معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1432 هـ > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1432 هـ - الجلسة الرابعة: حقيقة عمل الإنسان بين الظاهر والباطن

_______________________________________________________________

هو العليم

سلسلة شرح دعاء أبي حمزة الثمالي للعام 1432 هـ

المحاضرة الرابعة:
حقيقة عمل الإنسان بين الظاهر و الباطن

ألقيت هذه المحاضرة في الليلة السابعة من ليالي شهر رمضان المبارك

ألقاها:

سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
و صلّى الله على سيّدنا و نبينا أبي القاسم محمّد
و على أهل بيته الطاهرين
و اللعنة على أعدائهم أجمعين

«وَقَدْ رَجَوْتُ أَنْ لاَ تُخَيّبَ بَيْنَ ذَيْنِ وَذَيْنِ مُنْيَتِي، فَحَقِّقْ رَجَائِي وَاسْمَعْ دُعَائِي‏، يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ‏».

    

حقيقة مقام العبوديّة قبال المولى

يقول الإمام السجّاد عليه السلام: إنّ أملي ورجائي يا ربّ ألاّ تردّني خائباً.. مكسور القلب.. وألاّ تخيّب بين ذين و ذين منيتي؛ فما هو المقصود من قوله: "ذين"؟ و ما هما الأمران اللذان يتحدّث عنهما الإمام هنا؟ فكلمة "ذين" هي تثنية "ذا" ؛ يقال: هذا .. هذان، و في حالة النصب: هذين، وفي بعض الأحيان تحذف الهاء منها.
لقد بيّن الإمام السجّاد عليه السلام هنا أمرين: الأوّل هو «حجّتي يا الله في جرأتي على مسألتك مع إتياني ما تكره جودُك و كرمك». لقد ذُكر ها هنا مسألتان: المسألة الأولى من طرف العبد ومن ناحية نفس الشخص، وأمّا المسألة الثانية فمن ناحية الله تعالى. والأمر الذي يصدر من ناحية العبد هو السؤال والطلب، إذ ما هو الأمر الذي يتوقّعه العبد من مولاه؟ إنّ ما يتوقّعه العبد من مولاه هو تحقيق آماله وأمنياته، لأنّه لا يستطيع أن يصل إليها بنفسه.
ما نفعله نحن ادّعاء العبوديّة، و أمّا الأولياء والأعاظم فعندهم عبوديّة بمعناها الواقعيّ، فهم عندما ينظرون إلى العبوديّة فإنّهم يلاحظون ذلك المعنى الواقعيّ للعبوديّة، فالعبد الذي لا يملك لنفسه اختياراً، ولا يملك لنفسه ريالاً واحداً[1] في جيبه.. فكيف يستطيع أن يحقّق أيّاً من أمنياته بالاعتماد على نفسه؟! هل يستطيع هذا العبد أن يذهب ويحصّل لنفسه زوجة؟ هل يستطيع هذا العبد أن يشتري لنفسه منزلاً؟ هل يستطيع العبد أن يجري معاملة أو يختار لنفسه رفيقاً؟ كلاّ.. إذ ليس لديه اختيار في أيّ شيء.
وهذا هو معنى كونه عبداً، فهو إن أراد أن يتزوّج فيجب أن يكون ذلك بإجازة المولى، فهو يحتاج إلى إجازة مولاه لكي يتزوّج... ولكن طبعاً لا يحقّ للمولى ألاّ يأذن له في مثل ذلك، إذ يجب شرعاً على المولى أن يلبّي تلك الاحتياجات الفطريّة والتكوينيّة التي أودعها الله تعالى في كلّ إنسان، وإذا خالف المولى هذا الأمر فإنّ وظيفة الحكومة الإسلاميّة أن تُجبره على تنفيذ طلبات عبده المشروعة والفطريّة، و لكنّ هذا بحث منفصل وباب طويل.. إنّه باب واسع و طويل جدّاً، حيث يُبحث فيه عن الموارد التي يحقّ فيها للعبد الاختيار وأيّها لا حقّ له فيها أن يختار، وهذا البحث ينبغي أن يبحث في مكانه المناسب...
ولكنّ عموماً الإجازة في أعمال العبد ينبغي أن تصدر من المولى.. يعني على المولى أن يعطي الإذن والإجازة له حتّى يفعل العبد ذلك، وللمولى أن يؤخّر الإذن بناء على مصالح المولى نفسه.. بناء على المصالح التي يشخّصها نفس المولى.. ولكن بشرط أن تكون تلك المصالح منطقيّة وشرعيّة وعُقلائيّة، لا مصالح شخصيّة!
فنحن في هذه الأيّام ننسب مصالحنا الشخصيّة إلى المصالح الإلهيّة، فنقول: إنّ هذه هي مصلحة الإسلام.. هذه مصلحة الله تعالى.. وهكذا، والحال أنّ أيّاً منها ليس كذلك بل هي في الواقع مصالحنا الشخصيّة لا أكثر، وليس في الأمر مزاح أو مجاملة.
حسناً.. هذا العبد ليس له أيّ اختيار من نفسه، ولا يستطيع أن يمضي أيّة ورقة، ولا يحقّ له أن يوقّع كمبيالة أو شيكاً بنكيّاً لأحد، و لا يقدر أن يعطي لأحد مالاً ولا أن يأخذ منه، فهو ليس له حقّ الاختيار في أمثال هذه الموارد، وكلّ شيءٍ أمره المولى أن يشتريه فيجب عليه أن يشتريه، و كلّ شيءٍ أمره ألاّ يشتريه فعليه ألاّ يشتريه... هكذا يكون العبد. و من هنا، فلو كان عند هذا العبد طلبٌ ما، فهل يستطيع أن يطلبه من أحد غير مولاه؟!
نعم.. يمكن أن يجعل بينه وبين مولاه واسطة ووسيلة.. (وابتغوا إلى المولى الوسيلة والواسطة) .. فهذا لا إشكال فيه. افرضوا مثلاً أنّه أُعجب بفتاة معيّنة، ويريد أن يخطبها، فهو يحتاج في ذلك إلى إذن مولاه وإجازته، ففي مثل هذه الحالة يمكن أن يتّخذ لنفسه واسطة ويقول له: تعال واشفع لي عند مولاي، واستعطف قلبه عليّ، فأنا في النهاية شابّ ولي حاجاتي وآمالي، فليفكّر بي وباحتياجاتي قليلاً... ولكنّه لا يقدر أن يذهب إلى مولاه بشكل مباشر ويقول له: اذهب واخطب لي فلانة، فذلك باطل وخطأ، ولكنّ الواسطة يستطيع ذلك.
وهكذا الأمر في العديد من الموارد الأخرى.. كما لو كان العبد يريد من مولاه أن يقلّل مقدار العمل المطلوب منه، أو يزيد من وقت استراحته، أو يخصّص له وقتاً ليتمكّن من القراءة والمطالعة، وما شابه ذلك من الأمور التي قد يحتاجها الناس، وفي كلّ هذه الموارد فإنّ الإمضاء النهائي يبقى في يد المولى، ولا يوجد طريقة أخرى لذلك..
كان أحد الأفراد في ذلك الزمان السابق يرجع إلى أحد الأساتذة والخبراء، و كانت عنده هذه المشكلة؛ ففي بعض الأحيان كان يواجه صعوبة أو ضائقة في حياته، أو كان يصاب بمرض أو ما شابه من الأمور التي تصيب كلّ الناس، (و الجميع يُبتلى بهذه الأمور بأنحاء ومقادير مختلفة...) وهذا الشخص كان يعرف أنّ أستاذه قادر على رفع هذه المصاعب وإزالتها، فهو يستطيع أن يغيّر هذه الأمور التي يعاني منها .. يستطيع ذلك، فهذه المسائل عاديّة .. بالنسبة لهم هذه المسائل بسيطة وعاديّة.
جاء هذا الشخص إلى السيّد العلاّمة ـ رضوان الله عليه ـ وطالبه بإصرار قائلاً: إنّ أستاذي لا يقبل منّي، ولا ينفّذ لي ما أريد، فتوسّط لي عنده واضغط عليه لعلّه يؤدّي لنا ذلك العمل بسبب توسّطك وضغطك عليه، فيغيّر الأمور عن مجاريها، فأجابه السيّد العلاّمة رضوان الله عليه: أنا لا أتدخّل في ذلك، ولا علاقة لي به، فماذا أستطيع أن أفعل؟ فعندما يكون أستاذك ومرشدك قد شخّص بأن هذا الأمر فيه مصلحتك، فكيف لي أنا أن أتدخّل وأغيّر رأيه من خلال إصراري وضغطي عليه؟! وكيف يمكن لي أن أجعله أن يغيّر رأيه في تلك المصلحة التي شخّصها لك فيتركها بسبب وقوفي في وجهه وإصراري عليه؟!
ولو كان الأمر كذلك فالأولى أن نجلس نحن في مكانه !! فلو كان الخير والمصلحة في ما تقترحه أنت وتطلبه، إذاً علينا أن نذهب نحن ونجلس مكانه وليجلس هو مكاننا.. فليأخذ كلّ منّا مكان الآخر! ولكنّ هذا الشخص لم يكن يسمع.
وفي المقابل فقد كانت هذه المسائل تحصل للسيّد الوالد أيضاً.. نفس هذه المشاكل والمصاعب كانت تحصل له، بل كان يحصل له أصعب منها وأسوأ، فنحن كنّا حاضرين في ذلك الزمان وكنّا نرى معاناته ونحسّ بذلك.. كنّا نرى القضايا التي تقع والمشاكل التي يُبتلى بها.. وقد كانت المشاكل صعبة جدّاً بحيث أنّ ما عندنا نحن من المشاكل الآن لا يمثّل شيئاً أمامها، ولكن في نفس الوقت لم نكن نرى أنّ سماحته كان يحاول أن يعرض المسائل بهذا الشكل رغم أنّه كان يعلم كلّ شيء.. فالسيّد العلاّمة كان يعرف كلّ شيء، وكان مطّلعاً على كل المطالب... ولكن من ناحية أخرى لا يمكن له أن يغيّر كلّ شيء، فهناك حادثة جاءت من العالم الأعلى، وهذه لحادثة يجب أن تَطوِي طريقها وتمضي، فلو أراد أن يغيّر مجرى هذا الأمر فماذا سيكون فرقه عن الباقين؟ أيّ فرق سيكون بينه وبين باقي الأفراد؟!

    

ماذا ينبغي أن نطلب من صاحب العصر والزمان عجّل الله فرجه الشريف؟

بيّنت لكم سابقاً أنّه لو ظهر إمام الزمان فماذا سيطلب منه الناس؟ لاحظوا الآن عموم الناس.. هل يفهم عامّة الناس شيئاً من السير والسلوك؟ وهل يعرفون شيئاً عن طريق الله تعالى؟ ما هو وجع الناس إذاً وماذا يريدون؟
بعضهم يعاني من التأخّر في سداد الأقساط... ، والبعض الآخر عنده آلام في الظهر، والروماتيزم، والزائدة، وما شابه ذلك... ، وبعض آخر يعاني من المشاكل الأسريّة الداخليّة كسوء الأخلاق وخشونة المعاملة... ، وآخرون من ضيق ذات اليد، والفقر و صعوبة المعيشة و أمثال ذلك...
هل هناك شيء آخر غير هذا؟ اذهبوا وتحدّثوا مع الناس.. اسألوا أقاربكم ومعارفكم، اسألوا الأفراد الذين ليسوا في هذا الوادي أصلاً.. قولوا لهم: إذا جاء إمام الزمان عليه السلام وظهر، فماذا تريدون منه وماذا تطلبون منه؟ انظروا هل يقول أحدهم أريد أن يزيد لي معرفتي؟! [سيقولون لك:] المعرفة؟! عن أيّ شيء تتحدّث؟!
ذهبت ذات مرّة إلى منزل أحد أرحامي، ولمّا حان وقت الصلاة وقفت لأصلّي، فجاء هذا الشخص الذي كان من أهل الصلاة والتديّن وممّن يطيل لحيته و ... جاء وشغّل التلفزيون لكي لا تفوته مباراة كرة القدم!! هذا هو المتديّن عندنا! فهو أصلاً لم يراعِ حرمة هذا الشخص الذي وقف ليصلّي، فما بالك بصلاته هو!! هذا هو المتديّن عندنا! فنحن نفتح التلفزيون منذ الصباح عندما نستيقظ وقبل أن نتوضّأ ونصلّي...
في هذه الأيّام يقولون: عندما نستيقظ علينا أن نغسل وجهنا، ولا يقولون: نتوضّأ!! وكأنّ الوضوء لا يجري على لسانهم، وكأنّهم لا يستسيغون كلمة >الوضوء< أو >الصلاة< في أفواههم!! يقولون: عندما نستيقظ في الصباح فما هو أول شيء نفعله؟ أوّلاً نغسل وجوهنا ... ها؟؟! إذاً ما الفرق بينك وبين ذلك الجبريّ أو الملحد يا عزيزي؟ أنت الذي تعلّم الناس أمور النظافة والصحّة العامّة، ما هو فرقك عن أولئك؟
أين ذهبت الصلاة؟ وماذا حلّ بالوضوء؟ وأين ذهبت ثقافة الإسلام والتشيّع؟! [يقولون:] علينا أوّلاً أن نغسل وجوهنا بشكل جيّد، لنصبح مستعدّين، وبعد ذلك نذهب للمساعدة [في المنزل]، ثمّ نتناول طعام الفطور ... ولا يذكرون الصلاة ولا غيرها أبداً أبداً.. هكذا أصبحت ثقافتنا !!
هؤلاء هم المتديّنون الذين عندنا .. كل ذِكرِهم وفكرهم منحصرٌ في أنّه: هل دخلت الكرة إلى الهدف أم لا!! كلامهم و جلساتهم كلّها تدور حول هذه الأمور.. ألم تشاهدوا ذلك بأنفسكم؟ فأنا لا اخترع هذه المسائل من عندي.. نعم، هم يؤدّون صلاتهم ولكن بعد الساعة الحادية عشرة !!
تشرّفت ذات مرّة بالذهاب إلى مشهد، وكنت في منزل أحد الأرحام، فجاء شخص من أهل العلم، وهو شخص معروف ومشهور أيضاً، وكان قد جاء إلى مشهد وجاء إلى المنزل الذي كنت فيه.. جاء هذا الشخص وقال: أليس عندكم تلفزيون؟ فقال: لا .. ليس عندنا تلفزيون، فقال: فأين يوجد تلفزيون إذاً؟ فقال له: لا أدري.. فتناول عشاءه ثم غادر المكان ليشاهد مباراة كرة القدم، فقال له أحدهم: أخبرني .. أنت قد وصلت اليوم، فهل ذهبت إلى زيارة الإمام الرضا عليه السلام؟ فأجاب: يا عزيزي إن المباراة ستضيع الآن، وأمّا الزيارة فيمكنني أن أقوم بها غداً!!
هل التفتّم؟ فهذا من أهل العلم، وهو سيّد وعمره سبعون سنّة، كما أنّ عنده مسجد يرشد الناس فيه إلى طريق الله تعالى!! و مع ذلك يقول: يمكنني أن أزور الإمام الرضا غداً، ولكن اليوم ستفوتني مباراة كرة القدم!! هل التفتّم؟
حسناً، ألا نتعجّب بعد هذا عندما نسمع رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول لعائشة: ستدفن بضعة منّي بأرض تُسمى بطوس، فمن زاره أعطاه الله ثواب حجّة وعمرة، فتعجّبت عائشة، فقال رسول الله: ثواب حجّتين وعمرتين، فتعجّبت، فزادها أكثر: عشرة.. ثمّ مائة.. ثمّ ألف حجّة و عمرة!! و لم يذكر لها أكثر من ذلك رغم وجوده..
حسناً.. لمن يُعطى هذا الثواب؟ فهل يُعطون هذا السيّد وأمثاله ثواب ألف حجّة مقبولة إذا جاء لزيارة الإمام الرضا عليه السلام؟! لمثل هذا السيد؟! فلمن يُعطى ذلك الثواب إذاً ؟ لمن يعطونه بل يعطون أكثر من ذلك بما لا يمكن إحصاؤه؟؟ إنّ ذلك لحضرة السيّد الحداد، وللسيّد العلاّمة، وللعلاّمة الطباطبائي وأمثالهم.. لهؤلاء الذين وصلوا إلى حقيقة الولاية.
سمعت أنّ أحدهم قال ... (نعوذ بالله .. نعوذ بالله.. إلى أين يمكن أن يصل الإنسان؟!) سُئل أحدهم: هل ذهبت لزيارة الإمام الرضا عليه السلام؟ فقال: لا.. لم نقدر، ولم يحصل عندنا فرصة لذلك، فأجابه السائل: كيف تقول أنّك لم تقدر؟! فأنت في كلّ هذه السنين قمت بزيارة كلّ مكان، فكيف لم تقدر على زيارة هذا المكان خصوصاً؟! وبعد السؤال والإلحاح نطق بالحقيقة، قال: نعم.. (و أنا ليس عندي الجرأة و الجسارة لأقول نفس المطلب الذي ذكره، ولكن سأذكر خلاصته) قال: نعم.. الذهاب إلى أمثال هذه الأماكن ليس فيه فائدة لنا بعد الآن، فنحن قد تجاوزنا ذلك (و أنا قد خفّفت من حدّة كلامه ولم أنقله بعينه، ولو أردت أن أتجاسر وأنقله بعينه فربّما لن تقدروا على احتمال سماعه!).
أيّ تعاسة هذه التي يُبتلى بها الإنسان بحيث يعتبر أنّ زيارة الإمام المعصوم أمراً عديم الفائدة بالنسبة له؟! و [يقول:] نحن قد تجاوزنا هذه المطالب، وتعدّينا هذا الأفق، وصرنا فوق هذه العوالم!! نسأل الله أن لا يأتي ذلك اليوم ... وحينئذٍ سيفهم الإنسان أنّه رغم كلّ العلم الذي جمعه في رأسه إلاّ أنّه في الواقع لا يصل في فهمه إلى مقدار فهم الحمار! الحمار! بل مئة رحمة على الحمار!
هؤلاء هم عامّة الناس، وهذا حال بعض المعمّمين منهم، فكيف هي حال الآخرين ؟!
حسناً، إذا ظهر صاحب الزمان عليه السلام، فما هو توقّعهم منه؟ واقعاً اسألوا الناس.. سيقولون: ظهري يؤلمني، فأنا مصاب بالديسك، أو سيقولون: ابنتي لم تتزوّج وما زالت عندي في المنزل، ولم يخطبها أحد، فادعوا لنا يا سيدي ... وذلك مثل الرسائل التي تصل إلى الحقير [تبسّم من سماحة السيّد]... أو يقولون: إنّ ابننا بقي بدون زواج، فباب الحظّ قد أغلق في وجهه، وحيثما ذهبنا للخطبة لم يتمّ ذلك ... فهل أنا عندي محلٌّ لتنسيق الزواج؟ يا عزيزي لمَ ترسلون لي هذه الرسائل؟ فعندما نفتح محلاًّ للبحث عن الأزواج، حينئذٍ سنعطيكم اسم الأفراد المستعدّين والمناسبين وصورتهم !! [تبسّم من سماحة السيّد]
هذا الكلام لطيف وحلو ومبهج !!! هذا هو كلّ ما عندنا وهذا هو حالنا!
و لكنّ هذا الشخص الذي يكتب هذه الرسالة لا يدري أنّ نفس كتابته للرسالة تسبّب تأخير الحلّ له! فذلك يؤخّر التقدير بحقّه، ولكنّه لا يفهم.. مهما قلنا ونبّهنا فإنّه مع ذلك لا يسمع. حسناً.. افعل ما يحلو لك.. اكتب رسالتين.. بل عشرة.. بل مئة، ونحن بدورنا سنلقيها في سلّة الرسائل التي فقدت صلاحيّتها، نعم.. سيزيد عناؤنا قليلا إذ علينا أن نفرغ السلّة كلّ يوم!
حسناً.. إنّ هذا ليس الطريق الموصل، بل الطريق هو ما يقال ويُبيّن، ويُوضّح للأفراد.. والطريق هو الأمر الذي خضع للتجربة وأثبت نجاحه، وذلك هو ما نطرحه ونبيّنه للإخوة والأصدقاء.
هذا حال الناس.. وعندما سيأتي صاحب الزمان، فهذا ما سيواجهه. حسناً، فمِن أجل مَن سيظهر صاحب الزمان؟ هل سيظهر من أجل أولئك الذين يقضون سنوات متمادية من عمرهم في الهيئات، ويلطمون صدورهم ويطفئون الأنوار وينادون: يا بن الحسن عجّل على ظهورك ... حتّى تحلّ لنا المشكلة الشخصية الفلانية!! هل يأتي [صاحب الزمان] من أجل هؤلاء ؟!
هل يوجد شخصٌ واحدٌ يريد من صاحب الزمان أن يزيد معرفته إذا ظهر، أو أن يُضيف إلى كماله، أو أن يصحّح له طريقه؟! هل يوجد شخصٌ واحدٌ يريد هذا من حضرته؟ ولو أنّ شخصاً يريد هذا من صاحب الزمان، [فغيبة صاحب الزمان لن تضرّه لأنّ] صاحب الزمان ليس عنده غيبة وظهور، وإنّما الغيبة والظهور عندنا نحن الذين نَجري خلف هذه المصالح والمنافع.
لِمن يستطيع أن يلجأ هذا العبد؟ هل هناك غير مولاه؟ لا أحد!! لا يقدر أن يلجأ إلى غير مولاه، وغاية الأمر يمكن له أن يتّخذ واسطة، وذلك لا إشكال فيه.. يمكن أن يبحث عن وسيلة، فلا عيب في ذلك، ولكن يظلّ الأمر كلّه بيد المولى، فما لم يمنح المولى الإذن والإجازة فلا فائدة من كلّ ذلك، ولو اجتمع كلّ أهل الدنيا فلن يقدروا أن يغيّروا شيئاً لهذا العبد .. لن يقدروا !! ومن هنا، فحينما يكون عند هذا العبد مسألة أو حاجة، فعليه أن يذهب بها إلى مولاه. حسناً.. وهذا المولى مع هذه الوضعيّة القائمة يريد أن يجيب مسألة عبده ويريد أن يحقّق له رجاءه.

    

أعمال الإنسان بين الواقعيّة المُلكيّة والواقعيّة الملكوتيّة

الإمام السجّاد عليه السلام يقول: ما يتعلّق بي من القضيّة هو أنّه: يا ربّ أنا لا أستطيع أن أتقدّم بسؤالي إلاّ إليك! ولا أستطيع أن أذهب بسؤالي إلى مكان آخر.. أنا أقدر أن أتقدّم بسؤالي إليك، و لكن أيّ سؤال هو؟ إنّه سؤالٌ من عبدٍ آبقٍ عاصٍ آثمٍ .. (مع إتياني ما تكره)، فأنا عبد ارتكبت الكثير من الذنوب... ألم نقرأ في الفقرات الماضية قوله عليه السلام: «أدعوك يا مولاي بلسان قد أخرسه ذنبه...»؟!
فهل لساننا أخرسٌ واقعاً؟ كيف ذلك والحال أنّنا نتكلّم ونتحدّث الآن به؟! فها نحن نتكلّم بلساننا، والآخرون جميعاً يتكلّمون بحريّة أيضاً، كما أنّنا جميعاً نطلب من الله وندعوه، فكيف صار لساننا أخرساً؟ إذاً لساننا ليس بأخرس !! فنحن نطلب من الله، وندعوه ونسأله، وكذلك يفعل شمر بن ذي الجوشن أيضاً، وحتّى يزيد بن معاوية يفعل ذلك، وعمر بن الخطّاب كذلك ، كما أنّ أمير المؤمنين والإمام المجتبى وسيّد الشهداء عليهم السلام يفعلون ذلك أيضاً !! وهم جميعاً يقرؤون نفس الدعاء، فكيف إذاً صار لسانك أخرساً؟! فالجميع مثل بعضهم، وكلّنا ندعو نفس الدعاء..
إذاً كيف يقول الإمام عليه السلام: «أدعوك يا مولاي بلسان قد أخرسه ذنبه..»، و الحال أنّه ليس بأخرس؟ فنفس هذا الدعاء.. دعاء أبي حمزة الثمالي الذي علّمه الإمام السجّاد عليه السلام لأبي حمزة شاهد على ذلك، إذ من الذي يتلو هذا الدعاء؟ إنّه الإمام السجّاد كما هو واضح!
حسناً.. أحد الألسنة التي تتلو هذا الدعاء هو لسان نفس الإمام السجّاد عليه السلام، واضح؟ حسناً.. وكذلك أنا الشخص العاصي الذي ارتكبت ألف خطأ طوال النهار.. آتي في ليالي شهر رمضان وأقرأ دعاء أبي حمزة أيضاً، فأنا أقرأ عين تلك العبارات والكلمات، وأقرؤها بشكل جميل مع إتقان اللهجة واللحن و تجويد الصوت، وقد تحصل لنا حالة من التباكي أيضاً !!! فكيف يمكن تفسير كلامه عليه السلام حيث يقول: «أدعوك يا مولاي بلسان (و الإمام لم يقل: بلسان القلب، بل بهذا اللسان) قد أخرسه ذنبه»؟ أخرسه ذنبه!! والحال أنّ الجميع يقرؤون هذا الدعاء؟!
ما الذي بيّناه عندما شرحنا هذه العبارة في السنوات الماضية؟ لقد قلنا: إنّ ها هنا واقعيّتان، الواقعيّة الأولى تتمثّل بالواقعيّة العينيّة واللفظيّة والمُلكيّة، وأمّا الواقعيّة الثانية فتتمثّل في الواقعيّة والحقيقة الملكوتيّة والمثاليّة والغيبيّة؛ فنحن عندما نقول مطلباً ما أو نطرح أحد المسائل فنحن بذلك نوجد في نفس الوقت واقعيّتين وحقيقتين متلازمتين: الواقعيّة الأولى هي نفس تلك الكلمات التي تخرج من لساننا ونتلفّظ بها.. فهذه الواقعيّة الأولى.. مثلاً إنّ جملة «أدعوك يا ربّ ...» هي عبارة عن ألف.. دال.. عين.. واو.. كاف.. و هكذا، فالواقعيّة الأولى تتمثّل في الحروف والكلمات التي تخرج من لساننا.. هذه هي الواقعيّة الأولى، و لا يوجد فرق في هذه المسألة بيننا نحن وبين وليّ الله، فالإمام عليه السلام يقول نفس الكلام الذي نقوله نحن دون أدنى تفاوت.
مثلاً إمام الزمان عليه السلام عندما يقف للصلاة.. ماذا يقول؟ إنّه يقول: «الله أكبر.. بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله ربّ العالمين.. الرحمن الرحيم ...» إلى آخره، و هذا هو ما نقوله نحن أيضاً، و ربّما استطعنا أن نقلّده بدقّة بحيث لو كان عندنا نفس نغمة صوته عليه السلام، لاستطعنا أن نؤدّي الكلام مثله تماماً ولصلّينا عين صلاة الإمام بلا فرق، أليس باستطاعتنا ذلك؟ بلى الأمر سهل، فالإنسان يستطيع أن يقلّد، ألا يقوم بذلك بعض الممثّلين المحترفين؟ تراه يبكي بحيث أنّك تعتقد أنّ طفله قد مات! (أنا لا أعلم ماذا يفعلون لكي تخرج هذه الدموع الغزيرة من أعينهم) أصلاً الإنسان يتعجّب كيف يُظهرون أنفسهم بمظهر مغاير لشخصيّتهم وكأنّهم شخصية أخرى، حتّى كأنّ الواقف أمامك شخصٌ آخر، نعم هذا هو التقليد يا عزيزي .. هذا هو التقليد !! هذا نمط من الأنماط وواقعيّة من الواقعيّات وذلك أن يتلفّظ الإنسان الكلمات تماماً كما يفعل الإمام، ومن هذه الناحية لا يوجد أيّ فرق بيننا وبين الإمام.
و لكن عندما نلاحظ الجنبة الثانية فسنشاهد الواقعية الأخرى، و هي تتمثّل في تلك الحقيقة التي تقبع خلف الظاهر، وتتمثّل بمعرفة مفاهيم تلك الكلمات التي اكتسبها الإنسان، وإنّما يكمن الاختلاف بين الأفراد في هذه المعرفة، فبعضهم لا يفهم من كلمة «الحمد» إلاّ المعنى اللغوي للكلمة، ولا يفهم منها شيئاً آخر.. لا يدرك ولا يفهم أيّ جانب من جوانب الاتّصال والعينيّة والوحدة والاتّحاد بين الحامد والمحمود، ويخفى عليهم كيفيّة الارتباط بين الحامد وبين تلك الواقعيّة المحمودة.
أمّا البعض فيدركون هذه الكيفيّة، فتراهم عندما يقولون: {الحمد لله ربّ العالمين} فإنّ قلبهم ونفسهم يقتربان من عالم الحمد، فيغترف لنفسه نصيباً من ذلك الفضاء الرحمانيّ ومن الحمد المطلق، فكأنّه هو نفسه قد دخل في عالم الحمد أيضاً، فصار للحامد نصيبٌ من مقام المحموديّة...
مادح خورشيد مداح خد است
                             كی دو چشمم سالم نا مرمد است


(يقول: مادح الشمس إنّما يمدح نفسه *** فهو يقول إنّ عيني لم يصبها الرمد)

نعم حينما يقول: انظر إلى الشمس كم هي جميلة، وانظر لها كيف تتلألأ، وانظر إلى نورها العظيم، فهو في الواقع يمدح ويحمد نفسه، فيقول: أنا عيني سليمة.. وأنا عيني ليست كعين الخفاش [لا ترى في الضوء] .. أنا الذي لم أغلق عيني عن الجمال.. أنا الذي عينه خالية من كلّ عيب... أجل.. هو إنّما يمدح نفسه، وكذلك عندما يقف الإنسان في مقام الذكر، فيقول: {الحمد لله ربّ العالمين} فهو يُدخل نفسه في فضاء الحمد ذاك، ولكنّه لا يدخل إلاّ بنفس مقدار ما أدركه من الحمد؛ ولذا فنحن نصيبنا قليل .. لأنّنا نفهم بحدود المعلومات والقضايا والمسائل التي نعرفها بشكل سطحيّ فنجمعها ونرتّبها ونحاول أن نصل إلى معرفة معنى الحمد؛ فنقول : ما هو الحمد؟ وما هي مقدار سعته؟ فلدينا حمدٌ إطلاقيّ وحمدٌ مقيّد ومحدود... ولأنّنا نسبح في هذا الفضاء فقط، لذا فأيدينا لا تصل إلاّ إلى هذا الحدّ من الإدراك.

    

المائز الحقيقي بين الناس يكمن في الواقعيّة الملكوتيّة لا الظاهريّة

أمّا عندما يتوجّه الإمام نحو الله عزّ وجلّ ويقول: {الحمد لله ربّ العالمين} فالإمام لا يعرف حدّاً للحمد المختصّ بربّ العالمين، بل يحسّ بأنّه قد غرق في محيط ذلك الحمد اللامتناهي لله عزّ وجلّ، فيرى أنّه هو قد صار واجداً لمقام المحمود، فلم يعد هناك حامد، بل المحمود هو الموجود فقط؛ قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى‏ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً}[2] عجيب.. عجيب !! فهو يقول له: قم في الليل وتعبّد لله وتوقّع وليكن لديك أمل (عسى هنا ليست بمعنى: قد، ويحتمل حصول كذا..، بل توقّع أن.. ولك البشارة بأن .. ونعدك بأن ..).
{عَسى‏ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} ، أيّ: توقّع و أمّل أن يوصلك الله إلى ذلك المقام ..مقام المحمود، الذي هو لله تعالى بالأساس ، فأنت هنا لم تعد الحامد، بل هناك اتحاد بين الحامد والمحمود، واتحاد بين العالم والمعلوم، واتحاد العارف والمعروف، واتحاد بين ... وبين.. ، عليكم أنتم أن تكملوا الفراغ .. ، إنّ هذا هو ما يسمى بمقام الفناء الذاتي، الذي يعني أنّه وصل من مرتبة فناء الإسم والرسم إلى مرتبة الفناء في الذات، وهو هنا عندما يحمد إنّما يحمد نفسه، فالحمد الذي يحمده رسول الله صلى الله عليه وآله قائلاً لربّه: {الحمد لله ربّ العالمين} .. ليس كالحمد الذي نحمده نحن به، بل هو أمرٌ آخر، فذلك الحمد لا يمكن أن يحدّه مفهوم أصلاً ، ولذا لا يمكن للـ «المنجد» أن يوضّحه، ولا حتّى «لسان العرب» بإمكانه أن يشرحه ويبيّنه!!
اذهبوا بأنفسكم، وانظروا في كتاب «لسان العرب» هل تجدون فيه أنّ من معاني «الحمد» هو أن يكون حمدُ الحامد للمحمود حمداً لنفس الحامد؟! هل كتبوا ذلك هناك؟! أين كتبوا هذا الأمر إذاً؟! فهذه المسائل لن تجدوها في «المنجد» وفي معاجم اللغات الأخرى.
{عَسى‏ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} أي: سيوصلك الله إلى مقام المحمود، فأنت الآن في مقام الحامد، وأنت تقوم بالحمد، ولكن من هو المحمود؟ المحمود هو ذات الباري تعالى، وعليه ما هي حقيقة المسألة؟!! ما هي الحقيقة التي تؤدّي إلى أنّك عندما بحمد الله فإنّك تكون في عين الوقت أنت المحمود أيضاً.. أنت المحمود في النفس الوقت !! حسناً، ما هي هذه المرتبة؟ هذه المرتبة وهذه الواقعيّة هي الواقعيّة التي تقبع خلف القضيّة و وراء ستار الظاهر.
وعليه ففي الواقعيّة الأولى لا يوجد فرقٌ بيننا وبين النبيّ صلى الله عليه وآله، ولا يوجد فرقٌ بيننا وبين إمام الزمان أرواحنا فداه، فما يقولونه هم .. نحن نقوله أيضاً، طبعاً بحسب ما نستطيع عليه. أمّا لو لاحظنا الواقعيّة الثانية فسنجد أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله والإمام عليه السلام قد وصلا إلى مقام «المحمود»، أمّا نحن فيا للسخرية.. لم نصل حتّى إلى مقام «الحامد» !! فكيف بإدراك معنى «الحمد» ما هو؟ وبالتالي فالفرق بيننا وبين الإمام في المرتبة الثانية كالفرقٌ ما بين الأرض إلى عرش الله عزّ وجلّ.. ما بين الأرض إلى ذات الله... (لكن حتّى هذا التعبير خاطئ أيضاً فهل الأرض منفصلة عن مظاهره عزّ وجلّ)، بل نقول: الفرق بيننا كالفرق بين الظلمة المطلقة والنور المطلق (نعم هذا التعبير جيّد.. هذا التعبير أفضل) .. ما بين الظلمة المطلقة والنور المطلق؛ فالإمام نورٌ مطلقٌ لا حدّ له، وأمّا نحن فظلمةٌ مطلقة، بل إنّ إطلاق ظلمتنا أشد!! [يتبسّم سماحة السيّد] .. لقد ذكرت لكم قبل ليلتين ما قاله ذلك الرجل لوالدي رضوان الله عليه ... فنحن من جهة «الإطلاق» لا نختلف عن الإمام في أيّ شيء [فهو نور «مطلق» ونحن ظلام «مطلق»] .. فمن ناحية الإطلاق .. ما شاء الله، لدينا سعة وجوديّة كبيرة في الظلمة و هي عين السعة الوجوديّة للإمام في نورانيّته.. نعم قد نصل إلى هذا الحدّ !! فهذه الأنانيّات !! آه آه آه آه ! واقعاً عندما ينظر الإنسان إلى وجوه بعض الأفراد حينما يتكلّمون، فإنّه يتعجّب من مقدار تكبّرهم ... ما شاء الله ، يا عزيزي انزل قليلاً، فإلى أين صعدت؟! لقد جعلت العرش يهتزّ.. تواضع قليلاً!! إنّ مثل هذا يصبح ظلمة مطلقة، أمّا الإمام فهو النور المطلق، وهذه الواقعيّة هي التي توجد الفرق بيننا وبين الإمام عليه السلام.
و بالتالي فقوله: «أَدْعُوكَ يَا رَبِّ بِلِسَانٍ قَدْ أَخْرَسَهُ ذَنْبُهُ» تعني: يا ربِّ أنا أدعوك، لكن هذا الدعاء ليس فيه إلاّ الواقعيّة الأولى، ولا يحوي على الواقعيّة الثانية، فأنا أتكلم بأيّ كلام وحسب: بر بر بر ... ، نعم نقرأ الدعاء بصوت جميل، ولكن ...
لقد ذكرت لكم هذه القضيّة سابقاً... قبل عدّة ليالي لا أدري أين كنت، فرأيت ذلك المحترم الذي كان موجوداً عندما كنت أنا أيضاً في صحن السيّدة زينب الكبرى سلام الله عليها، وكانت ليلة الجمعة آنذاك حيث كانوا يريدون أن يقرؤوا «دعاء كميل»، و كان ذلك المحترم هو القارئ، و[كان من المقرّر أن يصوّروا قراءة الدعاء للتلفزيون و لكنّ] الكاميرات كانت موضوعة في المكان الخاطئ [بحيث لو جلس الناس باتّجاه القبلة فلن يكون بالإمكان تصويرهم أثناء قراءة الدعاء]، فجعلوا الناس يجلسون بعكس القبلة، فقال ذلك المحترم بصوت رخيم كأنّه يقرأ الدعاء: «نعم.. مع أنّ المستحبّ قراءة دعاء كميل مع الاتجاه نحو القبلة ولكن حيث أنّ الكاميرات لا يمكن وضعها في مكان آخر، فليس هناك من مشكلة وإن شاء الله سيتقبّل الله منكم...»، [ضحك من سماحة السيّد] وبهذا جعل الناس يقرؤون الدعاء وهم يجلسون عكس القبلة لأنّ الكاميرات موضوعة في مكان محدّد!! وبالتالي فهذا الدعاء قد أصبح «دعاء كميل التصويري» !! وليس «دعاء كميل» .. لم يعد هذا الدعاء هو ذلك الدعاء الذي علّمه أمير المؤمنين عليه السلام لكميل، بل صار «دعاء التصوير».
أجل.. فهذه الكاميرات تصوّرنا وتسجّل كلامنا، ولذا علينا أن نلتفت إلى ما ينبغي أن نذكره وما لا ينبغي ذكره !! فالمسألة مهمّة لأنّهم يسجّلون صوتنا و يلتقطون صورتنا، فينبغي بالتالي أن نكون حذرين!! أمّا الله تعالى فانسَ أمره الآن يا عزيزي فالكاميرات منصوبة، فالمهمّ هو الكاميرا، والمعشوق هو الكاميرا، والغاية هي الكاميرا، أين الله إذاً؟ أين الله؟ مساكين هم ملائكة الله الذين يسجّلون أعمالنا فلا أحد يعتني بهم!! (ما شاء الله .. ما شاء الله!! ما أرقى معرفتنا!) فعلاً ينبغي أن يكون لدينا كاميراً ، فهذه الأمور هي التي تبقى، أمّا الله فمن الذي رآه و من الذي سمعه؟!
حسنا فما هو حال هذا المحترم الذي يقرأ «دعاء كميل» بهذه الطريقة؟ إنّه سيكون مشمولاً لكلمات الإمام السجّاد عليه السلام حين يقول: «أَدْعُوكَ يَا سَيِّدِي بِلِسَانٍ قد أخرسه ذنبه...»، كان يقول (بصوت حنون كمن يقرأ الدعاء): أنا أقرأ الدعاء عكس القبلة !! لماذا؟ من أجل أن تتمكّن الكاميرات من التصوير !! لكن يا عزيزي أيّ دعاءٍ هذا؟! هل يبقى هذا الدعاء «دعاء أبي حمزة» ؟! وأيّ حضور للقلب هذا الذي عندك؟! وما المعنى الذي تريده؟! أيّة علاقة حصلت بينك وبين الله؟! بل جميعها ـ يا عزيزي ـ سرابٌ واحتيال، فهل فهمتم الآن أنّ الذي حصل ليس إلاّ خداعاً؟ كلّه خداع، وكلّه هباء بلا قيمة.. كلّه تظاهر .. كلّه رياء.. وكلّه تمثيل..
كالذي يغصب حقّ أمير المؤمنين ثمّ يجلس مكان النبيّ صلى الله عليه وآله ويصلّي في محرابه، فهل تُعتبر هذه الصلاةُ صلاةً؟! ثمّ يصعد على المنبر، ويقول [بصوت يملؤه الخضوع]: أيّها الناس إن أخطأت فقوموني وذكّروني، فأنا لا أليق بهذا المقام، ولكنّني قبِلته على مضض... إن كنت لا تليق به فانزل وافسح المجال لمن يليق به حتّى يصعد المنبر !! إن كنت لا تليق به فلماذا تكذب على الناس؟! لماذا تخدع الناس؟! لماذا تكذب؟! و لهذا فأنت عندما تكون فوق المنبر فإنّ لسانك أخرسٌ .. لسانك أخرس لنفس هذا السبب.
أمّا أمير المؤمنين، فكيف حال لسانه؟ لسانه ليس بأخرس، لأنّ الواقعيّة الثانية التي تقبع خلف الستار هي أنّ ذات عليّ عليه السلام متّصلة بذات الله عزّ وجلّ، نعم.. هذه هي الواقعيّة الثانية: ذات عليّ عليه السلام متصلة بذات الله عزّ وجلّ، وهذه هي حقيقة الأمر، ولذا يصبح ذلك الرجل عبارة عن الظلمة المطلقة، و ستلحقه لعنة اللاعنين إلى أبد الآبد، أمّا أمير المؤمنين عليه السلام فهو النور المطلق، وستلحقه رحمة الراحمين وحمد الحامدين إلى أبد الآبدين وإلى ما شاء الله، هذا هو أمير المؤمنين عليه السلام.
هناك جانبان يخالف كل واحد منهما الآخر: الأوّل هو الظلمة المطلقة، والآخر هو النور المطلق، ومن هنا، فمعنى كلام الإمام السجّاد عليه السلام السابق حين يتوجّه إلى الله هو: يا إلهي.. أنا أتكلّم معك يا الله، وأطلب منك يا الله، بلساني، و لكن لساني هذا ليس لديه الواقعيّة الثانية، فليس هناك أيّ ارتباط يقبع خلفه، والمعاصي جعلته فقيراً، وهو يخلو من الحقيقة، وأنا أناجيك.. ولكنّ فكري في مكان آخر، أنا أتكلّم معك لكنّ ذهني في مكان آخر؛ فقلبي ليس معك، وذهني ليس معك، وليس عندي توجّه نحوك، بل كلّ ما أقوله لا يعدو كونه لقلقة لسان، فلساني صار ألكناً، وقلبي صار مغلقاً، ونفسي صارت مسدودة.

    

خطورة توغّل السالك في الكثرات وكيفيّة حصول الاستدراج

قال المرحوم العلامة رضوان الله عليه عند بيانه لهذه المسألة في حديثه عن بعض تلامذته وبعض تلامذة المرحوم الأنصاري الذين كانوا يمتلكون بعض الحالات، وكان باستطاعتهم القيام ببعض الأعمال، وكانت خطاباتهم مؤثّرة جداً...
ما هو السرّ في كون كلمات أمير المؤمنين عليه السلام مؤثّرة؟ لأنّه كان حائزاً للواقعيّة الثانية، لكن لماذا لا يؤثّر كلامي أنا؟ ذلك لأنّني لا أتمتّع بالواقعيّة الثانية، بل كلامي لا يعدو الكلمات والحروف والمواضيع التي تُسرد بشكل متسلسل، أمّا حينما يجلس وليّ الله العارف ذو القلب الحيّ فيبدأ بالتكلّم مع الإنسان يبدأ الإنسان يرى التغيّر في نفسه بشكل مستمرّ، وهذا يعود إلى وجود الواقعيّة الثانية، فالذي يؤثّر حقيقةً هو تلك الواقعيّة لا الألفاظ، فالألفاظ ليس لها أثر، وهي موجودة في كلّ مكان.
كان العلاّمة رضوان الله عليه يقول عن أولئك التلاميذ: هؤلاء كان لديهم بعض الحالات، في علاقاتهم .. في مسائلهم .. في أعمالهم.. لديهم طاعة وتقبّل، ولذا لديهم بعض الحالات.. إنّ لديهم الاستقامة في نفسهم وروحهم وصفائهم، ولديهم نضج، والطلب ما زال حيّاً في قلوبهم!! لم تمت الرغبة في قلوبهم!! لذا تجدهم ما زالوا يبحثون ويتّبعون، ودائماً يقولون في أنفسهم: أريد أن أذهب لأرى ماذا بإمكاني أن أفعل؟ أريد أن أذهب إلى هناك لعلّي أعثر على ضالّتي، لعلّي أصل إلى هناك.. حالة الطالب و البحث ما زالت حيّة في وجودهم!!
أمّا عندما يقعون في مسائل أخرى، فتستولي عليهم الكثرات والعلاقات، وتسوقهم النفس هنا وهناك... (وهؤلاء كانوا موجودين فعلاً!! وأنا لن أذكر الأسماء، فجميعهم الآن قد ذهبوا إلى رحمة الله، وإن شاء الله يعاملهم الله بفضله، فالمسألة لا تعنينا، لكن ما يعنيني هنا هو أن نذكر المسألة للعبرة فقط، وإلاّ فنحن لا نريد أن نذكر القصص من أجل أن نكون قصّاصين، بل نريد أن نعتبر من ذلك لأنفسنا، فهذه المسائل من مسائل الاستدراج)، نعم هؤلاء عندما مالوا نحو الكثرات، وأحاطت بهم كلّ تلك الأمور، صار عندهم مع مرور الزمن ـ رويداً رويداً ـ واقعيّتان:
الأولى: مجالسهم ومواضيعهم وأحاديثهم التي بقيت واستمرّت بنفس النحو السابق، فإن أرادوا أن يقولوا شعراً، فهم يأتون بأشعار >حافظ الشيرازي<، وتراهم يدعون الله، ويتوسّلون بأهل البيت.. يقولون: توسّلوا بأهل البيت.. (نعم يفرحون بأنّهم قد ذرفوا بعض الدموع على الإمام الحسين عليه السلام قبل أن يخرجوا من المجلس، فهم لم يخرجوا خالي الوفاض بحسب اعتقادهم) ، لكن يا عزيزي هذه ليست إلاّ لذّات نفسانيّة، وفي الحقيقة هي ليست توسّلاً بالإمام الحسين عليه السلام، بل التذاذات نفسانيّة، فهو يعتقد في نفسه أنّ يده قد امتلأت بسبب هذا التوسّل، فتراه يقول: دعونا نقرأ دعاءً، أو دعونا نقرأ شعراً، أو دعونا نقرأ مجلس عزاء، ثمّ بعدها يضع لهم الطعام (نعم إنّ أهم ما في الموضوع خاتمته) وبعد أن ينتهي كلّ شيء نعود إلى المنزل. نعم، هكذا كانوا يفعلون، والحقير يتذكّر كلّ هذه المسائل و كيف كانت تحصل.
أجل.. تلك كانت الواقعيّة الأولى، ولكن بموازاة هذا الأمر، وفي نفس الوقت تجد أنّه بدأ يفقد تلك الحالة من الرغبة والطلب والنشاط و تضيع منه تلك الحياة والصفاء اللذان كانا عنده.. إنّه يفقدها تدريجيّا مع مرور الزمن!!
التفتوا !! إنّ الواقعيّة الأولى والحالة الأولى تبقى مكانها، فتبقى تلك الحالة التي يخدع الناس بها: أشعار حافظ الشيرازي، وأشعار مولانا، والتوسّل، وقراءة الدعاء... ، [يضع سماحة السيد يديه بجانب بعضهما البعض ويشير إلى اليد الأولى التي تمثّل المظاهر، ويقول: ] هذه الحالة تسير إلى الأمام مع مرور الزمن، باستواء وتبقى على ما هي عليه، [ويشير في نفس الوقت إلى يده الأخرى التي تمثّل حالة الإنسان الباطنيّة، ويقول:] أمّا هذه الحالة فتتسافل إلى الأسفل وتنزل وتنزل إلى القعر!! انظروا إلى يديّ [يشير سماحته إلى اليد الأولى كيف تبقى وتتحرّك بخط مستقيم في الأعلى، أمّا اليد الثانية فهي تبدأ بالنزول التدريجي إلى الأسفل] هذه الأولى تمثّل الأحداث التي تحصل في المجالس والمحافل وفي العلاقات، أمّا الثانية فتمثّل تلك الحالات من: النشاط و الشغف، والحرارة، والسعي نحو الغاية، والبحث عن الحقيقة، والمتابعة، والطاعة؛ فهذه الحالة تمثّل الحياة واللب. اليد الأولى تسير بخط مستقيم في الأعلى، أمّا الثانية فتنزل ثمّ تنزل وتتسافل بالتدريج إلى الأرض، ثمّ بعد مضي مدّة من الزمن تجد المؤشّر في اليد الثانية يساوي صفراً، بينما اليد الأولى ما زالت تمشي في نفس المستوى السابق!!
ولهذا تصبح المجالس خاليةً من الروح.. لا تحوي إلاّ الكلمات والحروف، فتبدأ بفقدان تلك الحالات والأجواء السابقة، فلا تجد فيها ذلك الشعور والنشاط السابق، ولن تجد فيها تلك الحرارة، وستختفي تلك الديناميكيّة التي كانت موجودة.
كان العلامة يقول: هؤلاء يصبحون مثل الفاكهة التي تجفّ فتبدأ تتجوّف و تصبح فارغة من الداخل إلى أن تصبح القشرة الخارجيّة كجدار الفقاعة، نعم هكذا كان تعبيره كالـ «الفقاعة»، ليس هناك إلا فقاعة وحسب، هل رأيتم تلك الفقاعات التي تكون على سطح الماء و فوق الحوض أو فوق النهر تتحرّك؟ نعم مثل هذه الفقاعات، هذه الفقاعات تزول بأوّل نفخة بسيطة، وكأنّ شيئاً لم يكن، فالفقاعة ليس لها أيّ وزنٍ حتّى. إنّ تلك الواقعيّة الثانية وصلت إلى الصفر عندهم!! و بقي منها المظاهر و الكلام.
إنّ معنى الاستدراج: هو أن يبدأ الإنسان بفقدان تلك الواقعيّة الثانية من نفسه ، ولكن في نفس الوقت تبقى تلك المظاهر التي كان يأنس بها، وهو لا يفهم أنّ ذلك قد حصل، ولذا ينخدع بهذه المظاهر، فتراه يقول: تعالوا نتوسّل.. ، لكنّ هذا التوسل لم يعد توسّلاً!! تعالوا نقرأ الشعر..
لقد رأينا الكثير من هذا الصنف، لقد كان هؤلاء الأفراد يأتون إلى منزلنا ، وكانوا يتحدّثون حتّى يتصدّع الجدار من كلامهم، كانوا يتحدّثون عن الحرب... كان ذلك في زمن الشاه، كانوا يتحدّثون في كلّ المواضيع: لقد حصل في المكان الفلاني حرب... أمريكا هجمت على المكان الفلاني... ، (يا عزيزي.. وما شأنك أنت بأمريكا؟! اذهب واهتم بشؤونك الخاصّة !) يتحدّث عن أمريكا أنّها فعلت كذا وصنعت كذا..، ولا يترك شيئاً من هذه المسائل غير المهمّة إلاّ ويتحدّث عنها، ثمّ في النهاية، يقول: اقرؤوا لنا بعض الغزليات [العرفانيّة] .. أقرؤوا لنا غزلاً من الغزليات، دعونا نحصل على مقدار من الصفاء (يا لسوء حظّ حافظ إن كنت أنت الذي تريد أن تقرأ أشعاره وغزليّاته !! فأنت لم تترك مكاناً ولا خبراً في العالم ولا مسألة حصلت إلاّ وتكلّمت عنها، ثمّ تريد الآن حيث لم يبقَ إلاّ ربع ساعة من المجلس أن تقرأ الغزليات !! نعم هو يعتقد أنّه بذلك قد جعل المجلس مفيداً لأنّ شعر الأولياء قد قُرأ فيه!) . ما هي حقيقة هذه الأمور؟ حقيقتها أنّها للترفيه و التسلية فقط!! و بعد ذلك نمنح أنفسنا لقب «معلم الأخلاق» !!

    

لا حدّ لكرم الله وجوده ورحمته

إنّ الإمام السجّاد عليه السلام يقول: إنّ طلبي هو ما يلي: «حجّتي يا الله في جرأتي على مسألتك مع إتياني ما تكره!!»، نعم أنا أسألك وأطلب منك، ولكنّ سؤالي وطلبي هو طلب إنسانٍ عاصٍ.. عجيب! فأنت تذنب وتعصي الله، وفي نفس الوقت تطلب منه..
هذا أمر حسنٌ يدعو للأمل.. إنّ عبارات الإمام السجّاد هذه تبعث الأمل في نفوسنا، فهو بهذه الكلمات يرفع اليأس من أنفسنا، لأنّ نفس الإمام يقول ذلك.. أنا بيّنت لكم سابقاً أنّ الإمام إنّما يتكلّم بلسان حالنا نحن، فهذه العبارات التي يذكرها الإمام ليست إلاّ لسان حالنا، لكنّها خرجت من اللسان المبارك للإمام عليه السلام و هي توضّح لنا حقيقة الأمر، ونحن علينا أن نقرأها كما نقرأ القرآن، أيّ أنّنا نقرأ القرآن لكنّنا نعتبر أنّ القارئ هو غيرنا ونحن المخاطبون بالكلام، كذلك علينا أن نعتبر أنّ قارئ دعاء أبي حمزة الثمالي هو الإمام السجّاد عليه السلام، ونحن المستمعون.
إنّ الإمام يقول لنا: أنتم هكذا .. وهكذا.. ، انظروا إلى أنفسكم، فالإمام السجّاد عليه السلام يبيّن حقيقة أنفسنا، وهذا في الواقع ليس إلاّ من حسن حظّنا !! فالإمام هنا قبِلَنا كما نحن مع أنّه يعلم بحقيقة حالنا، وهو بذلك فتح لنا الباب ولم يغلقه في وجوهنا، إنّه يقول: مع أنّنا نعصيك يا ربّ لكنّنا في نفس الوقت لا نترك بابك، بل نقف ونطلب منك طلباتنا ونسألك رغباتنا، نعم لدينا الجرأة على ذلك.. «حجّتي يا مولاي في جرأتي» .. ويا لها من جرأة!!
كم هو عجيب هذا الإله الذي يمنحنا هذا المقدار من الجرأة [يبتسم سماحة السيّد] ، بحيث نعصيه، ولكن مع ذلك يسمح لنا أن نقف ببابه، فحتّى لو كنتم عُصاةً تعالوا.. فنحن عبيده بالنتيجة، وسواء كنّا عبيداً صالحين أو عبيداً عاصين لكنّنا بكلّ الأحوال لن نخرج عن ربوبيّته، ولذا نقول له: إلهي إن كان هناك من إله آخر، فأحلنا إليه، ولكن في هذه القضيّة بالذات نعلم أنّك عاجز عن إيجاد إلهٍ آخر غيرك، نعم فمع كلّ قدرتك وقوّتك إلاّ أنّ هذه المسألة بالذات لا يمكنك أن تصنعها فتأتي لنا بإلهٍ آخر غيرك، فمع كلّ ما لديك من عظمة وقهاريّة وكبرياء إلاّ أنّنا نعلم أنّ هذا الأمر بالذات لا تقدر عليه، فلا تستطيع أن توجد لنا إلهاً آخر غيرك لتحيلنا عليه، ولذا فأنت مجبورٌ على قبولنا عبيداً لك، ولا حلّ آخر، ولذا تجد أنّ هذه المسألة تعطينا الجرأة على الطلب، فنقول في أنفسنا: صحيح أنّنا عصينا الله، لكنّنا ـ في النهاية ـ لم نخرج من حكومة الله، ويا ربّنا أظهر لنا ربوبيّتك علينا، فصحيح أنّنا عباد عاصون، لكنّك إلهٌ عظيم يا ربّ، فما سمعناه من الأولياء هو أنّك إلهٌ عظيم.
لقد كان المرحوم العلامة يقول: الحمد لله .. لدينا إلهٌ جيّد [ضحك من سماحة السيّد]، لدينا إلهٌ جيّد، فهو يغض الطرف عنّا، ولا يعاملنا بالقسوة والشدّة، ولكن بالطبع فالأمر لا يشمل حقوق الخلائق علينا!! فهذه المسائل يحاسب الله عليها حساباً عسيراً، فالويل لنا من ذلك الحساب و شدّته.. و لكنّني أتحدّث عن رحمته فيما يتعلّق به هو، بالمعاصي الشخصيّة، تلك المعاصي التي يفعلها الإنسان بينه وبين الله، فالله لا يؤاخذ عليها كثيراً، بل هو أرحم الراحمين.
(للأسف انتهى الوقت، وينبغي أن نلتزم بالوعد الذي قطعناه على أنفسنا).
نعم .. من جهة لدي طلب ورغبة، ومن جهة لديّ الحجّة في السؤال والطلب منك يا الله و ما ذلك إلاّ جودك وكرمك.
طبعاً نحن قد وضّحنا هذه المسائل بالتفصيل في السنة الماضية، غاية الأمر أعدنا عرضها باختصار لكي تكون بمثابة مقدّمة للدخول في العبارة التالية، و هذا ما أجبرنا على بيان حقيقة المسألة.
وعليه لدينا هنا أمرين:
الأوّل: طلب وسؤال من العبد، وهذا السؤال والطلب الذي سأله العبد من الله كان متزامناً مع كونه عاصياً.
الثاني: وهو يتعلّق بالله، وهو عبارة عن جود الله عزّ وجلّ وكرمه.

وإن شاء الله.. تأتي تتمّة هذا الموضوع ـ بحول الله وقوّته ـ في الليالي القادمة.

اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد


[1] ـ الريال هو الوحدة الرسمية للعملة الإيرانيّة، و قيمته زهيدة جدّاً (الدولار = 10,000 ريال) [المترجم]

[2] ـ سورة الإسراء، الآية: 79.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی