معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 101 إلى 200 > شرح حديث عنوان البصري - الجلسة رقم 177

_______________________________________________________________

هو العليم

محاضرة عنوان البصري

رقم 177

ليلة الثاني و العشرين من شهر ربيع الأوّل من عام1431 هـ . ق

سماحة آية الله الحاج

السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف                                            

أعوذُ بالله منَ الشيطانِ الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنةُ الله على أَعدائِهم أجمَعين

    

أثر الغذاء على سلوك الإنسان ومدى ترابطه مع سائر الأحكام الإسلامية.

تعقيباً على ما سبق من مطالب؛ حيث كان كلامنا حول كيفيّة التغذية وبيان تفاصيلها, وكيفيّة تطبيقها عمليّاً في حياة الإنسان بما يلائم ظروفه وأحواله, سواء من حيث تأثيرها الإيجابيّ أم السلبي, فقد استعرضنا ـ كما يذكر الإخوة ـ في الأيام والسنوات الماضية بعض المطالب على سبيل الاختصار والإجمال, و قد وعدنا بالوفاء ببيانها وتفصيلها...
فقد ذكّر الإمام عليه السلام عنواناً البصريّ بمسائل متعدّدة ذات صلة بموضوع التغذية وتناول الطعام, مما يعني أنّ الأئمّة عليهم السلام لا يقتصرون في بياناتهم على مجرّد الأحكام الشرعيّة والصلاة والصيام فحسب, بل إنّهم عليهم السلام يهدفون ـ كما تهدف مدرسة الإسلام ككلّ ـ إلى بيان كافّة ما يحتاجه الإنسان في حياته, وكلّ ما هو على تماس به وجميع ما يحيط به في مسيره, وما تمسّ حاجته إليه، ويدعونه إلى أن يراعي كلّ ذلك ويتصرّف إزاءه تصرّفاً منطقيّاً؛ فمثلاً لو فكّرنا في كيفيّة صناعة السيّارة, فسنجدها قد تركبّت من أجزاء متعدّدة وتوفّرت فيها خصائص معيّنة, بدءاً من حديدها الخارجيّ, ثمّ استحكامها وأمانها, ومسألة توفيرها في استهلاك البنزين والمحروقات, وكذلك محرّكها وسائر العناصر الأخرى التي تؤثّر في كيفيّة أدائها, نجدها قد تركّبت وتألّفت من جميع ذلك؛ والمهندس الذي يصمّمها إنّما يراعي كلّ هذا أثناء تصميمه لها وصناعتها؛ فيقوم بإيجاد التناسب بين كلّ ما أشرنا إليه، فلو كان الإطار الأيمن مثلا أكبر من الأيسر, كأن يجعله إطار "تراكتور" مثلاً ...!!! [ضحك من السيد] فكيف ستمشي السيارة حينئذ؟!! كذلك "قطع السيلاندر" و "الباستونات" لا بدّ أن تكون متناسبة مع كمّية المحروقات ونوعيّتها.. ولا بدّ وأن تكون محكمة قويّة لتقوى على تحمّل هذه الحركة فلا تصاب بأعطال, فلو كانت من الحديد العاديّ فسوف يفسد المحرّك وهكذا..
كذلك الأمر بالنسبة للأحكام الإسلاميّة, يجب أن تكون من حيث ارتباطها بالإنسان وسيره المعنويّ في الدنيا متناسقة متناسبة, ومع عدم التناسب فسوف يطغى بعضها على الآخر, وهذا الطغيان سيؤدّي إلى توقّف الإنسان, فلا يعود يقوى على التحرّك, تماماً كما لو دخل شخص إلى الصيدليّة وبدأ يتناول من الرفوف بادئاً بها من الأول وهكذا.. فلا شكّ أنّه سيموت على الفور, لذلك لا بدّ وأن يكون كلّ شيء متناسباً.. لذا نرى في الآيات القرآنيّة أنّ الحيثيّة التوحيديّة هي الغالبة على جميع الآيات والأحكام, والحاكمة على سائر جوانب حياة الإنسان وتفاصيلها, فحقيقة التوحيد هي الغالبة والحاكمة على جميع الجهات الأخرى, كلّ ذلك مقدّمة لكي تكون حركة الإنسان متوجّهة نحو الله, ولكي يتمكّن الإنسان من بلوغ مقام المعرفة, وكي لا يبتلى في مسيره بالتوقّف، ولا يقع في أيّ تناقض.

    

تغييب النظرة التوحيدية عن الدراسات الفقهية المتأخرة والاقتصار على الظاهر فقط

والحال أنّنا في هذه الأيام نلاحظ عدم الاكتراث وعدم الاهتمام بهذه المسألة الأساسيّة, فما يطرح في هذه الأيّام هو مجرّد قيام الإنسان ببعض الوظائف بحيث يترتّب عليها الثواب.. ولا تكليف أزيد من ذلك.. ولا يجب عليه أن يحقّق أو يبحث أو يتفحّص ويتعمّق بأكثر من ذلك.

    

تأكيد العظماء على الاهتمام بالمسائل المعنوية في الأحكام الشرعية

فالحركة الفقهيّة التي نشاهدها في زماننا هذا, والتي تتولّد منها المباني الأصوليّة في كتبنا المدوّنة الموجودة بين أيدينا خصوصاً في كتب المتأخّرين, وذلك بصرف النظر عن بعضهم أمثال الشهيد الأوّل والشهيد الثاني والعلامة الحليّ وابن طاووس والشيخ المفيد.. فقد كان الشيخ المفيد من أعاظم الفقهاء.. وكذلك العرفاء العظام من الفقهاء, أمثال المرحوم ملاحسين قلي الهمداني, والمرحوم السيد علي القزويني وأمثالهم.. وكذلك المتأخرون منهم.. فإنّ لدى هؤلاء ـ من الناحية الفنّية والفقهيّة والأصوليّة ـ رؤية خاصّة حول كيفيّة الاجتهاد واستنباط الأحكام, فجلّ اهتمامهم إنّما كان منصبّاً على ذاك الجانب التوحيدي.. فهو الملاك عندهم.. ملاك الأحكام عندهم هو مدى الصلاح أو الفساد المترتّب على حركة المكلّف وسيره وقربه وبعدِه.. فالملاك هو مستوى النفع والفائدة من هذه الناحية.. فهل هذا العمل يوجب القرب أم أنّه يورث البعد؟! هذا هو الملاك, وهو أدقّ الملاكات وأكثرها حساسيّة وأهمّية, وعلى العلماء الفضلاء أن يولوا ذلك اهتمامهم, ولا يخال الإنسان أن مبانينا هي مباني ظاهريّة فحسب, وأنها تقوم دون رعاية لهذه المسائل الدقيقة, فمع ضرورة مراعاة ظاهر الشريعة في الكثير من الأحيان, وعدم جواز تخطّيها أبداً, إلا أنّه في موارد أخرى ينبغي الالتفات إلى أنّ الشارع قد عيّن عدّة طرق مختلفة, وعلى الفقيه أن يعيّن الهدف وينتخب الطريق الذي انتخبه الشارع.. ولا يدع المكلّف يسير مثل الآلة أو "الروبوت"؟
و نحن في شرح دعاء أبي حمزة الثمالي كنّا قد تعرّضنا لكيفيّة الصلاة التي كان يأمر بإقامتها العظماء, وقد بيّنا مطالب عديدة للرفقاء, وكذلك بينّا كيفيّة صلاة الآخرين أيضاً, وكيف أنّهم يهتمّون ببعض الأمور الأخرى.. فقد بيّنا جميع ذلك.. فنحن نتخيّل أنّه حينما نتوضّأ يكون كلّ همّنا هو أن لا نؤخّر الصلاة, فـ "جناب التلفزيون" مفتوح مع ما يحتوي من آلاف المصائب.. مضافاً إلى صوته المرتفع.. فنشرع بالصلاة على هذا الحال.. ثمّ أين نضع سجادة الصلاة؟؟ نضعها في زاوية بحيث نتمكّن من مشاهدة التلفزيون أثناء الصلاة.. كي لا يفوتنا شيء بالطبع.. فلا نفهم معنى {إيّاك نعبد}.. ولا نلتفت إلى أيٍّ من معاني الصلاة ولا نفقه شيئاً.. نعم هذه الصلاة صحيحة ظاهرياً ولا غبار عليها من ناحية إسقاط الواجب..
أذكر في يوم من الأيّام, ذهب الحقير إلى إحدى الأماكن حيث كنت مدعوّا لتناول طعام الغداء في منزل أحد الأرحام, وبعد أن انتهينا من تناول الطعام جمع صاحب المنزل السفرة وقال: هل تحبّ سماع نشرة الأخبار؟ فقلت: لا ليس ضرورياً.... ولكنّه كان مصراً وراغباً.. فقد كان من الأشخاص المتابعين للأخبار ولما يجري في العالم...!!! [ضحك من السيد].. فرأيته قد وضع السجادة مقابل التلفزيون!! وقال لابنه: ارفع الصوت كي أتمكّن من الإصغاء أثناء الصلاة في آن واحد ..!![تبسّم من السيد].. وهو إنسان مؤمن ومتعبّد بالأمور التكليفيّة, والسبب في الخلل هو عدم فهمه العميق, فلم يعد يفكّر إلا بالإتيان بالتكليف. فنحن لا نهتمّ بالارتباط بالله, ولا نضع ذلك في دائرته وحدوده, فنرجّح مسائل الحياة اليوميّة البسيطة على التكليف الإلهيّ الحقيقيّ والواقعي.

    

الفرق بين النظرة المادية والنظرة الغيبية التوحيدية في الأحكام الشرعية

فالمسألة هي أنّ اهتمام مدرسة العظماء في ما يرتبط بالأحكام الشرعيّة إنّما ينصبّ على عالم المعنى وعالم الغيب.. عالم النور والبهاء والبهجة.. هذه هي حقيقة المسألة, وضمن هذا القالب تأخذ الأحكام شكلها الحقيقيّ وتتبلور..
فكم كان يقول المرحوم القاضي: لا تصلّوا في أيّ مكان من أماكن المنزل بشكل اعتباطي, بل عليكم أن تنتخبوا المكان الأفضل, بحيث تشعرون أنّه هو المكان الأفضل بالنسبة لسائر غرف وأماكن البيت! فالإنسان يشعر بذلك, كما لو أحسّ بعدم التوجّه فيه, فليتركه عندئذ وينتقل إلى مكان آخر.. وبشكل عام ينبغي ترك الأماكن الواسعة التي يكثر فيها التردّد.. كما وينبغي أن لا يكون هناك شيء ملفت للنظر.. فالمرحوم القاضي كان فقيهاً وعالماً ومجتهداً, وقد قرأ إلى ما شاء الله من الكتب.. ولكن لماذا لا نلحظ هذه المسائل عند الآخرين؟؟ السبب هو أنّ نظر السيد علي القاضي قائم على علم الغيب, بينما نحن نظرنا ماديّ و"روبوتيّ" وآليّ.. على قاعدة "افعل وامضِ ولا تبالِ"!! توضأ وتوجّه إلى القبلة.. فالمهمّ أن تحرز صحة النطق وتقول: {ولا الضالين}.. و {إياك نعبد وإياك نستعين}... والباقي على الله وإن شاء الله.. الله يصلح كلّ شيء!!

    

نظرة المرحوم العلامة لبعض أحكام الحج وما ينبغي على الإنسان فعله

فنحن لا ننظر إلى الأمور نظرة غيبيّه, وهذا هو المراد من التوجّه إلى المادّة ورعايتها والتعامل معها بشكل مادّي.. كان المرحوم العلامة يقول: حينما تريد أن تقوم بأمور عديدة كالكلام والتحرّك.. أو الطواف حول الكعبة مثلا.. أو أي عمل آخر, فعليك أن تنتبه أثناء الطواف إلى أنّ رسول الله و أمير المؤمنين كان يضعان أقدامهما على نفس هذا المكان.. يعني كانت أقدامهما الشريفة تدوس هذه الأرض التي تطؤها قدمك الآن.. فهي تدوس محلّ قدم رسول الله!! وحينئذ لا يمكن للإنسان أن يحسّ بشيء آخر.. فالذي يبقى "هو" فقط, ولا يبقى إلا ذكر "الحقّ" وحده.. فيكون ذكرك هو ذكر التوحيد, فلا تنظرْ بعد ذلك إلى الأعلى ولا إلى الأسفل وإلى الأحجار المفروشة على الأرض.. بل عليك أن تغلق عينك.. ولا أعني العين الظاهريّة؛ فلا يختلف الأمر بالنسبة إلى هذه الأمور.. بل المهم أن تتوجّه عين قلبك الباطنيّة نحو ذاك الاتّجاه..
فلو حرّكك شخصٌ أثناء الطواف وأنت تمشي.. فليحرّككْ.. ماذا عليك!! بعضهم يقولون بأنّ عليك أن تعيد.. عزيزي! حتّى لو حرّكك غيرك فلا تجب الإعادة؛ فأنت قد مشيت هذه المسافة واجتزتها ببدنك.. كذلك لو وقع لباسك مثلاً أو سقط رداؤك عن كتفك.. يقولون عليك أن تتوقّف.. ويجب أن يكون كتفك موازياً للكعبة.. وعليك أن تتأكّد من كونه موازياً أم غير مواز...!! [يتبسم السيد].. فهناك عليك أن تدقّق كثيراً خاصّة بين الحِجر والمقام ...!!! [يضحك السيد] هل رأيتم الفرق بين أصالة المادّة وأصالة عالم الغيب؟!
فالنظرة التوحيديّة إنّما تبتني على هذه الرؤية الباطنيّة.. فيأتي ويدرس المدارك ويتأمّل فيها على أساس هذه النظرة, ويستخرج الحكم بناء على هذا الأساس.. بعد ذلك تلاحظ في نفسك أنّ الأثر يبدأ بالظهور.. وتبدأ النفس بالتغيّر.. فشعورك بهذا التغيّر وهذه النورانيّة إنّما هي نتيجة لتلك النظرة التوحيديّة.
وأمّا لو كان نظرك مادياً فلو طفت بدل الأشواط السبعة سبعين شوطاً... فلن تجنيَ النفس من ذلك فائدة.. وهذه هي النظرة الماديّة.
بينما النظرة الإلهيّة هي التي تربط بين جميع الأحكام التي شرّعها الله وتجعلها قالباً واحداً, وهو أمر مهمّ جداً, فلم يشرّعها الله جزافاً.. بل أنزلها على أساس ترابط خاصّ فيما بينها حين تنزّلت من ذلك المبدأ, فهي مرتكزة على المسانخة والمجانسة بين الظاهر والباطن, ووفق هذه النظرة سيبقى التأثير الباطنيّ على النفس محفوظاً في مكانه. بينما نحن نقوم عادة بتوهين ومساذجة هذه الأحكام وهذه التكاليف!! فنعمد إلى إنزالها وإفراغها من مضمونها.. فنهبط بها.. ثمّ نهبط بها.. إلى الحدّ الذي نجعلها وفق ذلك النحو المتعارف والعادي البسيط, بحيث لا يعود المرء يجدُ فرقاً بين فعلنا وفعلِ "الإنسان الآلي" (روبوت), وبعدها نحكم عليها بالصحّة استناداً إلى ملاك صحّة صدورها من الإنسان الآلي (روبوت)!! فنقول له تمّ الأمر وهو صحيح؟!
كنت قد نقلت مطلباً عن المرحوم العلامة فيما يتعلّق برؤيته ونظرته للحجّ ولعلّكم تذكرون ذلك, حيث يؤكّد على كيفيّة توجّه الحاجّ أثناء سفره من بلاده نحو مكّة قاصداً القيام بأعمال الحجّ..ـ لا أدري هل نقلت ذلك أم لا؟ ـ على العموم هو ضروريّ وينفع كمقدّمة لما نحن فيه من بحثنا, فكلامنا كان حول كيفيّة التغذية وكيفيّة تأثيرها على السير والسلوك وما هو المطلوب منها, فيجب أن تتضّح هذه المسائل بشكل جليّ.. والأساس في جميع ذلك هو أنّ ما يقرّب إلى الله ليس أمراً عبثيّاً, بل يجب أن يكون متناسباً مع حياة الإنسان بشكل كامل, وإلا فسوف يبقى الإنسان إمّا في الاضطراب أو الركود أو سيبتلى بالخسران والهروب والابتعاد..
وقد طُرحَ حول هذا الموضوع العديد من المسائل, مسائل كثيرة جداً جداً.. وأرى الآن أنّ المطالب تتدافع على ذهني.. وأتصوّر أنّي أوضحتها للأحبّة..
ففي سفري الأوّل للحج حينما كان عمري سبع عشرة سنة, حيث وصلنا في الليلة الأولى إلى المدينة مع الوالد وأخي الأكبر.. وكان هناك أشخاص معروفون من مسؤولي الهيئات والأفراد المبرزين.. وكنت أتكلّم عن مسألة من مسائلهم التي يتكلّمون عنها عادة.. وحينما رجع المرحوم الوالد وجلس، قال أحدهم له: كنّا نتكلّم حول مسألة... وأبان له مجريات الحديث، ثمّ سأله عن رأيه, فسكت وأبرز الرضا، وذلك باعتبار أنّ بحث الإخوة كان في سياق أنّ الجميع متفقّون على أنّ هذا السفر سفر متعب وشاق.. حيث ابتعدنا عن ذوينا.. وتركنا كسبنا وأعمالنا.. وعلى الأقل لم نهتمّ بها ولم نتابعها أثناء سفرنا إلا بشكل يسير.. فقد انقطعنا عن كلّ شيء في العالم.. وصرفنا مالاً كثيراً, والحال أنّ المال لا يأتي ببساطة وسهولة, فصرفنا عمرنا وطاقاتنا..
والآن نريد أن نرى أيّ رتبة حصلنا عليها من هذه المسائل؛ من البعد عن الوطن وطول السفر والمدّة الطويلة من السفر والمصاريف وسائر الأمور... فطرح هذا السؤال أنّه: ما هو الحدّ الأعلى للاستفادة من جميع ذلك؟ والحال أنّ نفس هذا السؤال كان قد طرح من قبل, وذلك حينما كنت في سفر للعمرة قبل سفر الحجّ هذا.. حيث كنت مع عدّة من العلماء والوجوه والأعيان, وكان قد طرح هذا السؤال أمامهم, وكنت معهم بهذا اللباس الأبيض العربي, فطرح السؤال وبعد ذلك صار كلّ واحد منهم يقدّم الآخر.. وحيث أنّ بعضهم كان بارزاً من الناحية العلمية فبدأ يقول: عليكم أن تكثروا من العمرة.. كي لا تكونوا قد صرفتم أموالكم سدى!! وكي لا تشعروا بالندم ولا تضيعوا الفرصة.. فحينئذٍ قلت في نفسي: يا إلهي!! وا ويلاه.. ليت الوالد العلامة حاضر ليسمع!! ويستفيد من هذه الجلسة؟! فكم هو الفارق بين ما نسمعه الآن وبين ما تتكرّمون به من المطالب.. صحيح؟ حيث أنّ الوالد العلامة في سفر الحجّ هذا, كان قد بيّن بعض المسائل, فكان يقول: لا يجوز تكرار العمرة.. بينما ذاك يقول لو استطعتم أن تكثروا من العمرة كلّ يوم كي تكونوا استفدتم الحدّ الأعلى من المال الذي بذلتموه.. ففي الإكثار من العمرة ثواب عظيم!! كذلك كان يقول لهم: عليكم أن تقتصروا على الصلاة التامّة فقط.. كذلك ومن باب الاحتياط توكّلون من يصلي عنكم ركعتي الطواف بشكل صحيح وبتلفظ سليم فيما لو لم تعرفوا.. وهكذا.. يعني كانت بياناته ضمن هذا الحد فقط.. نعم كان يتعرّض لمسألة التوسّل بصاحب الزمان وهو أمر جيّد وهكذا كان كلامه بهذا الشكل..
وحينما سمع العلامة نقل هذه المسائل قال: أسألكم وأجيبوا أنتم، حيث كان العديد منهم طاعناً في السن ستين.. سبعين سنة.. فأنا الوحيد بينهم الذي كان في سنّ السادسة عشر أو السابعة عشر من العمر [يضحك السيد]. فقال العلامة: لا شكّ أنّ كلاً منكم كان قد سافر العديد من الأسفار في حياته.. إلى هنا وهناك, فهل تلك الأسفار التي تذهبون فيها إلى أمريكا وأوروبا عشرة أيّام أو عشرين يوماً.. وتصلون إلى أعمالكم وتقومون بها, هل تفكّرون أنّكم تبتعدون عن العيال؟! وهل يخطر على بالكم أنّكم تصرفون المال وتتعبون وتنفقون وووو؟! أم أنّه لا يخطر على بالكم ذلك؟! فلماذا حينما نأتي إلى مكّة نبدأ نحسب هذه المسائل؟! فنحمل آلة حاسبة!! حيث لم يكن كمبيوتر آنذاك!! لنحسب كم صرفنا وكم أنفقنا وكم وكم.. فهل سافرتم بعمركم مثل هكذا سفر؟! هل مرّ عليكم في طوال عمركم أنّكم صرفتم أموالاً خطيرة وهي أكثر بكثير ممّا تصرفونه في سفر الحج؟ فلماذا تفكّرون بهذا الأسلوب هنا وتلتفتون إلى هذه المسائل ولا يخطر على بالكم شيء من ذلك في تلك الأسفار.. كذلك نسافر ونترك الأطفال ونبتعد عن العائلة.. وبدأ يستعرض هذه النكات واحدة تلو الأخرى..
فلو وزنّا وقايسنا بين سفر مكة وغيرها, فأيّهما أهمّ وأنفع وأفيَد؟!! فأيّ منّة منّها الله علينا في ذلك؟! فقال: نحن في هذا السفر لم نصرف شيئاً من جيبنا.. ونحن في هذا السفر لم نبتعد ولم نتغرّب.. لم نهاجر ولم نبتعد عن الوطن.. ولم يتّفق لنا أيّ شيء أصلاً.. وذلك فيما لو نظرنا إلى النتيجة التي نتوقّعها من الله.. فما الذي صرفناه مقابل هذا العطاء العظيم.. فلو أراد الله أن يحاسبنا على هذا المال الذي فيما لو أردنا وضعه جانباً وتوفيره وادّخاره.. فلو أراد الله أن يحاسبنا على ذلك.. فيقول أين صرفتَ ذاك المال؟! أينَ ولماذا وكيف أخذتَ من ذاك.. فكم أعطيتك ووهبتك هنا أزيد ممّا سعيتَ؟؟ كم مننتُ عليك.. حينئذ نعرف أنّ الله هو المعطي والمفضل، وأن المال ليس من جيبنا أبداً.. أو لو أراد أن يحاسبنا على أسفارنا التي نقضيها في الأنس والكيف وووو...

    

ضرورة الشعور بالحاجة والفقر أمام الله تعالى في جميع أعمالنا

حينما تكرّم المرحوم العلامة بهذه المطالب طأطأ الجميع رؤوسهم إلى الأرض.. بعد ذلك قال: أيّها الإخوة.. ما الذي قدّمناه أمام هذه النعمة؟! وما الذي بذلناه؟! وأيّ تعلّق قد قطعناه من قلوبنا وأنفسنا..؟! لا شيء.. فيدنا خالية تماماً.. نعم أتينا بيد خالية، وبدأنا نمدّ اليد طالبين عناية الله ولطفه.. راجين الخير من ذاك الطرف فقط لا غير.. أمّا من جهتنا فجيوبنا خالية.. وليس لدينا إلا الفقر المحض.. أمّا من ذاك الطرف, فهو غنيّ بالذات؛ بحيث أنّ بحر كرمه المتلاطم لا حدّ له.. جئنا بيد خالية.. فالنظرة المادّية للإنسان لها حساب وكتاب مقابل العناية الإلهيّة ولطفه, فمن ينظر بعين التوحيد وبرؤية أهل المعرفة فلا مجال له أن يعرض متاعه في هذا السوق.. أفهل للعبد شيء من نفسه؟ وهل للعبد دفتر حساب في البنك الإلهي؟! ما الذي يملكه العبد كي يعرضه.. صفر وصفر وصفر.. لا شيء..
بناء على هذه النظرة, فلو فكّر الإنسان بذلك سوف يبدأ يحسّ بالفقر ويشعر بالحاجة وحالة الافتقار.. حينئذ تأتيه تلك العناية وتضاف النعمة الإلهيّة إليه.
فالأستاذ في صفّه وحصّة درسه, أثناء عطائه وشرحه للدرس.. ينظر إلى تلامذته من كان طلبه أعلى وشوقه واهتمامه أكثر, فحينما يكون خاضعاً بشكل أكبر؟! سوف يهتمّ به أكثر.. فهو ينظر إلى من كان منهم أشدّ خشوعاً.. وأيّهم يرى نفسه أحوج للأستاذ؟! فهل تتصوّرون أنّ الأستاذ محتاجٌ للتدريس.. لا عزيزي!! لأنّ الدرس هو لإعطاء العلم, وفي حالة التعلم على الإنسان أن يكون متواضعاً, وإلا فلو كنت تقول: أنا عندي.. فلماذا تأتي إذاً؟ وما الذي تريده؟!
هذه هي رؤية أهل التوحيد.. وهي نظرة العبوديّة.. فهي أنْ تنظر إلى جميع المسائل من الناحية الروحيّة والنورانيّة.. فالصلاة التي يريد أن يصلّيها الإنسان, كيف يجب أن يصليها كي تكون مشتملة على هذه الروحية؟ وكذلك الصوم والحج والإنفاق.. فجميع هذه الأمور علينا أن نفكّر بكيفيّة إقامتها كي تكون مشتملة على هذه الروحيّة.. كذلك المسائل السياسيّة والاجتماعيّة يجب أن تكون مشتملة على روحيّة التوحيد..

    

طريقة مواجهة أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام لغاصبي الخلافة

فأمير المؤمنين حينما غصبوا الخلافة منه هل سبّ وفحّش وتزلزل؟! هل جاء وجمع الناس للحرب والمواجهة؟ أم أنّه بقي عاقلاً موحّداً، وقال: إذا لا تريدون أن تعطونا الخلافة نجلس.. نعم.. هكذا واجههم, فلم يعمل ليصبح الشخص الأبرز بين الأفراد وأمام الآخرين, بل كان في بعض الأوقات يشارك في صلاة أبي بكر.. نعم ليس دائماً!! يعني كان يقول له: حكومتكم مباركة عليكم.. فأنا عليّ أن أعمل شيئاً أحفظ الإسلام من خلاله كي لا يندرس ويزول.. ولا عمل لي معكم! ولا دخل لي بكم, أنا عليّ أن أتحمّل مسؤوليّة الإسلام.. بحيث أجري المشيئة الإلهيّة.. وإذا كان الناس لا يريدوني ومعرضون عنّي.. فلا ضير..

    

عدم كون هدف الإمام علي من الحرب مادياً

واقعاً يعجب الإنسان من عمل الإمام أمير المؤمنين.. وكذلك الحال بالنسبة لجميع الأئمّة, حيث كان لديهم كيفيّة خاصّة في مواجهة حكّام الظلم, ولديهم أسلوب خاص؛ وذلك لأنّ نظر الإمام ليس مادّياً شرعياً!! وفكره ليس مادياً شرعياً!! بل هو نوراني شرعي.. هي رؤية عالم الغيب الشرعيّة, رؤية ذاك الجانب من الشريعة.. لذلك ترونه في بعض الأحيان يعمل هكذا، وفي أحيان أخرى يعمل بأسلوب آخر..
فهو يسعى لتأمين تلك الرؤية.. سواء في ذلك أمير المؤمنين والإمام الحسن وسيّد الشهداء والإمام السجاد.. وجميع ما كان يصدر منهم إنّما كان كذلك.. فجميع ذلك يحكي هذه المسألة؛ وهي أنّ الإمام لم يكن هدفه الوصول إلى الحكومة الظاهريّة والتربّع على كرسيّها.. بداهة أنّ الوصول إلى الحكومة الظاهريّة له طريق خاص.. وهو واضح, فلو كان هدفه بلوغ الحكومة الظاهرية لدخل مع أهل صفين من الباب الذي دخل منه معاوية معهم.. ولألزمهم إمّا بالتسليم أو بالهجوم عليهم وما شابه ذلك، بحيث يتغلّب عليهم.. فالخطّة التي يضعها طالب السلطة هي ظاهرية فحسب.. بينما أمير المؤمنين خطته مختلفة، وهذا الذي تحيّر!! ألم يكن هدفه أن يقتل معاوية؟! إذنْ لماذا خرجت من الكوفة.. لا من المدينة؟؟ فكتبت هذه الرسائل للأمراء ورؤساء القبائل.. وصرت تدعوهم للجهاد ومجابهة ومقاومة معاوية؟! ألم يكن كلّ ذلك بصفتك خليفة للمسلمين.. فلماذا لم تكمل.!! بينما نرى أنّه حينما جاؤوا إلى أمير المؤمنين، وقالوا ما هي إلا أمتار وننهي الأمر.. فغيّر رأيه وأمرهم أن يتراجعوا، وقال لهم: ارجعوا.. ارجعوا.. ففي هذا الموقف الحرج والصعب, من لم يكن في قلبه فهم الولاية وحقيقة التشيّع فسوف يتوقّف ويُصدم ويُصعق!! فأنت الذي قلت لنا تعالوا لنخلع معاوية... ما الذي تغيّر؟!!
نعم من لم يكن شيعياً حقيقياً يدخل الشك في قلبه ويُصدم.. كالعطشان الذي يقطع الطرق للوصول إلى النبع.. وما إن يصل إليه ويعثر عليه.. يقول هذا ماؤه مشكوك وفيه شبهة فلنرجع!!! إه.. ماذا جرى!!.. فقد قطعنا كل هذه المسافة وتركنا كلّ شيء وتحمّلنا الصعاب والمشقات.. ثمّ الآن تقول: لا.. ارجعوا؟!!
هكذا كان هؤلاء يحكمون على فعل أمير المؤمنين من منظار ظاهري, فيقولون: جئت بنا من المدينة إلى هنا, والآن بعد أن وصلتْ يدنا إلى بلعوم معاوية تقول لنا: ارجعوا؟!
الناس في ذاك الزمان لم يكونوا متوجّهين لهذا الأفق وهذه النظرة التوحيدية.. بل كانوا غارقين في نظرة الفقه الظاهري.. وملاحظة الشريعة الظاهريّة فحسب.. فعلى أساس فهمهم وحساباتهم.. يفهمون أن الحق معهم, بينما الإمام يقول لهم: إنّ الوصول إلى الحكومة مع الخيانة ليس من عملي.. فتلك الحكومة التي يقام فيها الصلاة والصوم والجمعة ووو مع منع الماء هي ليست عملي..
نعم أنا أحضرتكم وأرسلت رسائلي إليكم ودعوت القبائل.. فالمسافة من مكة إلى صفين أكثر من مائتي فرسخ.. وقد أتعبتكم.. فهل تعرفون في هذا السفر ما هو فكري وأين هدفي؟!
فأين تفكّرون أنتم وأين أفكّر أنا.. ولكن هم لم يريدوا أن يرتووا من هذا النبع المعين.. ولو كانوا يريدون أمير المؤمنين لكانت المسألة قد اتضحت مباشرة بعد منع الماء، ولكانوا فهموا أنّ المسألة قد اتّضحت.. كانوا ظاهريين, نعم بعضهم كانوا قد فهموا.. فرموز القوم كانوا يفهمون.. والإمام يقول لهم: نعم نعم هذا هو الصحيح.. يفهمون وقلوبهم باردة مطمئنّة, يقولون للإمام: أنت الذي علمتنا التوحيد والسير على أساس التوحيد.. واقعا كم هو عجيب ورائع؟

    

معرفة عمرو بن العاص لأمير المؤمنين كانت معرفة جلية

فأمير المؤمنين يريد أن يعلّمنا, يقول لنا: ليكن فقهك توحيدياً, وشريعتك توحيديّة.. فضرب عمرو بن العاص بالسيف لهو أمر واجب.. ولا بدّ من ضرب هذا الرأس لأنّه عدو لله.. وعدو للإسلام وعدوّ للولاية.. ويجب أن تضربه بالسيف, ولكن ما إن أراد أمير المؤمنين أن يفعل ذلك جاء عمرو بن العاص ليعلن استغاثته منه.. يعني عمرو بن العاص يقول: أنا أعرف حياءك وكرامتك ورفعتك وعزة نفسك يا أمير المؤمنين.. وأنت لديك تلك الرؤية التوحيديّة.. فعمرو بن العاص يعرف أنّ أمير المؤمنين لديه رؤية توحيديّة ,والله وبالله وتالله يعرف كلّ ذلك.. فممكن أن يكون قد عرف عليّاً أكثر من الكثير منّا.. فعمرو بن العاص يعرف أنّ سيف عليّ ليس للحقد والرياسة والغلّ والمقام والدنيا.. يعرف ويعرف ويعرف الكثير.. لذلك مع علمه ومعرفته بكلّ ذلك قد أدرك أنّ المسألة سهلة مع أمير المؤمنين [يضحك], فعمرو بن العاص إنّما يخاف فيما لو كان الخصم هو غير عليّ!! لذلك حربته ضد أمير المؤمنين هي معرفته به.. فأنا أعرفك أكثر من الجميع.. فأمير المؤمنين وليّ الله.. فما إن يرى ذلك يغض طرفه..
وهو ما يعني أنّ الوصول إلى الخلافة قد تمّ.. فجميع حرب صفين كانت من عمرو بن العاص ولا دخل فيها لمعاوية.. فجميع هذه المتاعب ذهبت سدى.. فكلّ هذه المتاعب والزحف بالعسكر والرسائل وثمانية عشرة شهراً.. طارت كلّها في الهواء.. لا ليس المقصود أنّها بلا فائدة أصلاً.. فهناك شهداء وو.. يعني هي بلا فائدة بحسب الرؤية الظاهريّة.. وأما في الواقع فهي عين القرب والوصل والحقيقية.. لماذا؟ لأنّ الشريعة هي توحيديّة, وفقه عليّ هو فقه توحيديّ.. وهو يستنبط مكارم الأخلاق على هذا الأساس ويحقّقها في هذا العالم, ووجوبه وإقدامه وأخلاقه وتوقّفه وكفّ نفسه ناشئ من هذه الحقيقة..
وهذه المسألة هي أساس الأحكام, وجميع الأحكام تتشكّل بهذا الشكل, سواء الأكل أم غيره..
أتصوّر أنه لم يبق وقت.. نعم زاد الوقت عن الحدّ ومضى.
إنشاء الله نكون على مباني ولاية أمير المؤمنين عليه السلام, يعني نثبت على لوازم الولاية, تلك الولاية الحقّ, تماماً كما يجب أن تنجز وتتحقّق في العالم.. وأن نعمل بها و نستفيد منها إن شاء الله..

 

 

 

 

 

اللهم صل على محمد وآل محمد

 

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی