معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات العلامة الطهراني > محاضرات متعددة > رسالة سر الفتوح في الرد على كتاب عروج الروح

_______________________________________________________________

هو العليم

رسالة
سر الفتوح

 

في الرد على كتاب عروج الروح

سماحة العلّامة الراحل

آية الله الحاج السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

بسم الله الرحمن الرحيم


مقالة «سرّ الفتوح» عبارة عن تعليق على كتاب "پرواز روح" (عروج الروح), وهي رشحة من رشحات المرحوم العلامة آية الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني, يبيّن فيها الأنظار الشامخة والآراء النفيسة لمدرسة العرفان والتوحيد في طريق بلوغ أوج حركتها التكاملية.
فالبشر بواسطة استعدادهم وقابليتهم للتحلي بمقام الخلافة الإلهية, الناشئة عن مقام تنزّل مقام الذات, بشهادة الآية الشريفة: {ونفخت فيه من روحي}, أصبح لديهم الاستعداد لتحمّل جامعية الصفات والأسماء الكلية الإلهية, وذلك بحسب مقدار سعتهم الوجودية, وحيث أنّ الأسماء والصفات الإلهية, متّصلة بمبدئها, وغير منفصلة عن منشئها وأصلها, فإنّها قائمة بالذات الإلهيّة, لذلك فإنّ الوصول إليها بنحو الإطلاق إنّما يعني بلوغ مرتبة الذات والفناء فيها.
والنكتة التي شغلت أذهان العديد من أهل التحقيق, هي أنّه كيف يمكن للنفوس البشرية المحدودة والمقيدة, مع ما هي عليه من الظرفية المحدودة والسعة الضيقة, أن تبلغ الذات اللامتناهية لحضرة الحق, وتبلغ المعرفة الشهودية بها؟ وهذا السؤال جعل الكثير من الأفراد ينكرون إمكانية معرفة الحقّ من أصلها, كما وجعل بعضهم يحصر ذلك ببعض الأشخاص كالمعصومين عليهم السلام, كما وجعلوا غاية العرفان هو معرفة هؤلاء الثلّة من مظاهر الحق تعالى.
والمرحوم العلامة الطهراني رضوان الله عليه ـ ببيانه الواضح والناصع ـ في هذه المقالة, لا يكتفي ببيان عدم استحالة المعرفة الشهودية لذات الحق فحسب, وإنّما يثبت إمكانها لجميع أفراد البشرية, وذلك بشرط الخضوع للتربية السلوكية وتهذيب النفس. وينبغي التنبيه إلى أنّ أصل هذه المطالب موجودة ضمن دفتي كتابيه القيمين: التوحيد العلمي والعيني, ومعرفة الله, كذلك ضمن بحثه حول إثبات الفناء في الذات, مع المرحوم العلامة الطباطبائي في كتاب الشمس الساطعة. لذلك كان من المناسب أن يراجع القراء المحترمين هذه العناوين بغية تحصيل المزيد.
كما ويبيّن المرحوم العلامة الطهراني في طيّات هذه المقالة ـ وبشكل واضح ـ أنّ هدف جميع الأنبياء والأولياء الإلهيين هو إيصال البشر إلى مقام معرفة ذات الحق ومشاهدته, وذلك بواسطة الفناء في ذاته المتعالية, ويبيّن أنّ المنكرين لإمكانية وصول البشر العاديين لهذه المرحلة, ليس لديهم أدنى اطلاع لا عن التوحيد ولا عن الولاية, وأنّهم لم يدركوا شيئاً من هذين الطريقين, وأنّهم يقومون بإضلال الناس وتشويشهم, ويمنعونهم من إيصال هذا الكيمياء العظيم والإكسير النادر والقابلية الفريدة إلى فعليتها وتحققها بمقام الذات.
نسأل الله تعالى أن يفيض مراتب المعرفة على جميع السالكين في طريق معرفته...

    

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
بعد أن طبع الكتاب القيم "پرواز روح" (معراج الروح)، كثر السؤال عن محتوياته في المدّة الأخيرة، مضافاً إلى الطلب الملحّ من الحقير لإعطاء رأيه فيه، ولكن قبل مطالعتي له لم يكن بمقدوري أن أبيّن رأيي فيه، بل كنت أكتفي بذكر صدق وأمانة المؤلف المحترم الذي كانت تربطني به روابط صداقة ومعرفة منذ مدّة مديدة، إلى أن أهداني أحد الإخوة في الإيمان والأخلاّء الروحانيين هذا الكتاب، وطلب مني قراءته وإعطاء رأيي فيه. لذا قمت بقراءته استجابةً لطلب إنسان مؤمن، وكتبت بعض التعليقات التي كنت أرى أنها ضروريّة في حواشي الكتاب، لكي يكون ذلك تذكرة لي وتبصرة للأصدقاء الأعزّاء والطلاّب الفضلاء.
وفيما يلي نقدّم خلاصة الحواشي، لكي يستفيد منها العوام دون أن يرجعوا إلى مطالعة الكتاب نفسه، بحول الله وقوّته ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلّي العظيم.
من المعروف أنّ هذا الكتاب كُتب بصدق وإخلاص لكي يحرّك الإحساسات الفاترة والأفكار الجامدة، ويربط ما بين عالم الطبيعة وعالم الصورة والمثال لولاية الإمام الحجّة ابن الحسن أرواحنا فداه، وهو يحتوي على تناسق رائع وبيان بديع.
فإلى متى يعتقد الناس بأنّه لا حياة لهذا العالَم ولا لعالم الطبع والخيال؟ وإلى متى سيبقون يعتقدون بعدم وجود روح لذلك؛ فالروح التي تحكم العالم كلّه هي مثل روحنا؛ حيث تضع كلّ موجود تحت نظرها وتحت إحاطتها العلميّة والعمليّة؟
وبعد أن ثبت من جهة الأدلّة الفلسفيّة ومن جهة النقل الشرعيّة الصحيح والمحكم أنّ الولاية الكليّة الإلهيّة تحكم هذا العالم، لماذا لا يتمّ كتابة هذا الأمر ولا يتمّ إشاعته؟ ولماذا لا يعمل على وضع المشاهدة وآثارها لكي يطلّع عليها المحقّقون والباحثون عن الحقيقية؟ ولماذا لا يجد الناس روابط تربطهم بإمامهم؟ ولماذا لا يتعامل الناس في أمور عالم التشريع كما يتعاملون في حالتي السرّاء والضرّاء في إدارة أمور حياتهم؛ حيث يستخدمون أفكارهم وإرادتهم وعلمهم لكي يديروا أمور جسمهم وطبيعتهم، بينما لا يستمدّون الطاقة من منبع العلم والحياة والقدرة لإدارة أمور عالم التشريع وسير الأمم نحو الكمال؟
وذلك لأنّنا نعتقد بأن الارتباط بالولاية التي هي الروح الكليّة لهذا العالم، أمر ضروري لتكامل البشر أكثر من ضرورة الخبز له، وعلى هذا الأساس تعتبر الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله: "من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة"[1]، من الروايات المتواترة، وهي مرويّة بأسانيد عديدة من طرق الشيعة والسنّة.
فلله تعالى درّ مؤلّفه, وجزاه الله عن العلم والعمل أحسن الجزاء, وشكر سعيه وأجزل ثوابه.
أما بالنسبة لآراء الحقير حول البحث والأفكار المدوّنة في الكتاب، فهي تتمحور حول ثلاثة نقاط:
أولاً: حول عدم الحاجة إلى الأستاذ والمربّي الكامل في السير والسلوك لتكامل النفوس البشريّة.
ثانياً: حول انتقاده واعتراضه على دراسة الفلسفة.
ثالثاً: فيما يتعلّق بأنّ السير ينتهي بمعرفة الوليّ المطلق الإمام الحجّة أرواحنا فداه.

    

الحاجة إلى الأستاذ والمربّي الكامل في السير والسلوك

أما ما يخصّ النقطة الأولى: فإنّه يُفهم من مطالب هذا الكتاب, أنّه لا يحتاج السالك إلى أستاذ يوجّهه ويساعده على تزكية نفسه وتطهيرها، بل يكتفي بالتوسّل بالأئمّة المعصومين والإمام الحجّة أرواحنا فداه، وهو يتكفّل بإرشادنا على الطريق الصحيح ورفع الموانع عن طريقنا. وبشكل عام يمكن للنفس من خلال ارتباطها بالباطن أن تكون هي الدليل والمرشد للإنسان في الظاهر، وأن تشخّص له الأعمال والوظائف.
فالأئمّة المعصومون سلام الله عليهم أجمعين أحياء دائماً لا يموتون، بل حياتهم ووفاتهم على حدٍّ سواء، وبناء عليه فلا نحتاج إلى غيرهم كي يرشدونا؛ وبالأخصّ لا نحتاج إلى غير الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه، الذي ما زال حيّاً ويعيش بيننا وهو ملبّس باللباس المادّي والظاهري؛ إذ أنّ وظيفته الاهتمام بأمورنا ومساعدة المحتاجين منّا. وعليه فلماذا لا نكتفي بالاستعانة بباطن الإمام عجّل الله تعالى فرجه؟
إنّ القبول بالأستاذ والعمل على اتّباع أوامره واجتناب نواهيه هو بحكم الحاجب الذي يفصل بين الإنسان وبين إمامه؛ ففي حياة أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن لديه حاجب، والحال أنه بعد وفاته ـ وبعد أن يحصل لديه تجرّد أكثر بسبب خلعه للباس المادّة والكثرة ـ اشتدّت قدرته واتّسعت في إطلاقها، وبالتالي سيكون عدم احتياجه لحاجب بطريق أولى. فلماذا إذاً نحتاج إلى الحاجب للاستفادة من روحيّة هذا الإمام، والاستفاضة من منابع الفيض الكماليّة والملكوتيّة التي لديه؟ ولماذا نمدّ يد الحاجة إلى الأستاذ لطيّ هذا الطريق، ونجلس في مدرسة تعليمه وتربيته؟ ولماذا نتصوّر أنفسنا أنّنا بحاجة إلى بشر مثلنا، ونتّبعه في كيفيّة الحركة وفي السير والسلوك؟
ولا بد أن يقال في الجواب: نعم صحيح أنّهم وصلوا إلى الفعليّة المحضة، وترقّوا إلى درجة الكمال المطلق؛ وصار تجرّدهم تامّاً، وكذلك إحاطتهم بالأمور صارت تامّة، وأصبحوا مستقلّين في تدبير الأمور التكوينيّة، دون الحاجة إلى القدرة المستفادة من وجود الماهيّات الإمكانيّة، بل صاروا هم الذين يعطون الحياة ويفيضون الوجود من قبل الله عزّ وجل. لكن هل الأمر كذلك في الأمور التشريعيّة أيضاً؟ كلا وحاشا.
ففي هذه الأمور، يكون الإنسان المختار مكلّفاً بالتكليف، ويجب عليه أن يتّبع صلاحه من خلال ذلك، وأن يتخطّى مكائد الشيطان ويعبر منازل ومراحل النفس بالمجاهدة واتّباع الإمام وإطاعته ومخالفة النفس الأمّارة بالسوء، وهذا لا يمكن أن يحصل بدون المربّي والأستاذ الذي يكون على صلة بالإنسان، ويكون مرتبطاً به لكي يبيّن له طريق الخير من الشرّ، ويحدّد له النفع من الضرر.
وعلى هذا الأساس أرسل الله الأنبياء لهداية البشر، حيث كانوا على صلة بالبشر وكانوا يقومون بإرشادهم إلى طريق الخير والسعادة، كما أنّهم كانوا يتكلّمون معهم، وكانوا يبيّنون عبادة الله ويوضحون طريق الترقّي والكمال من خلال سيرتهم وسنّتهم ومنهاجهم، وإلا فما الحاجة إلى الأنبياء؟ فالله موجود على الإطلاق، مضافاً إلى كونه خبيراً وبصيراً وعليماً. وعليه فيمكن للناس أن يصلوا إلى طريق التكامل من خلاله تعالى بدون وساطة الأنبياء، ويمكنهم العمل على رفع المشاكل والموانع عن طريق الاتّصال بالباطن، ويسألون عن السعادة والشقاء بذاك السبيل، وسوف يقوم الله العليم الخبير بإرشادهم، إذ لا شك في أن علم الله تعالى وإحاطته أكبر من علم الأئمّة عليهم السلام وإحاطتهم؛ لأنّ علم الله ذاتي بينما علم الأئمّة وإحاطتهم من قبل الله سبحانه وتعالى، فضلاً عن كونه تبعياً وعرضياً. وعليه فكيف نقول بأن الله مع علمه الذاتي وإحاطته الأصليّة لم يترك للناس طريق الاتصال الباطني للهداية؛ بل قام بإرسال الأنبياء والرسل والوسائط بينه وبين الناس لكي يكونوا مع البشر، بينما ترك الناس بعد ارتحال الأنبياء والأئمّة عليهم السلام يستمدّون من أرواحهم بالقوّة الباطنيّة؟ هذا محال وخطأ.
وبعبارة أخرى، فاعليّة الأئمّة في الأمور التشريعيّة تعتبر فاعليّة تامّة وكاملة، ولكن قابليّة الناس ناقصة من هذه الناحية؛ لأنّ على الناس أن يتّصلوا بالخارج عن طريق حواسّهم الظاهريّة، وعليهم أن يقوّوا إرادتهم ونيّاتهم ويصلحوا أفكارهم وآراءهم بواسطة ذلك، وعليهم أيضاً أن يُخلِصوا في عملهم من هذا الطريق. ولا يتحقّق ذلك بدون وجود الأنبياء والأئمّة والقادة الموجودين معهم والذين يعيشون بينهم.
وأما بالنسبة لنفس الأنبياء والأئمّة بالذات، فقد وصلوا إلى في تهذيب الباطن وتزكية القوى الإنسانية فيهم إلى مقام؛ بحيث يمكنهم في ذلك المقام أن يستمدّوا تكاملهم من الذات المقدّسة لله تعالى بدون حاجب، ويستلهموا الوحي منه مباشرة دون واسطة.
وعلى هذا الأساس نرى أن منهج التشيّع ـ الذي هو أصحّ المناهج في كيفيّة التربية, وأكثرها استقامة من بين سائر المذاهب الإلهيّة ـ يعتبر وجود الإمام الحيّ من أهم المسائل، بل يمكن عدّ هذه المسألة هي المسألة المحوريّة في هذا المنهج التي يتمحور حولها سائر المسائل. فإذا لم تكن هناك حاجة للقائد الحيّ والأستاذ والمربّي، وكان بمقدور الناس أن يستمدّوا من قوّة الاتصال بالباطن في سيرهم التكاملي.. فلماذا كان من الضروري أن يكون هناك نبيّ بعد الرسول الأكرم؟ ولماذا لم تختتم مسألة الهداية بالنبي محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ ولماذا احتاج الناس لقيادة الإمام علي عليه السلام بعده؟

    

ألم يكن كافياً في هذا الموضع قول "كفانا كتاب الله"؟

 

ما هي الحاجة إلى حياة الإمام الحسن عليه السلام بعد انقضاء حياة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام؟ وبأيّ دليل عقلي نستطيع أن نثبت إمامة الإمام الحسن؟ وبعد الإمام الحسن ما الحاجة إلى سيّد الشهداء عليه السلام؟ وكذلك سائر الأئمّة وصولاً إلى قائم آل محمّد الحجّة ابن الحسن العسكري عجّل الله تعالى فرجه الشريف.
إذن أصبح معلوماً أنّ إنكار فكرة المرشد الحيّ والأستاذ والمربي الكامل, إنّما تعود في الواقع إلى نظرية "كفانا كتاب الله". وستكون موجبة للخروج عن مذهب التشيّع والدخول في مذهب أهل العامّة الذين تورّطوا بأفكارهم وآرائهم.
وثانياً: هل أنّ قضيّة السير والسلوك وطيّ المراحل الباطنيّة, والسير في مراتب النفس والتهذيب, وتزكية الأخلاق ومعرفة المعارف الإلهيّة.. هي أمور منفصلة عن سائر المواضيع في اشتراكها في ثبوت هذا الحكم عليها؟
فلماذا لا نستمدّ من روح ولاية الأئمّة في خصوص الأمراض الجسميّة دون الرجوع إليهم مباشرة وبدون الحاجب!! ولماذا نذهب إلى الطبيب؟ ولماذا لا نستمدّ من أرواحهم في المسائل الشرعيّة الفرعيّة، بل نقوم بمراجعة الفقيه فيها؟ ولماذا لا نستمدّ من روح أمير المؤمنين في مسائل التفسير وبيان القرآن؟ ولماذا لا نعتمد على روح الولاية في حلّ معضلات المسائل الحِكَميّة والفلسفيّة؟ ولماذا لا نطلب العون من حقيقة الأئمّة ومن روح الولاية الكلّية في كلّ مسألة جزئيّة من المسائل والقضايا الأخرى؟
بل لماذا نقوم بتأسيس الحوزات العلميّة والمدارس والمجامع التعليميّة والتربويّة، دون أن نلجأ إلى الاستمداد الباطني من روح الولاية في الخلوات والانعزال لحلّ هذه المسائل؟
هل يا ترى.. تكون تلك المسائل أهمّ من مسألة العرفان الإلهي, التي يتحتّم علينا أن نتحلّى بها؟ أو أنّ مسألة العرفان أقلّ أهميّة؛ بحيث أنّها يمكن أن تنحلّ بقليل من التوجّه نحو الباطن، فلا تعود بحاجة إلى متابعة جدّية ودقيقة؟
أريد منكم أن تبيّنوا لي, لماذا فُصل موضوع التزكية وتربية النفس والأخلاق ـ الذي يعتبر من أهمّ المسائل ـ عن سائر المواضيع، وصار له حكم خاصّ به بحيث يمكن للإنسان أن يحصل عليه بمجرّد التوجّه نحو الباطن؟ بينما في سائر المواضيع نحتاج إلى أستاذ حيّ ومربّي خبير ومرشد بصير؟
لا ليست المسألة كذلك، بل حقيقة المسألة هي أنّنا ـ بسبب عدم اعتنائنا بمسائل الأخلاق وتطهير النفس وتزكية السرّ، وحتى نتخلّص منها جميعاً ـ قمنا بإنكار هذه الأمور كلّها دفعة واحدة. لكن بما أنّنا لا نستطيع أن ننكرها بشكل علنيّ وظاهري؛ حيث قامت الحجّة علينا بثبوت البراهين العلميّة والشرعيّة والعقليّة، لذا فقد قبلنا بهذه المصطلحات لفظاً وأنكرناها في المعنى، وأوكلنا أمرها إلى الله ورسوله والإمام، وتخلّصنا بذلك من ثقل المجاهدة.
إنّ الاعتماد على الأنوار الباطنيّة للأئمّة وعلى الحجّة ابن الحسن عليهم السلام، ورفع اليد عن مسؤوليّة التكليف والتعلّم في مدرسة المجاهدة، والتخلّي عن التربية عند الأستاذ الكامل والمربي المرشد التامّ.. هي بمثابة إنكار هذه المسألة وترك النفس وشأنها.
فهذه المقولة ليست بعيدة عن مقولة بني إسرائيل للنبيّ موسى على نبينا وآله وعليه السلام، فعندما أنجاهم ذلك النبيّ العظيم من ظلم الفراعنة والأقباط, وعبر بهم النيل؛ وعلّمهم الدين وعبادة الله بشقّ الأنفس وتحمّل الآلام، وأوصلهم إلى تخوم أرض فلسطين التي هي مقرّهم ومأواهم، وأمرهم بالجهاد ودخول المدينة التي كانت موطنهم, الأصلي والتي كانوا قد خرجوا منها تائهين مشرّدين.. تعالت أصواتهم وهتفوا كلّهم بصوت واحد: {قالُوا يا مُوسى‏ إِنَّ فيها قَوْماً جَبَّارينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُون‏} (الآية 22 من سورة المائدة).
{قالُوا يا مُوسى‏ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُون‏} ( الآية 24 من سورة المائدة) .
وثالثاً: تأمرنا كلّ من الآيات القرآنيّة والروايات الواردة عن المعصومين بلزوم اتّباع أهل الخبرة والعلم، وبطبيعة الحال فإنها تشير بإطلاقها إلى هذه المسألة، ولم نجد في كلّ الآيات القرآنيّة والروايات آية واحدة أو رواية تخصّص الأمور الأخلاقيّة والعرفانيّة بالحكم وتجعلها موكولة لعالم الغيب، وتعذرنا عن الحاجة إلى الأستاذ والمربّي.
كالآيات التالية: الآية 43 من سورة النحل، والآية 7 من سورة الأنبياء: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون‏}. أو كأمر أمير المؤمنين عليه السلام في الحكمة 96 من نهج البلاغة: إنّ أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به؛ ثم تلا: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهيمَ لَلَّذينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذينَ آمَنُوا}.
وكذلك أيضاً قول الإمام زين العابدين عليه السلام في صفحة 209 من كشف الغمّة الطبعة الحجريّة: هلك من ليس له حكيم يرشده وذلّ من ليس له سفيه يعضده.
وهناك الكثير من الأدلّة الواردة في باب الاجتهاد والتقليد، والتي تدلّ على وجوب التقليد، وتلك الأدلّة ليست مختصّة بمسألة التقليد في باب الإفتاء والقضاء؛ لأنّ الكثير منها مطلق، وهي تؤسّس لقاعدة وجوب رجوع العامّي إلى العالم، التي تشمل الحكم أيضاً بوجوب رجوع أيّ شخص جاهل إلى الشخص العالم في أيّ موضوع كان. بل الأدلّة الفطريّة والعقليّة التي تدلّ على لزوم رجوع العامّي إلى العالم جارية في المقام.

هيچكس از پيش خود چيزي نشد
                              هيچ آهن خنجر تيزي نشد


هيچ حلوائي نشد استاد كار
                              تا كه شاگرد شكر ريزي نشد

(لم يصبح أحد شخصاً مهمّاً من تلقاء نفسه، فالحديدة لم تصبح خنجراً حادّاً بذاتها
ولم يغدُ صانع الحلوى أستاذاً ماهراً، إلا بعدما كان عاملاً ماهراً في صبّ السكر)

ونحن بعد أن استقصينا سبب هذه المقولة الرائجة بين مجموعة من العوامّ المتلبّسين بلباس أهل العلم، والتي تقول: "لا حاجة للأستاذ في الأمور الأخلاقيّة، بل نستطيع أن نكتفي بالتوسّل بالمعصومين والاستمداد من صاحب العصر والزمان لحلّ معضلات السير والسلوك".. تبين لنا أنّها قد سيطرت على أرواح الكثير من العوامّ، فلم يعودوا يولونها أيّ اهتمام أو اعتبار، ولهذا نرى المقولة التالية متكرّرة على ألسنتهم: إنّ هذه المسألة مسألة أخلاقيّة وليست فقهيّة، وبالتالي فهي ترجع إلى الأخلاق, فهي خارجة عن دائرة العلم!
أو لأنّهم يرون أنفسهم خالين من هذا الأمور، ولا يريدون أن يظهروا بأنّهم عاجزين غير عالمين أمام العوامّ؛ لذا تراهم يجيبون في المسائل الفقهيّة فوراً، بينما في المسائل التوحيديّة والعرفانيّة؛ حيث إنّهم لا يملكون جواباً، يلجئون إلى القول بأنّ هذه المسائل تنحلّ من خلال التوسّل بالإمام بقيّة الله أرواحنا فداه. فضلّوا وأضلّوا عن سواء الطريق.
نعم يمكن أن نرى لدى بعض الأفراد النادرين جداً حصول جذبة لديهم بشكل ابتدائي وبدون سلوك، فينجذبون للأنوار الجماليّة الإلهيّة، ثمّ في ظلّ تلك الجذبة يقوم الله بتحريكهم لكي يصلوا إلى المنزل المقصود عن طريق السعي والسلوك، ويطلق عليه في هذه الحالة بالمجذوب السالك؛ لأنّهم شرعوا بالسير في طريق الكمال بعدما حصلت لديهم هذه الجذبة، بخلاف سائر الأفراد الذين يطلق عليهم اسم السالك المجذوب؛ لأنّ الجذبة قد حصلت لديهم بعد المجاهدة والسلوك. ولكن حتى القسم الأول فإنّه محتاج إلى أستاذ للسلوك بعد الجذبة أيضاً، كما أنّه نادراً ما حصل لدى البعض جذبات إلهيّة متتالية، أمكنهم أن يعرفوا من خلالها الطريق الصحيح؛ بحيث يفهمهم الله تعالى الطرق المؤدّية إلى الكمال بواسطة الإلقاء الغيبي بشكل مباشر من الله تعالى، ويصير بمقدورهم طيّ هذا الطريق, والوصول إلى الكمال بدون أستاذ ظاهري. ويسمّى هذا الشخص بالأويسي نسبة إلى أويس القرني الذي طوى طريق الكمال دون لقائه برسول الله، وبلغ رضوان الله تعالى عليه إلى المقصد جرّاء الجذبات الإلهيّة. وقد كان غالب الأنبياء من هذا القبيل؛ أي من كان بينه وبين النبيّ اللاحق فاصلة زمنيّة ولم يحصل لقاء بينهما، والأئمّة أيضاً كانوا كذلك صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ولكن على الإنسان أن لا يظنّ نفسه ـ في وقت من الأوقات ـ بأنّه من زمرة "المجذوب السالك" أو من الأويسيين, الذين يمكنهم طيّ الطريق والوصول إلى المقصود من خلال الجذبات والواردات الإلهيّة، دون الرجوع إلى الأستاذ ودون التتلمذ على يديه والتربّي تحت نظره. فهذا وهمٌ باطل؛ لأنّ هذا الأمر كما ذكرنا بيد الله وبأمره, لا بيد السالك، وهو أمر نادر جداً جداً، وإلا فالسلوك الذي ينتظر فيه السالك حصول الجذبة الإلهيّة دون الرجوع إلى الأستاذ، يشتمل على الكثير من الأخطار التي تتضمّن الابتلاء بأمراض مختلفة، والإصابة بحالة من الجنون والضعف والعزلة وقصر العمر والانزواء، وترك العمل لكسب العيش وهجر الزوجة والأولاد، ويبتلى في آخر المطاف بالوقوع في شرك أبالسة الإنس والجنّ، ويتربّع على أريكة الأنانيّة والفرعونيّة... وغير ذلك من آفات هذا الطريق. ففي كلّ خطوة ألف فخّ وهفوة، لا يسلم فيها من الآلاف شخص واحد.

    

أهمية دراسة الفلسفة

 

وأما فيما يتعلّق بالمطلب الثاني الذي ينتقد فيه علم الفلسفة، فيجب أن نقول:
إنّ هذا أيضاً خطأ كبير واشتباه فاضح؛ لأنّ أحد أهم أجهزتنا الوجوديّة هي القوّة العاقلة، التي نؤسّس فيها لجميع الأحكام والمسائل التي نواجهها في أمورنا، ونستمدّ منها العون لترتيب القياسات المنطقيّة للعلم بمجهولات لا تعدّ ولا تحصى، وفي هذه الحالة كيف يمكننا أن نعتبر أنّ علم المنطق الذي هو الطريق لترتيب القياسات علم خاطئ؟ وكيف يمكننا أن نقول بأنّ الفلسفة القائمّة على أساس البرهان والمسائل المنطقيّة باطلة؟
إنّ المسائل الفلسفيّة كالمسائل الرياضيّة تماماً؛ حيث تبتني على مقدّمات، وتقوم بترتيب القياسات التي تنتهي إلى البديهيّات، وفي هذه الحالة سيكون إنكارها بمثابة إنكار الضروريّات والبديهيّات.
كما أنّ القضايا الفلسفيّة تختلف عن المسائل التي تحتوي على مقدّمات خطابيّة وشعريّة وعلى مقدّمات تشتمل على المغالطة والمجادلة، بل تضع هذه المقدّمات على أساس البرهان المبني على الوجدانيّات والأوليّات والضروريّات والبديهيّات وغيرها. والآيات القرآنيّة تدعونا إلى التعقّل. فهل التعقّل هو غير ترتيب القياسات؟
يعرّفنا علم الحكمة على حقائق الأشياء، ويطلعنا على سرّ الخلقة وعرفان الباري تعالى شأنه وأسمائه الحسنى وصفاته العليا، كما يوضح لنا مسألة المعاد ونظام التكوين والولاية والربط بين الأزل والأبد، فضلاً عن آلاف المسائل الأخرى المهمّة والحيّة في عالمنا هذا؛ {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثيراً}
وفي الآية عن لقمان: {وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَة} (الآية 12من سورة لقمان).
كما ورد في الكثير من الآيات القرآنيّة أنّ الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم قد علّم أمّته الحكمة، كما جاء في الآيتين 164 من سورة البقرة والآية 2 من سورة الجمعة: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ}.
وأيضاً نرى أنّ الكثير من الروايات التي لدينا مشحونة بأدقّ المسائل العقليّة، فكيف يمكننا، والحال هذه، أن نخوض في هذا البحر اللامتناهي بدون الاطّلاع على المسائل العقليّة؟ وكيف يمكننا أن نفهم المعاني الواردة في أبواب التوحيد وأبواب الفطرة، والقضاء والقدر، والأمر بين الأمرين، والمبدأ والمعاد، وحقيقة الولاية، وكيفيّة ربط المخلوق بالخالق، وغيرها من الأبواب الأخرى المختلفة؟
ومن جهة نرى أنّ رواة أحاديث الأئمّة سلام الله عليهم أجمعين، لم يكونوا متساوين، بل كان لكلّ واحد منهم مرتبة خاصّة ودرجة معيّنة؛ فالروايات المنقولة عن هشام بن الحكم ومؤمن الطاق ونظائرهما دقيقة جداً، وهي تفيد بوضوح أنّ أصحابها كانوا متضلّعين في العلوم العقليّة، كما توحي بأنه كانت لديهم إحاطة تامّة بالعلوم العقليّة وفنون استنباط الأحكام والقياسات العقليّة، والجدل والخطابة والبرهان، وأنّ الأئمّة المعصومين كانوا يبيّنون لهم الحقائق بأسلوب مختلف وبيان دقيق جداً وعميق. ومن المستحيل أن يتمّ فهم هذه المجموعة من الروايات بدون دراسة الفلسفة والاطّلاع على العلوم العقليّة.
كما تحتوي مناظرات الإمام الرضا عليه السلام مع أصحاب المذاهب والأديان على مطالب عقليّة دقيقة؛ بحيث أنّه بدون دراسة العلوم العقليّة لا يمكن أن يفهم منها إلا معانيها السطحيّة والظاهريّة، دون الوصول إلى روح المطلب ولبّه.
فالروايات الواردة عن الأئمّة المعصومين، تختلف عن الروايات الواردة عن العامّة أو الأخبار والروايات الواردة في سائر الأديان؛ التي تتّصف كلّها بالبساطة، ويمكن للعامّي أن يفهمها بسهولة. بل هي عميقة ودقيقة جداً وعلى هذا الأساس، لا بدّ من تقوية الفكر وتصحيح القياس من خلال الاطلاع على المنطق والفلسفة، وقبل الرجوع إلى هذه العلوم لا نستطيع الاستفادة من خزائن المعصومين عليهم السلام الذين يُعتبروا الدليل الوحيد للمسائل التوحيديّة.
وكم هو قبيح أن نأتي بعد ذلك ونقول: إنّ الأدلّة النقليّة الموجودة لدينا تكفي، والروايات الواردة إلينا تجعلنا في غنى عن العلوم العقليّة؟
أليست حجيّة الروايات قد حصلت بواسطة البرهان العقلي؟ والرجوع إلى الروايات مع إسقاط الأدلّة العقليّة هو تناقض واضح وخلف؟ وبعبارة أخرى: لا تمتلك الروايات الواردة عن المعصومين أي حجيّة قبل الرجوع إلى العقل وترتيب القياس، وبعد الرجوع إلى العقل نجد أنّه لا يوجد أي اختلاف بين هذا القياس العقلي وبين سائر الأدلّة العقليّة، وفي هذه الحالة سيكون الالتزام بمضمون الروايات والأحاديث الواردة مع إنكار الأدلّة العقليّة، موجباً للتناقض ولإبطال مقدّمة القياس بواسطة نتيجتها، وهذا من أفظع الشنائع.
والعجيب هنا أنّ مخالفي العلوم العقليّة يدّعون من جهة أنّ التقليد في أصول الدين ليس كافياً، وأنّ طريق التعبّد والتمسّك بالأخبار مسدود، بل يجب على كلّ إنسان أن يعتقد بهذه المباني عن يقين وعلم، وينقل العلامة الحلّي رحمة الله عليه الإجماع على هذه المسألة. ومن جهة أخرى يقولون: إنّ الخوض في العلوم العقليّة والحكمة المتعالية غير ضروري؛ لأنّ ما يأتينا من بحار معارف المعصومين اللامتناهية يجعلنا نستغني عن تلك العلوم. وهذا هو عين التناقض الصريح.
إنّ التمسّك بالبرهان العقلي في المسائل الأصوليّة، ومن ثمّ عزل العقل في أخبار الآحاد التي وردت في المعارف العقليّة وعدم العمل بها، هو من قبيل إبطال مقدّمة القياس بسبب النتيجة المستنتجة من تلك المقدّمة؛ وهذا عين الخلاف والتناقض.
فالاجتهاد في مذهب الشيعة بمثابة حفظ الدين من الضياع والاندثار، وبالتالي فعدم التعبّد ببعض الآراء قد تكون في زمن معين جزءً من الأصول المسلّمة، وفي زمان آخر يكون بطلانها من البديهيّات.
من هنا فالتعبّد بغير أقوال الله ورسوله والأئمّة الأطهار عليهم السلام في الأحكام الفرعيّة، توجب سدّ باب الاجتهاد والوقوع في المهالك والزلاّت التي وقع فيها العامّة، وأما في الأحكام الأصوليّة فلا معنى للتعبّد والتقليد أساساً، والعقل والروايات يحكمان بلزوم الرجوع للأدلّة العقليّة.
وبناءاً على ما قلناه، لا يعدّ رجوع الفلاسفة إلى الأدلّة العقليّة تسرّعاً وغلطاً؛ لأنّهم أثبتوا أولاً أنّ حجيّة الظواهر الدينيّة متوقّفة على البرهان العقلي؛ والعقل أيضاً يعتمد ويتّكئ على المقدّمات البرهانيّة، ولا يفرّق بين مقدّمة وأخرى. وعليه فلو قام البرهان على أمر معيّن، يجب على العقل حتماً القبول بهذا الأمر.
وثانياً: إنّ الظواهر الدينيّة متوقّفة على الظهور اللفظي، وهذا الظهور هو دليل ظنّي، والظنّ لا يستطيع مقاومة اليقين والعلم الحاصل من طريق البرهان. وإذا كانت هذه الظواهر تريد أن تبطل حكم العقل، فهي تبطل بدايةً مفاد حكمها والتي تستند حجيّتها إلى حكم العقل.
والحاصل أن العيب الذي يبيّن لطلاب العلوم الدينيّة كي يكفّوا عن التعمّق في الفلسفة والحكمة يرجع إلى أمرين:
الأول: سوء ظنّهم بالباحثين في المعارف العقليّة من طريق الاستدلال العقلي والبرهان الفسلفي.
والثاني: هو الطريق والمنهج الذي انتهجوه في كيفيّة فهمهم لمعاني الأخبار، والذي يصرّون عليه؛ وهو أنّهم جعلوا جميع الروايات والأحاديث في مرتبة واحدة من البيان، واعتبروا أنّ هذه المرتبة هي المرتبة التي يفهمها العوام، لزعمهم بأنّ هذه المرتبة هي نفسها التي تشخّص معظم الأخبار التي تتضمّن أجوبة الأئمّة عليهم السلام على أسئلة الناس.
وبعبارة أخرى: إنّ اختلاف الأخبار والروايات في المسائل الأصوليّة العميقة، والنكات الصغيرة العرفانيّة ولطائف الأبحاث التوحيديّة، إنّما تنشأ من اختلاف العبارات وأسلوب التعبير في المسائل الأدبيّة من البيان والبديع وفنون الأدب والبلاغة، لا أنها ناشئة من الاختلاف في نفس تلك الحقائق.
وعليه فكلّ مساعينا لحلّ الألغاز المحيطة بالأخبار، إنّما ترجع في الحقيقة إلى فك الرموز الأدبيّة والكلاميّة، لكنّها لا تنفكّ في الواقع من اعتبارها ذات مستوى واحد؛ وهو ما يمكن للعوامّ الوصول إليه، ولذا كان علينا أن نسعى لشرح وتفسير النكات الأدبيّة في الروايات لكي يفهمها العوام. وأمّا السعي لحلّ اختلاف دقائق المعاني والتي هي أعلى من مستوى فهم العوام والتي تحتاج إلى أبحاث فلسفيّة عميقة ومعقّدة، فهي ليست مطلوبة منّا، ولذا لا نحتاج إلى العلوم العقليّة والحكميّة.
والحاصل أنّه قبل الوصول إلى الأخبار، يعتبر الشخص المحدّث نفسه أنّه واصل إلى هذه المعاني، ومستغنٍ عن البحث لحلّها والوصول إلى معناها. وعليه، فالمطلوب منه فقط أن يجمع هذه الأحاديث ويبيّن معاني كلماتها ويشرح بالتفصيل النكات اللغويّة الموجودة، لتصل إلى حدّ فهم العوام.
وهذا خطأ كبير جداً؛ لأنّا نعلم أنّ في هذه الأخبار مطالب عالية ومضامين عميقة تشير إلى حقائق لا يفهمها إلا أصحاب الفهم العالي والعقول الخالصة.
والذي يمكنه الوصول إلى تلك الحقائق إمّا الأشخاص الذين يمتلكون عقولاً عالية، أو الذين وصلوا بالمجاهدة والمعرفة والتعلّم في المدارس التي تعلّم هذه المطالب، فعندئذٍ يمكنهم كشف الحجاب من خلال توسعة الآفاق الذهنيّة، بالإضافة إلى الفحص والتدقيق والبحث والتباحث.
وذلك لأنّ غاية الدين هو التوحيد، والحال أنّ التوحيد الصرف والخالص أمر عظيم لا يحصل إلا بالمجاهدة عبر السنين، والتعبّد بالنواميس الدينيّة والعبادة الخالصة لله تعالى والشهود الوجداني، مضافاً إلى تقوية القوّة الذهنيّة والفكريّة.
ولأئمّتنا عليهم السلام بعض الإشارات والبيانات لتلك المسائل العميقة والحسّاسة، وبالأخصّ ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في بعض خطب نهج البلاغة، وكذا ما ورد عن الإمامين الصادقين وعن الإمام الرضا عليهم السلام في توحيد الصدوق وفي عيون أخبار الرضا، والتي لا يمكن فهمها إلا من خلال الغوص في حركة فكريّة ووجدانيّة فقط؛ يعني من طريق الوصول إلى كمال اليقين. وإلا فجميع العبادات والمجاهدات التي تكون لأجل الوصول إلى اليقين والعلوم الحقيقيّة الإلهيّة، ستكون عبثاً وبدون جدوى.
وبما أنّ جميع الناس لم يصلوا إلى المعارف والعلوم الإلهيّة ـ والحال أنّه يجب أن يكونوا في طريق الوصول؛ حيث بيّن أئمّتنا عليهم السلام بالتفصيل وتكلّموا عن تلك الحقائق والمعارف ـ فعلينا أن لا نعتبر أنفسنا مستغنين عن دراسة العلوم العقليّة للوصول إلى حقائق كلام الأئمّة عليهم السلام، وإلا فمصيرنا سيكون الغرق في الجهل المركب.
والأكثر ضرراً من ذلك كلّه هو أنّ جعل جميع الروايات في مستوى واحد سوف يوجب اختلاط المعارف العظيمة التي أفاضها علينا الأئمّة الأطهار عليهم السلام، وسيؤدّي إلى فساد بياناتهم العالية بسبب تنزيلها إلى منزلة غير منزلتها الحقيقيّة، وسيؤدّي كذلك إلى فقد أهمّية البيانات البسيطة أيضاً بسبب عدم التمييز بينها. كما أن إلغاء مراتب الروايات وغضّ النظر عنها سوف يوجب ضياع المعارف الحقيقيّة.
والمؤسف هو أنّ معارفنا الدينيّة لم تبحث ولم تحلّل بالشكل المطلوب الذي يفهمها عامّة الناس، بل اكتفى هؤلاء العوام في المعارف بمرحلة التقليد فقط. وهم مع كونهم لا يجوّزون تقليد الميّت في المسائل البسيطة والفرعيّة العمليّة كالحيض والنفاس والبيع والشراء والطهارة والنجاسة؛ حتى ولو كان ذلك المجتهد الميّت من كبار المحقّقين والفقهاء كالشيخ الطوسي والعلامة الحلّي؛ ويفتون بلزوم الرجوع إلى المجتهد الحيّ في هذه الأمور.. بينما نراهم في مسائل أصول الاعتقاد والتي تعدّ الأساس في الحياة الأخرويّة والأبديّة للإنسان، يكتفون بتقليد الميّت ويقبلون بما يذكره بعض المحدّثين في كتب الأدعية أو في الجوامع الأخرى على أنّها أساس مسلّم لهم ويبنون اعتقاداتهم عليها.
كما أنّ عظماءنا لم يبذلوا قصارى جهدهم في المسائل الاعتقاديّة كثيراً، بل تعاملوا معها بشيء من عدم الاهتمام، وفي هذه الأيّام انصبّت جلّ اهتمامهم على المسائل الفقهيّة؛ وخصوصاً مسائل أصول الفقه، وإذا تمّ ذكر الفلسفة والحكمة بشيء يقولون: إنّ دراسة الفلسفة لازمة بمقدار ما تعين الإنسان في أصول الفقه؛ لأنّ الكثير من مسائل أصول الفقه مشحونة بمسائل فلسفيّة. إنّ السير على هذا الأساس هو خسران مبين؛ لأنّ الإنسان إنما يدرس الفلسفة لأجل دراسة أصول الفقه وفهمه فقط.
ويطرح بعض مخالفي الفلسفة إشكالهم عليها بقولهم: إنّ كلّ الحقائق والمعارف الأصيلة موجودة في الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام؛ لأنّ أحاديث الشيعة تعتبر حقّاً دائرة معارف؛ حيث إنّها تحتوي على جميع المسائل الاعتقاديّة والحقيقيّة التي تحكي عن سرّ التوحيد، وتعالج بشكل تفصيلي رموز عالم الخلق، والوحدة والكثرة، والقضاء والقدر، واللوح والقلم، والعرش والكرسي، والأرواح المجرّدة والملائكة والجنّ الإنس، والحيوان والنبات والجماد وغيرها... فإنّها جميعاً مبيّنة بشكل وافٍ في رواياتهم. وقد عمل الأئمّة عليهم السلام على بيان هذه المسائل بشكل تدريجي إلى سنة 329 هجرية؛ وهي السنة التي وقعت فيها الغيبة الكبرى. كما أنّ قرآننا كتاب الهداية الوحيد، حيث يقول: {وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاَّ في‏ كِتابٍ مُبين‏} (الآية 59 من سورة الأنعام)، فإذا كان لدينا الكتاب الهادي والمرشد فما هي حاجتنا إلى العلوم العقليّة والأدلّة الفلسفيّة؟
والجواب هو أنّ العلوم العقليّة هي التي تفتح لنا الطريق وترشدنا لكي نصل إلى هذه المعارف؛ فالعلوم العقليّة تجعلنا قادرين على تمييز طريق الصواب من طريق الخطأ. ونستطيع من خلال هذه العلوم أن نصل إلى حقائق تلك المعارف؛ وإلا فسوف نبقى غارقين في الجهل إلى يوم القيامة، ونظنّ أنفسنا أنّنا فهمنا الأخبار والروايات، لكن الأمر ليس كذلك.
وبما أنّ علم المنطق يميّز بين طريق الصواب وطريق الخطأ من جهة هيئة القياس، ويبيّن أنّ تشكيلة الصغرى والكبرى في القياس الاقتراني يجب أن تكون بكيفيّة معيّنة في الأشكال الأربعة للحصول على نتيجة منها، وإلا سنحصل على نتيجة خاطئة، وأنّ هذا العلم لا يتنافى مع الروايات والعلوم الشرعيّة، بل يفتح لنا الطريق ويرشدنا لتشكيل القياس في استنتاج المسائل الفرعيّة والأحكام وسائر المسائل الأخرى.. كذلك علم الفلسفة يفصل بين طريق الصواب وطريق الخطأ من جهة المادّة والنصّ، ويشير إلى أن المسائل البرهانيّة مختلفة عن مسائل الشعر والخطابة والجدل والمغالطة؛ وأنّه يجب التمسّك فقط بالبراهين والاحتراز من سائر المواد، وعليه فعلم العقائد المأخوذ من الشريعة والذي يستمدّ من منبع الحقيقة ونصّ الواقع، لا يمكن أن يتنافى مع النتائج المتّخذة من البراهين القطعيّة الفلسفيّة، كما أنّه لا يمكن للمسائل الفلسفيّة أن تتنافى مع الحقائق الشرعيّة.
وبعض آخر من مخالفي الفلسفة، يطرحون إشكالهم من جهة أخرى، فيقولون: بما أنّه لا يوجد حثّ على تعلّم هذه العلوم في الشريعة الغرّاء، فلا بدّ من تصنيفها في زمرة البدع والمحدثات التي يجب علينا أن نتجنّبها.
والجواب: إنّ الآيات القرآنيّة والروايات والأحاديث مليئة بالدعوة إلى العقل والتعقّل والفكر والتفكّر، فكيف يمكننا القول بأنّه لا يوجد ترغيب في دراسة العلوم العقليّة؟ إذ الأحاديث التي تدعو إلى العلم والتعلّم والاستفادة من محضر العالم متضافرة بل متواترة، وما هو موجود في الأمور الاعتقاديّة والمسائل الأصوليّة، ألا يعتبر دعوة إلى العلوم العقليّة؟
ومن جهة أخرى نعلم أنّ غاية خلق البشر هي الوصول إلى الكمال من جهة العقل العلمي والعملي، مضافاً إلى الوصول إلى درجات التوحيد ومعرفة ذات الباري عزّ وجل، وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقّق في مرحلة القوّة التفكيريّة بدون دراسة العلوم العقليّة، وبناء عليه تكون دراسة العلوم العقليّة واجبة من باب وجوب المقدّمة عقلاً.
وثانياً: إذا فرضنا أنّ الآيات والروايات لم تحثّ على دراسة العلوم العقليّة، فهل يعدّ تعلّمها من البدع؟ إنّ البدعة هي أن يغيّر الإنسان شيئاً من الدين؛ كأن ينفي الأمر الثابت شرعاً أو يثبت الأمر المنفي كذلك، أمّا الأمر الذي لا يكون ضمن هذا المسير أساساً، كيف يمكن أن يكون من البدع؟
فالشريعة الإلهيّة لم ترغّب أو تحثّ على تعلّم علم المنطق، ولا علم الطب والجراحة، والجيولوجيا والطبيعة، والعلوم الميكانيكيّة، وهندسة النفط وغيرها... فهل نستطيع أن نقول إنّ هذه العلوم كلّها ممنوعة ومحرّمة؟
ومن جهة أخرى نرى أنّ تأسيس الحوزات والمدارس العلميّة بشكلها الحالي لم يأتِ من طريق الشريعة الغراء، ولم يكن موجوداً فيها أي من هذه النماذج أصلاً، فهل نستطيع أن نقول: إنّ بناء المدارس والغرف وجمع الطلاب لدراسة الدين بهذه الطريقة هي بدعة وحرام؟ لا ليس الأمر كذلك.
وإذا كان المراد من البدعة والإحداث كلّ شيء جديد، فلا بد أن نلتزم بأنه ليس كلّ بدعة حراماً. أما إذا كان المراد منها أيّ شيء مخالف للشريعة، فإنّ مثل هذه العلوم والأمور لا تخالف الشريعة.
وإذا رأينا في بعض الروايات إعراض الأئمّة عليهم السلام عن التصوّف والفلسفة، فمرادهم من ذلك مخالفتهم لإنشاء المدارس والأحزاب القائمة على خلاف منهج أهل البيت، لا أنّ معناها مخالفتهم للتوجّه نحو الباطن بواسطة الممشى الأحسن، أو تقوية القوى الفكريّة عن طريق الصواب.
لقد كان في ذلك الزمان مجموعة من الناس تشبه بعض المتصوّفين الموجودين حالياً، كانوا يمشون على خلاف الشريعة؛ حيث وضعوا لأنفسهم طريقاً خاصّاً للوصول إلى واقع معين، واشتغلوا بأعمال وأفعال غير مشروعة. وبما أنّ ذلك الطريق لم يكن ممضى من قبل الأئمّة عليهم السلام, لذلك منعوا منه وحرّموه. ومن هنا علينا أن لا ننعت كلّ إنسان يكون في صدد تهذيب أخلاقه وتزكية نفسه، ويريد الوصول إلى مقام اليقين عن طريق العبادات والأوامر الشرعيّة، ويطمح للفوز بالمعرفة الإلهيّة وإدراك الحقائق الواقعيّة بنور الباطن وعين القلب.. بأنّه صوفيّ ونضعه تحت سياط اللوم والتوبيخ؟! إنّ هذا ذنب لا يغتفر، وهو ناشئ عن الجهل.
لقد قام في ذلك الزمان بعض المتكلّمين من العامّة؛ سواء من الأشاعرة أو المعتزلة، بطرح العلوم الفلسفيّة والأصول الموضوعة في عصرهم المأخوذة من تراث اليونان ومصر وإيران للانفصال عن مدرسة أهل البيت، وعملوا على تأسيس منهج مستقل وحزب منفصل عن الأئمّة عليهم السلام، دون أن يكون هذا المنهج ممضى من قبلهم.
ولكن ما العلاقة بينها وبين العلوم الفلسفيّة والحكمة المتعالية، ففلاسفة الإسلام والعلوم العقليّة شموس مشرقة، أمثال: أبو علي ابن سينا، والفارابي، والخواجة نصير الدين الطوسي، والمير داماد، والمير فندرسكي، وصدر المتألهين الشيرازي، والحاج السبزواري، وكثير من عظماء عصرنا هذا، كالمرحوم الآخوند ملا علي النوري، والزنوزي، والميرزا مهدي الآشتياني، والميرزا أبو الحسن رفيعي، والحاج السيد روح الله الخميني، وأستاذنا العظيم وفقيدنا الكبير: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، والذي عمل كلٌّ منهم ـ ضمن سعة شعاع وجوده ـ على تبديد بحر الأوهام والشكوك المظلم، والتنوّر بنور العرفان.
أولئك هم حرّاس القرآن والإسلام وحماة مذهب الشيعة، كما أنهم حفظة الشرع والشريعة، وهم رصيد العلم واليقين، والمحاور التي تحفظ الدين من الانحراف والاندراس وتقيه من الاندثار والاضمحلال. شكر الله مساعيهم الجميلة، وضاعف درجاتهم وأعلى مقامهم عنده.
يعتبر كتاب الأسفار الأربعة للملا صدرا من مفاخر العالم الإسلامي؛ حيث بذل صاحبه عمراً مديداً لكي يطابق بين المشاهدات القلبيّة الملكوتيّة والبراهين الفلسفيّة والروايات الشرعيّة، وتمخّض سعيه عن تأليف هذا الكتاب المهم. وقد كان حقاً هو وكتبه من المفاخر العظيمة، كما أن الامتناع عن مطالعة هذه الآثار ستوجب الحسرة والندامة.
طبعاً لا مكان للشكّ هنا في أنّه يجب على طلاّب العلوم الدينيّة أن يكونوا مجتهدين أيضاً في الحكمة المتعالية، ولا يقبلوا بأيّ مطلب دون دليل أو يقبلوا ببراهين صدر المتألّهين من باب التقليد، بل يجب عليهم أن يتقدّموا في هذا المضمار ويثبتوا أيّ أمر أو ينفوه على أساس استقلالهم الفكري؛ لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمتين، وما دام لم يحصل لديهم قناعة ببرهان المسائل الفلسفيّة فعليهم أن لا يقبلوا بها؛ لأنّ القبول بها مع عدم الاقتناع بالبرهان سيوجب سقوط قيمة الفلسفة.
والقسم الثالث من مخالفي الفلسفة، يطرح إشكاله بقوله إنّ أفضل دليل على بطلان الفلسفة، هو اختلاف آراء الفلاسفة وتباين نظريّاتهم؛ لأنّنا نرى أنّهم يختلفون في كلّ مسألة من مسائل هذا العلم، وبما أنّ الحقائق ثابتة وغير قابلة للتغيير، فسوف نستكشف من هذا الاختلاف بطلان نظريّاتهم وآرائهم.
والجواب على هذا الإشكال واضح: لأنّ هذا الاختلاف ليس منحصراً بالفلسفة، بل هو موجود بصورة واضحة في كلّ علم من العلوم؛ كالعلوم الطبيعيّة والطب والهيئة والعلوم الشرعيّة؛ كالتفسير والفقه.
والاختلاف بين قولين ليس دليلاً على بطلان كلا القولين معاً؛ إذ أن الإلهيّين يختلفون مع الطبيعيّين في وجود الله وعدم وجوده، وفي إثبات المعاد ونفيه، وفي مسألة التجرّد وعدم التجرّد، وفي الكثير من المسائل أيضاً. ولا يمكننا أن نحكم ببطلان العلم من أساسه بمجرّد الاختلاف، بل يجب علينا أن نميّز الحقّ من الباطل من خلال البحث والتنقيب، وبواسطة التأمّل والتحليل. نعم الفلسفة مثل سائر العلوم لديها حركة تكامليّة وتطوّر مستمرّ، فتقترب من الكمال من خلال الأبحاث، كما هو الحال في سائر العلوم.
إذا حصل يوماً أن اشتبه علينا حجر فيروز بحجر آخر أزرق، ووقعا معاً في مكان مظلم، فلا يمكننا أن نترك الحجرين معاً ونصرف النظر عنهما؛ بل يجب علينا أن نبحث بجدٍّ حتى نجد الفيروز ونشخّصه لنستعمله في الزينة. كما أنه إذا اختلطت يوماً حبوب القمح بالرمل والتبن، لا يمكننا أن نتركها كلّها ونرفع اليد عنها، وإلا فسوف نموت من الجوع، بل ينبغي أن نفصل القمح عن الرمل والتبن وننقّيه جيداً.. هذه هي طريقة العقلاء.

    

هل السير والسلوك ينتهي بمعرفة الوليّ المطلق الإمام الحجّة أرواحنا فداه, أم أنّ الهدف هو معرفة ذات الحق تعالى؟

 

وأما حول المدّعى الثالث, الذي يقول بانتهاء السير عند معرفة الوليّ المطلق؛ الإمام الحجّة صلوات الله عليه، فيجب القول: إنّ هذا أيضاً خطأ واشتباه كبير؛ لأنّ وجود الإمام صاحب الزمان ليس وجوداً مستقلاً، كما أنّ صفات ذلك الإمام وأسماءه ليس مستقلّة أيضاً، وإلا فلزوم الشرك واضح من هذه العبارة. بل وجود الإمام ظلّي وتبعي، أي أنّ كلّ ما لديه هو من الله، فصفات الله عز وجل وأسماؤه تجلّت في الإمام، وعليه فهذا الإمام هو مكان تجلّي الله سبحانه وتعالى، ومرآته التي تمثّل ذات الله وجماله وجلاله. وهذا المطلب من بديهيّات الإسلام وضروريّاته، وهو دين التوحيد الذي لا يرى لأي موجود ـ سواء كان كلّياً أم جزئيّاً صغيراً أم كبيراً ـ أي وجود وكيان مستقل، بل يعتقد بأن جميع الموجودات هي مظاهر وتجلّيات للذات المقدّسة لواجب الوجود. وكلّ واحد يشير إلى الحق تعالى بحسب ضيق ماهيّاته وهويّاته وسعتها.
من هنا يعتبر القرآن الكريم أنّ جميع الموجودات الملكيّة والملكوتيّة آيات إلهيّة؛ يعني أنها مشيرة إلى الله تعالى ومظهر له؛ حيث يعتبر الليل والنهار واختلافهما، والرياح والغيوم والمطر، والبحار والسفن، واخضرار الأشجار والنباتات، والنبي عيسى وأمه مريم، وناقة صالح، وجبرائيل وسائر المخلوقات التي يذكرها.. يعتبرها كلّها آيات إلهيّة.
كما أنّ الروايات أيضاً لا تقبل مقاماً مستقلاً للأئمّة، وتعدّ هذا الكلام تفويضاً وخطأً، بل ترى أن كلّ كمال ومقام لديهم هو من عند الله ومع الله وإلى الله، وهم أوجه ظهوره ومرآته فقط. فهم الطريق والصراط، وهم جسر الهداية للوصول إلى مقام العزّ الشامخ للحقّ عزّ وجل.
فالمقصود والمراد هو الله وذاته المقدّسة وأسماؤه وصفاته، والأئمّة هم واسطة الفيض في كلا قوسَي النزول والصعود.
وبناء عليه فوجود الإمام بقيّة الله أرواحنا فداه وجود مرآتي وآيتي لوجود الحق سبحانه وتعالى، وعليه فمعرفة هذا الإمام الحجّة يجب أن تكون بعنوان الآيتيّة والمرآتيّة لمعرفة ذات الله تعالى. وبتعبير علمي: وجود ذلك الإمام بالنسبة إلى وجود الله سبحانه وتعالى هو معنى حرفي بالنسبة للمعنى الإسمي.
من هنا فالطريق إلى الله ووسيلة السير نحو الله تعالى هو الإمام، ولكن المراد والمقصود هو ذات الله سبحانه وتعالى. وواضح أنّنا إذا جعلنا الطريق هو المقصد نكون قد أخطأنا خطأً كبيراً.
ويجب أن نجعل هدفنا ومقصدنا السير إلى الله، ولقاء الله، والوصول إلى الله، ومعرفة الله، والفناء والاندكاك في ذات الله عز وجل. غاية الأمر، بما أنه لا يمكننا الوصول إلى الهدف دون طيّ هذا الطريق، ولا نستطيع الحصول على هذا المطلب بدون العبور من هذا الطريق؛ كان علينا أن نمشي في هذا الطريق ونقطعه للوصول إلى هدفنا ومقصدنا.
وبما أنّنا لا نستطيع النظر إلى عين الشمس بدون مرآة، فعلينا أن ننظر إلى جمالها من خلال الماء أو المرآة، فالمرآة بالنسبة للشمس لها معنى حرفي، لا أنها مظهرة لنفسها بل هي مظهرة وعاكسة للشمس. ومن جهة أخرى لا نستطيع أن نترك النظر إلى الشمس وأنوارها وحرارتها ولمعانها؛ لأنّها مصدر الحياة، ولا نستطيع أيضاً النظر إلى المرآة بصفتها شي منفصل ومستقل، لأنّها في هذه الحالة لا تكون مظهرة للشمس ولا تعكس وجه الشمس فيها، بل تكون المرآة في هذه الحالة مظهرة لنفسها بما هي قطعة زجاج مصقول، وفي الحقيقة تفقد عندئذٍ عنوان المرآتيّة فيها.
أما لو نظرنا إلى الماء أو إلى المرآة بعنوان كونها مرآة وعاكسة، فلن نراها عندئذٍ، بل ما نراه فيها هو الشمس، إذن يجب علينا ننظر في المرآة لكي نرى الشمس، وليس لدينا طريق آخر غير هذا، وبعبارة علميّة: المرآة هي ما به يُنظر لا ما فيه يُنظر.
إن الوجود المقدّس للإمام بقيّة الله عجّل الله تعالى فرجه هو مرآة تامّة مظهرة للحق تعالى، وعلينا أن نرى الله من خلال تلك المرآة لا أن نرى نفس المرآة؛ لأنها لا تمتلك ذاتاً، ولا يمكن بدونها أن يُرى الحق تعالى؛ لأنّ الحق تعالى لا يُرى بدونها.
إذن يجب علينا أن نرى الله سبحانه وتعالى عن طريق مرآة ذاك الولي الأعظم، وأن نسعى للوصول إليه.
إن الله تعالى هو المخاطب في الأدعية والمناجاة، عن طريق ذلك الإمام الذي هو السبيل للوصول إليه. وعليه فإذا عرضنا حاجتنا على الإمام عليه السلام وجعلناه هو المخاطب، فلا بد أن نلتفت في هذه الحالة أن لا نعتبره عنواناً مستقلاً عن الله تعالى؛ بل يجب علينا أن نخاطبه بعنوان كونه واسطة ومرآة، وأن لا يغفل ذهننا عن هذا الأمر. وفي الحقيقة أننا جعلنا المخاطب هو الله سبحانه؛ لأنّ المرآة بما تؤدّيه من وظيفة المرآتيّة لا تقبل النظرة الاستقلاليّة، بل تقبل النظرة التبعيّة، وتكون النظرة الاستقلاليّة فيها بمقدار انعكاس الصورة فيها.
وهذه المسألة من أهم مسائل باب العرفان والتوحيد؛ باعتبار أن كثرات هذا العالم لا تتنافى مع وحدة ذات الله؛ لأنّ الوحدة هي الوجود الأصلي، والكثرات هي الوجود التبعي والظلّي والمرآتي. وهنا تتّضح جليّاً مسألة الولاية، باعتبار أن حقيقة الولاية هي نفسها حقيقة التوحيد، وأن قدرة الإمام وعظمته وعلمه وإحاطته هي عين قدرة الحق تبارك وتعالى وعظمته وعلمه وإحاطته، لا اثنينيّة بينهما ولا فرق أبداً. بل إن الطلب من الله بدون عنوان وساطة ومرآتيّة الإمام لا معنى له، كما أن الطلب من الإمام مستقلاً بدون عنوان الوساطة والمرآتيّة لذات الله تعالى لا معنى له أيضاً.
وفي الحقيقة، الطلب من الإمام والطلب من الله، هو شيء واحد؛ ليس فقط شيء واحد من جهة اللفظ والعبارة ومن جهة الأدب والبيان، بل هما شيء واحد من جهة الحقيقة وعين الواقع أيضاً؛ لأنه لا شيء سوى الله. {تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرام‏} (الآية 78 من سورة الرحمن)
وهنا اتجهت طائفتان إلى الضلال والضياع: الأولى الطائفة الوهّابية، والثانية الطائفة الشيخيّة.
أما الطائفة الوهّابية، فتعتبر أن القدرة والعظمة والعلم والإحاطة هي لذات الحق المقدّسة، ولكنهم يلغون عنوان الوساطة والمرآتيّة.
وعليه فهم واقعون في إشكال وخطأ كبير، لن يخلصوا منه أبداً حتى لو فكروا إلى يوم القيامة؛ وهذا الإشكال هو: أننا نشاهد الكثرات في هذا العالم بالوجدان والشهود، ونرى أن هذه الكثرات تمتلك قدرة وعظمة وعلماً وحياة، فإذا اعتقدنا بأن القدرة موجودة في ذات الحق الأزليّة بدون هذه الكثرات وهذه المرايا، فسيصبح هذا الكلام خطأً بالوجدان؛ إذ أن القدرة مشهودة وجداناً في الموجودات، وإذا اعتقدنا بأن هذه الموجودات تمتلك قدرة مستقلّة ـ وإن كانت بسبب إعطاء الحق إيّاها ـ فإن هذا الكلام سيوجب الشرك أيضاً وتعدّد الآلهة، فضلاً عن آلاف المشاكل الأخرى التي لا تنحل أبداً؛ لأنّ لازم هذا الكلام نشوء موجودات من ذات الحق تبارك وتعالى، وهذا الكلام هو عين التفويض، والحال أنّنا نعلم أن الله {لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ * وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد}.
وبناء عليه، فليس لدينا أي مخرج علمي وفلسفي إلا إذا اعتقدنا بأن الكثرات هي مظاهر وتجلّيات لذات الحق تعالى؛ بحيث تظهر قدرة الباري تعالى وعظمته وعلمه وسائر أسمائه وصفاته عز وجل في هذه الموجودات، كلٌّ بحسب سعة أو ضيق ماهيّته وهويّته، ولذا من الطبيعي أن تظهر وتبرز أكثر في الأرواح المجرّدة والنفوس القدسيّة للأنبياء والأئمّة عليهم السلام والإمام المهدي أرواحنا فداه؛ لأنّ السعة الوجوديّة لديهم أكبر بكثير. وعليه ففي نفس الوقت الذي تختصّ فيه القدرة والعلم بالله سبحانه وتعالى، يكون أيضاً ظهوره في هذه المرايا غير قابل للإنكار بالشهود، كما أنه أمر ٌضروريٌّ وثابتٌ بالعقل.
إن الظهور والظاهر والحضور والحاضر هما شيء واحد؛ فالمعنى الحرفي مندكٌّ في المعنى الإسمي، ولا يثبت شيئان, وعليه فطلب الحاجة من النبي الأكرم والأئمّة المعصومين هو نفس طلب الحاجة من الله، وهذه المسألة هي عين التوحيد.
لقد أثبتت الفلسفة المتعالية والحكمة الإلهيّة وجود الوحدة في الكثرة والكثرة في وحدة ذات الحق. وكما يمتلك الله اسم "الأحديّة" الذي هو فوق جميع الأسماء والتعيّنات، ومنزّه من كل اسم ورسم، كذلك يمتلك اسم "الواحديّة" أيضاً، التي بملاحظة ظهوره وطلوعه في عالم الأسماء والصفات الكليّة والجزئيّة يتم ملاحظة العوالم الأخرى؛ سواء المُلك والملكوت.
وأما طائفة الشيخيّة، فهم لا يعتقدون بأن نهاية سير الإنسان ستكون إلى الله؛ وينكرون بصراحة وصوله إلى مقام العزّ الشامخ للحضرة الأحديّة، وفنائه واندكاكه الوجودي في ذات الله عز وجل، فبناءً على هذا ينكرون إمكان العرفان الإلهي ومعرفة الإنسان لله، ويقولون: إن نهاية السير العرفاني والكمالي للإنسان ينتهي إلى الوليّ الأعظم والذي هو الحجاب الأقرب وواسطة الفيض. وعلى أساس هذا الأصل يخالفون بشدّة الفلسفة والعرفان والذي هو المقدّمة لطريق التوحيد.
فهم يقولون: الله بريء من كل اسم ورسم، ومبرّأ من كل صفة. وعليه تكون الأسماء والصفات الحقّة ليست عين الله، بل هي موجودة في درجة أقل، وفي النتيجة يكون الله فاقداً لأي صفة واسم.
إنّ الإمام صاحب الزمان هو اسم الله، ويقع في رتبة أدنى من رتبة ذات الحق، وبما أنّ السير إلى الله خارج عن أي اسم ورسم، وهو أزلي وأبدي لا نهاية له، فهو محال؛ لذا غاية سير الإنسان إنما هي نحو اسم الله الأعظم فقط؛ والذي هو الولي الأعظم، وهو الفاصلة والواسطة بين الله والخلق.
والإشكالات الواردة على هذه العقيدة كثيرة:
أولاً: أنه إذا اعتبرنا أن صفات الله وأسماءه منفصلة عنه، ورأينا أن الله بدون اسم ورسم، فإن نتيجة هذا القول هي أن الله فاقد للحياة والعلم والقدرة، إذن فهو جامد وميّت وجاهل، تعالى الله عن ذلك.
وثانياً: إن الآيات القرآنيّة والروايات كلّها تدعونا إلى ذات الحق؛ في السير وفي المعرفة، وتحدّد نهاية السير والوصول والعرفان بأنها عرفان ذات الحق الأقدس والوصول إلى الله تعالى، لا عرفان وليّه الأعظم والوصول إليه.
وثالثاً: أنه لماذا يمكن للإمام وللولي الأعظم عرفان الذات القدسيّة لله والوصول إليها، بينما لا يستطيع سائر البشر ذلك؟ فإذا كان هذا الأمر ممكناً له، فهو ممكن للجميع، وإذا كان مستحيلاً لغيره، فكيف أصبح ممكناً له؟
يقول الشيخيّة: الولي الأعظم ليس ممكناً وليس واجباً؛ بل هو في مرتبة بين الإمكان والوجوب.
والجواب هو أننا لا نتعقّل وجود مرتبة بين الإمكان والوجوب؛ فكل الناس ممكنون، وغاية سيرهم هو الفناء والاندكاك في ذات الحق سبحانه وتعالى.
ورابعاً: إنه بناء على ذلك ينبغي أن يكون وجود الولي الأعظم وجوداً استقلاليّاً، لا تبعيّاً وظليّاً ومرآتيّاً؛ وإلا يجب أن يكون المقصد هو ذات الله. وفي هذا الافتراض يلزم الشرك والثنويّة والتفويض والتولّد، وتعالى الله عن ذلك.
إلى غير ذلك من الإشكالات والانتقادات التي تمّ ذكرها في مكانها.
كلتا هاتين الطائفتين على خطأ؛ لأننا إذا أردنا أن نرفع عن الممكنات ـ سواء الماديّة أم المجرّدة ـ عنوان المرآتيّة، أو أردنا أن نعطيهم عنواناً مستقلاً، فكلا هذين الفرضين خطأ. والصحيح لا هذا ولا ذاك، بل الموجودات تمتلك أثر الحق، وتمتلك صفات الحق، وهي مظاهر وتجلّيات الذات والأسماء الحسنى والصفات العليا للباري تعالى.
يتّجه المذهب الوهّابي نحو الجبر، بينما يتّجه مذهب الشيخيّة نحو التفويض؛ وكلاهما خطأ، بل هو أمرٌ بين الأمرين ومنزلة بين المنزلتين؛ وهو طلوع نور الذات القدسيّة لله في الكثرات المادّية والمجرّدة.
ينكر المذهب الوهّابي قدرة وعلم الحق في الموجودات، أما مذهب الشيخيّة فينكر قدرة وعلم الحق في ذات الحق نفسه، فكلٌّ من هذين المذهبين يؤدّي إلى التعطيل، وكلاهما خاطئ.
إن وجود الإمام الحجّة ابن الحسن أرواحنا فداه هو الظهور الأتمّ للحق، ومحل التجلّي الأكمل لذات الحق ذي الجلال؛ فالمقصد هو الله، والإمام هو الآية والمرآة والقائد والمرشد؛ وإذا نظرنا إليه في توسّلاتنا نظرة مستقلّة، وأردنا لقاءه ورؤيته بشكل مستقل، فلن نصل لنيل فيضه، ولن نوفّق للقاء الله وزيارة المحبوب.
أما أنّنا لا نصل إلى فيضه فلأنّ وجوده ليس مستقلاً، والحال أننا طلبنا الوجود المستقل. وأما أننا لا نوفّق للقاء الله، فلأننا لم نسعَ للوصول إلى الله، ولم نرَ أن ذاك الإمام هو الله.
لذا فإن أكثر الناس الذين يحترقون في عشق الإمام صاحب العصر والزمان ـ حتى لو وفّقوا لزيارته ـ لا يتجاوزون المقاصد البسيطة والجزئيّة والحاجات الماديّة والمعنويّة؛ لأنّهم لا يرونه كمرآة وكآية للحق. وإلا لأمكنهم أن يروا الله بمجرّد رؤيتهم للإمام، وأن ينالوا وصال الله من خلال الوصول إلى الإمام، لا أن يصبح الإمام حجاباً بينهم وبين الحق؛ وأن يطلبوا منه حاجاتهم الدنيويّة وغفران ذنوبهم وإصلاح أمورهم. وهناك الكثير من الناس الذين تشرّفوا بلقاء الإمام عجّل الله تعالى فرجه وعرفوه، ولكنّهم لم يتورّعوا عن طلب مثل هذه الحاجات، بل اقتصروا على طلب هذه الأشياء منه.
فهم في الحقيقة لم يعرفوه؛ لأنّ معرفته هي معرفة الله؛ «من عرفكم فقد عرف الله»، ويجب على كلّ من يريد التشرّف بلقائه أن يشتغل بتزكية نفسه، وتطهير سرّه وباطنه؛ وفي هذه الحالة يصل إلى لقاء الله والتي يلزم منها لقاء الإمام. كما يصل إلى لقاء الإمام التي يلزم منها لقاء الله تعالى، حتى وإن لم يتشرّف بشرف لقاء بدن الإمام في عالم الخارج والطبيعة.
إذن فالأصل هو معرفة حقيقة الإمام لا التشرّف بلقاء بدنه المادي والطبيعي. إن التشرّف بلقاء الجسم المادي والطبيعي يستفيد منه بهذا المقدار فقط. أما التشرّف بحضور حقيقة وولاية ذلك الإمام فإنه يجلو الباطن، ويفوز بلقاء المحبوب: الله تعالى، ولمثل هذا فليعمل العاملون.
لقد طوى العلامّة بحر العلوم قدّس الله نفسه عمراً في مجاهدة النفس الأمّارة وتزكية الباطن, وتطهير الذات لأجل العرفان الإلهي, والوصول إلى مقام المعرفة والفناء, والاندكاك في ذات الحق. ورسالته في السير والسلوك تشهد له بمقامه ومراحل سيره ومنازل عرفانه، فقد كان يتشرّف بلقائه من هذا المنطلق وبهذه النظرة؛ بالنظرة الإلهيّة، لا بنظرة الذات.
حق بين نفري بايد تا روي تو را ببيند
                              چشمي كه بود خود بين كي روي تو را بيند؟

(يجب أن تكون هناك عين تنظر بعين الحق كي تراك، إذ متى يمكن للعين التي لا ترى إلا نفسها أن تراك؟)

يحكى عن ذلك المرحوم أنه في يوم من الأيّام عندما قرأ إذن الدخول للتشرّف إلى الحرم المبارك لسيد الشهداء عليه السلام، فما إن همّ بالدخول وقف ونظر إلى زاوية من زوايا الحرم المطهّر وظلّ كذلك لمدّة، وهو يردّد هذا البيت:
چه خوش است صوت قرآن ز تو دلربا شنيدن
                              به رخت نظاره كردن سخن خدا شنيدن

(ما أجمل سماع صوت القرآن منك أيها المحبوب، فالاستماع إليك سماع كلام الله تعالى)

وحين سألوه لاحقاً عن سبب توقّفه، أجاب: إن الإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه كان جالساً في زاوية الحرم يقرأ القرآن. هذا هو معنى الوصول وهذه هي حقيقة الآيتيّة والمرآتيّة.
يقول الشيخيّة: بما أن الإمام المهدي هو الذي يستطيع أن يتشرّف بلقاء الله فقط، ولا نستطيع نحن أن نتشرّف بلقاء الإمام المهدي بدون واسطة، فيجب أن تكون هناك واسطة تربطنا بالإمام، وتلك الواسطة هي الشيخ والأستاذ الذي يسمّونه الركن الرابع. إذاً غاية سيرنا هي الفناء في الشيخ والأستاذ، وغاية سير الشيخ هي الفناء في الإمام، وغاية سير الإمام الفناء في الحق تعالى، وهذه الأركان الأربعة لازمة. ومن هذا الكلام يتّضح لنا فساد هذه العقيدة.
وعلينا أن نكون ـ بحول الله وحسن توفيقه ـ حذرين جداً كي لا نتّبع أفكارهم وآراءهم بدون أن نشعر؛ لأنّ مخالفة السير نحو الله، ومعاداة العرفان، والنظر إلى الإمام نظرة مستقلّة، هي من صفات الشيخيّة. وإذا كنا نحمل هذه النظرة، ونمشي على هذا المنهاج، نكون قد اخترنا عقيدتهم من حيث لا نشعر.
إنّ مجالس ومحافل التوسّل بالإمام صاحب الزمان جيدة جداً، إلا أنّه التوسّل الذي يكون المطلوب منه هو التوسّل بالحق؛ والوصول إلى الحق، ورفع الحجب الظلمانيّة والنورانيّة، ومعرفة حقيقة الولاية والتوحيد، وحصول العرفان الإلهي والفناء في ذاته القدسيّة. هذا هو المطلوب والمقبول. ولذا فالمراد من انتظار الفرج الذي يعتبر ـ حتى في زمان الأئمّة عليهم السلام ـ من أفضل وأحسن الأعمال، هو هذا الأمر. كما أن التوسّل بحقيقة وولاية ذلك الإمام لكشف حجب هذا الطريق وعوائقه، هو من أفضل الأعمال؛ لأنّ توحيد الله تعالى من أفضل الأعمال.
وانتظار ظهور الإمام الخارجي الذي يعتبر مقدّمة للظهور الباطني، وكشف ولاية هذا الإمام مفيد أيضاً. كما أن انتظار ظهور الإمام الخارجي لأجل ذلك محبوب ومرغوب به.
أمّا إذا كنّا ننتظر الظهور الخارجيّ فقط، دون أن يكون مرادنا الوصول إلى تلك الحقيقة، فعندئذٍ نكون قد بعنا الإمام بثمن بخس دون أن نشعر، وألحقنا بأنفسنا ضرراً كبيراً؛ لأنه ليس المطلوب التشرّف بالحضور الظاهري، وإلا فالكثير من الناس كانوا يلتقون بالأئمّة في زمانهم ويتكلّمون معهم، ولكنّهم لم يستفيدوا من حقيقتهم. وإذا فرضنا أنّنا كنّا في مجالس التوسّل أو في الخلوات نطلب رؤية الإمام؛ ووفقنا الله لذلك، فلو لم يكن مقصودنا ومرادنا هو لقاء الله ومعرفة حقيقة الولاية، ففي هذه الحالة سوف نلتقي بالإمام بنفس الطريقة التي كان الناس في زمن الأئمّة يلتقون بهم، ومن الغبن والضرر أن نأتي بعد جدٍّ وجهد وكدٍّ وسعي كبير ولا يكون مرادنا سوى اللقاء به ورؤيته، دون أن يكون لدينا هدف أكبر من لقائه الظاهري، أو أن نستخدم الإمام لقضاء حاجاتنا الماديّة أو لرفع مشكلاتنا الشخصيّة أو العامّة. والحال أن هذا الأمر كان يحصل لدى كلّ من عاصر الأئمّة عليهم السلام بدون توسّل.
ولكن الشيء القيّم حقاً هو التشرّف بمعرفة حقيقة الإمام والوصول إلى واقعه، أي أن الشوق للقاء الإمام من حيث أنه مرآة وآية لله سبحانه وتعالى هو المهم جداً، وهو من أفضل الأعمال. فمثل هذا الانتظار للفرج يحيي القلوب، ويبعث الراحة في النفوس. رزقنا الله إنشاء الله بمحمد وآله.
ما قيمة معرفة زمان الظهور الخارجي للإمام؟ لذا فقد نُهي عن البحث عن هكذا أمور في الروايات. افترضوا أننا علمنا بعلم الجفر والرمل الصحيح أن ظهور الإمام سيكون بعد سنة وشهرين وثلاثة أيام مثلاً، ماذا سنفعل في هذه الحالة؟ ما هي وظيفتنا؟ وظيفتنا هي التهذيب والتزكية وترويض هذه النفس الأمّارة على الطاعة والفداء والإيثار. والحال أنّنا مأمورون بهذه الأمور دائماً، ويجب علينا أن نهذّب ونطهّر هذه النفس باستمرار؛ سواء كان وقت ظهور الإمام محدّداً أم لا. وإذا دأبنا على هذه الأمور فسوف نوفّق للقائه ومعرفة حقيقته. وأما إذا لم نهتم بها، فلن يؤثّر فينا كثيراً لقاء بدنه الظاهري والمادي، ولن نستفيد من هذا اللقاء. ولذا نرى الكثير من الناس قد أقاموا أربعين يوماً في مسجد السهلة أو في مسجد الكوفة أو في سائر الأماكن المباركة لكي يروا الإمام، وقد وفّقوا فعلاً بالتشرّف بزيارته؛ ولكن لم يستفيدوا من تلك الزيارة بشيء مهم.
والأهم من ذلك هو أنّ الظهور الخارجي والظاهري للإمام لم يحصل بعد، بل هو مربوط بأسباب وعلامات يجب أن تتحقّق، أما الظهور الشخصي والباطني فهو ممكن لبعض الأشخاص. وبعبارة أخرى إن طريق الوصول والتشرّف بلقاء الإمام مفتوح للجميع، غاية الأمر أنه بحاجة إلى تهذيب الأخلاق وتزكية النفس.
فكل من يسعى إلى لقاء الله في هذه الأيام، ويقوم بمجاهدة نفسه في هذا الطريق فسوف يحصل له ظهور الإمام بشكل شخصي وباطني؛ لأنّ لقاء الله لا يمكن أن يحصل بدون اللقاء الآيتي والمرآتي للإمام.
والنتيجة هي أنّ طريق التشرّف بمعرفة حقيقة ولاية الإمام مفتوحة هذه الأيام أيضاً، وهذا هو المهم، ولكنها تحتاج إلى مجاهدة النفس الأمّارة وتزكية الأخلاق، وتحتاج أيضاً إلى السير والسلوك في طريق عرفان الذات الأحديّة لله سبحانه وتعالى؛ سواء أحصل الظهور الخارجي والعام للإمام، أم لم يحصل. وذلك لأنّ الله ليس ظالماً، وطريق الوصول غير مسدود أمام الناس المشتاقين، بل هو مفتوح دائماً، ويلبّي دعوة المحبّين والمشتاقين والعاشقين باستمرار.
وبناء عليه، فيجب على عشّاق الجمال الإلهي ومشتاقو لقاء الله جلّ وعلا أن يتقدّموا في طريق السير والسلوك للوصول إلى عرفان الله بأقدام ثابتة وبعزم راسخ، ويقرّبوا أنفسهم إلى هدفهم عن طريق التهذيب والتزكية والمراقبة الشديدة، والاهتمام بالوظائف الإلهيّة والتكاليف الرحمانيّة، وفي هذه الحالة سوف يتمّ لنا ـ بشكل تلقائي ـ التشرّف بلقاء الإمام صاحب الزمان وقطب دائرة الإمكان، الذي هو وسيلة الفيض وواسطة الرحمة. كما أنه سيتم التمتّع بكل أنواع الطرق المستخدمة لتكميل النفوس، والاستفادة من كل القابليّات الإلهيّة التي لديهم للوصول إلى فعليّتها. وفقنا الله تعالى بمحمد وآله صلى الله على محمد وآله.
كُتب هذا المختصر في عصر يوم الثامن عشر من شهر شعبان المعظم سنة ألف وأربعمائة وثلاثة هجريّة قمريّة في مشهد المقدّسة؛ وأسميته سرّ الفتوح في الرد على كتاب "عروج الروح".

و أنا الراجي عفو ربّه

السيد محمد الحسين الحسين الحسيني الطهراني

________________________________

[1]  كمال الدين و تمام النعمة ص 409

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی