معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 101 إلى 200 > شرح حديث عنوان البصري - الجلسة رقم 183 : الأرزاق الإلهية وكيفيّة تحصيلها.

_______________________________________________________________

هو العليم

الأرزاق الإلهيّة وكيفيّة تحصيلها
(البكاء ومعرفة الولاية نموذجاً)

شرح حديث عنوان البصري المحاضرة رقم 183

ألقيت يوم الرابع عشر من ذي القعدة الحرام من عام 1431

سماحة آية الله

السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف                                           تحميل الملف الصوتي للمحاضرة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

    

مراتب الأرزاق الإلهيّة وإباحتها

لقد تحدّثنا في الجلسة الماضية كما يذكر الإخوان عن بعض ما يتعلّق بكيفيّة التغذية وتأثيرها على المسائل النفسيّة والروحيّة، وعن ضرورة رعايتها في مسير السلوك. ودار الكلام آنذاك حول عدم وجداننا في آيات القرآن لأيّ محذور من تناول الطيّبات الإلهيّة، بل هي تصرّح بحليّة ذلك في العديد من المواضع منها قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُم}‏ [1]، أي لا تتركوا ما أحلّ الله لكم.. لا تمسكوا عنه.. لا تبتعدوا عنه، ولا تتصوّروا أنّ تناوله مخالف لمرتبة العبوديّة أو مناف لحالة الفقر والمسكنة والحاجة.. أو مناف للتواضع والمشي باعتدال، لا، فقد أحلّ الله هذه الطيّبات، ولا يمكن لأحد أن يمنع عمّا أحلّ الله أو يردع عنه.
وهناك آية أخرى في هذا المجال تقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ الَّتي‏ أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْق}[2]، فمن هو الذي حرّم ومنع عن تلك الأرزاق الطيّبة والمطهّرة مهما كان نوعها ومستواها، ومن هو الذي يمكنه أن يعترض على تحصيل هذه الطيّبات أو يستشكل في ذلك؟
والمقصود من الرزق هو كافّة أنواعه، سواء كان رزقاً متعارفاً من الطعام واللباس والمنزل والمركب وكلّ ما يحتاجه الإنسان في الدنيا لحياته، فكلّ ذلك هو داخل تحت عنوان الرزق، أو كان من تلك المكارم والمراتب العلميّة التي يمكن للإنسان أن يصل إليها من خلال ما أودع فيه من استعداد وقدرة، فالوصول إلى المراتب العلميّة مثلاً هو أمر ضروريّ للعيش في هذه الدنيا، وأمر الوصول إلى هذه المراتب هو باختيار الناس، وليس لأحد أن يمنع عنها ذوي الاستعداد والقابليّة، فهذا عمل محرّم، ولا بدّ أن يكون سلّم الارتقاء في هذه المدارج العلميّة متاحاً أمام الجميع بنحو متساوٍ، أجَل حتّى في هذه العلوم الظاهريّة اللازمة لرقيّ الحياة الماديّة للبشر. نعم بعضهم لا يملك استعداداً لذلك ولا يمكنه الوصول إلى تلك المراتب العلميّة، أو أنّه يمكنه ولكنه لا يريد ولا يرغب، ففي النهاية الأمر بيده، لكنّ فرصة ذلك لا بدّ أن تكون متوفّرة أمام الجميع على السواء بلا أيّ تمييز، ولو كانت المسألة بنحو آخر بحيث لا تراعى الكفاءات والقابليّات بل روعيت العلاقات الشخصيّة والوساطات فهذا عمل محرّم، وواضح الحرمة، تماماً كوضوح حرمة إعطاء الشهادات العلميّة لغير المؤهّلين، أو حرمة تزويد غير المستعدّين وغير المؤهّلين بوسائل وأدوات تشكّل خطراً على المجتمع، كأن نعطي شهادة للجهلة تخوّلهم إجراء العمليّات الجراحيّة، كلّ ذلك محرّم، ولا بدّ من تهيئة الفرص لجميع المؤهّلين، فالمسألة هي مسألة رزق.
نعم هناك معنى رفيع للرزق والذي هو الرزق الحقيقي وهو المستعمل في ألسنة الروايات وكلمات أولياء الله، وهو عبارة عن الرزق المعنوي، والذي يحصل للإنسان عن طريق اتصاله القلبي بالعالم العلوي، وهو مرتبة رفيعة من الرزق، فمثلاً لو تأمّلنا في كلمات الأولياء حول الاستيقاظ بين الطلوعين لوجدنا أنّهم يقولون: من يبقى نائماً في هذا الوقت فإنّه يحرَم من الرزق المعنويّ في يومه، أو إنّ الأرزاق تقسّم بين الطلوعين، أو إنّ الأرزاق تقدّر في ليلة القدر. فمعنى الرزق هنا هو عبارة عن ذلك الاتصال المعنوي بين العبد وربّه حيث به تحدّد رتبة الرزق ومستواه، فإن كان اتصاله بنسبة ثلاثين بالمائة فإنّه عندما يقرأ القرآن في ذلك اليوم سيفهم بدرجة ثلاثين بالمائة، أما إن كان اتصاله في درجة ستين بالمائة فإنّه يتقرّب ويحضر قلبه في عباداته بنفس هذه الدرجة لا أكثر، وأما إن كان اتصاله كاملاً وقد بلغ رتبة المائة بالمائة، فإنّ حاله في هذا اليوم سيختلف بنحو كامل؛ فقراءته للقرآن ستختلف وصلاته ستختلف. وبالطبع هذا [الاستيقاظ بين الطلوعين] هو أحد علل الرزق المعنوي، وهناك الكثير من العوامل الأخرى التي تؤثّر فيه، وإلا فهناك كثيرون من الذين يستيقظون ما بين الطلوعين ومع ذلك يرتكبون من الأخطاء الكثير.
جيّد؟! لذا كان المرحوم الحدّاد يقول: حتّى الأطفال أيقظوهم بين الطلوعين، لأنّهم يحرمون من رزق ذلك اليوم إن بقَوا نياماً. فسوف لن يحرموا من الخبز والماء والطعام، بل سيأكلون وسيشربون، ولكن مراده هو ذلك الرزق المعنوي، وذلك الارتباط المعنوي، فالارتباط في هذه الساعة له خصوصيّة ولا بدّ أن يكون حاصلاً، والملائكة من خلاله تعمل على إيجاد الربط بين الإنسان والمبدأ الأعلى، ولذا فقد يوفّق الإنسان في يومه إلى اللقاء بإنسان ذي أثر قويّ وجيّد على النفس، فإن لم يكن مستيقظاً ما بين الطلوعين لا يتحقّق هذا اللقاء أصلاً، وهذا أمر عجيب جداً، أو مثلاً ربّما وفّق الإنسان في يومه إلى صلة الرحم، ولكنّه إن نام في ذلك الوقت لا يوفّق لها، فهو ثقيل الهمّة، يقولون له: لنذهب إلى زيارة فلان ونستفد من لقائه، يقول: لا، الآن لا أستطيع.. الآن لا يمكنني ذلك.. هذا سببه الخراب الذي كان في الصباح، لا بدّ أن يرجع إلى الوراء وينظر كم هي النسبة التي كتبت له؟ هل كانت عشرين بالمائة أم ثلاثين أم سبعين؟! أو أنّه يحبّ أن يذهب لزيارة السيّدة المعصومة سلام الله عليها إلا أنّه لا يجد همّة على ذلك، فمن جهة يرغب ومن جهة لا يقدر، أما رغبته فلتلك النسبة التي أخذها من الرزق، ولولاها لما رغب أصلاً، وأما ضعفه وثقله وتذرّعه بذرائع الازدحام وما شابه فهي بسبب النسبة الناقصة، ولو كان رزقه كاملاً لسارع إلى تهيئة نفسه والخروج بمجرّد أن خطر الأمر في باله، ولكان على أكمل استعداد وأتمّ نشاط.

    

مراعاة كافّة المعايير لتحصيل الرزق المعنويّ وقصّة الحاج الكرعاوي

هذا أحد المعايير التي كان يتحدّث عنها العظماء ويلاحظونها، وقد سمعتها منهم كالمرحوم العلامة والسيّد الحدّاد، والخلاصة على الإنسان أن يهتمّ بكافّة الجوانب ولا يمكنه أن يراعي بعضها ويغضّ الطرف عن بعضها الآخر، فربّما كانت الغفلة عن بعض الجوانب سبباً في حدوث مشكلات وعواقب وخيمة تجعله محروماً من الوصول إلى النتيجة، وقد كان المرحوم العلامة يتحدّث عن هذا النوع من المسائل في أحاديثه، ولا أدري لعلّ الإخوان يذكرون ذلك، فأنا أذكر أنّه مثلاً كان يقول يوماً ما: أخطأت خطأًـ وبالطبع لم يكن ذلك عن قصد منه، فربّما أنّب شخصاً أو طفلاً وكان ينبغي أن يكون أكثر حلماً مثلاً ـ وكنت قاصداً لزيارة الحرم، حرم موسى بن جعفر في الكاظميين، ثمّ رأيت في نفسي ضعفاً ورغبة عن ذلك، ولا أدري إن كان هو قد ذكر التفاته إلى ذلك أم لا. كما كان له صديق يدعى الحاجّ عبد الزهراء الكرعاوي، ورحمة الله على هذا الحاج، فقد أدركته في زمان طفولتي، وكان متوسّلاً ومن أهل الولاية ومن مريدي المرحوم الحدّاد، ولكن في لحظة واحدة تقوم شاطين الجنّ والإنس بدورها وتفعل فعلها... فقد بقي مدّة بعيداً عن أولياء الله، مع أنّه في الظاهر كان محافظاً على مجالسه وحالاته، وهذه مسألة عجيبة جداً، وهي عبرة لنا، فعندما يُطرد شخص ما ويبتعد فلا يعني ذلك أنّه يترك الصلاة، لا بل يصلّي وربّما كان إمام جماعة.. يقرأ مجالس العزاء.. يقيم المجالس.. يدير ويأمر وينهى، ويجيب على الأسئلة، كلّ ذلك يبقى كما كان، ولكن ذلك الحبل الذي بينه وبين الوليّ ينقطع، وهذا أمر لا بدّ أن نلجأ إلى الله استجارة منه، وأنا أذكر عندما وقعت هذه الحادثة كان الحاج عبد الزهراء يأتي، نعم بعد ذلك ذهب إلى الطرف الآخر حيث وقع في تلك الفتنة التي يتحدّث عنها المرحوم العلاّمة في كتاب الروح المجرّد، نعم ذهب إليهم وشرع بأنواع من الكلام والمطالب. وبالطبع لم يكن ذلك بغير سبب، فليس الذنب دائماً ذنب المحيطين بالإنسان، لا، فلو لم نكن نحن نريد لما خدِعنا بأنواع الخدَع، و"لما ألبسونا الطرابيش" فلو لم نكن نريد لابتعدنا ولما قدّمنا لهم رأسنا، وما نلهج به نحن الآن من أنّ هذا ليس مذنباً وأنّ المشكلة في المحيطين به، فهذا كلام غير صحيح، فلماذا لا نجد هؤلاء يحيطون بغيره؟ ولو كان الأمر كذلك لكنّا وجدناهم في كلّ مكان، لا بل لأنّه هو يريد ذلك فقد جاؤوا واغتنموا الفرصة، ولو لم يرد لما أتاح لهم أن يأتوا ويصلوا إلى ما يريدون، ولعرف نواياهم، ولعرف المراد من كلماتهم وأقوالهم، فإن قال فلان شيئاً يمهّد به لأمر ما، فلا بدّ أن يسمع من الطرف الآخر، ليقارن وليكتشف حقيقة الأمر، فهل كان يقول صدقاً أم كان يريد أن يخادع ويقودك نحو ما يريد، يريد بذلك أن يشوّه الحقائق؟
وقد كنت رأيت العديد من التجارب في ذلك من العرفاء العظام وكيف كانوا يمنعون المحيطين بهم من التدخّل بنحو يجعل الأمور بأيديهم ليقودوا المسائل نحو ما يريدون هم، وليجعلوا أفكار الإنسان ونواياه ثمّ أعماله وفق ما يشتهون، وقد كانوا يحذّرونني من الوقوع في ذلك كما كانوا يحذّرون الجميع من ذلك وخصوصاً من كان مظنّة للوقوع فيه، فقد كانوا يؤكّدون على ضرورة الحذر والالتفات من أن يأتي بعض الناس ويحرفوك عن منهاجك بلطائف الحيل.

    

ضرورة تحصيل الفهم للتوحيد وعدم الاكتفاء بأحوال بالبكاء والتوسّل

وعلى كلّ حال فمع ما كان عليه الحاج عبد الزهراء من الخصوصيّات التي سمعتم بها وقرأتم عنها في "الروح المجرّد"، من كونه من أهل التوسّل والبكاء، إلا أنّ ذلك ليس كافياً، فمجرّد البكاء لا يكفي وحده، وما سمعناه من العرفاء العظام من السؤال عن الفهم والتأكيد عليه إنّما كان من أجل هذا، البكاء لا يكفي.. قراءة العزاء وتشكيل مواكب العزاء والهيئات والمسجد والمحراب والمنبر لا تكفي.. التوسّلات التي تقام... لاحظوا هذه الكتب التي قرأتموها والتي تدوّن حول التوّسلات والمسائل المعنويّة ماذا كتب فيها؟ يأتي الأستاذ فيجمع مريديه وعامّة الناس ويقيم مجلس عزاء على الإمام موسى بن جعفر من أجل ماذا؟ لكي يتمّ تأمين تذكرة سفر الزيارة لفلان هههه...!!! أليس ذلك مضحكاً؟! إن لم تصدر التذكرة فليكن، أفهل موسى بن جعفر عليه السلام فقط في الكاظميين؟! إنّ موسى بن جعفر الذي يُحصر بأرض الكاظميين لا تعادل قيمته ألفي تومان، هل موسى بن جعفر في الكاظميين فقط؟! هل الإمام الجواد في الكاظميين فقط ؟!! إنّ النفس الملكوتيّة للإمام موسى بن جعفر والإمام الجواد عليهما السلام، قد أحاطت بالسموات السبع، والحال أنّ الإنسان يأتي إلى الإمام ويتوسّل لكي يهيّء له تذكرة سفر!!
تأمّلوا في ذلك! هؤلاء لا يمتلكون شيئاً من مراتب الفهم والإدراك، ومع ذلك نجد لديهم علم الغيب، لديهم اطّلاع على أمور غيبيّة، لكن لا فهم لديهم، ونتيجة الأمر تصل إلى حيث لا نريد أن نكشف السرّ، أو افترضوا أنّ شخصاً لديه مرض معيّن فنذهب إلى الإمام ونتوسّل من أجله ومن هذا القبيل، نذهب إلى إمام الزمان من أجل كذا و من أجل أن يهيّء لنا تذكرة السفر، أو يحلّ المشكلة الفلانيّة، أو يدفع القرض الفلاني...
نحن نرى أنّ مرام هؤلاء الأفراد وحالهم وسعيهم وعملهم يدور مدار هذه المسائل والمواضيع، فإنّ هذه التوسّلات والمسائل التي كانت لدى الحاج عبد الزهراء محفوظة في مكانها، ولكن كم زاد فهمه بالنسبة للمسائل التوحيديّة؟ وكم زالت الغشاوة عن عينه فصارت ترى أكثر؟ وكم زادت معرفته بالنسبة لأولياء الله؟ فهذه هي المسألة المهمّة، فكم ترقّى إدراكه؟ فلو كان ذاك الفهم موجوداً لما كان هناك ثلاثة أشخاص فقط حول أمير المؤمنين والسيّدة فاطمة الزهراء، بل كان ينبغي أن يكونوا أكثر، فأين هو هذا الفهم؟ أين ذهبت الصلاة خلف النبيّ؟ أين ذهبت مسألة " تلقّي ماء وضوء النبي من شخص لآخر فيغسلوا بها وجوههم ويشربوه" ؟ أين ذهبت هذه المسائل؟ أين ذهب فرش السجادة وحجز المكان خلف فخر الأنبياء وخاتم الرسل؟ بل لم تكن هذه المسائل موجودة يا عزيزي، كان ينبغي في ذلك الزمان الذي كانوا خلف النبيّ ... لقد كنت أرى مدى اهتمام المرحوم الوالد عندما يتحدّث مع أستاذه، وكيف كان يذهب، وكيف ينظر إلى عينه حين تخرج الكلمات من فمه! وكيف كان يدقّق ويدقّق حتّى يستخرج المطلب ويستفيد حقيقة المسألة؛ فما بال أولئك الذين كانوا يجلسون حول رسول الله وكان يحدّثهم، كانوا يجلسون تحت منبره وهو يحدّثهم، وكان يقول لهم تلك الكلمات وهم يبكون، كانوا يبكون يا سيّدي، عزيزي: أين ذهب بكاؤك؟! ففي تلك الحادثة التي حصلت قبل وفاته بيوم حين صعد النبيّ وقال: من له علي دين أو شكوى أو طلب فليقتص منّي الآن ويطلب طلبه الآن، فنهض ذلك الرجل وقال عندما كنّا في المكان الفلاني وأردت يا رسول الله أن تحرّك عصاك لأجل المسألة الفلانيّة ضربتني ... نعم تلك القضيّة المعروفة، ثمّ بعدها قام المنادي ونادى أنّ رسول الله يقول: من له شكاية فليأت... عندها بدأ القوم يبكون: كأنّ رسول الله يودّع الحياة... إه إه ، ثمّ بعد عشر ساعات لاحقة.. خمسة عشر ساعة لاحقة، ذهبوا وتركوا جنازة الرسول، إه إه؟!! أين بكاؤكم؟! لمَ تذهبون إذاً إلى السقيفة؟! أين ذلك البكاء؟! ما الذي حصل؟! ألم تكونوا تبكون بالأمس؟! بالأمس كان المجلس بأكمله يضجّ بالبكاء!! أوه أوه أوه ...، يعني لو وضعت دمية هناك لفعلت كما فعلوا وبكت أوه أوه أوه كما فعلوا، الدمية إذا شغلتها تبكي ضع البطاريّة فيها تضحك .. تتكلّم .. تتمدّد ... ، ما الذي أوصل الحال بذلك الذي كان يبكي بالأمس إلى هنا؟
لقد كان النبي في نفس ذلك المجلس يقول: إنّي تارك فيكم الثقلين، نعم في نفس المكان وفي نفس المجلس، وعلى نفس المنبر، فهل نسيتم ذلك؟ فلم كان كلّ ذلك؟! كان كلّ ذلك لأنّ ذلك البكاء بتمامه دجل واحتيال.. دجل واحتيال.. دجل.. دجل، فكلّ ذلك البكاء والنواح كان دجلاً واحتيالاً، لا، لا أقول كلّها بل أغلبها.

    

البكاء المطلوب: على غربة النبيّ وارتداد الناس عن عليّ بعد وفاته وعلى بعدنا عنه

إنّ ذلك البكاء الذي كان ينبغي أن تبكوه عند منبر النبيّ، هو البكاء على مظلوميّة النبيّ صلى الله عليه وآله، نعم ذلك البكاء بكاءٌ عن فهم!! لا البكاء على أنّ رسول الله يعلن للناس بأن يأتوا ويقتصّوا منه إن كان لهم بذمته حقّ، لا، فهذه المسألة لا تستدعي البكاء، فالأمر ليس بالمهم، فالرسول قد يكون ـ مثلاً ـ بالفعل آذى بعصاه ذلك الرجل خطأً، وعليه أن يأتي وأن يأخذ حقّه، فينبغي أن نتخيّل أنّ ما حدث هو شقّ القمر، فرسول الله يعلن أن من له مسألة فليأت... هل رأيتم مقدار إدراك الناس إلى أيّ حدّ هو؟ والآن أنا نفسي لو فعلت ذلك، لكتبوا غداً في الإنترنت: السيّد الطهراني يعلن لمن لديه أية شكوى أو مطالبة أن يأتي، ما الأمر يريد أن يموت؟ فليمت. ولكن لا معنى للبكاء والنواح وقراءة العزاء...
إنّ الناس يعطون القيمة لهذه المسائل، والحال أنّ رسول الله لم يكن بصدد التواضع في ذلك الموقف، لم يكن ليلعب بمشاعرهم في آخر عمره، لم يكن يتمسكن ويظهر مظلوميّته، تعرفون كيف يتمسكن الإنسان ويظهر أنّه مظلوم؟! كلّ الناس تعرف ذلك، فهو يبكي بشكل ممتاز جداً، لكنّ الرسول لم يكن من هذا النوع.
واقع المسألة أنّ الرسول كان يرتحل ولم يكن يريد أن يكون لأحد حقّ في رقبته ، لا أكثر، وهذه المسألة ليست بالأمر المهم، وإنّما مظلوميّة رسول الله هي أنّه لن يبقى في الغد مع عليّ بن أبي طالب أكثر من ثلاثة أشخاص! هذه هي المظلوميّة! ينبغي البكاء على هذه القضيّة، ينبغي التأمّل والتفكّر بهذه المسألة: بأنّ هذا الذي يرتحل كان قد عمل لمدّة ثلاث و عشرين سنة من أجل هؤلاء الناس، من أجلهم تحمّل إدماء قدمه بالحجارة التي رميت عليها، وشقّ جبينه وكسرت أسنانه الأربعة، والجراحات التي أصابت بدنه، وكان في كلّ معركة الرجل الأوّل في قبال الأعداء، نفس هذا الرسول كان كذلك، هذا ليس كلام هذا العبد، بل كلام أمير المؤمنين عليه السلام، حيث يقول: >... لم يكن منا أقرب إلى العدو منه< [3]، أو قوله: > كنّا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه < [4] يعني كنّا نذهب إليه ونكون حوله فنستمد منه القوّة والشجاعة، هذا الكلام لأمير المؤمنين عليه السلام: >اتقينا برسول الله< وراجعوها في نهج البلاغة، فلم يكن يجلس في منزله ويقول للناس: نعم اذهبوا أنتم اذهبوا! بل كان هو أقرب إلى العدوّ من الجميع مع أنّه كان رسول الله، ومع أنّ الحكومة كانت بيده، مع ذلك كان أقرب إلى الأعداء من الجميع.
وهم بدلاً من أن يأتوا ويتمسّكوا بهذه المسألة الرئيسيّة التي هي ركن الإسلام ومحور حركة الإسلام وعمود الخيمة أي التمسّك بالثقلين والعترة، تجدهم يتركون كلّ ذلك ويبكون: إنّ الرسول يعلن لمن له حقّ عليه أن يأتي ويأخذه... ما هو هذا البكاء؟!
إنّ هذا البكاء هو نفس ذلك البكاء على الإمام الحسين لأنّه قتل، ولكنّنا نراهم عندما تحصل بعض المسائل والأمور، نجد أنّهم لا أبداً، لا تجد لهم جفناً يرفّ، أو لم يكن ذلك البكاء لإقامة العدل والتغلّب على الظلم؟! أو لم يكن البكاء على الأسرى والسبايا؟! ألم يكن البكاء للقتل؟! كان أم لم يكن؟! أم أنّ المسألة كانت قبل ألف وأربعمائة عام وانتهت، انتهت المسألة، نعم بالأخير مسألة كربلاء بكلّ تفاصيلها انتهت. نعم لقد حصل في كربلاء كلّ مسألة وجناية وفاجعة وأمر قبيح ووقيح، ولكن بالأخير انتهى الأمر، فلم تبكي الآن؟ لم؟ أليس من الأفضل بدلاً من أن تبكي على سيّد الشهداء عليه السلام، أن تبكي على تخلّفك وتقهقرك عن مسير سيّد الشهداء عليه السلام؟ وأن تبكي على محروميّتك من متابعة الإمام عليه السلام؟ أليس من الأفضل أن تبكي على هذا؟! بأنّي تخلّفت عن هذه المتابعة. فالإمام عليه السلام ذهب مع أولاده وعائلته ونسائه وأصحابه وشيعته ووصل إلى المبتغى، أمّا أنا فتخلّفت عن تلك القافلة، فماذا ينبغي عليّ أن أفعل حتّى ألحق بها؟ هذا ممّا ينبغي البكاء عليه.
اجلسوا نتأمل في أحوال الإمام الحسين، في أحوال حضرة أبي الفضل، في أحوال الأصحاب والشيعة، وفي المسائل التي حدثت آنذاك، في الوعد والوعيد الذي مارسوه على أصحاب سيّد الشهداء ففصلوهم عنه، لنتأمّل في الوعد: حكومة الريّ، وفي الوعيد أيضاً: نسلبك ضيعتك ومزرعتك.. نسلبك مقامك، فإن لم تفعل ما نريد ننحّيك عن منصبك ومقامك.
جيّد نحّوني جانباً، نحوني ! لمَ؟
ألم يكن حكّام الجور وحكّام الظلم يستفيدون من هاتين الحربتين طوال التاريخ للإبقاء على حكمهم، فماذا حصل عندما وصل الأمر إلى رأس هذا العبد؟ هل حصل التعطيل؟ تغيّر الحكم؟ فبالوعد أذهب، وبالوعيد أنفصل، نعم لقد كان هذا ديدنهم دائماً.
هذا ممّا يبكى عليه، وإلاّ كونهم قتلوا الإمام الحسين، فقد قتلوه وانتهى الأمر، نعم استشهد، و سبيت عياله، ونحن نقرّ بذلك ونعترف. وهذا النوع من القتل ومن السبيّ حصل في التاريخ كثيراً ولم يكن منحصراً بالإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته.

    

ارتباط درجة الاستفادة من المجالس باستعداد الإنسان

ما هي الرسالة التي حملتها عاشوراء لنا نحن أبناء اليوم والليلة وأبناء هذه الساعة؟ ينبغي أن ننظر إلى هذه الرسالة.
إنّ جناب حضرة الحاج عبد الزهراء الگرعاوی لم يلتفت ولم يفهم تلك الرسالة، فكان يبكي ويبكي طوال الوقت: وا حسينا قتلوه وا حسينا !!
نعم نحن لا نشكّك أنّ ذكر سيّد الشهداء يجلب الأنوار ويغيّر فضاء المكان، وكلّ هذا نقبله في مكانه، ولكن إلى أيّ حدّ؟
أنت عندما تأتي وتجلس إلى سفرة من السفَر، فكم تستطيع أن تأكل من هذه السفرة؟ الأمر يتوقّف على مقدار جوعك عندما أتيت وجلست على هذه السفرة.
] ممازحاً [ يقولون: المشكلة هي عندما يدعى الإنسان إلى مكانين، فما عليه عندها إلاّ أن يذهب إلى المكان الأوّل فيأكل هناك، ثمّ يعود إلى الثاني ويأكل مرّة أخرى. فلا يهنأ بهذا ولا بذاك.
فإذا أتيتَ إلى هنا وجلست، وكنت شديد الجوع، عندها ستأكل ما يملأ المعدة، طبعاً كلّ بحسب سعته وطاقته!!
"كلوا واشربوا" در گوش کن
                             "ولا تسرفوا" فراموش كن
[5]


هذه جيّدة جداً هنا في هذا المقام، أمّا في أوقات أخرى تكون نصف جائع، فعندما تجلس إلى السفرة، تجد أن لا مجال يكفي إلاّ لنصف الطعام الذي قدّم لك، لا مكان، فيقولون: تفضّل أيّها الأخ الفاضل! فتجيب: شكراً يكفي هذا المقدار...! وفي بعض الأوقات تأتي وأنت ـ مثلاً ـ ممتلئ، وإنّما تأتي من أجل صاحب السفرة ولكن في الحقيقة كنت قد تناولت الطعام.
رحم الله أحد أصدقاء المرحوم العلاّمة في ذاك الزمان فقد كان بينه وبين العلامة صداقة حميمة، وكان ذا حالات خاصّة، وكان من أصدقائه المقرّبين، ولكن بعد ذلك وبسبب تلك الحوادث التي ذكرتها، شملته الفتنة أيضاً، فقطع المرحوم العلامة علاقته به، ثمّ إلى آخر عمره لم يكن هناك أيّ لقاء بينهما. نعم ولكن عندما توفي ذلك الرجل كتب المرحوم العلامة كلمات لتنقش على قبره وأعطاها لابنه، وكانت عبارات جميلة جداً، وتظهر حقيقة مرتبة ذلك الإنسان، فمع كونها عبارات محترمة ومؤدّبة ومع كامل التجليل والتعظيم إلاّ أنّها دقيقة ووفق حساب.
ولدينا قضيّة تروى عن أمير المؤمنين بأنّ رجلاً يسأل أمير المؤمنين عليه السلام عن أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله ابن التيهان وجعفر الطيار والحمزة، والإمام كان يذكر عن كلّ واحد منهم شيئاً، ثمّ يصل إلى عبد الله بن مسعود، وابن مسعود كان في زمن النبي صلى الله عليه وآله، وكان ذا صوت حسن حزين، وكان النبي يأمره بقراءة القرآن، فكان يقرأ القرآن والنبيّ يبكي، ولكن في زمان أمير المؤمنين نجد أنّ هناك عدّة مسائل قد حصلت، وفي النهاية لم يكن قد وقف على أصل القضيّة، لم يكن قد وقف على أصل المسألة.. فعندما يصل أمير المؤمنين إلى الحديث عن عبد الله بن مسعود يقول: "قرأ القرآن فوقف عنده"، يعني أنّه لم يصل إلى عمق القرآن، صوته كان جميلاً، يفرح ويسرّ عند قراءة القرآن، مثلاً: يجلس في المسجد ويقرأ القرآن، ويجلس الناس حوله ـ وهذه المسائل كانت تحصل، بل إنّ النبي كان يأمره بذلك ـ ونجد أنّ النبي كان يبكي لأنّه كان يصل إلى حيث لا يمكن أن نُدرك ولا أن نفهم، أمّا ابن مسعود فكان يقرأ نفس هذا القرآن، ولكن تنتهي المسألة هنا، جيّد جداً قرأنا القرآن، الآن إمّا القرآن جيّد، أو أيّ شعر جيّد، أو أي نصّ فيه معاني جميلة. "قرأ القرآن فوقف عنده " يعني وقف في مكانه عند ظاهر القرآن، لذا كان عبد الله بن مسعود ممن لا يتجاوزون هذا الحد، فلم يكن نصيبهم أكثر من ذلك، والإمام عليه السلام ذكر أموراً عن كلّ واحد منهم.
أمّا نحن الذين لدينا هذا المجلس، لدينا مجلس سيّد الشهداء هذا، لدينا قراءة العزاء هذه، فذلك الشخص الذي يأتي إلى السفرة وهو ممتلئ لا يمكن له أن يأكل الطعام.
كنت شرعت في بيان قصّة هذا الرجل ونسيت إكمالها.
ينقل لنا بعض أصدقائنا: أنّه كان في إحدى المدن وكان ذلك في منتصف فصل الشتاء، وقد دعي إلى مائدة عشاء كما دعي كذلك صديق المرحوم العلامة الذي تحدّثنا عنه قبل قليل ورجل آخر، فجلسوا وانتظروا مدّة ـ وكان قد أعدوا وسائل للتدفئة ـ ولم يأت ذلك المدعوّ الآخر، فالتفت صديق المرحوم العلامة وقال ممازحاً: فلتحضروا الطعام لنبدأ بتناوله فهذا الرجل جالس في بيته وهو يتناول العشاء، ولا تقلقوا فسنرسل إليه من يبحث عنه ويأتي به، فأحضرَ الطعام وأكلوا، ثمّ بعد أن انتهوا كانوا قد جاؤوا بذلك الرجل فلمّا وصل قال: عذراً لقد تأخرت... فقال له صديق المرحوم العلامة: تفضل بالجلوس، لقد تعشيتَ مع زوجتك؟! وأكلتَ البرتقال بعد أن قشّرَته لك؟! فهل كان لذيذاً؟! فأطرق برأسه إلى الأرض خجلاً. [لقد كان قد تعشّى بالفعل كما أخبر ذلك الرجل] وها هو ممتلئ البطن شبعان، ولم يستطع تناول الطعام، جاء في نهاية الوقت وجلس إلى جانب السفرة ولم يكن له نصيب منها، نعم لقد كان صديق المرحوم العلامة محبّاً للمزاح وصاحب نكتة، ولكن الحقّ أنّه لا ينبغي للإنسان أن يقول كلّ ما يعلم.
الآن هذا الذي أتى إلى السفرة لا يمكن له أن يأكل كثيراً، يأكل ملعقة أو ملعقتين بعدها لا يستطيع.
ومجلس عزاء سيّد الشهداء هو كالسفرة المفروشة، فعندما تأتي إلى مجلس سيّد الشهداء وتجلس، طبعاً إن كان هذا المجلس من أجل الأعلام، والوجاهة، والمنشورات التي توزّع في أنحاء المدينة و من قبيل هذه المسائل و القضايا عندها ينبغي أن تشطب عليه بالقلم من الأساس، فهو يأخذ منك الحال التي كانت لديك قبل الذهاب إليه، فالجوّ جوّ الكثرات، وقراءة العزاء هي قراءة عزاء الكثرات، فتجده وخلال قراءته للمجلس يقول: لقد شرّف السيّد فلان بالدخول إلى المجلس، من جاء إلى المجلس فليأتِ من يأت لا عليك أنت يا عزيزي، فاقرأ العزاء!
يكون الخطيب على المنبر، فيقول: لقد حضر الشخص الفلاني، ما علاقته بقراءتك للعزاء وخطبتك؟ فهل سائر من هو موجود في المجلس هم أنعام، وأن ذاك الشخص هو الوحيد الموجود حتى تقول: فلان موجود في المجلس؟ عدم الذهاب إلى هذا المجلس أفضل؛ يعني أن الحال الذي كان لديك قبل هذا المجلس يفقد في مجلس الإمام الحسين هذا. لكن إذا كان المجلس المقام بحالة من الصفاء والصدق.. الجميع يأتون ويجلسون في أماكنهم، لا أن يأتي بعضهم ويجلس في جهة والآخرون في جهة أخرى مختلفة، فهذا له فضاؤه المختلف.. بل ينبغي أن يجلس الجميع إلى جانب بعضهم البعض.
يقول المرحوم الوالد رضوان الله عليه: في مجلسنا الجميع متساوون معاً، وليس من المرسوم فيه أن يجلس فيه عدد خاص جانباً، فالمعمّم يأتي ويجلس في المكان المتاح أمامه.. ومن كان يشارك في مجالس المرحوم العلامة يذكر هذه المسألة، عندما كان يأتي المعمم، فإن كان هناك مكان يتكئ عليه يجلس هناك وإلا كان يجلس في وسط المجلس. نعم كان العلامة يبين بأنه ينبغي أن يفسح المجال أمام ذوي الاحترام وكبار السن ليجلسوا على المتكأ، وكان يوصي بضرورة مراعاة الاحترام في هذه الأمور، لكن إذا لم يكن هناك مكان كانوا يجلسون في الوسط؛ لذا كنا نرى في وسط المجلس يجلس المعمم وغير المعمم دون أي فرق بينهم، وكانوا جميعاً متساوين في ذلك، وعدم مراعاة هذه المسألة تخرج الإنسان عن حالة الصفاء التي ينبغي أن يتمتع بها.
الآن نرى أنّ أي شخص يدخل يستقبلونه بالصلوات، لماذا تطلق الصلوات؟ فهذا القادم يأتي ويجلس كما يجلس الآخرون، على الخطيب أن يستمرّ بخطبته وكلامه، لا ينبغي أن يقطع كلامه ويحرف أذهان الحضور عن مسارها، لماذا يكره السلام على الخطيب؟ لأنه يضيع عليه المطلب الذي يتحدث به، لماذا يكره السلام على المصلي مع أن السلام مستحب جداً؟ لأنه يؤدي إلى تشتت حضور القلب، وإلا فجواب السلام والقول عليكم السلام ذكر أيضاً، فالسلام ذكر وجوابه ذكر، والسلام على النبي في الصلاة وقولنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ذكر أيضاً، فالسلام يعني الأمن ومقام السلام يعني مقام الأمن، والمقصود من السلام هو الأمن والسكون النازل من ناحية المولى عز وجل، لكن هذا الذكر ينبغي أن لا يقال للمصلي، وقول هذا الذكر للمصلي خلاف الشرع، فالذكر لا يقال في أي حال، فمثلاً عندما ينتهي المصلي من صلاته يأتي بسجدتي الشكر وبعد ذلك يبدأ بتسبيحات السيدة الزهراء، هكذا علمونا أن نفعل، كان بإمكانهم أن يقولوا لنا: عليكم أن تقرأوا بعد الصلاة بيتين من الشعر، أو أن نقول بعد الصلاة السلام عليك يا أبا عبد الله، فهل السلام على الإمام الحسين عليه السلام قبيح؟ كلا ليس قبيحاً، لكنه بعد الصلاة قبيح؛ لأنه خلاف الدستور، فالدستور الوارد عن الأئمة عليهم السلام هو الذي ينبغي أن يؤتى به، أما السلام على الإمام الحسين فينبغي أن يؤتى به في وقت آخر، أو أن يأتي بزيارة عاشوراء بعد الصلاة.
عندما تشرفنا بالذهاب إلى الحجّ للمرّة الأولى بمعية المرحوم الوالد رضوان الله عليه، قال المرحوم العلامة لأحد الحجّاج حين كنّا في المدينة ـ وكان من رواد المسجد وقد انتقل إلى رحمة الله ـ اقرأ لنا دعاء الصباح، لكن الذين كانوا معنا كانوا من أصحاب الهيئات ـ فقام أحدهم وقال له: لم نفهم دعاء الصباح، قم واقرأ زيارة عاشوراء، فأجاب لقد أمر السيد أن نقرأ دعاء الصباح، وفي النهاية قال له اقرأ دعاء الصباح وبعده اقرأ زيارة عاشوراء.. لكن ما العلاقة بين دعاء الصباح وزيارة عاشوراء؟ فدعاء الصباح شيء وزيارة عاشوراء شيء آخر، فإذا فرضنا أنا مزجنا بين دواءين وكان أحدهما مخالفاً للآخر ومضاداً له لن ينفع هذا الدواء، كذا دعاء الصباح فهو ينقل الإنسان إلى فضاء مختلف عن الفضاء الذي ينقله إليه زيارة عاشوراء، فهو في فضاء الأسماء الجمالية، بينما الزيارة في فضاء آخر، ولسنا نقول أنّه فضاء الأسماء الجلاليّة، لكنه في النهاية مختلف عن الجمال حيث يشتمل على جهة اللطف والرحمة والرقّة وفيه كذلك البراءة من الظلم ـ والتي هي مقدار معيّن من الجلال والقهاريّة تتضمّنه الزيارة ـ البراءة من أعداء الولاية والصادّين عن سبيل أهل البيت، هذا بالإضافة إلى السلام. فأتى ذلك الشخص إلى المرحوم العلامة وقال له لقد ضغط علينا هؤلاء وألزموني بقراءة زيارة عاشوراء فماذا أفعل؟ فقال المرحوم العلامة: اقرأ لنا دعاء الصباح وبعدها نحن نقوم، وبعد ذلك ما شئتم فاقرأوا ولو قرأتم كتاب مفاتيح الجنان بأجمعه. وفعلاً عندما كان ينتهي من قراءة دعاء الصباح كنا نذهب، ولكن في أحد الأيام قال المرحوم العلامة لنبق جالسين لنرى مظلوميّة ذلك الرجل.
هذا الذي يقال له الأحمق، فالعالم الذي تعترف أنت به وتقول لم أجد مثله عالماً، ويقول لك اقرأ دعاء الصباح، لماذا تأتي وتقول له نقرأ زيارة عاشوراء؟ فما علاقتك أنت بالأمر، فلو كان هناك مجال لزيارة عاشوراء لكان بيّن هو ذلك وأمرك به، فلماذا هو يقول لك اقرأ في هذا الوقت زيارة عاشوراء، وفي وقت آخر زيارة الأربعين مثلاً؟ فكلّ شيء له مجاله الخاص... وهذا ما قلته لكم من أنهم يجرّون الإنسان إلى الفضاء الذي يريدونه هم، وعلى الإنسان أن يستجيب لهم ويتبعهم في ذلك، وكان المرحوم العلامة يقول: أنا أذهب وأنتم إذا شئتم فاقرؤوا، لكن المسألة عند الآخرين تختلف، وكنا نرى بعض المتصدّين من أهل العلم كيف كانوا ينصاعون إلى كل ما يقوله الآخرون، هل كان بإمكانهم مخالفتهم وعدم احترامهم وإطاعتهم؟ لماذا؟ لأنه يؤدي إلى قطع العلاقة بهم، فلا بدّ من الانصياع لهم وإطاعتهم.. لأن الحبل قد ينقطع فينبغي أن يطيعهم، لكن المرحوم العلامة لم يكن لديه ارتباط بهم من الأساس حتى يقطع هذا الارتباط والحبل، يقولون اقرأ زيارة عاشوراء، يقوم ويرحل عنهم، أما إذا كان هناك حبل يربطه بهم لكان عليه أن يحسب حساب هذا الحبل ويفكر في العلاقة بهم، حتى لا ينقطع هذا الارتباط وتهتز هذه العلاقة أو تفتر، لذا علينا أن نقرأ هذا الشعر:

خوش بخت خودم كه خر ندارم
                             از كاه وجوَش خبر ندارم
[6]


وعلى الإنسان أن يردد هذا الشعر ليعتبر به...

    

إشارات في حقيقة عاشوراء ورسالتها إلى أبناء اليوم

لقد كان مستوى الحاج عبد الزهراء محدوداً بالبكاء واللطم على الإمام لا يتجاوزه، وأما من يريد أن يأتي إلى مجلس الإمام الحسين عليه السلام فبأيّة نيّة عليه أن يأتي؟
وطبعاً [ كما أشرنا] ذاك المجلس الذي يكون بحالة من حضور القلب وبحالة من النور والعمق والروحانيّة والخالي عن الكثرات والذي لا يوجد فيه إعلام وصحف وراديو وتلفزيون وما إلى ذلك، ذاك المجلس الذي فيه فقط ذكر الله والنبي وأهل البيت عليهم السلام حتى لو كان الحضور عدّة أشخاص، بل قد يغلق باب المجلس حفاظاً على روحيته، ولا يوجد فيه أي شيء من الأمور الإعلامية والدعائية والتمثيل والاحتيال، فمجلس الإمام الحسين عليه السلام هكذا ينبغي أن يكون.
إنّ النية التي ندخل بها إلى مجلس الإمام الحسين هي التي تحدّد مقدار الاستفادة، فنحن نستفيد بمقدار ذلك الإخلاص الذي ندخل به، ومن هنا علينا عندما ندخل إلى مجلس الإمام الحسين أن نترك كلّ شيء جانباً، وندع كلّ شيء خارج هذا المجلس.. ندعه على الباب وندخل بلباس الإحرام. علينا أن نقول لسيد الشهداء: لقد أتينا وليس لدينا شيء، ليس لدينا امرأة ولا لدينا شيء... فزهير بن القين البجلي ترك كل شيء ترك زوجته وترك مزرعته وبستانه ودياره وقومه وعشيرته وأتى إلى خيمة الإمام الحسين وحيداً تاركاً كل شيء وراءه، وأتى إلى زوجته وقال لها اذهبي حيث شئتِ، وافعلي ما تشائين فإني راحل مع أبي عبد الله. إنّ مجلس سيد الشهداء هو عبارة عن خيمة الإمام عليه السلام التي أرسل منها إلى زهير للقائه، ذاك المجلس الذي يشتمل على ذكر سيد الشهداء بدون دخالة أي شيء من اللعب أو التمثيل أو رمي الميكروفون أو سائر التمثيلات الأخرى، إنّ المجلس الذي يحتوي على خصوصيات سيد الشهداء هو عبارة عن تلك الخيمة وعبارة عن تلك الدعوة التي دعا فيها زهير بن القين، هذا هو المجلس، في ذلك الوقت كانت الخيمة بذاك الشكل من الخشب والقماش، أما اليوم فهي بشكل بناء من حجارة وسقف وغيرها، دون أن يكون بينهما أي فرق، فإذا أتيت إلى هذا المجلس فبأيّة نية ينبغي أن تدخل؟ عليك أن تقول: إلهي أعطنا ما هو النافع لنا، فقد يكون كلام الخطيب هو النافع لنا، وقد يكون قارئ المصيبة والعزاء، وقد يكون لا هذا ولا ذاك بل الإمام الحسين عليه السلام مباشرة، فالذي يجري على لسان المتحدث على المنبر هو الإمام سيد الشهداء عليه السلام مباشرة، إذا كان لدى الخطيب إخلاص فالإمام الذي يجري الكلام على لسانه، أما إذا لم يكن لديه إخلاص فيتركه وشأنه. عندما يقام مجلس الإمام الحسين أو مجلس الإمام الرضا عليه السلام أو مجلس ولادة أو مجلس شهادة الأئمة عليهم السلام سواء في مجلس ولادة أو مجلس شهادة، أو مجلس عام لا ولادة ولا شهادة بل مجلس ذكر الإمام الرضا مثلاً، فإنّه يتحوّل إلى خيمة الإمام الرضا، خيمة الإمام السجاد، خيمة الإمام الجواد، الآن إذا أردنا الدخول إلى هذه الخيمة فما هو معنى هذا الدخول؟ إنّه يرتبط بنيّتنا، وهذا معنى ما يقال "إذا كان المستعطي كسولاً فما ذنب صاحب المنزل؟!" [7]. فبأيّة نية دخلنا إليه فسنأخذ بمقدارها، وحتماً هم يعطوننا بمقدار تلك النية.. فعلاً يعطوننا ذلك وليس علينا إلا أن نجرّب؛ فتارة ندخل إلى المجلس وإلى خيمة الإمام الجواد أو الإمام موسى بن جعفر ونطلب أن يجعلنا كما يريد هو، فنقول: أيها الإمام الجواد! اجعلنا كما تحبّ أنت وكما تريد أنت، فنحن نريد ما تريد أنت، عند ذلك يقول الإمام الجواد: أريد منك هذا، فعلينا أن نقول: نعم، ويقول: وهذا، نقول: نعم. فهكذا أتى زهير إلى الإمام الحسين عليه السلام، لم يقل له الإمام انتبه لزوجتك واعطف عليها و... لماذا لأن المسألة قد انتهت وبعد يومين سيحصل على الشهادة والقتل.
أما الذين تفرقوا عن الإمام ليلة العاشر من محرم كان لديهم نوايا مختلفة، كانوا مع الإمام الحسين عليه السلام ويقاتلون معه ويضربون بالسيف بين يديه أملاً في انتصار الإمام وغلبته على أعدائه، ويقولون: نحن ممن ساعد الإمام وعاونه في حربه فعليه أن يقبلنا ولو كخدم عنده، فهؤلاء كانوا يسعون لموقع ومكانة عند الإمام ولو كانت وظيفة ترتيب الأحذية، لا أنهم كانوا يسعون وراء الإمام الحسين عليه السلام، كانوا يسعون وراء الحصول على عنوان الذهاب والمجيء مع الإمام الحسين ولم يكونوا يسعون إلى نفس الإمام الحسين، هل التفتّم؟!

    

قيمة كربلاء في فناء جميع الأصحاب في سيّد الشهداء

الإمام الحسين رفيع جدّا، ولا يمكن لأحد أن يصل إليه، إنّه في مرتبة لا بدّ لكي تصل إليها أن تكون بغير قيد ولا حدّ وتكون خارجاً عن جميع التقيّدات، مثل زهير الذي خرج عن جميع التعلّقات، مثل حبيب الذي خرج من كلّ شيء، مثل مسلم بن عوسجة الذي خرج عن كلّ شيء، وترك كل شيء وراءه، فلم يبق لديه شيء حتى يعرضه على الإمام الحسين، بل بقي لديه سيد الشهداء فقط وفقط. في كربلاء كان سيد الشهداء فقط، لا الأنصار الاثنين والسبعين ولا إخوة الإمام ولا حتى العبّاس، بل الذي كان هو سيد الشهداء فقط في مظاهر مختلفة، تارة كان بصورة حبيب وتارة بصورة مسلم وأخرى بصورة أبي الفضل العباس وصورة عليّ الأكبر، الذي كان في كربلاء شخص واحد وهو سيد الشهداء عليه السلام، ولهذا السبب اختلفت حادثة كربلاء عن سائر الأحداث الأخرى، فأولئك الذين ضحّوا مع الإمام الحسين لم يكونوا موجودين بأنفسهم، بل الذي كان موجوداً هو بدنهم فقط، لم يكن لديهم إرادة، ومن لا يكون لديه إرادة لا شخصيّة له ولا شأنيّة له، لم يكن لديهم اختيار من أنفسهم، بل اختيارهم هو سيد الشهداء، فإذا قال: اقتلوا، قتلوا، لا تقتلوا، لا يقتلون، ولو أمرهم بالقتل عشر مرّات لامتثلوا، وكذا ألف مرّة لا يفرق الأمر لديهم؛ لأنهم لا اختيار لهم، فقد ارتاحوا من كلا العالمين عالم الدنيا وعالم الآخرة. لقد خلّصوا أنفسهم بشكل تامّ!
فبناءً على هذا، لم يعد هناك وجود لزهير .. لم يعد هناك وجود لحبيب .. لم يعد هناك وجود لمسلم .. لم يعد هناك وجود لأبي الفضل .. بل الموجود هو شخص واحد فقط لا غير .
هل فهمنا الآن ماذا كان يقصد الأولياء عندما قالوا : إنّ جانب الوحدة كان هو الحاكم في واقعة كربلاء؟ أمّا في واقعة صفّين فالأمر لم يكن كذلك .. لم يكن الأمر كذلك في غزوة الأحزاب .. و لا في أيّة واقعة أخرى .. بل كان المشاركون في كلّ منها ممتزجين و لولا أنّهم كانوا كذلك لما وجدنا أنّ بعضهم قد فرّ من المعركة لا يلوي على شيء، و لم يرجع إلاّ بعد أيّام ثلاثة!! نعم، لقد كان المشاركون ممزوجين.. في غزوة أحد كانوا ممزوجين .. و في جميع غزوات النبي كان الأمر كذلك أيضاً .. و لكن في واقعة كربلاء لم يكن الأمر كذلك أبداً .. لم يكن هناك اختلاط و امتزاج.. بل نجد الصفاء و الخلوص التام.. كانت خالصة تماماً ، و كان الحاكم و المؤثّر فيها هو سيّد الشهداء وحده .

    

موقف المرحوم العلاّمة من التارك لحقيقة الولاية المتمسّك بالبكاء

حسناً ، فهذا الإنسان الذي انفصل عن الولاية ـ [ وهو الحاج عبد الزهراء الكرعاوي] ـ بسبب ما كان عليه من خصوصيّات، و بسبب عدم وصوله إلى المرتبة التي تحميه بشكل كامل من شيطنة الشياطين، و تجعله في مأمن من وسوسة الخنّاسين الذين يدفعونه للانحراف عن جادّة الصواب .. هذا الشخص كان يذهب و يشارك في المجالس ، فيستقبله الناس بأفضل استقبال ..
ما زلت أذكر أنّه عندما جاء إلى إيران، و كان يشارك في المجالس ، كانوا يهتمّون بأمره و يبالغون في احترامه و استقباله ، قائلين : فلان جاء .. فلان وصل ..
فلان جاء ؟! فلان وصل ؟! و لكن عندما جاء لزيارة المرحوم الوالد ـ حيث أنّ المرحوم الوالد ما كان ليذهب لرؤيته ، بل ربّما لم يكن يعلم بمجيئه ـ جاء ذلك الشخص يرافقه شخص آخر لرؤية السيّد الوالد في منزله، و كان الطريق إلى هناك طويلاً .. فلمّا وصلوا طالبين ملاقاته، أرسل لهم أحد أبنائه أن أخبرهم أنّني لن ألاقيهم و لن أستقبلهم !!
إنّ مثل هذا الإنسان يمكن أن نقول عنه أنّه إنسان حرّ .. حرّ و فهيم !!
لقد جاء ذلك الشخص من كربلاء، و قبل مجيئه إلى هنا حضر مجلس عزاء ، كما أنّه من أهل التوسّل، و من المواظبين على حضور الجلسات ؛ نفس تلك المجالس التي كان يحضرها أصدقاء المرحوم العلامة . و فوق كلّ هذا فإنّه هو الذي جاء لزيارة المرحوم الوالد ! يا للعجب ! فالمسألة تزداد ضيقاً و حرجاً ؛ فهذا الشخص قد قصد بنفسه منزل السيد الوالد و هو زائر قادم من كربلاء ـ و الحال أن السيّد الوالد كان يقول أنّ من يأتي من كربلاء على الإنسان أن يذهب هو إلى زيارته لا أن ينتظر حتّى يأتي الزائر إليه ، لقد سمعنا هذا الكلام منه هو نفسه ، مثلاً كان السيّد الوالد يقول: من يرجع من زيارة الإمام الرضا عليه السلام فينبغي أن نذهب نحن لزيارته لا أن يأتي هو إلينا ، و كذلك من يرجع من زيارة الإمام الحسين عليه السلام ؛ ينبغي أن نذهب نحن لزيارته لا أن يأتي هو إلينا ، و هكذا .
رغم وجود كلّ هذه الأمور إلاّ أنّه أرسل إليه قائلاً: إنّني لن أستقبلك، و لا أرغب في لقائك ! لقد جئتَ إلى منزلي و مع ذلك لن آتي للقائك!
لماذا ؟؟ لأنّك قد تحوّلت إلى خشبة! بل حالك أسوأ من ذلك إذ إنّك صرت كالخشبة اليابسة التي لا تصلح إلاّ للإشعال و الاحتراق.
أنت لم تكن كذلك سابقاً بل كنتَ كالغصن النديّ في السابق .. كنتَ غصناً أخضرَ حيّاً.. لقد كنت غصناً نامياً يحتوي على أوراق و يعطي الثمار ، أمّا الآن ، فأنت لم تعُد عندك تلك الحالة ، و صار كلّ ما لديك هو البكاء ، بل حتّى هذا البكاء يختلف عن ذلك البكاء .. نفَسُك الآن يختلف عن ذلك الوقت !
هذه هي الأمور التي يجب علينا أن نفهمها ، ها ! فالأمر الذي خدع الناس بعد وفاة النبي هو نفس هذه الأمور بعينها .. فالناس كانوا يرون أنّ أولئك كانوا أكبر سنّاً من أمير المؤمنين ، و هما والدا زوجتي النبي صلّى الله عليه و آله ، و هم يؤدّون نفس تلك الأعمال التي كان يؤدّيها النبي ، فما الذي نريده بعد ذلك ؟! ها هو يصعد على المنبر و يخطب في الناس.. (طبعاً هو لا يعرف عدد أصابع يده أخمسٌ هي أم ست ؟!) نريد منه أن يخطب ، فهو يصعد المنبر و يخطب ؛ و نريد منه أن يقيم الصلاة؛ فهو يقيم الصلاة .. نريد منه أن يقيم صلاة الجمعة ، فها هو يقيمها و يؤدّيها؛ فما الذي نريده بعد ذلك ؟! إنّه يؤدّي جميع الأعمال و الوظائف ، فحتّى القتال فهو يصدر أوامره بالجهاد و يشنّ الحروب (و لكن طبعاً هو يبقى في بيته!! ) ، و من هنا نجد أنّ لسان حالهم كان يقول : بالتالي ما هو الفرق بين أن يكون هذا هو الخليفة أو أن يكون عليّ هو الخليفة ؟ إذ ليس هناك تفاوت كبير بين الأمرين ..لماذا صار حالهم هكذا ؟ لأنّهم لم يكن عندهم فهم !
و الآن هل يجب أن نذهب خلف هذا و نصلّي وراءه مقتدين به ؟ كلاّ ، يجب ألاّ نقتدي به ، فهذا الذي وقف في مقابل عليّ شخص غاصب ، و الغاصب لا قيمة له .. الغاصب خشبة يابسة ، و الأمر الذي له قيمة و فيه حياة و طراوة هو الإيمان و الولاية لعليّ عليه السلام.. ذاك فيه حياة و طراوة و ارتقاء و له ثمار غضّة طريّة ..
أمّا هذا فثماره الحنظل المرّ.. ثماره السمّ الزعاف المهلك، و اتّباعه يؤدّي بالإنسان إلى الخسارة الأبديّة في الدنيا و الآخرة .
طبعاً هذا الشخص [الحاج عبد الزهراء الكرعاوي] بعد مدّة من ذلك وفّقه الله تعالى، و أخذ بيده، و ربّما كان السبب في هدايته هو ذاك المقدار من الصفاء والإخلاص اللذين كانا عنده فشملته عناية سيّد الشهداء و الأئمة عليهم السلام، فتاب و رجع إلى صوابه مظهراً الندم و الأسف و ارتحل من هذه الدنيا مرتبطاً بالولاية . نسأل الله أن يجعل عواقب أمورنا خيراً ...

    

الأصل والمحور الأساس هو الالتفات إلى الإمام والفناء فيه

و لذا على الإنسان أن يكون حذراً منتبهاً ، و أن يعرف ما هو الأصل و ما هو المحور الأساسي ؟ إنّ الأصل و الأساس هو الإمام .. الإمام وحده هو الأصل و الأساس ! الجميع يصلي ، و الجميع يصوم ، و كلّ الناس يذهبون إلى الحجّ ، و يؤدّون الزكاة ، و يدفعون كلّ تلك الأموال و يتحمّلون المصاريف ... و لكنّ جميع ذلك ـ بدون الإمام ـ لا فائدة له ، و كل هذه الأمور بدون ولاية الإمام لا نتيجة لها.
وكذلك الأمر بدون التوجّه إلى إمام العصر أرواحنا له الفداء بالشكل الذي نعتبره فيه حاضراً ومُشرفاً ونضع فيه أنفسنا رهن إرادته واختياره ونخرج فيه عن إرادتنا واختيارنا؛ فهذه هي حقيقة المسألة، وإلاّ فإنّ جميع المجالس والمحافل وصلوات الجماعة والجمعة التي نُقيمها، وهذا الجاه والأبّهة ما هي إلاّ زخرفة وزبرجة. فالأصل والأساس هو ولاية الإمام عليه السلام وهي التي يجب أن نأخذها بعين الاعتبار، والولاية تعني الخروج من النفس وتعويضها بالإمام؛ هذا هو معنى الولاية. أي أن يخرج الإنسان من نفسه وإرادته واختياره، وحينئذ ما الذي يضعه الإنسان عوضاً عن ذلك؟ لأنّ من اللازم ملأ الجيب بشيء ما! وهذا الشيء هو إرادة الإمام عليه السلام واختياره وميوله ورغباته.. هذا هو الذي يجب أن يحلّ محلّ ذلك. وفي ذلك الحين سوف يكتسب عمل الإنسان الروح والقدرة لكي يعبر به ويُخرجه من الكثرة ويدفعه نحو التجرّد، وإلاّ فلا روح لذلك العمل.. قرأ القرآن ووقف عنده. يقرأ نفس هذا القرآن.. ونلاحظ الآن كم لدينا من حفظةٍ للقرآن لكن دون أن يمتلكوا فهماً للآيات ومعانيها، غاية الأمر أنّهم حفّاظ للقرآن، كما أنّ صوتهم جميل. حسناً، أعتقد أنّه قد تمّ التحدّث هذه الليلة بما فيه الكفاية، وسوف نكمل الحديث إن شاء الله حول بقيّة المسائل في المجلس القادم، حيث أنّه من الممكن أن تكون المصلحة قد اقتضت ابتعادنا عمّا كنّا قد نوينا التعرّض له، لكي يُفسح المجال أمام مسائل أخرى. وعلى كلّ حال، كلّ شيء يصلنا من الحبيب فهو جميل، وإقامة هذه المجالس والمحافل هو أيضاً لأجل نفس هذا الأمر. ففي نفس مجلسنا هذا، إذا كانت نيّتنا منحصرة في نفس المجيء، وأن يكون لدينا نحن أيضاً مجلس، وألاّ يُهجر المجلس، وإلاّ إذا هُجر فسيحصل الأمر الكذائي... فلنحافظ عليه. فمن باب المثال، يوجد بعض من المعمّمين يوصون أبناءهم ـ وقد رأينا ذلك وسمعنا عنه كثيراً ـ بألاّ يسمحوا باندثار هذا اللباس الذي كان سائداً إلى الآن، ويجب ألاّ يكون عدم تعمّمهم وتلبّسهم [بلباس رجال الدين] سبباً في حصول ذلك، وليبق محافَظاً عليه من طرف أفراد الأسرة الواحد تلو الآخر، بحيث يكون واحد منهم معمّماً. من اللازم على من يُريد أن يتلبّس بلباس أهل العلم ألاّ يجعل في نيته مسألة أنّه لطالما وُجد عالم في أسرتنا ولذلك تجب المحافظة على هذا الأمر؛ فهذا لا يعدو كونه لعباً! يجب عليك أن ترى بنفسك ما هو الشيء الذي تعتقد به، وما هو الطريق الذي يجب عليك انتخابه، ولأجل أيّ شيء تقوم بهذا العمل، وأمّا ما كان سابقاً فقد كان وانتهى. وعليه، ينبغي أن تُقام هذه المجالس على هذا الأساس، ويجب أن يكون المجيء إليها بحسب هذه النيّة؛ بمعنى أن يُخلص الإنسان نيّته، ثمّ يرى ما هو الشيء الذي يُقدّره الله تعالى ويُعيّنه. ففي جميع الأوقات التي آتي فيها إلى هنا ـ يعني غالباً ما كان الأمر هكذا ـ أكون حاملاً في ذهني مجموعة من المطالب والتصوّرات حول المسألة الأساسية التي أريد أن أتحدّث عنها، ولكن في نفس الوقت أقول في نفسي لربّما سار البحث نحو قضيّة أخرى، مع أنّي قاصد في حديثي لأن أتابع نفس هذه المطالب وأحوم حولها، فإنّني أثناء الحديث كثيراً ما أبتعد عن هذه المسائل، وطبعاً ربّما كان ذلك ناشئاً من الاستهتار وعدم التقيّد بالموضوع، فلا ينبغي أن نحسن الظنّ بأنفسنا دائماً، لكن على كلّ حال نقول: إلهي ما يكون إلاّ ما تفضّلت به علينا. ومرادي من كلّ ذلك هو هذا الأمر؛ بمعنى أنّه إذا قمنا بإخلاص نيّاتنا في سبيل هذا النوع من المجالس، فإنّ رزقنا سيصل إلينا، وليس وسيلة ذلك مختصّة بكلام الحقير، فما ينبغي أن يصل إلينا سيصل إلينا حتماً.. تلك الفائدة التي ينبغي لها أن تصل إلينا ستصل، ومن الممكن ألاّ تتحصّل تلك النتيجة من أيّ كلام قيل في المجلس، بل تتحصّل من جهة أخرى، من خاصيّة ما. فلا بدّ أن تكون النيّة خالصة، وذلك بسبب أنّه: إنّما الأعمال بالنيات.
نحن الآن في شهر ذي القعدة وعلى أبواب شهر ذي الحجّة، وبطبيعة الحال فإنّ الرفقاء على علم بالمسائل المرتبطة بهذين الشهرين وكذلك بالتوجيهات التي كان العظماء يُشيرون إليها في هذا الشهر فيما يخصّ الزيادة في المراقبة، والإكثار من الصيام وخصوصاً في العشرة الأوائل من ذي الحجّة، أي صوم تلك الأيّام التسعة، وقراءة الأذكار المرتبطة بذي الحجّة، وحاصل الأمر، وجوب الاستفادة من فضائل شهر ذي القعدة، والتشرّف بزيارة الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام بالنسبة للأشخاص الذين يُحالفهم التوفيق للقيام بهذا الأمر ـ حيث توجد زيارة خاصّة له عليه السلام في هذا الشهر ـ وحتّى بالنسبة لمن لم يتمكّن من ذلك فإنّه إذا ما قام بالزيارة من منزله فإنّها تُعدّ مقبولة، وسيقبلها منه عليه السلام؛ لأنّ ما يلزم من كرمهم عليهم السلام هو ذلك، وما يلزم من فضلهم وشرفهم هو اعتمادهم على معايير ومقاييس وأمور أخرى.
نرجو من الله تعالى أن يُمدّنا بالتوفيق لكي نتمكّن من الحصول على الفهم والوعي بالنسبة إلى مباني مدرسة أهل البيت. وحاصل الأمر، ينبغي علينا أن نعلم بأنّه إذا ما أردنا الاكتفاء بمستوى الفهم الذي يمتلكه الناس العاديّون، فسنكون بذلك قد خُدعنا وضاع رأسمالنا، وأنتم ترون الآن ـ والمسألة كانت دائماً بهذا الشكل ـ مقدار ما بلغه فهمنا ودرجة ميولنا ومستوى إحساسنا، ونحن نرى ذلك الآن بأمّ أعيننا، لكنّنا نشعر في نفس الوقت بأنّه يوجد ما هو أعلى من ذلك، حيث توجد مسائل ومطالب أرفع من ذلك لا يُمكن أن ينالها أيّ أحد.
نرجو من الله تعالى أن يُوفّقنا لكي نمتلك أوّلاً الفهم [لهذه المطالب]، ولنتمكّن بعد ذلك من تحصيل الاهتمام الكافي بها والعمل بها، ولكي نطبّق شؤوننا تبعاً لما تُمليه علينا مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد.


[1] ـ المائدة، صدر الآية 87

[2] ـ الأعراف، صدر 32

[3] ـ نهج البلاغة خطب الإمام علي (ع) ج 4 ص 61

[4] ـ المصدر السابق.

[5] ـ أطع قوله " كلوا واشربوا "، وانس منه :"و لا تسرفوا".

[6] ـ يا لحسن حظّي إذ لم أملك حماراً *** فيشغلني بتبنٍ أو شعير

[7] ـ مثل فارسيّ.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی