطيه مع أساتذته وكذلك ارتباطاته الاجتماعيّة, وسائر علاقاته مع الناس المحيطين به, وكذلك لو دقّقنا وتأمّلنا برؤيته وفلسفته الكلّية عن عالم الوجود, بدءً من مسائل المبدأ والمعاد وصولاً إلى سائر أفكاره النيّرة وجهوده المتلألئة.. نشعر بأنّ ما يميّزه عن سائر الأفراد بل العظماء هو أنّه كان تابعاً لكلام الأئمّة والأولياء وكان يعكس حقيقة ممشاهم في هذا الزمان.
ولطالما كنت أحقّق وأدقّق في كلماته وأتأمّل في أسلوبه ومنهج فكره, لأعرف الأفق الذي ينطلق منه لبيان المطالب الحياتيّة والسلوكيّة للإخوان والأصدقاء, فلم أكن أجد مبنىً وأفقاً يطلّ منه على الآخرين أعلى وأهم من مسألة الفهم والعقل والإدراك في تشخيص الحق وتمييزه عن الباطل. فكم كان يصرّح بنفسه ويؤكّد على هذه المسألة! وكم كان يهتمّ بفهم الأفراد؟ وكم كان يؤكّد على عقل الأفراد وتعقّلهم؟ وإلى أيّ حدّ كيف كان يدير سلوكه وممشاه طبقاً للموازين والضوابط والملاكات والقواعد وليس العكس, فلم يكن ليقولب موازين السلوك على نفسه وذاته وسيره الشخصي!! أبداً بل كان هو التابع لذلك دون العكس, فلم نشاهد منه ولو لمرّة واحدة أنّه كان يفكّر من منطلق الشخصانيّة وعلى قاعدة: أنا العلامة الطهراني فلا يتقدّمنّ عليّ أحد!! أو أنّي أنا أنا.. ينبغي أن لا يعترض عليّ أحد!! أبداً أبدا.. لم يشاهد منه ذلك طوال حياته.. بل إنّ جميع أفكاره ومنهاجه إنّما كانت تبتني على أساس جملتين, جملتين قالهما أمير المؤمنين في حرب الجمل لذاك الشخص الذي وقع في الجهل والشبهة والشكّ بسبب المسائل المشتبهة عليه, يعني عندما أصبح واقعاً مصاباً بالصرع وغارقاً في بحر من الحيرة, فذاك الشخص كان ديّناً وملتزماً بالدين, ولو لم يكن له دين لفرّ وترك وهرب, بل إنّ دينه وإنصافه هو الذي جعله متحيّراً غير فارّ.. وانصافه وحميّته وعرقه الديني هو الذي أوقفه ليسأل عن سبب ما يجري.. فهنا عائشة زوجة النبيّ, وطلحة, والزبير, وهما من أصحاب النبيّ أيضاً, وكم كان لهم من الأوسمة زمن النبيّ الأكرم!! من الثبات.. و الصبر في بدر وأحد.. فتحمّلوا الجراحات.. والسيوف.. بينما الآن نجد أنّ الأشخاص الذين كانوا خلف النبيّ ممّن كانوا يصلّون في الصفّ الأوّل, هم بعينهم الآن في وجه أمير المؤمنين يقاتلونه!! فنحن بعد 1400 سنة نستعرض المسألة ولو كنّا حاضرين آنذاك فما الذي كنا فعلناه؟! فمن تلك الجهة أمير المؤمنين وهو وصي وخليفة المسلمين والكلّ قد بايعه, ولكن بعد ذلك اتهمّوه وقالوا: عليّ قتل عثمان!! يا عائشة! أنتِ تكذبين وتتّهمين علياً, وأنت بواسطة تهمة عليّ قد جمعتِ الأفراد وحشدتِ الحشود الغفيرة اعتماداً على الأكاذيب والأباطيل, فقمتي بجمع الأفراد بهذا الأسلوب, ولولا الكذب ولولا تلك الموقعيّة التي تتمتّعين بها من كونك زوجة النبيّ, ولولا كونك قريبة من النبي, لما أمكنك أن تحرّفي الوقائع وتدخلي الشك والتشكيك في قلوب وعقول الناس!! كذلك الأمر بالنسبة إلى طلحة والزبير, فلولا مكانتهما وقربهما السابق من النبيّ صلى الله عليه وآله لما أمكنهما فعل ذلك, فليس لغيرهما أن يقوم بهذا الدور بهذه البساطة!!! فهما يستفيدان من النبيّ ومن شخصيّتهما التي كوّناها بسبب مصاحبتهم وقربهم من النبي, فاستطاعا حرف الناس عن النهج القويم, وقدرا على إيجاد التشكيك في عقولهم!!
لذلك جاء هذا الشخص متحيّراً يسأل أمير المؤمنين: هل يمكن أن يكون كلّ أولئك مشتبهون.. يعني نحن نرى أنّ السياسيّين يزيّفون عادة, ويطرحون بعض العبارات ليلاً ثمّ ينقضوها نهاراً ويتلاعبون بعقول الأمّة ويقلبون الأمور كل يوم ألف مرّة.. يعني هذا هو احترافهم.. فلعلك يا عليّ كذلك!! لعلّك يا عليّ مثل سائر السياسيّين؛ قلتَ شيئاً هنا وهناك دون علمنا ودون أن نلتفت!!
هذا الحس الديني جعل هذا الرجل يأتي إلى عليّ ويقول: يا علي! ما الذي يحصل؟! فأنا لا أرى فيك مشكلة ولا أراك مقصّراً ولم أعهد منك الكذب, ولكن من ذاك الطرف عائشة وطلحة والزبير والكبار!! فماذا نفعل؟
فقال أمير المؤمنين له: لا يعرف الحقّ بأقدار الرجال..
أي لا تنظر إلى قيافة الرجل وشكله الخارجي ولا تلتفت إلى الصفات الظاهرية للأفراد, فذلك يوقعك في الاشتباه.. ولا تنظر إلى تجمّع الأفراد وكثرة تردّدهم عليه.. لا تنظر إلى الحشود المحيطة بالإنسان ووو.. يعني لا تنظر إلى الشخصيّة الاجتماعيّة للشخص, اترك كلّ هذه العلامات بعيداً, والسلام... فكلّ ذلك يوقعك بالتشكيك ويغرقك في بحر من الخلط والخطأ..
كنت أرى بعض الأشخاص زمان العلامة, كان يتحنّك ويتلوّن ويظهر نفسه بمظهر القداسة والزهد والنورانيةّ!! وووو..., وكأنّ رأسه قد وصل إلى السماء الثانية!! وترى رجلاً آخر وصل رأسه وبلغ السماء الثالثة.. واقعاً حينما يرى الإنسان هؤلاء يرى عالماً من الغرور, بحيث لم يدعوا لأنفسهم مجالاً للتنفس!! قد غرقوا بتمام وجودهم في مستنقع الغرور وقعر جهنّم وسرادق التخيّل والوهم.. فلم يبقوا لأنفسهم ذرّة من الأوكسيجين.. بل صار ما لديهم بأكمله ثاني أوكسيد الكربون!!
حينما كنت أشاهد هؤلاء حيث كنّا نلتقي بهم دائماً.. وكنت أتكلّم وأتحادث معهم كثيراً, ولكن! كنت أثناء تعاملي معهم أجرّدهم عن تلك الأبّهة والعظمة المدّعاة, وذلك في خيالي ونفسي, فلا أنظر إليهم على أنّهم عظماء كما يخال لهم!! فكنت أوّلاً أبدأ بمخيّلتي بنزع قبّعته وقلنسوته التي يضعها على رأسه, وأتكلّم معه وكأنّه حاسر الرأس ليس أكثر.. طبعاً كلّ ذلك في عالم الخيال والتصوّر.. فكنت أنزع قبّعته, وأرى أنه لا شيء آخر لديه, لم أقل له افعل ذلك بل بالخيال, نعم بعض الأحيان كنا نقول!! [ضحك من السيد والحضور] ثم ننزع بقية ثيابه شيئاً فشيئاً.. إلى أن نصل إلى سرواله في بعض الأحيان!! كي يتجرّد بشكل تام عن كلّ مقام يدّعيه وليس له, ثمّ نصل إلى ما تحته!!! وكنا نتصوّره عارياً متعرّياً!! وبعد ذلك نتكلّم معه وكأنّا نسأله عن حاله على هذا الأساس.. هكذا كنّا نتعامل مع الأشخاص..
أمير المؤمنين يقول: لا يعرف الحق بأقدار الرجال.. اعرف الحق تعرف أهله اعرف الباطل تعرف أهله..
لم يقل الإمام أنا صهر النبي.. كما ولم يقل أنا خليفة المسلمين, لم يقل عليكم باحترام الحاكم, بل كان بإمكانه أن يقول ذلك بأنْ يتذرّع بكونه خليفة المسلمين!! بل الإمام قال: إنّ هذه القاعدة التي أعلّمك إياها فإنّي بنفسي محكوم بها أيضاً, فعليك أن لا تنظر إلى أنيّ أنا علي بن أبي طالب أصلا وأبداً, بل عليك أن تنظر إلى الحقّ فحسب, لأنّه لو كان الإمام يقول له: أنا خليفة المسلمين وأنّ قداستي متأتّية من كوني خليفة للمسلمين!! فغداً يستشهد الإمام.. ويأتي معاوية ويصبح هو الخليفة! التفتّم؟! فالإمام يبعد جميع التوهّمات ويترك المعيار الحقيقي بين أدينا لنعتمد عليه.
أولاً: اذهب وشخّص الحقّ وميّزه عن الباطل, حينما تشخّصه يتمّ الأمر وينتهي كلّ شيء.
لا يقول له أنا صهر النبي.. فليس للمصاهرة شرافة, فعثمان كان صهراً للنبي وقتل ابنته, اذهب وشخّص الحقّ وكفى. وسلوك طريق الكذب والتهمة حرام, بينما الصدق والوفاء واجبان, وهذه التي وقفتْ بوجهي تحاربني فعلى أي أساس أتتْ, فإن كنتُ أنا القاتل لعثمان فأنا أتحمّل دمه, فاذهب وتحقّق الأمر واعرف الحقّ تعرف أهله حينئذ, فتوضيح ملابسات الكذب لا يحتاج أكثر من دقيقتين, كذلك إثبات الصدق والمصداقيّة لا يحتاجان كثير مؤنة ولا يطول ذلك لأكثر من تحقيق وتفحّص ساعة أو ساعتين..
فأمير المؤمنين يقول: لا تذهب إلى عائشة! كما ولا تأتِ إليّ! ولا تمشِ خلفي بصفتي الخليفة, بل اذهب إلى الحقّ وشخّصه عن الباطل, والحقّ مشخّص وواضح وجليّ؛ فالحقّ إمّا أنّه متوافق مع ضروريات الدين أو موافق لبديهيّات الفطرة أو لضروريّات العقل... ويمكنكم على أساس ذلك أن تشخّصوا الأمور وتميّزوها عن بعضها, والمباني واضحة جداً ولا يختلف فيها عاقل: فالصدق واجب والكذب حرام والنفاق حرام وهكذا.. صحيح! إذن: اعرف الحق تعرف أهله..
بعد أن تعرف الحقّ وتميّزه اذهب إلى الجيش الذي تريد؛ سواء في ذلك أنا أم عائشة! وعلى ذلك فالملاك الذي يريده أمير المؤمنين ليس أن نستمع له ثمّ نذهب ونطبّق القاعدة على غيره ونستثني المتكلّم!! لا أبداً, بل الملاك هو أنّ الشخص الذي يتكلّم هو بنفسه كم يطبّق الملاك على نفسه؟! فهذا الذي يأمر وينهى كم هو منصاع للحقّ الذي يتفوّه به, فهل كان أمير المؤمنين تابعاً لهذا الحقّ الذي يقوله؟ أم أنّ أمير المؤمنين يمكنه أن يخالف ويتخطّى ويتجاوز دون التزام منه بالقاعدة التي يؤسّسها!!
هذه هي مدرسة المرحوم الوالد في طوال حياته, وهذا هو نهجه مع الجميع, من دون فرق في ذلك بين السلاّك الخاصيّن والناس الآخرين, كان يحرّك الجميع ويحثّهم للسير قدماً على هذا الأساس, فصلاة الليل لا فائدة لها بدون الالتزام بهذه المسائل, وكذلك الذكر لا فائدة له بدون الالتزام بالحقّ والانصياع لهذه المباني, وكذلك قراءة القرآن بدون الالتزام العملي بهذه المباني لا فائدة لها.
فالخوارج كانوا حفّاظاً للقرآن, ولكن كم كانوا متحقّقين بهذا القرآن، وإلى أي حد كانوا مصداقاً للقرآن.. لا شيء.. صمّ بكمٌ عميٌ فهم لا يفقهون.. جاؤوا إلى امرأة حامل وسألوها هل أنت مع علي؟! قالوا ماذا في بطنك؟ قالت لا أعرف: فبقروا بطنها وأخرجوا ما في بطنها بالخنجر وقالوا ها؟ هو غلام؟!!! يعني كيف يصل الإنسان إلى هذا الحد؟! لأنّهم لم يلتزموا بالحقّ, ولم يتطوّروا على أساس تبعيّة الحقّ, بل جاؤوا واختلقوا افتراضات مسبقة, وجعلوها ملاكاً يحاسبون الآخرين عليها, فكلّ من يدخل فيها هو معنا, وكلّ من يخرج عنها فهو خارجي وكافر ويجب أن تبقر بطنه..
لماذا الافتراضات المسبقة والزائدة على المباني والتي لا أساس لها عقلاً وشرعاً؟!
أمير المؤمنين يقول: اطرح الافتراضات جانباً, وكن حراً.. وكن ذا عقل متفتّح.. فهذا العقل إنّما خلقه الله لاستعماله في موارد الشبهة والمشكلة, وهو ينفع لتشخيص المسير ومواجهة مفترقات الطرق..
فالله خلق العقل وجعله الله مميزاً للأفكار والأنظار والنظريات المختلفة, وجعله وسيلة لمعرفة حقانيّتها وتمييز ما هو منها أقرب إلى الحقّ.. فلا أقل لا بد وأن يكون الطريق هو الأقرب للحق, وأقرب للواقع.. ومع كوننا غير معصومين فلا أقل نسلك الطريق الأقرب والأحسن, فأيها أقرب للواقع..
وصرف المخالفة للباطل لا تكفي, بل لا بدّ من موافقة الحقّ مع ذلك, ولا بدّ من سلوك أقرب الطرق للحقّ, فالقرب النسبي لا ينفع أبداً, فالخوارج خالفوا الحكومة الأمويّة, فهل هم مع الحقّ لكونهم مخالفين ومناهضين لمعاوية؟! فهل ذلك يجعلهم على الحقّ؟!! لقد أرادوا قتل معاوية كما لا يخفى, وأصاب السيف رجله ولم يمت.. إلا أنّهم أعداء أيضاً لأمير المؤمنين بنفس تلك النسبة التي يعادون فيها معاوية! فهم أعداء عليّ!! لذلك قرروا أن يقتلوا هؤلاء الثلاثة: معاوية, و علي, وعمرو بن العاص؛ وقرّروا أن يريحوا العالم الإسلامي من هؤلاء الثلاثة..
فنحن نقول عادة لأنهم هم أعداء معاوية هم على حق!! لا هذا ليس صحيحاً, فقد يكون الجميع على باطل أيضاً..
هذا المعيار الشائع من أنّ كلّ من يكون ضد فئة ظالمة وضالّة فهو على حقّ! هذا الشعار خاطئ, فمعاوية له عدوّان: أحدهما أمير المؤمنين والآخر الخوارج, والخوارج لهم عدوان: علي ومعاوية, وعلي له عدوان: معاوية والخوارج.
تماماً كما جرى بين أبي حنيفة والمنصور الدوانيقي, فالمنصور الدوانيقي ليس على حق, وهو سفّاك وهو من أهل الباطل وظالم وهو مخالف للأئمة ومعادٍ للتشيع ومجانب للحق, ولكن هذا المنصور الدوانيقي أخذ أبا حنيفة ووضعه في الحبس, وذلك بعد مجريات خروج بني الحسن, حيث ركب الموجة ولم يكن عمله لله بل أراد أن يصل إلى الخلافة, فوصلت رسالة وأفراد عبد الله.. ومسألة محمد وإبراهيم.. وبعد أن افتضح أمره حبسه المنصور إلى مات في الحبس, فهل مجرّد خلافه مع المنصور يجعله على الحق!! لا.. بل هو العدو اللدود من الدرجة الأولى.. حتى أنّ الإمام كان يتعامل معه بالتقيّة أكثر من غيره في مجالسه!!
ومجرّد مخالفته للمنصور لا تدلّ على شيء أبداً, فقد يخالف الإنسان المنصور لأجل ألف سبب, فقد يخالف المنصور لأنّه متنفّر منه ولا يحبّه, أو لأنّه قد ظلمه مثلا, أو لاختلاف عائلي, أو لكدورة حاصلة وخصومة واقعة بينهما.. كذلك الحال في موافقة جماعة أخرى فليست دليلا على الحقّ ولا دليلا على الباطل, بل إنّ نفس عمل الشخص هو المعيار لتشخيص الحقّ من الباطل, ولا يمكن أن نجعل كونه محامياً عنه دليلا على كونه على الباطل, كما ولا يمكن أن نجعل كونه مخالفاً له دليلاً على حقانيّته, فكلّ من الطرفين له ألف دليل, فالمنصور على باطل وأبو حنيفة على باطل أيضاً, وكلاهما ضد التشيّع.. فليمت في سجن المنصور, فهل جميع الذي كانوا في سجن المنصور هم مؤمنين؟!! لا بل الكثير منهم كانوا سرّاقاً وأصحاب جنايات واقعاً..
هل رأيتم كم المسألة مهمّة؟! المرحوم العلامة كان يطرح المسألة بهذه الكيفيّة, بحيث يجب أن نترك المغالطات وموارد الشبهات, وعلينا أنْ نخرجها ونبعدها عن أذهاننا.. يجب أن نبعد كلّ ما يوجب تأثير الانحراف على نفس الإنسان, يجب أن نتفحّص وندرس المسألة في كل ميادين حياتنا؛ في شغلنا وفي ارتباطاتنا وسائر مسائلنا لنعرف الحق ونميّزه, فقد يكون أولئك الأفراد الذين نظنّ أنّهم على الحقّ هم على الباطل.. فمن الذي يدّعي أنّه معصوم؟! ومن الذي يدّعي أنّه على الحقّ ويدّعي أنّه مرتبط بالوحي؟! من يدّعي الاطلاع على عوالم الغيب؟! لا أحد.. جميعنا لنا نفس وتوهّمات وتخيّلات, ولا أمازح في ذلك.

    

ثبات ما يحصل للإنسان من خلال الفهم

بناء على ذلك يصل الإنسان إلى هذه النتيجة ـ ولا أدّعي صحّتها أيضاً فقد يكون نفس كلامي الآن هو اشتباه أيضاً ـ فالمرحوم العلامة يقول: السالك الذي مشى بهذا القدم على أساس الفهم هو بهذا المقدار يكتب له ويسجّل في سجلّه, وأما لو عبر ألف قدم ومشى على أساس الإحساس والالتذاذات النفسانيّة والمشاهدات الصورية أو على أساس الظاهر والمعايير غير العلمية وغير العملية, حتى وإن كان في حد نفسه له حالات ويرى في نفسه مسائل وحالات.. فجميع ذلك هباءً منثوراً وهو مجرّد ظاهر لا دوام ولا ثبات ولا واقعيّة له, بينما الذي يبقى ويكتب له الثبات هو ما كان على أساس الفهم بحيث يؤدّي إلى استقرار النفس وثباتها. وهو ملاك التقدّم.. لماذا لم يبق بعد النبي إلا ثلاث؟! لأنّ الجميع كانوا يتبعونه على أساس الأحاسيس, اتّبعوه لأنّه شقّ القمر وأشهد الحجر بصدق رسالته... لذلك ارتدّ الجميع بعد النبي وراحوا وذهبوا وأعرضوا, ولم يرجع عمّار إلا بعد الظهر.. وبعضهم رجع بعد شهر وبعضهم بعد شهرين.. فالتأخر إلى شهر ما هو وماذا يعني؟ هذا الشهر هو معيار مدى بعده عن معايير الفهم, وهو لأجل تعويض تلك الخطوات التي لم تكن محكمة لديه, وكذلك من تأخّر أكثر أو أقل.. وأما الذين جاؤوا ولبّوا مسرعين فلأنّهم اشتدّ عودهم على الفهم والمباني مع أمير المؤمنين عليه السلام.
هذا هو ممشى العلامة رحمه الله, وعلى هذا الأساس كان يلقي دائماً هذا المبدأ وهذه القاعدة.
لاحظوا ذلك في كتاباته, هل قال يوماً: تعالوا إليّ!! أنا محمّد الحسين!!
متى قال: أنا وليّ الله.. وأنا أستاذ.. وأنا لديّ هذه الخصوصيّات!! تعالوا تعالوا إلي!!
لا.. لم نشاهد ذلك أصلا, بل كان يتكلّم مع الأفراد على أساس الواقعيّة والحقّانية, فمطالبه ومبانيه التي كان يطرحها هي عين الواقع وعين الواقعيّة الخارجيّة التي تجري على لسانه.. والآن ذهب ورحل عن هذه الدنيا, ورأينا ما الذي حدث بعد ارتحاله!! لماذا؟ لأنّه لم تكن القدم ثابتة في تلك المطالب التي كان ينبغي أن تكون, فبدلاً من التمسّك بها والالتزام بها عملياً, كنّا نذهب ونعرّج على مسائل ومباني أخرى ومغايرة لتلك, وكنّا نشغل أنفسنا في أمور أخرى, هذه الانشغالات كانت تمنعنا من بلوغ الواقع.

    

التأكيد على زيارة مقامات الأئمة لمعرفة حقيقة الإمامة

في الجلسة السابقة قلت: هل الهدف من زيارة كربلاء هو مجرّد رؤية قبّة الإمام الحسين؟! فهي عين هذه الصورة المعلّقة هنا, فلماذا هذا التأكيد على الزيارة في الروايات: فقط وفقط لكي نقول هذه العبارات: أشهد أنّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة لم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها.. إنّ سبب هذا التأكيد هو أن تتبدّل النفس هناك, فاذهب وانظر عن قرب ما الذي حدث وما الذي جرى على أهل البيت وكيف كانت حالاتهم, اذهب وشاهد ما الذي حدث في تلك الواقعة, اذهب وانظر إلى مشهد الإمام الرضا وتحسّس واشعر بذلك, وابلغ حقيقة الولاية ومعنى الإمامة وافهم.. لماذا يجب الذهاب إلى الإمام الرضا دون أيّ مكان آخر؟! لماذا يجب الذهاب إلى الإمام الحسين دون غيره.. لماذا يجب الذهاب إلى زيارة الأولياء؟ فزيارتك مقبولة بالمقدار الذي تفهم فيه حقيقة هذه الأمور, فالحسنة هي التجرّد, والنّور والثواب هما التجرّد وقطع العلائق عن المحوريّة الذاتيّة لنفس الإنسان, وبالتالي السفر إلى ساحة التقرّب..
فسافر في وجودك وكيانك إلى زمان الإمام الحسين وذبْ في الإمام الحسين.. ضع ذاتك واختيارك جانباً وسلّمه نفسك.. قل: أنا ناقص, أنا محتاج... فالذين تجرّدوا عن أنانيّتهم أعطاهم الإمام الحسين وأفاض ومنّ عليهم بحسب ظرفيّتهم.. هذا هو فعل الأولياء.
بينما ما الذي فعله الآخرون؟ ماذا فعلوا؟ كانوا يقولون فلننظر هل سيغلب الإمام الحسين أم لا؟! لننظر ونشاهد من الذي سيربح!! فنحن ألف رجل ولعلّنا نربح.. ففي تلك الأيّام لم يكن هناك وسائل إعلام وصحفيّون ومصوّرون يلاحقونهم بعدساتهم.. بينما الآن هناك تصوير وإعلام والناس تأتي لتتصوّر ولتبلغ بذلك أعلى التعيينات والمناصب, ويصبح الإنسان حاكماً ومحافظاً وقائم مقام.. ويصبح همّه وغمّه أنا أنا أنا.. ولم يقل أحد: ذاك! ذاك! فقط عدة أفراد قالوا: يا بن رسول الله نحن معك.. نحن معك بأيّ نحو تريده أنت وليس أنا, فإن ترد القتال فنحن معك.. وإن ترد الصلح فنحن معك.. نحن معك... نعم هكذا وضعوا إرادتهم جانباً, ووضعوا اختيارهم جانباً ـ أي اختيار النفس ـ وإلا فاختيارهم هو أعلى اختيار..
هذا ما كنّا نشاهده من سلوك الوالد وممشاه وحركة طريقه إلى الله, فقد كان على أساس الفهم والمباني والعمل بها, وليس على أساس: تعال وشارك في هذه الجلسات والباقي على الله!! فالقرب الظاهري لا ينفع.. كذلك العداوة وطرد الآخرين بسبب أنه يسلّم على فلان.. كل ذلك لا ينفع, وهو شيطان, وينبغي أن يحدّد وجهة سيره, فإمّا أن يسلك الطريق الصحيح أو لا, فعدم السلام والطرد ماذا يعني؟؟ كلّ ذلك شيطان في شيطان في شيطان في شيطان.. فالفرد الذي يفعل ذلك هو شيطان من رأسه إلى أخمص أقدامه.. لأنّه لم يريد أن يتحقّق بمباني السلوك!
فهل هذا سلوك؟!
ولكن حينما ننظر إلى المرحوم العلامة زمان حياته لم نكن نشاهد في ممشاه وسلوكه شيئاً من ذلك, فأنا ابنه, وأنا مطّلع على المسائل أكثر من الآخرين, لم يكن هناك أثر لذلك, ولم يكن ليدّعي العظمة والعصمة أبداً أبداً, بل كان على العكس من ذلك, يبدي كامل تعبّده والتزامه بالمنطق والعقل, ففي بعض المسائل كان يقول: عجيب عجيب! أنا اشتبهت, فكنت أخال أنّ الأمر هو كذلك, لقد ظننت ذلك؟ اذهب وأصلح الأمر.. لم يكن ليقول: أنا وليّ الله, ولم يكن يقول: هل شككت بي؟! هل تشكّ بي؟! لا أبداً, كلّ ذلك خبط وخلط وخطأ واشتباه.
فكلّ إنسان يتحرّك على أساس الفهم فهو في الطريق الآمن والصحيح, وهو معنا, ومن لا يريد فهو بخير, ومع السلامة..
اللهم صل على محمد وآل محمد

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی