معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 101 إلى 200 > شرح حديث عنوان البصري - الجلسة رقم 179

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح رواية عنوان البصري

المحاضرة رقم 179

ألقيت ليلة الثلاثاء 17 جمادى الثانية 1431هـ في مدينة قم

سماحة آية الله

السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف                                           تحميل الملف الصوتي للمحاضرة

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين

    

ضرورة تنظيم الغذاء وإعمال المراقبة في ذلك

يتعرّض الإمام الصادق عليه السلام في حديثه لعنوان البصري عن التغذية وما يرتبط بها من مسائل, فلا بدّ للإنسان أن يهتمّ بهذه المطالب ويدقّق فيها, وينظّم طعامه وغذائه كي يخرج عن حالتي الإفراط والتفريط, فعليه أن يهتمّ بذلك ويدقّق فيه كي يتمكّن من بلوغ الهدف, ويكون قد أحرز إحدى المباني الهامّة جداً التي توصله وتبلغ به المراتب العالية.
فهذه المسألة مهمّة جدّاً, وقد يقع فيها السالك في الغفلة عادة, وينبغي أن يهتمّ السالك بها كما يهتمّ بمسائل أخرى.
ففي كثير من الأحيان كنت أقول للإخوان: إنّ فهم الإنسان للمسائل السلوكيّة قد لا يكون صحيحاً, ففهم أكثر الأفراد ليس صحيحاً ولا تامّاً؛ لأنّ المعادلات التي يقدّرونها ويفهمونها ليست دقيقة, وحينما يريدون رفع الموانع عن أنفسهم يتخيّلون أنّ أسباب رفعها خارجة عن إرادتهم, وكأنّ المسؤولية مرفوعة عنهم! والحال أنّه على الإنسان أن يُصلح نفسه ويرفع الموانع التي تمنعه من السير والسلوك بهذه الأمور التي قرّرها الله لنا, وعلينا أن نعبر الطريق ونسير ونسلك بهذه المسائل التي قررها الله لنا. وكثيراً ما كان يؤكّد المرحوم العلاّمة على هذه المسألة, والحال أنّنا نشتبه ونخطئ في تقديرنا لهذا المبنى. فمثلاً: حينما يبتلى أحدنا بالمرض والتعب ويقوم بالذهاب إلى الطبيب, يكون كلّ همّه هو الطبيب فحسب!! ولا ينظر المريض إلى نفسه, ولا يشعر بأنّ آليّة العلاج متوقّفة على التزامه هو بالعلاج, فلا يشعر في قرارة نفسه أنّه هو المسؤول عن معالجة نفسه وتطبيق ما يصفه له الطبيب, بل يكون نظره متوجّهاً نحو الطبيب فحسب, والحال أنّ وظيفة الطبيب هي مجرّد إعطاء الوصفة الطبيّة, فهو يشخّص المرض ويحدّد الشرائط اللازمة للشفاء.. وبعد ذلك لا يبقى شيء على عهدته!! بل عليك أن تقوم أنت بمراعاة العلاج المطلوب واتباع الوصفة التي علمّك إيّاها. ونحوه الكلام في عمل الجراح فهو يقوم بالعمليّة فقط, وجميع الأمور الضروريّة واللازم رعايتها بعد إجراء العمليّة إنّما هي على عاتق المريض نفسه. فعليك أن تراعي جميع المسائل بنفسك, فالمداراة والرعاية اللاحقة أهمّ من العمليّة نفسها, وإلّا فعدم رعاية ذلك يؤدّي إلى موت المريض.
وعليه فإحدى المباني الأساسيّة والهامّة بشكل دائم ـ والتي يخطئ فيها الجميع والتي حذّر منها الأولياء كثيراً ـ هي مسألة إحالة ما هو واجب عليّ على الآخرين, وبالتالي نفي المسؤوليّة عنّي! وكثيراً ما كنت أرى ذلك في زمن المرحوم العلاّمة. نعم, كان مسلك العلامة أنّه لا يفسح المجال كثيراً للأفراد أن يتمادوا في ذلك, وكذلك المرحوم الحدّاد. نعم المرحوم الحدّاد لم يكن لديه مجال كبير للتكلّم مع الأفراد في هذه المسائل, وأمّا العلاّمة فكان يتصدّى لبيان هذه المسائل بشكل مسهب ودائم.

    

عدم الاهتمام بخوارق العادة

فمن المسائل الشائعة التي يخطئ فيها الجلّ لولا الكلّ هي توهّمهم خوارق العادات وترقّبهم حصولها دائماً, فيخال لهم أنّه ما إنْ يردوا هذه المدرسة ويدخلوا هذا البيت سوف ينحلّ كلّ شيء, فسيرون أنّه سيشقّ القمر وتتبدّل الشمس ويغيّر الأفكار ويردّ ويصلح كلّ شيء!! وحينما كان يعترض على بعض هذه الأمور كنت أقع محلّا للإشكال والاعتراض, فبعضهم كان يقول لي: أنت لا تعرف قدرة الأولياء وغيرتهم!! فلو كان مسلك الأستاذ قائماً على شقّ القمر لكان الأولى أن يقوم النبيّ والأئمّة بذلك بشكل دائم.. فالإمام الصادق عليه السلام كان يجمع تلامذته وكان يعرض عليهم مطالب متعدّدة ويعلّمهم ويفهّمهم الأمور, ولم تكن المسائل فقهيّة فقط, بل أخلاقيّة ومعرفيّة وعقائديّة... والحال أنّنا ننظر إلى الجانب الفقهي فحسب, ولا ننظر إلى شخصيّة الإمام السلوكيّة ونحو حركته إلى الله وكيفيّة بيانه لهذه الحقائق للآخرين.
واقعاً كنت أشاهد تأكيد الوالد على ضرورة مطالعة السيرة وتاريخ الأئمّة عليهم السلام, فلماذا كان يؤكّد على مطالعة تاريخ الأئمّة عليهم السلام, والاطلاع على مسلك الأئمّة ومنهجهم ونحو ارتباطهم مع من حولهم, بل مع أعدائهم ومخالفيهم. فهل كانوا يتكلّمون من منطلق القدرة والاقتدار والإجبار والإرغام للآخرين فحسب؟!! ينبغي التأمّل كثيراً بهذه المسائل.. فحينما كان الإمام عليه السلام يقابل الطرف المخالف فهل كان ينتخب لحناً خاصّاً من الكلام بشكل مستعلٍ؟! يعني: هل اختلف حال أمير المؤمنين عليه السلام وأسلوبه في الكلام بعد وصوله إلى الحكومة عمّا قبل الحكومة!! لا بالطبع.. بل ظلّ يتكلّم ويضحك ويؤنس الآخرين, وكان يوعظ ويتودّد ويبيّن تماماً كما كان... هل تتخيّلون أنّه ما إنْ وصل إلى الحكومة أصبح يعنّف ويغلّط ويعيّر؟!! هل كان الأئمّة عليهم السلام كذلك؟! أم بقيت تلك البسمة واللطافة والملاطفة والمرافقة والظرافة تماماً كما كانت, وبقيت مستمرّة على ما هي عليه, بحيث إنّ الذين كانوا يردون مجلسه, لم يكونوا ليعرفوا من هو أمير المؤمنين, فيسأل أين هو خليفة النبي؟! والحال أنّه كان حاكم بلاد الملسمين!! بل رسول الله نفسه حينما بلغ مرحلة الرسالة لم يتغيّر حاله أبداً. نعم هذا هو السير والسلوك, وكلّ إنسان حسب مكانته ورتبته وشأنه. فعلى كلّ شخص منّا أنْ يطبّق هذه المسألة على نفسه, فنحن نبيّن هذه المسائل بشكل جيّد, ولكن لا نطبقّها على أنفسنا, وحينما تصل المسألة إلى أنفسنا يتغيّر كلّ شيء. علينا أن نراقب أنفسنا دائماً, ونقيس حالها قبل وبعد أن نستلم أيّة مسؤوليّة أو نبلغ مكانة اجتماعيّة معيّنة, فهل تغيّر حالنا؟ لِمَ يتغيّر؟! لماذا كان يذهب أمير المؤمنين إلى منزل الأيتام ويزورهم ويلعب معهم؟! لماذا؟ لأنّه يريد أن يسأل نفسه: يا علي! هل ما زلت أنت ذاك الشخص السابق, أم أنّك تغيّرت؟! فأنت وصلتْ إلى هذا المنصب إلى أيّام قلائل, و ستتركه بعد ذلك, يعني: سوف تموت إمّا بعد سنتين مثل أبي بكر أو بعد عشر سنين مثل عمر أو بعد اثنتي عشرة سنة مثل عثمان أو بعد أربعة سنين مثل أمير المؤمنين.. فستموت إما بسكتة أو بضربة على رأسك وأنت في محرابك, ولا بدّ أخيراً من أن تمضي وتمشي وتخلع هذا اللباس المادي..

    

أسلوب أهل البيت هو الاعتماد على المراقبة لا خوارق العادة

على الإنسان أن يدقّق ويتعلّم من أسلوب أهل البيت ومسلكهم, والحال أنّنا ننظر إلى المسائل الخارجة عن العادة فحسب, فنتوقع مجيء أمر من الأعلى فنسيطر على الأمر بحيث لا يعود للشيطان مجالٌ للورود ونحكم الأمر بيدنا. عزيزي! لا جدوى من كلّ ذلك, بل ليس في ذلك أيّة منقبة. يعني: لو كان الأمر كذلك فبإمكان أيّ إنسان أن يقوم به حينئذ.
ذهبت مرة إلى مكان فسألني أحدهم: سيّدنا أريد أنْ تعطيني شيئاً يساعدني على السيطرة على حالي, فحينما أنظر إلى النساء أو الدنيا وما شابه ذلك, أشعر بتمايل وانشداد وانجذاب نحوها, فأريد أن أغلق هذا التعلّق القلبي. عزيزي! أنت حينما تنظر إلى الطرف المقابل وتتأمّل به من الأعلى إلى الأسفل!! ثمّ تقول: أريد أن أتخلّص من هذه المشاعر ـ حيث كنّا في إحدى البلاد العربيّة والحجاب ليس إلزاميّاً ـ فجرّب أن تجاهد نفسك وتمنعها عن النظر, وبالتدريج ستجد نفسك تهجر هذه المشاعر. يعني: نحن نريد أن نتأمّل بالطرف المقابل من الأعلى إلى الأسفل, ثمّ بعد ذلك نريد ذكراً من السيّد كي تذهب هذه الحالة. عزيزي! إمّا أن تسلك هذا الطريق وإلّا تبقى, ولا مزاح في ذلك.
فلم أرَ المرحوم الوالد أو السيّد الحدّاد في أسفاره إلى إيران, إذ كثيراً ما كان يأتيه نساء يطلبون منه لقاء وجلسة ـ وهذه المطالب لم تكن في بالي ولكن الآن خطرت على بالي حيث كان عمري 18 سنة ـ فيجلسون معه ساعة أو أكثر, وطوال تلك المدّة لم أجده نظر ولو مرّة واحدة إلى وجه تلك المرأة!! أمّا نحن فنشرع مباشرة: سلام عليكم, كيف حالكم؟ كيف أوضاعكم؟ كيف دروسكم؟ ثمّ ثمّ ... فهل نتوقّع مع هذه الحالة أن لا يحصل لنا أي تخيل؟! هل ممكن ذلك؟! لا يمكن, فحينما آخذ السكين وأمرره على يدي فسوف تجرح ولا عجب.. فحتّى لو قلت: لا تجرحي!! فهي ستدخل في اللحم وستجرح.. فهذا النمط من التفكير لا يوصلنا إلى شيء أبدا, ولا فائدة فيه أصلا. هناك مطلب ورد ذكره في كتاب الروح المجرّد ـ حسبما أتصوّر أو في إحدى مخطوطات المرحوم العلاّمة أو فيهما معاً ـ :يأتي شخص إلى المرحوم القاضي يطلب منه ذكراً يساعده على أن لا تقع عينه على غير ذي محرم, ويأخذ منه هذا الذكر بحيث تغلق عينه حينما يواجه امرأة بشكل تلقائي. ويُلاحظ أنّه لا فائدة في ذلك أصلاً, ولا يترقّى السالك أبداً عن هذه الرتبة, فأنت مثل الحجر ولا تفاوت بينك وبينه, فلو وضعنا الحجر جنب امرأة أو رجل فهل يشعر بشيء؟ لا .. فهو حجر وجصّ..
فحينما يضع الإنسان نفسه في حصن من هذا القبيل, فسوف لا يترقّى ولا يعود يجاهد نفسه, لذلك يقول الأولياء: إنّ السلوك يرجع إلى المراقبة بنسبة تسعين بالمائة وبنسبة عشرة بالمائة فقط يرجع إلى غيرها من ذكر أو ورد أو صلاة السحر وغير ذلك من المطالب التي سوف نبيّنها إنْ شاء الله, أي: نسبة تسعين بالمائة للمراقبة والتدقيق والانتباه والحذر. لماذا يؤكّد العظماء على أنّه لا ينبغي أنْ يكون هناك عصبيّة في علاقاته؟ لأنّ وقوع حالة واحدة من العصبيّة تزيل كلّ مجاهداته وتذيب آثارها, هذا إنْ لم يخسر أكثر, فكسر قلب مؤمن تُذهب كلّ شيء, بل تجعلك مديناً.. وقول كلام مخالف وعدم ضبط اللسان يزيل كلّ مجاهدات الإنسان, ويميت آثار عباداته وصلاته التي صلّاها ليلاً ويذهب بأثر كلّ ذلك, بل سوف تتبدّل هذه المجاهدات تدريجيّاً إلى حالةٍ توجب تثبيت تلك الكدورة في قلب الإنسان, ويا ليتها لم تكن أصلا, يعني مسائل المجاهدات الليليّة والعبادات تصبح مادّة لإلصاق كدورات النهار في ذاته ونفسه, فيا ليته لمْ يأت بالصلاة ليلا ولم يداوم على الذكر ولم يقم بالأوراد الليليّة والسهر... فعدم القيام بأعمال الليل مع المخالفة في النهار أسهل وأهون من القيام بها!!
نعم هكذا هي تصوّرات الأفراد بالنسبة لهذه المسائل, والحقير كان يرى أنّ المرحوم العلاّمة يهتمّ بهذه المسائل أكثر من الأمور الأخرى, والحال أنّ الأفراد الذين كانوا يتكلّمون مع العلاّمة وكذلك السيّد الحدّاد كانوا يميلون للأمور الخارقة للعادة, إلّا أنّ المرحوم الوالد والسيّد الحدّاد لم يهتمّا بهذه الأمور, فكانوا مثلا يأتون ويطلبون من السيّد الحدّاد أن يدعو لشخص قد أخذته الشرطة هناك, فيطلبون منه الدعاء له كي لا يتأذّى. يعني: ماذا يفعل له السيّد الحدّاد!؟

    

ضرورة التسليم للمشيئة الإلهية

كم كان الأولياء يصرّحون بضرورة أن يرضى الإنسان ويسلّم للمشيئة الإلهيّة, ولا يكون له أيّ ترقّب وتأمّل في غير محلّه من الله أبداً, فكثيراً ما كانوا يأتون ويطلبون منه أن يتصرّف في حلّ مشكلة لأحد, فيميل رأسه إلى الأسفل, ثم يلحّ ذاك الشخص.. عزيزي!! ألم تره قد حنا برأسه؟! فلماذا تعيد السؤال ثانية وتلحّ عليه بالدعاء؟! فبعد أن يلحّ ذاك الشخص, يقول له: حسناً.. إن شاء الله ينحلّ الأمر, فبعد أن ينحل الأمر ويأتي الشرطي لا يلتفت له ولا يتمكّنوا من أذيّته يفرح كثيراً ووو, عزيزي أنت الذي خسرت حينئذٍ.
أمّا البصير فيذهب إلى السيّد الحدّاد ـ آمل أن تسمعوا جيّداً ـ هذا ما رأيته وسمعته من الأولياء, فالبصير ليس فقط لا يطلب, بل هو الذي يريد تقدير الله كما هو هو, اللهم أجره عليّ كما تريده أنت, فلا يطلب تغيير التقدير الإلهي, حسبما تشتهيه النفس وتتلذّذ به, فالنفس هي التي تطلب تلذذّها. يعني: حينما يدعو لنا السيّد الحدّاد حسب رغبتنا وبما يؤدّي إلى تلذّذ النفس يفرح الإنسان ويشرع بالقول: كم هو عظيم السيّد الحدّاد؟! فحينما يشفي ويدعو ويساعد فهو جيّد وهو عظيم وهو ولي!! ولكن إن لم يساعدنا فنقول: هو إنسان عادي!!
البصير هو الذي يطلب إجراء التقدير الإلهي كما هو, هذا هو طريق الأولياء. حينما يفكّر الإنسان بهذا الشكل فهل يطلب منه أن يغيّر له التقدير؟! لا أبداً, فقد ارتاح. هذا هو الدرويش, الدرويش هو الحاذق الذي يسلّم أموره إلى تقدير الله؛ إلهي! أنت الذي خلقتني, وأنت مطّلع على جميع أحوالي, وأنت تعرف حالي ومكانتي وظروفي, فكلّ ما هو لديّ أُوكله إليك, فقدّر ما تشاء وأنا راضٍ بما تشاء, فلا أضيف شيئاً منّي, ولا أريد الزيادة ولا أريد أن أضيف شيئاً أو أتدخّل بتلك المشيئة, لا ... فأنت تريد ذلك لي، أنا أقبل, وإن أقفلت هذا الطريق فأنت أخبر.. أنت أعرف... هكذا كان المرحوم والدنا يتعامل مع أستاذه, فلم يكن يطلب من أستاذه هذه المسائل.
ذات مرة أعطى المرحوم الحدّاد للوالد مطلباً, إلّا أنّ الوالد لم يستفد منه إلّا مرّة واحدة في طوال حياته, حيث كان في حالة لو لم يقم بتلك المسألة لكان يعدّ متخلّفاً, وكم كان لديه القدرة على حلّ المشاكل ولكنّه لم يكن يفعل!! لماذا؟ لأنّه يريد أنْ يتكامل, لا يريد أن يخسر نفسه, بل يريد أن يستفيد الإنسان بالحدّ الأعلى والأكثر, هذه هي الاستفادة ولا تكون إلّا بهذا الشكل وبهذه الحالة.
نعم, قد ابتليت ذات مرّة بمسألة فقلت في نفسي: إنّي مطّلع على ما أعطاه السيّد الحدّاد للوالد, فلأتصرّف وأعمل..! وفجأة جاءني نداء بأنّه هل هو لك أم لأبيك؟ فهذه سرقة. فأنت اطّلعت على أمر أعطاه السيّد الحدّاد لوالدك, فاطّلاعك هل يسيغ لك ذلك؟! لا أبداً. فهل يحقّ للإنسان أن يمدّ يده على كلّ ما هو مطّلع عليه.. وهذا الهاتف الذي يهزّ الإنسان من داخله إنّما هو من الله. فيمكن أن يقول الإنسان: الذكر ذكر, وهو عامّ للجميع, والورد ورد عامّ للجميع أيضاً ويمكن أن أقوم به. وبالنسبة لنا نحن الطلبة نجري البراءة والإباحة والحلّيّة. بل علينا أن لا نجري هذه الأصول في هذا الموضع, بل المحلّ هنا يقتضي الاحتياط والتوقّف, علينا أن نفكّر بهذه المسائل ونتوقّف, فهل هي داخلة في مشيئة الله أم لا؟! وإلّا فالاطّلاع على الأسباب الغيبيّة والتصرّفات وخوارق العادات ليس دليلاً على جواز الاستفادة منها بشكل عبثي وكيفما كان وحسبما تشتهيه. فهل مجرّد اطّلاعك على هذا الذكر الخاصّ وعلمك بتأثيره دليل على جواز إعمالك وتصرّفك؟! ما هو الدليل على ذلك؟ فمتى كان الاطّلاع دليلاً على جواز الإعمال؟! أبداً, فقد أكون مطّلعاً ولكنّ الله يريد أن يمتحنني بأن لا أستفيد من هذا الذكر الخاصّ, فلو لم أكن مطّلعاً لما صحّ الامتحان أصلاً.. فلو اطّلعت على مكان مفتاح سيارة فلان, فهل هو دليل على جواز أخذها وقيادتها!!
فقد يكون إظهار هذه المسائل للإنسان امتحاناً له كي لا يستفيد منها مع علمه بها. لذلك علينا أن نكون أذكياء وحاذقين في المطالب التي تلقى على مسامعنا لنحدّد: أهي لنا أم لغيرنا؟
وهذه المسائل كنت أسمعها زمن السيّد الحدّاد وكذلك الشيخ جواد الأنصاري, كنت أسمعها وكنت أرى أنّ الأكثر يميلون إلى إعمال خوارق العادات.
إذن السلوك هو أن يطبّق الإنسان نفسه مع ما هو مقدّر من الله, ومسألة التغذية والعلاقات والمعاشرات والمسائل الشخصيّة غير خارجة عن هذه القاعدة, وعلينا أن نلتفت إلى هذه المسألة, وهذا هو الامتياز الذي ميّز مدرسة الآخوند الملّا حسينقلي الهمداني وميّزه عن جميع المدارس الأخرى, فهذه هي المدرسة التي توصل استعدادات الجميع إلى الفعليّة, ولا نلحظ لهذا المسلك أثراً في المدارس الأخرى, فهناك التوقّع للأمور غير العاديّة هو الأصل. لذلك على الإنسان أن يرفع المسؤوليّة عن عهدة المسائل غير العاديّة ويلقيها على الأمور العادية, فلو نعمل على هذا الأساس لا نعود نحتاج إلى كلام ونصيحة وجواب رسالة.. فالمرحوم العلاّمة قال: نحن بينّا ما يريده السالك للوصول أكثر من عدّة مرات.. قد بينّاه عدّة مرّات, و أوضحناه عدّة مرّات, فكم عملنا بهذه المطالب وكم راعينا هذه المسائل؟ هل عملنا بما كانوا يبيّنوه؟! هل عملنا بالمباني التي بيّنوها خلال عشرات السنين؟ فما تكلمّوا به هو حقيقة الصدق والصفاء والإخلاص.. فقد تكلّموا مراراً وتكراراً ولعشرات المرات.. ألم يتكلّموا بذلك؟ ألم يقولوا: على الإنسان أن يراعي الصدق؟! عليه أن يراعي الحق والحقيقة مع الجميع ومع كلّ فرد..
كم كان يتّفق أن أرى زمن المرحوم العلاّمة العديد من الأشخاص معوجّي التفكير, كانوا لا يراعون هذا الأصل الهامّ. فالسالك هو الذي لا يرى فرقاً بين شخص وآخر في تعامله مع الآخرين, ولا يتفاوت بالنسبة له شخص مع آخر, وعدم رعاية هذه المسائل هي التي أدّت إلى الفجائع التي حدثت بعد موته رحمه الله. فلو كان هناك صفاء لما كان حدث ما حدث. فالسالك صادقٌ دائماً, وحينما تسأله مباشرة يقول: هذا هو المطلب, ولا يميل يميناً وشمالاً, كان يقول: مباشرة هذا هو الأمر, ولكنّ بعضهم كان يلوي الحديث ويغيّر ويقول: لا أدري ووو, كلّ ذلك بسبب أنّنا لم نفهم أنّه على السالك أنْ يرى الله ولا ينظر إلى شيء آخر, فلا يرى إلّا الله عزّ وجلّ.
كان رسول الله صلّى الله عليه وآله في إحدى المعارك يستريح جانباً, فجاء إليه رجل من المشركين منتهزاً الفرصة لقتله, فرماه على الأرض وقال للنبيّ: من الذي يمكن أن ينجيك من يدي يا محمّد؟! نعم, رسول الله مصداق لهذه المسألة التي بيّنتها أوّل كلامي, فهو موحّد وصادق وليس لديه حالتان: من الذي ينجيك يا محمّد؟ فقال له النبيّ: الله الله!!
فلم يقل له: انزع سلاحك كي نتحدّث ونتفاوض, ولم يحاوره ويفاوضه وووو, بل مباشرة قال له: الله. قالها بقلب متبسّم ومطمئن, قال: الله, فتعجّب ذاك المشرك, وتخيل أنّه لا يوجد إلى سيفه وعضلاته, فما إنْ رفع سيفه ليضرب به النبيّ, تعثّر ووقع على الأرض, فقام النبيّ فوق رأسه, وقبض عليه وقال له: من ينجيك منّي الآن؟ فقال: أنت. فقال له النبي بل قل: الله! قل: كما قلت أنا, فتعجّب وأسلم.
نعم وليّ الله حينما يكون في حالة عاديّة يتكلّم بنفس تلك الحالة التي هي في أشدّ الأمور حساسيّة, دون أنْ يتغيّر ودون أن يحسّ بشيء, فو الله وبالله وتالله ليس هناك حالات مختلفة في قلب النبيّ, فقول النبيّ في الحالات العاديّة حينما يقول: الله لها لحن ونبرة معيّنة, وهي بعينها التي يقولها حينما يكون السيف مرفوعاً فوق رأسه. فاللحن في الصوت لا يتغيّر أصلا بين هاتين الحالتين. فحينما يكون السيف بيد العدوّ نقول: الله, ويكون ذلك بلحن معين, ولكن حينما يكون السيف في يدنا يتغيّر لحن صوتنا في قولنا: الله. فحينما نصل إلى مرادنا نتصرّف بشكل معيّن, وحينما نفشل نتصرّف ونتحدّث بشكل آخر. وحينما يكون الأمر لنفعنا يتغيّر حالنا عمّا لو كان الأمر بضررنا.. وأمّا النبيّ والأئمّة وأولياء الله فلا يمزحون في هذه المسائل.
ونحن علينا أن نروّض أنفسنا في هذه المسائل والموارد المختلفة, والإنسان يقدر على ذلك في الظروف المختلفة, فنروّض أنفسنا على كلام رسول الله, وبعد عدّة أشهر نرى أنّه هناك مسائل تغيّرت وتبدّلت.. صحيح؟!

    

توصيات للأشهر الثلاثة

على كلّ حال إنّ ما عرضناه من المطالب لعلّه كان كمقدّمة لعرض بعض المسائل الأخرى من توصيات خاصّة لاستقبال شهر رجب, فلياقة الدخول في هذا الشهر تستدعي زيادة المراقبة وتقتضي رعاية خاصة في هذه المسائل.
ففي شهر رجب ـ بالخصوص ـ وكذلك شعبان و شهر رمضان, فما استفدته من كلام الأولياء هو أنّ هذه الأشهر الثلاثة تحتاج إلى مراقبة واهتمام أكثر من سائر الشهور, نعم المراقبة أمر عام ودائمي وشامل لكل أيّام السنة, ولكن لهذه الأشهر خصوصيّة, فالعظماء يوصون أن يبدأ الإنسان بالتفكير بكيفيّة وآليّة الدخول في هذه الأشهر المباركة, ويشعر بأنّها مميّزة عن سائر الشهور؛ كي يتمكّن من الاستفادة منها.
كنت أرى المرحوم العلامة رضوان الله عليه, في السنوات التي كان فيها في طهران, وذلك بعد رجوعه من النجف؛ حيث كنت لا أزال صغيراً.. كنت أراه مع عدد قليل من أصدقائه يوضّح لهم في تلك الليالي بعض النصائح والتوصيات, وكان يشرح ويبيّن ويترجم لهم بعض أدعية شهر رجب وبالخصوص دعاء {خابَ الوافِدُونَ عَلى غَيْرِكَ، وَخَسِرَ المُتَعَرِّضُونَ إِلاّ لَكَ، وَضاعَ المُلِّمُونَ إِلاّ بِكَ، وَاَجْدَبَ الْمُنْتَجِعُونَ إِلاّ مَنِ انْتَجَعَ فَضْلَكَ، بابُكَ مَفْتُوحٌ لِلرّاغِبينَ، وَخَيْرُكَ مَبْذُولٌ لِلطّالِبينَ...} ومع الأسف هذه المطالب ليست في متناول اليد فعلاً.

    

تقليل الطعام في هذه الأشهر

ومن الأمور التي كان يهتمّ بها كثيراً هي مسألة الطعام والأكل, حيث كان يقول: في هذا الشهر خصوصاً، وكذلك في شهري شعبان و رمضان، ينبغي للسالك أن يغير أسلوب أكله, فيكون أكله خفيفاً ليساعده على القيام بالعبادات, ففي هذه الأشهر الثلاثة عليه أن لا يشعر بالشبع ولا يشعر بالثقل، فلا يشعر بأنّ الغذاء مسلّط عليه, وأنّ المعدة تشغل باله, وهذه المسألة مهمّة ومؤثّرة جداً لجلب الفيوضات والجذبات الإلهيّة، وخاصّة في شهر رجب. فما سمعته في تلك الجلسات أنّه: لا يتوقّع السالك أن يحسّ ويشاهد ما قسمه الله له من الفيوضات فيما لو كان مملوء البطن!! فلن يرى ذلك أصلا حينما يكون متخماً.. لذلك من الجيّد أنْ ينام الإنسان باكراً في شهر رجب, فالطلبة ومن له أشغال كثيرة أو عمل ودوام في المكتب, عليه أن ينظّم ساعاته بحيث تختلف حياته في رجب عن سائر الأيّام, فليقض أعماله ودروسه وأشغاله في النهار، بحيث ينام باكراً وبشكل مريح وخفيف في الليل, وكذلك لو كان لدى الطبيب عيادة فلينظّم أموره بهذا الشكل, يعني عليه أن ينظّم حياته وعيادته, والله يساعده إن شاء الله, فحالة التشويش والاضطراب النفسانيّة تؤثّر عليه جداً.
لا بدّ وأن يكون الأكل في شهر رجب خفيفاً, فيأكل أوّل الليل بعيد الغروب مباشرة ولا يعود يتناول وجبة أخرى, فأكثر التنزّلات التي شوهدت في شهر رجب من الجذبات والنفحات التي تأتي إلى السالك إنّما هي في ليالي شهر رجب, بخلاف شهر رمضان في أثناء الصيام نهاراً. لذلك لا يخسرنّ السالك هذه المسألة.

    

النوم والاستيقاظ باكراً

كذلك مسألة النوم, فلا يؤخّر نومه بل عليه أن ينام باكراً بحيث يستطيع أنْ يستيقظ على الأقل قبل الفجر بساعتين, فذاك الزمان أي آخر الليل قبل الفجر هو الذي ينفع الإنسان كثيراً.
وعليه أن ينظّم أموره الخاصّة بحيث لا تؤثّر عليه وعلى تركيزه ومراقبته, فرعاية هذه الأمور تزيل التعب عن الروح وتنشّط النفس وتعطي السالك نشاطاً روحياً, والذين يقولون: على الإنسان أن يقوم بالتهجّد ويأتي بالأذكار والأوراد حتّى مع التعب.. فيقوم الليل وهو متعب ومرهق.. فهذا اشتباه وخطأ, فالفيوضات مرتبطة بهذه المسائل.

    

قلة الكلام وعدم الانشغال بالأمور الثانوية

كذلك مراقبة الكلام وكيفيّته التحدّث, فمن يكثر من الكلام, ففي شهر رمضان عليه أنْ يتكلّم نصف المقدار, أو الثلث... ويقلّل قدر الإمكان.. فيشعر حينئذ من نفسه بالتغيّر.
كذلك مسألة التصوّرات, فعلى السالك أنْ يمنع نفسه من انسيابها إلى التخيّلات والتصوّرات, فلا يفكّر بالذي لا ينفعه أصلاً.. فلا يفكّر في الأمور غير المفيدة, فما دخلنا نحن بتلك الحوادث والمشاكل و... فهناك أناس متصدّون لهذه المسائل, وأما نحن فلا دخل لنا بها, وعليه فلماذا يزعج الإنسان نفسه بها؟ فإحدى المطالب التي كان يؤكّد الأولياء على ضرورة الالتزام بها ترك متابعة الأخبار وسماعها بشكل نهائي؛ فلان قال كذا.. أو اتفق كذا في ذاك المكان.. فجميع ذلك لا ينفع, فعلاوة على أنّ سماعنا لهذه المسائل لن يؤثّر في تغيير الواقع، فإنّها ستأخذ توجّهنا وتخرّب عقولنا.. والحال أنّه لم يكلّفنا أحد بهذه الأمور, نعم في بعض الأحيان يكون تكليف الإنسان في بعض المسائل, وأما أنت فمن الذي كلّفك بذلك.. أصلاً اترك هذا الأمر لغيرك، اتركه للذين عمدوا إلى صياغته وفعله.. فالله خلق أناساً وأعدّهم وجعلهم يتحمّلون عنّا هذه الأمور.. يتحمّلون عنّا مشاهدة الأخبار، ويبدون إعجابهم بها ويضحكون ويتبسّمون لهذه المسائل.. [يضحك] فيسمعون من الليل إلى النهار.. ويشاهدون ويسمعون من النهار إلى الليل, لقد خلق الله أناساً يتحمّلون عنّا ذلك, فليلاحقوا هذه المسائل هم!! وما دخلنا نحن بذلك, فليقوموا هم بأنفسهم. المرحوم الوالد كان يقول: لنلقِ بأفكار الدنيا على أهل الدنيا أنفسهم.. فلا نحرم أنفسنا من هذه المطالب التي لا تتحصّل بسهولة لأيّ شخص, بل ينبغي أن نبذل النفس والنفيس لتحصيل هذه المعارف والمباني والمطالب, فلنترك الأخبار وما حدث هنا وهناك, اتركوا عمل الدنيا لأهل الدنيا.. فهمُ الناس فقط وفقط في سؤالهم: ما الخبر؟ ما القصة؟ ما أحوالكم؟ عزيزي ما الفائدة بالتفحص والتحري عن الأخبار؟! عزيزي! اذهب إلى خبر تلك المسائل العالية والشامخة، لا هذه المسائل..
في تلك الأيّام كنت أقرأ من كلّ "ما هبّ ودبّ" [يضحك] وكنت أهتم بهذه المسائل, فكتب التاريخ القديم والمختلفة والبهائيّة والحروب, قرأتُ من الكتب ما يعادل متراً من الكتب المكدّسة حول البهائية, وما حصل وجرى وكيف ردّت.. والحروب و..., وذات مرّة رآني المرحوم العلامة أقرأ بكتاب "نگاه بتاريخ جهان"[1] فقال لي وهو ينظر إليّ: ـ التفتوا أيّ إكسير يمدّنا به العظماء والأولياء ـ قال لي: مطالعة هذه المسائل جيّدة, لا أقول ليست جيّداً, ولكنّ مع الالتفات إلى محدوديّة عمر الإنسان وقصر الفرصة التي يعطيها الله للإنسان, فلماذا يضيع وقته بالجزئيّات, والحال أنّ بإمكانه الوصول إليها من مقام الكلّية.
كذلك الحروب الصليبيّة والمسائل التي كنت أقرؤها... الاطلاع على هذه المسائل جيّد ولكن!! حينما يمكن للإنسان أنْ يفهمها من مقام السببيّة والحيثيّة العلّية, ويشرف على الأمور من الأعلى, فلماذا يذهب إلى الجزئيّات ويضيع عمره فيها.. لماذا؟ والحقيقة أنّي لم أقدر أنْ أفهم هذه المسألة في ذاك السنّ, ولكن بعد مضيّ سنين عديدة أدركت المسألة وفهمت حقيقة الأمر, والتفتّ إلى أنّه يمكن للإنسان أن يردَ مباشرة من باب الحيثيّة العلّية والسببيّة للحياة, أي من الأعلى ومن المشيئة ونقطة التقدير, فتصبح جميع هذه المطالب بالنسبة له كالطين والوحل لا قيمة لها.. حينئذ يكون توجّهه من الأعلى, تماماً كما قال النبي: الله الله.. تماماً كما كان ينظر أمير المؤمنين حينما كان يشجّع أصحابه، وكذلك يحثّ الأفراد الآخرين حينما يتكلّم مع الجيش ومع الجميع, فيقول للأفراد من حوله, تعالوا لأقول لكم وأخبركم.. هل تدرون ماذا سأقول لكم!! أريد أن أخبركم بأنّنا سوف نهزم ونخسر ونرجع إلى مكاننا!! طبعاً هذا التعبير منّي أنا, إلا أنّ هذا هو حال أمير المؤمنين, هكذا هو قلب أمير المؤمنين, فهو وفي وسط المعركة يعلمُ أنّه سيخسر, ويعلم بأنّ معاوية سيربح المعركة ظاهراً, ولكنّه مع كلّ ذلك يقوم بواجبه وينصح ويربّي ويبيّن ويقول سوف أطهّر الأرض... فقلبه مع الكلّية والعالم الأعلى, لا يتعلّق بالعالم الأدنى والمصاديق والجزئيّات, فلا تحصر نفسك وتحبسها في هذه الجزئيّات.. الذي ينظر إلى الجزئيّة دائماً يقول: فلان قال كذا, فلان واجه فلاناً بهذا, فلان قال كذا وكذا.. فحينما تصرف رأسمال نفسك وتبذلها في الأمور الجزئيّة, ثمّ تجد أنّ الأمور تتبدّل وترى أنّ فلاناً تغيّر وفلاناً خان وانقلب وفلان .... فتجده قد فكّر وخطّط ونظّم الأمور وبقي يفكّر لخمسة عشر يوماً متوالية وهو لا يعلم أنّه سيموت بعدها وسيرحل إلى تلك النشأة.. فهو كان يعلّق كلّ أمله على مجيء فلان... والحال أنّ فلاناً ارتحل وذهب! حينئذ يرى أنّ كلّ متاعبه طوال هذه الأيّام الخمس عشرة قد خسرها, وأما لو كان من الأوّل يعتمد على الله وعلى الإرادة الكلّية وعالم الملكوت الأعلى ويترك الجزئيّة, ولا يعتمد على المظاهر, لكانت النتيجة أحسن. فالعارف هكذا يفكّر دائماً.
تذكرون المرحوم العلامة حينما كتب في مقدّمة القانون الأساسي بأنّه على الحاكم الإسلامي أن يكون قد هجر عالم الكثرات والجزئيّة وعبر إلى الكلية؟ هذا هو معناه, أي عليه أن يرى الأمور بالنظرة السببيّة والملكوتيّة العالية والكلية, لا أنّه ينظر إلى الأمور معتمداً على فلان وفلان! بحيث يُصدم من تغيّر الأمور ويتعجّب..

    

عدم الاهتمام بسماع الأخبار

لذلك عليكم أن لا تشغلوا أنفسكم بالأخبار.. بل أن تناموا على طهارة وطهور, فهل النوم مع الأخبار هو النوم المطلوب؟ لا أبداً.. على السالك أن ينام وهو هادئ, ومن يظنّ أنّ تكليفه يقضي عليه أن يستمع ويتابع الأخبار فهو مشتبه, لا عزيزي! أبداً ليس الأمر كذلك, بل هي وظيفة أشخاص قليلين, بنسبة واحد من مليون وليس من ألف!! هل يمكنكم حينما يكون بالكم مشغولاً أنْ تناموا مستقرّين ومع كامل الصفاء؟! أبداً أبداً.. فالإنسان لا يمكنه أن يحمل في يده أكثر من حمل واحد, لذلك فإنّ أسوأ ما يقوم به السالك هو أن يستمع الأخبار ويتوجّه إليها, ويشغل باله بها, عزيزي! ما دخلي أنا بذلك؟! فنحن الذين تذهب حياتنا ونخسر أيامنا وليالينا.. والحقيقة أنّنا وصلنا إلى حدّ الاشمئزاز والغثيان من هذه المسائل... عزيزي! فلنهتمّ بهمومنا ولنحافظ على صفائنا.. فأيامنا وعمرنا ينقضي شهراً بشهر..

    

عدم الاهتمام بوقت الظهور بل المهم الاستعداد للظهور

كثير من الأفراد يسألون: سيّدنا! هل أنّ تلك المسائل التي تحصل هناك هي مرتبطة بالظهور؟ ما دخلي أنا بذلك, فإنْ كان لشخص أنْ يعيّن هذه المسائل فهو الوالد, والحال أنّه لم يعيّن ذلك أصلا, وكلّ من عيّن وحدّد ـ بل إنّ عدداً قد حدّد وعيّن زمان الظهور، إلا أنّ كلامهم لم يكن صحيحاً ـ لذلك فما دخلي أنا بهذا الأمر عزيزي, وكلّ من علّقوا آمالهم على هذه المسألة فقد وقعوا وسقطوا بهذه المحاذير, نعم قد تكون بعض المسائل مقدّمة لزمان الظهور, ولكن عزيزي!! قد أموت أنا غداً فهل أضمن بقائي إلى ذاك الزمان؟!
عزيزي! عليّ أن أستعدّ لتقبّل مباني حضرة بقيّة الله عجّل الله تعالى فرجه, وأما لو بقينا نفكّر بالعلامات, ونتتبّع وقت الظهور.. ومتى يظهر.. ومتى سيظهر.. فما هو الفرق بالنسبة لنا حينئذ, وأي أثر سنجنيه من ذلك؟! فمنذ سنتين والناس تتكلّم عن هذا الموضوع وهذه المسائل, والآن نحن كما نحن عليه الآن دون أيّ تغيير, وكذلك بعد سنتين.. إذن التكلم بهذه الأمور لا يرقّي الإنسان, بل لو علمنا بأنّه سيظهر بعد سنتين فما نفعي أنا بذلك؟! عليّ أنّ أهتمّ بنفسي وأؤهّلها لأنهل من مباني صاحب الزمان. والحال أنّنا نرى أنّه كلّ من تكلّم عن هذه المسائل وعيّن وحدّد فهو كاذب, فصاحب الزمان قال: علينا أن نتعلّم المباني ونطبّقها ونراقب ونجاهد، ونكون قدوة ونعمل.. والحال أنّنا تركنا هذا الأصل وصرفنا اهتمامنا وأضعنا عمرنا بتحديد الظهور..
جميع ذلك خطأ, فالذي كان يؤكّد عليه المرحوم الوالد هو ضرورة أن ننتقل من الجزئيّة إلى الكلّية, وأن لا يكون لدينا نوعان وصنفان من الكلام, بل علينا أن يكون كلامنا من الله ومن الأعلى ومن قلب توحيدي وقلب مرتبط بالأعلى, ولا يكون بقلب متظاهر وسطحيّ, فالنفس ترجع وتتراجع شئت أم أبيت, لذلك كان في السنوات الأخيرة ـ وحسب مناسبات الحال ومراعاة للظروف المختلفة ـ كان يقول: إنّ سماع هذه المطالب غير مفيد, وعلى الإنسان أن يتفرّغ وينصرف إلى الأمور المفيدة. وأنا أؤكّد على هذه المسألة خصوصاً أنّنا على أعتاب شهر رمضان, فعلى الإخوان أن لا يصرفوا أنفسهم وطاقاتهم في كلّ مسألة وكيفما كان, بل كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهراً فيركب ولا ضرعاً فيحلب, والله تعالى قد خلق أفراداً لتيسير الأمور وهم يتابعون هذه المسائل, ولا نشغل أفكارنا بهذه المسائل, والحال أنّه إن لم يكن مضرّاً فلن ينفع.
إذاً لنفكر بهذه المطالب.

    

الاهتمام بأعمال شهر رجب الخاصة

الصوم في شهر رجب مع المراقبة, ويمكن للصائم أن ينويه قضاء, ومن ليس عليه قضاء فليصم مستحبّاً تأسياً برسول الله, ومن لم يقدر على الصيام عليه يقرأ الدعاء المعروف مائة مرة الذي يقول: سبحان الإله الجليل, سبحان من لا ينبغي التسبيح إلا له, سبحان الأعزّ الأكرم, سبحان من لبس العزّ وهو له أهل.
كذلك الاهتمام الأكيد بليلة الرغائب وتهيئة نفسه للقيام بأعمالها بشكل مسبق, وسمعتُ من المرحوم الوالد أنّ لها آثاراً تستمرّ من أوّل شهر رجب إلى السنة القادمة, وعلى الإخوة أن يدقّقوا ويهتمّوا بذلك.
كذلك أدعية شهر رجب ينبغي تُقرأ وتُسمع, وليتوجّه الإنسان إلى معانيها وليتأمّل بها ويعيش معها, ولا يخفى أنّه يتوفّر في هذه الأيّام جميع الوسائل التي تساعد على الاستماع بحمد الله, فلتكن معنا ولنصطحبها معنا.. فهذه الأدعية لها تأثيرها على الإنسان وهي تمنع العديد من الأخطار وترفع العديد من الأمراض وتمحو الوساوس.
كذلك هناك مطالب أخرى وقد بيّنت سابقاً.. يظهر أنّ الوقت قد انتهى الآن.
نسأل الله أن يجعلنا ممّن منّ عليهم في هذا الشهر بكرمه, وأن يوفّقنا لمتابعة مرام وممشى الأولياء والعظماء, وعلينا أن لا نغفل عن طلب ذلك دائماً ولا ننسى هذا المطلب, فالنفس تتعلّق دائماً بالجزئيّات وبالأخبار وبالمسبّبات... فالنفس تنسى وتنسى.. وتغفل عن مبدأ الحقّ وتذهب إلى الأمور الجزئيّة, ونحن علينا أن نترك اشتياق النفس وتعلّقها وتوقّعها بهذه المسائل, وهذه المسألة لا تتمّ براحة ومن تلقاء نفسها, فالمراقبة التي بيّنها الأولياء إنّما هي لهذا الأمر, فمع وجود التوهّمات والتخيّلات لا يمكن للإنسان أن يحصل على شيء من تلك المقامات العالية.
إنْ شاء الله تعالى تبقى يد بقيّة الله دائماً فوق رؤوسنا..
ونسأله تعالى أن يقسم لنا هذه العنايات..
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد

 

 

 


[1] ـ نظرة في تاريخ العالم.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی