معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > محاضرات متفرقة لآية الله السيد محمد محسن الطهراني > اختلاف حالات الإنسان باختلاف ظروفه

_______________________________________________________________

هو العليم

محاضرة حول
اختلاف حالات الإنسان
باختلاف ظروفه

الزمان والمكان: الأهواز 19 محرّم 1432 هـ

المحاضر: السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني

 

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف                                          

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين.

    

الوحدة أساس الوجود

قال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُون}[1]
كنت أُفكّر فيما ينبغي أن أتحدّث فيه مع الأخلاّء، فانقدحت هذه الآية في ذهني، وقلت: يمكن أن أتحدّث قليلاً حول هذه الآية. نعم، رأي الحقير ـ كما هو رأيكم أيضاً ـ في لقاء الإخوان إنّما هو تبادل المطالب والأفكار والآراء، وبالتالي يمكن أن أستفيد من الأخلاّء، كما إذا كان هناك مطلب أو سؤال فسأكون مسروراً في الاطّلاع عليه ضمن حدودي وسعتي واطلاعي على تلك الأسئلة والمطالب.
وحتّى الآن لم تصلني ورقة أو سؤال، وإذا سمح لنا الأخلاّء فيمكن أن نتحدّث حول مسائل مختلفة في حدود ما يجيزه وقت المجلس لنا.
وهذه الآية التي ذكرتها في بداية الكلام آية عجيبة جدّاً، ويمكنني القول بأنّها من أهمّ مفاتيح الآيات القرآنية، ومع أنّ جميع الآيات القرآنية قابلة للتأمّل والتدبّر، فالله لم يلق علينا في القرآن قصّة أو رواية كليلة ودمنة، بل جميع ما ورد فيه من قصص بل كلّ قصّة منها إشارة إلى مطالب أخلاقيّة، والمسائل التي تبينها إنّما هي حول كيفية تصحيح المسار والطريق وبالتالي الوصول إلى مراتب الفعلية وإيصال الاستعدادات إلى فعلياتها. لكن يلاحظ أنّ بعض هذه الآيات ملفتة جدّاً، والأفضل للإنسان أن يقرأها كلّ يوم أو يومين ويستفيد منها ويتأثّر بها، وسوف يؤثّر ذلك على علاقاته وارتباطه وكيفية تصرّفاته.
أفادت الآية: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ أن يا أيّها المؤمنون ويا أيّها المسلمون ويا أيّها الناس الموجودون في هذه الدنيا لقد أتيتم من عالم الطهارة وعالم الإجمال، ذاك العالم لم يكن فيه خلاف ونزاع، لم يكن فيه كذب وتهم وخداع واحتيال، ولم يكن فيه غيبة ونميمة، بل هو عالم ذو لون واحد:
منبسط بوديم و يك گوهر همه
                             بى سر و بى پا بوديم و آن سر همه

چون بكثرت آمد و نور سره
                             شد عدد چون سايهاى كنگره

كنگره ويران كنيد از منجنيق
                             تا رود فرق از ميان اين فريق


( لقد كنّا جميعاً في عالم الانبساط من جوهر واحد، ليس فينا رئيس ولا مرؤوس، بل رئيس الجميع هو الله تعالى
وعندما أتينا إلى عالم الكثرة وتجلّى النور فينا، صار بيننا عدد وفرق كظلال الشرفات
فاهدم تلك الشرفات بالمنجنيق، حتّى نقضي على الفرق فيما بيننا).

عندما كنّا في ذلك العالم لم يكن بيننا خصام، بل الجميع كانوا يجلسون على مائدة واحدة، فلم يكن هناك جاه ورئاسة ولا مرؤوسيّة ولا ما نشاهده هنا من عداوة.
چون كه بى رنگى اسير رنگ شد
                             موسى اى با موسى اى در جنگ شد
چون كه اين رنگ از ميان برداشتى
                             موسى اى و فرعون كردند آشتى

(عندما تنزّل الوجود المطلق الذي لم يكن متلوّناً بلون، صار هناك نزاع بين أتباع موسى أنفسهم
لكن عندما نرفع هذه الألوان والاختلافات من البين، لا يعود نزاع حتّى بين أتباع موسى وفرعون)

    

قيمة الحياة الدنيا

فجميع هذه المنازعات والخصومات والمشاكل والتهم والكذب والاحتيال التي نشاهدها الآن.. جميع هذه الأمور إنّما هي لأجل هذين اليومين في الدنيا. كم نحن في غفلة! فإنّنا بسبب يومين نريد أن نعيشهما في هذه الدنيا نقوم بكل ذلك، مع أنّه يمكن أن نقضيهما بأيّ شكل من الأشكال. الليلة ليلة الجمعة سوف تتحوّل إلى يوم الجمعة، سواء قضينا هذه الليلة بالمعاصي أو بالعبادة، أو بأيّ كيفيّة أخرى، ففي الأخير ستنقضي هذه الليلة وسوف نصل إلى الغد، فلماذا نبقى إلى هذا الحدّ في غفلة من دون الالتفات إلى أنّ علينا أن نقضي هذين اليومين اللذين نعيشهما بالشكل المطلوب، بحيث عندما نصل إلى المنزل المقصود لا نشعر في أنفسنا بحالة من الندم والحسرة.
تا رسد دستت بخود شو کارگر
                             چو فتی از کار خواهی زد به سر

(عليك بالعمل الحثيث ما دمت قادراً؛ لأنّك عندما تعجز عن العمل ستضرب يدك على رأسك ندماً)

هذه هي حقيقة المسألة، لكننا في غفلة، وهكذا نبقى في غفلة دون أن يكون هناك ما يضمن لنا البقاء أحياء إلى مائة أو مائتي سنة، بل حتّى لو كان هناك ضمان في أن نعيش مائتي سنة، لكن بعد ذلك ستنتهي هذه المدة، فماذا بعدها؟ وإذا فرضنا أنه لا نهاية لعمرنا، وأنه غير متناه، فهل الأمر هو هذا فقط؟ فلو فرضنا أنّنا سوف نبقى أحياء ما دام الله موجوداً، فهل هذه هي رتبتنا فقط؟ وهل مرتبتنا هي عالم الكذب والاحتيال والتهمة، هل هي عالم الفرية والخداع، هل هذه هي حياتنا واقعاً؟ هل هذه حياة الإنسان، وهل هذه هي الإنسانيّة؟ وحتّى لو فرضنا أنّنا نعيش إلى ما لا نهاية، فأيّ أثر سيترتب على هذه الحياة؟ أليس الأفضل أن يعيش الإنسان ثلاثين سنة مثلاً ويصل فيها إلى المقصود؟ أيّهما أفضل؟ أو أن يعيش عشر سنين ويصل فيها إلى المطلوب؟ أيّهما أفضل؟

    

هبوط قيمة الإنسان بنمط حياته

وفي عالم الحيوانيّة! ويا ليتها كانت حياة حيوانيّة فقط، فأين لوحظ في الحيوان الأفعال التي نقوم بها نحن، مع أننا ندّعي أنّنا مسلمون، فقد رأينا الأمور التي تصدر من المسلمين ومن الشيعة، فهل يصدر من الحيوان مثل هذه الأفعال؟ هل الأسد والنمر والفهد يفعلون ما فعلناه نحن ونفعله؟ أين يفعل ذلك في عالم الحيوانيّة، بل ما نقوم به أسوأ بمائة درجة، بل علينا أن نقول: إنّنا في عالم الشيطانيّة لا الحيوانيّة، فالحيوانات ستطالبنا في يوم القيامة بأنّكم اتهمتمونا بهذه التهم التي لم نفعلها. فالذئب يرحم صغار الحيوانات التي يفترسها، والنمر يرحم الصغير من الحيوانات الذي فقد أمه، وقد شوهد هذا الأمر من هذه الحيوانات فعلاً. فكيف يصدر منّا هذا الأمر؟ هذا العالم هو عالم النزاعات والتصادمات، يقول الله تعالى لنا: لقد أتيتم إلى هذا العالم للتربية والرشد والوصول إلى الفعليّة، وعليكم أن تتحرّكوا وأن تصلوا إلى تلك الاستعدادات الكامنة فيكم في عالم الإجمال، وذلك بأن تأتي إلى هذا الإجمال الذي كان في حالة الركود والسكون، وتوصله إلى حالة الفعليّة والنتيجة. فلديك استعدادٌ لأن تصير خطّاطاً.. لديك استعداد أن تصير رسّاماً أو أيّ مهارة دنيويّة أخرى، يمكنك أن تذهب إلى أُستاذ خط وتتعلّم عنده وتخضع أمامه وتستفيد منه خلال أشهر وسنين، فتحصل على فعليّة هذا الاستعداد... رحم الله السيّد حسين مير خاني الذي كان يعدّ من الخطّاطين المعروفين، بل يمكن أن أقول: إنّه أفضل خطّاطي القرن الأخير. لقد كنت أذهب إليه عندما كنت في العشرين من عمري، وكان ذلك في عهد الشاه، وكنت أذهب إليه وأتعلّم الخطّ عنده. في أحد الأيّام أتى ونصحني ـ وكنّا في حجرة درس الخطّ وكان الجميع حاضراً ـ فقال لي: يا فلان، إلى أي حدّ تريد أن تستمر في هذا الدرس عندي؟ فقلت له: لا يوجد حدّ معين في ذهني؛ فإنّي أُريد أن يكون خطّي جميلاً فقط. فقال: أنصحك بأن تستمر في هذا الدرس ولا تجعل أعمالك الأخرى تشغلك عن الاستمرار. ثمّ قال: إنّ فلاناً الذي يعدّ أفضل خطّاط في العصر الحاضر، والذي كان من تلاميذ السيّد حسن مير خاني أخ السيّد حسين أستاذنا، وكانا كلاهما أستاذاً في الخطّ، رحمهما الله جميعاً فقد كانا من الأفراد الصالحين والمتديّنين وكان سعيهم منصبّاً نحو نشر الثقافة الدينيّة والشعائر الدينيّة، لكن كيفيّة تعليم السيّد حسين ـ كما يُقال ـ كانت أفضل من أخيه السيّد حسن، فقد كان يخرّج تلاميذ بارعين. قال: إنّ فلاناً الذي يعتبر من أفضل الخطّاطين أتى إلى هذا الدرس وكان في صفّ تدريس الرسم، ولكنّه أتى في أحد الأيّام إلى هذا الصف بالصدفة وقال: لنذهب ونرى ما يجري في صفّ الخطّ، فأعطيته جملة ليكتبها بخطّ جميل؛ كي أعلم مستواه.. وأتى في اليوم التالي وأحضر ما طُلب منه، فرأيت أنّه كتب ما كتبته له تماماً مع اختلاف بسيط، فعندما رأيت ما كتبه قلت له: أريد أن أقول لك أمراً: الرسم بالنسبة إليك لا يعني شيئاً. عليك أن تكون خطّاطاً، فلديك استعداد لتعلّم الخطّ. فهذا الأستاذ يعلم ذلك، الأستاذ يعرف أنّ التلميذ يمتلك استعداداً أم لا؟ وأنّه هل ينفع في هذا الطريق والمسير أم لا؟ قال له: من الظلم في حقّك أن تبقى تحضر درس الرسم، بل تعال واحضر درس الخطّ، وفعلاً أتى وقبِل نصيحته واستجاب له، وصار أوّل خطّاط في إيران بعد أستاذه. فالأستاذ أتى وبيّن ذاك الاستعداد الذي كان خافياً حتّى على نفس الرجل وغافلاً عنه، فرفعه وقوّى ذاك الاستعداد عنده حتّى وصل إلى ما وصل إليه.

    

دور إطاعة الله وعبوديّته في رقيّ الإنسان

والله تعالى يقول: لديك قابليّة ولديك استعداد، فذاك الكمال الاستعدادي الموجود لديك يمكن أن تصل إليه في هذه الدنيا وتصل إلى الفعليّة، وتصل إلى مرتبة يمكنك أن تفعل ما أفعله أنا. ماذا يفعل الله تعالى؟ يحي الموتى. ألا يفعل ذلك الإنسان؟ بل يفعل ذلك، فقد رأيت بنفسي أحد الأصدقاء الذي أحيا ميّتاً، وذلك في زمن المرحوم العلاّمة. كان يحي الموتى، ماذا يفعل؟ ماذا كان يفعل النبي عيسى عليه السلام؟ ألم يكن يحيي الموتى؟ وقد وصفته الآية {تُحْيِي الْمَوْتَى}. ماذا يفعل الله أيضاً؟ الله يخلق، ونحن يمكن أن نخلق أيضاً، لا أن نحيي الموتى فقط، فمسألة إحياء الموتى بسيطة، فالميت جسم له روح، الروح في عالمها والجسم يكون في مقبرة مثلاً، ويقوم العبد الصالح بالإتيان بتلك الروح ويركّبها في هذا الجسم، والتعبير بالتركيب ليس صحيحاً بل يجعلها متّحدة به، فيقوم الشخص الميّت من قبره، وهذا الأمر موجود. أمّا بالنسبة إلى الخلق فهو أعظم، أليس لدينا في الآية القرآنية قوله {وإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْني‏‏} فأنت تخلق، دون أن يكون هناك ميّت، فتقوم بجمع الطين وتصويره بشكل معيّن، كما هو الحال في بعض المجسّمات المصنوعة من الشمع، كأن تجعل سمكة مثلاً أو حيّة أو سائر الحيوانات، هذه المجسّمات الشمعيّة يمكن أن تُعطى روحاً، ماذا يكون ذلك؟ سيكون خلقاً. الآية تقول للنبي عيسى: اجعل من الطين على شكل طير، {فَتَنْفُخُ فيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْني}، فبعد أن لم يكن فيه روح تحلّه الروح بالنفخ فيه فيتبدّل إلى طير حقيقي فيطير، وذلك ليس خداعاً ولا سحراً، أليس هذا خلقاً؟ هذا خلق فعلاً، والحال أنّ الخلق لله تعالى، فكيف خلق عيسى؟ ولماذا خلق الإمام الرضا عليه السلام؟ ولماذا خلق الإمام موسى بن جعفر عليه السلام؟ الإمام الرضا عليه السلام عندما أتاه ذاك الساحر الهندي الذي جاء به المأمون للاستهزاء بالإمام الرضا عليه السلام أمام بعض الأشخاص، فكان يفعل بعض الأمور به، كأن يبعد الخبز من أمامه، فعندما كان يمدّ الإمام يده لتناول الخبز كان ينقل الخبز من تحت يده بقوة نفسه التي كان يمتلكها، وفعل ذلك مرة أخرى فشرع المأمون والحضور بالضحك والاستهزاء، ولسان حالهم أنّ هذا إمام وقد فعلنا به ذلك، فالإمام لا يمكن أن يبقى ساكتاً في مثل هذه الموارد، فالإمامة في خطر، ولا يمكنه أن يقول: دعه يفعل ما يحلو له، بل قام الإمام عليه السلام بالإشارة إلى أسد كان مصوّراً على الستار ـ لم يكن هناك أسد ميّت، بل الذي كان صورة أسد ـ فأشار إليه الإمام وقال: «يا أسد الله، خذ عدو الله». فتحوّلت تلك الصورة إلى أسد حقيقيّ وزنه ثلاثمائة أو أربعمائة كيلو لا أعلم فالرواية لم تذكر وزنه.. فافترسه كلّه، وجلس بين يدي الإمام وأشار إلى المأمون: هل أفترسه أيضاً؟ فأغشي على المأمون، فقال الإمام: لا هذا يكفي. وبعد أن أفاق المأمون شاهد أسداً كبيراً؛ رأسه بمقدار رجل، فقال له الإمام: أتتجرّأ على الإمامة؟ هل أُشير عليه أن يجهز عليك كما فعل بصاحبك؟ فما كان منه إلاّ أن انكبّ على قدمي الإمام معتذراً منه. لذا لا ينبغي أن يقاس السحر بالمعجزة، فماذا تفعل أنت؟ من هو السامري الذي كان له يد بيضاء؟ بعد ذلك أشار الإمام إليه أن عد من حيث أتيت، فتبدّل الأسد إلى صورة على الستار. هذا هو الخلق، وأمثال هذه القضية التي يمكن للإنسان أن يقوم بها، فجميع هذه الأمور من المسائل يمكنها أن تساعد في الوصول إلى المطلب الذي نريد بيانه، وهو مسألة التوحيد الأفعالي الذي كتبنا عنه في مقدّمة كتابنا أُفق الوحي.
وقد ورد في الحديث القدسي: «عبدي أطعني حتّى أجعلك مثلي، أقول للشيء: كن فيكون، وتقول للشيء: كن فيكون». يعني: عبدي أطعني حتّى أجعلك مثلي، عندما أقول للشيء كلمة (كن) التكوينيّة بإرادتنا ومشيئتنا الموجبة للخلق الخارجي وخلق الأعيان في عالم الشهادة، فأنت كذلك يمكن أن تظهر إرادتنا في منصّة الظهور في عالم الأعيان والخارج، لا الإمام فقط ولا النبي فقط يمكنه ذلك، بل يمكن ذلك حتّى لشيعة الأئمّة وللأولياء الإلهيّين، فيمكنهم أن يفعلوا ذلك أيضاً. ومع ذلك يرون أنّ هذه المسألة بالنسبة لهم عيب ونقص.

    

صبغة الله هي التلون بلون الربوبيّة

هذه المسألة هي إظهار الاستعداد الذي وعده الله تعالى لعباده، لكن بماذا يحصل هذا الأمر؟ يحصل بصبغة الله، أي: عندما يصطبغ الإنسان بلون الله تعالى، فالصبغة يعني التلوّن، أي: يتلوّن الإنسان بلون الله تعالى، يتلوّن بلون عالم الربوبيّة، يصير وجوده وجوداً متناسباً وملائماً لعالم الربوبيّة، هذا هو معنى صبغة الله. والنفس يمكنها أن تحصل على ذلك. ومن أحسن من الله صبغة! أي شيء أفضل من أن يحصل الإنسان على صبغة الله تعالى، فأيّ لون يأخذ الإنسان؟ هل يتلوّن بلون السارق؟ لون الكاذب؟ بأيّ لون يتلوّن؟ بلون المذنب والشقي؟ بلون الجلاّد؟ أي لون يتلوّن، وبأيّ شكل يتشكّل؟ وإلى أُفق يقرب نفسه؟ هل يقترب من أُفق أهل الدنيا والمعاصي والشيطنة؟ أو يقترب من أُفق الربّانيّين وأُفق الملأ الأعلى والمقرّبين؟ والإنسان يمكنه ذلك حتماً، يعني: أنّ الإنسان يمكنه التحمّل والترقّي والوصول إلى ثقافة عالية، ويمكنه تحمّل القيم، كما أنّه يحمل إمكانية أن يكون ضدّ الترقّي والوصول إلى ثقافة سافلة، فالنفس الإنسانيّة لها ميل نحو كلا الطرفين.

    

أثر المعصية على نفس الإنسان

عندما يجعل الإنسان نفسه في مسار يتّجه ضدّ القيم، فسوف تضمحل شيئاً فشيئاً تلك الأُصول الراسخة في نفسه وفطرته وخلقه، وهذه الأمور لا تحدث في ليلة واحدة، بل تكون المعصية في أول الأمر بالنسبة له قبيحة جدّاً، فعندما يقوم بذنب يبقى يعاتب نفسه ويذمّها على هذا الخطأ والفعل القبيح الذي صدر منه؛ إذ النفس لم تتلوّن بعد بالمعصية، بل لا تزال على فطرتها، لكن عندما يعصي معصية يحصل في نفسه خدشة، فترى النفس أنّها لم تعد تنسجم مع تلك الفطرة التي كانت عليها، ولم تعد تتواءم مع ما جعله الله فيها وخلقه، وعند ذلك تبدأ باللوم والعتاب: لماذا فعلت هذا الأمر ولماذا ارتكبت هذا الخطأ؟ وبذلك يعلم أن باب التوبة ما زال مفتوحاً أمام هذه النفس، وباب الرجوع لا يزال مفتوحاً أمامها، والقابلية لا تزال موجودة، لم يذهب استعداده بعد، فيمكنه أن يجبر هذا النقص ويرممه ويصلحه، لكن إذا أذنب ثانياً يلوم نفسه ويعاتبها ويقول: لقد غلبني الشيطان. لكن في المرة الثانية لا يكون لومه لنفسه مثل المرة الأولى، وشعوره هذه المرّة ليس كالمرّة الأولى، وهذا يعني أنّ اللون قد خفت قليلاً، ذاك اللون الإلهي ذهب وأتى مكانه لون غير إلهي واختلط به. وفي المرة الثالثة عندما يقوم بهذا الذنب يرى أنّ المسألة أصبحت أسهل عليه، فاللون بدأ يتغير، فالقيم بدأت تتغير، وهذه المسألة عجيبة واقعاً؛ فكيف للإنسان أن لا يرى الأمور المخالفة أنها أمور مخالفة. فإذا فرضنا أنّنا من الناحية الظاهرية ـ بحمد الله ـ في حالة ظاهرية جيدة ليس فيها فساد ظاهري ولا ذنب ظاهري، مع عدم الالتفات إلى الباطن، نرى أن الناس في الشوارع يتصفون بالرزانة، فتصرفهم جيد ولباسهم جيد، النساء محجبات، ضمن حدود ما نشاهده فعلاً، وهذا الأمر يسبب لنا إحساساً لطيفاً. لكن عندما نذهب إلى بلد آخر نصطدم بالواقع هناك، فحتّى لو كنا نرى الناس هنا يلبسون حجاباً عادياً لا يستر جميع الشعر، لكن الأمر في تلك الدول يكون بالنسبة لنا غير متوقع إلى حد أننا نفاجأ بتلك المظاهر، حتّى لو كنّا في بلد إسلامي؛ كسورية مثلاً، فسوريا دولة إسلامية، لكن فيها نساء غير محجبات، وفيها محلات تبيع المحرمات. وفي هذه الحدود، كم سيكون الأمر غير مأنوس بالنسبة لنا! وهكذا إذا ذهبنا أبعد من ذلك، نرى أن الأمور في الدول الغربية مثلاً لا تعتني بهذه الأمور أصلاً، لا يلتفت إليها الإنسان أصلاً، لماذا الأمر عندهم كذلك؟ لماذا يضع الإنسان نفسه في فضاءٍ وجوٍّ يرى فيها الأعمال القبيحة أمراً عادياً يمكن القبول به؟ كنت في بعض أسفاري إلى تلك الدول منذ مدة بعيدة أريد الانتقال من مدينة إلى مدينة أخرى، فشاهدت أموراً كانت عجيبة بالنسبة إلي، ولم تكن هذه الأمور مورد قبول أبداً، فكيف يمكن للإنسان أن يتحمل هذه الأمور التي تخدش في غيرته كرجلٍ، ومع أنّ المرأة تميل إلى الاستئثار بزوجها فقط، يصدر منها حركات قبيحة وشنيعة لا يمكن للإنسان أن يتصورها، وترى أنه أمر سهل ويسير؟ لماذا يصل الإنسان إلى هذا الحد؟ إذا لاحظنا المجسمات التي تصنع في الدول الغربية، كالتماثيل التي ينصبونها في الميادين والساحات وفي المتاحف، فإن بعض تلك المجسمات عارية تماماً مع جميع التفاصيل القبيحة والمعيبة، دون أن يعترض أحد على ذلك. كيف يمكن للإنسان أن يصل إلى هذا المستوى؟ هذا الأمر كان عجيباً جداً بالنسبة إلي؛ فالتمثال الذي يبلغ طوله ثلاث أو أربع أمتار ينصب أمام الملأ عارياً تماماً، ويشاهده الرجال والنساء والأطفال، دون أن يترك أي أثر عندهم وكأنّهم ينظرون إلى حائط، ما هذا؟ هذه هي البيئة والثقافة التي يمكنها أن تبرر أسوأ الأعمال القبيحة عند هؤلاء، فالإنسان يصل به الأمر شيئاً فشيئاً إلى أن يحدث في إحدى التظاهرات في بعض المدن أن يقوم ثلاثمائة شخص من المتظاهرين بنزع ثيابهم تماماً لنيل طلباتهم، فهل وصول الإنسان إلى مراده ينبغي أن ينزع لباسه؟ فالتظاهرات التي ينزع فيها اللباس لا يمكن أن توصل إلى نتيجة، والحال أنّ الأطفال الصغار ينظرون إلى الرجال والنساء، وكأنّ شيئاً لم يكن أصلاً. ولا يفكّر هؤلاء في الأطفال الذين بلغ عمرهم خمس سنوات أو سبع سنوات ينظرون إليهم. ما هذه القضية؟ هناك أب وأم، لكن لا شيء هامّ بالنسبة إليهم، بل يصفقون لهم ويضحكون، وهذا من الأمور العجيبة جداً.. وفي ذاك السفر دخلت إلى غرفة من تلك الغرف ونظرت إلى الحائط فوقع نظري على صورة السيدة مريم، وهي صورة مشهورة جداً، صورة السيدة مريم وهي تحمل السيد المسيح على يدها وترضعه من ثديها، بشكل وقح وشنيع، وقد وضعت تلك الصورة بهذا الشكل، وقد تأثرت وانزعجت كثيراً لذلك؛ فحتّى لو كانت مجسمة وتمثال، لكنّه تمثال السيّدة مريم عليها السلام، وأنت مسيحي، لماذا تضع هذه الصورة؟ ثم ذهبت إلى المسؤول هناك وقلت له: أريد أن أسألك عن هذه الصورة، قلت له: هل هذه الصورة برأيك صورة مؤدبة بهذا الشكل، أو أنها غير مؤدبة؟ فاحمر لونه، فقلت له لماذا وضعتموها هنا؟ لم يجبني بشيء، وهؤلاء طبعاً لا يمكنهم أن يتكلّموا بشيء؛ إذ لا شكّ أنّ عليهم قيوداً، بل نظر إلي هكذا وقال لي: ليس لدي ما أقوله لك. هل ترون؟ هو نفسه يعلم أن هذا الأمر خلاف الأدب، فهذه الصورة التي وضعوها هنا هي صورة نبي من أنبياء الله، وهي من أجلّ الأنبياء عندهم، فالسيّدة مريم عندهم بمثابة نبي، ومع ذلك وضعوها في حالة إرضاع السيّد المسيح. كيف يمكن للإنسان أن يرجع في هذه الحالة؟ يعني أن اللون قد تغير وتغير إلى حد لم يعد ذاك اللون الإلهي وتلك الفطرة التي كانت عنده، بل يمكن له أن يقوم بأقبح عمل والذي يقوم به عادة في أخص أوقاته فيأتي به أمام الآخرين دون أن يتوجه أبداً إلى قبح فعله، وكأنّ شيئاً لم يكن. بينما الأديان الإلهيّة ماذا تفعل؟ تأتي الأديان الإلهيّة وترجع الإنسان إلى الحالة السابقة، يعني: ذاك الإنسان الذي تخلّى عن فطرته ومقامه الجليل وانتقل إلى مقام الذلة والانحطاط، وترك صبغة الله، يأتي الدين ويقول له: ارجع وعد إلى ذلك الذي كنت عليه، فتتبدّل تلك التعلّقات المادية إلى تعلّقات ربوبيّة، ويتبدّل ذاك الميل المادي والحيواني إلى ميل ربوبي، وتتبدّل تلك النظرة الماديّة إلى نظرة ربوبية، وبعد ذلك تتبدّل حالات الإنسان وأعماله..

    

من أنس بالله استوحش من غيره

لقد ورد عن رسول الله أنّه قال: «تخلقوا بأخلاق الروحانيين تكونوا منهم». فعند ذلك ستتغير نظرتكم، لن تعود الدنيا مؤثرة عندكم، بل سوف تضحكون على ما يتنافس عليه الآخرون ويقتلون أنفسهم في سبيل ذلك، سوف تضحكون على ذلك، لا أنكم لا تعتنون بذلك فقط، بل ستضحكون منه، مثل الولد في عمر خمس سنوات الذي يبكي إذا ضاعت كرته ووقعت في منزل الجيران، فتقول: إنّه طفل لنذهب ونأتيه بالكرة. هكذا تظهر لك أمور الرجل الذي يبلغ من العمر ستين وسبعين سنة من أي لون أو جنس أو سن، فإنك تضحك عليهم، وتنفر منهم وتفر منهم، لا تستطيع أن تبقى معهم لحظة واحدة. ورد عن الأئمّة عليهم السلام ـ والظاهر أنّه الإمام الحسن العسكري ـ أنّهم قالوا: «من أنس بالله استوحش من الناس» ، ألا نقرأ في مناجاة الإمام السجاد، ألا نقرأها؟ يقول الإمام في المناجاة الخمسة عشر: «إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلاً؟». هذه الأمور تقشعر منها الأبدان، فالذي يذوق شيئاً من حلاوة محبتك يا إلهي كيف يمكنه أن يذهب إلى غيرك من خلقك؟ فالأمور التي نراها من بعض الأولياء، نعلم أنهم ذاقوا حلاوة محبة الله، هل الأمر كذلك؟ الإمام العسكري عليه السلام يقول: من أنس بالله يعني من تلون بصبغة الله استوحش.. يعني لا أنه لا يعجبه غيره، بل إنه يضطرب بدنه أجمع إذا جلس مع شخص، يستوحش. كيف يستوحش الإنسان من الحيّة ويفرّ منها، فإذا فرضنا أنّ حيّة ظهرت فجأة وسط هذا المجلس، من الذي سيبقى هنا؟ وإذا فرضنا أنّ حيواناً خطيراً أتى إلى هنا، جميعنا يفرّ منه ولا يبقى منا أحد.. الإمام العسكري لا يمزح في هذا البيان، فالذي يأنس بالله تعالى يفرّ من الناس كما نفرّ نحن من الحيّة والحيوان المفترس، بل يموت من هذه العلاقة ومن هذا الكلام، بل لا يستطيع أصلاً تحمل ذلك، ويستوحش من ذلك، لماذا؟ لأنّه يقع في النقطة المقابلة له تماماً، فيقف على الزاوية المعاكسة تماماً له. ولذا نرى أنّه يأنس بالله ويبحث عن ذلك الأنس، ويطرق في سبيله كلّ باب ليجد رفيقاً وشفيقاً يمكن أن يساعده في أنسه هذا.. ينقل المرحوم العلاّمة قصّة عجيبة يقول: كان المرحوم الملاّ حسين قلي الهمداني رضوان الله عليه من كبار العرفاء بالله والعلماء العاملين والأولياء الإلهيين في زمن المرحوم الشيخ الأنصاري، ويمكن القول واقعاً بأنّ المرحوم الملاّ حسين قلي كان في السلسلة العلميّة والفقهيّة لهذه المدرسة العرفانيّة، وهو وإن كان لديه أساتذة كبار إلاّ أنّه كان علامة فارقة في هذه السلسلة. وكان لديه تلاميذ، حيث ينقل أنّه ربّى ثلاثمائة تلميذاً، أحدهم المرحوم السيّد أحمد الكربلائي وغيره، وكان لديه نفس عجيبة جداً، وكان يجعل الجميع تحت تأثيره. ابتلي أحد علماء النجف بشبهة توحيديّة، فقد شكّ في إحدى المسائل: شكّ في الله، أو في الخلقة، والحاصل أنه ابتلي بشبهة دون أن يكون مقصّراً في ذلك، وكان يخاف أن يطرح هذه المسألة حتّى لا يكفّر بعد هذه السنوات الطوال.. بعد ستين سنة أو سبعين سنة، وكان له صديق وطرح عليه هذه المسألة وقال له: أخشى أن أطرحها على أحد ولو بعنوان سؤال، فإذا سألت فيها قد يقال لي: كافر ومرتد أو يأخذوني إلى السجن أو الإعدام، والحال أنّه لا يزال في طور السؤال، فماذا أفعل؟ قال له: الحلّ الوحيد أن تذهب إلى الملاّ حسين قلي وتعرض عليه هذه المسألة، فما كان منه إلاّ أن أتى إلى منزل الملاّ حسين قلي، فسأله: لماذا أتيت؟ قال له: لقد جئت لأعرض عليك هذه الشبهة، فقال له المرحوم الملاّ حسين قلي: عليك أن تلازمني أربعين يوماً، وفعلاً بقي معه أربعين يوماً، وكان ينام في منزل الملاّ في «البراني»، وكان الملاّ يأتيه بالطعام وينام عنده، وكان يذهب معه إلى السوق للتسوق وإلى الدرس وإلى أي مكان.. كان ملازمه دائماً إلى أربعين يوماً، وكان هذا الرجل يتغيّر من داخله. وفي أحد الأيام في مسجد الكوفة كانا جالسين معاً، وكان الملاّ حسين قد أتى لمناسبة إلى مسجد الكوفة، وكان هناك عدة أشخاص، فنظر إليه الملاّ حسين وقال له: انظر هل يوجد في يد أحد هؤلاء كتاب، فوجد مع أحدهم كتاب اللمعة، وهو كتاب فقهي للشهيد الأول والشهيد الثاني، طبعاً فيه بعض الروايات أيضاً، فقال له الملاّ حسين افتحه واقرأ فيه، ففتحه بالصدفة على رواية للإمام الصادق حول مسألة لا علاقة لها بالمطلب، وقرأها، وعندما قرأها ارتفعت الشبهة من عنده، وكأنها لم تكن أصلاً. لقد كان الملاّ حسين في هذه الأيام الأربعين يعمل على تغييره وإعادته، كان يضفي عليه لوناً إلهياً. والتحدّث مع الأولياء يفعل هكذا، ينقل الإنسان من لون المادة إلى لون إلهي، وبالتالي يتغيّر الإنسان شاء أم أبى، وهذه المسألة مهمّة جدّاً، ولديّ حول هذا الأمر قصص وحكايات كثيرة. كيف يخرج الارتباط بالأولياء الإنسان شيئاً فشيئاً من تلك الحالة التي كان فيها، بحيث تترك أثراً على كلامه وأفعاله، بل تؤثّر حتّى في طريقة لبسه وزيّه. رحمة الله على أحد الأفراد الذين كانوا على عهد الشاه كان يأتي أحياناً إلى مسجد القائم ويعتلي المنبر بدعوة من المرحوم العلاّمة في شهر رمضان، وكان له طبع خاص، ولن أذكر اسمه، وكان واضحاً من أوّل شهر رمضان ـ وكان فاضلاً وكان قد درس الحقوق في الجامعة وكان يعمل في بعض الأمور ـ أنه كان في حالة معينة في لباسه وسائر أموره، لكنه عندما كانت تمضي مدة أسبوع أو أسبوعين كان يتغير في كلامه ومطالبه التي يطرحها. وقد اتّفقت أنّه تكلّم مرّة على المنبر وذكر مسألة.. ومع أنّ المرحوم العلاّمة كان يوصي دائماً الذين يصعدون المنبر أن لا يذكروا اسمه أبداً، خلافاً للآخرين الذين إذا لم يذكر اسمهم على المنبر لا يدعون الخطيب مرة أخرى.. فقال يوماً على المنبر: مع أني أعلم بأنّه (أي المرحوم العلاّمة) لا يرضى أن أذكر اسمه على المنبر، إلا أني سأخالفه وأقول لكم: أيّها الناس اعلموا قيمة هذا الرجل، إذ لا يوجد مثل هذا الإنسان، فقد ذهبت إلى كل مكان وخالطت الجميع، ولم أجد مثله.. وكان صادقاً في كلامه هذا، حيث كان رجلاً مطلعاً ومخالطاً، بل إنه درس الحقوق في فرنسا.. وقال: لقد ذهبت إلى الجميع ولم أجد مثل هذا الرجل، ولا أعلم ما هو الأثر الذي يحصل من الكلام مع هذا الرجل، فسواء شئت أم أبيت سوف تتغير من خلال التحدث إليه.. ولعله التفت إلى هذه المسألة بالنسبة إليه، وقال: حتّى لو جلست إلى جانبه دون أن تتحدّث إليه، فكأنّ الفضاء الذي يحيط بك يتغيّر بسببه، ويؤثّر فيك ويحوّلك شيئاً فشيئاً.

    

أثر الصديق والرفيق في تغير النفس

لذا يؤكد العظماء على أنّه يجب أن يكون الرفيق الذي يختاره الإنسان من أهل السير، لا أن يكون من أهل الدنيا، ولا من أهل الكذب والحيل، بل ينبغي أن يكون صادقاً في حديثه غير كاذب، لا يكون ممن يحتال على الناس، وهذه العلاقة يمكنها أن تساعد الإنسان أن يعود إلى تلك الصفات الفطريّة التي كانت لديه. وكذا على العكس من ذلك، حيث كانوا يحذّرون السالكين في طريق الله وينبّهونهم من أن يختاروا رفاقهم وأصدقاءهم من أهل الدنيا، بأن يجعلوا علاقتهم وكلامهم وجلوسهم مع أهل الدنيا، فإنّ ذلك يؤثّر شيئاً فشيئاً فيهم؛ إذ يرى الإنسان أنّه كان في العام الماضي أكثر تأثّراً، لكن تأثّره الآن أصبح أقلّ، وقبل سنتين كان وضعه أفضل من الآن.. كان توجّهه أفضل، أمّا السنة فلا. الآن يُقال له: تعال نذهب إلى هذا المكان، يقول: لا.. لديّ عمل هنا، لكنّه في السنة السابقة لم يكن كذلك، بل كان هو المبادر إلى هذه الأمور ويهتمّ بها، ويجعل لها وقتاً، بينما الآن لا. ما الذي حصل له؟ هذه الأمور هي التي ينبغي على الإنسان أن يلتفت إليها ويدقّق فيها. والحاصل أنّ العظماء لم يقولوا ذلك اعتباطاً، بل إنّهم ينقلون النتائج التي حصلوا عليها من الطريق الذي طووه وقطعوه.
أعتقد أنه إذا استمر بنا الكلام سوف نحرم من هذه المسائل، والحال أن الوقت قد طال...

    

أسئلة وأجوبة:

معيار قبول ورفض العريس
ولنشرع الآن ببعض الأسئلة التي وردتنا ممّا يرتبط بهذا البحث:
س: إذا طلب ابنتي شاب صالح متعلّم مؤمن مهندس لكنّه عاطل عن العمل، فهل ترون من الصلاح أن نعطيه ونزوجه؟
ج: أي شيء أفضل من ذلك، لماذا لا نعطيه؟ فهذا الشاب مناسب، لكن ورد في السؤال أنه أتمّ دراسة هندسة النفط منذ ثمانية أشهر ولم يوظّف حتّى الآن. إنّ المعيار في الزواج فيما يرتبط بهذه المسألة هو الدين والتعقّل، والمال يأتي ويذهب، فالإنسان من أوّل أمره لم يكن غنيّاً، بل من خلال السعي والعمل يمكنه أن يصل إلى ما قدّره الله له، فإذا لاحظ الإنسان أموال الرجل وزوّجه على هذا الأساس، يكون في الواقع قد زوّج المال، لا أنّه زوّج ذاك الرجل. وعليه فالمعيار في الزواج هو الدين والتعقل وكونه عاقلاً وحاملاً للمسؤولية، ولديه فهم ودين وغيرة... هذه هي الملاكات التي نقلت لنا، وأمّا المال فدائماً متوفر. هل من المفترض أن يكون الناس كلهم أغنياء؟ فهل المال يجلب السعادة للإنسان؟ بل على العكس من ذلك يأتي بالمصائب والبلاء، والذي ينبغي ملاحظته هو الشروط المناسبة للحياة، كأن يكون الرجل متكفلاً بسعادة زوجته.. فإذا قال ووعد وفى بوعده، وكان مسؤولاً تجاه تربية نفسه وعياله وأولاده، أن لا يكون مزاجياً في ذلك، بل متعهّداً ملتزماً عاقلاً.. وهذه الأمور كافية ولا حاجة إلى أمور أخرى.

بعض أحكام الستر للمرأة
س: ما حكم وضع القناع (البوشية) على الوجه في بعض الموارد؟

ج: لم أفهم المراد من بعض الموارد.. يجب وضع القناع على الوجه عند الخروج من المنزل، مع عدم النظر... نعم يلزم على الإخوة أن يعلموا بأنّ القناع ليس حجاباً، بل الحجاب هو حفظ الوجه عن نظر الآخرين، فإذا كانت المرأة في مكان تعلم بأنّ أحداً لن ينظر إليها أمكنها أن تكشف وجهها عندئذٍ. وما يقال من أنّ ستر الوجه والكفين مستثنى من حكم التغطية ـ كما يفتي بذلك بعض الفقهاء ـ ليس صحيحاً، فالوجه والكفان غير مستثنين. وفي مجتمعنا الحاضر المليء بالنظرات السيّئة ينبغي على المرأة أن تستر وجهها. نعم، لا يجب عليها حتماً أن تضع القناع، بل يمكنها أن تستر وجهها بأيّ شكل من الأشكال، وتحفظ وجهها من الناظر الأجنبي. لكن عندما تشعر بأنّ الرجل لا ينظر إليها، فإذا فرضنا وجود مثل هذه الحالة أمكنها كشف وجهها.
كما أنّ لبس "الشادور" [2]
ليس واجباً، بل الواجب هو ستر البدن بحيث لا يتشخص معه حجم البدن، هذا هو الحجاب الواجب. نعم، في إيران وفي بعض الدول صار "الشادور" معروفة على أنها هي الحجاب. لكن رأيي هو أن الأفضل من "الشادور" هو اللباس الطويل الذي يستر كامل جسد المرأة مع المحافظة على حرية حركتها، فيمكنها الاهتمام بطفلها أو غير ذلك، وعليه فلا تعود بحاجة إلى "الشادور". والكثير من أصدقائنا خارج إيران لا يلبسون شادور، بل يلبسون اللباس الشرعي الطويل، وحجابهم جيد. لكن الأمر الواجب هو أن على المرأة أن تحفظ نفسها عن نظر غير المحرم إليها، وهذا إما أن يتحقق من خلال القناع أو بغير القناع، أو من خلال القناع الذي تظهر منه العينان، فالكثير من الناس يكون لديهم مشكلة في تغطية كامل الوجه، أو قد يؤدّي إلى حالة من الضيق لديهم. لذا فليس هناك إلزام بلبس القناع، بل الإلزام في حفظ وجه المرأة عن نظر الأجنبي بأي شكل ممكن. وهو باختيار المكلف نفسه. وما ورد في السؤال بلحاظ بعض الموارد لم أفهم المراد منه.
س: ما حكم الاستفادة من أي نوع من أنواع اللباس بالنسبة للأطفال في المنزل؟
ج: يجب أن تراعي المرأة في المنزل الموازين الشرعية. نعم، إذا لم يكن هناك ولد، فالأمر مختلف بالنسبة إلى الزوج والزوجة فقط. أمّا إذا كان في المنزل ولد ـ ولو كانت أنثى ـ فيجب أن يلاحظ ذلك، والأفضل أن يكون اللباس بنوع من المتانة عندئذٍ. نعم، ينبغي الالتفات إلى أنّه ـ مع غضّ النظر عن إرادة الزوج نوعاً خاصاً من اللباس ـ من الأفضل للمرأة أن يكون لباسها بشكل مناسب؛ لأن ذلك يؤثر على حال المنزل وفضائه. وينبغي الالتفات إلى هذه المسألة أيضاً.
س: مع ملاحظة الأوضاع المعيشيّة الحرجة، هل ترون من الصلاح الإتيان بعدة أولاد، وإن كان الله تعالى هو الرزّاق؟
ج: الله تعالى هو الرزّاق فقط، وما يقال الآن من ضرورة تقليل الأطفال وغيرها مخالف لدستور الإسلام، وإذا كان من المفترض أن تراعى مسألة التربية، فلا يعود هناك فرق بين اليوم وغيره، إلا إذا كان وضع الإنسان لا يسمح له بذلك، كأن يكون مريضاً أو لديه حالة عصبية بحيث لا يمكنه تحمل ذلك، وإلا فما يأكله هو يأكله غيره، وتربيته كتربية غيره، وقد شاهدنا الأشخاص الذين لديهم أولاد كثيرون والأشخاص الذين لديهم أولاد قليلون أيضاً، ولا فرق مهمّ بينهما. إذا كانت التربية فاسدة فهي قد تقع عند العائلتين، وإلا فلا يمكن أن يكون الوضع الاقتصادي السبب في ذلك.
س: هل إجراء عملية جراحية تجميلية حرام؟
ج: كلا، لا إشكال فيها.

حكم استخدام الانترنيت
س: ما هو حكم الاستفادة من الانترنيت؟

ج: علينا أن ننظر: لماذا نستخدم الانترنيت؟ لا يخفى أنّ الإنترنيت سيف ذو حدين، ولذا فالدخول فيه قد يوجب الكثير من الانحراف، وخصوصاً في السنوات الأخيرة، فقد صار يشكّل خطراً جاداً على العوائل، ويمكنني القول ـ مع محدودية العلاقة التي أقيمها مع الناس ـ بأن الإنترنيت كان السبب المباشر في القضاء على خمس عشرة عائلة أعرفها مباشرة، أي: إنّ العائلة دمّرت نهائياً ، فضلاً عن المشاكل والمسائل الأخرى، وكذلك الحال في الموبايل الذي يعدّ في مصاف مخاطر الانترنيت التي لا تقبل المراقبة، ويمكن القول بأن هاتين الظاهرتين من ابتلاءات هذا القرن. فلماذا تجلس المرأة على الانترنيت؟ وما المبرر لها في ذلك؟ ما الذي تريد العثور عليه؟ وكذا لا يوجد أي مبرر للرجل في الجلوس على الانترنيت، لماذا يجلس وعمّا يبحث؟ يقول: أريد البحث عن المطالب العلمية. هذا كذب، أيّ مطالب علميّة تريدها؟ نعم البعض يحتاجون إليه بسبب بعض الأمور المطلوبة منهم، أو للاستفادة من بعض المواقع، أو الأمور التي تنشر عليها، فعندها يكون الانترنيت ضروريّاً. وبعض أعمالنا نحن في هذا المجال أيضاً، ففي هذه الحدود لا إشكال فيه، أما أكثر من ذلك لماذا؟ لماذا يتم إضاعة الوقت؟ مع الوسوسة التي تحصل للإنسان من ذلك. ومن هنا لا يمكنني أن أقول بأنّ الاستفادة منه حرام، لكن يمكن القول بأنّه ينبغي التدقيق والانتباه جيّداً في هذه المسألة.

ضرورة اهتمام الإنسان بتربية نفسه
س: أنا أوّل مرة أجلس بخدمتكم، أطلب منكم دستور عمل.

ج: ليس لدي دستور، بل ما أطلبه هو ما طلبه العظماء منّا، وهو أن ينظر الإنسان إلى نفسه، وهذه الأمور التي عرضتها عليكم هذه الليلة ذات أهميّة، أي: أن يهتم بنفسه وأن ينظر إلى اليومين الباقيين من عمره، هل سنقضي هذين اليومين كما قضينا السنوات العشرين السابقة؟ وهل نقضيها كما قضينا الشهر الماضي والسنة الماضية، وهكذا؟ إذا كان الأمر كذلك فتفضل..
رك رك است اين آب شيرين وآبِ شور
                             بر خـلايق مـيرود تـا نفخ صور

(إنّ الخير والشر موجودان في هذا العالم كوجود الماء المالح والماء الزلال، وهذا الأمر باق ومستمر إلى يوم النفخ في الصور)

متاع كفر ودين بى مشترى نيست
                             گروهى اين گروهى آن پسندد

(لن يبقى كل من الدين والكفر بدون أنصار، فطائفة تقبل هذا وأخرى تقبل ذاك)

لذا علينا أن نطئمن، فالله تعالى خلق جهنّم وخلق الجنّة، وهناك أفراد سيدخلون جهنّم، وليس من الضروري أن نملأها نحن، بل هناك من يريد الذهاب إليها، ولا يريدون بديلاً عنها أبداً، {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزيد}>، سوف تسأل جهنم يوماً بأنّك هل امتلأتِ؟ فتجيب كلا، لم يملأ نصفي بعد، هاتوا ما عندكم، لا تقلقوا عليّ فأنا أتسع للجميع.. فبحمد الله هناك الكثير من الأشخاص الذين هم من أهل جهنم، الذين يسعون للوصول إليها بجد واجتهاد، ويمشون إليها بسرعة النور.. فحتّى لو أردت أن تسبقهم إليها لا تستطيع. أين لنا أن نصل إليهم، إنشاء الله لا نصل...
وواقعاً المسألة من هذا القبيل، لذا لا داعي لأن نقلق على امتلاء جهنم، كلا بل هي واسعة جداً، نعم، لها مراتب مختلفة.
وكذا للجنة أفراد يسعون للوصول إليها بسرعة النور، هنيئاً لأولائك الذين يسعون بكلتا يديهم للوصول إلى الله، وباعوا الدنيا والآخرة بنظرة إلى جماله تعالى، هؤلاء الذين يمشون بسرعة الضوء، وهناك آخرون أيضاً بعضهم يسعى إليها بسرعة الطائرة وبعضهم بسرعة القطار وبسرعة السيارة وبسرعة المشاة و... ولكن في الأخير يمشون باتجاه الجنة، ويصلون، فكلا الطريقان متاحان لنا، لكن علينا أن نختار فقط. قال المرحوم العلاّمة: إنّا كتبنا هذه الكتب، وبذلك نكون قد بسطنا المائدة أمام الجميع، فمن شاء فليتفضل. والله أقسم بالله تعالى! وأنتم تعلمون أنّ القسم الكاذب له كفّارة، والله إنّي في هذا السنّ بحاجة إلى كتب المرحوم العلاّمة، لقد أقسمت لكم! أنا بحاجة إلى كتبه.. إلى إرشاداته.. إلى كلماته.. إلى خطبه، وجزى الله خيراً الأخوة الذين يسعون بجد في أن يجمعوا هذه الآثار ويتعبوا أنفسهم في سبيل ذلك، ويهجروا نومهم لذلك. لا تعلمون كم يبذلون من جهد ليضعوا هذه المطالب التي وصلت من العظماء بين يدي الجميع بشكل مجاني. ومع ذلك نأتي ونسأل بغنج ودلال ونقول: كم ساعة نقرأ في اليوم؟ كم علينا أن نبذل لهذه المطالب من وقت؟ واقعاً المطالب التي أقرأها أو أسمعها أحياناً منه أشعر أنها تهزني من أعماقي. منذ بضعة أيام في السفر الأخير الذي كنا فيه في كرمان، فتحت بعض كتبه قبل النوم، وقرأت صفحة منه، شعرت بانقلاب في داخلي واقعاً، فهذه المطالب لا نجدها في مكان آخر، علينا أن نعرف قدر هذه النعمة علينا، وقد قال بنفسه: من يقرأ هذه المطالب ويعمل بها، فإن الله تعالى سيفتح له فتحاً مبيناً. وقد سمعت هذا الكلام منه بنفسي.

خروج المرأة إلى المسجد
س: ما رأيكم في ذهاب المرأة إلى المسجد؟

ج: ما لدينا في الروايات هو أنّ >مسجد المرأة بيتها<، وعلى المرأة أن تبقى في المنزل. نعم في بعض الأوقات يمكن لها الخروج لاستماع العزاء ومجالس أهل البيت عليهم السلام، لكن لا أن تذهب المرأة إلى المسجد بشكل مستمر. على المرأة أن تبقى في المنزل، وما يناله الرجل من ذهابه إلى المسجد من الثواب تناله المرأة في بقائها في المنزل. هذا ما نقول به. وأمّا من يقول ويفتي بأنّ على المرأة في هذا العصر أن تذهب إلى المسجد ولو لم يكن زوجها راضياً فعليه أن يهيّء جواباً يوم القيامة على ذلك؛ إذا لم يرد أنّ المرأة يمكنها بدون إجازة الزوجة أن تخرج من المنزل: سواءً إلى المسجد أو إلى غير المسجد، هذا إذا كانت بدون إجازة الزوج، فكيف بمخالفة الزوج؟ فالصلاة في المسجد في هذه الحالة باطلة، وعليها أن تعيد صلاتها بعد عودتها إلى المنزل. علينا أن نبيّن دين النبي صلّى الله عليه وآله للناس كما هو، لا أن نضيف عليه من عندنا، فإذا فعلنا ذلك سوف نحاسب أشد الحساب، بل صاحب الدين حي يرزق وهو إمام العصر أرواحنا فداه، فهو الولي، ولا ضرورة للمزايدة عليه في حفظ الدين. علينا أن نقول ما هو موجود فعلاً للناس، فإن شاؤوا قبلوا وإن شاؤوا رفضوا.
س: ما رأيكم في المستحبات التي تعدّ معارضة للعرف المعاصر، فهل ينبغي مراعاتها أو تركها؟
ج: لا أعلم، بل علينا أن نعيّن المثال حتّى تتّضح المسألة.
س: من يعلم بأنه إذا صار لديه طفل لن يستطيع تربيته، ألا يفضل له الاكتفاء بولد واحد؟
ج: كلا ليس الأفضل له ذلك، بل الأفضل له أن يأتي بالأولاد مهما استطاع.. لأن التربية بيد الله تعالى لا بيدنا نحن.
س: أرجو منكم أن تدعو لأولادي بالخير والسلامة وحسن العاقبة، وأن تسألوا الله أن يرحم عائلتنا برحمته ومغفرته.
ج: اسأل الله أن يشمل الجميع برحمته ومغفرته... على أمل أن يجعل الفاصل في سفرنا إلى الأهواز أقل.. رزقنا الله جميعاً رحمته، وإن كنت أنا بحاجة إلى دعاء، وأنا لا أتواضع في هذه الأمور، بل أنا لست من أهل التواضع أصلاً، ولعل هذه نطقة ضعف عندي، وما أشعر به فعلاً أقوله: فأنا بحاجة واقعاً إلى الدعاء، وعندما أرى حالات بعض الرفقاء أغبطهم على ذلك، وأشعر في نفسي بالغبن. لكن من جهة أخرى، على الرفيق أن يدعو لرفيقه، فأنتم ادعوا، لعل الله تعالى يرحمنا جميعاً ببركة أنفاس عباده الصادقين.

أهمية المراقبة في سلوك الإنسان
س: لقد تعرفت على جنابكم بعد زواجي من خلال زوجتي، ولدي سؤال وهو: أني أشعر أحياناً عند القيام بالعبادات بشيء من الفتور والتهاون، فماذا علي أن أفعل لرفع تلك الحالة؟

ج: كان المرحوم العلاّمة يقول: إنّ الشرط الأساسي لحركة السالك عبارة عن المراقبة، فالمراقبة شرط أساسي، إلاّ أنّ هذه المراقبة نتعامل معها معاملة بسيطة، ولا نعيرها التوجه اللازم لها، فالعظماء كان أكبر همهم منصباً على المراقبة، وقد أشرت كثيراً إلى هذه المسألة، وأكّدت عليها مراراً للرفقاء وقلت لهم: إذا بقيتم مستقظين الليل كله إلى الصباح مشتغلين بالعبادة، لكن في النهار لم يراقب الإنسان نفسه في الشارع، لم يكن لذلك أي أثر عليه أبداً، ولن يرقيه ذلك ولو بمقدار سانتيمتر واحد. فعبادة الليل إنّما تكون نافعة فيما إذا كانت مؤثّرة في النهار، والمراقبة في النهار هي الموجبة لنفوذ العبادات في النفس، هذه المطالب التي أعرضها لكم ليست منّي، بل هي ما ذكره العظماء وأنقله إليكم منهم. للمراقبة حكم عمود الخيمة، لها حكم القطب بالنسبة إلى الرحى، فإذا رفعت وتد القطب اضمحلت الرحى، وإذا رفعت عمود الخيمة سقطت الخيمة على الأرض، والمراقبة هي التي لها هذا الأثر، فهي التي تجعل الإنسان يعمل على تطبيق كلامه وفعله وأفكاره على الموازين الإلهية. كنت في بعض البلدان، وأتى إلي شخص وقال لي: أحياناً أشعر أني هكذا وأحياناً في حالة ضعف... فقلت له: هل تراقب نفسك؟ قال نعم، قلت له: إذا خرجت من منزلك هل تحفظ عينك من الوقوع على النساء غير المحارم؟ فقال: لا. قلت له: لماذا تنظر إليهم؟ فالمراقبة هي هذه، عندما تخرج من المنزل وتنظر وتأتي هذه الصورة إلى ذهنك وخيالك، فلماذا تأتي بعد ذلك وتقول المسألة هكذا وهكذا، لا ينبغي أن تفعل ذلك، فعندما لا نتفاعل مع هذه الأمور بشكل صحيح نحصل على هذه النتائج. لا يمكن للإنسان أن يحمل بطيختين بيد واحدة، لا يمكنه ذلك.. هذا أحد الموارد لهذه المسألة، لقد ذكرت لكم بأنه ما لم تحلوا هذه المسألة في أنفسكم، فسوف تبقى أنفسكم في حالة من الابتلاء والتلاطم، والنفس التي فيها تلاطم وتكدر لا تتحرك. فالسلوك إلى طريق الله تعالى ـ على العكس من الأمور الأخرى ـ بحاجة إلى الهدوء وخلو الذهن، بحاجة إلى عدم الخطورات وإلى طمأنينة القلب وسكون الخاطر, بهذه الوضعيّة يمكن للإنسان أن يتحرك، من هنا علينا أن نعلم بأنّ أيّ تفكير سيّء تجاه الأخ والرفيق، وأيّ فكر سيّء تجاه سائر الناس أيضاً له آثار سيّئة. أليس الآخرون عبيداً لله تعالى؟ إذا لم يكن لديك صدق وصفاء وإخلاص فلا تعوّل على الذكر بلا طائل، ولا تذهب إلى العبادة والمستحبات؛ لأنّه ليس لها فائدة أبداً. أعود وأكرّر بأنّ صلاة الليل إذا لم تكن مشفوعة بالمراقبة في النهار لن تنفع أبداً، ولو صلّى صلاة الليل مائة سنة وبعد ذلك أرخى العنان لعينيه في النظر إلى ما يريد لن ينفعه ذلك. ولو صلّى مائة سنة صلاة الليل لكن لم يتعامل بالمعاملات كما ينبغي عليه أن يتعامل فلن ينفعه ذلك، بل الذي ينفع هو الصدق والإخلاص والعدل ومحبة النوع الإنساني هي التي يمكن أن تجعل العبادات متمكنة في وجود الإنسان ومستقرة فيه...
والخلاصة علينا أن نلتفت إلى هذه المسألة جيداً، يأتي بعض الإخوة أحياناً ويطلبون مني ذكراً أو ورداً لحصول التوجه لديهم، فأقول لهم: ليس لدينا ذكر للتوجه، أو لا اطلاع لي على وجود ذكر من هذا القبيل، ما أعلمه هو أنّه على الإنسان عندما يستيقظ في الصباح أن يشارط الله تعالى ـ كما أشار العظماء ـ وأن يبقى طوال اليوم محافظاً على كلامه وخطوراته وأفعاله بالمراقبة، وفي الليل عليه بالمحاسبة، وبعدها إما الاستغفار أو الشكر، هذا ما لدينا، ليس لدينا ذكر في ذلك.

كيفيّة التعامل مع المنحرفين
س: مع الالتفات إلى الظروف الخاصة التي حصلت في هذا العصر، هناك بعض الأفراد الذين انقلبوا على الإسلام وصاروا يوهّنون بعض المقدّسات، ويقولون: إذا كان الإسلام كذلك فلا نريد أن نكون مسلمين، فإذا كان مثل هذا الفرد زوجةً لنا فما هو تكليفنا؟

ج: المسائل التي حصلت قد حصلت، ونحن لا نأخذ ديننا من زيد وعمرو حتّى تغيّرنا أمثال هذه الأمور، والإسلام هو ما نعتقد به قبل حصول هذه الأمور التي تحصل، لا أنها من الأمور المرتبطة بعشر سنين أو عشرين سنة أو مائة سنة، بل الإسلام مرتبط بألف وأربعمائة سنة سابقة، فالمباني الإسلامية واضحة وموازينه واضحة وتعالميه معيّنة، فهي موجودة في الكتب. نعم، قد يأتي بعضهم ويعمل على خلاف هذه الموازين، لكن لا يمكن أن يكون ذلك داعياً للإنسان أن يرفع يده عن أصل المطلب، فإذا فرضنا أنّ قاتل الأبرياء مثلاً يتنفّس الآن، فهل هذا موجب لنا أن لا نتنفّس؟ بل علينا أن نتنفّس وإلاّ نموت. وهذا الطعام الذي نأكله إذا فرضنا أنّ أهل المعاصي يأكلون منه أيضاً، فهل علينا أن نمتنع عن أكله لأنّهم يأكلون منه؟ ما العلاقة بين هذا الأمر وذاك؟ فالمنكر الذي يقوم به أولئك هم الذي يتحمّلون مسؤوليته ويتضرّرون به، فلماذا تقوم أنت بالتخلي عن هذه المباني وتقوم بالفعل المخالف مثلهم؟ فإذا كنت تذهب إلى الجامعة وتهتمّ بدروسك، فهل تفكّر في أنّ بعض الأشخاص في صفّك من أهل المعاصي، وبما أنّ بعض من يستمع الدرس من أهل المعاصي فلن أستمع إلى الدرس ولن أقرأ في الكتاب.. فسواء درس هو أم لا، عليّ أنا أن أدرس وأن أستمع الدرس للوصول إلى الهدف المنشود، وهذا ما يحتاج إلى سهر في الليالي وقراءة ونحوها. إنّ مسائل الإسلام وتعاليمه واضحة ومحدّدة، فمن عمل بها ربح، لا أن من يدّعي أنّه مسلم فقط دون أن يعمل، كلا.. لقد مررنا بامتحان ورأى الجميع من الذي كان ملتزماً بذلك أو غير ملتزم، والجميع يعرف ذلك ويدرك هذا الأمر، ويعلمون من هو الصادق ومن هو المدّعي، ويرتّبون الأثر على هذا الأمر. وبالنسبة إلى الزوجة فهي كذلك، فإذا كان هناك بعض الأشخاص الذين يشتبهون، فلا داعي للتعامل معها بشكل عنيف نتيجة ذلك الفعل، وإذا كان اعتقادها قد انقلب فلينقلب على نفسه، فلماذا يختلف التعامل الحسن معها؟ لماذا لا يتعامل معها معاملة حسنة؟ فهل من المفترض أن نجعل نحن في قبر الآخرين؟ بل كل شخص له وظيفته المسؤول عنها، ويمكن للإنسان بأعماله الصالحة وأخلاقه الحسنة وتصرفه الجميل الناصح المشفق أن يصلح الأمور، لا بالتحقير والمواجهة والقسوة، فإن هذه الأمور لا توصل إلى نتيجة أبداً. وإنشاء الله إذا وفقنا الله تعالى أن نتمّ ذاك الكتاب الذي شرعنا بتأليفه حول الارتداد في الإسلام، وأنه هل يمكننا أن نطلق على أي تبدل في العقيدة اسم الارتداد أم لا؟ وهذا ما سوف نبحثه في هذا الكتاب الذي شرعنا به ولم نستطع إتمامه للاشتغال بسائر الأمور، وسوف نرى أن أكثر من خمسة وتسعين بالمائة من الأشخاص الذين يطلق عليهم بأنهم مرتدون ليسوا كذلك، بل هم ممن طرأ عليهم تبدل في العقيدة فقط. حصل منذ أربع أو خمس سنوات أن أتى شخص من الأصدقاء وقال: إنّ أبا زوجتي يسبّ الأئمّة عليهم السلام، وقد قطعت زوجتي علاقتها بأبيها وتركته زوجته أيضاً، فسألت: ماذا ينبغي علينا أن نفعل معه، فأتينا إلى أحد المراجع ـ وقد توفي الآن ـ فقال لنا مسؤول مكتبه: إنّ هذا الرجل كافر ومرتد.. يجب قتله ويجب أن تبين منه زوجته و...، فتركته زوجته وقالت له: أنت نجس وكذا ابنته... فقلت له: كلا لقد اشتبهتم في التعامل معه. نعم لقد أخطأ في هذا الأمر، لكن أنتِ ابنته وعليكِ أن تذهبي إليه وتقبّلي يديه وتقولي له: لقد أخطأتُ معك فأنت أبي، وإنّي أعتذر ممّا صدر منّي تجاهك. فالكثير مما يقوم به هؤلاء يكون على أساس الجهالة لا على أساس العناد. وبعد ذلك ذهبت هذه البنت هي وأمّها إلى أبيها وفعلوا كما ذكرت لهم، وبعد مدّة رأى الرجل أنّهم تغيّروا في التعامل معه، فقال: لماذا تغيّر تعاطيكم معي؟ فقالوا له: فلان أوصانا بذلك، فقال: إذا كان الدين الذي تركته يوصي بهذا الأمر، فسوف أعود إلى هذا الدين الذي يأمر بهذه الأمور، فما كان منه إلاّ أن تاب وندم وبكى وعاد إلى دينه، والآن يقيم في بيته مجالس العزاء ومجالس الأئمّة. أيّ الأمرين هو الصحيح؟ هذا الأمر ليس من عندي، بل هو طريق العظماء وأسلوب الأولياء.. لدينا في الدين سعة صدر كبيرة جداً، لكن للأسف نعمل بنحو آخر، في الدين أكثر مما ذكرت لكم من سعة الصدر، لا يمكن أن أذكره لكم، بل أخاف أن أبين لكم كم هو الله أرحم الراحمين، كم هو الله سمح كريم وكم هو واسع الصدر، لكنّنا نقوم بسدّ الأبواب ونفعل ذلك.. على هذا الإنسان أن يتعامل بكامل الأدب والأخلاق مع زوجته، وأن لا يتعامل بشكل جدّي مع ما يسمع منها، بل عليه أن يجذبها بتعامله معها وبأخلاقه الحسنة حتّى تتبدّل تلك الحالات التي حصلت لها بشكل تلقائي نتيجة بعض الأمور التي جرت معها إلى ما هو أحسن.
إنشاء الله، كلّنا أمل في أن يأخذ الله تعالى بأيدينا، وأعتذر من طول المدة التي أطلناها عليكم، وعدم العمل بالعهد الذي قطعته، بأن آتي إلى هنا ولو مرّة في السنة، وكلّي شوق لزيارة الأصدقاء، لكن التوفيق ينبغي أن يأتي من الله تعالى.. كل ما لا نستطيع القيام به نرميه ونحيله على الله، لذا على الإخوة أن يسألوا الله في ذلك ـ نكل الأمر إليهم ونضعه في عنقهم ـ حتّى إذا أرادوا فعلاً وكان لديهم شوق حقيقي لأتوا بنا، وإذا تأخّر مجيئنا يوماً ما فسوف نضعه في عنقكم ونبرّئ أنفسنا من هذا التقصير.. هذا مزاح منّا..
نسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا جميعاً وأن يجعلنا في طريق العظماء ويثبّت أقدامنا في ذلك الطريق، وأن يجعلنا تحت ظلّ صاحب الولاية الحقيقيّة الإمام بقيّة الله وليّ العصر عجّل الله فرجه الشريف في الدنيا والآخرة، وأن لا يجعلنا من المقصّرين معه وأن نجعلنا من المنتظرين الواقعيين له، وأن لا يحرمنا في الدنيا من زيارته وفي الآخرة من شفاعته..
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد.


[1] ـ سورة البقرة (2)، الآية 138.

[2] ـ الشادور هو الحجاب الأكثر انتشاراً في إيران بين النساء هناك، وهو عبارة عن قطعة من القماش مستطيلة، وغير مخيّطة يضعنها النسوة لتكون بمثابة العباءة أو الحجاب الشرعي، ويمسكنها بأيديهن وبأسنانهن حتى لا تنفتح فيظهر ما خلفها من لباس المرأة، ولذا فهي تشكّل في بعض الأحيان عائقاً عن الحركة بشكل مريح. (المترجم).

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی