معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات العلامة الطهراني > سلسلة محاضرات مباني السير و السلوك > المحاضرة الخامسة لمباني السير و السلوك

_______________________________________________________________

 

مباني السير والسلوك إلى الله

الجلسة الخامسة

سنة 1407 هجريّة قمريّة

آية الله العلامة

السيد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ

_______________________________________________________________

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين..

هناك عدّة أشياء, يعتبرها العلماء من الأمور الضروريّة لسالكي طريق الله: أحدها الصمت. والصمت يعني السكوت, ففي الرواية المعراجيّة يا أحمد! يا أحمد! في المجلّد السابع عشر من البحار, التي ينقلها المرحوم العلامة المجلسيّ عن "إرشاد الديلميّ", واللهُ وحده العالم بما تضمّنته هذه الرواية من أسرار عن الصمت, حيث تقول الرواية : "يا أحمد! [يا أحمد!] عليك بالصمت فانّ أعمر القلوب قلوب الصالحين والصامتين، وإن أخرب القلوب قلوب المتكلّمين بما لا يعنيهم. يا أحمد إنّ العبادة عشرة أجزاء تسعة منها طلب الحلال، فإذا طيّبت مطعمك ومشربك فأنت في حفظي وكنفي، قال: يا ربّ ما أوّل العبادة؟ قال: أوّل العبادة الصمت والصوم."[1] كما وهناك رواية عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول فيها:
"لوْلا تمَريجٌ في قُلوبِكُمْ وتَكثيرٌ في كَلامِكُمْ لَرَأَيْتُمْ ما أَرَى ولَسَمِعْتُمْ ما أَسمع"[2]
أيْ لولا هذا الاضطراب والتشويش والتغيّر والتقلّب, وعدم الاستقرار في قلوبكم, ولولا كثرة الحديث والتكلّم, لرأيتمْ ما أراه ولسمعتم ما أسمعه.
كذلك في حديث نبويّ آخر, عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:
"لولا أنّ الشياطينَ يحومونَ حَولَ قُلوبِ بني آدمَ لرأَوا ملكوتَ السماواتِ والأرض"[3]

    

1ـ الكلام هو المظهر للنّفس و الکاشف عن حقيقة الإنسان.

فما هو الربط القائم بينَ كثرةِ التحدّث والتكلّم وبين القلب, فهذا الكلام والحديث الذي يمتلكه الإنسان, إنّما هو أحدُ الآثار الوجوديّة للنفس والنابعة من إرادته, فالنفس ترى شيئاً, فيحصلُ لديها تصوّر معيّن, فيتولّدُ لديها طلبٌ وإرادة, فتضعُ النفسُ نصبَ عينيها صورةً معيّنة أو معنى خاصاً, وحينئذٍ تلقي ذاك المعنى وتبرزه في الخارج للطرف المقابل حسبما تريدُه, ولا سبيل لإلقاء هذا المعنى إلا بواسطة اللسان, وعليه فهذا الحديثُ غيرُ منفصلٍ عن حديثِ القلب, فهو أحدُ الآثار الحاكية عن الضمير وعن النيّة, وعليه فالكلام هو المُظهِرُ للنفس والكاشف عن حقيقة الإنسان. الكلام يكشفُ حقيقةَ صاحب النفس, والتحدّثُ يدلُّ على الشقيّ والسعيد, فأفكار الإنسان ونيّاته وعقائده وإرادته, كلّ ذلك من آثار النفس, وهذا الكلامُ يبرزها ويحكي عنها, إذن هو, وجودٌ متنزّلٌ لتلك المعاني الكامنة في النفس, يعني حينما تريد النفس أنْ تُنزلَ وتُبرزَ إرادتها وتبدي مرادها ورغبتها, فإنّها تبرزها وتُظهرها من خلال هذا الكلام, فكلام كلّ شخصٍ إنّما يمثّله وينوب عنه, وهو نائبٌ عن شخصيّته وحركته, ذلك لأنّ حديثه يظهر نفسه, وهذا هو الرابط بين التحدّث والقلب.
وعليه لماذا لا يتكلّم الإنسان ولا يتحدّث؟! نعم..؟! نعم لو كانَ قلبه صافياً نقيّاً مُطهّراً, قد سَلَكَ ووصَلَ.. كالصديقين والمقرّبين.. فكلامه حينئذٍ عينُ الحقّ, سواءٌ قلّ أم كَثُر, بل حتّى لو كان من الليل إلى الصباح, فلا يفرق الأمر حينئذ, تماماً كالخُطبِ التي كان يلقيها أمير المؤمنين عليه السلام, وسائر كلامه, كلّه حقّ, وذلك لأنّها لم تكن أحاديثاً تنبعُ من النفس, وإنّما هي لله, لذلك فإنّ هذا الحديث هو عين الحق, سواء قلّ أم كثر.

    

2ـ سکوت اللّسان يفضي لسکون القلب

وأمّا ذاك الذي لم يعبرْ بعد, فإنّ عليه أن يصحّحَ كلامه وحديثه, يجب عليه أن يراقب ويوازن. وحينئذٍ, كي يتمكّن من تعديل كلامه ومراقبته, عليه أن يفحصَ ويدقّقَ في قلبه, لأنّ هناك ارتباطاً بين القلب والكلام, لذلك على الإنسان أن يختار السكوت كي لا يتذبذب قلبه, وليبقى هادئاً ساكناً, حينما يريد أن يحضر الإنسان تلك المعاني من الذهن, فلا يدعها تنزلق إلى لسانه مباشرة, وإنّما يدوس على المكبح "الفريم" ويوقفها مباشرة, ولا يفسح لها المجال أن تأتي كيفما كانت حتّى وإن كانت فاسدة, ومن باب المثال: حينما يغضب الإنسان, ويريد أن يسبّ شخصاً آخرا, فلو لم يوقف نفسه فسوف يصدر منه السبّ, ولكن لو كانَ ينوي ويضمر سبّه ثمّ أخذَ بزمام نفسه وأوقفها عن إظهار ذلك خارجاً, وعضّ على الجرح ومنع لسانه من التكلّم وإبراز هذا المعنى السيّء المستتر في نفسه, فتكرار ذلك ورسوخه كملكة لدى الإنسان سوف يؤول إلى عدم تولّدِ أيّ نيّة سوء من الأصل, فلو أراد أن يواجه شخصاً ما بشكلٍ حادّ خشن, ثمّ أوقفَ نفسه ومنعها من ذلك, لو تكرّر منه هذا المنع عشر مرات فسوفَ لا يعود قصدُ الحدّة والغضب إليه ولا تعود نفسه تنازعه فعلَ ذلك, ولا يتأتّى إليه أيّ تفكير سيئٍ أو فاسد نحو الطرف الآخر, ومن الواضح أنّ ضبط ذلك وميزانه إنّما هو بواسطة اللسان, الذي هو عبارة عن ميزان القلب نفسه, لأنّ طريق القلب هو اللسان. فأغلق اللسان كي لا يخرب القلب, فالسكون والهدوء الذي يحلّ في القلب إنّما هو بسبب سكوت اللسان, وإلا فلو بقي اللسان يتحرّك على حاله, فسوف يظلّ القلب في حالِ تمريجٍ واضطراب, لأنّ اللسان هو ممثّل القلب وله ارتباط وثيق مع مدركات القلب.
المرحوم القاضي ـ رحمة الله عليه ـ الحاج الميرزا علي, "آقاي قاضي" أستاذ العلامةِ الطباطبائي وبعض أساتيذِنا الآخرين كذلك, يمثّل مسألة الكلام بمثال لطيف وجيّدٍ جداً, فيقول: إنّ السالك في طريق الله, من خلال اختياره السكوت, كأنّه بواسطة هذا السكوت يركّدُ الرواسب الكامنة في نفسه, تماماً كما في الماء, حيث كانَ في الزمان السابق يصبُّ في الجداول وما شابه ذلك, فتتوحّل المياه, فيضعون هذا الماء في حوض أو خزّان لمدّة من الزمن, لتترسّب تلك الأوساخ والقذارات, ويصبحُ نقيّاً صافياً, ومن الطبيعي أنّه لا بدّ وأنْ يركدُ ويهدأ كي يتحقّق هذا الترسّب, وأمّا لو كان هذا الماء الوارد على الحوض أو الخزّان في حركة دائمة, فسوف لا يمكنه أن يصفى ويترسّب أبداً, بل يظلُّ وسخاً على الدوام. وعليه فلا بدّ لترسّب تلك الأوساخ النفسية منَ السكون والهدوء والسكينة الحاصلة من السكوت, فالسكوت هو الذي يهدّئ تلك المياه, يهدئها رويداً رويداً, فيرسّب جميع الرواسب, حتّى تتحجّر أخيراً بحول الله وقوّته, يعني لو عمدَ الإنسان إلى تحريكها قبل أن تتصخّر, كما لو حرّكها بخشبة, فسوف يعود الماء إلى حالته الوسخة ويتلوّث من جديد, وأمّا لو استمرّ في السكون والهدوء, بثبات وعزم راسخ, فسوف تتحوّل تلك الرواسب إلى طبقات قاسية صلبة لا يمكن تحريكها, وما نشاهده من الصخور الصلبة الآن, إنّما هي تلك الأوساخ والنفايات السابقة, وحينما ركدتْ واستقرّت تحوّلت إلى صخور كما نشاهده اليوم, فهي لا تقبل التحريك بأيّ وجه من الوجوه. والنفس كالماء تماماً حينما تهتزّ وتتحرّك سوف لا يعود بإمكان الخباثة والنفايات أن تظهر, ولا يعود بإمكان الشيطان أن يتحرّك ويقوم, بل يبقى متحجّراً لا يمكنه الاهتزاز, لأنّ الشيطان هو الرواسب حينئذ, فالشيطان هو الوساخة والنفايات, وقد تحجّر, لذلك قال النبيّ: "ما منكم أحد إلا وله شيطان, فقيل له: وأنت يا رسول الله؟ فقال: وأنا, ولكنّ شيطاني أسلمَ بيدي"[4] فصار مطيعاً مسلّماً لأمري, كذلك النفس فهي نظير الشيطان, حيث إنّ النبيّ يمتلك نفساً, وإلا فلو لم يكن لديه نفس لمَا كان لديه شيء من الكمالات والمقامات, هذا الشيطان الذي أوجده الله العلي الأعلى, له ظهور وتجلّي في جميع النفوس, حتّى النبيّ, إلا أنّ النبيّ قد خذله وأحبط عمله, وجعله مسلّماً مطيعاً, وكذلك فإنّ للنبيّ نفس, وهو يستفيد منها في الأمور الحسنة والجيّدة, ولا ينتفع منها بشكل خاطئ, وأما لو أرخى الإنسانُ العنانَ للشيطان, فسوف يقعُ في حبال الشيطان, وسوف يُفسدُ عليه كلّ شيء ويوقعه في الهلاك.
لأجل ذلك, فإنّ ذكرَ الله هو السبيل إلى تسكين النفس والتي تمثّل مكانَ التجلّيات الإلهيّة, {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }[5], وأمّا غير الله من الكون والمكان.. فإنّ ذكره يؤدّي إلى التمريج في نفس الإنسان, وإيجاد التشويش, وإيجاد الخواطر المقلقة والمزعجة الموجبة للاضطراب, حيث إنّها تسخّر الإنسان, وفي بعض الأحيان توجب الخواطر والتخيّلات.. ها! لذلك فلا يطمئنّ القلب إلا بذكر الله, حينئذٍ يطمئنّ القلب, ويذهب كلّ ذلك أدراج الرياح والنسيان, ولا يبقى شيءٌ من الخواطر, فلا فكر, ولا خيال, ولا شيء أبداً.. لأنّ نفسه اطمأنّت بذكر الله, وتلاشت كلّ تلك الأوساخ وترسّبتْ وتحجّرت, وهو إنّما تمّ بواسطة السكوت, لذلك كان السكوت أحد الدستورات الضروريّة.

    

3ـ حدود السّکوت النّافع و الکلام الضّار

والآن, فما هو المقدار اللازم من السكوت؟ هذا يختلف حسب الحالات, وذلك حسب المراحل والمنازل المختلفة, ففي أوّل الأمر, على السالك أن يختار السكوت, ولا يكتفي بعدم الغيبة والكذب وما شابه ذلك, وإنّما عليه أن يبتعد عن كلّ حديث لا فائدة فيه, أي لا فائدة فيه لا للدنيا ولا للآخرة, فإنّ عليه أن يطبقَ فمه ويقفله, ولا يتكلّمنّ كثيراً, فمن باب المثال, افرضوا أن إنساناً يذهب إلى مجلسٍِ مّا, ثمّ يتكلّم ساعة كاملة, يُلهي نفسه ويُشغلها, ثمّ يقوم ويحسب ما قاله, ما هو معنى كلامي؟! أيّ فائدة له؟! هل هو نافع للدنيا أم الآخرة؟! هل أوجبَ لي الرقيّ الروحيّ؟! أفاضَ عليّ الصفاء؟! هل كان لصالحي؟! لا..! فلا تجلسنَّ في مجالس السهر والـ "قعدة", ومجالس المسامرة وإتلاف الوقت, يقولون: نحن متعبون.. فلنذهب إلى ذاك المكان ونفرّح عن أنفسنا... إنّ هذا الكلام بنفسه موجبٌ لتلويث القلب وتكديره.. يجعل القلب قاسياً.. أو من باب المثال, وكما سبق, فليس من اللازم أن يكون المجلس قائماً على الجملات الفاحشة والمحرّمة, وإنّما نفس اشتماله على هذه الأمور المباحة والتي لا طائل منها, أي ليست مفيدة, فإنّ على الإنسان أن يحافظ على نفسه ويبعدها عنه, فيظلُّ حاملاً للمفتاح بيده, ولا بدّ له أن يفكّر أولاً, ويحدّد طبيعة تكلّمه وحديثه, ثمّ بعد ذلك يتكلّم, لا أنّه يشرعُ بالكلام ثمّ بعد الانتهاء منه يعودُ ليرى ما إن كان كلامه سليماً أم لا؟! أمير المؤمنين عليه السلام له كلامٌ عجيب حول ذلك, حيث يقول: "لسانُ العاقلِ وراء قلبه وقلبُ الأحمقِ وراء لسانه"[6] أيْ حينما يريد أن يتكلّم العاقل, فإنّه يدركُ ويعي, ويفهم, ثمّ بعد ذلك يتكلّم, ومن الطبيعي أن لا يقعَ في الاشتباه حينئذٍ, فهو صحيح مائة بالمائة, لأنّه كانَ قد تأمّل وفكّر, وجاء بيانه وكلامه على طبق ذاك التفكير, وأمّا الجاهل, فإنّه يتكلّم أولاً, ثمّ بعد ذلك يفكّر وينظر فيما إذا كان خطأً أم صواباً. فعلى السالك أنْ يضعَ ميزانَ لسانه في يده مائة بالمائة, وأيّ كلامٍ يريدُ أن يفصحَ عنه, فإنّه يفكّر أولاً أصحيحٌ هو أم لا؟! ويتأمّل في النتيجة المترتّبة عليه, بل إنّ ذلك أعمّ من الكلام وحتّى المسموعات, لأنّ نفس الاستماع يوجب التمريج للقلب, وكلّ ما يستمع إليه الإنسان له هذا الأثر, وعليه أن لا يدع نفسه ميداناً لاستماع كلّ شاردٍ ووارد, وإنّما يسمعُ ما ينفعه ويفيده, ويكون له أثرٌ ونفع لمصلحته.
أمير المؤمنين عليه السلام خلال وصفه المتقين في نهج البلاغة يقول لهمّام: "وَقَفوا أَسماعَهَم على العِلمِ النافعِ لهم"[7] فالعلوم في الدنيا كثيرة, والأخبار كثيرة أيضاً, لكنْ على الإنسان أن يبحث عن النافع منها, فعليكم أن تهتمّوا بذلك.
وبشكل عام, إنّ جميع المجالس والمحافل.. التجمّعات.. الخطب.. المشاهدات.. كلّ ذلك له حكم المسموعات, وعلى الإنسان أنْ يراقب نفسه في ذلك, ويحدّد ما عليه أن ينتخب منها لنفسه, فليس كلّ الملاك في كونها أموراً حقّة, أو كونها غير باطلة, وإنّما المعيار هو في كونها مفيدة له أم لا؟! فلو جلست أنا الآن هنا, وأقمتُ حتّى الصباح أرصد وأنجّم وأتطلّع في الزيجات وما شاكل ذلك, وأحدّد ما من الفاصلة بين أورانوس ونبتون.. ها؟! فأيّ فائدة سوف أحصلُ عليها؟! حتّى وإنْ كانَ حقّاًَ, إلا أنّه ماذا سينفعني أنا؟! أكون قد ضيّعتُ ليلة من عمري, دون تحصيل أيّ أثر نافع لي, وحينما أموت لا يأتي منكر ونكير ليسألاني عن المسافة الفاصلة بين أورانوس ونبتون!! ولا يسألاني لماذا لا تعرف؟! بل يسألان: من ربّك؟ إلى أيّ حدّ عرفته؟ ولا شيء آخر.. وعليه, فعلى الإنسان أن لا يكثرَ من كلامه, ولا يستمع إلى المطالب المختلفة التي لا تنفعه, وإنّما يتفوّه بما يعود عليه بالمصلحة, ويستمع ما يجرّ إليه النفع والرشاد.
فالأنس مع العيال أمرٌ ضروريّ, وعليكم أن تلتفتوا إلى ذلك, أي الأنس مع العيال لا يدخل في الكلام والحديث! وكذلك الأمر بالنسبة لهنّ, فلا يُعمدُ هنا إلى وضع ميزان وضبط للحديث, فالأنسُ مع العيال والاختلاط معهنّ والحديث والتكلم معهنّ لا يحتاج إلى ميزان, ويمكنك بيان كلّ ما تريده, نعم, هناك حدّ لذلك, فلا يرسل الأمر بالكلّية, كذلك لو أردتم الحديث مع أطفالكم والأنس معهم, أو أن تذهبون إلى البقّال لتشتروا شيئاً, فلا بدّ كذلك من التكلّم معه, وأمّا لو استوقفك البقّال, وشرع في الحديث عن الطقس, أو درجة البرودة اليوم.. اليوم كان حاراً.. لم يهطل المطر.. لماذا ليس لمنزلكم مصباح؟ لماذا؟! حسناً.. فعلى الإنسان أن لا يصغي لكلّ ما يطرق سمعه, بل عليه أن لا يعتني بذلك, وإنّما يسكتُ ويمشي. كذلك الأمر.. يذهبُ إلى المسجد ويجلسُ فيه, فيأتي أحدُ الأفراد ويجلسُ بجانبه: سلامٌ عليكم, وعليكم السلام.. هذا خطأ ٌولا يمكن الاختلاط مع جميع الناس, إذْ ليسوا جميعاً ذوي نفوس ملكوتيّة, فهم أهلُ عالم الطبع هذا, وكلّ تلك الأفكار الدنيويّة قابعة في ذهنهم, فما إنْ يجلسوا بجنب أحدٍ حتّى يشرعوا في التكلّم والحديث, سيّد! اليوم ارتفعت قيمة تلك السلعة, سيّد! لماذا؟ سيّد! لماذا حصلَ ذاك الأمر؟ سيّد! هكذا حصل.. فلا يقتصرون على تشويش أذهانهم وتلويثها وإقلاقها, وإنّما يقومون بنقل ذاك الاضطراب والتشويش بواسطة لسانهم إلى فكرِ المستمع, ينقلون ذاك التشويش الذي يظهر من نفس الحديث: سلامٌ عليكم, عليكم السلام, كيف الحال؟ الحمد لله... بواسطة ذلك, لذلك فعلى السالك أن لا يفرّط في هذه المسائل, وخاصّة مع الأفراد الذين يمتلكون قلباً قاسياً ونفساً ثقيلة, فإنّهم يوجبون التعبَ للسالك, ويسبّبون الأذيّة له, ففي بعض الأحيان حينما يتكلّم الإنسان مع شخصٍ ما لمدّة خمس دقائق, يشعر بثقلٍ على رأسه كالجبل, وعلى العكس من ذلك, فيما لو تكلّم مع أناس نفوسهم طاهرة, ولطيفة وجيّدة, فحتّى لو تكلّم معهم ساعة كاملة, سوف لا يشعر بأيّ تعب. وعلى العموم فإنّ الصمت يعني السكوت, وفي هذه المرحلة فعلاً, ليقتصر الإنسان على الضروريّ؛ من تلاوة القرآن والزيارة والدعاء والصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأنس مع العيال وضمن دائرة العمل, فلا مانع من التكلّم في دائرة هذا المقدار ممّا يعدّ ضروريّاً ولا يتكلّم أزيد من ذلك.
سؤال: هل هذا عامٌّ لكلّ شيء حتّى المناجات والدعاء كذلك؟الجواب: لا‍! لا! الباب مفتوح في الدعاء, وإنّما كلامنا هو في دائرة العمل والشغل, مثلاً أنتم, تعملون هناك, ولديكم مستشفى تعملون فيه, فلتتكلّموا بالمقدار الضروريّ, مثلاً تقولون: فلان, أحضر هذا الملف! ولا تكرّر ذلك, أو لا تصرّ عليه, ولا تلحّ, هل التفتّم ما هو المقصود؟ هذه الجملة تكفي: اذهب اجلبه وأحضره! فلا تبحث المسائل كثيراً مع الناس, لا تتكلّم معهم عن أسرارك, ولا تبيّن حالك لهم, ابقَ في دائرة نفسك, وأمّا المقدار اللازم فبيّنه لهم, فلا بدّ وأنْ يضعَ الإنسان قفلاً على لسانه ولا يدعه يتجاوز ويتعدّى على قلبه ومنويّاته, وضبطُ الإنسانِ لسانه أمرٌ صعبٌ وعسير, فبعضُ هؤلاء السالكين القدماء, قد ذكرَ ضمن أحوالهم أنّهم كانوا يضعون حصى في فمهم, بحيث لا يشرعون في البيان والتكلّم غفلة, فقد يهمّوا بالبيان والحديث, ولكن الحصى في فمهم, فيتنبّهون ويتساءلون في أنفسهم: هل كلامي صحيح أم لا؟ فإن كان سليماً يخرج الحصى من فمه ويتكلّم, ثمّ يرجعها إلى فمه ثانيةً.
ولا يخلو الأمر من الصعوبة في هذه المرحلة, لأنّ الإنسان كان قد اعتاد على التكلّم دون مراعاة وكيفما كان, لذلك عليه أن يجاهد ويراقب ويثابر لتحقيق هذا الأمر ويتمكّن من العبور ويجتاز هذه المرحلة. فالصمت إذاً أحد المسائل المهمّة.

    

4ـ الهدف من الطّعام هو حفظ سلامة المزاج و ليس الالتذاذ

الأمر الثاني: الطعام
على الإنسان أنْ يأكلَ الطعام الذي ينفعه, وأمّا الذي لا ينفعه فلا فائدة في أكله, ولا ينبغي أن يأكله, فالناس عادةً يأكلون أيّ نوعٍ من الطعام دون أن يتأمّلوا في خاصيّته وآثاره, فمن باب المثال, يأكلون المكسّرات.. البذورات.. يأكلون دون أن يلتفتوا إلى خصوصيّة الطعام.
سؤال: لأجلِ طعمه يأكلونه؟
الجواب: نعم, لكن عليهم أنْ يدعوا مسألة الطعم جانباً, فعلى الإنسان أن يأكل الغذاء المفيد للبدن, كي لا يضعف جسمه, ولا يصير هزيلاً, فإنْ هزلَ البدن سوف تضعف الروح ولا تقدر على القيام بشيء حينئذ, وقد كان المرحوم السيّد جمال الدين الگلبايگاني ـ رحمة الله عليه ـ والذي وردَ اسمه عدّة مرات في طيّات كتاب معرفة المعاد, كان يصرّ كثيراً على ضرورة حفظ المزاج, وكان يقول: لو لم تحفظ مزاجك بأن تتهوّر ولا تراعي ذلك, كأن تقوم برياضات غير سليمة, فسوف يتعلّل بدنكم ويسقم, وحينما يصبح عليلاً, تصبح أنتَ مركوباً للبدن. فالبدن مركب في خدمتك, وظيفته أن يحملك ويوصلك, فإن لم يستطع إيصالك إلى الهدف, بأن أصبح عليلاً, حينئذٍ ماذا بوسع النفس أن تعمل إزاء هذا الحيوان, أي البدن؟ حينئذٍ تصبحُ هي مركوبة له.
فسلامة المزاج مهمّة جدّاً, فلا يأكل الإنسان زائداً بحيث يصبح متخماً, ومشوّش الفكر, عاجزاً عن العمل وفاقداً للنشاط, ولا أنْ يصل الأمر إلى تقليل الأكل بحيث يفقد كلّ قواه ويضعف عن تلبية حاجاته. كما وينبغي أن تتحدّدَ أوقات الطعام, فما لم يجعْ لا يأكل, ويتوقّف عن الأكل قبل أن يشبع, وينتخب الطعام المفيد لبدنه.. كلّ ما هو نافع له.. مهما كان.. سواء اللحم المشويّ أو ما شابه ذلك, فهو نافع لنفسه, ولا معنى للزهد ونحوه هنا, بل هو مندرج حينئذ تحت عنوان السلوك, فالزهد إنّما يعني السير نحو الله, فإن أمرك ذاك الشخص الذي يريد أن يحركك نحو الله بتقوية مزاجك في طريق سيرك إلى الله, فلا بدّ وأن تفعل, إذ لو لم تفعل فسوف تتوقّف وتبقى, فأكل هذا الكباب ليس مخالفاً للزهد, بل هو عين الزهد, ولو لم يقم بالأكل بحيث يوجب له التعب والشدّة, أو أنّه لا يلاحظ مسألة تعادل مزاجه, فسوف يخرج نفسه عن قافلة السير والسلوك.
فعلى الإنسان أن يتأمّل في طبيعة الطعام الذي يأكله, ويلاحظ خصوصيّته, حسب الشروط التي أمر بها, وعلى الإنسان أن يعمل بالأوامر الشرعية: فيبدأ باسم الله, ويغسل يديه قبل الأكل وبعده, ويبدأ الطعام بالملح, وينهيه بالملح, فيبدأ باسم الله وينتهي بحمد الله, ويكون سخيّاً في ذلك, ويأكل عن اشتهاء ورغبة, وينتخب الطعام المفيد للبدن والصحّي, ومن الناحية السلوكية لا يكون مخلاً بالمزاج, إذ لو كان مزاجه هزيلاً ومعلولاً فسوف لا يمكنه السير والحركة. وهذه المسألة مهمّة جداً.

    

5ـ معاشرة عبيد الدّنيا تجرّ الإنسان نحو الدّنيا

ومنها: الابتعاد عن أجواء التشويش والاضطراب والفساد. لأنّ الإنسان يضطرب خلال تواجده في هذه البيئة, فالعلاقات المسمومة والمعاشرات المشحونة وكذلك المشاجرات تكدّر روح الإنسان وتخرّبها, فالنفوس مثلُ الأوعية المتصلة, أليس كذلك؟! في علم الفيزياء تطرح مسألة بعنوان الأوعية المتصلة, فما دامت متّصلة, فكلّ مائعٍ يوضع في أحدها سوف يصل إلى جميع الأوعية المتصلة به فيما لو تساوت سطوحها, والقلوب كذلك, أي حينما ترتبط نفسان معاً, فسوف تأخذُ حكمَ الأوعية المترابطة, وكلّ المعاني التي تأتي إلى هنا تحلّ هناك أيضاً, فإنْ كان ذاك الوعاء مرتفعاً, فسيكون ملكوتيّاً, وستسري ملكوتيّته إلى الإناء الآخر, فيجرّه إلى مستواه, وإنْ كان الوعاء المرتفع ملوّثاً, كأن كان فيه خلّ.. أو سائل متعفّن.. فسيتلوّن الإناء السفليّ بنفس خصائص الإناء العالي. وعليه فعلى الإنسان أنْ لا يجلس مع أناس خبيثين, عبيد للدنيا, كلّ همّهم وغمّهم الحصول على الدنيا, لأنّهم يسحبون قلب الإنسان, ويجرّوه نحوهم, "من أصبحَ وأكبر همّه الدنيا فليس من الله في شيء"[8], فالناس حتّى وإن كانوا جيدين, يُصلّون.. يعملون.. إلاّ أنّهم على نحوين؛ فبعضهم حتّى مع كونهم يصلّون ويصومون, إلا أنّ هدفهم الأصليّ هو الدنيا, غير مستعدّين لبيع دنياهم لله, وما إن يصادف موقفاً معيناً تراه يترك الأمر الإلهيّ مقابل المنفعة الماديّة, فهذا السلوك يعود بالضرر على الإنسان, ومعاشرة هؤلاء مضرّة بالإنسان, تماماً مثل تلك الأواني المتصلة ببعضها, فتسحب الإنسان إلى مستواها, وبالمقدار الذي يرتبط معهم فإنّهم يستدعونه إلى بؤرتهم الوجوديّة, يستجلبونه نحو أفكارهم, وكلّ شخصٍ تدعوه من هؤلاء, أو تسلّم عليه أو تردّ عليه السلام, أو تتوادد معه.. فسوف تنجرّ النفس إلى ذاك الصوب.. وعلى هذا الأساس فماذا تختار لنفسك؟ سواء النفس الحسنة أم السيئة؟! فعلى السالك أن لا يجعل نفسه فريسة للذئاب, وإنّما يرغدُ بروضة الرحمة المفتوحة أمامه, فيتقدّم تدريجيّاً نحو النفوس الملكوتيّة والروحانيّة.. مع أمير المؤمنين.. ومع ميثم.. مع تلك الأرواح الطيّبة الطاهرة, فيختلط معهم, ولا ينحرف عن جادّة الطريق, وهذه المسألة بيدِ الإنسان, والـ "كنترول" بيده, فمن باب المثال, يقولون له: عليك أنْ تغيبَ عن الوعي, فنفس إذهاب الوعي ليس اختياريّاً, نعم, عدم الوعي غير اختياريّ ولا يمكن للشخص أن يزيل وعي نفسه من تلقاء نفسه, ولكن مقدمات إزالة الوعي بيده, كيف؟ يقولون له: ادخل هذه الغرفة, عليه أنْ يطيع ويقول: سمعاً وطاعة, فيدخل, ثمّ: نَمْ هكذا.. لا تأكل العشاء.. فيطيع وينفّذ, ويأتون الصباح ليقيسوا ضغط الدم, كذلك عليه أن لا يمانع, ثمّ: نم هناك, وأدخل هذا الخرطوم الطويل في أنفك, تنفّس نفساً عميقاً! وكلّ ذلك من باب المقدّمات.. وبعد أن يغيّبوه عن الوعي, لا نعلم ماذا يصنعون هناك.. نعم الله هو الذي يعلم ماذا يفعلون به عادة بعدَ أن يأخذ البنج ويغيب عن الوعي!! ولكن كلّ هذه المقدمات اختياريّة للإنسان, وعليه أن يفعل جميع هذه الأمور الاختياريّة.. يفعلها وهو فرِحٌ ومستبشر, فهو رحمة ولطف وسعادة له, وجميع هذه الأوامر هي أوامر الحبيب ودعوة المحبوب, وعلى الإنسان أن يستجيب لها, وهو نافع له جداً جداً.. وعلى كلّ حال, هذا هو إجمال المسألة, فعلى الإنسان أن يبتعد عن أهل الدنيا الذين ليس لهم وراء الدنيا همّ آخر, فينحّيهم جانباً, مهما كلّف الثمن, فالشخص الذي هدفه الدنيا, يجرّ الآخرين ويسحبهم إلى الدنيا من خلال لباسه أو وجهه أو أيّ شكلٍ يتلوّن فيه, ويأخذ الأفراد إلى غير الله, يدفعهم إلى الدنيا, وعلى الإنسان أن يكون كالمريض الذي يبحث عن العلاج, وعليه أن يلتفت كيف لا يقع فريسة لهؤلاء, إذْ من خلال معاشرته سيقع فريسة لهم, فلا بدّ من حفظِ نفسه وإبعادها, وخصوصاً أولئك الأشخاص ذوي النفوس القويّة, فالنفوس مختلفة, فبعضهم يمتلك نفساً قويّة, ويستجلب الأفراد مثل المغناطيس, وخاصّة ذوي النفوس اللطيفة, فإنّهم سرعان ما يقعون فريسة, وذلك بسبب لطافتهم, فيجرّهم إليه ويأخذهم إلى ميدان تفكّراته من حيث لا يشعر هو أيضاً, لذلك لا بدّ وأن يكون الإنسان حاذقاً جداً في مثل هذه المواضع, وبحول الله وقوّته, يفكّر ويتأمّل في كلّ شخصٍ يريد معاشرته, أو مصاحبته, والتردّد معه ذهاباً وإياباً, والتكلّم معه ومرافقته, وما يستتبعه من حصول المحبّة فيما بينهما, وعليه أن يفكّر ما إن كان من وراء ذلك مصلحة أم لا؟ هل هذه الرفقة لازمة أم لا؟ هل هي لتحصيل الكمال؟ وكسب المعنويّات؟ هل تقرّبه من الله ومن الدين والشريعة؟ هل تقربه إلى الحقائق أم أنّها تسلب عنه كلّ ذلك وتقرّبه من عالم الأباطيل والأوهام والتزييف والخرافات! وقد اتضّح معنى عالم الخيال:

سودائي آن عالم پندار را بگو سرمايه                                                       
                    كم كنند كه سود وزيان يكيست
"[9]

    

6ـ العزلة هي الابتعاد عن الفضاء الملوّث و وضع النّفس في دائرة الأولياء

هذا.. وفي مقابل ذلك معاشرة الأفراد الجيّدين, وهو أمر ضروري للسالك, وعلى السالك أن يعتزلَ الأشخاص الخبيثين.. الأشرار.. غير أهل الله, فالعزلة تعني الابتعاد عن النفوس الشرّيرة والنفوس الخبيثة, ولا تعني أنْ يقطنَ على رأس جبل منفرداً, أو يعيش في غار.. أو يغلق باب داره ويمكث في منزله, فالعزلة هي عزلة النفس, وابتعاد النفس عن أولئك, فيبتعد الإنسان عن هذه الميكروبات ويهرب من الفضاء الملوّث, وإلا فسوف تصيبه شاء أم أبى, فالحمية في أن يُبعدَ نفسه عنْ هذا المحيط ويخرجها منه, وفي المقابل يورد نفسه ضمنَ دائرةِ معاشرة الطيبين, مع أولياء الله, مع أيّ إنسان في قلبه لوعة حبّ الله, يفكّر تفكيراً إلهيّاً, يقول: "الله" لأجل الله, فمعاشرة هؤلاء جيّدة وتؤدّي إلى تقوية الإنسان, وتزوّده بالطاقة, لذلك فإنّ الإنسان يحتاج إلى رفيق, فلا يقدر السالك طيّ سلوكه بمفرده, بل من المحتّم عليه أن يكون له أنيس ورفيق, يجلس إليه أوقات التعب, ويلتقيان معاً, ويقرآن القرآن معاً, أو يفسّران الشعر ويتفكّران في معانيه معاً, أو يقرآن نهج البلاغة سويّاً, أو يتباحثان فيما يتعلّق بالمطالب الإلهيّة, أو يذكران ويمجّدان سيرة العرفاء وأحوالهم, والعظماء والعلماء وأهل اليقين والصدّيقين, نعم يمجدّونهم, فذكرهم وامتداحهم يبعثُ روحَ النشاط عند السالك, وأمّا لو لم يكن للسالك رفيق فسوف يتعب ويرهَق, كما لو أراد أن يطوي الإنسان الصحراء, فإنّه حتّى وإن استطاع أن يطويها بمفرده إلاّ أنّه لو كان مع رفيقٍ حميم, فسوفَ يتجاوزُ تلك الصحراء الطويلة بسهولة, ويطويها ببهجة وسرور, بخلاف ما لو كان وحيداً, فإنّه يطويها متعباً, ومصحوباً بالكسل والتعب.
لذلك, فأحدُ الدستورات السلوكيّة هو أن يبتعد الإنسان عن الأفراد الذين لا ينسجم معهم, ممّن يلوّثون روحه, وكلامهم يحدث التزلزل والاضطراب للإنسان, ويزعجون الإنسان, فيستشكلون, ويعترضون, سيّد! لماذا لم تفعل كذا؟! لمَ لمْ تقم بذاك الفعل؟! آخٍ.. لو فعلتَ ذلك لأصبحتَ السيفَ البتّار في البلاد..! أو سيّد! أنت دكتور, وعليك أن تصدّر الأوامر إلى الدنيا بأجمعها.. على الإنسان أن يقطع كلّ هذا الكلام ولا يفسح له أيّ مجال, لأنّ هذا الكلام لا يوجب للإنسان إلا الغرور والتخيّل, والخروج عن عالم الحقيقة والوحدة والنور الإلهيّ الهبوط والتسفل, فيذهب ضحيّة هذه المصائب, وحينما يرى الإنسان أنّه يتحرّك من قلبه ليطوي المسافة ويصل إلى الله, فعليه أن لا يصغي إلى شيء من ذلك, فلا يستمع أصلاً, أي لا يتكلّم كي لا ينفتح الباب أمامهم ليتكلّموا, وإنّما يسكتْ كي يسدّ عليهم فرصة التأثير والتدخّل.
إذنْ, الدستور الأوّل هو السكوت, والثاني مراقبة الطعام وانتخاب المفيد منه, والثالث العزلة, أي التوجّه إلى نفسه والاهتمام بذاته, والتفكير في نفسه, والتزام السكون والهدوء حتّى تترسّب جميع الاضطرابات ويهدأ التشويش والتمريج في قلبه وتتصخّر وتركد في القعر, ويبتعد عمّا يوجب له الاضطراب وتحريك الرواسب, فلا يدع نفسه في الأجواء المثيرة من الهرج والمرج والكلام والضوضاء, فلا يدخل في تلك المجالس ولا يستمع إلى شيء من ذلك, بل أنّه حتّى لا يقرأ أيّ كتاب يوجب التشويش له, فهذا يوجب الضرر للإنسان, "وَوَقَفوا أَسْماعَهُمْ على العِلْمِ النافِعِ لَهُم"[10] فلنفرض أنّي قرأت كتاباً من الليل حتّى الصباح, وفيه علوم مفيدة وحقّة, لكنّه أوجب لي التشويش والاضطراب في الذهن, فهذا ليس جيّداً, بل لا بدّ من انتخاب ما يشتمل على الهدوء والسكون, فنطالع الكتاب الذي يبثّ الروح في الإنسان, ويسكّن الخاطر ويغرس الاستقرار, فهو يفيض الروح والحياة على الإنسان.
ومن الدستورات كذلك, الاستيقاظ قليلاً قبل أذان الصبح, ولو ببضع دقائق, بحيث لا يكون نائماً وقت أذان الصبح, وكذلك بين الطلوعين, أي النوم ما بين أذان الصبح وطلوع الشمس مكروه, بل عليه أن يقضيها بالقرآن والذكر كما سنبيّن, إلاّ أن يكون معذوراً أو مريضاً أو متعباً, أو مرهقاً, أو أنّه لم ينمِ الليل, وعلى العموم, فإنّ الاستيقاظ آخر الليل وبين الطلوعين من الأمور المهمّة

    

7ـ هدف السّالك الوحيد هو الوصول إلی الله و لقاؤه

ومن الأمور المهمّة كذلك, دوام التفكير بالله ودوام ذكر الله, وكما يقال: حينما تفقده تجده يفكّر بالله, فيقوم هنا بهذا العمل.. ثمّ يقوم بذاك العمل.. ولكنّ الهدف هو الله وحده, لذلك عليه أن لا يغفل عن هذا الهدف, فتسجيلك الآن في هذه المسجّلة هو لأجل الله, فأنت تتعلّم للحصول على لقاء الله والتشرّف بلقياه, فحتّى مع كونه عملاً خارجيّاً إلا أنّه لأجل الوصول إلى الله, وحينما تذهب إلى أحد المرضى فإنّ الله هو المقصد والهدف, غاية الأمر أنّ الله قد جاءك من خلال هذا المريض, وجعل لك المريض باباً للوصول إليه, فأنت لا تتعامل مع المريض, بل مع الله, كذلك حينما تتكلّم مع العامل, فإنّك تتعامل مع الله, وكذلك المحاسب, فالمعاملة مع الله, وكذلك مع من هم تحت سلطتك, فإنّك تتعامل مع الله, كلّ هؤلاء صور وشبكة مترابطة متصلّة بالله, والله هو المبتغى من وراء كلّ ذلك, والمعاملة مع جميع هؤلاء هي معاملة مع الله, لذلك نرى أنّ الأشخاص الذين يتوجّهون إلى الله فإنّهم حتّى وإن واجهوا كلّ هؤلاء الأفراد وتعاملوا معهم فإنّ تلك الحرارة والاندفاع إلى الله تبقى على حالها ولا تزول, ولا يرتوون من جرّاء ذلك ولا يكتفون به, فمثلاً: يقوم بالعمل, ولكنّه يشعر بوجود الحرارة والانشداد الروحيّ, فتتوق نفسه وتنشدّ إلى المزيد من الفعل والتعامل مع ذاك التجلّي, فهو قد خطى الدرجة الأولى, فيتوجّه بسبب تلك الحرارة إلى الخطوة الثانية, ويقدم ثانياً, وتلك كانت الخطوة الأولى, فيتحرّك نحو الثانية والثالثة والرابعة.. فالصلاة هي الخطوة الأولى, والصيام هو الخطوة الثانية, والأنس مع العائلة الخطوة الثالثة, الاعتناء بالبدن هو الخطوة الرابعة, وكلّ ذلك عبارة عن خطوات نحو الوصول إلى الهدف, ولكنْ في كلّ واحدٍ منها هو الله! الله فوق كلّ شيء, فيجب أن نرى أنّ جميع تلك الخصوصيّات هي الله, ونبقى على حال الذكر الدائم لله, في كلّ تلك المراحل والخطوات, ومعنى الذكر الدائم هو أن يظلّ السالك متوجّهاً إلى الله, وما لم نصلْ إلى الله وما لم نحصل على مقام القرب, فسوف يبقى في القلب غصّة, حتّى ينفتح الباب أمامه, فهذه الغصّة تعني ضرورة الوصول إلى الله, وإلاّ فسوف لن يرتوي, فالإنسان أو المؤمن إنّما يتحرّك نحو الله بواسطة هذا المحرّك أي الحرارة والألم والغصّة واللوعة والشوق إلى الله, فينظر الإنسان.. ويرى أنّ يده قاصرة عن بلوغ هدفه, فلا يوجد أحدٌ يمكنه أن يأخذ بيده ويوصله إلا الله, فلا يقدر على تلبية استغاثة الإنسان إلا الله, فحينئذٍ يتوجّه الإنسان إلى الله, فهل يعقل حينئذٍ أن لا نتوكّل على الله ونمضي ونسير! ألا يجيب الله حينئذٍ: أن هيا أقبِل وقل بسم الله!! تفضّل! يجب عليك أن تعبر عن نفسك وتتجاوزها, عليك أن تسير وتتحرّك.

    

8ـ الوصول إلی الله يتمّ بالسّير المعتدل و التّدريجي

عليك أن تخطو خطوة خطوة, هل يمكن الوصول بخطوةٍ واحدة؟ لا.. لا يمكنه الوصول, لأنّ الله يريد أن يكمّله أولاً, لأنّه إن يأتي ذاك النور الأزليّ دفعة واحدة, فسوف يؤدّي إلى احتراقه واشتعاله, والله رحيم, يتدرّج مع الإنسان من صفّ إلى صفّ, ومرحلة مرحلة حتّى يأخذه ويوصله, دون أن يحلّ ألم المعدة فيه, لا.. ودون أن يشدّد عليه فيجنّنه!! أو يجعله يتيه في البراري.. ودون أن يترك منزله ويسيّبَ حياته وعياله! وإنّما يسير ويتحرّك مع كلّ ذلك ويبلغ حرم الله, فهذا الدستور الكامل الذي أتى به القرآن والنبيّ, ليعمل في الإنسان ويطبّقه في دنيا الكثرات هذه, وذلك بواسطة ذاك المحرّك القلبيّ والألم الباطنيّ, فيطوي تلك المراحل بشكل جيّد, وإلاّ فلو أردنا الآن من الله أن يرزقنا نور الجلالة, وأن يبلغ بنا تمام الهدف! ألا يستطيع الله؟! ينقل المرحوم الشيخ الأنصاريّ ـ رحمة الله عليه ـ قضيّة عن حضرة النبيّ موسى, حيث كان ذاهباً للمناجاة قاصداً جبل الطور, وكان هناك حطّاباً في الطريق, فجاء وقال: يا نبيّ الله! أنت تذهب إلى المناجاة, فاطلب من الله أن يعطيني محبّته.. تلك المحبّة الخالصة.. فطلبَ من النبيّ وهو يبكي ويقول: ادعُ الله لي كي يجعلني عاشقاً له, فأنا أريد الآن أن يفيض على قلبي من تلك المحبّة الخالصة. فذهب النبيّ موسى وطلب.. فاستجيبت دعوته, وقال له الله: قد أعطيناه حتّى وإن كان على خلاف مصلحته, فحينما رجع النبيّ موسى رأى أنّ بدنه قد قطّع, وتناثر على الأخشاب قطعة قطعة!!
ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّه لا طاقة له بهذه الرتبة من المحبّة, تماماً كما لو كان هناك مصباح طاقته شمعتان أو أربع, فنأتي ونوصله بستّة آلاف شمعة دفعة واحدة, فسوف لا يقدر على تحمّله, والحال أنّه يلحّ على الله ويطلب الدخول من الباب.. ويبكي أيضاً.. ويأخذ بأذيال النبيّ موسى: يا نبيّ الله! أريد كلّ شيء, فالله ليس عاجزاً, فإنّه يعطينا ويمدّنا, فالله رحيم, إلا أنّه لو أراد أن يصغيَ إلى كلّ ما نتكلّم به, فسوف يخرب كلّ شيء, حيث نشرع ونقول: أنت تعال وتنحّ جانباً! ونحن نجلس ونصعدُ مكانك ونناجي الله!! فالله رحيم, بل إنّ الله يفيض علينا ذاك النور الأزليّ.. بل ويمنّ علينا بمقام رسول الله ويوصلنا إليه, كذلك مقام أمير المؤمنين, ويجعلك أميراً للمؤمنين, ولكن بالتدريج, وخطوة تلو الخطوة, من خلال البصيرة, وبواسطة المعرفة, وليس من خلال الجنون! ولا الاعتباطيّة! ولا الاضطراب.. ودون التشويش.. ولا العجلة.. ولا الحدّة.. فعلى الإنسان أن يكمل عمله, لا بدّ وأن ينجز عمله, عليه أن يكمل عمله حتماً!! فكلّ ذلك له قيمته وحسابه, افرضوا أنّي أريد الذهاب إلى المنزل, فكم هي المسافة من هنا إلى باب المنزل؟! كم متراً؟ كم خطوةً؟ افرضوا أنّها مائة متر, فما لم أتجاوز الخطوة الأولى, هل يمكنني بلوغ الخطوة الثانية؟! بل يجب عليّ أن أخطو الخطوة الأولى أولاً, وحينها أخطو القدم الثانية ولكن.. ولكن مع جميع الآثار التي حصلتُ عليها من الخطوة الأولى, فتكون تلك الآثار هي حقيقة الخطوة الأولى, يعني إن عبوري المسافة الأولى ما هو إلا أحد المعدّات لتحصيل آثارها, وحقيقة الخطوة الأولى هي البلوغ إلى آثارها, وعليه فكيف يمكن أن أبلغ الخطوة الثانية وأنا بعد لم أحمل آثار الأولى!! فحيازة الآثار تعني تجاوز الخطوة الأولى, وحينئذ سوف تشرع في القدم الثاني تلقائياً لتبدأ بحمل الآثار الثانية.. فالخطوات هي من باب المعدّات والمقدمات لتحصيل الآثار, وعليه فلا يمكن أن تأتي الخطوة الثالثة إلا بعد حمل آثار الخطوة الثانية, وهذا هو معنى كون الخطوات معدّات ومقدّمات لتحصيل الآثار, فالمطلوب الأساسي هو الآثار وهو حقيقة الخطوة التي نخطوها, وعليه فكيف يمكن للمائة خطوة أن تصير خطوة واحدة؟! كلا.. لا يمكن ذلك, بل يجب عليك أن تتقدّم إلى الأمام خطوة, فتحملَ تلك الآثار المختصّة بها وتحتفظ بها في وجودك, نعم لا تعود تراها لأنّك تجاوزت عنها, وكذلك الخطوة الثانية فإنّ لها مشاهدها وآثارها.. ثمّ يبدأ بالخطوة الثالثة, فيصبحُ كلّ ما رآه في الخطوة الثانية خلفه ووراءه لأنّه تجاوزه وطواه سابقاً, ثمّ يخطو الرابعة, كذلك يمشي ويسير ويسير حتّى يصل إلى ذاك الحرم, تماماً كما لو أردت الذهاب إلى حرم السيدة زينب سلام الله عليها, فهل يمكنك أن تحسّ وتشاهد كلّ المسافة في آن واحد!! كذلك الأمر بالنسبة إلى الأمور المعنويّة, وإلاّ فإنّ الله قادرٌ.. ألا يقدر أن يجعل جميع الناس كسلمان الفارسيّ في ليلة واحدة!! بلى, قادرٌ, ولكن أيّ فائدة تترتّب على ذلك؟! فالله خلقَ هذا العالم, وخلق الشيطان, وأعطانا النفس, لنسير إليه مع العشق والشوق, وإلا فلو لم يكن هناك تكليف, ولم يكن هناك شيطان ولا نفس ولا مجاهدة.. لكنّا في ذاك العالم السابق أي جنّة الخلد, هذه هي النتيجة.. ولم يكن عالم الاستعداد والقابليّة قد وصل إلى الفعليّة, فهذه اللوعة والحرارة التي أعطيت للإنسان والتي تحرّكه وتجعله يسعى ويكابد, وتضعه في جادّة السير نحو الله, نعم, هذه نتيجة كلّ العوالم الوجوديّة, إذن, لا يوجد أثمن من هذه القوّة المحرّكة التي تسيّر الإنسان إلى الله, وتجعله يدرك الله ويذكره, فلا بدّ أن يكون السالك دائم الذكر لله, فذكر الله نور يضيء قلبه, وحينما يكون هذا السراج مشتعلاً فلا يأتي الخوف, ولا الأذى, ولا أيّ شيء, لأنّه يمتلك نوراً يضيء به, ولكن لو كان غافلاً, أي كان النور مطفأً, فحينئذٍ يلعبون بالإنسان كما يحلو لهم, إلا أنّه حينما يقول: يا الله! حينئذٍ يكون الله قد حضرَ في قلبه, فمن أيّ شيء يخاف حينئذ؟! وعليه فمن الأمور الضروريّة ذكر الله, بمعنى تذكر الله, اسم الله على الدوام, ويبقى دائم الذكر لله.

صمت وجوع وسحر وعزلت وذكرى به دوام                                                                    
ناتمامان جهان را كند اين پنج تمام
[11]


فأهل السلوك الذين لم يبلغوا نهاية كمالهم, يريدون أن يتحوّلوا إلى فاكهة طيّبة عذبة, أو شجرة تعطي إجاصاً, فلا بدّ وأن يكون لها برعما ووردة, ثمّ تتحوّل إلى حبّة مغلقة, ثمّ شيئاً فشيئاً تكبر ويخضرّ لونها, ثمّ بعد ذلك تصبح خضراء مع شيء من السواد, ثمّ يتغيّر لونها تدريجيّاً وكذلك طعمها, فتكون مرّة فجّة, ثمّ تكبر ويتغيّر لونها وطعمها وهكذا حتّى تصير إجاصاً, إجاصةً عظيمة حلوة الطعم ومملوّة بالماء, لا تضرّ المعدة, وقيمتها ثمينة.. هكذا يكون الإنسان الكامل, فلإنسان الكامل هو ذاك الذي نضُجَ واكتمل, ولذلك فإنّ هذه الدستورات الخمس تكمّل الإنسان, أي بواسطة الضبط في الكلام والحديث, والصمت, ومراعاة المزاج على النحو الأتمّ, فقد لا يشعر الإنسان في بعض الحالات بضرورة الأكل مثلاً, فلا يأكل, ولكنّ الله يأمره بأن يغذّي نفسه! فيجب أن يأكلَ حتّى وإن كان على خلاف رغبته, فمن باب المثال: نرى بعض الكسبة في السوق, وقد رأيت بنفسي نموذجاً منهم, وخاصّة حينما يكون هناك موسم للعمل, كأيّام الأعياد كما في "النوروز" ونحوه, يبقون مشغولين إلى الحدّ الذي لا يعودون يفهمون ولا يدركون معنى الجوع؛ فالظهر للعشاء أم للغداء؟! بل يمرّ الوقتُ ولا يأكل شيئاً أصلاً, ثمّ يأتي الليل دون طعام, واحدٌ من هؤلاء الأشخاص من أقربائنا, شابّ يعمل في الخياطة, ولا يأتي إلى منزله قبل الساعة العاشرة مساء.. وهكذا, نسأل الله أن يبارك له في صحّته, فهو خيّاط قمصان, فقبل النوروز بأيّام ـ في برج الحَمَل ـ يكتظُّ محلّه بالزبائن, ويغرق في عمله على الدوام, فهو كان مديوناً, ومعيلاً, ولعلّه لأجل ذلك كان يفرط في العمل, وعل كلّ حال, فقد بقي يعمل لعدّة ليالٍ متوالية, دون طعام ولا نوم, حتّى أصيب جراء ذلك بسكتة قلبيّة, فحينما يكون عاشقاً لذاك العمل, لا يشعر بالجوع ولا يفهم معناه, نعم؟! ولا يعرف معنى النعس ولا يشعر بالحاجة إلى النوم! ولكن حينما أصيب بالسكتة.. فهذا ما لم يحسب له حساب, حينئذٍ يقول له الله: لا ضير, فأنا أوف لك دينك, ولا مانع من خياطة القمصان للناس, ولكن اعمل إلى حدٍّ لا تكون معه مهدّداً بالسكتة القلبيّة! وإلاّ فإنّ جميع ما تجمعه من خياطة القمصان ونحوها, لا يفي بعُشرِ مصاريفك فيما بعد!! بل أقلّ من ذلك بكثير, بل لا يبلغ الواحد في المائة! فكلّ عملٍ يعشقه الإنسان ويشتاق إليه, فإن أصبح الشوق شديداً فإنّ نفس هذا العشق سيعدمه التفكير بالنوم والأكل وما شابه ذلك, وعلى الإنسان أن يلتفت, ويُبقي ميزان المسألة في يده, وإذا أراد الله أن يحرّك الإنسان نحو كماله, وعلى الإنسان أن يبقى معتدلاً في أموره, خيرُ الأمورِ أَوسطها[12] دونَ إفراطٍ ولا تفريط, وأفضلُ أمّة هي الأمّة الوسطى, وهم الأفراد المعتدلين, دون مرض ولا ألم, ولا اضطراب, وإنّما يسلكون ويجتازون الطريق بنشاط, فيعيشون عمراً طويلاً, ويتمتّعون بالسلامة والصحّة, المرحوم القاضي ـ رحمة الله عليه ـ كان أحد الأوتاد في الأرض, قد عاش أربعاً وثمانين عاماً, التفتّم؟! الحاج هادي الأبهريّ, والذي تكلمّنا عنه في كتابنا ونقلنا عنه بعض المسائل, كان رجلاً متفتّح العقل, وكان بيننا عقد أخوّة, نعم, لم يكن من العلماء, وإنّما كان أهل تقوى وما شابه ذلك, فقد كانَ كذلك, حيث عمّر كثيراً, ولكن حتماً يحتاج إلى رعاية العديد من الأمور, وضبط المسائل وميزانها, بحيث لا يكون في حياته أيّ شيء من العجلة أو الحدّة, وإنّما يسلّم الأمر إلى الله, ويعمل بالتكاليف التي أعطيت إليه ويلتزم بدستوراته.. وبعد ذلك {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ } [13]

اين همه الله تو لبيك ماست                                                    
اين دعا وسوز ودردت پيك ماست
[14]

فلو لم يكن الله ينظر إلينا بنظر الرحمة, فلم أجرى على لساننا هذه الكلمات والاستغاثات؟! ولو لم يلتفت الله إليك بعين الرحمة فلم كان قد أوجد عندك هذا الألم؟! فألم البحث عن الله, إنماّ هو بسبب نظرة المحبّة الإلهيّة, فلا نشكو ونقول: إلهي! نحن نحبّك ولكنّك لا تجيب؟! فالله يقول لنا: قد أعطيتك الإجابة قبل أن تكون قادراً على الدعاء والكلام!! ها؟! فأنا قد استجبتُ لك من قبلُ, ودعاؤك لي هو من أثر تلك الاستجابة, وحينئذٍ, اسجد لله, سجدة شكرٍ وقل: إلهي! أنا فداء لك, فإنّك مع كلّ جمالك, ومع جلالك, ومع ما أنت عليه من الكمال نظرتَ إلى هذا العبد المسكين, ورحمتني.. وخلّصتني وسط هذه الدنيا المليئة بالفتن.. والمشحونة بالأفكار.. والاضطرابات.. والتخيلات الباطلة, فكلّ هؤلاء الأفراد المخلوقين من النطفة الباردة, يسيرون ليوصدوا رقابهم في جهنّم بسبب غوصهم في عالم الطبيعة, ويمضون أربعين سنة أو خمسين, أو مائة سنة من عمرهم, فيأتون عمياً ويذهبون عمياناً, لكنّك فتحت أعيننا ونوّرت بصيرتنا, فالحمد لله أن أعطيتنا البصيرة, وهبت لنا بصيرة جعلتنا نرى أمام أقدامنا, فلك الشكر على هذه البصيرة التي أمددتنا بها, وها نحن نسعى لنيل الباقي, ونطلب منك ونتوسل إليك, لأنّ هذا الاستعداد الذي وهبتنا إيّاه هو لك كذلك, وكلّ شيء لك, ونشكرك على ما أفضت علينا من إمكانيّة التكامل التدريجي وبلوغ فعليّاتنا, فلك الشكر على أن بصّرتنا وأريتنا الطريق وهديتنا, فالحمد لله, ونسألك أن تأخذ بأيدينا وتوصلنا كما كنت قد ابتدأتنا بالإنعام {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [15] فالله هو الذي أوجد كلّ المخلوقات على أحسن وجهة وأتمّ صورة, ثمّ لم يتركهم بعد ذلك, بل هداهم إلى كمالهم المرجو, فالحمد لله على أن شملتنا بنظرتك الرحيمة وجعلتنا نفكّر بهذا الشكل وبصّرتنا بهذا الطريق, فالهداية للوصول إليك بيدك أنت, فخذ بأيدينا! وخذنا! فنحن عبيدك.

از گدا جز گدائي نيايد بنده را پادشاهى                                                                       
 نشايد من گدا من گدا من گدايم
[16]


وهو من أشعار المرحوم الحاجّ حبيب الله الخراسانيّ العارف الكبير: فأنا مستعطي ونحن مستعطون.. وأنت غنيّ.. نحن فقراء وأنت الغنيّ.. نحن العبيد وأنت الربّ.
وهنا نحن قد أتينا إلى صراط العبوديّة بأمرٍ منك وبدستورك, فلا تقطعنّ نظر ربوبيّتك ومحبّتك عنّا! واجعله متّحداً معنا دائماً, وخذ بأيدينا وأوصلنا إلى حيثُ الاطمئنان والسكينة والنور والرحمة المحضة, فلا اضطراب ولا فلان ولا غير ذلك, بل أزلْ كلَّ ذلك! فكلّ ذلك أمور جزئيّة, ولا وزن لها حينما يطلع النور الإلهيّ ويشرق, ولا يبقى مجال للاضطراب, فما معنى الاضطراب حينئذٍ؟! فإنْ تضاء شمعة في غرفة معتمة فلا يعود هناك عتمة أصلاً......


[1] ـ بحار الأنوار 74: 27, مطبعة مؤسسة الوفاء بيروت

[2] ـ تفسير الميزان 5: 270 مع اختلاف يسير.

[3] ـ رسائل الشهيد الثاني الشهيد الثاني: ص 138, وعوالي اللئالي ج4 ابن أبي جمهور الأحسائي: ص 113, ص 113, وبحار الأنوار ج56 العلامة المجلسي: ص 163, و ج60 ص 332, و ج67 ص 59, ص 161.

[4] ـ عوالي اللآلي ابن جمهور الأحسائي4: 97 وبحار الأنوار 6: 306, والمعجم الكبير 7: 309 وغيرها لكن مع اختلاف يسير.

[5] ـ سورة الرعد ذيل آية 28.

[6] ـ نهج البلاغة 4: 11 شرح الشيخ محمّد عبده, طبعة دار المعرفة, بيروت.

[7] ـ شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد 10: 141, طبع دار إحياء الكتب العربية.

[8] ـ مجمع الزوائد ج10 الهيثمى ص 248, و المعجم الأوسط ج1 الطبران ص 151, و العهود المحمدية الشعران ص 611, وتاريخ بغداد ج9 الخطيب البغدادي ص 381, والموضوعات ج3 ابن الجوزي ص 132, و الكشف الحثيث سبط ابن العجمي ص 63 ولكن مع اختلاف يسير.

[9] ـ قل للتاجر الذي ليس في خاطره وباله إلاّ التجارة والتكسّب في عالم الاعتبار والتوّهم والتخيّل, قل له: أنْ يقلّل من رأس المال لأنّه لا فرق بين الربح والخسران في هذا العالم.

[10] ـ من خطب أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة, شرح محمّد عبده, 2: 161

[11] ـ الصمت والجوع والسحر والعزلة ودوام الذكر أمور خمسة تكمّل الأفراد الذين لم يكملوا في هذا العالم.

[12] ـ من حكم أمير المؤمنين عليه السلام, عيون الحكم والمواعظ لعلي بن محمّد الليثي الواسطي صفحة240. وعوالي اللآلي لابن أبي جمهور الأحسائي 4: 111, ومستدرك سفينة البحار1: 181.

[13] ـ سورة البروج الآية 20.

[14] ـ إنّ كلّ كلمة "يا الله" تتفوّه بها هي من الله قبل أن تتفوّه بها, وكل دعاء وحرقة وتألّم إنّما هو رسولٌ من الله إليك.

[15] ـ سورة طه الآية 50.

[16] ـ لا يأتي من الشحّاذ المستعطي إلا الاستعطاء, ولا يحسن للعبد السلطنة, فأنا مستجدٍ أنا مستجدٍ أنا مستجدي.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی