معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1415 هـ > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1415 هـ - الجلسة الخامسة

_______________________________________________________________

هو العليم

سلسلة محاضرات في شرح دعاء

أبي حمزة الثمالي

المجلس الخامس

أُلقيت في شهر رمضان سنة 1415 هـ.ق

سماحة آية الله

السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

    

مقام الخوف والرجاء عند أولياء الله

قال مولانا زين العابدين«من أين لي النجاة ولا تُستطاع إلاّ بك»
عندما نقرأ هذه الفقرة من الدعاء: «من أين لي النجاة ولا تُستطاع إلاّ بك» يمكن أن يخطر هذا السؤال في ذهننا: هل أولياء الله والأئمة عليهم السلام، في مقام الخوف والرجاء أيضاً؟ أم إنّهم قد تخطّوا هذه المرتبة وتجاوزوها؟ وبعبارة أخرى: ألا يعلم هؤلاء بأنّهم قد نجحوا وفازوا وأنّ الأمر قد انقضى وأنّ مأواهم ومنزلهم {في‏ مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَليكٍ مُقْتَدِر}[1]، وأنّهم قد وصلوا إلى الغاية القصوى التي لا غاية ولا مرتبة بعدها؟
و من ناحية أخرى نلاحظ في هذه الأدعية الصادرة عن الأئمة عليهم السلام: كدعاء أبي حمزة ودعاء كميل وغيرهما من الأدعية ... أنّهم سلام الله عليهم يظهرون أنفسهم كالمساكين والضعفاء، ونلاحظ أنّ حالة الخوف كانت تتملّكهم عند قراءة هذه الأدعية المباركة. فكيف ينسجم ذلك مع قوله تعالى {أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُون‏}[2]؟ وكيف يمكن الجمع بين الأمرين؟ فالآية الكريمة تصرّح بأنّ أولياء الله لا خوف عليهم أبداً، وقد ورد التعبير عنه بصيغة النكرة في سياق النفي، ومع أنّه ليس نفياً للجنس ولكنّ ورود (النكرة في سياق النفي ) له دلالة على النفي المطلق.
فمن هذه الجهة لا يوجد أيّ خوف بعد ذلك، ولماذا يكون هناك خوف أصلاً لشخص قد أتمّ سيره وتخطّى كلّ مراتب الأنا، ولم تبقَ له نفسٌ أساساً حتّى يُحتمل من هذه النفس أن تعصي أو تخالف ؟! فمثل هذا الشخص ممّ يخاف؟ إنّ مثل هذا الشخص لم يعد للخوف مكان عنده.
فما هو معنى الخوف هنا؟ .. يقول تعالى: { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُون } .. الخوف يكون من أمر مستقبل نترقّب وقوعه، أمّا الحزن فيكون لأمر قد فات بالماضي، وكلّ من هذين الأمرين موقع له عند أولياء الله سبحانه.

    

بيان الفخر الرازي في المقام وفساد زعمه

عندما تعّرض الفخر الرازي لتفسير قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا}[3] ـ في إشارة إلى مقاله رسول الله صلّى الله عليه وآله لأبي بكر في الغار ـ حاول باستدلالات واهية وضعيفة وساق أحد عشر أو اثني عشر دليلاً ليثبت من خلالها عصمة أبي بكر، لا مجرّد مقام أو مرتبة يسيرة، بل العصمة !! وخلاصة استدلاله أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يتلفّظ بكلامه جزافاً أو عبثاً .. {وما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى‏}[4] .. ومن ناحية أُخرى لا يمكننا قطعاً أن نحمل الحزن في كلام الرسول على الحزن من أجل الأمور الدنيويّة ؛ وذلك لأنّ كلام النبيّ ينبغي أن يُحمل على أكمل الأفراد وأتمّها، ومن هنا فأيّ الحزنين أتمّ وأرقى: الحزن الدنيويّ أم الأخرويّ؟ وأيّهما هو اللائق بمقام النبوّة؟ الحزن الأخرويّ طبعاً! لأن الدنيا فانية ولا قيمة لها. فظهر أنّ النبي عندما قال لأبي بكر: «لا تحزن» أنّ مُراده يا أبا بكر إنّ آخرتك حسنة، وأنت قطعاً من أهل الجنّة، فلا ينبغي أن تحزن !!! والوجه فيه: أنّ كلام النبي ينبغي أن يحمل على الفرد الأكمل: الأكمل في الأفراد والأكمل في الأنواع والأكمل في المصاديق، فلا معنى لأن نحمل كلام الرسول عندما يقول «لا تحزن» على الأمور الدنيويّة، بل على الأمور الأُخرويّة.
و حيث كان كلام الرسول حكاية عمّا سيقع، فإنّ النهي الصادر عنه بقوله: «لا تحزن» إخبار في الواقع، وكأنّه يقول له: لا تحزن؛ لأنّ مقامك وآخرتك لا تستدعي الحزن، وبمعنى آخر: فإنّ آخرتك مضمونة !!
و لكن لنا أن نسأل صاحب هذا الرأي: إذا كان هذا هو المقصود فما معنى قوله {إنّ الله معنا}؟! فما هو معنى أن يقول له: (إنّ آخرتك مضمونة، إنّ الله معنا)؟! وعلى هذا المعنى الذي ذكره، هل يبقى لعبارة {إنّ الله معنا} موقع في الكلام؟! على كل حال، إنّ هذا الكلام والاستدلال بيّن الفساد وواضح البطلان.

    

الوجه في حزن أولياء الله وخوفهم

والآن فلنبحث في أولياء الله: إذا لم يكن عند أولياء الله جانب الحزن ولا الخوف، فما هو معنى هذه الحالات التي تصدر منهم ؟! وما هي حقيقة هذا البكاء والتفجّع الذي نراه منهم؟! هذه المسألة مسألة عويصة، والجمع بين الأمرين صعب ومستصعب.
نعم، يمكننا أن نحلّ الأمر ببساطة كما يصنع البعض حيث يقولون: إنّ حزنهم نابع من ترك الأولى، وبكاؤهم لأنّهم لم يقوموا بفعل الأولى. ولكنّ هذا الجواب لا ينفع، بل الإشكال باقٍ على حاله، فالكلام السابق ينطبق حتّى على ترك الأولى ؛ لأنّ المعصوم إذا كان معصوماً فلا يمكن أن يصدر منه تركٌ للأولى، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً} [5]. فالإمام قد وصل إلى مقام الطهارة المطلقة .. فكلمة {تطهيراً} تشير إلى مقام الطهارة المطلقة، وفعل الأولى أو تركه داخل تحت دائرة الطهارة المطلقة، ومن يصل إلى هذه المرتبة فلا يصدر منه تركٌ للأولى، وإلاّ فهو لم يصل إلى الطهارة الواقعيّة، والحال أنّنا نعتقد أنّ الأئمة عليهم السلام قد وصلوا إلى مقام الطهارة المطلقة.
فإذا كان الأمر كذلك، فما هو معنى ما صدر عنهم عليهم السلام؟ ما هي حقيقة ذلك البكاء الصادر من أمير المؤمنين في جوف الليل؟! لا شك أنّ أولياء الله لا يبكون من أجل الدنيا ولا يحزنون لفقدها، ولو كان عندهم بمقدار هذا العالم ذهباً ثمّ فقدوه لما تأثّروا أبداً.
و كذلك هم لا يحزنون على ما فات، فالحزن على ذلك لا معنى له بالنسبة إليهم ؛ لأنّ الأولياء يرون أنّ كلّ ما سوى الله هو من مسبَّبات ومعلولات الأسماء الإلهيّة، وحيث إنّهم مجرى إفاضة ذلك الاسم، فلا معنى لأن يحزنوا لفوات أمر من هذه المسبَّبات. فحينما يكون الإمام عليه السلام مُجرياً لعالم الإمكان، فلا يمكن أن يحزن لخسارة أرض أو منزل أو مزرعة أو عقار .. وعندما يرى أنّ كلّ فعل في هذا العالم من الله سبحانه، فلن يصيبه الحزن لموت أحد أولاده أو زوجته أو لفقدان أرضه مثلاً. ولو أصابهم الحزن كان دافع ذلك الحزن أمراً معنويّاً. فعندما تنهّد أمير المؤمنين قائلاً (آه) عند حديثه عن عثمان بن مظعون: كان لي أخ ... وعدد فيها صفاته وأخلاقه[6]، أو ما قاله عن زيد: «رحم الله زيداً: كان قليل المؤونة، كثير المعونة »، أو بكاؤه لشهادة مالك الأشتر ومحمّد بن أبي بكر، وكذلك بكاؤه عليه السلام على عمّار ... إنّ كلّ حالات الحزن كانت نابعةً من فقدان رفيق الطريق، وهذا الحزن لا مشكلة فيه وإنّما كلامنا عن الحزن من أجل الأُمور الدنيويّة ؛ إذ لا معنى لأن يحزن أولياء الله من أجل هذه الأمور. فالشخص الذي يزرع بساتين النخل ويتعب نفسه لتهيئتها ثمّ يقدمها جاهزة لفقراء المدينة، والشخص الذي يتعب نفسه بحفر الآبار وشقّ القنوات ثمّ يجعلها وقفاً لبني فلان وبني فلان، لا معنى أن يصيبه الخوف والحزن من أجل أمور الدنيا !

    

من أسرار مبيت أمير المؤمنين عليه السلام على فراش النبي صلى الله عليه وآله

إذا كان الأمر كذلك، فما معنى هذا الحزن؟ وما هو الخوف عند هؤلاء العظماء مثل أمير المؤمنين؟ مع أنّ النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ بشّره كما ورد في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة النبي صلّى الله عليه وآله في فضل شهر رمضان، فقال عليه السلام: «فقمت، فقلت: يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عز وجلّ، ثمّ بكى. فقلت: يا رسول الله، ما يبكيك؟ فقال: يا علي، أبكي لما يُستحلّ منك في هذا الشهر. كأنّي بك وأنت تصلّي لربك وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربك ضربة على قرنك، فخضب منها لحيتك. قال أمير المؤمنين عليه السلام: فقلت: يا رسول الله، وذلك في سلامة من ديني؟ فقال صلى الله عليه وآله: في سلامة من دينك ...[7] فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إذن لا أبالي».
ألا يعلم أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أنّ الرسول صادق في كلامه ؟! لا شكّ في ذلك !! إذن من أيّ شيء يخاف ؟!
افرضوا أن عليكم ديناً مستحقّاً لأكثر من شخص وينبغي أن تسدّدوه لهم غداً، وجاء شخص موثوق وصادق وأخبركم أنّ الشخص الفلاني اتصل بالتلفون وذكر أنّه سيحضر لكم غداً صباحاً مبلغاً كبيراً من المال يكفي لسداد كلّ المستحقات وزيادة، وصار عندكم يقين بذلك، فهل سيصيبكم بعد ذلك خوف أصلاً؟ من أيّ شيء تخافون ؟! وما معنى الخوف عند ذلك ؟
فما معنى كلّ ذلك البكاء عن أمير المؤمنين عليه السلام وهو يعلم أنّ الرسول قال له: «في سلامة من دينك» ؟!
إنّ الإشكال الذي يورده السنّة في هذه الأيّام على حادثة مبيت أمير المؤمنين في فراش الرسول ليلة الهجرة هو أنّ عليّا لم يقم بعمل أمر عجيب يستحق كلّ هذا الثناء، وذلك لأنّ النبيّ بشّره بأنّه سيسلم من المشركين وسيلحق به في المدينة، وبالتالي فعندما نام عليّ في فراش النبي كان يعلم أنّه لن يصيبه أيّ ضرر، وأنا كذلك لو قيل لي ذلك لنمت في الفراش مطمئناً، وكلّ من يعتقد بصدق النبيّ فلن يخاف من ذلك !!
و الجواب عليهم أنّ كلامنا ليس في إخبار النبيّ لعلي بأنّه سيبقى سالماً، بل كلامنا هو في ردّة فعله قبل أن يقول له النبيّ بأنه سيبقى سالماً وأنّه سيلحق به إلى المدينة، فعندما قال له النبي: اذهب ونم في مكاني: ماذا أجابه عليّ؟ قال له: (و هل تسلم أنت بذلك يا رسول الله وتصل إلى المدينة؟)، فقال: (نعم)، فقال: (إذن أنام مكانك ). ثمّ بشّره الرسول بالسلامة وأمره بإحضار أهله وعياله. فأمير المؤمنين قد أبدى الاستعداد للمبيت قبل أن يبشّره الرسول بأنّه سيبقى سالماً، وأمير المؤمنين عليه السلام يقول: لقد نمت نوماً هنيئاً في تلك الليلة لم أنم مثله طيلة حياتي. وهذه الراحة ليست لعلمه أنّه سيبقى سالماً، بل لنفرض أنه لم يكن سيسلم لكان سيقول: فليكن! المهمّ أن يسلم رسول الله، هذا هو حاله، أن يسلم رسول الله مهما أصابه هو. ثمّ بعد ذلك أخبره رسول الله أنّه سيسلم وسيلحق به مصطحباً عياله وأهل بيته، فاطمة بنت النبيّ وفاطمة بنت أسد وامرأة أخرى، ثمّ لحق بالنبيّ بصحبتهنّ، تلك هي حالته.

    

العروج إلى مقام جمع الجمع

الحديث الآن حول علم أولياء الله بمآلهم، هل يعلمون أم لا؟ وثانياً: لو فرضنا أنّهم كانوا غير مطّلعين أليسوا هم في مقام اليقين فعلاً؟! وحينئذ ألا يتنافى اليقين مع تلك الحالات؟! فمن جهة يقول عنهم الله: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُون‏}[8]، ومن جهة نجد هذه الأدعية وهذا البكاء.
هذا هو ما يسمّى بمقام جمع الجمع ومقام الجامعيّة فنحن الآن نصوم، ونبقى جائعين حتّى وقت الإفطار، وعندما نكون صائمين بعد الظهر ونشعر بالجوع، فهل الحاكم على وجودنا هو الجوع أم الشبع؟! هل يمكننا أن نحكّم على وجودنا في ذلك الوقت حالة الشبع؟! نحن جائعون، حالتنا حالة الجائع، ثمّ أفطرنا وصرنا نشعر بالشبع ولا أثر للجوع لدينا، فهل يمكننا أن نحكّم على وجودنا حالة الجوع؟! لا يمكننا مهما حاولنا، إلاّ أن يمرّ الوقت ويمرّ حتى تخلو معداتنا مرّة أخرى، حينها نشعر بالجوع مرّة أخرى، فنحن إذن لا يمكننا أن نشعر في حال واحد بشعورين شعور بالجوع وشعور بالشبع، فهل أولياء الله هم كذلك؟ إذا استطعنا أن نشعر نحن بهذين الشعورين معاً فقد عرفنا حقيقة مقام الخوف الذي عليه أمير المؤمنين عليه السلام.
نضرب لذلك مثالاً، لو كان هناك طريق جبليّ متعرّج وخطر، وكان عليك أن تطويه وتصل إلى أعلى الجبل ثمّ تعود، وما إن تنتقل بالسيّارة وتتحرك ترى أن رجلاً جاء يخبرك بأنك ستصل بسلام، ويأمرك إذا وصلت أن تنزل في بيت فلان لتبلّغه رسالة ما، وأنت لا تشكّ في صحّة كلام هذا الرجل. فعندما يقول: ستصل فستصل بلا شكّ، الآن إذا أردت أن تنطلق هل يعقل أن تقول: بما أنّه أخبرني بأنّي سأصل سالماً، فلا بأس أن أترك مقود السيّارة وأدعها تسير حيث تشاء!! هل يمكن ذلك؟! أم أنّ كلامه بأنّك ستصل لا بدّ أن يكون توأماً مع الالتفات والانتباه، لا يمكن أن تدع السيارة تذهب بنفسها وتصل سالماً لمجرّد أنّه أخبرك بذلك، لا بل لا بدّ أن تكون عينك على الطريق من أوله إلى آخره، وأن تكون ملتفتاً مواظباً مراقباً، وذلك رغم ما أخبرك به من وصولك سالماً.
فلا منافاة بين هذا الإخبار وبين الالتفات، ففي الوقت الذي يعلم الإنسان أنّ أمراً ما سيتحقّق يبقى مراقباً ومنتبهاً طيلة الطريق. وبعبارة أُخرى: هناك تلازم بين الوصول سالماً وبين المراقبة والانتباه، وهذه المراقبة هي التي توصلنا إلى ذلك المكان سالمين.

    

دوران التكّليف مدار الموضوع

وبالنسبة إلى أمير المؤمنين عليه السلام فمن حيث المسائل الدنيويّة ليس لديه أيّ التفات إليها كي تصل النوبة إلى احتمال سيطرتها عليه أو عدمه. فهو كان يقول: «إنّي طلّقت الدنيا ثلاثاً».[9] فماذا يبقى بعد ذلك؟ وكنّا قد تعرّضنا فيما سبق إلى مسألة كون التكاليف دائرة مدار تحقّق موضوعاتها، ومن مواضع تطبيقه أنّ الإنسان كلّما بلغ مرحلة ارتفعت عنه تكاليف المرحلة السابقة، فالتكليف بترك شرب الخمر أصلاً لا يتعلّق بسلمان؛ فقد انتفى الموضوع من أصله بالنسبة إلى سلمان، ولم تعد تكاليف حرمة الزنا والسرقة وأمثالها لتتعلّق بذمّته. لمن هذه التكاليف؟! إنّها لطبقة أدنى منه، وأما تكليفه فهو أرقى من ذلك، وهكذا من هو أعلى منه، فمراتب الأفراد من حيث موضوعيّة التكليف مختلفة، والتكاليف مختلفة. وما هو تكليفنا نحن؟ هناك تكليف العموم وهناك تكليف الخصوص، وهناك تكليف خصوص الخصوص، فصوم العموم مثلاً عبارة عن ترك المفطّرات المعروفة. وصوم الخصوص هو إضافة إلى ترك المفطّرات ترك الغيبة والنظر الحرام، والتي هي ليست من المفطّرات الظاهريّة. وصوم خصوص الخصوص هو الامتناع عن التفكير الحرام وعن الخواطر السيّئة وعن سوء الظنّ بالمؤمن، وعن خطور مسائل التفاخر والأنانيّة. فهذه منهيّ عنها في صوم خصوص الخصوص؛ حيث يُنهى فيه عن كلّ ما سوى الله، فلا ينبغي أن يرد في قلوبنا غير الله، ولا ينبغي أن نتوجّه إلى غير الله. نصوم ولكن عندما ندخل إلى المنزل وننظر إلى الأزواج فلا ينبغي أن يأسر قلوبنا ذلك، ولو كان النظر حلالاً؛ فغير الله لا ينبغي أن يرد إلى هذا القلب، وعلى كلّ حال هذا بحث آخر. فسلمان إذن لا يخطر في مخيّلته أن يشرب الخمر، ولا معنى لخطوره لديه، ولذلك لا معنى لتكليفه به، بل التكليف به سيكون لغواً، وحتّى لا شأنيّة لأن يتعلّق به التكليف. ما معنى الشأنيّة؟ الشأنيّة هي كون المكلّف ذا قابليّة للتكليف بالشيء مع كونه جاهلاً، فالتكليف منجّز غاية الأمر أنّه غير فعليّ، وإنمّا يصير فعليّاً عندما يلتفت المكلّف إليه. والشأنية التي نتحدّث عنها هنا هي بالمعنى الذي نصطلحه نحن لها لا بالمعنى الذي يقول به الأعلام من تعلّق التكليف بالجميع على السواء؛ فهذا المعنى لا أساس له. أمّا الشأنيّة التي نقول بها فهي تعني تعلّق التكليف بموضوعه الكليّ على فرض التحقّق: سواء كان المكلّف ملتفتاً أم غير ملتفت. وبناء على ذلك، عندما يخرج المكلّف عن دائرة موضوع التكليف فلا معنى لشأنيّة التكليف بالنسبة إليه، بل تتعلّق به تكاليف أخرى. ومثله ما لو تعيّر جنس الرجل على سبيل الفرض إلى امرأة، ولو على نحو الإعجاز. ألم يحدث ذلك! لقد قام بذلك الإمام الحسن عليه السلام: كان جالساً في المدينة فجاء رجل شاميّ وشرع بالحديث بكلام فارغ، وكان الإمام الحسن عليه السلام يتكلّم، فقال الشامي مستهزئاً: من أنت؟! فقال: أنا أعمل وفق ما يراه الله صلاحاً، ولو شئت لنقلت الشام إلى المدينة والمدينة إلى الشام، ولبدّلت الذكر أنثى والأنثى ذكراً، وحينها شرع أحد الحاضرين بالضحك وقال: أحقاً ما تقول؟! إن كان حقّاً فافعل! ثم قال له الإمام: أما تخجلين؟ أين حجابك؟! لقد صار هذا الرجل امرأة! نعم صار امرأة! فخرجت من المجلس، فقال الإمام: لقد جعلت هذا امرأة وجعلته زوجته رجلاً وهذا من مناقبه. المهمّ أنّه لو فعل الإمام الحسن ذلك فبدّل الرجل امرأة فإنّ الأحكام ستتبدّل؛ حيث لم يعد رجلاً لتتعلّق به أحكام الرجال، وتلك المرأة لم تعد امرأة لتتعلّق بها الأحكام التي كانت حتى هذه اللحظة متعلّقة بذمّتها، وكذلك ليس لهما شأنيّة لتلك الأحكام؛ فقد خرجا من موضوع التكليف. فالميّت مثلاً صار موضوعاً جديداً وتعلّقت به أحكام جديدة. المهمّ في كلامنا هو إذا حدث تغيّر في الموضوع؛ كما في سلمان حيث لم يعد تتأتّى منه المعاصى الظاهريّة، وخرج من تحت موضوعها، فلا معنى لأن يتعلّق به التكليف بتركها، بل تتعلّق به أحكام أُخرى، فقد تغيّرت خصوصيّة الأحكام، هذه مراتب لتلك الحالة التي هم عليها.

    

فطام الوليّ نفسه عما سوى الله

وأمير المؤمنين وأولياء الله الذين لا يلتفتون إلى المسائل المادّيّة هل هم داخلون تحت آية {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُون}‏؟ فمعنى قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُون}‏هو: يا أيّها الناس اعلموا أنّ أولياء الله لم يعد بإمكان ما سوى الله أن يدخلهم في خوف أو في حزن، لقد خرجوا من دائرة الحزن والخوف ممّا سوى الله. فما هو الخوف الباقي؟ فقط هو الخوف من الانقطاع أو عدم الاتصال، الخوف هو من ذلك. أمّا ما سوى الله فلا يُخيف. نحن الذين نضطرب ونخشى من شؤون الحياة اليوميّة ومن الذنوب وغيرهما: هل سأحصل على الرزق أم لا؟ هل سأوفّق لكذا وكذا أم لا؟! أمّا أولياء الله فقد خرجوا عن تأثير العلل والمعلولات، والأسباب والمسبّبات، والآثار والمؤثّرات. ما يهمّهم هو أن لا يحدث في وقت من الأوقات أن يبدّل الله نظره وقضاءه فيهم، لا شيء آخر، أمير المؤمنين عندما يقول في دعاء كميل: «هبني صبرت على حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك» معناه: أنّ الدخول إلى جهنّم ليس مهمّاً بالنسبة لي، هذه النار هي ممّا سوى الله، بالنسبة إليّ ليست آلام الدنيا مهمّة، فهي ممّا سوى الله، بالنسبة إليّ ليس الدخول إلى الجنّة مهمّاً، فالجنّة هي ممّا سوى الله، المهمّ هو أن يبقى هذا الارتباط بيني وبينك وتبقى سائر الأمور جانباً. ما يهمّني أن لا تحوّل نظرك عنّي للحظة واحدة، هذا ما يخيفني، لا ما سوى الله، فما سوى الله لا خوف منه. {أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُون}‏. ارتفع كلّ حزن وخوف، ولم يبق سوى الحزن والخوف الناشئين من الارتباط بك. لو جاء الله وقال لي: لا علاقة لي بك الليلة، فماذا يقول عليّ في هذه الحالة؟ إنّه يقول: أنا لا أحتمل للحظة واحدة أن ترفع عنّي نظرك، أنا أرضى بكلّ شيء سوى ذلك. مثلاً لو كان هناك عاشق وجاء إلى باب معشوقه فقال المعشوق له: لأشبعنّك ضرباً وأذى، لقال: لا بأس. ولو قال له: لأخبرنّ الناس عنك أخباراً تذهب ماء وجهك، لقال: لا بأس. طبعاً هذا إذا كان عاشقاً حقيقيّاً. ولو قال: لأذهبنّ بجميع أموالك وممتلكاتك، لقال: لا بأس. وقد رأيت ذلك ولاحظت مثل هذه القضايا عند بعض العاشقين، وأنا أسأل الله أن يرزقني حالاً كهذه بنحو الحقيقة.. بل حتى لو كانت بنحو المجاز فهي حسن أيضاً. فهذه حال عجيبة. يقول: أنت فقط قل لي: أنا أريدك. العاشق يريد من المعشوق هذه الكلمة فقط: أن يقول: أنا أريدك وافعل بي ما شئت. المهمّ أن لا يقول له: لا أريدك. يقول: خذ مالي، اذهب بماء وجهي وبكلّ ما سواك، بل حتّى اقتلني، فلا بأس! ولكنّي أريدك. أمّا لو قال المعشوق للعاشق: أنا لا أريدك وسأعطيك كلّ أموال الدنيا، فهذا ما يخيف العاشق. وخوف أمير المؤمنين هو من ذلك، خوفه أن يقول الله: هذه الليلة لا أُريد عليّاً، وهذا هو معنى: (هبني صبرت على حرّ نارك). يقول: إن شئت أن تلقيني في جهنّم فألقني في جهنّم! نحن لا نملك حال أمير المؤمنين، ولكن أمير المؤمنين في هذه الحال يعي ما يعبّر عنه. وقد أفاد الإمام الحسين عليه السلام في دعائه هذا المعنى أيضاً:
«إلهي إنّ اختلاف تدبيرك وسرعة طواء مقاديرك منعا عبادك العارفين بك عن السكون إلى عطاء واليأس منك في بلاء».[10] ومعنى ذلك: يا إلهي أنت فعّال لما تشاء وحاكم بما تريد، فتغيّر تقديراتك إلى درجة أنّك إذا وعدت عارفيك بنعمة ـ والعارفون هم المطّلعون على القضاء والقدر ـ فإنّ هناك أمرين يمنعانهم عن السكون: الأولى: اختلاف التدبير والثانية: سرعة طواء المقادير وسرعة حركتها وتغيّرها ودخول بعضها في بعض. قال الشاعر: إن كنت ملتفتاً فلا تيأس، ولو كنت غير ملتفت فلا شيء عليك. إن كنت ملتفتاً إلى لطفه وقهره فلا تكن من اليائسين، لماذا؟! لأنّ الفعّال لما يشاء هو فقط، وتقديره ليس حاكماً على مشيئته، بل مشيئته حاكمة على تقديره، يفعل ما يشاء.

    

طرف من أسرار سيرة يونس مع قومه

لقد ذهب النبيّ يونس مغاضباً أن لماذا يعبد هؤلاء الأصنام؟ فدعا عليهم أن يا ربّ أهلكهم! {وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظنّ أن لن نقدر عليه} [11]. {ذهب مغاضباً} فمن جهة هو نبيّ، ودعاء النبيّ وسخطه على قومه له أثره، فقلب الوليّ هو عين المشيئة الإلهيّة. دعا إلاّ أنّ هذا الدعاء لم يؤثّر؛ ففرّ من قومه، {فظنّ أن لن نقدر عليه} وتصوّر أنه ما دمنا قد استجبنا دعاءه فلا بدّ أن يفرّ. يا ذا النون لا تطمئنّ بأنّ الله قد استجاب دعاءك على قومك، فأنت بالنسبة إلينا كواحد من هؤلاء القوم، أنت ومن يخالفك سيّان عندنا. فإذا ما غيّر هذا المخالف ما في نفسه فإنّي أغيّر قضائي أيضاً، فقلبه كذلك هو مجرى لمشيئتي. فكما أنّ قلبك أنت كنبيّ مجرى لمشيئتي، كذلك قلب العاصي المذنب هو مجرى لمشيئتي. لقد كنت في غفلة عن هذا الجانب، فنظرت إلى المسألة من جانب واحد فقط. كنت تظنّ أنّا جعلنا الأمر بيدك تضرب وتبتعد جانباً. لا يا عزيزي! فأنت واحد من سكّان هذا العالم، والآخرون هم هؤلاء القوم: إذا تغيّروا فإنّا نقلب الأمر عليك! فإنّك وإن كنت نبيّاً ولكنّك واحد من الناس، وهذا واحد كذلك وذاك واحد...! فبالنسبة إلينا لا فرق بينك أيّها النبيّ وبينهم! لماذا رأيت حال التوجّه الذي جاءك منّي، بينما لم تر حال عصيانهم منّي؟ ولماذا فصلت بينهم وبيني؟ أليسوا عبادي؟! فهم في النهاية عبادي، وأنتم جميعاً تجلسون على مائدتي، فمن الذي رفعك إلى هذه الدرجة؟ >من أين لي النجاة؟< من الذي جعلك نبيّاً ومن الذي لم يجعلهم أنبياء؟ هو واحد، كلّ ذلك يرجع إلى منبع واحد: جعلك أنت نبياً ولم يجعلهم هم أنبياء! لماذا تنسب نفسك إلى هذا المصدر بينما تخرجهم عنه؟! لماذا ترى نفسك داخل هذا البيت وتراهم خارجه؟! {فظنّ ألّن نقدر عليه}: تصوّر أنّه سيخرج سالماً فأخذنا بتلابيبه، فشعر أنّه خرج رحمة الله وسقط في ظلمات ثلاث: ظلمة بطن الحوت وظلمة أعماق البحر وظلمة الليل. {فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت}. ولا بدّ أنّ هذا الحوت قد ضغطه عدّة ضغطات فشعر أنّها النهاية، وأنّه صار في خطّ المواجهة مع الموت. يا ربّ لقد أخطأت! هذا هو فرك الأذن الصادر عن مقام الجلال، ما يجعل الإنسان منقطعاً عن كلّ شيء، لا صديق ينفعه ولا أب ولا أُمّ ولا زوجة ولا أولاد ولا مال، يرى نفسه في ضيق يجعله يعترف ويقرّ أنّي أخطأت يا إلهي!
جاء السيّد جمال الدين الگلبيگاني إلى مقام الإمام عليّ وقال له: يا عليّ لقد خدِعت، أنا لم أعد أقدر، كان الإمام عليّ قد ألقاه في البلاء إلى درجة سلب منه كلّ شيء، وقصّته مفصّلة ومعروفة. {فنادى في الظلمات ألا إله إلا أنت}. هنا قال: أنت المؤثّر فقط، إن كنت أنت من جعلني نبيّاً فأنت من جعلهم على حالهم التي هم عليها أيضاً، عندها قال له الله: يا يونس اذهب وتعايش مع الناس.. اذهب وانسجم معهم.
النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله لم يكن كذلك في وقت من الأوقات، ولذا كان يقول في تلك الليالي: «اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون»[12]. لقد كان النبيّ محمّد إنساناً كاملاً ناضجاً، أمّا يونس فلم يكن قد نضج بعد: اذهب إلى بطن الحوت واذكر الله أربعين يوماً ساجداً وكرّر هذا الذكر 400 مرّة يوماً ولا تعد إلى تلك الأعمال. عندما فهم حقيقة الأمر، أمره أن يعود إلى قومه، فوجدهم أحياء يرزقون.. ماذا حصل؟ عفواً أعتذر إليكم! لقد كان حالهم قد تغيّر أيضاً، كما أنّ حاله هو تغيّر وفهم من هو المؤثّر وأنّه لا فرق بينه وبين العبد العاصي أمام الله، لقد فهم ذلك، هذا من جهة. كما أنّ القوم من جهة أخرى فهموا أنّهم إذا ما عادوا إلى الانحراف والمعاصي فإنّ يونس سيسخط عليهم فتغيّروا، والآن قال الله لهم: تعالوا وتصالحوا وعيشوا بسلام، وهذه هي المدينة الفاضلة، وهكذا تتبدّل أمور عالم المشيئة.

    

علوّ مقام أمير المؤمنين عليه السلام وسموّ منزلته

الآن لنعد إلى البحث: فأمير المؤمنين الذي طوى كلّ ذلك، وهو يعلم أنّه في سلامة من دينه، ولكن هل يجعله هذا العلم بالسلامة مرتاح البال، أم أنّه الآن قلق؟ يعلم أنّ عمل الله لا يحدّه حساب ولا كتاب، يعلم أنّه لا فرق عند الله بين عليّ وابن ملجم، لا فرق عند الله بين عليّ وشجرة من الأشجار، يعلم ذلك، فيبقى قلقاً: هل سيبدّل الله قضاءه فيه ونظره أم لا؟ فهو دائماً في حالة خوف، وهو دائماً في حالٍ من الاهتمام بذلك، أمّا بالنسبة إلى ما سوى الله فهو مطمئنّ البال، فلا تكليف له بالنسبة إلى ما سوى الله، لم يبق إلاّ هو في مقابل الله: أن لا يبدّل الله قضاءه فيه فيقول: يا عليّ لا أريدك! وهو مهتمّ بهذه القضيّة. لذا نجد في الأدعية أنّ الأئمّة يهتمّون فقط بأن لا يغيّر الله قضاءه فيهم، وهذه هي المسألة فقط. أي إنّهم يحسّون بعالم المشيئة، يشعرون بأنّ مشيئة الله وحدها هي التي تحفظهم، وأنّها لو لم تكن لما كانوا، وهذا هو مصدر قلقهم، وإلاّ فلا خوف في مقام الفناء ولا أيّ شيء آخر. التمايل في عالم الكثرة، التمايل في عالم جمع الجمع، ذلك العالم الذي يشعر فيه الموجود بالوحدة وفي الوقت نفسه يشعر بوجوده الخاص، يشعر بنفسه، يشعر بتعلّق مشيئة الله بنفسه، والحال أنّه هو نفسه يمكنه أن يدمّر العالم بإشارة واحدة، ولكن هذا ما سوى الله. هو يأمر جبرائيل وميكائيل، ولكن كلّ ذلك هو ما سوى الله. أي: إنّ ما يرتجف في باطن قلبه هو نفس ارتباطه بالله: هل هو راض بهذا الأمر أم لا؟ ويستمرّ على هذا الحال ويستمرّ إلى تلك اللحظة التي يهوي بها ابن ملجم بالسيف على رأسه؟ عندها يقول الآن انتهى الأمر واسترحت، وهذا معنى فزت، أي: إنّي أدركت الآن أنّ تلك العناية التي كنت تتفضّل بها عليّ باقية، وأنّ الأمر قد انتهى ونجونا، ونحن نعلم أنّه لا خطر في ذلك العالم، فأنا الآن مرتاح البال. ولذا فأنا اعتقد أنّ أسعد أيام أمير المؤمنين هي تلك الليلة الأخيرة، حيث ارتاح وجدانه، وهذا معنى (فزت)، فقد انتهى أمري، لا أنّي لا أرتكب ذنباً بعد اليوم، لا بل نظرك اليوم إليّ قد تحتّم، لقد كنتُ حتّى الآن خائفاً من تبديل نظرك إليّ وتغيير قضائك فيّ، والآن فهمت أنّ ما قاله النبيّ من كوني في سلامة قد تحقّق. لذا فمعنى «من أين لي النجاة؟» التي يقولها الإمام زين العابدين هو: من أين لي النجاة إلى آخر حياتي؟ فهو إلى آخر لحظة من عمره يشعر بهذا السؤال: من أين لي النجاة ولا تستطاع إلا بك؟
والإمام الحسين كذلك في دعائه يوم عرفة يريد هذا المعنى، يقول: إلهي كلّ ما كان إنّما كان منك، ولو لم تكن أنت لم يكن، وما معنى ذلك؟ معناه أنّي دائماً في حال اضطراب هل ستبدّل نظرك إليّ أم لن تبدّله؟ وأنا أستمرّ على هذا الحال لا أملك شيئاً، ولا فرق بين الإمام وغيره في هذا الأمر، إلاّ أنّ الإمام وصل إلى حقيقته، بينما نحن جاهلون نظنّ أنّ الإمام جالس كالطاووس قد انتهى أمره، وأنّا نحن الذين نعمل ونبذل الجهد، وأمّا هو فلا. إنّ المكانة التي بلغها الإمام والمعرفة التي هو عليها والحالات التي يملكها هي التي تجعله مضطرباً. إذا اتضّح ذلك فهمنا لماذا يبكي الإمام مع أنّ عمله تامّ وسيره قد انتهى، فالسير انتهى، ولكن في النهاية في مقام البقاء هل هذا الوجود ثابت أم لا؟ هل يحسّ بمقام عظمة الله وسلطانه أم لا؟
يقال: إنّ الشاه محمّد رضا عندما استلم رئاسة الوزراء كان في حال من الخوف الشديد، فقالوا له: لماذا أنت خائف؛ أنت رئيس الوزراء؟ فقال: أنتم لا تدركون عظمة مقام الشاه؛ فإنّه لو أراد في لحظة واحدة لزالت رئاسة الوزراء. أنتم لا تعرفون مقام الشاه وعظمته ومشيئته، إذا أشرت إشارة واحدة تخالفه فلن يبقى لي هذا المنصب منصب؛ لأنّ رئيس الوزراء هو الذي يدرك ذلك. أمّا ذلك الموظّف الصغير في الشارع فهو لا يدرك سوى من هو أرفع منه برتبة كرئيس البلديّة.

    

مقام (لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله) ولا هو إلاّ هو

ومن وصل إلى مقام الأسماء والصفات والمشيئة ـ التي هي مشيئة واحدة في العالم تفعل أيّ فعل وليس أمامها أيّ رادع: {يَمْحُو اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِت‏}، أي: يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، من وصل إلى مقام المشيئة المطلقة التي لا رادع لها فلا يمكن أن لا يكون مضطرباً، وإن كان بإمكانه أن يبدّل العالم كلّه بإشارة واحدة، فيشقّ القمر ويستدعي الشجرة، ولو كان حاكماً على جبرائيل، وآمراً لإسرافيل وميكائيل، كلّ ذلك هو ما سوى الله. أمّا ذات الله فماذا؟ القلق من ذات الله. لذا هنا عندما يبذل السالك كامل جهوده ويطوي العوالم والحجب يصل إلى مرحلة لا بدّ أن يخرج فيها عن نفسه، الآن كيف يخرج عن نفسه؟ لقد كان حتّى الآن يقوم بكلّ أفعاله بواسطة النفس.. كان يصلّي بواسطة النفس.. يقوم بالمجاهدة بواسطة النفس.. يطوي عوالم النور بواسطة النفس، عندما كان يتجاوز عالم النور والحور العين وما شابه هل كان بغير النفس؟ لا بل كان بالنفس، يصل إلى مرحلة لا يبقى إلاّ النفس، فكيف سيترك النفس، النفس لا يمكن أن تخرج عن نفسها بنفسها، هنا تبقى وحيدة وتبدأ بالصراخ: ماذا أصنع؟ هنا يأتي دور أمير المؤمنين، وهذا معنى السلام عليك أيّهاالزناد القادح. حيث يأتي أمير المؤمنين ويحرق هذه النفس، فالإنسان يصل إلى مرحلة تتبدّد فيها جميع الآمال. لقد كان حتّى الآن يتكّئ على هذه النفس، والآن يريد أن يقدّم هذه النفس. لقد طوى كلّ العوالم من الملكوت إلى اللاهوت إلى الجبروت، ووصل إلى مكان لم يبق فيه إلاّ نفسه، فكيف يزيل نفسه؟! هل يمكن لهذا الكوب أن يكسر نفسه بنفسه؟! أم أنّه يحتاج إلى يدّ لتضغط عليه وتكسره؟ أمّا هو فلا يمكنه أن يكسر نفسه. وهذا الماء هل يمكنه أن يسكب نفسه في الكوب؟ لا يمكن. والإنسان يصل إلى مرحلة تفنى فيها صفته واسمه وفعله، فيفهم التوحيد الأفعالي والصفاتي والأسمائي، يفهم الاسم والصفة، يشعر بكلّ ذلك ولكن يبقى تعيّنه، وإذا كان هناك تعيّن باق فلا يمكن أن يفهم التوحيد الذاتي، فلا بدّ أن يأتي من يعلّمه التوحيد الذاتي، من هو الذي يأتي؟ إنّه أمير المؤمنين. ولذا يقول المرحوم العلاّمة: عندما يصل السالك إلى هذه المرحلة يأتي أمير المؤمنين. ولا يعنى ذلك أنّه قبل ذلك لم يكن أمير المؤمنين، لا بل هو الذي كان، ولكن السالك كان يظنّ أنّ له أيضاً محلاًّّ من الإعراب، أمّا الآن فلم يعد هناك مكان لهذا الهزل، ولم يعد ير لنفسه محلاً من الإعراب أبداً. هنا لا بدّ أن يأتي الزناد القادح وينهي الأمر بحيث لا يبقى شيء من النفس.
لعلّ ذلك مفاد قوله: «من أين لي النجاة؟». وكيف يقوم أولياء الله باستحضار معناها في أنفسهم مع ما هم عليه من الوصول إلى مقام الفناء ثمّ البقاء؟ وللبحث تتمة يأتي الإشارة إليها في السنة القادمة إنشاء الله تعالى.


[1] ـ الآية 55 من سورة القمر

[2] ـ الآية 62 من سورة يونس

[3] ـ جزء من الآية 40 من سورة التوبة

[4] ـ الآية 3 من سورة النجم

[5] ـ آخر الآية 33 من سورة الأحزاب

[6] ـ إشارة إلى قوله عليه السلام في الكلمة 289 من قصار كلماته وقَالَ (عليه‏السلام): كَانَ لِي فِيمَا مَضَى أَخٌ فِي اللَّهِ وكَانَ يُعْظِمُهُ فِي عَيْنِي صِغَرُ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ، وكَانَ خَارِجاً مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِهِ فَلَا يَشْتَهِي مَا لَا يَجِدُ ولَا يُكْثِرُ إِذَا وَجَدَ، وكَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً فَإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ ونَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ، وكَانَ ضَعِيفاً مُسْتَضْعَفاً فَإِنْ جَاءَ الْجِدُّ فَهُوَ لَيْثُ غَابٍ وصِلُّ وَادٍ، لَا يُدْلِي بِحُجَّةٍ حَتَّى يَأْتِيَ قَاضِياً، وكَانَ لَا يَلُومُ أَحَداً عَلَى مَا يَجِدُ الْعُذْرَ فِي مِثْلِهِ حَتَّى يَسْمَعَ اعْتِذَارَهُ، وكَانَ لَا يَشْكُو وَجَعاً إِلَّا عِنْدَ بُرْئِهِ، وكَانَ يَقُولُ مَا يَفْعَلُ ولَا يَقُولُ مَا لَا يَفْعَلُ، وكَانَ إِذَا غُلِبَ عَلَى الْكَلَامِ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى السُّكُوتِ، وكَانَ عَلَى مَا يَسْمَعُ أَحْرَصَ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ، وكَانَ إِذَا بَدَهَهُ أَمْرَانِ يَنْظُرُ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْهَوَى فَيُخَالِفُهُ، فَعَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْخَلَائِقِ فَالْزَمُوهَا وتَنَافَسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوهَا فَاعْلَمُوا أَنَّ أَخْذَ الْقَلِيلِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِ الْكَثِير.

[7] ـ النصّ الذي أوردناه مطابق لما جاء في عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 266، وهو مشابه لما ذكره سماحة السيّد بالمعنى. (المترجم)

[8] ـ سورة يونس، مقطع من الآية 62.

[9] ـ علي بن محمد الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 170.

[10] ـ مقطع من دعاء يوم عرفة.

[11] ـ سورة الأنبياء، مقطع من الآية 87.

[12] ـ بحار الأنوار، ج95، ص 167.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی