معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1432 هـ > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1432 هـ - الجلسة الثالثة: اتباع الأولياء يخرج من الظلمات إلى النور

_______________________________________________________________

هو العليم

سلسلة شرح دعاء أبي حمزة الثمالي

المحاضرة الثالثة

اتباع أولياء الله
يخرج الإنسان من الظلمات إلى النور

ألقيت هذه المحاضرة في الليلة الخامسة من ليالي شهر رمضان المبارك للعام 1432 هـ

ألقاها:

سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
و صلّى الله على سيّدنا أبي القاسم محمّد
و على آله الطيّبين الطاهرين
و اللعنة على أعدائهم أجمعين

"وَقَدْ رَجَوْتُ أَنْ لاَ تُخَيّبَ بَيْنَ ذَيْنِ وَذَيْنِ مُنْيَتِي، فَحَقِّقْ رَجَائِي وَاسْمَعْ دُعَائِي‏، يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ‏".

يبيّن الإمام السجّاد عليه السلام كيفيّة ارتباطه بالله تعالى في مقام الدعاء بهذا النحو: "إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت، و إذا رأيت كرمك طمعت، فإن عفوت فخير راحم، و إن عذّبت فغير ظالم" ثمّ يقول : "حجّتي يا الله في جرأتي على مسألتك مع إتياني ما تكره جودُك و كرمك ..."

    

الحجّة هي المستند الذي يعتمد عليه الإنسان

إنّ حجّتي ومستندي و ما أعتمد عليه في الثبات و الاستقامة [هو جودك وكرمك]... فالحجّة تطلق على الأمر الذي يؤدّي إلى ثبات الإنسان و إحكامه و إتقانه، يقال: يا سيّد ما هي حجّتك في هذه المسألة؟ فيجيب: إنّ حجّتي هي القضيّة الفلانية و هي قضيّة واضحة قام عليها البرهان، فالدليل العلمي و المنطقي الذي لا يقبل النقض يُسمّى حجّة، و أمّا لو سألوا هذا الشخص: ما هي حجّتك في هذه المسألة؟ فقال: كلام فلان، فيقولون له: إنّنا لا نقبل فلاناً نفسه حتّى نقبل كلامه، ففي هذه الصورة لا يمكن أن نسمّي ذلك حجّة، لأنّك لا تملك أمراً يوجب الإحكام و الإتقان، و ما تعتمد عليه ليس أمراً محكماً بل هو أمرٌ متزلزل لا أهميّة له، و لكن لو قالوا: ما هو دليلك في هذه الفتوى و الحكم التكليفي؟ فكان الجواب: إنّ دليلي هو هذه الآية القرآنية أو هذه الرواية الواردة عن المعصوم عليه السلام، فكلامه غير قابل للردّ أو الاعتراض، و هذا ما يسمّى بالحجّة.
إذاً الحجّة اصطلاحاً هي المُستند و المعتمد، و كلّ شخص عندما يتحرّك في مسير ما، فعليه أن يمتلك مستنداً يعتمد عليه في انتخابه لذلك المسير خصوصاً، و من يريد أن يعرض مطلباً ما، فعليه أن يبيّن مستنداً و دليلاً عليه؛ إذ لا يصحّ أن يأتي الإنسان و يعرض مطلباً ما هكذا من عنده، ثمّ يقول: هذا ما يعجبني و ما يميل إليه قلبي، فلا علاقة للتمايل القلبي بالأمر، و لذا فعلى من يقول كلاماً أن يعتمد على مستند في كلامه، و من يسير في طريقٍ ما فعليه أن يعتمد على مستند، و من يُقدِم على فعلٍ ما فعليه أن يكون عنده ما يعتمد عليه، و هذه جميعاً هي ما نطلق عليه >حجّة<، فالحجّة هي المُستند و المعتمد، و ما يُقال من أنّ الحجّة هي الدليل سببه أنّ الدليل هو معتمد الإنسان و مستنده في الوصول إلى المطلوب، و في غياب الدليل فإنّ الإنسان لن يكون عنده ما يعتمد عليه في الصحراء، ولهذا ينبغي أن يكون عند الإنسان دليل يثق به و يعتمد عليه ليسلك به في هذه الطرق الخطيرة .. يجب أن يمتلك الإنسان مستنداً في قبوله للأفراد، فالشخص الذي يقول اليوم كلاماً، ثمّ يأتي غداً فيغيّر كلامه لا يمكن الاعتماد عليه و الوثوق بكلامه، لأنّ مثل هذا الشخص ينطلق في كلامه من رغباته و مصالحه، و يبني مواقفه على ما يراه من مصالح تخيّلية، و مثل هذا الشخص لا يصلح أن يكون معتمداً يتكّئ الإنسان عليه.
ماذا يقول الإمام عليه السلام: "و أمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه ..." و أين يمكن العثور على مثل هذا ؟! أين؟! لقد كان المرحوم الشيخ حسين الحلّي رحمة الله عليه ... انتبهوا فهذا كلام الشيخ حسين الحلّي الذي كان يقول عنه السيّد الوالد أنّه "العلاّمة الحلّي الثاني"!! الشيخ حسين الحلّي هذا كان يقول في شرح هذه الفقرات: إنّ هذا المقام يختصّ ببعض الخواصّ المقرّبين من الحضرة الإلهيّة ولا يشمل أمثالي ممّن هم كذا وكذا، و لن أقول: الكلمات التي أوردها، و لا بدّ أنّ الإخوان قد رأوها في التعليقة التي كتبتها، وهي واقعاً كلمات نابعة من تواضعه رحمة الله عليه و علوّ درجته و صفاء نفسه، فانظروا كيف يعتبر هذا الرجل العظيم نفسه حقيراً أمام هذه القيم، وكيف يسلّم ويخضع أمام رفعة هذا المقام وعزّته ! كان يقول: أنّى لمثل هذا المقام أن يليق بشخصٍ >كذا و كذا< مثلي ؟! إنّ قائل هذا الكلام هو الشيخ حسين الحلّي الذي لم يكن أحدٌ قادراً على فهم تقريراته، فضلاً عن إدراك مقام ثبوته.
يقول الإمام عليه السلام: إنّ هؤلاء الأفراد حجّة .. حجّةّ! وعليه من هو الحجّة؟ الحجّة هم الأفراد الذين وصلوا إلى هذا المقام والمرتبة، بحيث صار كلامهم كلام الإمام عليه السلام، وطبعاً في المراتب المتأخّرة تجري قاعدة الأهمّ فالأهمّ وفي الرتب الأدنى تجري أحكام الضرورة، وها هنا مطالب مختلفة تحتاج إلى مزيد توضيح و بيان.
الحجّة هو الشخص الذي يمكن للإنسان أن يثق به ويعتمد عليه .. [و هو الذي ينطبق عليه أنّه:] "أمينٌ على دينكم و دنياكم" .. أمين! أيّ إنّه الشخص الذي صار مورداً للأمانة الإلهيّة ومصداقاً لها، فهذا الشخص الأمين بالنسبة للدنيا ومصالح الدنيا .. تلك الدنيا التي توجب العافية لا الهلاك، وكذلك فهو أمين بالنسبة للآخرة أيضاً .. تلك الآخرة التي توصل الإنسان إلى التجرّد والتوحيد لا إلى المراتب الدنيا من حظيرة الجنّة! نعم، فالجنّة لها حظيرة أيضاً، كما أنّ فيها مرتبة "جنّة الذات" أيضاً، فأيّة مرتبة نريد؟ هل نطمح إلى المراتب الدنيا منها؟ و هل يكفينا ألاّ ندخل النار فقط ؟! و هل ينتهي الأمر بأن ننجو من العذاب الإلهيّ؟ أم لا.. نحن نطمح للوصول إلى مرتبة يكون أنيسُنا و جليسنا فيها الأئمّة والأولياء الإلهيّين؟ فأيّة مرتبة من هاتين المرتبتين ـ مع ما بينها من المراتب الكثيرة ـ نختار لأنفسنا؟ وأيّ دستور و أيّ تكليف وأيّ حجّة يمكن أن توصلنا إلى هذه المرتبة العالية؟
لقد بيّنت لكم ذلك في الليلة الماضية، وما أبيّنه من المطالب على أساس حساب دقيق، فأنا لا أريد أن أفرغ ما في قلبي من الحنق، فنحن ليس لدينا حقد على أحد ... مع من؟ وممّن؟ فالمطالب العلميّة والحقيقيّة لا تسعها هذه الأوعيّة، بل نحن نذكر هذه الأمور لإيضاح المطالب والحقائق، وحتّى نفهم و نعرف أيّ درّ ثمينٍ ونادر قدّمه لنا الأعاظم، لأنّ الإنسان ما لم يفهم الفرق، فلن ندرك علوّ درجة العرفاء الإلهيّين وارتفاع مطالبهم، ولذا يجب أن نفهم الاختلاف و الفرق.

    

الفرق بين مدرسة أولياء الله و غيرهم: الصلاة نموذجاً

فواحد يأتي و يقول: إذا تلفّظت بـ"الضاد" من مخرجها الصحيح في الصلاة فقد أدّيت تكليفك، و ليس عليك تكليفٌ أكثر من ذلك، وهو لا يبيّن للمكلّف مرتبةً من الصلاة أعلى من ذلك؛ بينما الآخر يقول: ينبغي أن تحصل لك حالة من المحو في الصلاة بحيث لا تفهم الكلام ولا تدرك المفهوم حتّى! ينبغي أن تصير مستغرَقاً بشكل تامّ في معاني الصلاة وحقائقها الربطيّة بحيث لو أخرجوا السهم من رجلك فلن تشعر بذلك!! فعندما أخرجوا السهم من قدم أمير المؤمنين عليه السلام، هل كان مشغولاً بمخارج الصاد والعين؟! لو كان كذلك لقفز من الألم بمجرّد أن تمسّه إبرة صغيرة، فكيف باستخراج السهم من رجله؟! فلو كانت صلاته كصلاة الحقير وأمثاله مبنيّة على الاهتمام بإخراج الصاد والضاد والعين من مخارجها الصحيحة، فكيف أخرجوا السهم من رجله دون أن يعرف ؟! ها؟!
هل ينبغي أن نأتي إلى أمير المؤمنين عليه السلام و نعترض عليه أن: يا عليّ، ما هذه الصلاة التي تصلّيها بحيث أنّك أنت نفسك لا تشعر بما تقول؟! وبحيث يخرجون السهم من رجلك وأنت لا تدري؟! فأيّة صلاة هذه؟! عليك أن تنطق العين بشكل صحيح، والحاء ينبغي أن تخرج واضحة من أسفل الحلق.. هكذا عليك أن تصلّي فصلاتك ليست صحيحة!
حينئذٍ سيجيب أمير المؤمنين عليه السلام: اذهبوا وافرحوا بصلاتكم تلك، فنحن في مكان آخر غير المكان الذي أنتم فيه؛ فأنتم لو أدخلوكم إلى حظيرة الجنّة فذلك كثير في حقّكم. واضح؟ لم يكن سلام الله عليه ليهتمّ بهذه الأمور.
روي عن رسول الله صلّى الله عليه و آله أنّه قال: سيعطونك من الثواب والدرجات في الجنّة بمقدار ما تدركه من صلاتك، فهل هذه الرواية تطابق ما نقوله نحن؟ وهل كلام ذاك الذي يقول: (عليك أن تؤدّي الحروف من مخارجها، و اكتفِ بالمعاني الحكائيّة فقط، و حتّى لو لم تفهم شيئاً فلا مشكلة)، يطابق كلام من يقول: (إنّ مقدار فهمك و تعقّلك لمعاني الصلاة و مفاهيمها و معارجها يحدّد مقدار الثواب والدرجة التي ستحصل عليها) ؟! انتبهوا.. دستور من هذا ؟ أهو دستوري أنا أم دستور رسول الله ؟! فذاك الذي يقول: لا ينبغي أن تقصد من قولك {إيّاك نعبد، و إيّاك نستعين} إلاّ المعنى الحكائي؛ وقصد المعنى الحكائي يعني: لأنّهم أمرونا بأن نقول {إيّاك نعبد} فنحن نقول ذلك، و إلاّ فإنّ {إيّاك نعبد} هذه لا تصدق علينا، ولا يوجد لحقيقتها مصداق عندنا، فقد أمرونا أن نقول {إيّاك نعبد، و إيّاك نستعين} ولذلك نحن نفعل ذلك.
فإذا كان الأمر كذلك، فأين ذهب قوله (بمقدار فهمه) ؟! أليس هذا مدّعاه؟ وهل يوجد عنده شيء آخر؟ فبناء على كلامه إنّما واجبنا هو أن نقول: {إيّاك نعبد، وإيّاك نستعين}، وهذا أمرٌ واضح، فهل هناك أمرٌ آخر وراء هذه القضيّة؟!
إذاً فلا فرق بين {إيّاك نعبد، و إيّاك نستعين} التي نقولها نحن، و بين {إيّاك نعبد، و إيّاك نستعين} التي يقولها نفس رسول الله صلّى الله عليه وآله! و بالتالي فمرتبة صلاتنا هي نفسها مرتبة صلاة رسول الله؛ لأنّ كلاًّ منّا يقول: {إيّاك نعبد، و إيّاك نستعين}، فهو يقولها ونحن نقولها أيضاً، فكيف صارت مرتبة رسول الله أعلى؟! و أين ذهب قوله: (من يفهم بدرجة أعلى فإنّ درجة صلاته أعلى) ؟! أين علينا أن نبحث عن هذه الأسئلة؟ و أيّ مفتاح ينبغي أن نستعمل؟ و بمن علينا أن نستعين في هذه المسألة ؟! بأيّ شخص؟ هل نعتمد على ذلك الذي يقول: (لا يهمّ كيف تصلّي طالما أنّك لم تخلّ بأيّ واحدٍ من أركان الصلاة ووأجزائها، فذلك كافٍ) ؟!، إنّ مثل هذا الشخص لا يعرف مراتب صلاته هو، فكيف يبيّن ذلك لغيره؟! فإلى من نلجأ إذاً ؟! فهذه مشكلة.
إنّ ذلك الذي يأتي و يقول: (لماذا ينبغي أن نسعى إلى إدراك المراتب العالية التي اختصّ الله بها بعض خاصّته ولماذا نحرص على فهمها والوصول إليها ؟ فنحن إنّما واجبنا أن نطيع أوامر الله تعالى في مقام الامتثال، وبهذا نكون قد أدّينا تكليفنا، ولم يبقَ في ذمّتنا شيء آخر؛ إذ ليس على العبد أن يعرف ما هي مرتبة مولاه وما هي خصوصيّاته، وإنّما وظيفة العبد العبوديّة، وها نحن نؤدّي هذه الوظيفة) .. مثل هذا الشخص هل يستطيع أن يفسّر لنا رواية رسول الله هذه؟! هيهااات.. هيهات.. هيهات!
هل يستطيع أن يبيّن لنا مراتب الصلاة؟ أليس هذا كلام رسول الله؟ فأنا لم أبتدع هذا الكلام من عندي بل رسول الله هو الذي قال ذلك .. رسول الله هو الذي يقول: مراتب الصلاة تابعة لمراتب الفهم والإدراك الذي عند الإنسان في الصلاة، فبناء على كلامهم ينبغي أن نقول لرسول الله: لماذا تقول لنا هذه الرواية؟! فنحن في مرتبة معيّنة، ونحن عبيد الله، وليس لنا أيّة علاقة بـ "من هو الله تعالى"؟ إنّ وظيفة العبد العبوديّة ونحن نؤدّي العبوديّة على أكمل وجه، فماذا تريد منّا بعد ذلك؟ ها نحن نؤدّي الصلاة على أحسن وجه: أولها التكبير وآخرها التسليم، ونؤدّي الكلمات بشكل صحيح، ونؤدّي المعاني والمفاهيم بنحو حكائيّ، يعني: نحن أُمرنا أن نقول: {قل هو الله أحد}، ولهذا نحن نقول: {قل هو الله أحد}، ولكنّني لا أفهم شيئاً من {قل هو الله أحد}.. لا ضير في ذلك أبداً! وضميرنا مرتاح جدّاً، لأنّنا عبيد، ووظيفة العبد الطاعة، وليس علينا أن نفهم معنى الأحديّة الذي ورد في الآية، وأنّ المقصود هنا هو أحديّة الذات، و ليس من واجبنا أن نعرف بأنّه: هل هناك فرق بين أحدية الذات و بين تلك الأحديّة و الواحديّة التي نفهمها نحن؟ أم أنّها شيء واحد؟ هل هذه الأحديّة أحدّية عدديّة؟ أم أحدّية في السعة؟ هل هذه الأحديّة هي في مقابل الإثنينيّة، أم أنّها أحديّة الصرافة في الوجود؟ ألا يؤثّر هذا الاختلاف بين هذين المفهومين على صلاة الإنسان وعلى كيفيّة التقابل بين العبد وربّه؟ يا لنا من حمقى! يجب أن نكون شديدي الجهل حتّى نضع رأسنا في الثلج ولا نفهم شيئاً!
ما هو الفرق بين [هذه الصلاة] و تلك الصلاة التي يقول عنها رسول الله: أرحنا يا بلال؟ يا بلال تعال أرحنا من هذه الدنيا. من الذي يقول هذا الكلام؟ إنّه رسول الله، أفهل ارتكب رسول الله ذنباً (والعياذ بالله) حتّى يقول: أرحنا يا بلال ؟! إنّ من يقول: تعال أرحنا وأخرجنا من هذه الكثرات هو رسول الله.. رسول الله الذي لم يغتب أحداً من الصباح إلى الظهر.. لم يتّهم بريئاً.. ولم يلقِ الأكاذيب بعنوان أنّ المصلحة تقتضي ذلك.. ولم يعتبر النفاق حلالاً بحجّة المصلحة.. ولم يعدّ التهمة حلالاً بدعوى أنّها تهيّء الأرضيّة للوصول إلى المطلوب.. إنّه رسول الله الذي لم يسمع منه الناس حتّى كلمة خاطئة واحدة، و لم يشاهدوا في تصرفاته حتّى زلّة واحدة والتاريخ يشهد على ذلك.
إنّ رسول الله هذا يقول عند وقت الظهر: أرحنا يا بلال.. يعني هذه الصلاة التي يريد أن يصلّيها رسول الله صلّى الله عليه و آله، واقعة بعد كلّ ذلك الاضطراب والتشويش الذي تعرّض له بسبب التعلّق بالكثرات، ولكن ما هي كثرات رسول الله؟ هل كثراته هي الكذب والخداع والاتّهام والنفاق والخيانة والاحتيال على الناس، وتوجيه كلّ أمر خاطئ، واقتحام منازل الناس وارتكاب الفواحش؟ هل هي هذه الأمور التي نرتكبها نحن؟ كلاّ فرسول الله ليس من أهل هذه الأمور.. رسول الله لم يكن من أهل الذنوب.
أمّا نحن فنكذب من الصباح إلى المساء ثمّ نسمّي ذلك ذكاء وفطنة! إنّه كذب.. مجرّد كذّب، ولكنّنا غيّرنا اسمه فقط.. نحن نتّهم الناس ظلماً من الصبح إلى الليل ثمّ نسمّي ذلك "مراعاةً للمصالح".. فنضع هذه العبارة مكان تلك.. نبدّل العبارات فقط.. إنّنا نسرق .. ثمّ ماذا نسمّي ذلك؟ نسمّيه ضرورة !! هذه أعمالنا نحن وكيفية تصرّفاتنا نحن، ولهذا فإذا أردنا أن نتوجّه إلى الله ونصلّي، فعلينا أن نقول له: يا ربّ ها نحن نصلّي لك بعد أن ارتكبنا كلّ هذه المعاصي والذنوب عسى أن تكون هذه الصلاة بمثابة ماء الرحمة الذي يصبّ على ذنوبنا فيغسله...
و لكنّ رسول الله لم يغتب أحداً، ولم يتّهم أحداً، ولم يتسوّر منزل أحد؛ إذاً ما الذي فعله رسول الله؟ لقد دعا الناس إلى الله تعالى لا إلى نفسه.. و قام من الصباح إلى الظهر بإصلاح أمور الناس، وبيّن لهم الحقائق.. قام بتبليغ الدين للناس من الصباح إلى الظهر وضخّ المعرفة في وجودهم، وفي نفس الوقت يأتي ويقول: أرحنا يا بلال! فعن أيّة راحة يبحث؟ ومن أيّ شيء يريد أن يرتاح؟ ولأيّ شيء يرجع قوله: أرحنا؟ إنّ معنى ذلك: يا بلال تعال وبالأذان الذي تقوله، و بالصلاة التي أؤدّيها أريد أن أعيد ذلك التوجّه إلى الذات بعد أن انحرف إلى التوجّه نحو مظاهر الذات .. أريد أن أرجعه إلى التوجّه نحو الذات نفسها، فتعال أرحني .. أريد أن أزيح كلّ المظاهر وأبعدها؛ مع أنّها جميعاً مظاهر صدق وهي الحقيقة بعينها والنور بعينه، فـ "كلامهم نور" وليس فيه أيّة شائبة من الظلمة، بخلاف كلامنا نحن فهو ظلمة ليس فيه أيّة شائبة من النور!
يعني كلامنا وكلامهم واحد [تبسّم من سماحة السيّد]، ولا فرق بيننا أبداً؛ فكلانا درجتنا مائة بالمائة ولا فرق بيننا من هذه الناحية، فهم مائة بالمائة نور، ونحن مائة بالمائة ظلمة، و بالتالي فنحن لسنا أقلّ منهم بشيء، بل نحن و إيّاهم كفرسيّ رهان! [تبسّم من سماحة السيّد].
ذات مرّة كنّا مع أحد أصدقائنا و إخواننا الذي انتقل إلى رحمة الله وهو المرحوم السيّد مرتضى الرضوي ـ وقد كان رجلاً مرحاً مزوحاً ـ وكنّا قد ذهبنا في سفر معه ومع بعض الأصدقاء برفقة السيّد العلاّمة رضوان الله عليه، وكان حال هذا السيّد جيّداً جدّاً فقد كان مبتهجاً سعيداً، فالتفت إلى المرحوم الوالد عندما كان يتوضّأ من حوض المنزل الذي كنّا فيه، وقال لسماحته: يا سيّد، لا تفتخر علينا كثيراً بعلمك، فمهما كان عندك من العلم فلن تبلغ شيئاً أمام جهلي! [تبسّم من سماحة السيّد] .. فمهما كان عندك من العلم فنحن عندنا أكثر ولكن من الجهل، وبالتالي فنحن متفوّقون عليكم!
وحالنا بالنسبة لرسول الله كذلك؛ فرسول الله مائة بالمئة نور أمّا نحن مائة بالمائة ظلمة، فنحن عندنا نفس "المائة بالمائة" التي عنده! و لا تفاوت إلا أنّ عنده شيئاً بسيطاً يسمّى نوراً وما عندنا هو الظلمة، و لكن نحن عندنا الـ "مائة بالمائة" و هذا هو المهمّ!! وبالتالي فلا فرق بيننا [تبسّم من سماحة السيّد] .
حسناً، فهذا الرسول الذي له هذه الخصوصية؛ فهو كان يدعو الناس إلى الله من الصبح إلى الظهر ومن الظهر إلى الليل.. لقد بيّن لهم الحقائق.. ارتقى المنبر وألقى عليهم الخطب والمواعظ، وأوجد النور في قلوب الناس...
لقد جاء شخص إلى رسول الله و قال له: يا رسول الله طالما نحن معك فإنّنا لا نحسّ أننا على الأرض بل نشعر كأنّنا نطير في السماء، ولكن عندما نخرج من عندك فإنّنا نعود إلى الكثرات بالتدريج ونتعامل مع الناس، وهذا يجعلنا نفقد تلك الحالة تماماً لتحلّ محلّها حالات أخرى. فأجابه: لو بقيتم على تلك الحال لأريتكم ملكوت السماوات و الأرض.
هكذا كان الجلوس عند رسول الله، وهذا ما كان الناس يحسّون به عندما يجالسونه، فلم يكونوا يحسّون بأنهم على الأرض بل كانوا يشعرون أنّهم يطيرون في السماء، وفي عين هذه الحال كان رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: لم يعد حالي مساعداً.. آه ! لقد تعبتُ! لقد تعبتُ! من أيّ شيء تعبتُ؟ تعبت من الالتفات من الذات إلى مظاهر الذات (المظاهر النورانيّة لا الظلمانيّة!!)، هذا التوجّه إلى مظاهر الذات بدلاً من نفس الذات هو الموجب لتعب النبيّ الأكرم، وهو يريد أن يرجع بواسطة الصلاة إلى ذلك التوجّه نحو نفس الذات مرّة ثانية، ولهذا يقول: أرحنا يا بلال، تعال يا بلال أرحنا وأرجعنا إلى ذلك التوجّه نحو الذات.. ذلك التوجّه نحو أحديّة الذات، دعنا نذهب إلى هناك حيث لا نرى إلاّ الذات، ونترك المظاهر جانباً لأهلها، ورغم أنّها مظاهر نوريّة وحتّى لو كانت مظاهر حوريّة، وحتّى لو كانت هذه المظاهر هي الملائكة، فنحن تركنا كلّ ذلك وتخلّينا عنه، وقدمنا كلّ الملائكة لهم، وتنازلنا عن الحور لأصحاب الحور...
ماذا يقول جناب الخواجة حافظ:

من كه امروزم بهشت وصل حاصل مى شود
                              وعده ى فرداى زاهد چرا باور كنم

(يقول: أنا الذي سأحصل على جنة الوصال اليوم.. ما الذي يجعلني أصدّق ما يعد به الزاهد للغد؟)


أنا اليوم أتنعّم في الوصال.. اليوم أنا في موقع أتحدّث فيه مع الله تعالى.. أنا اليوم جالس في حريم الأنس، بينما الزاهد يقول: تعال حتّى يعطوك غداً الحور والغلمان والجنّة والتفاح والإجاص والبرتقال الذي أعدّوه لك [تبسّم من سماحة السيّد].. أنا اليوم يوم وصالي فلماذا أرضى وأقنع بأمنيات المستقبل وآماله؟! هذا بعينه ما يقوله حافظ لنا.
يقول الرسول: أرحني يا بلال، فهو عندما يقول ذلك يريد أن يقول: تعال أوصلني إلى الذات، وبالتالي فالصلاة التي يصلّيها النبي هي صلاة العبور من مظاهر الذات إلى نفس الذات. إنّ هذا هو بعينه ما كان السيّد الوالد يقوله عن السيّد الحداد أنّه بمجرّد أن يقول: (الله أكبر)، فلم يعد هناك سيّد حدادٌ في البين! والإنسان لم يكن يحسّ أنّ هناك شخصاً يقول: {الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم ...}، هذا هو ذاك بعينه.
حسناً.. يا جناب ثقة الأعلام وفخر الإسلام؛ هل تلك الصلاة التي تدعونا إليها هي نفسها هذه الصلاة التي يدعونا رسول الله إليها؟! هل هي نفس الصلاة؟! أليس ذلك مضحكاً؟!
ومن هنا يتبيّن لنا كم هي تلك القدرات ورأس المال الوجودي والاستعدادات التي تضيع في هذه الدنيا. إنّ الاعتماد على أمثال هذه الدعاوى هو الذي يضيّع الاستعدادات ويمحقها .. أولئك كان بإمكانهم أن يعملوا طبقاً لدستور رسول الله صلّى الله عليه و آله... فما ذكرناه هو كلام رسول الله، ولو قالوا عنّا كلّ شيء يرغبون به، لكن ماذا يمكنهم أن يفعلوا أمام رواية رسول الله، فأنا لم أتقوّل شيئاً من عندي.
الرواية هي رواية الإمام الصادق عليه السلام.. الرواية رواية الإمام الرضا عليه السلام لا روايتي أنا، اذهبوا و اقرؤوا (عيون أخبار الرضا) ولا تتّهموا الناس بدون دليل.. اقرؤوا روايات الإمام الصادق عليه السلام، ولا تدفنوا رؤوسكم في الثلج هنا وهناك.. اذهبوا واقرؤوا تاريخ أمير المؤمنين و سيّد الشهداء عليه السلام حتّى إذا لم نجد في أنفسنا القدرة على إدراك تلك المقامات فلا نتّهمنّ الآخرين.
ما الذي يحصل لهذه الاستعدادات؟ إنّها تضيع جميعاً.. لماذا؟ لأنّهم أصغَوا إلى كلام هؤلاء، فمن يذهب إلى طبيب ما، فإنّه سيعمل طبقاً للوصفة التي يعطيها هذا الطبيب، وإذا أعطاه هذا الطبيب وصفة خاطئة لا تناسبه، فإنّه سيشرب دواءً خاطئاً، وإذا شرب دواءً خاطئاً فإنّه سيموت.. يموت!! و قد وقع ذلك كثيراً ها! يقولون: التشخيص كان خاطئاً، وتبعاً له كانت الوصفة الطبيّة خاطئة فمات المريض .. مات المريض!! ثمّ بعد ذلك يتبيّن أن: يا للأسف فقد حصل خطأ! يا عزيزي .. ليتك قلت: "يا للأسف" قبل ذلك بقليل، فالمريض قد مات و انتهى الأمر.
و الأمر هنا كذلك تماماً، فالله تعالى لا يعطي الإنسان عُمريْن حتّى يجرّب بأحدهما ثمّ يعمل ويطبّق في الآخر.. كلاّ !! إنّ الله لا يعطي الإنسان إلاّ عمراً واحداً ! حسنا، لو جاء الإنسان وعمل طبقاً لهذه الوصفة [الخاطئة]، فما الذي يحصل؟ سيخسر جميع استعداداته، لأنّ فكره لا يستطيع أن يصعد أكثر من حدود هذه الوصفة، وبالتالي فإنّه سيبقى محدوداً بحدود هذه الوصفة.. اذهبوا وتحدّثوا مع الناس وانظروا كيف يصلّون؛ يقف للصلاة ويقول لابنه: "لو سمحت افتح التلفزيون حتّى نسمع ما يجري!" فهو يصلّي ويتلفّظ {و لا الضآلين} بشكل صحيح، ولكنّ ذهنه مشغول في مباراة كرة القدم المعروضة في التلفزيون، وهل سجّل ذلك اللاعب هدفاً أم لا، يقرأ {إيّاك نعبد و إيّاك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم ...} ويضع في الوقت نفسه هاتفه الجوّال إلى جانبه حتّى إذا اتّصل به أحد نظر إلى الرقم ليعرف من هو المتّصل، ثمّ بعد ذلك يمنّ على الله أنّه على الأقلّ لا يردّ على المتّصل في وسط الصلاة! بل يضعه إلى جانبه ليعرف هل الأمر طارئ ومستعجل أم لا، ففي النهاية يجب أن نعرف ذلك الأمر المهمّ!! وأمّا الله تعالى فدعك منه! فهذا القدر من الصلاة كاف!
حسناً.. ألا يضيع الاستعداد بهذا الشكل؟ فهذا الشخص هو من بني آدم، فهو لم يولد من حمار في هذه الدنيا.. إنّه في النهاية إنسان، وهو ملقّب بلقب "خليفة الله" وعنده "نفخت فيه من روحي"، و لكن في أيّة أرضية قد تربّى و ترعرع؟! وبأيّة وصفة ذهب إلى الصيدليّة؟ وما هو التكليف الذي أدّاه؟ فكلامنا هنا.. كلامنا هنا.
و أمّا لو جاء هذا الشخص إلى وليّ إلهي ... ها .. ذاك يعرف ماذا يفعل معه؛ إنّه يدري كيف يعلّمه طريقة الصلاة .. ويعرف كيف ينبغي أن يبيّن له كيف يقرأ القرآن...

    

قراءة القرآن في مدرسة أولياء الله

أريد أن أسألكم سؤالاً؛ هل سمعتم حتّى الآن أحداً ـ من غير هذه المدرسة ـ يقول: (عندما تقرأ القرآن، فاعتبر القارئ شخصاً آخر، واجعل نفسك مستمعاً) ؟ بينكم وبين الله ... هل سمعتم هذا الكلام من أحد حتّى الآن أم لا؟ يعني عندما يقرأ الإنسان القرآن فعليه أن يرى أنّ القارئ شخص آخر ويرى أنّه هو المستمع.
سأضرب لكم مثالاً، افرضوا أنّ شخصاً كتب لكم رسالة، وفي هذه الرسالة قام بشرح بعض المطالب المتعلّقة بنا نحن أو نبّه فيها على بعض المسائل التي وقعت في الماضي. عندما تصل هذه الرسالة إلى يدكم، ستفتحون الظرف وتقرؤون الرسالة، فتجدون فيها عبارات كهذه: "أنتم بهذا الشكل الفلاني وخصوصيّاتكم كذا، وأنتم تتّصفون بهذه الصفات الحميدة، كما أنّ عندكم تلك الصفات القبيحة، وعليكم أن تفعلوا ذلك العمل وأن تجتنبوا ارتكاب هذا العمل... في المكان الفلاني حصل هذا الأمر.."، وما شابه ذلك من المطالب التي كتبها لكم هذا الشخص في رسالته المكوّنة من صفحة أو صفحتين مثلاً.
فأنتم عندما تقرؤون الرسالة، ألا تحسّون بأنّ ذلك الشخص الذي كتب الرسالة هو الذي يقرأ لكم الرسالة واقعاً؟ وكلّ ما في الأمر أنّه لم يتمكّن من الحضور بنفسه، ولذا فقد بيّن المطالب كتابةً على شكل رسالة، أليس الأمر كذلك؟ أجل بالتأكيد كما هو واضح، يعني بدلاً من أن يأتي ذلك الشخص بنفسه ويشرع بالحديث قائلاً: أنت إنسان من النوع الفلانيّ من الناس، ولديك المميّزات الفلانية، بينما تعاني من العيوب الفلانيّة، ويجب عليك أن تفعل كذا، وفلانٌ فعل كذا، و هكذا يشرع في بيان مطالبه لك... وحيث أنّه يقيم في تلك المدينة البعيدة ولا يقدر أن يصل إليك فهو يكتب لك هذه المطالب بواسطة الرسالة، ولو استطاع الوصول إليك [لقال لك هذا الكلام مباشرة]... ففي الزمان السابق لم يكن هناك تلفون فإنْ أراد أحد أن يخبرك شيئاً فماذا يفعل؟ عليه أن يرسل رسالة، أمّا اليوم فنحن إذا كان عندنا عملٌ مع أحد الأشخاص فإنّنا نرفع التلفون و نتصّل به.
حسناً، في المحادثة التلفونية من هو المتكلّم؟ إنّه ذلك الشخص الذي يريد أن يلقي المطالب ويبيّنها، ومن هو المستمِع؟ أنت الذي تريد أن تتلقّى المطالب وتستوعبها. افرضوا الآن أنّ التلفون مقطوع.. تلفون ذلك الشخص مقطوع، أو لم يكن عنده تلفون .. أو لم يتمكّن من استعمال هذه الوسيلة كما كان الحال في سابق الزمان، ففي هذه الحالة لا يوجد حلّ إلاّ أن يكتب تلك المطالب التي أراد أن يلقيها في التلفون في رسالة ويرسلها إليك، وعندما تصل إليك فتقرأها: فماذا يعني ذلك؟ يعني كأنّني أنا (المرسل) أقرؤها لك بنفسي، وبالتالي فحينما تقرأ أنت الرسالة فأنت تمثّل لسان الكاتب الذي ينطق به، غاية الأمر أنّ لسانه ليس هنا ليقرأ الكلمات بنفسه، ولذا فقد قام بتوكيلك لتقوم بذلك نيابة عنه.. طبعاً أنت يمكنك أن تقرأ الرسالة أو لا تقرأها .. بل تمرّ عليها بعيونك فقط، ولكنّك مع ذلك تقرؤها.
وهكذا فقد يتبيّن أنّ هذه القراءة ليست إلاّ حكاية عن ذلك المتكلّم الأصليّ الذي يلقي المطالب ويريد أن يوصلها إليك أنت (المستمع و المخاطب) وذلك لكي تعمل طبقاً لما جاء فيها.
إنّ القرآن هكذا تماماً؛ فالله أرسل هذا القرآن من أجل ماذا؟ من أجل أن يقول لنا: يا عزيزي أنا لا أستطيع أن أنزل إلى هذه الدنيا فأقرأ لك كلّ هذه المطالب من أوّل سورة الحمد حتّى آخر سورة الناس، فأنا في مقام التجرّد، بينما أنت من جنس المادّة والمادّيات، ومن ناحية أخرى فأنا لا أستطيع أن أُنزل قرآناً خاصّاً ودستوراً عمليّا منفصلاً لكلّ واحد من الناس، ولهذا فقد أحضرت لكم كتاباً واحداً ورسالة واحدة ودستوراً عمليّاً واحداً لكلّ واحدٍ واحدٍ ممّن يصدق عليه أنّه آدمي يولد في هذه الدنيا، وقد جعلتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله ممثّلاً لي في هذا الأمر، ودوره أن يقوم بإيصال هذه الرسالة لكم فقط.
حسناً .. فبناءً على ذلك: ما هو دور رسول الله في هذه العملية؟ إنّه يمثّل ساعي البريد. هل التفتّم؟ هذه هو دوره لا أكثر، { فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ}[1] .. هذا هو واجبك فقط.. يا رسولي، أنت عليك أن توصل الرسالة فقط، واجبك أن توصل المطلب إلى الأفراد [فتقول لهم:] هكذا عليكم أن تصلّوا، وهكذا عليكم أن تصوموا، وهكذا عليكم أن تنشئوا علاقتكم مع الله تعالى، وهكذا ينبغي أن تكون علاقتكم مع الناس، وهكذا ينبغي أن تعيشوا حياتكم، وهكذا يجب أن تكون تصرّفاتكم. و فقط!!
وقد أرسل الله نسخة من ذلك لي أنا ونسخة لك، فخذوا هذه النسخة واطبعوها وليأخذها كلّ واحد منكم إلى منزله، فماذا يكون هذا؟ إنّه رسالة ودستور عمليّ من الله تعالى من أجلي أنا! إنّ أهل المعرفة يقولون لنا: هكذا اقرؤوا القرآن الكريم.
أخبروني: حتّى الآن ممّن سمعتم هذا الكلام؟ ممّن؟ أجل.. يقولون لنا: اقرؤوا القرآن ففي ذلك ثواب عظيم، فيمسك أحدنا القرآن ويقرؤه بسرعة من أوّله إلى آخره لأنّ في ذلك ثواب كبير، ولكنّه أصلاً لا يفهم معاني الآيات التي يقرؤها، ولا يدري إلى أيّ أمرٍ هي ناظرة، ولا يجلس فيفكّر ويتدبّر في مضامينها.. لا شيء من ذلك كلّه، بل يقرؤه هكذا دون تأمّل قائلاً: "إنّ قراءة القرآن فيها ثواب.. اقرأ جزءاً كلّ يوم فنحن في شهر رمضان في النهاية.. (أنفاسكم فيه تسبيح و نومكم فيه عبادة ) ..."
جيّد جداً.. هذا نوعٌ وقسم من الناس. أمّا الطريقة الأخرى والنوع الآخر فيقول: تأمّل في الآية التي تقرؤها [وتدبّر في معانيها، ولا تمرّ عليها مرور الكرام، فمثلاً قوله تعالى] {هُوَ الَّذي يُنَزِّلُ عَلى‏ عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحيمٌ }[2]، واقعاً إنّ جلد الإنسان ليقشعرّ عند قراءتها.. اقرأ هذه الآية فقط يا عزيزي واجلس وتفكّر فيها وانظر ماذا تقول هذه الآية: يا من كنت أريد أن أحدّثك بالتلفون لأقول لك ماذا تفعل.. إنّ ذلك الكلام التي أردت أن أقوله في التلفون قد كتبته وأرسلته لك مع رسول الله فأوصله لك، وها هو الآن بين يديك، فهو قد أحضر لك آيات وعلامات ومظاهر حتّى يخرجكَ من ظلمة الجهل والتخيّل والتوهّم والمجاز، ويشدّك إلى عالم النور الذي هو عالم "الحيوان" والإنسانيّة والحياة والفلاح السرمديّ .. { وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحيمٌ }، إذ لولا رحمته لما فعل ذلك من أجلكم.
هل جلسنا حتّى الآن وتدبّرنا في هذه "الآيات"؟! فما هي الآيات التي أنزلها الله لنا لتخرجنا من الظلمات إلى النور؟! أين هي هذه الآيات؟ اذهبوا وانظروا .. ما هي العلامات والمسائل والخصوصيّات؟ لقد بيّنوا ذلك كلّه لنا، فنحن عندنا أربعة عشر معصوماً قد بيّنوا لنا كلّ ذلك؛ فهم قد أعطونا دستورنا العمليّ، ولو ضممنا ذلك الدستور الوارد لنا من المعصومين عليهم السلام إلى القرآن الكريم لتمّ الأمر ولما احتجنا إلى أيّ شيء وراء ذلك.
أمّا الأولياء والعرفاء الإلهيّين فدورهم هو أن يطبّقوا ذلك ويطلعونا على مصاديق تلك الأمور، وأن يبرزوا تلك الحقائق بصورتها العينيّة الخارجيّة، فهم يقولون لنا: ذلك هو المعنى والمفهوم وهذا هو مصداقه.. ذلك هو المعنى وهذه حقيقته الخارجيّة.. إنّهم لا يفعلون أمراً آخر غير ذلك.
حسناً، فإذا قرأنا القرآن بهذه الطريقة وطبقاً لما أمرونا به وهي أن: احرص عندما تقرأ القرآن أن ترى أنّ القارئ هو الله تعالى وأنّك أنت المستمع، فإذا طبّقنا ذلك فسنتفاجأ أنّه: يا للعجب.. لقد قرأتُ هذه الآية مائة مرّة سابقاً، ولكنّها لم تكن تعطي هذا المعنى!! فما الذي حصل حتّى جاء هذا المعنى إلى ذهني؟ (طبعاً كلامنا هنا عن فهم المعنى فقط ها! حيث أنّ من الممكن أن تحصل للإنسان في هذا المجال مكاشافات وتتبيّن له حقائق خفيّة، فأكثر المكاشافات التجرّدية التي تحصل للسالك تكون حالَ قراءة القرآن.)
وحينئذٍ يتعجّب الإنسان حينما يشاهد الفرق بين ما يقوله هذا وما يقوله ذاك؛ فذاك يقول: نحن لسنا بحاجة إلى قراءة القرآن! (و اللهِ هناك من يقول ذلك !)، يقول: إنّ القرآن عبارة عن مجموعة من الأحكام وهذه نعرفها من خلال الروايات، ومجموعة من المسائل الأخلاقيّة التي نعرفها أيضاً !! فلأيّ شيء نقرأ القرآن ؟! وبالنتيجة ستجد أنّ القرآن تعلوه طبقة سميكة من الغبار!
ألم يذكر السيّد العلاّمة ذلك؟ يقول: كنتُ أتحدّث مع أحد فضلاء النجف، فقال: إنّنا لسنا بحاجة إلى القرآن.. إنّ طالب العلوم الدينيّة ليس بحاجة لقراءة القرآن يا سيّد محمّد الحسين.. وذلك أنّ القرآن عبارة عن:
مجموعة من الآيات التي تتحدّث عن الأحكام و تسمّى "آيات الأحكام"، وهذه لا تحوي إلاّ أحكاماً كلّية وليس لها تطبيق عمليّ كبير، كما أنّ تفاصيل الأحكام والخصوصيّات الدقيقة وارد في السنن والروايات.
و مجموعة من الآيات التي تتحدّث عن الأمور الأخلاقيّة وهي أمور معروفة: ساعد الآخرين.. افعل الخير .. لا تكذب ... و ما شابه ذلك.
والقسم الثالث فهو الآيات التي تحكي مجموعة من القصص والحكايات، وهذه قد قرأناها لمرّة واحدة فعرفنا ما فيها وفهمنا ما هي قضيّة الخضر مع موسى!!
فلأيّ شيء بعد ذلك نقرأ القرآن؟! لأيّ شيء بعد ذلك نقرأ القرآن؟!
لقد قيل هذا الكلام واقعاً، و هو موجود حتّى الآن.
حسناً.. ضعوا هذا الكلام إلى جانب الرواية الواردة عن الإمام الرضا عليه السلام.. ذلك الإمام المعصوم !! المعصوم!! حيث يقول: "أُمر الناس بالقراءة في الصلاة (وليس قراءة {قل هو الله أحد} فقط) لئلا يكون القرآن مهجوراً مضيعاً، وليكون محفوظاً مدروساً" .. أي ليكون القرآن محفوظاً في الصدور، ويأخذ حقّه من الاهتمام، ولكي يعمل الناس على أساسه. فهذا السيّد يقول هكذا ينبغي أن نتعامل مع القرآن بينما دستور الإمام المعصوم لنا بهذا الشكل؟ فمن ينبغي أن نتّبع ونطيع؟ وأيّة وصفة طبّية علينا أن نصرف ونستعمل؟
ذاك الإمام المعصوم .. الإمام الصادق عليه السلام يقول: (إنّ الدرجات و المراتب التي سيحصل عليها كلّ فرد يوم القيامة هي بمقدار إدراكه لمعارف القرآن وتحقّقها في صدره)، أمّا هذا السيّد فيقول: لأيّ شيء نقرأ القرآن وما الفائدة في ذلك؟ فلا ينبغي لطالب العلوم الدينية أن يهدر وقته في قراءة القرآن لأنّ عنده أعمال أكثر أهميّة!!
أخبرني من الذي يفهم الأمور بشكل أفضل: أنت أم الإمام الصادق؟! من؟! وبناء على أيّة وصفة علينا أن نعمل؟ فنحن في النهاية لا بدّ أن نعمل بناء على واحدة منهما، وذلك الشخص يطبّق ما يقوله.. فهل نطبّق كلام الإمام الصادق عليه السلام أم نعمل بكلام هذا الشخص؟! هل نعتمد على كلام الإمام الرضا عليه السلام أم على كلام هذا الشخص؟! هل نعمل بناء على كلام الأولياء الإلهيّين أم بناء على كلام هذا الشخص؟! أيّ منهما؟ هذا هو معنى { هُوَ الَّذي يُنَزِّلُ عَلى‏ عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ ...} فالله يضع أمامنا كلا الطريقين فهذا طريق وهذا طريق آخر فاختر لنفسك ما شئت؛ فإذا وجدت أنّ ذلك الطريق يخرجك من الظلمة إلى النور : فـ بسم الله .. تفضّل وامض فيه واعمل بناء عليه.. إذا وجدت فعلاً أنّه يُخرج الإنسان من الظلمة إلى النور فاذهب وطبّق!

    

اتّباع أولياء الله يخرج الإنسان من الظلمات إلى النور

عندما يذهب الإنسان ويجلس إلى جانب هؤلاء فإنّه يرى عجباً .. فمستوى كلامهم وحديثهم وضيع جدّاً .. (أنا أتحدّث عن الناس العاديّين فلا تذهبنّ بكم الظنون !! حسناً .. إذا ذهبت فلتذهب! [ضحك من سماحة السيّد])، ما هو مستوى كلامهم؟ وما هو أفق تفكيرهم؟ وما هو الجوّ والمحيط الذي يعيشون فيه؟ واقعاً يشعر الإنسان برغبة في التقيّؤ!
بينما عندما نذهب إلى مجالس السيّد الحدّاد رضوان الله عليه ونجلس عنده، فإنّنا نشعر أنّنا سنطير محلّقين في السماء! فما هي القضية؟ إنّ نظرته معجزة .. كلامه معجزة.. جلوسه معجزة.. قيامه معجزة.. حركته معجزة.. سكونه معجزة، لأنّه قد صار مصداقاً، فوجوده الآن صار مصداقاً.. مصداقاً لتلك الحقائق النورانيّة وتلك المسائل العالية.
حسناً.. كان المقرّر ألاّ تتجاوز مدة المحاضرة ساعة، فهل انتهت الساعة أم لا؟ فنحن كنّا قد ارتأينا ألاّ تطول أكثر من ذلك حتّى لا يتضايق الإخوان، وإذا لم يتضايق الإخوان فقد يتضايق غير الإخوان [تبسّم من سماحة السيّد]، فالنهار طويل في هذه الفترة ولا بدّ من مراعاة جميع الجوانب.
على كلّ حال، نأمل أن يرزقنا الله ـ في المرتبة الأولى ـ فهم المسائل والحقائق فذلك مهمّ جدّاً، وواقعاً لا ينبغي للإنسان أن يفخر ويزهو بنفسه، نعم.. ينبغي له أن يعتزّ ويفتخر بما أعطاه الله، فنفس الشكر الذي يقوم به الإنسان هو اعتزاز وافتخار.
فلو أنّ هؤلاء الأولياء و العظماء لم يأتوا ويبيّنوا لنا هذه الحقائق القرآنية وسنّة النبيّ و الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين؛ فماذا كنّا سنفعل؟ وماذا كان سيكون حالنا واقعاً؟ فنحن قد رأينا الأفراد الآخرين الذين جاؤوا وعرضوا ما عندهم من بضاعة.. رأينا أولئك وسمعنا كلامهم وجرّبنا تصرّفاتهم.. جيّد جدّاً.
ولكن لو لم يأتِ أمثال المرحوم العلاّمة الطباطبائي والسيّد القاضي والعلاّمة الطهراني وأساتذتهم وغيرهم من الأعاظم.. لو لم يأت هؤلاء ويبيّنوا لنا ذلك الطريق الذي ينطبق عليه: {يخرجكم من الظلمات إلى النور} .. لو أنّهم لم يبيّنوا لنا هذا الطريق، فماذا كنّا فاعلين؟ ألم يكن هذا الاستعداد ليضيع؟ إذاً ينبغي أن نشكر الله كثيراً على هذه النعمة وهي أنّ هؤلاء العظماء ـ مع كلّ تلك المرارات التي تجرّعوها، والأمور التي تعلّموها وجرّبوها، والأوضاع التي مرّوا فيها ـ قد جاؤوا وبيّنوا لنا المطالب: بيّنوا لنا المجاز، وبيّنوا لنا الحقيقة.. عرّفونا الدنيا كما عرّفونا العقبى.. أوضحوا لنا الطريق الصحيح من الطريق الخاطئ.. أجل، لقد أوضحوا لنا كلّ ذلك، وإن كان أحد الأفراد لا يعمل ولا يطبّق، فهو المسؤول عن تصرّفاته، ولكن هم قد بيّنوا المطالب.
فبدلاً من أن تمرّ علينا السنوات الطويلة، وبعد هذه المدّة الطويلة نكتشف ونتفاجأ أنّه: يا للعجب ما أكبر الخطأ الذي وقعنا فيه! بدلاً من ذلك فقد بيّنوا لنا منذ البداية أن: أيّها العزيز، إنّ هذا خطأ واشتباه. ألم يحصل ذلك؟ ألم يقولوا لنا إنّ هذا خطأ واشتباه؟ بلى.. لقد قالوا: إنّ هذا خطأ. ولكنّ الطرف المقابل لم يقبل وقال: "كلاّ ليس خطأً، بل هو صواب، وهو ما ينبغي أن نفعله.. يجب أن يكون الإنسان واعياً وعنده بصيرة ... "، و أمثال ذلك من الشعارات.
جيّد، هل تبيّن الأمر الآن؟ لماذا؟ لأنّنا لم نرغب أن نعمل بالنور، و لو أردنا ذلك لأعطانا الله الطريق اللازم لذلك.. لو أردنا ذلك لفتح الله السبيل أمامنا.

    

لا يوجد خطّ أحمر في البحث العلمي سوى تجاوز الحقّ

قبل مدّة كنت أتحدّث مع أحد الأشخاص ...
اليوم رأيت رواية مكتوبة على ورقة، وقد ورد فيها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: "لا يستكمل عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يدعَ المراء وإن كان محقّاً"، فبعض الأفراد يكون الحقّ معه فيستمرّ بالنقاش والجدال لإثبات ذلك للطرف المقابل.. كفى يا عزيزي! بمجرّد أن فهمتَ أن الحقّ معك، توقّفْ واترك البحث.. بيّن مطلبك مرّة واحدة ثمّ اذهب، فإن لم يقبل منك الطرف المقابل فدعه لا يقبل، ولا تضيّع وقتك، فلو أنّ الإنسان أراد أن يسمع (ولم يضعْ جبساً في أذنه)، فإنّه سيسمع ويفهم، ولكن لو وضع الإنسان جبساً في أذنيه حتّى لا يسمع فلا فائدة حينئذٍ مهما قلتَ و أتعبت نفسك ...
كنت أتحدّث مع أحد الأشخاص، وقلت في نفسي: فلنرَ إلى أيّ حدٍّ هو مستعدّ لسماع الحقيقة؟ إذ من الجيّد أن يفهم الإنسان كيفيّة الوضع حتّى لا يتعب نفسه دون طائل، فتقدّمنا في الكلام معه، فمشى معنا حتّى وصل إلى نقطة معيّنة فتوقّف وتخلّى!
عندما رأيت ذلك منه، قلت له: لقد مشيت معي إلى هنا بشكل جيّد فلماذا توقّفت هنا؟ فتفاجأت أنّ أسلوبه قد تبدّل وبدأ يلقي عليّ الشعارات بدلاً من البحث العلميّ، فقلت له: "هذا فراق بيني وبينك" .. انتهى الأمر، فإلى هنا كان الأمر جيّداً، وقد ترافقنا ومشينا سويّاً، ولكن ها هنا لا بدّ أن نفترق، فنحن لسنا من أهل الشعارات!!
إذا أردت أن تتكلّم في الحقائق والواقعيّات فإنّنا نمشي معك حيثما يصل البحث، وليس عندنا خطّ أحمر!! فنحن مستعدّون لمواصلة البحث وليس عندنا خطّ أحمر إلاّ مجاوزة الحقّ.. هذا هو الخطّ الأحمر عندنا. ولكن إذا جاءت الشعارات لتحلّ محلّ الحقّ فذلك خطأ، ونحن سنترك البحث حينئذٍ.. في أمان الله!! فقال: لا .. تعال وأكمل البحث معي، فقلت له: كلاّ، اذهب أوّلاً وقم بترسيم موضع الخطّ الأحمر.. وحدّد أين يجب أن نرسم خطّاً أحمر، ثمّ بعد ذلك تعال لنتباحث، وأمّا بهذا الشكل فإنّك تتلف وقتك ووقتنا أيضاً.
فلنسأل الله تعالى أن يجعل خطّنا الأحمر هو مجاوزة الحقّ فقط لا غير، فلو تحقّقت هذه المسألة فقد ضمنّا الخير لأنفسنا! ولكن لو تقدّمنا إلى الأمام .. تقدّمنا ومشينا حتّى وصلنا إلى نقطة معيّنة فقلنا : لا ..ها هنا لا بدّ من التجاوز والإغضاء، فقد انتهى الأمر.. لقد توقّفنا هناك، ولن ننمو ونتطوّر بعد ذلك، بل سنستمر بالحركة والدوران عند ذلك الحدّ.. عبادتنا ستظلّ محدودة في هذا الإطار (وقد ضربت لكم مثالاً على ذلك).. وزيارتنا ستكون محدودة في هذا الإطار.. حجّنا كذلك سيبقى محدوداً ضمن هذا المجال لا أعلى من ذلك.. وصلتنا للرحم كذلك، وصلاتنا وأقوالنا ونصائحنا، وتبليغنا وضحكنا وتبسّمنا وكلّ أفعالنا ستظلّ محصورة في ذلك الإطار فقط، وستمرّ سنة على هذا الحال، ثمّ تمرّ سنة ثانية.. ستمرّ عشر سنوات وتبيضّ محاسننا من الشيب، ومع ذلك سنظلّ محدودين بذلك الحدّ الذي توقّفنا عنده، وفي النهاية سنقول: في أمان الله.. عند هذا الحدّ أيضاً! [تبسّم من سماحة السيّد].
فحينما يأتي عزرائيل فإنّه لن يرفعنا ويضعنا في مكان أعلى وأرقى ممّا نحن فيه، بل هو يقول لنا: أنا سآخذكم إلى نفس المكان الذي وصلتم إليه؛ فلو صعدتم متراً واحداً في الدنيا فأنا سآخذكم إلى هناك، ولو صعدتم مترين.. فمترين، وأما إذا وصلتم إلى ذلك المكان العالي، فإنّ الأمر سيخرج حينئذٍ عن عهدتي وسيكون الأمر موكولاً إلى الله تعالى.. إذا وصلتم إلى تلك الأماكن...
فبناء على ذلك ينبغي علينا أن نشكر الله تعالى أن أعطانا وصفةً .. العمل بها لا يستتبع الندم أبداً! هل رأيتم كم ندم الآخرون! و كيف تبيّن أنّنا خُدعنا و استُغفلنا؟! فبعض الناس قد يُخدع في بعض المعاملات والمسائل اليوميّة .. ومن الممكن أن يأتي أحدهم ويستغفل الإنسان ويخدعه.. ما هو سبب ذلك؟ سببه ثقتنا التي نضعها في غير محلّها، والإمام عليه السلام يقول: لا تثق بكلّ أحد وإلاّ فإنّك ستُستغفل وتخدع [تبسّم من سماحة السيّد].. حسناً.. بعض الناس يفهم أنّه قد خُدع بعد شهر واحد، وبعض الناس بعد شهرين، ولكنّ بعضهم لا يفهم إلاّ بعد سنتين أو أكثر أو أقلّ [تبسّم من سماحة السيّد].. من الجيّد أن يمزح الإنسان قليلاً، و قد يكون الأمر مزاحاً وجادّاً .. ليس سيئاً على كلّ حال.
ولكن عندما يقول لنا الأعاظم: افعل ذلك العمل، فإنّ ذلك لا يستتبع الندم والحسرة أبداً.. إنّها تلك الوصفة التي تتجسّم فيها الحقيقة النورانيّة للإنسان، ولا يمكن أن يؤدّي اتّباع الحقائق النورانيّة إلى ندم الإنسان و تحسّره أبداً.
نأمل أن نكون دائماً أن يشملنا الله تعالى بلطفه الخفي، وأن نتنعّم جميعاً بالعناية الخاصّة لمقام ولاية حضرة الحجّة بن الحسن عليه السلام.

اللهم صلّ على محمّد و آل محمّد.


[1] ـ جزء من الآية 40 من سورة الرعد.

[2] ـ سورة الحديد: الآية رقم 9.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی