معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > محاضرات الحج لآية الله السيد محمد محسن الطهراني > الحج وآثاره الملكوتية - الجلسة الثالثة

_______________________________________________________________

هو العليم

الحجّ و آثاره الملكوتيّة

المجلس الثالث

و هي محاضرة ألقيت
على مسامع بعض الإخوة الذين أرادوا التشرّف بالذهاب إلى الحج
سنة 1425 في قم المقدّسة

سماحة آية الله

السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد وعلى آله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

اللهم صلّ على محمد وآل محمّد.
يقول الله في الآية الشريفة: {وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى‏ كُلِّ ضامِرٍ يَأْتينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَميقٍ}.
ناد الناس يا إبراهيم ليأتوا إلى الحجّ.. إلى زيارة بيت الله.. إلى بيتي، بأيّ نحو وبأيّة وسيلة؟ يأتوك مشاة على أرجلهم، وعلى مراكب نحيفة هزيلة مريضة، ليأتوا من كلّ ناحية ومن كلّ بيداء، ومن كلّ بقعة من بقاع الأرض مهما بعدت، لا أنّهم يأتون من جوار الجزيرة.. من اليمن والعراق وسائر البلدان المجاورة، لا بل من أقصى بقاع الدنيا، يأتون لزيارة بيتي على هذه الحال ويؤدّون المناسك والأعمال التي أوجبتها على عبادي في هذه الفريضة.

    

المنزلة الواقعيّة والتكوينيّة العظيمة للكعبة

ومنذ أن خلق الله تعالى آدم أبا البشر كان موقع مكّة ومكان الكعبة معروفين، وفي الرواية أنّ هذا البناء الفعليّ للكعبة كان قد حدّد من قبل آدم، ولم يكن قد بني على هيئة بناء متكامل، بل كان جدراناً من الصخور المرصوصة، أو أعمدة أربعة، أو وضعت أحجار بشكل مربّع في الزوايا التي تمثّل الآن زوايا الكعبة دون أن يحدث تغيير في مواضعها. فالكعبة ليست مبنى عادياً بحيث يمكن لأيّ إنسان أن يبني أربعة جدران بأيّ نحو شاء، ثمّ يدعو الناس إلى الصلاة نحوها، لا فالكعبة شأنها متميّز منذ أن خلق الله الأرض، ونحن نعلم أنّ الأرض كانت مغطّاة بالماء كلّها، ولم يكن على سطح الأرض شيء من اليابسة، أما باطن الأرض فقد كان فيه طبقات مختلفة من اليابسة، تلك الطبقات التي تحتوي على موادّ مركّبة وبتلك الكيفيّة الخاصّة التي هي عليها الآن، أما ظاهر الأرض فقد كان مغطىً كلّه، والدليل على ذلك تلك الآثار التي نجدها الآن، فالجبل المجاور لمدينة قم والمسمّى بجبل الخضر أو ما حوله من الجبال كان يحتوي على بعض آثار الحياة البحريّة، وأذكر أنا حينما كنا نذهب إليه قبل ثلاثين عاماً كنّا نجمع منها ولا يزال لديّ شيء منها، وكذا المرتفعات المجاورة لمدينة مشهد والقريبة من الاتحاد السوفياتي السابق، فقد كنّا نذهب إليها أحياناً، وكنّا نجد أنّ قمم الجبال مليئة بآثار الحياة البحريّة المتحجّرة، فكلّ الأرض كانت مغطاة بالماء، وقد بدأ ظهور اليابسة أول ما بدأ من نقطة الكعبة، ومع ظهور القشرة الأرضيّة وانحسار الماء بدأت اليابسة بالبروز شيئاً فشيئاً وظهرت بعدها القارات، فالنقطة الأولى في اليابسة هي مكّة، ويسمّى اليوم الذي ظهرت فيه مكّة يوم دحو الأرض، وهو في أيّ يوم من أيّام ذي القعدة؟ [قال أحد الحاضرين] الخامس والعشرين، نعم الخامس والعشرين، فمن هنا بدأت اليابسة بالظهور والتشكّل، واتخذت كلّ بقعة من الأرض خصوصيّاتها وجغرافيّتها وما تبقّى كان عبارة عن هذه البحار التي تفصل القارات، ولذا فمسألة الكعبة ليست مسألة اعتباريّة وجعليّة، بل هي مسألة واقعيّة، حيث أنّ الله تعالى جعل ظهور أرضه من هذه النقطة التي تعلّقت بها إرادته، فظهور الأرض وتكوّنها لا بدّ أن يكون من المكان الذي اختاره هو لنفسه وأراده، وهذا يعني أنّ تشكّل الأماكن المختلفة بخصوصيّاتها في كافّة مناطق الدنيا لا بدّ أن يبدأ من نقطة العبوديّة ونقطة الوحدة ونقطة الاتصال بين جانب عالم الملك وجانب عالم الملكوت، لا بدّ أن يبدأ من هنا، لذا علينا أن نعرف قيمة مكّة والكعبة، وينبغي أن لا ننظر إلى هذا البناء نظرتنا إلى أيّ بناء، فهناك من يبني مثل الكعبة في مناطق مختلفة، بعضهم في الهند وبعضهم في إيران، فهم يبنون أماكن للعبادة مشابهة للكعبة في طولها وعرضها وارتفاعها، وقد زرتها برفقة المرحوم العلامة، عندما تنظر إليها وتنظر إلى الكعبة تعرف أنّ الفرق بينهما كالفرق ما بين الأرض والسماء، رغم أنّ كليهما بنيا من الأحجار، فليست مسألة الكعبة ومسألة مكّة مسألة عاديّة لننظر إليها نظرتنا إلى سائر الأماكن وسائر الأبنية، فمن حيث الأحجار كلّ الأبنية متساوية، بل لو فرضت أنّك جئت بأحجار الكعبة ورميتها بعيداً، وبنيت الكعبة بنوع آخر من الأحجار؛ كالآجر مثلاً، فلن يختلف الأمر، بل حتّى لو بنيت الكعبة بالحديد، الكعبة هي الكعبة، ولو بنيتها بأي نوع آخر من موادّ البناء فلن تختلف، ليست قيمة الكعبة في أحجارها، بل قيمتها بتعلّق إرادة الله بها، لقد تعلّقت مشيئة الله بهذه النقطة من الأرض.

    

لكلّ زمان ومكان خصوصيّته الخاصّة وأولياء الله كانوا يراعون ذلك

ويرى الإنسان مثل هذه الأوقات التي تعلقت بها الإرادة الإلهية في أيام السنة أيضاً، فمثلاً ليلة القدر لها أعمالها الخاصّة لماذا؟ ليلة القدر هي من حيث عدد ساعاتها كسائر الليالي التي قبلها وبعدها، مثلاً عشر ساعات، فهي من حيث الزمان لا تختلف عن غيرها، وكذا ليلة الخامس عشر من شعبان، وكذا يوم عيد الأضحى، فالمسألة في الأزمان والأماكن المختلفة هي كذلك، لماذا؟ لأنّ إرادة الله تعالى تعلّقت بهذا الزمان الخاص، شهر رمضان له خصوصيّة تختصّ به، ولو صمت شهر ذي القعدة فإنّ صيامك هذا يختلف عن صيام شهر رمضان، ولو صمت شهر ربيع الأول بدلاً من شهر رمضان ـ باعتبار أنّ الجوّ فيه أفضل مثلاً ـ فليس لهذا الصيام أيّة فائدة، بمجرّد أن يأتي شهر رمضان يشعر الإنسان أنّ الأحوال والأجواء قد تغيّرت، الشمس والأرض لا زالتا عل حالتيهما إلا أنّ الأمر يختلف، والأولياء العظام يشعرون بذلك، كنت ليلة أمس أطالع كتاباً لطيفاً فيه حكايات جيّدة عن الأولياء، وفيه حكاية عن المرحوم السيد أبو القاسم لواساني ـ الذي كان وصياً ظاهرياً للمرحوم السيد أحمد الكربلائي ـ حيث كان يبيت برفقة المرحوم الشيخ محمد البهاري في مسجد السهلة، وقد كان المرحوم الشيخ محمد البهاري من أولياء الله ومن تلامذة المرحوم الآخوند الملا حسين قلي الهمداني، وكان الشيخ محمد البهاري والسيد أحمد الكربلائي يتتلمذان معاً عند المرحوم الآخوند الملا حسين قلي الهمداني، وكلّ منهما كان من عجائب الزمان، وخصوصاً السيد أحمد، وقبر المرحوم البهاري هو في همدان في منطقة بهار، ومن الواضح كم كان رجلاً عظيماً نورانياً رفيع المنزلة، فبركة تلك المنطقة هي بواسطة وجوده فيها، والذين يذهبون إلى تلك المقبرة يروون عنها وعن آثارها حكايات عجيبة. فقد كان زميله هو السيد أحمد الكربلائي أستاذ المرحوم القاضي، وكان السيد أحمد هو الآخر شخصيّة عجيبة نادرة الوجود، لا نظير له في عالم الفضيلة والعلم، كان هذان العلمان معاً في مسجد السهلة، وقرب الصبح يخرج المرحوم السيد أبو القاسم وينظر في السماء ليرى إذا كان الفجر قد دخل أم لا، حيث شكّ في ذلك، فيرجع ليطمئنّ قليلاً فإذا به يرى السيد أحمد يرفع الأذان، فيقول له: اصبر قليلاً، فيجيبه: عزيزي لقد رأيت بنفسي ملائكة الليل قد صعدت وملائكة النهار قد جاءت، لقد انتهت نوبتهم!!! (على سبيل الملاطفة) فهذه المسائل موجودة، وهذه أمور حقيقيّة، وعالم التكوين الظاهري الذي نراه نحن الآن ليس عالماً عبثياً، ولو نقلت لكم لمحة ممّا سمعته فلا قدرة لأحد من الإخوان على استماعها، علماً بأنّ هذا المقدار الذي سمعته أنا بحسب طاقتي، نحن لم نلمس شيئاً ولكنّا سمعنا شيئاً ما يناسب سعتنا.. فالجوّ يختلف، فلو قلت أنا أصوم شهر محرّم بدلاً من شهر رمضان، جيّد فالصيام جيّد ومستحبّ، ولكن أجواء وأحوال شهر رمضان شيء آخر.. أحوال وأجواء شهر رجب تختلف.. كما أنّ رجب يختلف عن شهر رمضان، خصوصيّته تختلف، إلا أنّ من يدرك شهر رجب لا يعني أنّه يستغني عن شهر رمضان، فهذا بمكانه وذاك بمكانه، تماماً كمن يقول: أصلّي ولكن لا أصوم، فالصلاة أفضل.. الصلاة قربان كلّ تقي، ما نودي بشيء كما نودي بالصلاة، ولم يتمّ التأكيد على شيء كما أكّد على الصلاة.. لكن هل يمكن أن نصلّي بدلاً عن الصوم؟ لا فهذا له مكانه وذاك له مكانه الخاص. الماء مفيد لنا، لكن إذا اقتصرنا دائماً عليه نموت، لا بدّ أن نشرب الماء كما لا بدّ كذلك أن نأكل الخبز. وهكذا الأوكسجين مفيد، ولكن لا يمكن أن يقتصر عليه، فإنه ينتهي إلى الموت، لا بدّ أن ينظَر إلى كلّ شيء في مكانه المناسب، وهنا لدينا تعليق مختصر يأتي.

    

للحجّ غايته الخاصّة ومن يؤدّي الأعمال والمناسك لمجرّد رفع التكليف يرحل عن الدنيا ناقصاً

بناء على ما تقدّم علينا أن لا نهمل مسألة مكّة والكعبة، فهي مسألة مهمّة وتستحقّ الاهتمام، فلا يظنّ الإخوان أنّهم سيسافرون في رحلة خارج الوطن ليروّحوا عن أنفسهم كالمعتاد، وفي هذه الرحلة سيقومون ببعض الأعمال الروتينيّة فيسقط التكليف، لا فأنتم ذاهبون إلى مكان عيّنه الله تعالى لاستقبال زوّاره وضيوفه وإكرامهم، هو اختار ذلك المكان لاستضافة عباد خلقهم في هذه الدنيا ليبلغوا مقصداً معيّناً، ولم يخلقهم عبثاً، ولم يجرِ قرعة ليخلق فلاناً أو فلانا، لا بل كان الخلق لغاية وغرض، ونحن الآن إذ نعيش في الدنيا فقد جعل الله لكلّ واحد منّا ملّفه الخاصّ عنده وعند الملائكة.. جعل لكلّ واحد كتاباً خاصاً، قد تقول: هل الله بنفسه يهتمّ بكلّ هذه المخلوقات؟! فليتركها وشأنها! لا بل هو يهتمّ بكلّ واحد منّا ويجعل كتباً مخصّصة وحسابات مستقّلة لكلّ فرد بنفس المستوى والدرجة التي يهتمّ بها بأعلى مخلوقاته الذي هو النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، نعم يجعل لكلّ فرد كتابه الخاصّ، الكتاب الأول، الكتاب الثاني... الصفحة الأولى.. الصفحة الثانية.. الثالثة.. الرابعة إلى أن ينتهي هذا الكتاب، في الصفحة التاسعة والثلاثين ماذا كتبنا عنك؟ في الصفحة السابعة والثلاثين رأينا منك ذلك العمل فسجّلناه، فهل أنت ملتفت إلى ذلك؟ الصفحة الثالثة والثلاثين: في اليوم الفلاني والساعة الفلانية قمت بعمل ما... كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. لقد جعل الله لكلّ يوم من العمر الذي قرّره للإنسان ورقة خاصّة تغطّي وقته من الصباح حتى المساء، الساعة الأولى.. الثانية.. الثالثة... ويوم القيامة نعطَى هذا الكتاب بأيدينا. حسناً؟
بناء على ذلك لم نخلق عبثاً، بل هناك هدف ومسير خاصّ، فما هو ذلك السبب وما هي تلك الحاجة التي على أساسها لم يأمرنا الله بدلاً عن الحجّ أن نصوم وأن نخمّس وأن ندفع الزكاة وأن نصل الأرحام، فما هي الحقيقة التي تكمن وراء أمره تعالى لنا أن قوموا من الأماكن البعيدة ومن أبعد نقاط الأرض.. انهضوا مثلاً من وسط القارة الأمريكيّة، من تلك المدينة التي تصح فيها الصلاة لجهتين لاستواء مسافتها إلى الكعبة من الجانبين، ويجب أن تأتوا من هناك ولو بالقوارب والسفن لا بطائرات 747، عليكم أن تأتوا بالقوارب لأداء هذه المناسك.. ما هو السرّ في ذلك، هل المسألة من المسائل العاديّة؟ هل كان ذلك لأنّ الله تعالى أمر بالحج كما أمر بسائر الأعمال، وهذا واحد من الأوامر ـ كما يحاول بعض الناس تصويرها ـ أم أنّ هذا النحو من التعبير أن يا عبدي إبراهيم ناد في الناس نداء يصل إلى آذانهم جميعاً إلى يوم القيامة، إلى ظهور الإمام المهدي، إلى زمان ما بعد الظهور، إلى زمان الرجعة.. إلى يوم القيامة، وكل من يمرّ في هذه الدنيا لا بدّ أن يأتي إلى هذه البقعة، ما معنى ذلك؟ معناه أنّ تكامل الإنسان في هذه الدنيا هو بارتباطه وتعلّق روحه بهذه المناسك وهذه الأعمال التي يؤدّيها هنا، من يفارق الدنيا بغير أن يأتي مكة فإنّه يفارقها ناقصاً، وذلك الزاد الذي يحمله معه لا يوصله إلى المقصد النهائي، من لم يأت إلى مكّة...

    

من زار الإمام الرضا حبواً على الثلج لم يكن أتى بشيء عظيم

كنت يوماً عند أحد الأصدقاء في إحدى المدن فسألته كم مرّة ذهبت إلى زيارة الإمام الرضا عليه السلام في مشهد؟ فقال: مرّة واحدة عندما كنت في الثامنة عشر من عمري ومنذ ثلاث وثلاثين عاماً لم أزر الإمام عليه السلام، فقلت له: وهل أنت مسلم؟! بإمكانك أن تستقلّ حافلةً في الليل، فإذا أنت في مشهد صباح اليوم التالي، وأمر ذلك يسير، فقال: لم يتيسّر لي ذلك. قلت له: لم يتيسّر؟! فكيف تيسّرت سائر أعمالك؟ لماذا تخصّص لسائر أمورك وقتاً ولا تخصّص لزيارة الإمام الرضا عليه السلام، لماذا؟ لأنّا نحن لا نعرف الإمام الرضا.. نحن نتصوّره إنساناً عادياً صنعوا له قبّة ومشهداً، نعم لا مشكلة نذهب ونحصّل ثواباً إذا وفِّقنا إن شاء الله، وما دامت أحوالنا جيّدة فلا داعي للذهاب، أما إذا خربت أوضاع حياتنا فاختلفنا مع فلان وفلان ونشبت الخلافات الزوجيّة، وتركني شريك العمل... الآن لم يبق لنا مكان، فإلى أين نذهب؟ لنذهب إلى الإمام الرضا، نحن لم نعرف الإمام الرضا، ولم نعرف الإمام الحسين ولم نعرف إمام الزمان عليهم السلام، لذلك نتعامل مع هذا الموضوع بكل بساطة، من الذي عرف الإمام الرضا عليه السلام؟ إنّه المرحوم العلامة الذي كان يقول: لو أنّ إنساناً أتى من أقصى الأرض حبواً على الثلج ـ لا سيراً على الأقدام ـ من أجل زيارة الإمام الرضا فلم يقم بشيء عظيم، هذا من عرف الإمام، وهو يعرف سرّ الذهاب، وسرّ الحركة والتسليم والتقرّب إلى الولاية، هو من عرف ذلك، نعم ولكنه أخبرنا أيضاً وبيّن لنا، جيّد هو لم يطلب منّا أن نذهب زحفاً إلى الإمام الرضا، فلنذهب بوسائل النقل المريحة، بالسيارة.. بالقطار.. بالطائرة، ذلك موكول إلى اختيار كلّ إنسان.

    

على المرشدين أن يلفتوا أنظار الحجّاج لفلسفة الحجّ ومعنويّته لا أن يشغلوهم بالمسائل الاحتياطية

الناس ليسوا مقصّرين في ذلك، فهذا ما بيّن لهم، وللأسف المقدار الذي بيّن فيما يتعلّق بحقيقة الحج وفلسفة الحج وروحيّة الحج ومعنوية الحج والآثار والبركات التي ينالها الإنسان في الحج، هي واحد من مليون بالنسبة إلى ما بيّن من أحكام الحج وأفعاله، فهم يصبّون كامل سعيهم على كيفيّة القيام بالأعمال، انتبه إلى رأسك ولا تلتفت حولك! عند التلبية التفت إلى سلامة اللفظ! الفظ حرف العين صحيحاً![1] دقّق بمخارج الحروف... في حجّتي الأخيرة جاء أحد المعروفين إلى أحد الإخوان ناصحاً فقال له: بمقدار ما تكون دقيقاً في أداء الأعمال تكون قريباً من الله. معنى ذلك أنّ كافّة أعمال الحجّ منوطة بالدقّة في كيفيّة الحركة وكيفيّة النظر وكيفيّة التلفّظ، هذا ليس حجاً هذا تمثيل ومسرح، وعندما كنّا في الحج قبل عشر سنوات، وكنت قد ذهبت مع إحدى الحملات اللبنانيّة، جاء أحدهم وقال: العلّة في ضرورة أن لا تحيد الأكتاف اليمنى عن موازاة الكعبة هي أن الله يريد أن يتحرّك الجميع على هيئة صفّ واحد، فقلت له: وهل الحجّاج في جيش؟!
قلت له وهل هذا معسكر للقوّات المسلّحة؟! ينبغي للجميع أن يسيروا بانتظام بدون التفات إلى يمين أو يسار؟! أيّ منطق هذا الذي تطرحونه؟! لقد كان النبيّ صلّى الله عليه وآله يطوف راكباً على الناقة، فما معنى هذا الكلام؟ رغم أنّ ذلك هو فتوى مرجع تقليدهم، قلت له: من أين جئت بهذا الكلام؟ لقد كان النبيّ يطوف على الناقة أحياناً فلم يجد جواباً ذلك الرجل المسكين ومضى لسبيله، حينها قال الحجّاج: فلتبينوا لنا الأحكام أنتم يا سيّد، فشرعت ببيان الأحكام، وفي اليوم الثالث من أيام الحجّ جاؤوا وقالوا لي: جزاك الله خيراً ورحم والديك لقد أرحتنا! لقد كنّا نعاني سكرات الموت.. كنّا نرى الكوابيس المزعجة في نومنا. هل رأيتم ماذا يجرّون على الناس من البلاء؟! يقولون: نحن نرى الكوابيس المرعبة نتيجة المسائل التي يبيّنون!! عندما انتهت أعمال الحجّ جاؤوا وسألوا: أنا صنعت كذا وكذا، قلت: لا شيء عليك. أنا صنعت كذا وكذا.. امض ولا شيء عليك... فقط سائل واحد منهم كان عمله يقتضي الإعادة احتياطاً، فقلت له: أعد العمل الفلاني من باب الاحتياط. قالوا: جزاك الله خيراً.. أطال الله في عمرك!! عجيب.. واقعاً عجيب.. التفتوا! لقد اختصرنا مسألة بهذه الدرجة من الأهميّة والشأن العظيم فقط بكيفيّة التلفّظ بالكلمات.. بكيفيّة العبارات.. بالالتفات إلى الأكتاف.. والاشتغال بحركات الظاهر والغفلة عن كلّ ما عيّنه الله لنا، إنّ مسألة الحجّ هي مسألة ينبغي الالتفات فيها إلى أنّ الله تعالى فرضها من أجل تكاملنا.. للوصول إلى تلك الفعليّات.. وإذا لم نلتفت في هذه الدنيا، فسنفهم هناك في عالم الآخرة ما هي المسائل التي أعدّت والمطالب التي ادّخرت لنا.

    

كلّما كان سنّ الحاجّ أصغر كلّما كان نصيبه من الحجّ أكبر

لماذا يوصون بأنّ يذهب الناس إلى الحجّ في سنّ الشباب؟ كي يستمرّوا في حياتهم حتى نهايتها على أساس الحجّ.. لكي يحتفظوا بحالات الحجّ وروحيّته حتّى نهاية عمرهم. لماذا يستحبّ اصطحاب الأطفال إلى مكّة؟ لأنّ هؤلاء الأطفال يستفيدون ويستفيضون ويدركون بدورهم.. هؤلاء يستقبلون الأنوار أيضاً. لقد نقل لي أحد الإخوة من الأصدقاء ومن أهل المكاشفات الصادقة في العام الماضي مكاشفة وقال: بينما كنت جالساً على درجات الصفا والمروة أنظر وأتأمّل في الكعبة ـ وكانت الليلة السادسة أو السابعة ـ إذ رأيت وعاء كبيراً يخرج من الكعبة ويرتفع نحو الأعلى فوقها بحيث يغطّيها كاملةً، وكانت على شكل نصف دائرة، وكان النور يسطع من هذا الوعاء المعلّق على كلّ من يطوف حول الكعبة، وكان يسطع على بعضهم بشكل شديد وعلى بعض آخر بنحو ضعيف، وبعضهم كان نصيبه خطّ صغير لا أكثر، ونظرت فإذا الحظّ الأوفر هو لأولئك الأطفال، فالطفل بريء ومعصوم، هل التفتّم؟ ولكنّهم يقولون بعد ذلك: نعم خذوا الأطفال إلى الحجّ من باب التمرين! ليشاهد ويتفسّح. كلا، فالطفل البريء يستفيد أكثر من الكبار، نحن ارتكبنا الذنوب.. نحن ملوّثون، أمّا هو فلا، كان يقول: وكلّما كان الإنسان أكثر شباباً واصغر سنّاً كان نصيبه أكبر.. وبالطبع كان هناك بعض كبار السنّ نصيبهم وافر أيضاً، وقد كان النور يسطع عليهم ويحملهم إلى اللانهاية، يتزوّدون النور من هذا الوعاء وبعد ذلك يتوجّهون نحو أفق لا حدّ له. وحقيقة المسألة هي كذلك، فهذا الطفل الذي يقوم بأعمال الحجّ هو يستفيد ويحتفظ بها في قلبه.
فينبغي أن تكون نظرتنا إلى مكّة وإلى الكعبة منطلقة من هذا الأساس، ولا بدّ أن نهتمّ بهذه الأعمال، لا أن نذهب إلى ذلك المكان لنمارس بعض الأفعال رفعاً للتكليف فحسب، نقوم بها لأنّ الله طلب منّا أن نأتيَ مكّة في العمر مرّة، ولا بدّ أن نطيعه في النهاية، وليس هناك مفرّ؟!

    

نظرتنا للحجّ يجب أن تكون موافقة لنظرة الإمام الذي يكون حاضراً بنفسه في موسم الحجّ

في أحد الأسفار إلى الحجّ وقبل أن نصل إلى مكّة حيث كنّا لا نزال في المدينة وكنّا قد وصلنا لتوّنا إليها، وذلك في تلك الرحلة التي كانت برفقة المرحوم العلاّمة قبل ارتحاله بثلاثة أعوام، وكان معنا الحاج نصيري وبعض الإخوان، في تلك الرحلة سئل أحد الحجّاج عن رأيه وانطباعه عن المكان وهل هو جيّد؟ فقال: نعم جيّد.. إن هي إلا أيّام ونرجع.. إن شاء الله ستمرّ بسرعة ونعود إلى أوطاننا!! ما شاء الله! نحن لا زلنا في المدينة ولم نذهب بعد إلى مكّة! تقول: تنقضي سريعاً ونعود إلى أهلنا وعيالنا؟! جيّد! هذه إحدى الرؤى للمسألة، وهناك رؤية أخرى أيضاً، رؤية للحجّ يودّ صاحبها لو يبقى دائماً في تلك الديار، لا يريد أن يخرج، لا يمكنه أن ينزع قلبه، لا معنى لأيّ مكان آخر عنده. التفتوا! فهذا هو المكان الذي كان الأنبياء يشعرون بحاجتهم إليه بعد بلوغهم النبوّة، فكيف بنا نحن؟! لماذا كان النبيّ يتشرّف بزيارة مكّة، لماذا يأتي إمام الزمان كلّ عام إلى مكّة، نحن نظنّ أنّ الإمام يقوم بذلك كعمل اعتيادي، لماذا يأتي الإمام كلّ عام؟ في كلّ عام هو يأتي إلى مكّة ويزور كافّة الأماكن، فعندما تكونون في حال الطواف فاعلموا أنّ أحد الطائفين معكم هو إمام الزمان، التفتوا جيداً! عندما تكونون في عرفات فأحد الواقفين في عرفات هو إمام الزمان عليه السلام، غاية ما في الأمر أنّه لا يرى مصلحة في أن يعرفه الناس، وربما كان يُري نفسه للجميع، وهو يفعل ذلك في عرفات، الجميع يرونه، ولكن ليس هناك مصلحة في أن يعرفوه، هو حاضر أيضاً في منى يرجم الجمرات ويذبح، ويقوم بكافّة الأعمال، لماذا؟ هل هو عاطل عن العمل؟ لا فعمل الإمام يفوق أعمالنا مجتمعة، فكلّ عوالم الملك والملكوت والملائكة إنّما تسير بتدبيره عليه السلام، الإمام الحسن المجتبى حجّ خمساً وعشرين حجّة أيام إقامته في المدينة، وأكثر هذه الحجج كان يؤدّيها عليه السلام ماشياً، وبين مكّة والمدينة سبعون أو ثمانون فرسخاً، ومع ذلك كان يسافر ماشياً، والحال أنّ مراكب الإمام كانت تسير في طليعة القافلة، لا أنّه لم يكن يملك مركباً. فما هو الإحساس الذي كان يشعر به الإمام الحسن عليه السلام كي يحجّ خمساً وعشرين حجّة ماشياً، هل كان عاطلاً عن العمل؟ أم أنّه عندما يصل إلى الإمامة يدرك حقيقة الأمر، ما يدركه الإمام لا ندركه نحن بعد مائة ألف عام، نحن ندرك بحدود أنفسنا، ومع ذلك نقف حائرين، لماذا؟ لأنّ عناية الله ولطفه لا حدّ لهما، فهو يقسم لنا نصيباً معيّناً ويقسم للإمام نصيباً آخر، كل منّا يذهب إلى المكان نفسه، فكلانا يذهب إلى مكّة وإلى عرفات وإلى منى وإلى المشعر، ولكن ما يصلنا شيء وما يصله شيء آخر، لذا هو يأتي أيضاً إلى هذا المكان ولا يقول أنا مستغن، أنا صاحب الولاية، وواقعاً كل فيض يصل إلى الناس كلّهم هو من أجل الإمام، فهو يصل أولاً إلى نفسه وبعد ذلك يصل إلى كلّ إنسان بحسب استعداده وسعته والتفاته، فينبغي أن يكون الحاجّ ملتفتاً لا غافلاً، وبقدر التفاته يصله حظّ أكبر من قبل الإمام.

    

ينبغي على الحاجّ أن يبتعد عن جميع أسباب الغفلة ويصبّ اهتمامه على رفع الآلام والنقائص عن نفسه

فبناء على ذلك على الإخوان والأصدقاء أن يدركوا قيمة هذه الرحلة، وبما أنّ الله وفّقنا وقسم لنا هذه الضيافة، فلنجعل لهذا الشهر حساباً مختلفاً، فكم هي مدّة الشهر؟ إن هي إلا شهر واحد، فلنترك لشهر واحد تلك المطالب التي اعتدنا على طرحها بشكل يوميّ.. لنترك لغو الكلام.. لنترك إشغال الذهن بالأمور التافهة، الواجب علينا أن نكون كذلك أيام السنة كلّها، ولكن الآن فعلاً لنلتزم به لشهر واحد.. لنلتزم لشهر واحد بعدم الجلوس مع أيّ إنسان والشروع في الثرثرة.. لنلتزم لشهر واحد بعدم الإصغاء إلى كلام الناس؛ فالناس في غفلة. قبل خمس سنوات سافرنا برفقة بعض الإخوان إلى الحجّ، كنت أرجع من الحرم متأخّراً بعد الظهر، فقالوا: لقد تأخّر وقت تناول الطعام، قلت: لا بأس ولا إشكال في ذلك، وإذا ما حصل تأخير فلا داعي لأن آكل، وإن شئتم ضعوا طعامي جانباً، قالوا: نحن لا يمكننا أن ننتظركم، قلت: لا تنتظروا عندما أصل أتناول الطعام بمفردي ولا أطالبكم، وقد أدّى ذلك إلى عدم توفّر فرصة لتناولي الطعام أبداً؛ لأنّي في الليل كنت أرجع متأخّراً ساعتين أو ثلاث ساعات بعد وقت تناول العشاء أيضاً، ومع ذلك شرعوا بالكلام قائلين: لماذا انتحى بنفسه جانباً... هذه هي حال الناس، إن لم آت يقولون لماذا لا تأتي؟ وإن جئت يقولون لماذا تأخّرت؟ فقلت لهم أنا لا أريد الطعام أصلاً! ماذا أصنع أكثر من ذلك، فمن يذهب إلى المدينة لا ينبغي أن يأسر نفسه بهمّ الطعام وما شابه. وكانوا يجلسون في غرفهم ويتحدّثون، أما بماذا كانوا يتحدّثون وفي أيّ المسائل كانوا يخوضون؟ فهذا شيء آخر... فهل يمكن للإنسان أن يعاشر هؤلاء ويرتبط بهم، هل يمكن للإنسان أن يصرف وقته معهم؟ أم عليه أن يهتمّ بواجباته، فكلّ إنسان عليه أن يهتمّ بما ألقي على عاتقه، عليه أن يتابع شأن فقره ومسكنته أمام الله، عليه أن يسعى وراء رفع آلاف النقائص التي يعاني منها، وآلاف المحن والآلام، عليه أن يهتمّ بذلك، وكما يقول المرحوم العلامة في أحد التسجيلات ـ ولعلّكم سمعتموه ـ عندما كان المرحوم العلامة الطباطبائي في النجف كان العلماء يعترضون عليه قائلين: لماذا يحني رأسه وينظر إلى الأرض ويمضي إلى الدرس وإلى الحرم ولا يرفع رأسه ولا ينظر من حوله هنا وهناك ولا يسلّم على هذا ولا على ذاك؟ وكان المرحوم العلامة يقول: عند العلامة الطباطبائي آلاف الآلام والمحن يريد أن يرفعها ويحلّها، هو لم يأت إلى النجف لينظر إلى هذا وذاك، من جاء ومن ذهب، لقد كان همّه منصبّاً على ذاته، وعلى فكره وعلى طريقه وعلى هدفه، فالفرصة لا تتّسع لأن ينظر إلى غير ذلك.. المجال لا يتّسع للذهاب إلى هذا المكان أو ذاك.
وفي تلك الرحلة كذلك، عندما كنت أذهب ليلاً إلى المستجار وأقضي مقداراً من الليل عنده، كان يأتي إلى هذا المكان الكثير من الأشخاص ومنهم بعض العلماء، ولكن لم يكن لهؤلاء من غرض سوى اللقاء ببعض أصدقائهم الذين يأتون من سائر البلدان، وقد تحوّلت تلك البقعة إلى ملتقى للاجتماع والمزاح والضحك والغيبة.. يجلسون فيه لمدّة ساعتين يقومون بعدها فرحين؛ فقد التقينا اليوم بهذا العدد من الناس، جيّد! ثمّ يسيرون وعيونهم تجول هنا وهناك، ربّما رأوا أحداً آخر لينادوه. لكن من أراد أن يذهب إلى المسجد الحرام فعليه أن تكون عينه على الكعبة فقط، والنظر إلى الكعبة عبادة، فيجب أن ننظر إليها فقط، والالتفات والاهتمام بغيرها خطأ كبير، هناك ينبغي الاهتمام بالصلاة والطواف وما شابه ذلك لكي يتمكّن من اكتساب الآثار الواقعيّة للحج.

    

من الواجب التهيّؤ نفسياً لسفر الحجّ وفي ضمن ذلك القيام بغسل التوبة

ينبغي للإخوان هناك أن يهتمّوا بالأذكار، وقبل أن ينطلقوا ينبغي أن يغتسلوا غسل التوبة، وطريقة التوبة هي وفق النحو المعروف، ولا بدّ أن نشترط على أنفسنا حتى قبل السفر أن نهيّئ أوضاعنا وعلاقاتنا، فلا نصغي إلى أيّ كلام، ولا نخوض في أيّ موضوع، ولا نتحدّث مع أيّ إنسان وخصوصاً تلك الأحاديث المضرّة، وحتّى هذه هي وظيفتنا في الاستعداد للصلاة، فنحن لا نأتي إلى الصلاة ونلقي السجادة ونشرع بسرعة بغير حال من التأنّي والسكون، لا بل لا بدّ من الجلوس والانتظار للحظات لنحقّق التوجّه، والحج هو عبادة مهمّة دعا الله تعالى إليها جميع خلقه، فلا بدّ قبله من التوبة وفق شروطها الخاصّة.

    

لا يختلف الأمر بين تقديم زيارة مكّة وتقديم زيارة المدينة وإن كانت الرويات تُشير إلى فضيلة الأوّل

وأما إذا وصلنا إلى تلك الديار، وهنا يختلف الحجّاج، فمنهم من يذهب أولاً إلى مكّة ثم إلى المدينة، ومنهم إلى المدينة ثمّ إلى مكّة، وكلا النحوين جيّد، إلا أنّ الروايات تؤكّد على فضيلة تقدّم زيارة مكّة على زيارة المدينة، كما يقول الإمام الباقر عليه السلام: ....إنما أمروا أن يطوفوا بهذه الأحجار ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم [2] . فالطواف حول الكعبة بدون إمام لا معنى ولا فائدة منه، وحقيقة هذا الطواف وهذه الأعمال هي الوصول إلى مرتبة التسليم للإمام الحيّ وإمام الزمان، وإذا ذهب الإنسان إلى ذلك المكان غافلاً غير مسلّم للولاية، شاعراً بالاستقلال والأنانيّة فهو لم يستفد شيئاً، ونصيبه قليل جدّاً، إنّما نقصد تلك الأماكن لندعو الله أن يقسم لنا ولاية الإمام، ويحقّق فينا العبوديّة والخضوع له، والعبوديّة الواقعيّة هي المعرفة به، لا اللطم وتشكيل الهيئات والمراسم الظاهريّة، لا بل حقيقته ومعرفته التي هي معرفة الله، وطريق معرفة الله هي الحركة المقترنة بالتسليم للإمام الحيّ الذي هو إمام الزمان عليه السلام، وهذه هي المسألة المهمّة.
وبعضهم يرجّح الذهاب إلى المدينة أولاً من باب أنّ مكّة والكعبة وأعمالهما تتسم بالأبّهة والجلال، مما يفقد النفس القدرة على زيارة الرسول وفاطمة الزهراء وأئمّة البقيع عليهم السلام، وعلى كلّ حال كلا الأمرين جيّد ومستحسن ولا إشكال فيه.

    

ضرورة الاهتمام بالتوجّه نحو باطن الأعمال دون إهمال الجوانب الظاهريّة

فينبغي للإخوان هناك أن يهتمّوا بالتوجّه، وبالطبع الحقير لا يقول أنّ علينا ترك الاهتمام بظاهر الأعمال وأن نكون لا أباليين نحوها، فلا بدّ تكون الأعمال صحيحة ودقيقة، ومن يرد الإفادة من سفر كهذا وبهذه الأهميّة فعليه أن يراعي كذلك الخصوصيّات الظاهريّة للحرم ولبيت الله، فلا يرده في أيّ لباس وعلى أيّة هيئة، لا بدّ أن تكون الأعمال والأفعال صحيحة، غاية الأمر أنّه لا بدّ أن يكون الاهتمام الأكبر منصبّاً على باطن الأعمال وكيفيّتها وروحها، فلا بدّ إذا أردنا الطواف أن نجلس ونتفكّر: لماذا نقوم بالطواف وما هو المقصود منه؟ الطواف سبعة أشواط حول الكعبة هو إشارة إلى المراتب السبعة لعالم الوجود، والتي هي السماء الماديّة، الملكوت الجبروت، اللاهوت، وغيرها من العوالم التي تدور حول هذه الكعبة التي هي تمثيل لعالم الفناء وذات الله، فجميع عوالم الوجود تدور حوله، وهذه الأشواط تنتهي إلى ذات الله ومعرفته، فلا بدّ أن يلتفَت إلى ذلك، وأن يعلم أنّ الكعبة هي تمثيل لحقيقة الله، ومعنى طوافه حولها بقطعتين من القماش هو ضرورة تحرير نفسه في هذا المكان من كلّ تعلّق، فكلّ ما كان في إيران فهو لإيران [3] ، الأمر والنهي.. السلام والصلوات.. التشريفات والتعظيمات والاحترامات.. التجارة والكسب والشريك.. الشخصيّة والاحترام... كلّ ذلك انتهى أمره، ولتترك ذلك جانباً بمجرّد أن تضع قدمك في الطائرة، وافترض نفسك لابساً ثوب الإحرام، فلا أحد هناك يقدّم لك الاحترام ويلقي عليك التحيّة، هل يحترمك أحد هناك؟ لا، لو كنتُ لابساً العمامة ودخلت مجلساً أو مررت في الشارع فالكلّ يعرفني ويسلّم عليّ ويقوم ويحترم... أما هناك فقد كنّا نمرّ بالقرب من بعض الأصدقاء فلا يعرفوننا، نمرّ بالقرب منهم وبكلّ هدوء، ونتركهم في حالاتهم الخاصّة، لماذا؟ لأنّا مثل البقيّة، لا عمامة ولا غيرها... قطعتان من القماش الخاص لتجفيف البدن، بل حتّى أنا لا أحرم بهذا النوع من القماش بل بالقماش الأبيض البسيط، قطعتان منه، بلا أيّ اختلاف عن مليونين من الحجاج، ولذّة الحجّ هي في ذلك، لو كان هناك سلام واحترام لزالت فائدته.. خصوصيّته تزول، ويتحوّل إلى نظير هذا المكان الذي هنا، ويتّخذ اعتباراته، ويستحيل إلى هذه المشكلات والمصائب التي أغرقنا أنفسنا بها بغير خروج، صحيح؟ هناك يجب أن لا يعرف أحد أحداً، هناك يجب أن يكون الإنسان مجهولاً، هناك يجب أن يكون الإنسان مستغرقاً في أحوال نفسه، وأمّا الاجتماع وتشكيل الجلسات الهادفة إلى تعظيم شخصيّة ما ليكون لها مكانتها في عرفات مثلاً، فاعلم أنّ هذه الشخصيّة هي شيطان، والشيطان يأتي إلى عرفات أيضاً، نعم يأتي وسأبيّن لكم نماذج منه، وكذا إلى منى، وإلى كلّ مكان، غاية الأمر هناك لا يمكن للشيطان أن يستفيد من العمامة والعباءة وربطة العنق ـ الآن ربطة العنق محرّمة فلنقل سائر الألبسة غير المحرّمة كاللباس الرسمي ـ إلا أنّه يأتي من خلال لباس الكتان أو ما شابهه، يأتي من خلال دعاء يوم عرفة.. يأتي من خلال الأذكار والأوراد، فللشيطان جهاز واسع الانتشار، للشيطان ملفّات كثيرة لم يفتح لنا منها شيئاً حتّى الآن، فنحن نفشل منذ الملفّ الأول، نعم هو يأتي إلى هذه الأماكن بكلّ حنكة ومهارة. أتجلس في عرفات جامعاً الناس من حولك؟ فما تفسير ذلك؟! لتتخذ لنفسك زاوية تخلو بها ودع الناس مع ربّهم، لماذا جمعتهم؟ دعهم يختلون بأنفسهم ويدركون مشكلاتها، لماذا جمعتهم حول شخصيّتك؟ أنت أتيت بشخصيّتك من هناك إلى هذا المكان ولم تتخلّ عنها، كما أنّك علّقت هؤلاء بمصيبتك، ولم تسمح لهم أن يصلوا إلى ذلك النور! صحيح؟ المسألة مشكلة للغاية...
فعلينا في تلك الأماكن أن نتفرّغ لشؤون أنفسنا ولا نفرض على الآخرين ما نريده نحن، من أراد أن يذهب إلى الزيارة فليذهب ولا داعي لأن يدعو معه أحداً آخر، فلو كان الآخر مصاباً بالصداع ولا يريد أن يطوف أو يزور فلينم وبعد استراحته يذهب بنفسه، لا داعي لأن يفرض أحد على أحد شيئاً، الاجتماع جيّد، ولا أقول يجب أن لا يكون اجتماع، عند المستجار.. في أماكن أخرى، الذهاب معاً والزيارة معاً كلّ ذلك جيّد، ولكن المهمّ أن لا يتحوّل إلى فرض وإكراه.

    

إشارة إلى فلسفة بعض الأعمال من قبيل صلاة الطواف والسعي

ينبغي أن نلتفت في الأعمال إلى فلسفتها، لماذا يجب أن نصلّي خلف مقام إبراهيم، فرغم أنّ المسجد مسجد الله، ولكن يجب أن نصلّي خلف المقام والذي يعني موضع الأقدام، وإذا وفّق الإخوان للتشرّف فليذهبوا ولينظروا إلى موضع قدمي إبراهيم عليه السلام، والعجيب أنّ هناك رواية تبيّن أنّ هاتين الحفرتين ليستا من صنع أحد، وإنّما هما معجزة إلهيّة، حيث لانت الصخرة وطبع فوقها محلّ قدميه، ويبدو أنّه كان منتعلاً لا حافياً حيث لم تتبيّن في الحفرة مواضع الأصابع، فعلينا أن نقف ونصلّي خلف موضع أقدام إبراهيم، لماذا؟ لأنّ هذه القدم محترمة، وهذه القدم قد عملت من أجلنا، لقد بنى الكعبة معتمداً على هاتين القدمين، ولا بدّ أن نقف خلفه لا أمامه، والطواف يختلف عن الصلاة التي هي عمل عبادي وفعل يتقرّب به إلى الله، الطواف لا بدّ أن يكون من الجهة الداخليّة للمقام، أما الصلاة فلا بدّ أن تكون خلفه.
وفي السعي بين الصفا والمروة، لماذا يجب أن نسعى بينهما؟ لأنّا نقتدي بالسيّدة هاجر، فالسعي بين الصفا والمروة هو اقتداء بامرأة، نعم علينا أن نقتدي بامرأة، لأنّ حضرة هاجر كانت ذات نفس إلهيّة ولم تكن نفسها نفس امرأة أو نفس كائن حيّ، أتدرون ما معنى هذه الكلمة؟ لم تبلغ حضرة هاجر ما بلغت من لا شيء، أنتم تصوّروا وابحثوا في الدنيا عن رجل يأخذ بزوجته ويقول لها: أريد أن أذهب بك إلى مكان ـ لم يقل إلى أي مكان ـ بل قال إلى حيث يريد الله تعالى، فيأتي بها من فلسطين ويمشي بها مسافة 500 فرسخ ويضعها في مكان لا يحتمل فيه البقاء على قيد الحياة ولو بنسبة واحد إلى مليار، لا ينبغي أن ننظر إلى الأبنية والعمارات الموجودة في مكّة الآن، فلم يكن في ذلك الوقت غير الجبال السوداء والشمس الحارقة التي تبلغ حرارتها ستين درجة، لم يكن هناك شيء، كانت عبارة عن صحراء قاحلة، لم يذهب بها النبي إبراهيم إلى شمال إيران (منطقة جميلة ومليئة بالماء والخضار) بل أتى بها إلى هناك، علماً بأن السيدة هاجر كانت تحمل طفلاً رضيعاً، قال لها إبراهيم: الله أمرنا أن نذهب، إلى أين؟ لا أعلم، لم تسأل ولو سؤالاً واحداً، لماذا؟ إلى أين؟ كيف؟ هكذا كانت، لأنها تعلم بأن إبراهيم كان نبياً، وتعلم أنه لا يقول شيئاً من نفسه، بالإضافة إلى أنّه أب إسماعيل، فيأتي ويمشي ويطوي الأماكن العامرة والخضراء والمدن المأهولة و.. إلى أن يصل إلى مكان بين الجبال، هناك قال لها في أمان الله. لم يكن في السماء حتى ذباب يشير إلى وجود حياة هناك، فقال إبراهيم: عليّ أن أذهب. هنا يرى الإنسان أن هذا الأمر عجيب جداً، فهذا الأمر من الأمور التي يتعطّل فيها عمل العقل.

    

جميع من يذهب إلى الحجّ إنّما هو ببركة دعوة النبيّ إبراهيم النابعة من نفس صارت إلهيّة

لنقرأ الآيات في سورة إبراهيم التي تتحدّث عن قصة إبراهيم: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً...} وكذا الآيات الموجودة في سورة البقرة، علينا أن نقرأ هذه الآيات ونتوجّه إلى معانيها، وكم هو جميل أن نحفظها ونردّدها هناك ونحدّث أنفسنا بها، عجيب جداً واقعاً عجيب جداً، إذا أردت أن أدخل في بيان هذا المطلب فسوف نخرج عن الحد الطبيعي، لكن ليتنا تحدثنا حول هذه الآيات من أول الأمر. عجيب جداً، ذاك الدعاء الذي يدعو به النبي لهؤلاء ولذريتهم ولمن سيأتي إلى هذا المكان في المستقبل.. بأن يجعلهم الله من المسلمين وأهل الصلاح والمعرفة.. والمرحوم العلامة يقول بأن جميع من يذهب إلى مكّة من الأولين والآخرين منذ آدم إلى يوم القيامة إنما هو بسبب ذاك النفَس الذي ألقاء إبراهيم عندما أراد العودة إلى فلسطين، في ذلك الوقت دعا بهذا الدعاء، وكل من يتشرّف بالذهاب إلى مكة، يُعلم بأنّ الله تعالى قد استجاب لإبراهيم فيه، فاستجابة دعاء إبراهيم هو الذي جعلنا نذهب، ولولا ذلك لما ذهبتم هذه السنة، ولو فعلتم ما فعلتم. ذاك النداء هو الذي أدى إلى أن تتحرك النفوس والقلوب نحو ذلك المكان. وفي ذلك يقول المرحوم العلامة بأنّ إبراهيم قد ألقى عليه نفَس درويش شمل جميع الخلق، يقولون بأن نفَس الدرويش حقّ، وهذا حقّ. لقد أتى النبي إبراهيم إلى هذا المكان، وكان على جميع البشر أن يأتوا كما أتى هو، وكذا الحال بالنسبة إلى السيدة هاجر، فقد خرجت هاجر هناك من نفسها، وصارت نفسها نفس إلهية، فالعمل الذي كانت تقوم به إنما هو لإحياء طفلها؛ حيث كانت تذهب إلى هنا وإلى هناك، تبحث عن الماء، وبقيت تذهب وتأتي سبع مرات إلى أن حصل ما حصل مع إسماعيل وخرج الماء من بين يديه. فالله تعالى يأمرنا أن نأتي ونضع أرجلنا في مكان وضعت فيه امرأة رجلها، ونتأسى بها ونسعى سبع مرات بين الصفا والمروة للوصول إلى الماء.. للوصول إلى عين الحياة، للوصول إلى تلك الحقيقة التوحيدية التي عندما يصل إليها الإنسان ويشرب منها يرتوي ولا يعود ينظر إلى ما سواها، بل يتبرأ مما سواها ويضحك عليها. هكذا علينا أن نسعى ونلتفت إلى هذه المسائل هناك.

    

إشارة إلى أحكام فقهيّة وتوصيّات سلوكيّة مرتبطة بأعمال الحجّ ومناسكه

بالنسبة للذهاب إلى عرفات علينا أن نلتفت إلى خصوصياته (وعلى الإخوة أن يستمعوا المحاضرات السابقة) ويلتفت الإنسان إلى أنّ الذهاب إلى عرفات مهم جداً، وأنّه مقدمة للدخول إلى حرم الله تعالى، وهكذا بالنسبة إلى الدخول إلى المشعر، هو دخول إلى الحرم، وبالنسبة إلى الأعمال وغيرها وخصوصيات ومعنويات وفلسفة المشاعر فعليكم أن تستفيدوا من الإخوة.
بالنسبة إلى الطواف، لقد ذكرت مراراً بأنّ عليكم أن تلتفتوا إلى حالكم فقط، لا تنظروا إلى أحد، لو ضرب بي شخص أثناء الطواف فلا إشكال، ولو دفعني شخص فلا إشكال، ولو لم يسامت كتفي الكعبة فلا إشكال، ولو دار الحاج حول نفسه لا إشكال في ذلك، بل على الحاج أن يلتفت إلى أنّه طاف سبع أشواط، وبعد ذلك يأتي بصلاة الطواف بالكيفية المطلوبة، فصلاة الطواف كصلاة الصبح التي نصليها تماماً، لا حاجة إلى الاستنابة فيها، لكن علينا أن ننتبه أكثر إلى قراءة الحمد والسورة، ويمكن أن تعرضوا قراءتكم للحمد والسورة على الإخوة وهم يضبطوها لكم، حتى يطمئن الإنسان أكثر، لكن لا حاجة إلى النيابة فيها، وكذا الحال في طواف النساء وصلاتها، وبالنسبة إلى الأمور الأخرى فيمكن أن ترجعوا إلى الإخوة هناك.
بالنسبة إلى الرمي، فمن لا يستطيع أن يرمي هو يمكنه أن يستنيب غيره، خصوصاً في اليوم الأول للنساء، إذ قد يسبب لهم بعض المشاكل، لذا لا أرى من الصلاح أن تذهب النساء في اليوم الأول، لكن لا أعلم الوضع في هذه السنة، ففي السنة الماضية كانت الأمور سيئة للغاية، وقد طلبت من اثنين من النساء اللواتي كن معنا أن يستنيبا في الرمي بعض أقاربهما، ولا إشكال في ذلك، ولا يقل ثواب الفعل أبداً.
وهناك مطلب آخر حول الحصى التي يرمى بها، فعلى الإخوة أن يجمعوا الحصى من المشعر حتماً، وإن لم يكن هناك إشكال في أن تكون الحصى من مكة، لكن بما أنه لا يجوز إخراج حصى الحرم وسائر الأمور الموجودة في الحرم من حدود الحرم، والحجاج يخرجون إلى عرفات ويأخذونها معهم، فيكون هذا الفعل حراماً، لا يمكن للإنسان أن يخرج حصى الحرم إلى خارج الحرم، وقد رأيت في السنة السابقة بعض الأشخاص يوصون الحجاج بالتقاط الحصى من مكة، فكانوا يكسرون الحجارة الكبيرة لتصلح للرمي، وكسر الحجارة بنفسه مشكل. فإخراج الحصى من الحرم حرام، ولا يمكن للإنسان أن يخرج الحصى إلى عرفات، نعم، يمكنه أن يلتقط من مكة الحصى بالنسبة إلى اليومين التاليين، ولا إشكال في ذلك، لأنه لن يخرج من الحرم ، لكن على كل حال يستحب جداً أن يلتقط الحاج الحصى من المشعر, وأن تكون الحصى موشّحة (أبيض وأسود) وبمقدار عقلة الإصبع لا أكثر، حتى إذا لم يصب لا يكون سبباً في أذية الآخرين.
وأرى من الأفضل للإخوة أن يأتوا من عرفات إلى المشعر مشياً على الأقدام، إلا من كان مريضاً أو له عذر، فالمسافة بينهما عشرة كيلومتر أو أحد عشر، ويمشون رويداً وهناك وسائل الراحة من الحمامات والمراحيض والماء البارد، والقوى الأمنية تساعد الحجاج في الوصول إلى المعشر وتهتم بهم، واقعاً يهتمون بهم، وما الإشكال في الذهاب ماشياً، علماً بأن ثوابه أكبر، ويمكن أن يستريح أثناء سيره، ولا يبتلى بما ابتلينا به في السنة الماضية؛ حيث توقفت حافلتنا ثلاث ساعات بين الحافلات ودخانها، وكانت هذه الحالة خطيرة بالنسبة إلى بعض المرضى، وعندما فتحت الطريق أمام السيارة مشت قليلاً ثم انسد الطريق أمامها فترجلنا ومشينا على الأقدام سائر المسافة، ولم نشعر بالتعب؛ حيث جلسنا للاستراحة مرتين تقريباً، وقد ذكرت لكم بأن وسائل الراحة متوفّرة، وعلى امتداد الطريق يعطون الماء والطعام للحجاج المشاة، وفي اليوم التالي عندما رأينا سائر رفاقنا في منى قالوا يا ليتنا اتبعناكم ومشينا معكم، فقد كاد الوقوف في المشعر يفوتنا بسبب التأخير، وإذا وصلتم إلى منى باكراً أو تأخرتم فلا بأس أن تأتوا إلى الخيمة وتغتسلوا غسل العيد، فهو من المستحبات الأكيدة، وكذا صلاة العيد أيضاً، ولتستريحوا قليلاً بعدها، ثم تتحركوا قبيل الظهر لرمي الجمرة، لأن المهم في ذلك اليوم هو الرمي حيث الازدحام كبير جداً، خلافاً لليومين التاليين فيقل الازدحام قليلاً، وبعد ذلك تأتون بسائر الأعمال، وإذا تم الذبح قبل الغروب يمكن الحلق بعد ذلك أو التقصير على النساء، وإلا فلا يمكن الحلق في الليل، بل يوكل الحلق إلى اليوم الحادي عشر، أو إذا لم يوفق للذبح في اليوم العاشر فليؤخّر فك إحرامه يوماً آخر، وهذا ما حصل لنا فقد بقينا ليلة الحادي عشر في إحرامنا؛ لأنه كان هناك ازدحام كبير، وحصل الذبح عصر العيد لكن وصلنا الخبر متأخراً فلم نحلق ذلك اليوم بل بقينا إلى اليوم التالي وفككنا الإحرام في اليوم الحادي عشر.
إذا تم الحلق في يوم العيد، فيمكن للحاج أن يذهب إلى مكة ويأتي بالأعمال، لكن عليه أن يبيت في منى ليلة الحادي عشر في النصف الأول من الليل، ويقال بأن المسجد الحرام يكون أقل ازدحاماً في النصف الثاني من تلك الليلة، والمسائل المرتبطة بمكة وأعمال الحج كثيرة جداً، لكن أردت اليوم أن أذّكر الإخوة فقط بمسألة روحية الحج، وأن يلتفتوا إلى أنّ هذه الأمور قد لا يوفق إليها أكثر الناس، وبما أن الله وقفنا لهذا فعلينا أن نشكر الله تعالى، ولا نعتبر أن هذا الأمر أمر عادي، بل هو عمل هام جداً، إذ أن من لا يقوم به يقال له عند الاحتضار: مت إن شئت يهودياً أو نصرانياً، لم تمت على دين محمد، هل التفتم إلى أهمية هذه المسألة، ومع ذلك نأتي نحن ونقيس الحج بالأمور الظاهرية والاعتبارية والعادية، فالحج مريح جداً وبسيط وممتع وجميل، فعلى الإنسان أن لا ينظر إليه أنه صعب جداً وأنه بمثابة غول أو وحش يريد أن ينتهي من شره سريعاً. نعم فيه تعب ومشقة، خصوصاً في الأيام الثلاثة التي يكثر فيها الأعمال، لكن يمكن للحاج أن لا يجهد نفسه بحيث يمكنه الإتيان بأعماله براحة وسهولة، لا مبرر لأن يجهد الإنسان نفسه.
وقد ورد في الرواية أن من أدرك عرفات وتوجه إلى أعماله فإن الله تعالى يغفر له جميع ذنوبه كما لو خرج من بطن أمه، كما ورد عن رسول الله أنه بعد ظهر عرفة عندما كان راكباً على ناقته أحاط به الصحابة وسأله الكثير منهم: لقد فعلنا هذا وفعلنا هذا، وهو يقول: لا إشكال فيه، وعندما انتهى خطب خطبة مختصرة وقال في نهايتها: أفيضوا فقد غفر الله لكم جميعاً. لذا علينا أن ندرك قدر عرفات وفضلها فعرفات مهمة جداً، وهي مختلفة عن المشعر ومنى، لذا من أدرك عرفات من الناحية الفقهية حتى لو لم يدرك المشعر فحجه صحيح.
على الإخوة أن لا ينسوا دعاء عرفة بعد الظهر، وليعلموا أن عرفات يوم واحد فقط، فلا وقت فيه للكلام في السياسة والأخبار وما يجري هنا وهناك، بل علينا أن نذهب بعيداً عن هذه الأمور ونخلو بأنفسنا ولا ندع شيئاً من هذه المطالب تعكر سمعنا، الأفضل في يوم عرفات أن يكون الإنسان مراقباً، فعليه أن يختار من الصباح مكاناً بعيداً تحت شجرة مثلاً، وأن لا يتوجّه إلى شيء أبداً، والأفضل أن يكون دعاء عرفة قرب جبل الرحمة على يسار الجبل، فهناك وقف الإمام الحسين عليه السلام وقرأ هذا الدعاء المعروف، لذا من الأفضل أن يذهب الإنسان إلى هناك من الصباح ويجلس، لا أقول عليه أن يقرأ الدعاء من الصباح إلى المساء، فإن قراءة الدعاء كثيراً ليس جيداً، بل عليه أن يجلس مع رفيقه (الله) وينبغي أن يكون الإنسان في عرفات في حالة نفسية وروحية جيدة، وعلينا أن لا ندع هذه المسائل الروحية الموجودة في عرفات والمشهودة للجميع تذهب هباء منثوراً، ونضع مكانها أمور أخرى، فالله تعالى لا يسامحنا إذا فعلنا ذلك، فهو إنما يأمرنا أن نذهب إلى عرفات للتوبة، لا للكلام التي يمكن أن نعوضه في أي يوم، لكن عرفات غير موجود إلا في ذلك اليوم، وأثره مهم جداً في حياتنا العملية، لذا علينا أن لا ننسى دعاء عرفة عصر يوم عرفة، وزيارة الحسين عليه السلام في ليلة عرفة ويومه، والغسل يوم عرفة مستحب جداً، ويمكن الاغتسال هناك بسهولة، فيقرأ في الصباح دعاء الغسل ثم يغتسل، ويستحب أيضاً الغسل يوم العيد، فحتماً علينا أن نغتسل في هذين اليومين، والمرحوم العلامة عندما تشرفنا معه بالذهاب إلى الحج قال لي آتني بإبريق الماء، فأتيته به وذهب بعيداً عن الخيام واغتسل هناك بأقل من إبريق، بل اغتسل بثلثيه فقط، لم يصرف طناً من الماء ولا ثلاثمائة ليتر أو ما شابه، وكذا الحال في يوم العيد حيث اكتفى بثلثي إبريق، الغسل يوم عرفات مهم جداً، ولا نقل بأنه مجرد غسل لا، بل هو من الأمور المهمة، فقد يرى الإنسان أن فيضاً كبيراً قد حرم منه نتيجة تركه الغسل, وعلى الإنسان أن يهتم بهذه الأمور وهذه المطالب. ومهما يكن لدى الإنسان من مسكنة عليه أن يبرزها هناك أمام الله، وكل ما لدينا هنا نتركه جانباً، ونقول لله ها نحن وفقط، لا نحسن أي شيء آخر، فشأننا المعصية والفعل السيئ وعدم الشكر ومخالفة المولى، وشأن المولى العفو والمغفرة والصفح، علينا أن نلحظ دائماً هذه الأمور، في مكة علينا أن نفكر في التوحيد، وفي المدينة علينا أن نفكر في النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، يقول المرحوم العلامة علينا أن نعلم أنه في كل موضع نضع فيه قدمنا أن رسول الله مشى عليه قبل ذلك، وعلينا أن لا ننظر إلى هنا أو هناك، وأن نتوجه فقط إلى الأذكار وأن نكثر من الصلوات ولا إله إلا الله والله أكبر وحسبي الله لا حول ولا قوة إلا بالله وسائر الأذكار التوحيدية التي تقرأ في مكة والمدينة، ويقرأ هذه الأذكار في أماكن مختلفة وهكذا، بالنسبة إلى المدينة علينا أن نصرف أكثر أوقاتنا في مسجد النبي والمساجد الموجودة هناك، كمسجد قبا فإنه مهم جداً. والحملات تأخذ الحجاج مرة واحدة إلى هناك، لكن على الحاج أن يذهب إليها ولو منفرداً، وكذا مسجد المباهلة ويقال له مسجد الإجابة، وكذا مسجد رد الشمس ولكنه خرّب بشكل كامل الآن ولم يبق منه أثر، لكن يمكن للحاج أن يذهب إلى هناك ويصلي ركعتين في مكانه، وهو المكان الذي ردّ فيه أمير المؤمنين عليه السلام الشمس؛ حيث كانت صلاة العصر قد فاتته بعد أن كان النبي نائماً، وحينما استيقظ النبي سأله هل صليت؟ قال كلا لم أحب أن أوقظك من نومك، وهذه من الأمور العجيبة لأمير المؤمنين، فقال له النبي بما أنك وصي نبي فلا ينبغي لك أن تفوتك الصلاة وتقضيها، فامر الشمس أن ترجع لتصلي العصر، فأشار إلى الشمس أن تعود فعادت إلى ما قبل الغروب بساعة، وبعد أن صلى الإمام أمرها بالعودة إلى حيث كانت. وعلى الرفقاء أن يذهبوا إلى هناك ويصلوا ركعتين، فالمكان هناك عجيب جداً ونوراني، وليكن التفكر في المدينة في رسول الله وفي الصديقة الكبرى، وعنايتها عظيمة جداً، واهتمامها بالزوار والشيعة مشخّصة وواضحة جداً. وعند زيارة أئمة البقيع عليكم أن تخلعوا نعالكم قبل الدخول، سواء كان قرب قبر الأئمة أو قبر إبراهيم بن النبي أو قبر عثمان بن حنيف، فقد دفن في البقيع ذراري النبي وأصحابه الخاصين، لذا كان المرحوم العلامة يخلع نعله عند دخوله إلى البقيع ويمشي حافياً في جميع أنحائه، فيمكن أن يضع نعله هناك أو يحمله معه. وينبغي أن تصلى ركعتي الزيارة خارجاً، وعند زيارة أئمة البقيع علينا أن لا ننظر إليهم نظرة مستقلة بل علينا أن ننظر إليهم بما هم أبناء النبي وتحت ولايته، ففي المدينة علينا أن نفكر فقط في النبي صلى الله عليه وآله، وفي مكة نفكر بالله تعالى، وعلينا أن نراعي هذين الأمرين.

    

أسئلة منتقاة من المحاضرة مع أجوبتها

س: لقد أشرتم أثناء كلامكم إلى أن عرفات لها حكم باب الحرم والمشعر حكم الحرم، فما هو حكم منى ورمي الجمرات؟
ج: منى ورمي الجمرات تمثل دفع الاعتباريات والنفسانيات ورفض ذات الإنسان والبعد عن الأنا عندما يصل إلى الحرم، فهنا أمران: الأول أنّه عندما يرد الإنسان إلى الحرم، ويكون خارجاً من نفسانياته وأنانياته، ولا وجود له، ويكون فانياً في الله تعالى فناءاً ممتداً، ففي مثل هذه الحالة لا يكون للإنسان شيطان أساساً. لكن أحياناً يحصل للإنسان حالات فناء منقطع؛ أي حالات جذب وتوجه إلى الله وتجرّد في الجملة، لكن لا تزال لديه بقية نفس وهوى، فرمي الجمرات إشارة إلى هذه الحالة، أي عندما يرد الإنسان إلى الحرم ويكون قد بقي من نفسه وذاته بقية، فعليه أن يرمي الشيطان ويبعده عنه، ليحصل على إخلاء نفسه منه ويحل الله تعالى محله.
س: ما هي حقيقة التقصير والذبح؟
ج: التقصير هو الحلق، بما أن الرجل له جهة ظاهرية، والشعر الذي على رأسه يكشف عن الشكل الظاهري له، والشعر من جملة شؤونه واعتباراته، لذا عليه أن يحلقه كله، والفعل الذي يقومون به كم هو غير لائق، إذ في الحج الأول لا يحلق بعض الحجاج رأسه، وهذا أمر محرم، بل يجب الحلق، وأما بالنسبة إلى من يذهب مرة أخرى فيستحب لهم بشكل مؤكد أن يحلقوا رؤوسهم، وفي ذلك يقول المرحوم العلامة أن من لم يحلق رأس ـ سواء كان حجه مستحباً أو واجباً ـ فروحانية الحج لن تظهر عليه، فحلق الرأس عبارة عن إلقاء جميع الشؤونات والأنانيات والأمور التي تبعد الإنسان عن الله تعالى، والتقصير على النساء، بما أن الحلق محرم عليهن، فيجب أن يقصرن، وأثر التقصير عندهن كأثر الحلق عند الرجال.

 


[1] ـ هذا باعتبار أنّ المحاضرة كانت أمام الناطقين باللغة الفارسيّة.(م)

[2] ـ علل الشرائع الشيخ الصدوق ج 2 ص 406

[3] ـ باعتبار أنّ المحاضرة ألقيت في إيران.(م)

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی