معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 101 إلى 200 > شرح حديث عنوان البصري - الجلسة رقم 181

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح رواية عنوان البصري

المحاضرة رقم 181

ألقى في الليلة الثانية من شهر رمضان المبارك من عام 1431 في مدينة قم المقدّسة

سماحة آية الله

السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف                                            

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
و الحمد لله رب العالمين
و صلّى الله على سيّدنا و نبيّنا أبي القاسم محمد و على آله الطيبين الطاهرين
و اللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين

    

قيمة شهر رمضان عند أولياء الله

نحمد الله على دخول شهر رمضان المبارك، و على استضافة الله سبحانه لنا مرّة أخرى ..
إنّ أولياء الله هم الذين يعرفون قدر هذا الشهر العظيم و هم الذين يفهمون أهميّة هذا الشهر، و يعلمون ما هي الأمور التي أعدّها الله سبحانه لعباده في هذا الشهر ..
عجيب جداً، عجيب الفرق بين رؤية أهل الظاهر لهذه التكاليف، و بين رؤية الأولياء و أهل الباطن لهذه الأمور، و الفاصلة بينهما كما بين الأرض و عرش الرحمن، و التفاوت بين هؤلاء و أولئك هو نفسه التفاوت في المدركات بينهما، و اختلاف كالذي بين الأرض و العرش ..
فعندما يدخل شهر رمضان، يعتبر أهل الظاهر أنّ الصيام عبارة عن تكليف أو تحميل قد وقع عليهم، و لسان حالهم يقول : ماذا يمكننا أن نفعل ؟! فهذا التكليف قد جاءنا من الله، و لا بدّ لنا أن نمتثل لأمره سبحانه، و نسعى بأيّ طريقة إلى قضاء هذا الشهر الصعب، و رغم المشقّة التي فيه، إلاّ أنّنا مجبورون على الالتزام و التنفيذ، و إلا ّ فإذا خالفنا الأمر الإلهيّ فإنّ ذلك يستتبع العتاب و العقاب الشديد ... هذه نظرة أهل الظاهر، و ذلك مع حملهم على الأحسن و مع حسن الظنّ بهم !!
ذهبنا ذات مرّة إلى الحجّ، في زمان المرحوم الوالد .. كنت قد تشرّفت بالذهاب إلى الحجّ مع بعض الأصدقاء، و ظاهراً كان ذلك في السنوات الأخيرة من حياة السيّد الوالد، و كنت في ذلك الوقت قد تشرّفت بالإقامة في مدينة قم ...
في تلك الرحلة، كنّا نتحدّث مع أحد الأصدقاء في المدينة المنوّرة، بأنّه على الإنسان أن يغتنم هذه الفرصة في هذه الأيّام، لأنّ هذه الفرصة قد لا تسنح مرّة أخرى و قد لا يوفقنا الله لذلك بعد الآن، و فجأةً قال هذا السيّد الذي كان حاضراً معنا : نعم، الأمر كما قلتم، و أنا أقول لزملائي في الغرفة نفس هذا الكلام .. فأنا دائماً أقول لهم : اصبروا قليلاً فهذه الأيّام ستنتهي قريباً و عندها سنرتاح و نرجع إلى أهلنا و أطفالنا !! .. نعم لقد كنت أواسيهم قائلاً : إنّها أيّام قليلة، اصبروا قليلا فستنتهي عمّا قريب، و سنرجع إلى زوجاتنا و أطفالنا .. [ضحك من سماحة السيّد] .
و الآن قارنوا هذه النظرة برؤية الإمام المجتبى عليه السلام الذي ذهب إلى الحجّ خمساً و عشرين مرّة أغلبها كانت مشياً على الأقدام، ثمّ ضعوا تلك النظرة إلى الحجّ في قبال نظرة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام الذي قابل شقيق البلخي في طريق الحجّ و وقعت بينهما القضيّة المعروفة بما فيها من الأمور التي رواها عن حالاته عليه السلام. [1]
قارنوا ذلك بتلك الرؤية التي تقول : لو أنّ الإنسان يصرف تمام عمره في طريق الحجّ، ثمّ يصل إلى مكّة في آخر عمره ـ أي عندما يجب عليه الحج (طبعاً بناء على ذلك التعريف للاستطاعة الذي يختلف عن التعريف المتداول، و يختلف عن الأنظار الأخرى المطروحة في باب الاستطاعة و كونها مقدمة لوجوب الحج) ـ فلو تحرّك هذا الشخص الذي وجب عليه الحجّ من منزله قاصداً الحجّ، ثم وصل في آخر عمره إلى مكّة المكرّمة، فهذا الشخص قد وصل إلى المقصود، و العمل الذي قام به ليس كبيراً مقابل مكسبه و فائدته.
قارنوا تلك النظرة الظاهريّة بالرؤية التي تقول : لو أنّ شخصاً جاء من الطرف الآخر من الكرة الأرضية لزيارة الإمام عليّ بن موسى الرضا حبواً على الثلج فلم يفعل أمراً عظيماً.. لقد سمعت هذا الكلام بنفسي و بأذني هذه.
هاهنا نفهم كيفيّة الاختلاف بين المراتب، و مقدار التفاوت في الأفكار و المدركات بين هؤلاء و هؤلاء.
إنّ لي تجربة في قضاء شهر رمضان مع أولياء الله كالسيّد الوالد و غيره من العظماء، و قد رأيت و سمعت منهم أموراً عديدة في هذا الشهر المبارك، بحيث لم يبق لي منها إلاّ الحسرة و التأسّف عليها .. فما بيدنا هو الحسرة على تلك الحالات و التصوّرات، فأولياء الله كانوا يتحرّقون شوقاً لحلول شهر رمضان، هل تعرفون معنى ذلك ؟ لقد كانوا يتحرّقون شوقاً .. يقولون : لماذا لا يأتي؟ لماذا لا يأتي شهر رمضان؟ فماذا كان يفهم هؤلاء العظماء من شهر رمضان بحيث صار هذا حالهم؟ و أيّ إحساس كانوا يستشعرون منه؟
لقد كنتُ بنفسي في إحدى الليالي مدعوّا إلى الإفطار في مجلس يضمّ أكثر من خمسين شخصاً من "أهل العلم"، و لن أذكر مكان و اسم المجلس، و لكنّ المجلس كان مقتصراً على العلماء و الفقهاء و المجتهدين و و ..
و كانت دعوة الإفطار في ليلة السادس عشر أو السابع عشر، و كان بعضهم يقول : إنّ الجوّ حارّ جدّاً و الصيام بات صعباً، فيجيبه الآخر : يا عزيزي، اصبر قليلاً إذ لم يبق إلا أيّام قلائل .. بقي عشرة أيام أو أكثر على انقضاء الشهر، و سرعان ما سوف نرتاح و تنتهي معاناتنا.. كانوا يقولون : سوف نرتاح !!
لقد كان عمري آنذاك أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة، و مع ذلك فقد تعجّبت كثيراً من هذا الكلام الصادر منهم . انظر إليهم، لقد مضى عليهم ستة عشر يوماً أو سبعة عشر يوماً من شهر رمضان، و من أجل بعض العطش و التعب صاروا يقولون : اصبروا قليلاً فسرعان ما نرتاح !
قارنوا هؤلاء بذلك الشخص (و هو أستاذ السيد الوالد) الذي كان يقيم مأتماً عندما كان يقترب شهر رمضان من نهايته، و يتفجّع على انتهاء هذا الشهر المبارك ! ما أعظم الفرق بين رؤيته و رؤية أولئك ! فما الذي كان يفهمه هو؟ و ما الذي كان يفهمه ذاك؟ و ما هو مستوى إدراكه؟ و ما هو مستوى إدراك ذاك؟! ففي النهاية كلا الفريقين محسوب على العقلاء!
ما الذي كان يفهمه ذلك الوليّ الذي كان يقوم عند انتهاء شهر رمضان بزيارة المراقد المشرّفة و المشاهد المعظّمة للأئمة عليهم السلام، و حتى مراقد أبناء الأئمة عليهم السلام، و كلّ ذلك بعنوان الشكر و الامتنان لله تعالى على ما منحه إيّاه في شهر رمضان و على استضافته له، و على توفيقه و فوزه في هذا الشهر الكريم، فما الذي رآه و ما الذي حصل عليه؟! ما الذي حصل عليه في هذا الشهر حتّى يفعل ذلك؟! هل كان ذهابه تمثيلاً و تظاهراً خالياً من الواقعيّة؟! إنّ الشخص الذي كان يسير وحيداً في مسيره فهو ليس بصدد التمثيل و التظاهر لجلب الأنظار إليه، لم يكن أحد مطّلعا على حاله أصلاً لكي يدفعه ذلك إلى التظاهر و التمثيل كما نفعل نحن. إذن ما هي حقيقة الأمر؟
لم يكن عبثاً قول الرسول صلّى الله عليه و آله : (فإنّ الشقيّ من حُرم رضوان الله في هذا الشهر العظيم)، هل تعرفون ما هو معنى الشقي؟ الشقي هو الشخص الذي حلّ عليه غضب الله و البعد عنه تعالى و استولى ذلك على قلبه فصار محروماً و مطروداً من رحمة الله، هذا هو الشقيّ ...
و قد ورد في حقّ ابن ملجم لعنه الله أنّه أشقى الأوّلين و الآخرين، فهو الشخص الذي صار بعيداً عن رحمة الله، و لم يعد الله ينظر إليه أبداً ...
فالشقي ـ حسب ما يعرّفه لنا رسول الله ـ هو الذي يُحرم في هذا الشهر من رضوان الله تعالى، و الحقّ أنّ حصول ذلك لعجيب .. عجيب جدّاً!! هل تعرفون ماذا يشبه ذلك؟ إنّه يشبه شخصاً يمرّ من تحت شلاّل ماء كبير دون أن يبتلّ بالماء أصلاً ! هل يمكن ذلك؟ فالإنسان إذا مرّ من تحت "دوش" الحمام البسيط فإنّه يبتلّ بلا تردّد، فكيف به إذا مرّ من تحت شلاّل كبير و وابل عظيم من الماء كشلاّل نياجارا؟! هل يمكن أن لا يبتلّ؟! إنّ هذا هو الحال في شهر رمضان، ففي شهر رمضان يفتح الله أنواع المياه المنهمرة من السماء إلى الأرض و يتركها تتدفّق رحمةً علينا .. إنّها شلاّلات من الرحمة الإلهية؛ و من هنا فالشخص الذي يمرّ من تحت هذه الشلالات الإلهية ثمّ لا يتبللّ و لا تصيبه أي رطوبة منها، فهل يمكن أن نسمّيه إنساناً؟ هل هذا إنسان واقعاً؟ كيف يمكن له أن يقوم بذلك و ما الذي يجب أن يفعله هذا الشخص بحيث أنّ الله سبحانه قد فتح أبواب رحمته بهذا الشكل، و هو رغم ذلك قد ظلّ محروماً ؟ و لهذا كان تعبير النبيّ ـ صلّى الله عليه و آله ـ عن مثل هذا الشخص قاسياً و شديداً، حيث عبّر عنه بالشقيّ .. الشقيّ هو الذي أُغلقت جميع أبواب الرحمة في وجهه، و لم تبقَ له أيّة نافذة أو متنفّس، إنّه الشخص الذي يمرّ عليه هذا الشهر دون أن تشمله رحمة الله .. دون أن يحسّ بالنور في قلبه .. دون أن يشاهد تغيّراً في قلبه عن أوّل الشهر .. يمرّ عليه الشهر و لا يرى في نفسه خفّة و رقّة .. و لا يرى في نفسه إقبالاً على العبادة و شوقاً إليها، بل على العكس يحسّ في نفسه الثقل و الكسل عن العبادة .. ما أتعس هذا الإنسان ! واقعاً ما أتعسه و أشقاه ! هذا هو معنى كلام رسول الله.
في الأشهر الأخرى نحن الذين نذهب و نسعى إلى الله و نحاول التقرّب إليه، و نحن من يقول : "يا الله"، أمّا في هذا الشهر المبارك فالأبواب مفتّحة و نحن نُدفَع دفعاً إلى الدخول، فالشقيّ هو الشخص الذي يقف أمام هذا الدفع و يمتنع عن الحركة .. هم يدفعونه باتجاه رحمة الله و هو يستمرّ بالممانعة .. هم يدفعونه و هو مصرّ على الضغط على المكابح و عدم الحركة ..
لقد ذكرت ذات مرّة هذه القصّة، بأنّ المرحوم الوالد قال: إنّ مجموعة من الأشخاص ذهبوا يوماً إلى الحجّ، و في تلك الأيّام التي يفتحون فيها الكعبة ليغسلوها و يعطّروها، و يفسحون المجال لبعض الأفراد الخاصّين من المسؤولين و الحكام و ما شابه ليشاركوا في هذه العملية، فيفتحون الباب لهم و يدخلون إلى داخل الكعبة، كان أحد هؤلاء الأفراد مدعوّا و ذهب معهم أيضاً، و قد كان ذلك في الزمان السابق، منذ مدّة طويلة جدّاً، و قد كان من ضمن الأفراد المدعوّين أشخاصٌ لم يكونوا بحسب الظاهر من أهل التديّن و الالتزام، و لم يكن وضعهم مناسباً، إذ كان من الواضح عليهم أنّهم ليسوا من أهل الصلاة و العبادة، بل كان ظاهرهم أنهم من أهل المعصية ..
يقول أحد الأشخاص الحاضرين: لقد كنت أنا بنفسي شاهداً على القضية، حيث أنّنا بمجرّد دخولنا إلى هذا المكان المقدّس، فجأة استولت علينا حالة عجيبة ـ دون أن نفهم ما الذي حصل ـ و كان تأثيرها واضحاً علينا جميعاً بنحوٍ شعرنا بفقدان السيطرة على أنفسنا، فشرع الجميع بالبكاء و الابتهال و الدعاء، و لكنّ العجيب أنّ بعض أولئك الأفراد الذين لم نكن نتصوّر أن تشملهم رحمة الله، كانت حالهم أشدّ من الجميع، حيث رأيت أحدهم قد أسند رأسه إلى جدار الكعبة و صار يضرب رأسه من الخلف بالجدار و يبكي، فقلت في نفسي : ما الذي تفعله بنا يا ربّ، ما الذي حصل بنا جميعاً ..
حسناً، هذه هي القضية الأولى، أمّا القضيّة الثانية فقد نقلها لي أحد الأشخاص مباشرة، نقلها لي أنا، قال : إنّ شخصاً نقل له أنّه في أحد الأسفار التي تشرّف فيها بالحجّ، تكرّرت نفس القضيّة السابقة .. و لا أدري هل يقومون بذلك في اليوم الثامن أم التاسع من ذي الحجة، حيث تقام تلك المراسم لتنظيف الكعبة و غسلها بماء الورد و .. المهمّ .. يقول هذا الشخص : لقد ذهبنا إلى هناك، و كان هناك بعض الأفراد الآخرين الذين جاؤوا للمشاركة، و كانت ثياب الجميع ثياباً عاديّة لا ثياب الإحرام، و كان من ضمن الذين جاؤوا بعض المعمّمين و دخلوا بعماماتهم إلى هناك، يقول: عندما دخلنا، انشغل الجميع بالعبادة و الصلاة و الدعاء ـ حيث أنّ الفرصة المتاحة كانت قليلة لا تتجاوز نصف ساعة أو ساعة فقط، و بينما كنّا على تلك الحال فجأة التفتُّ إلى هذا السيّد المعمّم و هو ينادي شخصاً آخر لكي يأتي إليه، فلمّا جاء قال له : يا فلان لا تنسى إذا رجعنا إلى طهران أن تأتي إلى مكتبي، لنتباحث بخصوص الموضوع الفلاني الذي نسينا أمره .. و نتحدّث عن المعاملة الفلانيّة !! لا تنس !!
حسناً، ما الذي يفهمه الإنسان من هاتين القضيتين؟ و ما هي النتيجة التي نتوصّل لها إذا قارنّا هذه الحادثة بتلك؟ إنّنا سنحصل على نتائج كثيرة !! فالمكان واحد و هو بيت الله الحرام .. الكعبة المكرّمة، و رغم ذلك فهذا السيّد يتذكّر مكتبه و معاملاته !! فما القضية؟ بينما ذلك الشخص الذي لم يكن ظاهره ملائماً فقد استولت عليه حالة البكاء، و صار يضرب برأسه بالجدار دون أن يشعر بأنّ الناس من حوله ينظرون إليه أصلاً، فما هو سرّ القضيّة؟ إذا كُشف الغطاء يوماً، و انكشفت الحقائق و صارت جليّة للعيان، عند ذلك سوف نرى أنّ الكثير ممّن كنّا نتصوّرهم في طرف ما و جهة معيّنة، لا ينتمون إلى ذلك المكان و أنّ حكمنا كان خلاف الواقع ...
باختصار، إنّ ذلك المكان المبارك يشبه و يماثل شهر رمضان، و تلك الرحمة الإلهيّة قد جاءت في هذا الشهر أيضاً و استولت على جميع النّاس؛ انظروا عندما يأتي شهر رمضان، ألا تحسّون أن الفضاء و الجوّ قد تغيّر، و كأنّ السماء قد انقلبت و تبدّلت، و أنّ الأجواء قد تغيّرت، ألاّ تحسّون بذلك؟ إنّها نفس تلك الرحمة الإلهيّة التي تأتي، و تزيل جميع الموانع، و توجِد جميع المعدّات اللازمة، إنّها تقول لنا : إذا كنتَ حتى هذا الوقت تحاول بنفسك أن تسير وتتحرّك، فالآن نحن من يدفع و يضغط عليك لتتحرّك، و إذا كنت حتى الآن تقوم بنفسك بالتحمّل و محاولة السير، فالآن نحن من سندفعك بالاتجاه الصحيح، و المطلوب منك هو فقط أن ترفع قدمك عن المكابح لترى ما هي السرعة التي ستتحرّك بها ..

    

وصايا أولياء الله في هذا الشهر

تشديد المراقبة على الأفكار والأقوال والأفعال

لذلك كان الأولياء يوصون في هذا الشهر بزيادة المراقبة و تشديدها كثيراً، و المقصود من المراقبة هو تصحيح الأفكار و تصحيح الأقوال و تصحيح الأفعال و الاهتمام بهذه الأمور الثلاثة ـ طبعاً يوجد مراتب أعلى من ذلك هنا، و ذلك من قبيل تصحيح السرّ، و تصحيح السرّ المستتر، و لكنّ هذه الأمور ليست مرتبطة بنا، بل مرتبطة بغيرنا .
ينبغي أن نسعى في هذا الشهر إلى تصحيح أفكارنا و إصلاحها، و يجب أن نغيّر تفكيرنا قليلاً عن السابق، لأنّ جميع ما يصدر منّا إنّما يرجع في الواقع إلى هذه الأفكار: ينبغي ألاَ نتسرّع بالحكم، و ألاّ نستعجل بإلقاء التهم على الآخرين، و ألاّ نسارع بالتنصّل من الخطأ و إلصاقه بالآخرين، بل ينبغي أن نقوّي في أنفسنا حسن الظن بإخوتنا في الإيمان، و أن نفسح المجال لاحتمال وجود تفسير آخر غير الذي نراه و نعتقده، هكذا يكون تصحيح الأفكار. هذا هو معنى تصحيح الأفكار.
و كذلك ينبغي أن نشدّد المراقبة على أقوالنا أيضاً، فلا نقول أي شيء و لا نتكلّم بكلّ ما يخطر على بالنا، و يجب أن نعلم أنّ بعض ما نقوله بألسنتنا، سيكون له عقبات طويلة الأمد، و أن تبعاته ستستمرّ و تدوم .
يقول المرحوم الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه: صحيح أنّ الكذب والتهمة والغيبة حرام، لكن لا يجب على الإنسان أن يقول كلّ حقيقة، يحرم الكذب لكن هل يجب قول الصدق؟ كلا! ليس واجباً، وليس أمراً ضرورياً، فالكثير من الأمور الصادقة والصحيحة لا تقولها أنت؛ هل تخبر أصدقاءك بكل ما يجري في منزلك؟ لا تقول لهم شيئاً، لذا على الإنسان أن يسعى كي يتحدّث بالشيء الضروري والمفيد فقط، وهكذا في أعماله يجب أن يكون ملتفتاً إلى هذه المسألة، وهي أنّه يجب علينا أن نستفيد من الفرص المتاحة في هذا الشهر الفضيل، وأن نهيّئ الأمور الموجبة لنزول الرحمة الإلهيّة، ونبتعد عن الأمور المانعة من ورود الملائكة.

    

الاهتمام بكيفيّة الطعام والغذاء

الأمر الأول الذي ينبغي مراعاته في هذا الشهر المبارك هو مسألة الطعام والتغذية، طبعاً لا بدّ من الاهتمام بجميع الأمور، غاية الأمر أنّه ينبغي في هذا الشهر الاهتمام أكثر بذلك، لقد منحنا الله تعالى موعدين للطعام فقط؛ أحدهما الإفطار والآخر السحور، فهل يجب علينا أن نأكل فيهما على النحو الأتم وإلى حد التخمة؟ من قال هذا؟ من قال بأنّه يجب على الإنسان أن يأكل في الإفطار والسحور إلى حدّ لا يستطيع معه أن يتنفّس؟ فبينهما بضعة ساعات فقط، والمعدة سعتها محدودة، وفعالية المعدة محدودة، فكلّ هذه الأمور لها حسابها الخاص، ما الفائدة من الإكثار من تناول الطعام؟ هل فيه فائدة غير الثقل؟ وبحسب تعبير العظماء سيصير الإنسان مركباً للطعام عندئذٍ لا الطعام مركباً للإنسان؛ أي سيكون حمّالاً له يسحبه من هنا إلى هناك، لقد كانت الخضار واللحم والجبن والرز و... في الدكان، بينما صارت الآن في بطني أنقلها من جهة إلى أخرى، مكانها تغيّر فقط، أهل نحن مجبورون على ذلك؟ لكل شيء حساب؛ لذا ينبغي أن لا يأكل مقداراً قليلاً يوجب له الضعف ويسلبه النشاط والقدرة.. فهذا أيضاً ليس صحيحاً، إذ أنه يضرّ بالبدن ويؤثّر على سلامته، وهذا الإضعاف سيوقع النفس في العجز عن تلقي المسائل المعنوية والاستعداد لها.. فهذا غلط أيضاً.
عليكم أن تلتفتوا عند الإفطار إلى هذه المسألة: وهي أن الكثير من النعم والرحمات الإلهية مرتبطة بليالي شهر رمضان، وإذا أراد الإنسان عند الإفطار أن يأكل بشكل يتغلّب عليه الطعام ويحكمه الأكل الذي تناوله ويشغل فكره وباله، فكيف سيقدر على الاستفادة من النعم والرحمة الإلهية في الليل؟ فهذان لا يجتمعان أبداً.
يجب على الإنسان عند الإفطار أن يأكل المقدار الذي يساعده على ترميم الضعف الذي حصل جراء الصوم، دون أن يشعر بثقل في معدته، عليه أن لا يشعر بثقل في بطنه، فهذا أمر خاطئ، كما أن تناول الأطباق وبعض الحلوى الثقيلة وغيرها من الأطعمة الثقيلة العديمة الفائدة والتي لا تحتوي إلا على إثقال المعدة فهو مما لا فائدة فيه أيضاً، نعم لا بد من رفع الضعف بتناول الأطعمة الخفيفة، على الإنسان أن يشعر بعد الإفطار بحالة من النشاط، عند ذلك نقول هذا إفطار، وهذا الإفطار لا يكون مانعاً من الأمور الأخرى التي ينبغي القيام بها إلى السحر... وحتى شروق الشمس، فينبغي أن نحصل على هذه النعم. لذا علينا الابتعاد عن تناول الأطعمة الدسمة والحلوى الثقيلة والمقالي والأمور الموجبة لغلظة الدم وثقله.. هذه الأمور ليست جيدة، فالمقالي التي تأخذ بفكر الإنسان وتثقله ليست جيدة. نعم لا إشكال في تناول الخضار والفواكه والأطعمة التي تحتوي على نسب قليلة من النشاء، ولا بأس إن احتوى الطعام على شيء من البروتين وغيره، لكن ينبغي عدم الإكثار منه. هذه هي وصايا الأولياء، فبعد الإفطار ينبغي أن لا يشعر الإنسان بثقل، وإذا شعرتَ بثقل تكون قد أفسدت الأمور، الأفضل أن تحافظ على الشعور بالخفّة، بأن تتناول أولاً مقداراً من الماء الحار أو الشاي الخفيف مع حبتين من التمر ـ حيث يستحب أن يفطر الإنسان أولاً على التمر ـ وبذلك تقل حالة الجوع التي لديك، وتسكت ترشحات المعدة والأسيد فيها، عند ذلك يتناول الإنسان طعاماً مناسباً، حيث تكون معدته في حالة من الاستقرار والهدوء، ويمكنها أن تهضم الطعام بسهولة، وبذلك يكون قد حافظ على التناسب المطلوب. لقد أشرنا في جلسات عنوان البصري ـ إذا يتذكر الإخوة، وسوف يأتي الكلام عنها أيضاً ـ بأنّ هناك ارتباطاً مباشراً بين ما نأكله وبين المسائل الروحيّة والمعنوية التي تحصل لنا.. فلا يمكن أبداً أن تفرطَ وتكثر من تناول الطعام عند الإفطار وتتناول الطعام الثقيل، وتحافظ في الليل على حالتك الروحية.. لا يمكن ذلك أبداً، خصوصاً أن الليل الآن قصير جداً، ووقت السحر وأذان الصبح بعد بضعة ساعات من الإفطار. وفي السحور ينبغي أن يأكل الإنسان الطعام المقوّي، لا الثقيل، ولا ينام بعد السحور، فالنوم بعد الأكل مضر جداً؛ حيث يسبب سوء الهضم، ويعيد الطعام إلى المريء ويؤدي إلى النفخ وبعد مدة يسبب أمراضاً أخرى في المريء، بالإضافة إلى أن الإنسان يشعر بعد الاستيقاظ بنوع من التعب.
لذا فالأفضل للصائم أن يبقى مستيقظاً بين الطلوعين؛ بأن يبقى مستيقظاً بعد ساعتين من السحور، ولا إشكال في أن ينام بعد ذلك ساعة أو ساعتين، وليسعى أن تبقى تلك الحالة المعنوية معه طوال النهار.
إن الاهتمام بالإفطار في هذه الأيام منصب حول تلوّن أنواع الأطعمة، طبعاً يستحب إكرام الضيف، يستحب الدعوة على الإفطار؛ فلدينا الكثير من الروايات التي تتحدث عن استحباب تفطير الصائم ولو بمقدار من التمر، فالذي يفطّر الصائم ولو بشقّ تمرة ـ إذا لم يكن مستطيعاً لأكثر من ذلك ـ ثوابه عند الله كبير، لكن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار بأن شهر رمضان هو شهر واحد ليس أكثر، وعلينا أن نهتم به، لذلك علينا أن نكتفي بالطعام الموجود أمامنا والذي يمكنه أن يحقّق هذا المقصود، لا أن يأكل لأجل الالتذاذ بالطعم وغيره...
ينقل أحد الرفقاء ـ والذي انتقل إلى رحمة الله ـ بأنّه أتى يوماً إلى منزل المرحوم العلامة الطباطبائي في قم عند الظهر برفقة خمسة أو ستة أشخاص، فقال: صلينا عنده، وكان من المفترض أن نتناول طعام الغذاء عنده، فأتى الخادم ومدّ السفرة ووضع عليها المرق ـ حيث كان الطعام قد أعد لأهل المنزل فقط دون أن يزاد عليه شيء، فقد وصل هؤلاء ظهراً، ولم يكن أهل المنزل على اطلاع بذلك ـ وضع عليها إناء فيه مرق ولحم، وكان هذا الإناء مليئاً بمقدار ثلثه فقط والباقي فارغ. يقول نظرنا نحن فيما بيننا، وتساءلنا ماذا علينا أن نفعل! فنحن عدة أشخاص جياع بطوننا تخرّ من الجوع، بينما جلس المرحوم العلامة الطباطبائي غير مكترث بذلك، وقال تفضلوا، وحمل إناء ماء الشرب الذي كان وسط المائدة وأفرغه في ذاك الإناء المليء بماء اللحم، فقلنا جميعاً: ماذا تفعل؟ وقال له أحد أرحامنا من السادة رحمة الله عليه: ماذا تفعل؟ كان يمكننا أن نأكل من ذلك الإناء، فأجاب العلامة: ما شاء الله من سلاك طريق الله! أنتم تأكلون الطعام التذاذاً بطعمه؟ تأكلون لأجل التذوّق فقط؟ كلوا! وصبّ لكلّ منهم إناء، وأخذنا الخبز ووضعناه فيه وأكلنا، لقد تغيّر مذاق الطعام قليلاً، لكن لم تهبط السماء على الأرض لأجل ذلك، علينا أن نتعلّم من هؤلاء هذا الأمر، ينبغي أن نحذو حذوهم في تعاطينا مع الأمور، نتعلم من هؤلاء الأشخاص الذين وصلوا إلى ما وصلوا إليه بهذا الأمر.
فذاك الشخص الذي يفكر من الظهر إلى المساء بما ستعدّه له زوجته من طعام، وما ستضعه على المائدة أمامه عند الإفطار.. لا يمكنه أبداً أن يغور في هذه المطالب ويسير في هذه الأفلاك، ولا يقدر على أن يتحرك في هذا الطريق، أو يحلّق في هذا الأفق.. لا يمكنه ذلك أبداً. وهذه المسألة مهمّة جداً، وعلينا جميعاً أن نلتفت ونتنبّه إليها.. علينا أن نلتفت إليها في هذه الأيام خصوصاً في هذا الشهر المبارك الذي لا يوجد له مثيل أبداً، وليس له نظير، وهو ليس أكثر من ثلاثين يوماً. وهذا التغيير الذي يحصل للإنسان مختص بهذا الشهر، نعم هذه هي المشيئة الإلهية، فما المصلحة في أن يختار الله تعالى هذا الشهر فقط من بين اثني عشر شهراً؟ فأحياناً يفكر الإنسان ويقول: ما المشكلة في أن يكون شهر رمضان كل ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر؟ بأن يمر ثلاثة أشهر وبعدها يأتي شهر رمضان، ثم تمر ثلاثة أشهر أخرى ويأتي شهر رمضان... لكن نرى أنّه يكفي شهر رمضان واحد لكل اثني عشر شهراً، فهذا الشهر وحده يكفي لتعيين التقدير والمشيئة الإلهية، وذلك إذا التفتنا إليه واهتممنا به، وإذا عملنا بما هو موضع رضا الله تعالى، دون أن نفكر أو ننظر بشكل مستقل.

    

اجتناب الأمور غير الضروريّة

المسألة الأخرى التي ينبغي الاهتمام بها في هذا الشهر المبارك هي اجتناب الأمور غير الضرورية، فعلى الإنسان أن يبتعد عن الأمور غير الضرورية؛ كالأخبار والأحداث التي تجري... فهذه الأمور تقف أمام نزول الفيض الإلهي والرحمة الإلهية، وعندما تنزل الرحمة وذاك الفيض على قلب المؤمن تجد بأنّه لا مكان لها حتى تستقر في قلبه، إذ صار هذا القلب مملوءاً بتلك الأخبار والأحداث، وأصبح هذا العقل مليئاً بالتشتت والتفرقة والأمور المختلفة ـ وهو ما نسميه بالمراقبة في الأفكار ـ فعندما تريد أن تتنزّل لا تجد لها مكاناً، فلا تأتي إليه بل ترحل عنه إلى غيره، وتقول له: لم تدع لي مكاناً في قلبك، ولن أكون طوعاً بين يديك، فهناك أفراد آخرون لديهم قابليّة لتلقّي هذه الرحمة، سنذهب إليهم ونحطّ عندهم، ولن نأتي إلى هنا؛ لأنك ملأت فكرك وذهنك بالأمور التي لا تنفعك ولا تفيدك، ولم تدع مجالاً لشيء آخر.
منزل دل نيست جاى صحبت اغيار
(القلب ليس مكاناً لمحادثة الأغيار) [ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه]
لا يمكن للأغيار أن يدخلوا إلى هنا، فهنا عرش الرحمن فقط، قلب المؤمن عرش الرحمن، ليس مكان التصورات والخاطرات. نعم، تكليف بعض الأشخاص الذين يجب عليهم الاهتمام بهذا الأمر يختلف عن تكليفنا، علينا أن لا نضيف تكليفاً على أنفسنا، ونتصور بأن هذا هو تكليفنا، وإذا قمنا بذلك نكون قد خسرنا شيئاً، فالله تعالى لا يريد منّة أحد، ولا يمكن لأحد أن يسدل عليه بالعطاء، فنحن قابعون في مقام الحاجة والعوز لا في مقام المنّة والغنى، لكننا قمنا بتغيير مقامنا، فصرنا ندّعي لأنفسنا مقام الاستغناء والمنّة وجعلنا الله تعالى في مقام الحاجة. كلا! هذا ليس صحيحاً، فالله يقول: يجب أن يكون كل شيء في مقامه؛ أنا في مقام العزّ والكبرياء، وأنتم في مقام العبوديّة والمخلوقيّة، في مقام المسكنة والفقر، وكلّما كانت حالة المسكنة والفقر عندك أشدّ فهي دليل على علوّ رتبتك لا دنوّها.
نحن نظن بأنّنا في مقام الغنى ونصلّي لله تعالى ونحمّله المنة، فنقول: إلهي نحن فعلنا لأجلك هذا الأمر، قمنا بتبليغ دينك للناس، قضينا حاجة فلان المؤمن، فعلنا هذا الأمر وفعلنا ذلك... حسناً لا تفعل، بل اذهب واجلس في منزلك ولا تقم بشيء، من الآن فصاعداً لا تساعد أحداً حتى لا تأتي وتمنّ على الله بفعلك. أو تقول إلهي لقد أقمنا الصلاة لك.. في العالم خمسة مليارات شخص لا يقيمون الصلاة، فليكن خمسة مليارات وواحد! إلهي لقد قمنا في الليل وصلينا صلاة الليل، انظر لقد ذهب الناس جميعاً وأخلدوا إلى النوم فقم أنت ونم كما ناموا، فإذا ذهبت ونمت أنت أيضاً هل ينقص من عرش الله شيء؟ إذا نقص شيء عند ذلك قم ومنّ علينا بصلاتك، هل ينقص من مقام "على العرش استوى" شيء؟ هل ينقص من مقام "مالك يوم الدين" شيء؟ هل ينقص من مقام "له ملك السماوات والأرض" شيء؟ إذا كان ينقص منها شيء فقم بالصلاة لنا كي نحلّق بها قليلاً، ونذكر بأنّ عبدنا قام بالصلاة لنا!!
نعم، جميع ذلك هو من مقام المنّة، لكن لسنا في مقام المنّة، بل في مقام الحاجة والفقر والفاقة. والعجب من الأشخاص الذين يقومون بعمل ثم يأتون ويظهرون ذلك للناس ويمنون به عليهم، أنا أتعجب من ذلك.. أضحك من ذلك، فكيف يمكن لشخص أن يقوم بفعل ثم يأتي ويقول: سيدي لقد قمت بهذا الفعل، لا تقم بذلك من الأساس، لماذا تأتي وتخبرني بما قمت به؟ إذا كان ما قمت به لله تعالى، فاذهب وأخبره هو، لماذا تأتي وتخبرني؟ أما إذا فعلت هذا الأمر لي، فأنا لا أريده منك! لماذا تخبرني؟ لماذا هذا الأمر؟ هذا لأجل أننا غيرنا موقعنا من موقع الحاجة والفقر إلى موضع الغنى والمنّة. فنحن المحتاجون، والاحتياج يعني الفقر يعني المسكنة.. يعنى الاستعطاء، اقرءوا أشعار الميرزا حبيب وانظروا في ما يقول:
من گدا من گدا من گدايم (أنا المستعطي أنا المستعطي أنا المستعطي)
هنيئاً له، كان أحدهم يقرأ أشعار الميرزا حبيب للمرحوم الوالد رضوان الله عليه، فكانت دموعه تجري من عينه، رحمة الله عليهم، لقد فاز هؤلاء لقد فازوا حقاً، هؤلاء الذين أتوا إلى هذه الدنيا وكانوا يشعرون في وجودهم بالفقر والاستعطاء والحاجة، نعم، لا الذي يرفع رأسه ويعلي شأنه... لماذا كل هذا الادعاء!! اجلس يا عزيزي، فعندما تأتي وتسكن وترقد... ترى أنّ تنفّسك بدأ يخمد ويخمد حتى تلتصق بالأرض.. والحال أنّنا كنا نظنّ بأن الملك والملكوت والمجرّات جميعها تحت اختيارنا، لكن الواقع:
من گدا من گدا من گدايم (أنا المستعطي أنا المستعطي أنا المستعطي)
ماذا يقول أمير المؤمنين عليه السلام في مناجاته بمسجد الكوفة؟ إلهي أنت الغني وأنا الفقير فهل يرحم الفقير إلا الغني؟ هؤلاء فهموا معنى العبودية ووصلوا إلى كنه معنى الحاجة، ووصلوا إلى واقع الحاجة والمسكنة، وقالوا: فزت ورب الكعبة.. هؤلاء وصلوا.

    

اجتناب العلاقات غير الضروريّة

علينا في هذا الشهر أن نبتعد مهما أمكن عن العلاقات غير الضرورية، فلنجرّب شهراً في التقليل من علاقاتنا لنرى هل يفرق الأمر أم لا؟ هذه الهواتف الخلوية ـ لعنة الله عليها ـ قضت على الدنيا والحياة، نعم، لها بعض الموارد المفيدة؛ من بين مائة مورد هناك موردان مفيدان وثمانية وتسعين مورداً لا طائل منها، بل تقضي على كل شيء لدى الإنسان؛ ذكره وفكره وجميع ما عنده، واقعاً يشعر الإنسان بأنّه محكوم لهذا الشيء المصنوع، لا أنّه هو الحاكم عليه.
كنا أمس في مجلس عزاء في طهران في مسجد الشيخ محمد، وكان يعظ على المنبر ويتحدّث بأحاديث راقية جداً، كلامه كان هاماً جداً، فيه تذكير وتنبيه ـ وقد سمعت من أحد الأعلام والذي كان هو صاحب العزاء: بأني لم أسمع حتى الآن مجلساً متقناً ومحكماً ومليئاً بالمطالب كهذا المجلس ـ وإذا بهاتف خلوي يرن في وسط المجلس، فيقوم صاحبه ـ بدون خجل ـ بالتحدث في وسط المجلس، أيها المتخلّف! لو ذهبت إلى مكان آخر هل كنت ستأخذ هاتفك معك؟ ألا يؤخذ منك على الباب؟ إلى أي حدّ على الإنسان أن يكون بلا أدب ولا تربية ولا فهم.. عندما يرن هاتفه أثناء المجلس وأثناء كلام الخطيب ويبدأ بالتحدّث؟! لا يخجل، بل يبدأ بالتحدّث، ويرن هاتف مرة ثانية من هذه الجهة ومرة من تلك الجهة، هذه ثقافتنا!! هكذا صارت.. أين ذهب الأدب؟ وأين الاحترام؟ هذا عدم احترام، وهذا توهين للحضور في ذلك المجلس، الآخرون يريدون أن يستمعوا للمحاضرة، يريدون أن يفهموا المطلب الذي يلقى، يريدون أن يركّزوا ليفهموا المطلب، هؤلاء ليسوا عاطلين عن العمل، ولم يفروا من منزلهم، بل أتوا إلى هنا ليسمعوا كلاماً مفيداً، ليفهموا مسألة جديدة، ثم يأتي شخص غير مؤدّب يرن هاتفه ويشرع بالتحدّث فيشتت أذهان المستمعين بفعله هذا، ويبدد فكر المتكلّم.
كان المرحوم القاضي يتحدّث عصر يوم الجمعة ويقول: إنّ سماع الإنسان ولو صوتاً بسيطاً يضرّ به، وأثناء كلامه صدر صوت من الزقاق؛ إما أنّه صوت شيء ضرب بشيء أو صوت شيء ضرب الباب، فقال: انظروا هذا الصوت مضرّ، هذا صوت فقط، لكنه صدر في وقت أحوج ما يكون الإنسان فيه إلى السكوت والهدوء، نرى أن صوت طرقة بسيطة يفسد كل شيء، يسبب التشويش للإنسان فيقلبه إلى شيء آخر، وينتقل إلى وضع آخر، وفي هذه الحالة الأخرى لا يعود الإنسان فيها كما كان من قبل، فوضعه الآن ليس كما كان قبل ربع ساعة، وبعد نصف ساعة لن يكون كما كان.
كما أنّه لا يوجد من يُنبّه على هذا الأمر، ولا أعلم لماذا لا يتمّ الحديث عن هذه المسائل؟ ولماذا لا يرتقون المنابر في المساجد والحسينيات ليتحدّثوا عن ذلك، ويُصلحوا ثقافة الناس ويوجّهوها في طريق الاستفادة الصحيحة. ولهذا السبب ولكي لا تتكرّر الأمور السابقة، قلنا هذه السنة للرفقاء بأنّ جلب الهاتف النقّال إلى المجالس التي تُقام في ليالي الشهر المبارك أو في صباح الأعياد أو مجالس عصر الجمعة أو مجالس عنوان أو غيرها من المجالس العموميّة ممنوعٌ ولو كان منطفئاً، وسيُنظر إلى الشخص الذي أحضر معه هاتفه النقّال كشخص متمرّد، حيث من الظاهر أنّ بعض الأفراد لم يستوعبوا الأهمّية التي تحظى بها المسألة. وأشعر في بعض الأوقات حينما تحدُث في هذ المجالس مثل هذه القضايا غير اللائقة بأنّ التأثير يطال الجميع، بحيث أنّ جميع الحاضرين يتأثّرون بذلك من دون أن يسعوا إلى مواجهة الأمر؛ فقد يكون في البين شخصٌ ما مسنّ، لكن يجب عليه أن يعلم من تلقاء نفسه وأن يلتفت من نفسه إلى أنّ الإضرار بالغير حرام، حرام شرعاً. فإذا جئتم وقمتم بعملٍ أدّى إلى مضايقة شخص آخر، فإنّه حرام. حسناً يا عزيزي! إذا كان لازماً عليك إلى هذا الحدّ التحدّثُ مع زوجتك المخدّرة المكرّمة العليا، فلا يوجد ما يُرغمك على المجيء إلى هذا المجلس. وإذا فرضنا بأنّ مزاولتك للعمل الفلاني مهمٌّ لهذه الدرجة بحيث يكون محتّماً عليك إجراءُ اتصال مباشر، أفهل دعاك أحدٌ للحضور إلى هنا؟ وما هو الذي يُلزمك بذلك؟ ولماذا لا يكون النقّال إلى جانبك في الأوقات الأخرى!! في أوقات الأنس والمؤانسة!!! فقد صارت هذه المجالس متميّعة لهذه الدرجة وانعدمت أهمّيتُها بحيث لم تعُد تُعطى لها أيّة قيمة ولو بالحدّ الأدنى؛ وذلك بسبب أنّ الأشخاص غير الملتفتين لهذا الأمر يؤثرون.. وكلامي غير موجّه للإخوان الأصدقاء لأنّهم مطّلعون على هذه المسألة ولكن إرسال ذلك قد يسهم في حصول الفوضى؛ فإذا شاهد أحدُ الرفقاء شخصاً ما يقوم بذلك، فليسع إلى لفت انتباهه إلى ضرورة مغادرة المجلس.
فبالمقدار الذي نتمكّن من توجيه أذهاننا إلى لبّ المطلب والتغاضي عن الخوض في القضايا الهامشيّة، نكون قد ربحنا واستفدنا. ومن المسائل التي كانت في السابق مورداً لاعتراضنا بالنسبة للمرحوم العلاّمة هي مسألة تسجيل كلامه من خلال مسجّل الصوت، حيث كان رضوان الله عليه مخالفاً لهذا الأمر في ذلك الوقت، وكانت هذه النقطة عالقةً بأذهاننا، وهي أنّه ما هو المانع من القيام بالتسجيل؟ فإذا تمّ تسجيل الصوت، فإنّه يبقى محفوظاً؛ وهذا نظير ما هو موجود الآن من الأجهزة التي تقوم بتسجيل الصوت. ففي بعض الأحيان، قد ينسى الإنسان شيئاً ما فيقوم بمراجعته، فما هو إذن الدليل على المنع من ذلك؟ بعد ذلك، التفتنا إلى أنّ مقصوده من التسجيل ليس نفس التسجيل، بل انعطاف الذهن نحو الأمور الجانبية وانشغاله بها، وليس التسجيل بحدّ ذاته؛ أي نفس عمليّة التسجيل وو... وخلاصة الأمر فإن المنهي عنه هو الابتعاد عن جوهر المسألة وإشغال الذهن بقضايا أخرى والانشغال بالأمور الجانبية والهامشية؛ وإلاّ لو فرضنا بأنّ هذا المسجّل كان موضوعاً في زاوية ما بحيث لا يثير انتباه أيّ أحد... فلا مانع منه أبدا, نعم، من الجدير بالذكر أنّ هذه الأجهزة المتوفّرة حالياً قد حلّت هذا النوع من المشاكل، لكن في ذلك الزمان حيث كانت أجهزة التسجيل كبيرةً، فإنّها كانت لافتةً للأنظار، كما أنّها لم تكن في متناول الجميع، بل كانت قليلة. فمن باب المثال، عندما كانوا يأتون بهذه الأجهزة للتسجيل، فإنّ الناس كانوا ينظرون إلى هذا الأمر بنظرة مختلفة. سيما من الأفراد المسنّين في ذلك الزمان، أمّا الآن، فقد صارت هذه المسائل متداولة وشائعة جدّاً ومتعارفة، بينما في السابق، لو جاؤوا بأحدٍ وكان يحمل في يده حقيبة، فإنّ الجميع كانوا ينظرون إليه متسائلين: ماذا وضع في داخلها؟ وماذا يريد أن يفعل بها؟ فقد كانت المسألة مهمّة جدّاً وغير طبيعيّة. وعليه، فقد كان كلّ همّ العلاّمة رضوان الله عليه وهمّ العظماء منصبّاً بشكل أساسي في هذه المجالس على حذف الأمور الزائدة والهامشيّة, والتوجّه لذلك الأصل والجوهر. فعندما نتأمّل في المجالس التي نعقدها الآن؛ كأن يكون أحد الخطباء يتحدّث أو يتلو العزاء مثلاً، نرى بأنّهم يأتون بإحدى الكاميرات ذات المتر الواحد، ويقف شخصان في هذه الجهة وثلاثة أشخاص في الجهة الأخرى، ويدورون في ذلك الاتجاه و... فلا تبقى بعد ذلك فائدة لأيّ أحد. أو مثلاً واحدٌ من هذا الجانب وواحدٌ من الجانب الآخر، واحدٌ يلتقط الصورة من فوق وآخرُ من تحت وثالثٌ من خلف؛ عندئذ سيُعاض عن الأصل بالزوائد والأمور الهامشيّة.
ذهبت في السابق إلى أحد المجالس التي انعقدت عصرَ عاشوراء في طهران، وذلك في منزل أحد السادة, وقد توفّي رحمة الله عليه، وكان إنساناً جيّدا، وكان في المجلس العديد من السادة، والأشخاص (العاديون)، والعلماء. وعندما وصلت إلى هناك، جلست في زاوية إلى جانب جهاز تصفية الماء، وقد كان ذلك الخطيب المنبري يتلو العزاء. ومن الجدير بالذكر أنّه كان يقرأ العزاء بطريقة رائعة، بحيث أنّ قراءته كانت مثيرةً للوجد، ومن الواضح أنّه كان متأثّراً بدوره ومنقلب الحال. وفي نفس الوقت الذي كان يقرأ فيه العزاء ـ حيث كان يتناول حادثة وداع السيّدة زينب عليها السلام وأمثال ذلك ـ شاهدنا فجأةً مجيء أحد الأشخاص إلى الداخل قادماً من الجانب، وقد وضع على كتفه إحدى هذه الأشياء التي لا أتذكّر اسمها.. إحدى آلات التصوير ذات الحجم الفلاني، وبدأ يوجّهها نحو هذا ونحو ذاك الواحد تلو الآخر، يُقدّمها، يُؤخّرها، يتراجع إلى الخلف، يتتبّع ذلك الشخص، فيرفع آخرُ رأسَه ليُثبت وجوده، ثمّ يصير تابعاً لهذا الشخص ولذاك... لا فائدة من كلّ هذا يا سيّدي، فقد خرّب المجلس وجعل عاليَه سافله، وأخرج الناس من تلك الحالة الوجدانيّة التي كانوا عليها، وأدّى إلى إصابة الجميع بالفتور إلى درجة كبيرة و... روحي ونفسي لك الفداء يا عزيزي! كم يلزمنا أن نقول بأنّ عزاء الإمام الحسين له مكانته واحترامه الخاصّين؛ فهذا ليس هو سوق الصفّارين[2] .. ليس مسرحاً ولا بستاناً، بل هنا يُقرأ عزاءُ عصر عاشوراء. قولوا لي ما الذي ترومون إليه من هذا التصوير، وأيّ نوع من اللعب هذا؟ فإذا كنتم ترغبون في التقاط الصور، فلتقوموا ـ يا سيّدي ـ بعقد مجلس آخر.. مجلس للضحك والهزل والمُتعة والفُرجة، وقوموا أيضاً بالتقاط الصور، فلا ضير في ذلك، لكن لماذا تُقحمون الإمام الحسين في مثل هذه الأمور؟ وبعد ذلك تصبّون فوق رأسه كلّ هذه المصائب؟ فمظلوميّة الإمام الحسين تكمن في أنّه ابتُلي بأشخاصٍ مثلي ومثلك، لا أنّهم كانوا من أمثال الشمر ويزيد ثمّ جاءت بعد ذلك تلك البلاءات. ومظلوميّة الإمام الحسين تكمن في أنّ الأشخاص الذين قصموا ظهره هم الذين كانوا يدّعون حمل لوائه؛ هذه هي مظلوميّته. فعندما كانوا يُجرون الأحكام على خلاف مبانيه، ويسيرون في طريق مُعاكس لهدفه ومقصوده، ويتخذونه وسيلةً للارتقاء والرفعة وتحقيق الأماني، حينئذ تتجلّى مظلوميّته. بينما في الوقت الذي تطّلعون فيه على الطرف المقابل، فإنّكم ترون بأنّ العظماء لمـّا كانوا يُقيمون العزاء، كانوا يقولون بأنّ زمان ذلك هو ما بين الطلوعين، كما أنّ المكان محدود، وعلى كلّ من أراد أن يحضر أن يأتي مبكّراً، ولا يُمكن لنا أن نستوعب أكثر من ذلك، كما أنّنا لا نسمح هنا بالصور والتصوير ونظير هذه الخزعبلات. فلا مجال للزينة وتضييع الوقت في التزيين ووضع الأعلام والمجاملات الزائدة، ولا يُسمح للخطيب بذكر أسماء السادة الذي يردون المجلس الواحد تلو الآخر؛ فلا شيء غير العزاء، ولا يُذكر إلاّ اسم الإمام، واسم الله والحديث، ولا يتمّ التعرّض إلاّ لذكر المصيبة؛ فلا شيء إلاّ الذكر وإحياؤه، هذا كلّ ما يوجد والسلام! عندئذ، ما هو مقدارُ التأثير الذي سيُحدثه هذا المجلس؟ وإلى أيّ حدّ سيكون مؤثّراً؟ وكم سيترك يا تُرى من تأثير على روح الإنسان؟ وما هو الشعور الذي سيحصل للإنسان عند الفراغ منه؟
ولهذا السبب، كنت أقول للرفقاء قبل مدّة من الزمان بأنّه على الأشخاص الذين يشتغلون بإعداد خدمات المجالس أن يأتوا للاستماع إلى الخطيب عندما يشرع في الحديث؛ فلا مجال لأن يعتقدوا بأنّ الأمر ليس كذلك، وأنّه لا علاقة لهم بذلك، وأنّ الخطيب يقصد نفسَه من الكلام، ومخاطبوه هم الأشخاص الحاضرون في المجلس. لا، ليس كذلك، ينبغي على الجميع أن يستوعبوا المطالب التي حاول الخطيب أن يوصلها اليوم. وذلك الشخص الذي يشتغل في مكان آخر، عملُه له حُرمته ومكانته الخاصّتين، وهو مأجور عليه، لكن الأهمّ من ذلك هو الفهم والإدراك والوصول إلى الأسس والمباني، هذا هو الأهمّ في الأمر.
ولذلك كان المرحوم العلاّمة يقول بأنّه في الوقت الذي يشرع فيه الواعظ بالكلام، ينبغي على الجميع أن يتوقّفوا عن العمل ويجلسوا للإستماع إليه ولا يتكلّم أيّ أحد؛ فهذه المطالب ملكٌ للجميع. ويُعلم من هذا بأنّ الذي يسعى نحو الفهم، لا تهمّه الشكليات ولا يُحبّ التزيين، على خلاف القول بأنّ هذه الهيئات تعمل لنفسها، فلتتكلّم بما يحلو لها ولتفعل ما يبدو لها؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى حصول الرواج؛ فكلّما كان الصوت أعلى، كلّما كان ذلك أفضل؛ إذ أنّهم سيقولون بأنّ الصوت الآتي من منزل السيّد أعلى، ويعرف رواجاً أكثر؛ فكلّما كان الضجيج والصخب أكثر، كلّما كان ذلك أفضل،كما أنّ ذلك الخطيب المسكين مُنهمكٍ هنا في تمزيق حنجرته لفائدته فقط. لا، هذا غير صحيح؛ فعلى الجميع أن يستفيدوا، وعليهم أن ينتبهوا ويصغوا, وبعد ذلك لا ضير في أن يقوم كلّ واحد بتكليفه. هذا هو المجلس الذي يستحقّ أن يكون مورداً للعناية والاهتمام، فلا ضجيج هناك ولا صخب، ولاعَلَم ولا إعلان.. لاشيء من ذلك أبداً.
في هذا الشهر المبارك على الإنسان أن يأخذ الأمور التالية بعين الاعتبار، يعني: في كيفيّة الطعام، وفي كيفيّة العلاقات، وفي كيفيّة الحديث، وفي كيفيّة التصرّفات، وكيفيّة تنظيم الأمور على النحو الذي ينبغي أن تكون عليه، والتي تعتبر امتداداً لتحصيل ذلك الهدف الذي يمثّل فتح أبواب الملكوت.. فتح أبواب عالم الغيب.. انشراح الصدر.. وتغيّر وتبدّل نظام الإنسان، ويمكن للإنسان الكامل أن يحسّ بجميع هذه الأمور، ووجوب عمل هذه الأمور إنّما هو في سبيل ذلك الهدف.
نعم بالطبع كانت هذه الأمور مما يعلمه الأصدقاء والرفقاء ويعرفونه، وما كانت إلا من باب التذكير ليس إلاّ، وكان المفترض أن نعقد جلسات قبل الشهر المبارك في نفس سلسلة المواضيع المتعلّقة بمباحث عنوان البصري، لكن لم تتح لنا الفرصة لذلك، ولذا قلنا: هذه هي الليلة الأولى، وقد لا يتمكّن هذا العبد لأن يكون بخدمة الأصدقاء في الليالي الثلاثة أو الأربعة القادمة، ذلك أنّي عازم على التشرّف بالزيارة، وإن شاء الله بعد الزيارة ـ إذا أراد الله عزّ وجلّ، ولولا البداء، (يجب أن نقول إن شاء الله بضرس قاطع، فـ "إن شاء الله " لازمة، خاصّة حينما تكون أرضيّة البداء موجودة بقوّة، ينبغي القول "إن شاء الله" بشكل صادق جداً، ينبغي القول " إن شاء الله " من متن الواقع، ينبغي القول " إن شاء الله" عن المواضيع التي تمّ بحثها في السنوات الماضيّة، أعني شرح حديث ..، شرح دعاء أبي حمزة الثمالي، ذلك البحر الزاخر الذي كلّما خضنا عبابه وجدنا أنّنا ما زلنا عند الشاطئ، وأنّنا لم نكن إلا نتمشّى على ساحله، أقسم بالله العظيم أنّ هذا هو رأيي بالنسبة لهذا الدعاء؛ دعاء أبي حمزة ! ولست ألقي الكلام على عواهنه، فكلّما فكّرت في بعض فقراته، خصوصاً أنّي لم استطع أن أصل إلى كنه بعض فقراته، وأنا أعترف بذلك، يعني: كلّ فقراته كذلك أيضاً، فأين نحن من الإمام السجّاد عليه السلام؟ لكن بالطبع حتّى بمقدار فهمنا نحن.. بمقدار سعتنا نحن.. لم أستطع إقناع نفسي حتى بهذا المقدار. بل في كلّ مرة أصل فيها إلى فهم معيّن، أجد مرّة أخرى أنّ هناك نافذة أخرى مازالت باقية وليس بإمكاني تجاوزها، فكم هي المحيطات الواسعة من المعارف التي وضعت تحت اختيارنا.
نرجو من الله أن نلتجئ ونحتمي في حمى هذا الشهر، وببركة الأنفاس الطاهرة لهذه العتبة، وببركة صاحب هذا الشهر الذي هو نفس الإمام السجّاد عليه السلام، أن يمنّ الله علينا وأن يجعل حاجاتنا مورداً لألطافه وعنايته.
كان رسول الله يقول: الفقر فخري، الفقر والفاقة فخري، يعني: أيّها الناس الذين تعيش في عقولهم الآلاف من الآنانيّة و التفرعن والمسائل الحقيرة والمسائل الخاطئة والانغماس في الكثرات و روائح تعفّنها، وإلى ما يرتبط بذلك من أمور ...، تعالوا إليّ وانظروا كيف أفتخر، أنا أقوم الآن بالافتخار؛ ففي الحين الذي تفتخرون بامتلاككم للأشياء المختلفة، أنا أفتخر بأني لا أملك شيئاً، أفتخر أنّي لا شيء، أفتخر بأنّي فهمت هذه " اللاشيء" لكنّكم لم تفهموها، ولو أنّكم تفهمونها لكنتم مثلي تماماً، أنتم لم تفهموا أنّكم أطحتم بحظوظكم، وجعلتموها عاجزة، وأسرتموها في هذه الكثرات وفي هذه الدنيا، ثمّ جئتم باسم الله ووقفتم في قبال الله ! أنتم لم تفهموا، لو فهمتم لكنتم غيّرتم مسار حياتكم، وما كانت أفكاركم مليئة بالتخبّط إلى هذا الحدّ. " الفقر فخري"؛ الآن الفقر هو فخري، افتخاري هو إحساسي بأني صفر، وإحساسي بالعدم في قبال الوجود المطلق، وإحساسي بالبوار والفناء في قبال البقاء والفناء.
أسأل الله المتعال ببركة طهارة عتباته وأوليائه الكرام والصالحين من عباده أن ينظر إلينا نظرة لطف.. ينظر إلينا جميعاً، وأن يجعل هذا الشهر شهر التذكّر، ونعوذ بالله أن نرى بعد انقضاء هذا الشهر أنّ الأمر لم يختلف عن السابق، وأنّ التغيير لم يظهر، ونعوذ بالله من أن نكون مشمولين بكلام رسول الله ذلك.
إنشاء الله.


[1] ـ لعلّ سماحة السيّد يشير إلى الرواية التالية المنقولة في مطالب السؤول ص 450 وغيرها من الكتب كنوادر المعجزات ، و دلائل الإمامة ، و كشف الغمة ،: ما عن شقيق البلخي ، قال : خرجت حاجّاً في سنة تسع وأربعين و مائة فنزلت القادسية ، فبينا أنا أنظر إلى الناس في زينتهم وكثرتهم ، فنظرت إلى فتى حسن الوجه شديد السمرة ضعيف ، فوق ثيابه ثوب من صوف مشتمل بشملة ، في رجليه نعلان وقد جلس منفردا ، فقلت في نفسي : هذا الفتى من الصوفية يريد أن يكون كلا على الناس في طريقهم ، والله لأمضين إليه ولأوبّخنه ، فدنوت منه ، فلما رآني مقبلا قال : يا شقيق { اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم } ثم تركني ومضى ، فقلت في نفسي إن هذا لأمر عظيم قد تكلم بما في نفسي ونطق باسمي ، وما هذا إلا عبد صالح لألحقنه ولأسألنّه أن يخالني فأسرعت في أثره فلم ألحقه وغاب عن عيني ، فلما نزلنا واقصة وإذا به يصلي وأعضاؤه تضطرب ودموعه تجري ، فقلت : هذا صاحبي أمضي إليه وأستحله ، فصبرت حتى جلس ، وأقبلت نحوه فلما رآني مقبلا قال : يا شقيق أتل { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى } ثم تركني ومضى فقلت : إن هذا الفتى لمن الأبدال ، قد تكلم على سري مرتين ، فلما نزلنا زبالة إذا بالفتى قائم على البئر وبيده ركوة يريد أن يستقي ماء فسقطت الركوة من يده في البئر وأنا أنظر إليه ، فرأيته قد رمق السماء وسمعته يقول : أنت ريي إذا ظمئت إلى الماء * وقوتي إذا أردت الطعاما اللهم سيدي ما لي غيرها فلا تعدمنيها ، قال شقيق : فوالله لقد رأيت البئر قد ارتفع ماؤها فمد يده وأخذ الركوة وملأها ماء فتوضأ وصلى أربع ركعات ، ثم مال إلى كثيب رمل فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويحركه ويشرب ، فأقبلت إليه وسلمت عليه فرد علي السلام ، فقلت : أطعمني من فضل ما أنعم الله عليك ، قال : يا شقيق لم تزل نعمة الله علينا ظاهرة وباطنة فأحسن ظنك بربك ، ثم ناولني الركوة فشربت منها فإذا هو سويق وسكر ، فو الله ما شربت قط ألذ منه ولا أطيب ريحا ، فشبعت ورويت ، وأقمت أياما لا أشتهي طعاما ولا شرابا . ثم لم أره حتى دخلنا مكة ، فرأيته ليلة إلى جنب قبة الميزاب في نصف الليل قائما يصلي بخشوع وأنين وبكاء ، فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل ، فلما رأى الفجر جلس في مصلاه يسبح ثم قام فصلى الغداة ، وطاف بالبيت أسبوعا وخرج فتبعته وإذا له غاشية وموال ، وهو على خلاف ما رأيته في الطريق ، ودار به الناس من حوله يسلمون عليه ، فقلت لبعض من رأيته يقرب منه : من هذا الفتى ؟ فقال : موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) فقلت : قد عجبت أن تكون هذه العجائب إلا لمثل هذا السيد.

[2] ـ هو سوق من الأسواق القديمة حيث تُصنع الأدوات والأواني النحاسيّة وتُباع هناك، كما يقوم فيه العمّال (الصفّارون) بتصفير النحاس من خلال حكّه وطليه بموادّ خاصّة ـ المترجم ـ.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی