معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 101 إلى 200 > شرح حديث عنوان البصري - الجلسة رقم 186: أثر الطعام في عملية التكامل

_______________________________________________________________

هو العليم

أثر الطعام في عمليّة التكامل

شرح حديث عنوان البصري المحاضرة رقم 186

ألقيت يوم التاسع والعشرين من شهر ربيع الأوّل من عام 1432 هـ

سماحة آية الله

السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف                                           تحميل الملف الصوتي للمحاضرة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
و صلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى أهل بيته الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين

    

تأثير الغذاء في التكامل

كان الحديث في الجلسة السابقة عن كيفيّة التغذيّة وتأثير ذلك على حالة الإنسان المعنويّة، وقد وصل بنا الكلام ـ حسب ما أذكر ـ إلى هذه المسألة وهي أنّ السالك ينبغي أن يكون حذراً وملتفتاً إلى طعامه وإلى كيفيّة غذائه، وعليه ألاّ يأكل أيّ شيءٍ تميل إليه نفسه وتشتهيه، بل ينبغي عليه أن يتخيّر من الطعام ما يفيده، وينتخب من الغذاء ما فيه سلامته وصحّته وما يكون سبباً لاستعداد الذهن والفكر، وهو أمر لازم لترقّيه وتكامله.
وسنتحدّث الليلة عن هذه المسألة إلى حدٍّ ما، وكنتُ أنوي أن أتحدّث عن كيفيّة التغذيّة بشكل موسّع ومبسوط، ولكن يظهر لي أنّ ذلك قد لا يكون ضروريّاً جدّاً مع ملاحظة سعة اطّلاع الإخوة والأصدقاء على هذه الأمور بشكل جيّد، خصوصاً في هذا الزمان حيث تتوفّر معلومات كثيرة عن خواصّ الأشياء لعامّة الناس، ولذا وجدنا من الأفضل أنّ نركّز حديثنا على بعض الجوانب المهمّة، لنترك الاختيار للأفراد في انتخاب ما يناسبهم في هذا المجال.
ذكرنا سابقاً ـ إذا كنتم تذكرون ـ أنّنا نشاهد اتجاهين وأسلوبين مختلفين في منهج الأئمّة عليهم السلام، وكذلك عند الأولياء الإلهيين، وعلينا أن نجمع بين هذين الأمرين: أمّا المسألة الأولى فتتمثّل بإيكال الاختيار إلى الأفراد في الاستفادة من النعم الإلهيّة، والنهي عن ترك الاستفادة منها؛ وذلك أنّ الله تعالى إنّما خلق هذه النعم من أجل الإنسان سواءً في ذلك الأطعمة النباتيّة أو الحيوانيّة، أو الاستفادة من المواشي والأنعام، أو من سائر النعم الأخرى التي يحتاج الإنسان إليها في إدامة حياته، وقوله تعالى { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ الَّتي‏ أَخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْق‏ }[1] يدلّ على هذا المعنى؛ فالطيّبات من الرزق تشمل كلّ شيء طيب وطاهر سواءً من الجهة المعنويّة والجانب الفقهي والشرعي، أم من ناحية خصوصيّاته الظاهريّة وفوائده الصحيّة وتأثيره على حياة الإنسان واستمرارها.

    

الصور المثالية للأطعمة وسائر الأعمال

لا شكّ أن جميع الأشياء ـ كما بيّنا في الجلسات السابقة ـ لها صورة ظاهريّة من جهة ولها من ناحية ثانية جنبة باطنية ومثاليّة، وبالتالي فمن المؤكّد أنّ الاستفادة من النعم الإلهيّة إذا ما كان بطريقة غير صحيحة (يعني بحيث لا يُراعى في ذلك الجوانب الفقهيّة والشرعيّة)، فإنّ الخصوصيّات البرزخيّة والمثاليّة لتلك الأطعمة ستؤّثر بشكل سلبيّ في الصورة المثاليّة للإنسان قطعاً.
وكذلك الأفراد الذين يشتغلون بأعمال غير شرعيّة؛ لو رآهم شخص عين بصيرته مفتوحة لاستطاع أن يشخّص نوع العمل الذي يمارسونه؛ فالسارق له صورة برزخيّة خاصّة، والأفراد الذين يأكلون الربا تكون صورتهم البرزخيّة على شكل الحيوانات المفترسة، وتكون صورتهم مركّبة من صور مجموعة من الحيوانات؛ وذلك أنّ الشخص الواحد يمكن أن يكون له أكثر من صورة واحدة، وهذه المسألة عجيبة: إذ كيف يمكن أن يحمل هذا الشخص صورة ثعلب مثلاً، ويكون له في نفس الوقت صورة نمرٍ أو فهد، وفي نفس الوقت يكون له صورة خنزير! فالأمر ليس بحيث أنّ تصوّر الشخص بصورة معيّنة يكون موجباً لنفي صورة أخرى، بل من الممكن أن يكون لشخص واحد أربع صور حيوانيّة، فتكون صورته مركّبة ومخلوطة من هذه الصور، وأصحاب البصيرة يمكنهم أن يشاهدوا هذه الصور، ويمكن لهم أن يعرفوا من خلالها نوع العمل الذي يمارسه هذا الشخص؛ فالمزارع صورته المثاليّة لها نحو خاصّ، بينما مربّي المواشي له صورة أخرى، كما تختلف صورة الشخص الذي يعمل في وظائف الظالمين وحكّام الجور.
ومن هنا يفهم الإنسان العديد من الأمور، ويعرف لماذا يكون اشتغال الشخص ببعض الأعمال الظاهريّة مؤثّراً... فالمال مالٌ ليس إلاّ، ولا فرق في نفس المال، فأنت عندما يكون عندك عشرة تومانات فلا فرق في الناحية الظاهرية لهذا المبلغ بين أن يكون مصدرها من كسب الحلال أم من السرقة أم من النصب والاحتيال أم من الارتشاء (و مثال ذلك أن يكون عليك أن تنفّذ أمراً ما لأحد الأشخاص فتقول له: إن لم تدفع لي المبلغ الفلانيّ فلن أسمح لمعاملتك بأن تنجز؛ هذا هو ما يسمّى بالارتشاء وهو حرامٌ، ونار وجحيم!!)، أم أن تحصّل عليها من الربا... لا فرق بين ذلك كلّه من الناحية الظاهرية لهذا المال؛ فالعشرة تومانات ليست إلاّ عشرة تومانات!
ولكنّ الفرق والاختلاف يظهر في الصورة الباطنيّة لهذا المبلغ؛ فهذه العشرة تومانات التي في يدك عندما يشاهدها الشخص الخبير البصير، سيقول لك: من أين حصلت على هذه النقود؟ إنّ النار تتصاعد منها، فتجيبه: أنا لا أرى ناراً.. إنّما أرى عشرة تومانات أو مائة تومان أو ألف تومان ليس إلاّ، فيقول لك: أنت لا ترى، ولكنّني أرى! إنّني أشاهد النار التي تتصاعد من النقود التي في يدك؛ فمن أين حصلت عليها؟
لماذا لا نشاهد نحن ذلك؟ لماذا لا نشاهد النار فيها؟ فنحن لا نرى إلا اللون الأخضر، ولا نرى إلا ورقاً عليه خطوط ورسومات؟ لأنّنا ليس عندنا عيون لترى ذلك، أمّا من عنده بصيرة فيعرف ما هي حقيقة حالها.
ذكرت سابقاً للإخوة أنّ أحد الأصدقاء نقل لنا هذه القضيّة، يقول: كنت مع أحد الأشخاص الذين كان عندهم بعض الحالات، وهو من تلامذة سماحة آية الله الشيخ [محمّد جواد] الأنصاري، وقد ذهبنا إلى منزل أحد الأصدقاء، وعندما أحضر صاحب المنزل لنا الشاي، لاحظت أن صاحبي لم يشرب من الشاي، أمّا نحن فشربنا من الشاي وأكلنا من الفاكهة و...، ولكن صاحبي لم يشرب من الشاي. وعندما خرجنا من المنزل، قال لنا: أنا أريد أن أتكلّم مع صاحب المنزل في موضوع، فناداه وجلس معه لبعض الوقت، وسأله: هل عندك مشاكل في حياتك مع أهل بيتك؟ فأجاب صاحب البيت: نعم، يوجد بيننا نزاع وشجار... فنصحه بأن يفعل بعض الأمور ويجتنب بعض الأمور الأخرى وما شابه ذلك، فقبل النصيحة وذهب، وبحمد الله فقد صلح حاله مع زوجته وحُلّت المشكلة التي كانت قد وقعت بينهما.
بعد ذلك سألت صاحبي: لماذا لم تشرب من ذلك الشاي الذي قدّمه لنا؟ فقال: بمجرّد أن أحضر الشاي رأيت أن هذا الشاي لم يُعدّ بإقبال ورضا، بل كان معدّاً بالإكراه وعدم الرضا.. لاحظوا أنّه لم يكن قد شرب من الشاي بعد، فالشاي كان لا يزال موضوعاً على الأرض! نحن لا نرى إلاّ شاياً.. نحن نشاهد لونه الأحمر.. ونشمّ رائحته المتصاعدة منه، أمّا ذاك فيفهم.. ذاك الشخص له عين مبصرة يعرف من خلالها حقيقة المسألة، وهو يقول: إنّ هذا الشاي قد أعدّ بالإكراه، ومثل هذا الشاي مضرّ. واضح؟

    

ضرورة الاهتمام بمصدر المال والطعام

إنّ هذه المسألة مسألة مهمّة، ولكنّنا في هذه الأيّام لا نعيرها أيّ التفات، فنحن لا نهتمّ بمصدر المال الذي نحصل عليه، ولا بمصدر الطعام الذي نأكله، فنحن نذهب إلى كلّ مكان ونأكل أيّ شيء.. ندخل كلّ منزل ونأكل من طعامه، ونكتفي بعدم وجود إشكال ظاهري ولا نعير أيّ أمر آخر أيّ اهتمام.. هذه هي المسألة؛ فالعمل الذي يتخّذه الإنسان لنفسه، والأموال التي يكسبها والأرباح التي يحصل عليها.. كلّ ذلك له صورة برزخيّة، وصورتها البرزخيّة تتّحد مع صورة الإنسان البرزخيّة وتُعجن معها، فتُغيّر صورتَه البرزخيّة.. بحيث أنّه بعد مرور مدّة من الزمن على هذه الحال، يبدأ شكل وجهه بالتغيّر والاختلاف.
ولهذا، يجب علينا أن نكون حذرين جدّاً في هذا الموضوع، فهناك العديد من الأعمال التي أُسأل عنها أنّه: يا سيّد، هل هناك إشكال في هذا العمل؟ فأجيبهم: من الناحية الشرعيّة لا إشكال فيه؛ ولكن ليس من الجيّد أن يشتغل الإنسان بمثل هذه الأعمال.
والمرحوم العلاّمة رضوان الله عليه، كان يقول عن بعض المعاملات: هذه المعاملة ليست إلاّ الربا، رغم أنّ لها صورة ظاهريّة شرعيّة، ولذا يجب على الإنسان ألاّ يُقدم على مثل هذه الأمور.
والأمر واقعاً كذلك! فقد يعاني الإنسان أحياناً من عدم حضور القلب في الصلاة، ولا يقدر على الاستيقاظ لصلاة الليل، أو أنّه يستيقظ بكسل وخمول، ويلاحظ أنّ ميله نحو العديد من الأمور العباديّة قد ضعُف، وأنّه صار متكاسلاً ثقيلاً، فيجب عليه عندئذٍ أن يبحث عن سبب ذلك ويحقّق ويدقّق في أفعاله وأشغاله وعلاقاته، إذ لذلك كلّه أثرٌ مباشر، حيث أنّ هذه الأمور تؤثّر سلباً في النفس الناطقة للإنسان بواسطة صورها القبيحة فتشوّهها وتقلبها وتغيّرها. وهذه النكتة بعينها موجودة في مورد الاستفادة من النعم الإلهيّة؛ فالنعم الإلهيّة من حيث الحرمة والكراهة والحلّية لها نفس الحكم والتأثير.
افرضوا مثلاً أنّكم ذهبتم إلى منزل صديقكم، فإذا ما أجبرتموه وأكرهتموه على أن يعدّ لكم ذلك الصنف المعيّن من الطعام.. يعني من الممكن أن لا يكون قادراً على ذلك.. وربّما كان صعباً عليه أن يعدّ هذا الطعام بخصوصه؛ فإنّ مثل هذا الأمر ـ قطعاً ـ سيكون له تأثير سلبي على النفس. وكذلك لو تناولتم طعاماً لا تعلمون مصدره ولا من أين أتى... طبعاً نحن لا نتكلّم هنا عن المحرّمات، بل الحديث عنها له محلّ آخر، ولا حديث لنا عنها هنا أصلاً.. [بل حديثنا عن المكروهات والأمور المشتبهة] فينبغي للإنسان أن يكون دقيقاً ومتنبّهاً بالنسبة للموارد المكروهة..
نعم، هناك مسألة مهمّة هنا وهي أنّه لا ينبغي للإنسان أن يقع بسبب هذا الموضوع في مشكلة الوسواس؛ فكلّما ذهب إلى مكان يبدأ بالسؤال والتحقيق مع صاحب المنزل : يا سيّد، من أين حصلتم على هذا المال؟ ما هو عملك وبماذا تشتغل؟ وما شابه ذلك من أسئلة...
بل يجب أن يُحمل فعلُ المسلم وفعلُ المؤمن على الصحّة، وكثيراً ما تكون كثرة السؤال والتفحّص موجبة لهتك احترام المؤمن، وإذا لم تأكل فسوف يقول لك: يا عزيزي، ما الذي فعلناه حتّى لا تأكل من طعامنا؟!

    

حفظ احترام المؤمن

ومن هنا فعلى الإنسان ـ أحياناً ـ أن يتصرّف بطريقة دقيقة بحيث يحفظ احترام الطرف المقابل، وهذا الأمر يتطلّب لطفاً ودقّة وحسن تصرّف... لقد خطر في بالي قضيّتان لهما ارتباط بهذه المسألة؛ إحداهما عن أحد العلماء المعروفين من أهل طهران؛ وكان هذا الشخص معروفاً بالقدس والصلاح، وكان قبل خمسين أو ستين سنة عنده جلسة في منطقة السوق، وكان بحسب الظاهر عنده مسجد هناك أيضاً... ودعي يوماً إلى منزل أحد الأشخاص ـ وصاحب المنزل هو الذي نقل لنا القضيّة حيث كنّا مدعوّين عنده في وليمة أقامها لأحد الشخصيّات ـ فذكر لنا أحداث هذه القضيّة قائلاً: ذات يوم دعَونا المرحوم فلان إلى وليمة هنا، وكان يوجد نوعان من الطعام على السفرة: كباب ودجاج؛ فلاحظنا أنّ هذا الشخص كان يأخذ استخارة من تحت عباءته ليحدّد أيّ نوع من الطعام ينبغي أن يأكل منه، ثمّ قام بإبعاد واحد من الصنفين بيده وبدأ بتناول الصنف الثاني، يقول صاحب المنزل: لقد التفتُّ إلى ذلك، وتساءلت في نفسي عن سرّ عدم أكله من ذلك الطعام، فسألته بتودّد: مولانا، لماذا لا تأكلون من ذلك الطعام (الكباب)؟ فأجاب: لا، أنا لا أشتهي ذلك النوع وسآكل من هذا الطعام، ولكن كان واضحاً من أسلوب تصرّفه أنّه كان يرى عيباً في الكباب، وأن هناك سبباً لعدم تناوله منه، وقد انتبهتُ لذلك كما التفتَ إلى ذلك بقيّة المدعوّين أيضاً، ولذا لم يأكلوا هم أيضاً منه ممّا سبّب الضيق والتكدّر لي.
بعد أن مضت المسألة، ذهبت إلى الطبّاخ الذي أعدّ ذلك الطعام وسألته: يا فلان، ما العمل الذي فعلته في طبخ الكباب؟ فقال: لماذا تسأل؟ ما الذي حصل؟ فأخبرته بما جرى، فقال: ها، نعم.. لقد نسيت أن أغسل اللحم قبل طبخه، بل قمت بإحضاره من القصّاب ثم طبخته كما هو، (طبعاً ربما نسي المسألة وربّما كان ذلك عن تعمّد وتساهل).. ولعلّ ذلك كان السبب في أن تأتي استخارة ذلك الشخص المعروف بالتقوى غير جيدة لتناول هذا الطعام.

    

موارد الاستخارة الصحيحة

حسناً، لو كنتَ مكانه ماذا كنت تصنع؟ أنا أسألكم الآن ماذا كنتم تصنعون؟ ففي وضع كهذا إذا علم الإنسان أنّ هناك احتمال شبهة في أحد هذين الطعامين هل يجب عليه أن يلجأ إلى الاستخارة ويعمل بها؟! هذا العمل ليس من مذهب أهل البيت، فأولاً من أين علمت أنّك مكلّف بالاستخارة على الطعام، فالاستخارة ليست لهذه الموارد، إنّها للمسائل المشكلة والمشكوكة التي يبتلى الإنسان فيها بالحيرة، ولا يمكنه أن يصل إلى ما يطمئنّ إليه من خلال استشارة أهل الخبرة، فالاستخارة هي لهذه الموارد ـ هذا إذا سلّمنا أنّها كما هي متداولة عن طريق القرآن أو السبحة ـ أما أن نستخير في كلّ أمر؛ فمثلاً لهذه الغرفة بابان أو ثلاثة أبواب، فإذا أردتُ الخروج هل أستخير من أيّ باب أخرج؟!! هذا ليس من موارد الاستخارة، فالباب مفتوح تفضّل واخرج منه بغير استخارة.
ثمّ لو فرضنا أنّا استخرنا وكانت الاستخارة جيّدة على هذا وغير جيّدة على ذاك، ثمّ التفتنا إلى وجود المصلحة في الفعل الذي استخرنا فيه، فلا يدلّ ذلك على صواب اللجوء إلى الاستخارة، إنّها عمل خاطئ في هذا المورد، وعندما يقال لنا لا تستخيروا في هذه الموارد فمعنى ذلك أنّكم إذا استخرتم ثمّ وجدتم منفعة فإنّها ستجعلكم تتوقّفون عند مرتبة هذه المنفعة، ولن يمكنكم السير قدماً نحو المراتب الأرفع، وحتّى نهاية عمركم ستبقون عند هذه السانتيمترات العشرة أو الخمسة عشر، فلو كنتم في العشرين من عمركم وقد تحرّكتم خمسة عشر سانتيمتراً في طريق التكامل والرشد، فإنكم ستبقون على ذلك في الثلاثين من العمر والأربعين والخمسين والستين والسبعين والثمانين والتسعين والمائة ثمّ حتّى ينتهي العمر، وهذه السانتيمترات العشرة لن تزيد إلى عشرين وثلاثين، وهذه الثلاثين لن تتحوّل إلى أربعين متراً، بل ستبقى على ما كانت عليه بغير رشد وتكامل، ولذا كانوا يوصون بعدم الاعتياد على هذه الأمور، فعلى الإنسان أن يسير، والاستخارة محلّها الشبهة والشكّ مع عدم إمكان الحلّ.
ثمّ إذا كان هناك شكّ بهذا الطعام فلا داعي للاستخارة وإحداث ضجيج، ما المشكلة أن تضع في طبقك من هذا الكباب ثمّ تأكل شيئاً آخر إلى جانبه فلا يلتفت أحد إلى الأمر، وتحفظ بذلك حرمة صاحب المنزل، وهذه ملاحظات دقيقة ولطيفة، فلا يخدش بذلك احترام صاحب المنزل، ولا يلتفت أحد إلى فعلك، ولا يبدو عملك في أعين الناس عملاً ذا شأن رفيع، فهذا يضرّ بك فيقال: فلان! ما شاء الله كم هو محتاط وكم هو مقدّس! ثمّ يتناقلون ذلك ثمّ يدوّن في الكتب. والحال أنّه ليس بكرامة، بل هو خلاف الكرامة، فما لدينا من أوامر في الشريعة هو العمل على أساس الظاهر وعدم الاهتمام بهذه المسائل التي تجعل النفس مبتلاة بالوسواس الذي يفوق ضرره تناول الطعام المحرّم، فالحرام يتوب الإنسان منه ويقول: يا إلهي لقد ارتكبت خطأ، أما الوسواس فكيف يعالج؟!

    

خطورة الوصول إلى حالة الوسوسة

ذهبت يوماً مع بعض الأصدقاء إلى بيت صديق لنا وكان قد أعدّ الكباب، وكان أحد الأصدقاء الحاضرين مصاباً بالوسواس، فشرع يهزّ برأسه ويقول: هذا الكباب مصنوع من لحم غير مغسول، فهناك فرق بين طعم اللحم المغسول وغيره. فقلت له: من أين علمت ذلك؟! تفضّل وتناول منه. وكان ذلك في زمان المرحوم العلامة.
أإلى هذا الحدّ يكون الإنسان خاضعاً للوسواس، وهو نفسه إذا دخل وقت صلاة الظهر يقف عند حوض الماء سبع ساعات للوضوء، فأيّ صلاة هي هذه؟! فالوسواس يوصل الإنسان إلى هذه المرحلة، إنّه يقلب النفس رأساً على عقب. هل كان النبيّ يقف سبع ساعات ليتوضّأ؟! وهل كان الإمام الصادق كذلك؟ اللعنة على هذا المنهج الذي يسقط الإنسان عن كلّ قيمة، يسقطه من الحياة ومن التوجّه والاهتمام، فيصبّ كامل الاهتمام إلى ما تحت الظفر ليتمّ تفحّصه وإيصال الماء إلى ما تحته بدقة!! متى فعل الإمام الصادق عليه السلام ذلك فنظر إلى ما تحت ظفره بهذه الدقّة ليتأكّد من وصول الماء؟! هل لنا من قدوة سوى هؤلاء في سلوكنا وأعمالنا؟ فهؤلاء ـ الذين دعونا إلى الدين الحقّ ـ كانوا يعلمون أنّهم لو وضعوا بين أيدينا مثل هذه المسائل لبقينا في الطريق، وضللنا الهدف الأساس، ولصار المقصد بعيداً عنّا.
كيف نتوضّأ؟! خذ الماء وتوضّأ كما تصنع في الحال المعتاد لك؛ فقد قالوا إنّ الغسل مرّة ثانية هو إسباغ للوضوء. وبعد أن يعلم المكلّف بوصول الماء إلى يده بشكل كامل وفق ما هو متعارف ينتهي الأمر. أما أن يقف ويتفحّص كامل أظفاره، فهذا ما لم يردنا. علينا أن نتوضّأ كما كان يتوضّأ هؤلاء العظماء، فهؤلاء كانوا يتوضّؤون كذلك، ومع ذلك وبهذا الوضوء وصلوا إلى تلك العوالم، فلنتوضّأ نحن بنفس هذا الوضوء! فهذا هو الوقت الذي خصصوه للوضوء، وهذا هو مقدار الماء الذي استهلكوه فيه، لم يبذلوا فيه جرّة سعتها عشر ليترات، لا بل غرفتان باليد بمقدار كوب واحد، فقد كنت يوماً مع المرحوم العلامة فتوضّأ فلم يحتج إلا لكوب واحد وشيء يسير، غرفتان بمقدار كوب واحد، ولا أذكر أنها بلغت الكوبين..! نعم من نفس هذا الكوب الذي في يدي لا أكبر.
وكنت معه يوماً في عرفات خلال رحلتي الأولى إلى الحج إذ كان لي من العمر سبعة عشر عاماً، فقال لي عند الظهر: سيد محمّد محسن أحضر لنا الماء ـ ولم تكن الوسائل معدّة في عرفات كما هي الآن، بل كانت صحراء، ولم يكن فيها حمّامات معدّة للاغتسال ـ فقال لي: املأ الإناء ماء. فذهبت وملأت إبريقاً بلاستيكياً أحمر اللون وابتعدنا عن الخيمة مائة متر فقال لي: صبّ عليّ الماء وأنا أمسح بيدي عليه، ففعلت، فلم يحتج في غسله أكثر من ثلثيه، وقد اغتسلت أنا بالثلث الباقي، فبإناء واحد اغتسلنا كلانا؛ لأني لم أكن لأزيد عليه في الاهتمام بالأمر.
وهذا الغسل أعظم أجراً عند الله من غسلٍ بطنّين من الماء، وما أقوله ليس اشتباهاً، فهذا الغسل هو قطعاً أعظم عند الله، وهو قطعاً ممّا يرضاه الله، لماذا؟ لأنّ من المحرّم على الإنسان أن يتلف الماء، فمتى قام الأئمّة عليهم السلام بذلك؟ ومتى قام الأولياء بمثل ذلك. هذه هي المسائل المهمّة، فالمهمّ هو أن يتّخذ الإنسان ذلك وسيلة وقنطرة للوصول إلى المقصود، لا أن يتوقّف عندها ويتّخذ منها منزلاً، فالخطر يكمن في تبديل هذه المسائل إلى منزل ومقصد، وحينها أين ستكون الصلاة في أول وقتها؟ فما دمت تجلس قرب حوض الماء سبع ساعات وفي النهاية تتوقّف عن التفحّص خوفاً من فوات الوقت، ولو بقيت الشمس لما توقّفت عن ذلك، فأين صلاة أول الوقت إذن؟ ثمّ هل مثل هذه الصلاة يمكن أن تكون مقرّبة؟! فكلّ اهتمامي هو في تحقيق الوضوء الذي أريده، هذه ليست صلاة وليس فيها شيء من التقرّب، إنّها اشتغال بالظاهر. والأمر نفسه في أداء الكلمات والعبارات والأذكار فهي مجرّد قنظرة وينبغي أن لا نتوقّف عندها، ومن كان همّه فقط صحّة أداء مقطع ما من سورة الحمد مثلاً فهو لم يصلّ، وإنّما عمل على تصحيح قراءته. ومن أراد ذلك فليقم به قبل الصلاة فليجلس وليتمرّن على الحروف بمقدار طاقته لا أكثر، فالله لم يرد منا أكثر مما يفوق طاقتنا.

    

الوسوسة في صلاة الطواف

ولا أدري ما إن كنت ذكرت لكم هذا الأمر؟ فقد كنت يوماً في مجلس ودار الكلام حول صلاة الطواف وطواف النساء ـ حيث يحوز هذا الأخير الاهتمام الأكبر عندهم!! ـ فقيل لي: كيف تقف وتصلي ألا يؤدّي الازدحام إلى اصطدام الناس بك؟ فقلت: لا، فأنا أقف في أيّ مكان خلف مقام إبراهيم وأقول: الله أكبر ولا أبالي بما يحدث، سواء كان حولي رجل أو امرأة. فقيل لي: تصلّي حتّى ولو كان أمامك امرأة؟ قلت: نعم، ففي المسجد الحرام وفي كلّ مكّة لا إشكال في ذلك ـ أما في سائر الأماكن فلا يجوز، ويجب مراعاة تلك الحدود، فعلى المرأة أن تكون خلف الرجل، وهذا الأمر مختصّ بمكّة، ويرجع سببه إلى مسألة توحيديّة فلسفيّة، وإن شاء الله سنبيّنها في مكانها، ففي كلّ موضع من مكّة سواء في المسجد الحرام أو غيره لا بأس أن تصلّي المرأة إلى جانب الرجل بل حتّى أمامه ـ ثمّ قال لي: ألا يحصل عندكم أيّ تشويش؟ قلت: لا، قال: أيّ السور تقرأ؟ قلت: مثلاً أقرأ أحياناً في صلاة الطواف سورة هل أتى وأحياناً سورة الفجر... فقال: أبهذا الحجم؟ قلت: نعم، فما الإشكال في أن يقرأ الإنسان السور الطوال في صلاة الطواف، وقد قرأت يوماً سورة الإسراء (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام...) وقلت له أنّي لم أشعر بلذّة صلاة كصلاة الطواف. أفهذه الصلاة وتلك التي تؤدّى في حال من الاضطراب والتشويش سواء؟ وقد رأيت أحد كبار الشخصيّات العلميّة ـ لن أذكر اسمه ـ وكان واقفاً على بعد مترين منّي وكان يرتجف مع أنّه لا يعاني من مرض يسبّب ذلك، وإنما كان يرتجف هناك اضطراباً وخوفاً من أن تحرم عليه زوجته!! فلتحرم زوجتك..!! ما المشكلة لو حرمت عليك بضعة أيام؟!! (مع ضحك ومزاح) هذا والحال أنّك لا تجد نقطة على وجه الأرض يبلغ فيها ارتباط الإنسان بالله ما يبلغه في المسجد الحرام، أين يمكن أن تجد قوّة حال الارتباط بالله كما تجدها خلف مقام إبراهيم عليه السلام؟
نحن نتّجه نحو الانحراف.. نحن نسير خلافاً لأوامر أوليائنا.. فعندما تصلّي صلاة الطواف لا بأس في أن تقرأ سوراً طوالاً، فلتقرأ "الإسراء".. ولتقرأ "الحديد" أو "الحشر". طبعاً لا بدّ أن تراعي حقوق الآخرين في الصلاة في هذا المكان، فإن كان خالياً فاقرأها، وإن كان مزدحماً فاقرأ قصار السور، عندها انظر كم ستكون مؤنسة وجميلة تلك الصلاة!! فأنت جئت إلى هذا المكان وها أنت تقوم بتضييق حلقة الارتباط والوصل بينك وبين الله، وها أنت تجعل نفسك تستغرق في فضاء البوارق الجماليّة والنورانيّة الربوبيّة، فلماذا تحبّ أن تخرج من هذه الحالة؟ لأيّ شيء؟! عندما تكون في خلوة مع محبوب لك، هل تفكّر في أن تنتهي الخلوة مبكّرةً قبل خمس دقائق أو نصف ساعة؟! أم لا، بل تقول ليتها تطول ساعة وساعتين وثلاث وأربع وعشر ساعات؟ أما عندما يكون الإنسان في جوّ خانق فإنّه يتمنّى لو يخرج مبكّراً وينتهي الأمر ويتحقّق الفرج. هكذا ينبغي أن ننظر إلى المسألة.

    

ترتيب الأولويات بحسب الرضا الإلهي

افرضوا أنّا مكلّفون بهذا... ما دام هذا العمل يؤدّي إلى التقليل من احترام مؤمن وإيذاء قلبه فهنا كيف ينبغي أن أتصرّف؟! أخبرنا المرحوم العلاّمة يوماً عن أحد كبار علماء كرمانشاه وكان معاصراً لفرهاد ميرزا، وفرهادُ هذا هو من أبناء فتح علي شاه القاجاري، فقد كان لهذا الأخير الكثير من الأبناء وهذا أحدهم ـ ويبدو أنّ فتح علي شاه كان رجلاً موفّقاً لا يقضي أوقاته بالبطالة، بل كان يقضيها بتكثير القائلين بـ "لا إله إلا الله" وكان يكثر من صادراته... ـ فهذا أحد أبنائه الذين كانوا ينتشرون هنا وهناك، ومن المعلوم كيف يكون أبناء الملوك؟! ولكن على أيّ حال كان فرهاد ميرزا رجلاً صالحاً ومن أهل العلم، درس العلوم الحوزويّة كما درس علم الهيئة والرياضيّات والتاريخ وكان عالماً، كما تتلمذ مدّة عند أحد الأولياء العظام وتربّى لديه وكانت له حالات جيّدة، وهو مؤلّف لبعض الكتب التي تحتوي على موضوعات متنوّعة كتبها على نحو كشاكيل ضمّنها موضوعات مفيدة، وهو ينقل أنّه عندما كنت في كرمانشاه أعددت إفطاراً ودعوت هذا الرجل الجليل ـ وقد نسيت اسمه.. المرحوم.. الكرمانشاهي.. وكان من أصحاب القلوب ومن أهل الباطن وكان رجلاً ذا شأن ينقل عنه أهل كرمانشاه العديد من الكرامات وخوارق العادات ـ وعندما أحضِر الأرزّ كان فرهاد ميرزا جالساً إلى جانب هذا الرجل صاحب الكرامات، ولم تكن الدعوة في بيت فرهاد ميرزا، بل في بيت أحد التجار، وبعد أن شرع ذلك الرجل بتناول الطعام رأى فرهاد ميرزا في الأرزّ شيئاً أسود اللون، فظنّه فضلة فأر، فصاح بأعلى صوته: يا خلق الله لا تأكلوا..! لا تأكلوا..! فهذا الأرز ينبغي اجتنابه.. لقد رأيت فيه شيئاً... وشرع ببيان الحكم الشرعيّ والتكليف...
أنت رأيت فلا تأكل!! ضعه جانباً وكل الطعام بالخبز، وقل إنّ وضعي يقتضي أن آكل الخبز، فيمكن للإنسان أن يلتمس ألف عذر ويخرج من الموقف بنحو مقبول، ولا داعي لأن يتصرّف بنحو يؤدّي إلى ما هو أخطر من نجاسة الطعام، وهذه المسألة من الأمور التي بينها العظماء لنا كدستور في أمور مختلفة؛ ومنها في التغذية، فضلاً عن المسائل الأخرى التي ينبغي رعايتها، وعليه أن يعلم أين يكمن الرضا الإلهي؟ فهؤلاء الذين اشتغلوا بهذه الأمور ضلوا الطريق إلى الله، وأضاعوا المقصد وبقوا في منتصف الطريق، وعلى الإنسان أن يعثر على الطريق.. وهذا من الأمور العجيبة جداً.. في أحد الأيام كنت أستمع إلى كلام المرحوم العلامة مع أحد الأصدقاء؛ حيث كنا في طريقنا إلى بعض الأماكن، وكان قد وضع شريطاً مسجلاً للمرحوم العلامة، فقال هل ترغب في الاستماع؟ قلت له نعم لنستمع إليه، وكان طي المسافة أمامنا يستغرق نصف ساعة أو ثلاث أرباع الساعة.. وكان يتحدث حول أن النبي كان قد وضع رأسه على رجل أمير المؤمنين عليه السلام.. على رجله أو على عباءته، ونام عليه وفاتت أمير المؤمنين عليه السلام صلاة العصر... فلو كنا نحن مكانه ماذا فعلنا؟ كنا قلنا بأن هذه صلاة العصر الواجبة، وقمنا بإيقاظ النبي، وقلنا في أنفسنا بأنه قد نام ويكفيه هذا المقدار من النوم، فحتى لو لم يكتف يمكنه أن ينام بعد إيقاظه، ما الإشكال في أن ينام مجدداً؟ فالصلاة قد تفوتنا، وإذا فاتت الصلاة منا اضطرب العرش والملكوت معاً، بل يضطرب العالم بأسره، ولا يعود جبرئيل نفسه يدرك ماذا عليه أن يفعل، فالجميع سوف يتعطل عن عمله حتى يقوم شخص مثلي بأداء صلاته ويستلمها الملائكة منه وينقلونها إلى عرش الله تعالى، ويهدونها إليه ليرى عبده كم هو مطيع له! لقد وضع هذا العبد رأس النبي جانباً حتى لا تفوته الصلاة، أترون كم هو هذا المقام عال؟ فالملائكة كلهم مصطفون وينتظرون منا أن نؤدّي الصلاة حتى يقوموا برفعها إلى الله تعالى.. لو كنا نحن مكان أمير المؤمنين لفعلنا هذا الأمر.. فصلاة العصر واجبة، وإيقاظ النبي ليس حراماً.. فلنوقظه، ما المشكلة في ذلك؟ لكن أمير المؤمنين لم يفعل ذلك، ولعل أمير المؤمنين أدى صلاته حال الجلوس، نحن لا نعلم، فالصلاة يمكن أن تؤدّى بأي نحو كان، فإيقاظ النبي محذور.. نعم لم يرد في الروايات أن الإمام عليه السلام قد صلى من جلوس، لكن لنفترض أنه صلى من جلوس، ولم يتمكن من الصلاة إلا كذلك، فالإمام يرى الأمور من منظار آخر، فهل إيقاظ النبي أهم من الصلاة ومن الضرر المتوجب على إيقاظه وإزعاجه وإخراجه عن حالة الهدوء والسكون الذي يعيشه النبي، أو أن أداء الصلاة هو الأهم؟ هنا يأتي دور الشم العرفاني والنور الإلهي والبصيرة الباطنية التي تعمل على مساعدة الفقه التخصصي والاجتهادي والاستنباط.. وتبيّن حكم الله الواقعي والحقيقي في هذه المسألة للفقيه، بينما من لم يكن لديه هذه البصيرة والنور سيقول: أيقظ النبي، فإيقاظ النبي ليس حراماً، بل أقصى ما يمكن أن يتصف هو أن يكون مكروهاً، بينما صلاة العصر واجبة، وعند التعارض بين المكروه والواجب فالإلزام يقف في جانب الواجب على حساب المكروه.. لكن المرحوم العلامة يقول بأن أمير المؤمنين يرى أن أصل الصلاة موجودة في جانبه، حقيقة الصلاة موجودة عنده.. لماذا يصلي الإنسان؟ لأجل أن يحصل لديه قرب.. قرب إلى من؟ إلى رسول الله، بينما نقوم نحن بإيقاظ رسول الله وإخراجه من حالة الاستراحة.. وقد يحصل له وجع رأس أو آلام أخرى نتيجة ذلك.. بل حتى لو لم يحصل له شيء من ذلك أصلاً، بل قمنا بإيقاظه من نومه فقط.. فتلك الحالة التي نقوم بها على حساب استراحة النبي أو استراحة أي شخص آخر.. وهنا تظهر الكثير من المسائل، فالمسألة ليست مختصة بالنبي، فلدينا الكثير من أفق البصيرة والتفقه الواقعي والحقيقي الذي يحصل للإنسان.. أمير المؤمنين عليه السلام يقول فلتذهب الصلاة، لا داعي لها.. لكن لا يحصل أي إزعاج لرسول الله ولو لثانية واحدة. فلتفت الصلاة لمائة عام لكن لا يخرج رسول الله عن هذه الحالة التي هو فيها.. وهذا ما فعله أمير المؤمنين فعلاً، وعندما فعل ذلك، استيقظ النبي من النوم ـ وهذه الأمور والأحداث كانت متعاقبة ـ فسأله هل صليت يا علي؟ قال له: لا لم أصل، فسأله لماذا لم توقظني؟ قال: حتى لو بقيت مائة عام وفاتتني الصلاة فيها لن أوقظك، لماذا أوقظك؟ ولو قضيت صلاتي ألف مرة.. نحن نقول هذا على لسان أمير المؤمنين، لا أدري ماذا أجابه الإمام.. ولو لم يفعل الإمام ذلك بل أراد أن يوقظ النبي لكانت صلاته قد فاتت أيضاً؛ حيث إنه يريد أن يذهب ويتوضأ.. لكن النبي قال له لا بأس عليك، بما أنك فعلت هذا والحال أنه لا بد أن تصلي أداءً تعال وامر الشمس بالرجوع وصل صلاتك أداء، حتى يعلم الناس جميعاً سر هذا العمل الذي قمت به، فإن سر هذا العمل هو أن الإنسان يستطيع أن يعيد الشمس.. فعلاً يعيدها.. فإعادة الشمس ليس من شأن أمير المؤمنين، بل هو شأن طفل صغير في مدرسة أمير المؤمنين، إذ من الإهانة في حق أمير المؤمنين أن نقول إنّ من شأنه أن يعيد الشمس أو أن يحفظ السماوات.. ألم يفعل آصف بن برخيا ذلك.. ألم يعد الشمس؟ ألم يأت بعرش بلقيس بطرفة عين؟ آصف بن برخيا من جهة القدرة الروحية التي لديه وظهور الأسماء الإلهية في نفسه ـ كما يبين الإمام الصادق عليه السلام ـ كان لديه درجة واحدة فقط، بينما نحن أهل البيت لدينا أكثر منه باثنين وسبعين ضعفاً، يعني أن الله تعالى جعل فيه درجة واحدة من اثنين وسبعين درجة من الاستعداد والحضور في إجراء المشيئة الإلهية، وبهذه الدرجة الواحدة استطاع أن يأتي بعرش بلقيس بطرفة عين، وأمكنه من التصرف في جميع الأفلاك والكواكب، لقد جعل الله تعالى مادة المخلوقات بيد آصف بن برخيا من خلال هذا الاسم، بينما الإمام الصادق عليه السلام يقول: لدينا اثنين وسبعين ضعفاً مما لدى آصف بن برخيا.. إذا كان الأمر كذلك فما الذي سيحصل؟ وماذا سيعني ذلك؟ ثم يقول الإمام إن شيعتنا مثلنا في ذلك، ومن هنا يعلم بأن هذه الأمور من شأن طفل صغير في مدرسة الإمام، فأمير المؤمنين عليه السلام قد وصل إلى حقيقة المسألة والأمر ووصل إلى باطن الدين، ولم يجعل هذه الصلاة منزلاً نهائياً له، بل جعلها جسراً وقنطرة للوصول إلى المقصود.
قام السيد فرحاد ميرزا الذي كان إلى جانب هذا الرجل وصاح بالناس، لا تأكلوا! يوجد في هذا الطعام شيء.. فالتفت الناس إليه وقال لهم تعالوا وانظروا هذه فضلة فأرة في الطعام، وهذا يعني أن جميع الأرز المطبوخ جميعه نجس، وعليكم أن تلقوه جانباً. فأتى صاحب المنزل وهو منزعج من ذلك.. وحصل اضطراب في المجلس.. لكن هذا الأمر خطأ كبير.. لذا قام ذاك الرجل... هؤلاء هم مربو النفوس، هؤلاء الذين يعطون الناس طريق السلوك.. قام وقال لهم لقد اشتبه فلان في هذا الأمر، ففضلة الفأرة إنما سقطت من لحيته في إنائه.. أنظروا.. ووضع يده تحت لحيته وبدأت الفضلات تتساقط من لحيته واحدة تلو الأخرى.. وكأنّ لحيته كانت مخزناً للفئران.. لقد سقطت هذه الفضلة من لحيته ونسبها إلى صاحب المنزل. ثم نظر إليه وقال له أهكذا أفضل؟ إذا حصل لك أن شاهدت مثل هذا الأمر لاحقاً عليك أن تطرق برأسك فقط، فلماذا تريق ماء وجه صاحب المنزل بهذا الشكل؟ بعد ذلك أتى فرحاد ميرزا وسلّم له وبايعه على أن يجعله إنساناً، لذا عندما كان يُسأل من أين حصلت على هذه المقامات؟ يقول إن ذاك الرجل العظيم هو الذي جعلني إنساناً في تلك الليلة، في تلك الليلة ذاك الرجل هو الذي جعلني آدماً، وقد اتبعته في ذلك.. كم هو هذا الرجل كبير، لقد كان ذكياً وفطناً وكان صاحب فهم.. ولو كنا نحن وأمثالنا في ذلك المقام، ماذا فعلنا؟ كنا نقول الأفضل الاحتياط في المسألة، فالأحوط أن لا يأكل الإنسان من هذا الأرز.. وبالتالي يغرق صاحب المنزل المسكين في بحر من الخجل.. فيقوم بالاعتذار.. إن الفرق بين المدرسين هو هذا، هذه المدرسة هي مدرسة حفظ حرمة المؤمن، وحفظ احترامه وحفظ شخصيته، وأما سائر المطالب الأخرى فيقتصر فيها على الظاهر، والتوقف على الظاهر فقط، واعتبار الظاهر هو الحاكم فيها، لذا قلت للإخوة بأني أذكر هذا الأمر من باب المثال، إذ ليس من الصحيح أن يسأل الإنسان أينما ذهب: كيف أتيت بهذا المال؟ ومن أين حصلت على الطعام؟ فهذا أمر قبيح، بل ينبغي الحمل فيه على الصحة.

    

كيفية التعامل مع الطعام المشتبه

نعم، إذا كان الإنسان في مورد مشكوك، فعليه أن يقدم مقدمة تمهيدية.. ثم لا يأكل مثلاً من هذا الطعام بنحو من الأنحاء، أو إذا رأى أنه لا بد من ذلك وأنه إذا لم يأكل منه سيوجب انكساراً في نفس صاحبه.. فليأكل من ذاك الطعام، ثم يتصدق بثمنه. إذا كان في الطعام إشكال فليجعل شيئاً من المال جانباً بعنوان صدقة ويتصدق به ويأكل، ولن يحصل في هذه الحالة شيء؛ لأن هذا المال يصير حلالا بمجرد أن ينوي الصدقة في نفسه، حيث يتبدل ملكوت هذا الطعام في الواقع بذلك، فحتى الآن كان لهذا الطعام صورة معينة، لكنه من الآن فصاعداً صار له حكم آخر، وتغيرت حالته بمجرد أن نوى.. بهذه السهولة فتح الأولياء الباب أمامنا، وأتوا وعينوا لنا الطريق بشكل واضح، لماذا نقوم نحن بتعقيد الأمور؟ ولماذا نصعب الأمور على أنفسنا؟ لماذا؟ لا، بل يمكن للإنسان أن يعمل على أساس هذه الكيفية.
لذا، ينبغي مراعاة هذه المسألة في موضوع الطعام، ففي الموارد المشتبهة على الإنسان أن لا يأكل من الطعام المشكوك، وإذا كان المورد حراماً فهو حرام.. وإذا أكل فهناك أثر سوء سيترتب عليه، لكن في بعض الموارد التي لا بد من تناول الطعام فيها ولا مندوحة في الفرار منه.. يمكن للإنسان أن يعمل بما ذكرنا ولا يعود هناك أي إشكال في ذلك.
وهذه المسألة مرتبطة بالجهة الملكوتية والجهة المثالية للطعام والمأكولات، وكما ذكرنا للإخوة فإن هذه المسألة سارية في موارد العمل والأكل وسائر الأمور التي يقوم الإنسان بها؛ كالأفعال التي يأتي بها والعلاقة بينه وبين الأفراد.. كل هذه الأمور لها صورة مثالية وصورة ملكوتية تجعل نفس الإنسان تتحد مع تلك الصورة الملكوتية، وبواسطة هذه الصور الملكوتية والمثالية يحصل للإنسان التوفيق للعبادة والتوجه والتقرّب.. أو لا يحصل، فهذه الأمور ترجع إلى تلك، وما دامت نفس الإنسان لم تحصل على الاستعداد للتوجه إلى الله تعالى لا يمكن للإنسان أن يهيئ نفسه، فروحه غير مستعدة لذلك، وإذا فرضنا أنه قام إلى الصلاة يقوم إليها ويصلي بكسل، ويرى نفسه مكرهاً عليها، لا يشعر في نفسه بشوق إليها أبداً، لا يحصل له انبساط منها، لذا يجب أن يحصل التوجه إلى الله تعالى بنفسٍ نورانية وصورة مثالية نورانية، والحال أن الصورة الملكوتية والصورة المثالية قد شوهها هذا الشخص بأعماله ومأكولاته التي تحتوي على صور مثالية غير مناسبة، لذا يشعر الإنسان في نفسه بالكسل والفتور والارتخاء.. يقول لنفسه فلنذهب ولننم، وإذا لم نفعل هذا الأمر الهام فلا بأس. ما يشاهده الإنسان في نفسه مرتبط ـ كما ذكرنا ـ بعبادة الإنسان بشكل مباشر، والإمام الصادق عليه السلام إنما يؤكد على أهمية الغذاء لهذا الأمر.
إنشاء الله سوف نذكر في جلسة قادمة أن الإمام عليه السلام لا يتحدث عن مسألة الحرمة، بل يتحدث عن الإباحة عن قلة الطعام وكثرته، وعن ما هو مفيد وعما هو مضر.. وجميع هذه الأمور ترجع إلى ما ذكرناه؛ بمعنى أن هذه الأمور عبارة عن سلسلة متكاملة من الحلقات مترابطة.. وجميع هذه الحلقات تؤدي إلى أن تؤثر في نفس الإنسان وروحه باعتبار حالة الترابط الذي بين روح الإنسان وبدنه وظاهره، فجميع هذه الأمور ترجع إلى تلك العلاقة، وإلا فلو أكل الإنسان حتى يمتلئ، أي أثر سيؤثر على الصلاة؟ هل هناك علاقة؟ نعم هناك علاقة، وهذا ما ينبغي أن نبحثه، لكن هذه العلاقة بأي نحو هي؟ فلماذا تؤثر قلة الأكل وكثرته على سلوك السالك؟ لماذا يؤثر الأكل المشتبه؟ لقد ذكرنا مسألة الأكل المشتبه.. أما بالنسبة إلى نفس الطعام والتغذية وتأثيره على البدن؛ أي الطعام الموجب لغلظة الدم.. والطعام الموجب لرقة الدم.. والطعام الموجب لزيادة الصفراء عند الإنسان أو السوداء.. جميع هذه الأمور لها دخالة في كيفية تأثير الذكر الذي يذكره السالك.. جميعها تؤثر. نعم، سنذكر لاحقاً أن الذكر الفلاني مثلاً يجب أن يحصل مع هذا النوع من النظام الغذائي، ونبيّن سبب ذلك؟ وأنه إذا لم يتم مراعاة ذلك فما الذي يمكن أن يحصل؟ هذه الأمور أسرار، يمكن بيان بعضها، لكن لا بد أن يصل الإنسان إلى بعضها الآخر، وسوف نذكر للإخوة مثالاً على ذلك.. وعلى كل حال هذه مسألة ينبغي التفكير فيها، فسبب تحذير العظماء من مسألة الأكل من أي نوع من الطعام وبأي كمية.. إنما هو للإشارة إلى التغيير الذي يحصل في الصورة المثالية للنفس بواسطة ذلك، وتلك الصورة المثالية لها أثر كبير على حركة الإنسان وتوقفه.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا.. لعلنا تأخرنا الليلة ولم نستطع أن نقف على الوقت.. إنشاء الله نذكر سائر المطالب في المجلس اللاحق، بالإضافة إلى ذكر بعض النقط التي كان يعمل بها العظماء وأوصوا بها تلاميذهم، ونشير إلى فهم الاختلاف بين المطالب المختلفة التي نقلت عنهم وأنه متى يعمل الإنسان بها وفي أي موقعية يمكنه ذلك، بحيث تكون موافقة لمصلحته إنشاء الله.
اللهم صل على محمد وآل محمد.


[1] ـ صدر الآية 32 من سورة الأعراف.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی