معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > أعياد و مناسبات إسلامية > رسالة عاشوراء ـ علي الأصغر يفصل بين الحق والباطل
رسالة عاشوراء بيانات شريفة تتعلّق بمقام عليّ الأصغر عليه السلام ومنزلته

_______________________________________________________________

هو العليم

رسالة عاشوراء

علي الأصغر يفصل بين الحق والباطل

أُلقيت يوم التاسع عشر من المحرّم 1431 هـ.ق

ألقاها سماحة آية الله

الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني

حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

بسم الله الرحمن الرحيم

    

واقعة كربلاء واقعة الفصل بين الحقّ والباطل

.... [1] كنت أبلغ من العمر سبعة عشر عاماً عندما قمنا بزيارة كربلاء خلال أيام عاشوراء، بل ربّما لم أكن قد بلغت ذلك العمر آنذاك، وكنّا حينها قد تشرّفنا بزيارة مكّة وقمنا بأعمال الحجّ أوّلاً ثمّ عرّجنا على كربلاء. ومنذ ذلك الوقت لم أزرها في عاشوراء إلى حدّ الآن سوى زيارتي هذه.[2]
لقد كانت أجواء حادثة كربلاء عجيبة جدّاً؛ إذ كان الإنسان يُشاهد بأمّ عينه أنّ عليه أن يختار إمّا هذا الجانب وإمّا ذاك، ولا حدّ وسط بينهما، بمعنى أنّ تلك الأجواء كانت عجيبةً، فلا يستطيع معها المرء أن يخدع نفسه، ويجد مبرّراً للفرار، فهذه الحادثة تقول للإنسان: إمّا أن تكون في هذا الجانب، وإمّا أن تكون في الجانب الآخر، فراجع حساباتك وانظر ما هو المطلوب.
وكانت المسألة التي شغلت هناك فكرنا بشكل كبير هي حكاية عليّ الأصغر، وكانت تلك القضيّة بالنسبة لي عجيبة جدّاً من حيث حقيقتها وكنهها؛ إذ لا يمكن أن تكون تلك المسألة بسيطة. نعم، لأبي الفضل مكانته الخاصّة، والإمام الحسين كذلك له مكانته الخاصّة، ولجميع هؤلاء مراتبهم ومنازلهم الخاصّة، ولكنّهم كانوا كباراً [في السنّ] واستشهدوا. وأمّا قضيّة عليّ الأصغر ـ أعني: عبد الله الرضيع ـ فقد كانت مختلفة تماماً. لقد كانت بمثابة لوحةٍ كبيرةٍ جدّاً موضوعة في جانب الباب الذي يلج منه الشهداء. وكنت أتساءل في نفسي حول عليّ الأصغر ـ عبد الله الرضيع ـ : ما هي طبيعة تلك القصّة؟

    

الفارق بين حادثة عاشوراء وغيرها من معارك الإسلام وغزواته

لم تكن عاشوراء واقعة عاديّة، بل كانت مدروسة في أدقّ تفاصيلها وخطواتها، وقضيّة عاشوراء ـ كما أشرت إلى ذلك سابقاً ـ تختلف عن سائر حروب الأئمّة، بل حتّى عن حروب رسول الله؛ ففي تلك الحروب كان الناس قد اشتبه عليهم الأمر كما حدث في صِفِّين، وكذلك الأمر بالنسبة إلى من شارك مع الرسول في الحروب، وإلاّ لو لم يشتبه عليهم الأمر، لما انهزموا في معركة أُحد، حيث قال لهم الرسول: ابقوا في الأعلى إلى أن آذن لكم؛ لكنّهم بمجرّد أن اطّلعوا على اندحار جيش الكفر ووقعت أعينهم على الغنائم، حتى نزل منهم أربعون مقاتلاً إلى الأسفل، وبقي منهم أحد عشر آخرون، فجاء خالد بن الوليد مع خمسمائة مقاتل فقضى عليهم، وقد قيل بأنّهم كانوا خمسين مقاتلاً. وعلى كلّ حال، فقد جاؤوا وأحاطوا بهم وقتلوهم جميعاً. وقد كانت تلك الحادثة مثيرةً للعجب، وقد تنبّأ الرسول بحصولها. وخلاصة القول: أنّه لماذا كانت تقع جميع هذه الأمور؟ لعدم وجود الإخلاص؛ فلو أنّهم بقوا واقفين في مكانهم ولم يعتنوا بتلك الغنائم لانتصروا. والغنائم تعني الدنيا. إلاّ أنّهم وضعوا كلام الرسول جانباً ورجّحوا ذهب الدنيا وفضّتها، وبالتالي، فقد كان ذلك يفتقد الإخلاص، وعدم الإخلاص كان حاضراً أيضاً في معركتي أحد وبدر، وكذلك الأمر في جميع الحروب.
في إحدى الحروب التي شارك فيها أحد المسلمين، وقعت عيناه على حمار أبيض، فقرّر أن يذهب ليضرب صاحبه ويوقعه ثمّ يستولي على الحمار. انطلق لينفذ خطّته، لكن ما حدث هو أنّ راكب الحمار ضربه ضربةً أفضت إلى مقتله. كان لسان حال صاحب الحمار يقول: الآن وقد أتيت إلى هنا ابتغاء حماري، فنل جزاءك إذن! كما أعلن النبي أنّ ذاك المقتول مات شهيداً في سبيل الحمار، لا شهيداً في سبيل الله. هذه الواقعة هي مثالٌ على الدناءات والتلوّثات التي كانت تحصل في ركاب رسول الله. وهذا النوع من الخلط كان موجوداً، فليست المسألة أن تكون مع الرسول فحسب، بل يجب أن ترى وتتحرّى أين موقعك بدقّة. ليس الملاك أن تكون مع النبيّ، بل الملاك هو موقعك في القضيّة. ليس الملاك هو الصلاة خلف رسول الله، بل الملاك هو موضعك من المسألة. لا قيمة لحضورك خلف النبيّ وهو قائم أو يركع ويسجد، كما أنّه قد يوجد مجنون ينظر خلف النبيّ، وكلّما ركع النبيّ ركع هو بدوره وكلّما سجد النبيّ سجد أيضاً، إلا أنّه مجنون لا عقل له. وأمّا المسألة المهمّة في هذا النوع من الحوادث والقضايا هو موقف الإنسان في القضيّة. ألم تكن هناك دناءة وقذارة وغش في حرب صفّين؟ فلو لم يكن ذلك، لما آل الأمر إلى ما آل إليه، ولما آل إلى مسألة التحكيم [ورفع المصاحف]، وإلى هزيمة أمير المؤمنين بحسب الظاهر، وإلى تغلّب خداع أهل الدنيا وغشّهم ومكرهم، وفي النهاية إلى شهادة أمير المؤمنين. كان المآل إلى ذلك، لكنّ حادثة عاشوراء كانت خالية من النفاق والغش والقذارة ولو بمثقال ذرّة. لقد كانت قضيّة عاشوراء قضيّة عجيبة جداً من أساسها.

    

مقام أصحاب الحسين عليه السلام ومنزلتهم عند الله

لذلك ورد في حق أصحاب الحسين عليه السلام أنّهم " لا يَسْبِقُهُمْ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ؛ وَ لا يَلْحَقُهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ" [3] وذلك لأنّه لم يُشب الإخلاص فيها بذرّة من الغشّ والنفاق، فالذين كانوا مع الإمام الحسين يوم عاشوراء كانوا سيبقون معه رغم كلّ التغيّرات والتحوّلات التي كانت تطرأ على الظروف، فلو انتصر الإمام الحسين سيبقون كما هم عليه، ولو لم يكن الإمام الحسين لما أثّر ذلك فيهم وسيبقون كما هم عليه. وعلى أيّة حال كان الإمام الحسين كانوا سيبقون كما هم عليه، ولو أصيبوا بالجراح ثم أُحيوا مرّة أخرى سيبقون كما هم عليه، ولو عانوا الألم والمرض سيبقون كما هم عليه، سيبقون جميعُهم كذلك ولن يختلف الأمر بالنسبة إليهم؛ فقد أدركوا مقام الإمام الحسين وكانوا عارفين بحقّه. نعم، كانت مراتب معرفتهم بالإمام تتفاوت من شخص لآخر، ولكنّهم كانوا على درجة من المعرفة استطاعوا بها أن يتركوا الدنيا، فتركوا أرواحهم ونساءهم وأولادهم وتعلّقاتهم، ففي هذه الدرجة من المعرفة لم تعُد التغيّرات والتحوّلات تؤثّر فيهم، وكذا الدنيا مع كل ظواهرها وشؤونها.
نحن الآن لا نريد أن نتحدّث عن المراتب الرفيعة من معرفتهم، وإن كان هناك تفاوت بين حبيب بن مظاهر والحرّ بن يزيد، ولا شكّ في هذا، وكذلك هناك تفاوت بين أبي الفضل العباس وعلي الأكبر وبين سائر المشاركين في واقعة كربلاء. فعليّ الأكبر وصل إلى درجة جعلته تالي تلو الإمام، وقد ورد ذلك في بعض العبارات والزيارات. ولكنّ كلامنا يدور حول مقام التسليم، وأنّ هذا المقام إلى أيّ حد وصل؟! إنّه لا حدّ له، ومقام التسليم هو أن تفعل كلّ ما يريده الإمام حتى تصل الإرادة إلى درجة أنّك إذا أردت أن تقتلني مرةً واحدة أو مرّتين فاقتلني، تريد أن تحرقني عشر مرات فأحرقني عشر مرّات. ففي هذه المنزلة لم يأت إلى الآن مثيل لأصحاب يوم عاشوراء ولن يأتي، وهذا هو مفاد كلام المعصوم.

    

لا قياس بين واقعة عاشوراء وبين غيرها

كنّا ذات يوم برفقة المرحوم العلامة الطهراني (رضوان الله عليه)، وكان أحد الأشخاص يتحدّث قبل خطبة صلاة الجمعة، وقد وقع ذلك صدفةً قبل حلول أيّام عاشوراء، فكان يقول: يا حسين! إن كنتَ قد قدّمت واحداً كحبيب بن مظاهر، فقد قدّمنا الآلاف من قبيل حبيب بن مظاهر. وإن كنت قد قدّمت واحداً كعلي الأكبر، فقد قدّمنا الآلاف من قبيل علي الأكبر. وهنا سمعنا المرحوم العلامة يقول: ملأ الله فمك تراباً ـ وكان قد سمع كلامه شخصان أو ثلاثة من الحاضرين هناك ـ أَتقول: إن كنت قدّمت علياً الأكبر فقد قدّمنا الآلاف من علي الأكبر! هل هذا هو علي الأكبر؟ وهل ذاك هو حبيب بن مظاهر؟ هل كان هؤلاء حبيب بن مظاهر؟ هل ترون حبيب بن مظاهر فقط من خلال شعره الأبيض ولحيته البيضاء؟ أنتم لم تروا حقيقة حبيب بن مظاهر، وماذا فعل، وماذا قال، وأيّ عوالم تلك التي طواها، وماذا كان بوسعه أن يفعل؟ لقد كان يستطيع أن يتصرّف في جميع عوالم الوجود ، وكانت كراماته عين معجزات الأنبياء، بل حتى أرفع وأرقى منها. ذاك هو حبيب بن مظاهر، فهل كان رجالنا من كبار السنّ على هذه الشاكلة؟ على أيّة حال، لكلّ واحد منهم أجره، ونحن لا ننكر هذا الأمر فيما يتعلق بهؤلاء الذين قاموا وضحّوا بأنفسهم وأرواحهم، لا شكّ بأنّ لهم أجرهم، لكن لكلّ شيء حسابٌ ومقدارٌ. كما أنّكم لن تسمحوا أبداً بأن يقترب أحد من ساحتكم [أو أن يتشبّه بكم] على الرغم من أنّكم كسائر الأفراد، فكيف لهذا الأمر أن يحدث مع أشخاص عظام كعليّ الأكبر وحبيب بن مظاهر؟ هذا أمر لا يمكن تصوّره، أن يتمّ تشبيه الآخرين ومقارنتهم وتمثيلهم بهؤلاء العظام. إنّ هذا الأمر نابع من فهمنا المنحرف، بحيث إنّنا لا نستطيع أن نحفظ الحدود بسبب جهلنا، ونتيجة ذلك أنّنا نُشبّه الآخرين من الأفراد العاديين بمقام العصمة. أمّا ما حدث لعلي الأصغر فقد كانت بالنسبة لي مسألة تحتاج إلى التأمّل بنحو عميق.

    

علوّ منزلة أبي الفضل العبّاس عليه السلام

انظروا إلى أبي الفضل العباس! سمعت أنّ أحدهم كان يقول بأنّه منذ زمان رسول الله إلى اليوم ـ باستثناء المعصومين ـ لم يأت شخص مثل فلان. أنتم يا من تطرحون هذا الأمر، هل لكم اطّلاع على مقام أبي الفضل من الأساس؟ وهكذا قال الحاجّ ميرزا حسين النوري في كتابه: إنّ مقام سلمان أعلى من مقام أبي الفضل. يا حاجّ ميرزا حسين النوري، ليكن اشتغالك ببحث الرجال! ما هي علاقتك بهذه المقامات والمعارف والمسائل التي لا تمتلك عنها أيّ اطّلاع؟ إنّ التنقيب عن أحوال زرارة والسكوني وكم كان يمتلك من أولاد وكم له من عمّات وخالات لا يقود إلى معرفة الإمامة، فهي تحتاج إلى شيء آخر. حسناً، لقد فهمنا أنّ السكوني كان ثقة أو غير ثقة، وما كان عليه زرارة وأبان، وأيّة درجة من الوثاقة كانت لهم؟ وهل هم في الدرجة الأولى أم السفلى؟ لكنّ العلم بهذا الأمر لا يؤدي إلى العلم بمقام العصمة. هذه المسائل محفوظة في محلّها، فماذا تعرف أنت عن مقام أبي الفضل الذي ينبغي على الأنبياء أن يكحّلوا أعينهم بتراب عتبته؟ وماذا تفهم من ذلك لكي تأتي وتقارن سلمان بأبي الفضل؟ فهو من قال في حقّه الإمام السجّاد بأنّ جميع الشهداء من الأوّلين والآخرين يغبطونه على المكانة التي هو عليها، وهو الذي قال عنه الإمام الذي{ وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى‏}، { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْل‏ * وَما هُوَ بِالْهَزْل‏}، وهو يختلف عن كلامنا المشوب بالإفراط والتفريط. فالإمام المعصوم هو من يقول بأنّ جميع السابقين واللاحقين يغبطونه. فأيّ مقام هذا، وأيّة تجليات ذاتية هذه التي تنزّلت عليه بحيث إنّها لم تتنزّل على من كان قبله ولن تتنزّل بعد ذلك. هذا الأمر يُدركه المرحوم القاضي الذي يقول بأنّ أبا الفضل كعبة الأولياء، ويُدركه السيّد الحداد الذي يقول بأنّ كلّ ما حصل عليه العرفاء نتيجةٌ لتقبيل تراب أعتاب أبي الفضل العباس. فهؤلاء يفهمون حقيقة ما ينطوي عليه الأمر.
أمّا نحن فنكتفي فقط بالتفرّج على قبّة ذهبيّة ورواق ذهبي، وعلى فناء وقصر... والأشخاص الذين يأتون إلى هناك من أجل الزيارة، وكذلك الذين ألّفوا هذه الكتب كانوا يرون هذه الأشياء؛ فقد كانوا يرون نفس هذه القبّة الذهبيّة التي لم تكن من الأساس مصنوعة من الذهب. فمن باب المثال، لم يكن فيها ذهبٌ قبل الشاه عبّاس، كما أنّها كانت من التراب في إحدى الأزمنة، وقد جاء المتوكّل ودكّها وحرثها. وإذا ما تشرّفنا الآن بزيارة حرم الإمامين العسكريين، فإنّنا سنرى بأنّه لا يوجد فيه ضريح؛ فقد أحاطوا تلك البقعة بلوح خشبي ووضعوا عليها ستاراً ـ لأنّهم هدّموه وفجّروه ـ وإذا ما ذهب الإنسان إلى هناك، فإنّه سيكتشف بالفعل بأنّ هذه المسألة عجيبة جدّاً وكيف أنّنا ما زلنا مكبّلين بالتخيّلات ومأسورين للأمور الاعتبارية. فما قاله الرسول والأئمّة من أنّه: من زارنا عارفاً بحقّنا ـ بحيث أنّ هذه الجملة قد تضمنّت كلّ شيء ـ هو لأجل ألاّ تقوم أنت بزيارة القبّة؛ فما أن تقع عينك من بعيد على القبّة حتى تقول السلام عليك يا عليّ بن موسى الرضا، فهل الإمام الرضا قبّة! نعم، إذا ما وقعت عينك على القبّة فإنّ هذا يعني ظهور مقام الولاية في مرتبة الظاهر، لكن لا يعني هذا بأنّ الإمام الرضا موجود في القبّة، أو الباب، أو الضريح أو البدن، بل من الأساس هو ليس ببدن. فالذهاب إلى زيارة الإمام الرضا هو لأجل أنّ ذلك البدن وبسبب تلك القداسة التي حصل عليها بواسطة تلك الروح صار يتمتّع أكثر بتلك التجليّات، لكنّ الإمام الرضا ليس بدناً، فهو حاضر في كلّ مكان. لقد استحوذ الإمام الرضا على عالمي الملك والملكوت.
إنّ مقولة (عارفاً بحقّنا) تُعتبر مسألة مهمّة جدّاً من جهة أنّه من هو الشخص الذي يُعدّ عارفاً بالحقّ.

    

دور استشهاد علي الأصغر عليه السلام في تحقيق رسالة عاشوراء

وقد شغلت فكري قضيّة عليّ الأصغر هذه لمدة طويلة، أن كيف حصل ذلك وما هي حقيقة هذا الأمر؟ بعد ذلك شعرت بأنّ قضيّة عليّ الأصغر في كربلاء هي التي ميّزت بين الحقّ والباطل وأنّه كان لا بدّ أن تقع هذه الواقعة في عاشوراء، لأنّكم مهما حاولتم أن تنظروا في مسألة كربلاء فربّما كان هناك مجال للشبهة لمن يريد أن ينكر، لماذا قتلوا الإمام بغير ذنب؟ حسناً، كان عليه أن لا يخرج! وفي زمان ما قبل الثورة صرّح عبد الله الرياضي رئيس مجلس الشورى الوطنيّ آنذاك في إحدى جلساته قائلاً: هذا هو جزاء كلّ من واجه الحكومة، وقد تمّ إعدامه بعد انتصار الثورة الإسلاميّة. نعم، لقد تكلّم عبد الله الرياضي بهذا الكلام، حتّى أنّه لم يقل الإمام الحسين أيضاً، بل قال: الحسين مجرّداً. وقال: إنّ مصير الحسين الذي يريد أن يقف في وجه الخليفة وحاكم الزمان هو هذا، ولو شاء لما أقدم! وهناك الكثيرون الآن يقولون: لو شاء الإمام الحسين لما خرج، فما دام قد رأى عجزه وأنّ يزيد أمامه، فقد كان عليه ألاّ يخرج. أَوَلا نسمع الكثيرين اليوم يشكّكون في صلح الإمام الحسن؟! لماذا عقد الإمام الحسن صلحاً ولم يحارب؟! كان يجب عليه أن يحارب؟! وفي المقابل يقول بعضهم أيضاً للإمام الحسين عليه السلام: مادمتم تعرفون أنّكم لا تقدرون على حرب يزيد فلماذا خرجتم؟ كان عليكم أن تبايعوا أو تعمدوا إلى التقيّة! وهكذا إذا سألنا لماذا استشهد حضرة أبي الفضل؟ يقولون لأنّه وقف في وجه الأعداء فكان يضربهم ويضربونه، وفي النهاية يجب أن ينتصر أحد الطرفين. ففي كلّ قضيّة من قضايا كربلاء تنظر إليها فإنّ فيها مجالاً للتشكيك عند أهل الشبهة وأهل الوسوسة وذوي الأمراض والأغراض، وأصحاب الاهتمام بالدنيا، وأصحاب الفكر المادي والأسس الماديّة والظاهريّة،
لماذا تركوه عطشاناً؟! لكي يُهبطوا من مستوى قوته. أَوَ لا يقومون في كلّ المعارك بذلك؟ فعندما يطّلع العدوّ ويرى بأنّ خصمه يمتلك بعضاً من القدرات، فإنّه يسعى إلى الحدّ منها. ولنفترض بأنّ أحدها كان هو الماء، فإذا قال أولئك بأنّهم يخافون، فإنّهم كانوا سيقومون بالوصول إلى شريعة الماء في نفس تلك اللحظة. ونفس الكلام ينطبق على القاسم عليه السلام، فلماذا امتطى الحصان وجاء؟ أتظنّ أنّنا لن نفعل لك أيّ شيء لأنّك تبلغ من العمر ثلاثة عشرة سنة فتضربنا بالسيف ونحن نكتفي بالنظر إليك؟! بل نضربك نحن أيضاً. هكذا الحال في ابن الإمام الحسن الذي كان عمره سبع أو خمس سنوات الذي جاء للدفاع عن الإمام الحسين حين استشهاده، فقاموا بقطع يده، حيث كان يُريد منهم ألاّ يضربوه، ولذلك أمسك بيده حتى لا يضرب بها [الإمام الحسين]، فقطعت يده، أي أنّهم لم يكونوا قاصدين لضربه. وأمّا حادثة علي الأصغر، فهي مسألة لا يُمكن إنكارها أبداً، وكأنّ هذه الحادثة كان يجب أن تقع حتماً. لقد كان من اللازم حدوث هذه القضيّة لكيلا يتمكّن أحد من إنكار حقّانية الإمام الحسين. ففي حادثة عليّ الأصغر، قام ذلك السيف الفاصل بين الحقّ والباطل وفصل بين الفريقين؛ إذ إنّ ذلك لم يكن بسبب حدوث خطأ، فلم يقع شهاب سماوي على الأرض، ولا انبثق أمر من الأرض، بل كانت مسألة حصلت بهذه الكيفيّة عن اختيار وعمد وعلم وإصرار. ولذلك لا يستطيع أيّ أحد أن يشكّ فيها.
ماذا كان على الإمام الحسين أن يفعل؟ لقد جاء وقال لهم: إذا لم ترغبوا في إعطائي الماء، فلا تفعلوا ذلك، دعوني أموت عطشاً، فحربكم معي أنا. كان يقول عليه السلام: " إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل " [4]، أي: إذا كانت حربكم معي، فأنّا بدوري لن أستسلم لكم، فليضرب بعضنا بعضاً، وفي النهاية، إمّا أن أقتلكم وإمّا أن تقتلوني. إذا كنتم قد أحللتم بي كلّ هذا البلاء، فما ذنب هذا؟ إن لم ترحموني فارحموا هذا الرضيع، ألا ترونه كيف يتلظّى عطشاً. أنتم ترون بأنفسكم، فأنا لا أريد أن أجعل منه وسيلةً لكي تعطوني الماء، فتُعطوه الماء وأشرب أنا. نعم، قد يأتون بالمال من أجل إعطائه إلى فقير مثلاً، فيستولي عليه شخص آخر. أي: بعنوان أن تُعطوه الماء هو، فأشربه أنا. احملوه بأنفسكم واسقوه الماء ثمّ أرجعوه إلى أمّه. لقد اطلع كلّ أولئك على هذه الحادثة، فقد كانت [من الوضوح بمكان] بحيث ورد في كتب المقاتل بأنّه تمّ تناقل الحديث حولها في نفس معسكر ابن سعد، وكانوا يقولون: ما هي حقيقة هذه المسألة؟ هل هو صادق فيما يقول! في ذلك الحين شعر ابن سعد بالخطر، ولمـّا أحسّ بذلك، التفت إلى حرملة وقال له: اضربه لكي تُطفئ هذه الفتنة.

    

علي الأصغر البرهان القاطع في فضح ابن سعد ومبادئه على مرّ التاريخ

وكما كان دائماً على مرّ التاريخ نوع من التفكير المليء بالتخيّلات والأوهام والمؤامرات، فكذلك هو الحال في زماننا هذا، والفرق فقط هو في الزمان؛ فالزمان هو الذي يختلف، بينما أسلوب التفكير واحد، وهو السعي إلى القضاء على الحقّ بأيّة وسيلة كانت. هذه هي حقيقة المسألة. لقد كان القضاء على الحق والوصول إلى المقصود بأية وسيلة ممكنة موجوداً منذ الأزل، وقد جاءت قضيّة علي الأصغر لتبيّن لنا هذا الأمر، أعني: اتّباع الباطل من أجل الوصول إلى المقصود، أي: نيل الدنيا والوصول إلى كرسيّ ابن زياد وعرش يزيد ونيل قمح الرّي... يا عمر بن سعد، أنت لا تريد الوصول إلى قمح الرّي بقتل الإمام الحسين وأبي الفضل العباس وحبيب بن مظاهر، بل بقتل طفل بريء تشهد حتى الحيوانات الوحشيّة على براءته، والبهائيّون والزرادشتيّون يعترفون بذلك؛ فما عسى طفل ذي ستة أشهر أن يكون؟! أنت على استعداد لقتل طفل بريء من أجل الوصول إلى قمح الريّ، فما هو جوابك عن ذلك؟ وما هو مآل هذه المسألة؟ فهنا لا يستطيع أحدٌ أن يقول: (كان بإمكانه ألاّ يأتي للحرب). احملوه وارووا عطشه دون أن تعطوا لأبيه قطرة ماء ـ وهذا ما قاله لهم عليه السلام ـ سيقول: حسناً، لقد رويتم عطشه، لا مشكلة فيما بيننا، احملوه إلى أمّه! وبذلك لن يقع عبد الله الرضيع شهيداً، وسيُتابع الإمام الحسين بدوره مسيرته. إنّ إطلاق ذلك السهم يعني أنّ تلك الحادثة كان لا بدّ لها أن تحدث من أجل العسكر ومن أجل عمر بن سعد ومن أجلنا نحن أيضاً، ولكي نعرف نحن اليوم أنّ الوصول إلى الغاية لا يكون بأيّة كيفيّة وبأيّة وسيلة يا عزيزي! فالغاية لا تُبرّر الوسيلة، وإلاّ لو كان الأمر كذلك، فليس هناك من إشكال إذن في قتل عبد الله الرضيع. إذا كان من المقرّر أن تكون الغايةُ مبرّرة للوسيلة ومبرّرة للمقدّمة، فلا إشكال إذن في قتل عبد الله الرضيع، مع أنّ جميع الناس ـ مهما كان المنطق الذي يستندون إليه ـ يُدينون قتل عبد الله الرضيع ويقولون بأنّه عمل خاطئ وباطل.
حسناً، عندما حصل ذلك، ما هي ردّة فعلكم أنتم الواقفون إلى جانب عمر بن سعد والذين تشاهدون هذه القضيّة؟ لقد اتضح الأمر إذن، ولا حاجة لنا إلى دليل لنعرف الحق مع من: مع يزيد أم مع الإمام الحسين، ولا حاجة لنا إلى الإتيان بالكتب واستعمال المنطق واستحضار التاريخ واللجوء إلى الجدال؛ فهذه قضية وحادثة تشكّل بنفسها وبوجودها دليلاً على الأمر لا بإثباتها وقياساتها. فنفس هذه المسألة هي دليل على ذلك، ونفس وجودها دليل على ذلك. وأنتم يا أفراد جيش عمر بن سعد، بقيتم جالسين تُحدّقون كالبُلَهاء وتقولون: حسناً، لقد انطلق السهم من القوس، لِنصرف النظر عن الأمر. عن ماذا نصرف النظر؟ ماذا يعني (لقد انطلق السهم من القوس، فلنصرف النظر)؟ يا سيّدي، دعنا من كلّ هذا، لقد خرج السهم من القوس وسال الماء من الدلو ولا يُمكننا إرجاعه. لا يا سيّدي، عليك أن تتعقّب الماء لكي ترى أين ذهب. ونُلاحظ بأنّ هذا الاستدلال بعينه يُطرح في موضع آخر، ومفاده أن يا سيدي لقد كانت هذه قضيّةً وقعت و... فلا تتبّع هذه المسألة، وذلك خلاف المصلحة. أجل، لقد انفصل السهم عن القوس و... . ونُلاحظ بأنّ هذا الاستدلال بعينه قد استخدمه عمر بن سعد. قالوا: ماذا حصل؟ إنّه يرتعش وروحه تفيض بين يدي أبيه، فقال لهم: دعونا من ذلك، لقد وقع ما وقع، ولنركزّ على المسألة الأساسيّة ونُتابع الأمر. هل تُريدون الآن أن تفكّروا في المسألة! لقد انتهى الأمر! أيّها البائس الشقيّ، لم ينتهِ الأمر بعدُ، وستلقى جزاءك ولكن اصبر قليلاً. لقد كانت هذه القضيّة بحسب اعتقادي قضيّةً عجيبةً، بل ينبغي من الأساس على قصّة علي الأصغر أن تحدث ـ ويتضمّن هذا الكلام عدّة مسائل ـ ويُعدّ ذلك أمراً بديهياً يشبه قضيّة اثنين زائد اثنين تساوي أربعة، ومن الأمور الابتدائيّة، فالمسألة التي كانت ملموسة ومشهودة بالدرجة الأولى في هذه الحادثة بالنسبة للجميع هي أنّها كانت بمثابة سيفٍ ظهر ولم يُبق أيّ مجال للشكّ والارتياب. فقد وُجدت حادثة ذهاب علي الأكبر [للقتال]، وكان قتله مسألة طبيعيّة، فقد كان شخصاً جاء وقضى على مائة وعشرين شخص حتّى ضجّ الناس من كثرة من قُتل منهم، وهو لم يكن يضرب أشخاصاً عاديّين، بل كان يختار القادة منهم ويقوم بتصفيتهم، حتى ضجّ الناس من كثرة من قُتل منهم. وقد عقد كلّ من حضرة أبي الفضل وحضرة علي الأكبر اتّفاقاً يوم عاشوراء بألاّ يبقوا أحداً من هؤلاء الأشخاص على قيد الحياة، وكان في إمكانهم فعل ذلك، أَفَينقصون بشيء عن جدّهم وأبيهم؟! لكنّ مشيئة الله اقتضت أمراً آخر، وتقرّر حدوثُ شيء آخر. لقد كان الأمر كذلك في حادثة عليّ الأكبر وفي حادثة أبي الفضل، حيث تمّ في جميعها إقامة الحجّة وإلقاء الخُطب، إلى أن وصلت المسألة إلى درجة يقوم معها الإمام الحسين بالإتيان بدليل عملي.
يا عزيزي! القضيّة هي هكذا... فالاستدلال بأنّي (هل صبأت عن دين آبائي؟) لم يُقنعهم، والاستدلال بأنّي (حللّت حراماً؟!) لم يُقنعهم، والاستدلال بقضيّة (أَوَ لستم أنتم الذين بعثتم إليّ بالرسائل) لم يُقنعهم كذلك، فكلُّ ما قاله لهم عليهم السلام لم يجد منهم آذاناً صاغية، وكلّ كلام ذكره في مقام الاستدلال لم يُقنعهم. فبقي طريق واحد لن يستطيع معه هؤلاء عمليّاً أن يتفوّهوا ببنت شفة، وقد كانت هذه المسألة هي مسألة عبد الله الرضيع؛ بمعنى أنّه بحدوث قضيّة عبد الله الرضيع، لم يبق المجال صالحاً للاستدلال، فالمقام لم يعُد مقاماً للتحدّث والكلام. فقد كانوا يقولون بأنّ يزيد جاء، فتعال أنت أيضاً، ودع عنك هذا الكلام، فهذا النوع من الكلام قد فات أوانه، تعال يا حسين لكي تُبايع، إلى أن وصلت بهم الدرجة لأن يقولوا (بغضاً لأبيك)، فقد قالوا ذلك أيضاً.
لكنّ المسألة هي أنّه حينما رأى عليه السلام عدم وجود فائدة من ذلك، وأنّه لا طائل من وراء الكلام، قال لنعرض عليهم دليلاً عمليّاً يكون نفس وجوده وحضوره أدلّ دليل على إثبات أمرنا وعلى أحقّيتنا وعلى بطلان أمر الخصم وظلمه وكفر الطرف المقابل والمخالف. فلنعرض عليهم ذلك.. هذه الورقة الرابحة ـ على حدّ قول أبناء هذا العصر ـ فهذه الورقة الرابحة هي تحت يدي فلأعرضها عليهم، المسألة هي هذه. حسناً، عندما أتينا، رأينا ـ ويا للعجب ـ بأنّ هؤلاء قد قاموا بتجاوز حتى تلك الورقة الرابحة، وتجاوزوا أدلّ دليل، حينئذ اتضح بأنّ المسألة قد انتهت وتبيّن بأنّه لا مجال بعدئذ للهزل، فالظلم في جانب والحقّ في جانب آخر، والكفر في جانب والإيمان في جانب آخر، والصدق في جانب والاحتيال في جانب آخر، والصفاء في جانب والنفاق في جانب آخر، والظلمة في جانب والنور في جانب آخر، هذا هو الذي كان في حادثة عبد الله الرضيع.
ولهذا نستطيع أن نقول بأنّ واقعة عاشوراء قائمة من الأساس على عبد الله الرضيع، وبأنّ شهادته لها القيوميّة على الواقعة كلّها. وحاصل الأمر أنّها أساسها، فالأساس في استمرار قضيّة عاشوراء هو عبد الله الرضيع، هو سرّ استمرارها، وسرّ بقائها، هو الأمر الذي حافظ عليها بحيث لن تندثر وستبقى حيّة على الدوام، في حالة أنّ الجميع سيفنى كائناً من كان، فالجميع سيندثر ولا مفرّ من ذلك، فسيأتي ويقوم بتهديم عالم بأكمله...

    

لزوم الحذر من استغلال حادثة عاشوراء للمنافع الدنيويّة

لقد كانت حادثة عاشوراء عجيبة جدّاً، وكلّ من يسعى إلى التلاعب بها فإنّ خصمه هو الله. وكلّ من يُريد أن يستجلب منفعة لصالحه بواسطة قضيّة عاشوراء، فإنّه يقوم باللعب بذيل الأسد، وعليه أن يكون منتبهاً، لأنّه قد يأتي حين من الأحيان لا تمهله تلك الغيرة الإلهيّة أكثر، ولذلك ينبغي عدم التلاعب مع الإمام، وينبغي على الإنسان ألاّ يستغلّ حوادث عاشوراء ويتخذها كسلّم للوصول إلى مآربه الدنيويّة، فهذا أمر خطير، وهو خطر حقيقي، فعلى الإنسان أن يكون حذِراً، فلا يتلاعب بعاشوراء. وقد أثارت هذه المسألة حساسية المرحوم العلاّمة منذ البداية، فالعبارات التي يتمّ إيرادها حول هذه الحادثة، والكلمات التي تُقال، والمقارنات التي تُعقد، كلّ هذه الأمور لها أثرها التكوينيّ.
وعليه، ينبغي أن نُعلن أنفسنا كما هي بحسب ما تمتلك من الإمكانيّة واللياقة لا أكثر، وعلينا ألاّ نُغرّم الإمام الحسين في ذلك، فلا نُظهر أنفسنا ولا نُبرزها إلاّ بمقدار ما نمتلك من كفاءة وقدرة، وما يزيد على ذلك يُعدّ إنفاقاً من جيب الآخر بغير ذكرٍ لاسم صاحبه المال، كأن يأتي الإنسان ويستولي على مال شخصٍ ما ويُنفقه، فهذا الإنفاق لا يصحّ من دون إجازة. وحاصل ذلك، أنّ المسألة فيها عصا، وهي عصا تأتي و تذُرُّ كياننا ووجودنا في الهواء، ولهذا علينا ألاّ نُنفق من جيب الإمام الحسين، فمقام العصمة على حدة، وحريم العصمة على حدة، ومن اللازم مراعاتها كلّها.

    

بعض أخبار الزيارة وأحوال زوّار كربلاء في اليوم العاشر

لقد كانت زيارة الإمام الحسين عليه السلام شيئاً عجيباً من الأساس، فقد كان يأتي أولئك الزوّار إليها و يقصدونها... وقد كان ذلك المكان عجيباً جدّاً، وكانت المواكب تتوافد إلى الحرم، ولم نتمكّن من النوم طوال الليل إلى أن حلّ الصباح، فمواكب التطبير تأتي حاملة معها الطبول وهي تردّد الشعارات، وكانوا يُهيّؤون أنفسهم للصباح، من الليل إلى حلول الصباح وجماعات الناس تأتي، وجاء الزوّار الإيرانيّون... وقد رأينا بأن أغلبهم قد قام بالتطبير، بحيث صارت رؤوسهم وأرجلهم جميعُها ملطّخةً بالدماء. وحاصل الأمر أنّنا رأينا هناك التطبير وغيره من الشعائر، وكانت الأجواء عجيبة للغاية، بحيث أنّه لا يُمكنها أن تكون إلاّ كذلك!
وعندما كنّا في طريقنا للعودة حيث كانت قد مرّت أربعة أيّام تقريباً على يوم عاشوراء، وكانت عودتنا من النجف ـ أي: من مطار النجف ـ كنّا جالسين وكان أمامي مسافر تركي، فرأيت أنّه يمسح رأسه بمنديل والدم يسيل منه، فقلت له: لا يزال الدم يسيل من رأسك منذ أربعة أيّام، قال: نعم، قلت له: منذ أربعة أيّام! كيف ضربت رأسك؟ فقال: إنّه الإمام الحسين! بعد مرور أربعة أيّام: العاشر، الحادي عشر، الثاني عشر، الثالث عشر، والدم لا يزال يسيل من رأسه. قال: إنّه الإمام الحسين! كانوا يأتون ويضربون رؤوسهم، وبعد ذلك يستريحون، ثمّ يشعرون بالبهجة والراحة أن قد شفينا غليلنا، والآن فقط انحلّت تلك العقدة التي كانت عالقة في قلوبنا وضمائرنا، فتحصل لهم حالة من الابتهاج بحيث كان من الواضح جدّاً أنّ وجوههم قد تبدلّت. وكان البعض منهم يضرب رأسه بكيفيّة سيّئة بحيث كان جميع رأسه ووجهه ملطّخاً بالدماء، والبعض منهم كان يضرب بشكل ثنائي: واحدة باليد اليمنى، والأخرى باليد اليسرى. والأمر نفسه كان يحصل في النجف، مع العلم بأنّنا لم نكن فيها، فقد كنّا في كربلاء، غير أنّنا كنّا نشاهد قبل عاشوراء المواكب وهي تأتي وتذهب؛ وذلك لأنّه لا يوجد في النجف ضرب بالسلاسل وأمثال ذلك، بل توجد فقط مواكب التطبير وما يشبهها، كما أنّهم يقومون بعرض أنفسهم فقط، حيث يتنقلون في المدن ويقومون بالاستعراض. لقد كانت لوحة عجيبة جدّاً! وكان الازدحام شديداً إلى درجة أنّنا لم نتمكّن من التشرّف بالزيارة، لقد وردنا الازدحام بغير اختيار منّا فوجدنا أنفسنا وسط حشد من الناس، ومكثنا هناك ساعة أو ساعتين دون أن نستطيع الانتقال.
منذ زمن طويل وأنا أودّ أن أزور الإمام الحسن في أيام عاشوراء، كما أنّي لم أذهب في الأربعين إلاّ قبل ثلاثة أو أربعة سنوات، غاية الأمر أنّ زيارة الأربعين تشهد ازدحاماً أكبر حتّى من عاشوراء. فمن باب المثال لا يأتون في عاشوراء مشياً على الأقدام ـ وقد رأينا قلّة من الناس يأتون مشياً ـ بينما في الأربعين فإنّ جميع الناس يأتون مشياً على الأقدام. وعليه فإنّهم يبدون اهتماماً أكبر بالأربعين، فالجميع يأتي ماشياً. ويأتون مشياً لمدّة أسبوع أو أكثر، وسمعنا أنّهم يأتون أحياناً مشياً لمدّة عشرة أيّام، غاية الأمر أنّ الازدحام ظلّ إلى الظهر، وبعد ذلك رجع الناس، حيث إنّه بعد ظهر عاشوراء أو ليلتها لم يعُد هناك ازدحام، وفي اليوم التالي صار المكان خالياً.
حاصل الأمر أنّه لا يُمكن التلاعب مع الإمام الحسين، لا يُمكن ذلك لأيّ كان وبأيّة طريقة كانت، سواء بالنسبة للأشخاص الذين ينتقصون من هذه الحادثة أو يسخرون منها ويستهزؤون بها، وسواءً بالنسبة للذين يسعون لاستجلاب المنفعة منها لصالحهم، فكلتا الطائفتين لا تُدركان ما الذي تفعله.
ويأتي إلى هناك أيضاً موكب من خارج كربلاء، حيث يستغرق ما يُناهز الساعتين إلى الثلاث ساعات، وما أن يصل إلى كربلاء حتى يحلّ وقت الظهر، وهو يضمّ حشداً هائلاً من الناس. وقد سمعت من المرحوم السيّد الحدّاد أنّه كان يقول بأنّ للإمام الحسين عناية خاصّة بهذا الموكب تحديداً، وقد شاهد ذلك الرفقاء وساروا معهم إلى أن وصلوا إلى كربلاء، حيث يستغرق منهم المجيء ثلاث ساعات إلى أن يصلوا إلى كربلاء، كما أنّهم يأتون وهم يركضون.
إذا عاش الإنسان في تلك الأجواء، فستكون له معيّة مع الإمام الحسين. وقد حكى لنا أحد الأخلاّء قصّة عجيبة جدّاً ولطيفة حدثت له بعد أن صلّى في محراب أمير المؤمنين الذي كان يصلّي فيه النوافل في مسجد الكوفة، فقال لي: كنت واقفاً في ذلك الموضع، فبدأت أتصوّر حالة الرقّة والشفقة التي كان يمتلكها هؤلاء، وكيف كان أمير المؤمنين يُصلّي في هذا المكان، فحدثت لي حالة من الانكسار. وبمجرّد حصول ذلك ارتعشت رجلاي، فسقطت على الأرض، وارتطمت يدي بجانب المحراب، وبدأ الدم يسيل منها. وقال: في تلك اللحظة، أُلهمت بأنّ ما حصل لي هو مواساة لضربة الإمام عليّ، وسألني عن ذلك، فقلت له: أجل؛ ففي معركة أُحُد انكسرت أَحدُ أسنان النبيّ، فانكسر أيضاً سنٌّ لأُويس القرني في اليمن؛ فلهذه الأمور حسابات دقيقة جدّاً وعجيبة ولا تتخلّف ولو بمثقال ذرّة.
اللهمّ صلّ على محمّدٍ وآل محمّدٍ.


[1] ـ هناك مقطع من الكلام لم يسجّل. (م)

[2] ـ ملاحظة: ألقى سماحة السيّد هذه المحاضرة بعد عودته من زيارة الإمام الحسين عليه السلام في أيام عاشوراء.(م)

[3] ـ معرفة الله ج1 ص 347، عن «بحار الأنوار» طبعة الكمبانيّ: ج 9، ص 580؛ و طبعة آخوندي: ج 41، ص 295، الرواية رقم 18، و ذكر المرحوم الشيخ جعفر الشوشتريّ القسم الأوّل من الرواية في كتاب «خصائص الحسين» عليه السلام، ص 115 و 116، الطبعة الحجريّة.

[4] ـ معرفة الإمام ج15، ص 274، عن المحدِّث القمّيّ في «نفس المهموم» ص 216 و 217، و آية الله الشعرانيّ في «دمع السجوم» ص 186 و 187.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی