معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > أعياد و مناسبات إسلامية > خطبة العيد لعام 1432 ـ البصيرة أساس الدعوة إلى الله

_______________________________________________________________

هو العليم

خطبة عيد الفطر
البصيرة أساس الدعوة إلى الله

 

(ألقيت يوم عيد الفطر من عام 1432 هـ.)

لسماحة آية الله الحاجّ

السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف                                          

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم

    

الخطبة الأولى

الحمد للّه الواصل الحمدَ بالنعم، والنعم بالشكر. نحمده على آلائه، كما نحمده على بلائه، ونستعينه على هذه النفوس البِطاء عمّا أُمرَت به، السِّراع إلى ما نُهيَت عنه. ونؤمن به إيمان من عاين الغيوب ووقف على الموعود، إيماناً نفى إخلاصُه الشركَ ويقينُه الشكّ. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله، أرسله بالهدى ودين الحقّ ليُظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله التي هي الزاد وبها المعاد، دعا إليها خير داعٍ ووعاها خير واعٍ، فأسمعَ داعيها، وفازَ واعيها
.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ...{بسم الله الرحمن الرحيم *إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ * ورَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ في‏ دينِ اللَّهِ أَفْواجاً *فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً}.

[استراحة بين الخطبتين مدّتها 10 ثوان تقريباً]

    

الخطبة الثانية

اللهمّ صلّ وسلّم على خاتم رسلك وسيّد بشرك.. أفضل السفراء المقرّبين، وخاتم الأنبياء والمرسلين الذي روحه نسخة الأحديّة في اللاهوت، وجسده صورة معاني الملك والملكوت، طاووس الكبرياء وحمام الجبروت.. العبد المؤيّد والرسول المسدّد المصطفى الأمجد أبو القاسم محمّد.
وصلّ وسلّم على أخيه ووصيّه وصهره وابن عمّه وخليفته من بعده، يعسوب الدين، وإمام المتّقين، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وعلى ابنته الطاهرة، الحوراء الإنسيّة، البتول العذراء والشفيعةِ في يوم الجزاء فاطمة الزهراء، وعلى سبطي الرحمة وسيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين، وصلّ على أئمّة المسلمين: عليّ بن الحسين، ومحمّد بن علي، وجعفر بن محمّد، وموسى بن جعفر، وعليّ بن موسى، ومحمّد بن عليّ، وعليّ بن محمّد، والحسن بن عليّ، والحجّة القائم المنتظر المهدي صلواتك وسلامك عليهم أجمعين. اللهمّ عجّل في فرجهم واجعلنا من شيعتهم ومواليهم، والذابين عنهم، ووفّقنا لزيارتهم في الدنيا وشفاعتهم في الآخرة.

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله في كتابه الكريم، ومبرم خطابه العظيم:
{قُلْ هذِهِ سَبيلي‏ أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى‏ بَصيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَني‏ وسُبْحانَ اللَّهِ وما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكين‏}
من أجل تعجيل ظهور وليّنا وإمامنا وحجّتنا ورفع المصائب والآلام عن عامّة البشر، خصوصاً شيعة أمير المؤمنين عليه السلام: صلّوا على محمّد وآل محمّد... اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد.

    

الدعوة إلى الله يجب أن تكون "على بصيرة"

يقول الله تعالى في هذه الآية الشريفة: يا رسول الله، { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني}، أيّها النبيّ، قل للناس: إنّ طريقي وسبيلي هو هذا الذي ترونه وتشاهدونه، وهو الذي قمتُ بإبلاغه لكم.. سبيلي هي هذه التي بيّنتها وأوضحتها لكم بأقوالي وأفعالي.
{أدعو إلى الله} .. أنا في هذا الطريق أدعوكم إلى الله، أنا وكلّ شخص اتّبعني ووضع قدمه حيث أضعها.. أدعو نفسي إلى الله وكلَّ شخص يتّبعني، وهذه الدعوة التي أقوم بها ليست دعوة ناشئة من التوهّم والتخيّل والذوق الشخصي، وهذه الدعوة ليست ناشئة من أهواء النفس الأمّارة، ولا هي ناشئة من الميول النفسانية بعد مزجها وخلطها بالصبغة الإلهيّة، بل هذه الدعوة دعوة خالصة توحيديّة، ولهذا السبب فهي دعوة نابعة من البصيرة والاطّلاع.
فالدعوة التي أخاطبكم بها ليست مبنيّةً على المعلومات التي أسمعها من زيد وعمرو، وهذه الدعوة ليست على أساس قراءة الجريدة والمجلّة واستماع المذياع ومشاهدة التلفزيون، وليست هذه الدعوة مأخوذةً من الشائعات ولا من الكلام المبني على التظاهر [بخلاف الواقع]، إنّ الدعوة التي أوجّهها لكم ليست مستخرجة ولا ناشئة من آراء الناس واستقراء أفكارهم، وليست هذه الدعوة نابعةً من تجّمع الكثرة وغلبة آراء أكثر الناس، وليست مبنيّة على رضا بعض الناس وسخط آخرين .. (هل التفتّم لما أريد أن أبيّنه؟!).
إنّ الدعوة التي أدعوكم إليها مبنية على أساس بصيرتي أنا نفسي، وعلى إدراكي أنا .. رسول الله يقول ذلك! إنّ الله تعالى يأمر رسوله أن يخبر الناس ذلك، ويأمره أن يبلّغ الناس دستوراته للسعادة والفلاح على هذا الأساس، وهو لا يقول لرسوله: (كلّما رأيت الناس قد مالوا إلى جهة من الجهات، فعليك أن تميل بحديثك إلى ذلك الاتّجاه أيضاً، وإذا ما رأيت الأجواء والشائعات تتجّه نحو أمرٍ معيّن، فغيّر كلامك وأفعالك وتصرّفاتك، وعندما ترى أن الناس يميلون إلى جانبٍ ما، فاركب الموجة وتحرّك إلى حيث ميول الناس ورغباتهم)، فهذه الدعوة لا يمكن حينئذٍ أن تكون دعوةً إلى الله، بل هي دعوةٌ إلى المسائل والأهواء الظاهريّة والأذواق الشخصيّة.. في هذه الدعوة لا مكان للسعادة الحقيقيّة.
تجد الناس اليوم متّجهين باتّجاه معيّن، وفي اليوم التالي تجدهم قد تركوه ومالوا نحو جانب آخر.. في اليوم الأوّل ينتخب الناس شخصاً معيّناً، وفي اليوم التالي تجد أنّ نفس هؤلاء الناس قد مالوا عنه إلى جهة أخرى! إنّ هذا لا يمكن أن يؤمّن السعادة للإنسان.. اليوم تميل الريح إلى هذا الجانب، أمّا في الغد فإنّها تدور إلى ذلك الاتّجاه الآخر، فأيّ الطرفين إذاً هو طريق السعادة والفلاح؟! وأيّ الطرفين هو سبيل النجاة؟! وباتّباع أيّ الطريقين يتجاوز الإنسان نفسه ويصعد درجات الترقّي؟ فذلك الذي يميل كلّ يوم إلى جهة لن يتحرّك من مكانه حتّى آخر عمره، ولن يعالج ذلك الأسلوب أيّاً من أمراضه، ولن تُحلّ أيٌّ من مشاكله... تجده إذا مال الناس معه فرح وانشرح، ولكن إذا أعرضوا عنه حزن وتأسّف.
إنّ رسول الله يبلغ إلى الناس هذا البلاغ من جانب الله تعالى أن: {هذِهِ سَبيلي‏ أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ}، فمن أراد فليتفضّل .. بسم الله، ومن لم يرد فالطرق الأخرى موجودة. إنّ هذه الآية آية عجيبة جدّاً كسائر آيات القرآن الكريم.. إنّها آيةٌ عجيبة جدّاً.

    

ينبغي الاقتداء بأولياء الله في اهتمامهم الشديد بالقرآن الكريم

قبل بضعة ليالي ذكرت للإخوة والرفقاء أنّ هذا القرآن كتاب عجيب، ونحن حتّى الآن لم نعرف قدر هذا القرآن، وأنا حينما كنت في صحبة أولياء الله والأعاظم، كنت أتعجّب كثيراً من شدّة اهتمامهم بهذا القرآن، وكم حدث أن كنت جالساً في حضور أولياء الله ، فكنت أرى أنّهم يفتحون القرآن الكريم ويقرؤون فيه، ويتأمّلون فيه مدّة من الزمان، فلم يكونوا يتكلّمون بعد قراءة القرآن لمدة نصف ساعة أو عشرين دقيقة، وبعد ذلك يغلقون القرآن ويرجعونه إلى مكانه، ثمّ يبدؤون ببيان بعض المطالب... وهذا كان حالهم مع القرآن الكريم وكذا كان تعلّقهم به بشكل دائم.. إنّ صوت قراءتهم للقرآن ما زال صداه يرجع في أذني.
في ذلك الوقت كان يخطر في بالي هذا السؤال ... فقد كنت جاهلاً ولم أكن أفهم، ولم يكن لي اطّلاع على حقائق القرآن، وكنت أتصوّر أنّ الكتاب الإلهي وهذه الآيات المباركات التي جاءت من قبل الله تعالى إذا ما تُليت فإنّها توجب جلاء النفس وصفاء الروح بسبب النورانية والبركة التي فيها، فهذه كانت حدود فهمي فقط، وكنت أكتفي بذلك فقط، والآيات التي كنت أقرؤها، والقصص والمطالب الواردة في القرآن الكريم كنت أفهمها بحدودها الظاهريّة فقط، ولم أكن مطّلعاً على أسرار ورموز آيات القرآن...
ما زلت أذكر أنّ المرحوم السيّد العلاّمة كان يقول: عندما كنّا في النجف، ذات يوم كنّا جالسين في مجلسٍ مملوٍّ بأعيان النجف من العلماء والفضلاء، ودار الكلام حول عدم الاعتناء بالقرآن، وعن توغّل الأفراد في مسائل أخرى وكتب أخرى، وانشغالهم بتلك المطالب الأخرى... يقول السيّد العلاّمة: أنا قلت للأفراد الحاضرين في ذلك المجلس أنّ الحوزة في هذا الزمان قد تأخّرت عن القرآن الكريم وانشغلت عنه، ونلاحظ أنّ القرآن لا يَلقى اهتماماً إلاّ في مجالس العزاء والفاتحة، وأنّ القرآن صار مهجوراً متروكاً في منازل الناس، فلم يعُد يسمع صوت القرآن في هذه المنازل، والحال أنّ عندنا الكثير من الروايات التي تؤكّد على قراءة القرآن، فالأئمّة عليهم السلام كانوا يقرؤون القرآن بأنفسهم وكانوا يقرؤونه بصوت عالٍ..خصوصاً في الصباح، وكثير من الرواة ينقلون أنّه: عندما كنّا ندخل على الإمام عليه السلام، كنّا نجد أنّه كان مشغولاً بتلاوة القرآن. حسناً .. ماذا كانوا يفهمون من القرآن؟ ماذا كان أئمّتنا عليهم السلام يدركون من تلك التلاوة؟ هل كانوا واقعاً يقرؤونه من أجل التبرّك وتحصيل النورانيّة؟! أم من أجل ثواب التلاوة الذي يحصل عليه الإنسان في يوم القيامة؟! أم أنّ هناك معانٍ ومسائل أخرى في البين؟
وفي الجواب على كلام سماحته كانوا يقولون: نحن لسنا بحاجة إلى القرآن الكريم! وذلك أنّ القرآن عبارة عن:
مجموعة من القصص وأحوال الأمم السالفة والأحداث التاريخيّة ، ونحن قد اطّلعنا عليها.. أصلاً كم مرّة يستطيع الإنسان أن يقرأ قضيّة وقصّة تاريخيّة؟! لا يمكن أن نقرأها كلّ يوم! يمكن أن نقرأها مرة أو مرتين أو ثلاث مرّات بحدّ أقصى، وبعد ذلك ينتهي الأمر.
وقسم آخر من الآيات القرآنيّة تتحدّث عن المسائل الأخلاقيّة، ونحن فعلاً نراعي تلك الأمور، وذلك من قبيل: مساعدة الفقراء، ورعاية الأيتام، وصلة الرحم، وبرّ الوالدين، وما شابه ذلك... فنحن نعرف هذه الأمور... فبعد أن نعرفها هل هناك أمرٌ وراء ذلك؟ لا يوجد شيءٌ آخر.
وأما القسم الثالث فهو يتعلّق بالأحكام الشرعيّة، ولكنّها أحكامٌ كلّية لا تنفعنا، لأنّ ما ينفعنا هو تلك النصوص التي تتحدّث عن الأحكام الجزئيّة والتكاليف الشخصيّة، ومن هنا فدراسة آيات الأحكام مع ما لها من عموم وكلّية لا فائدة فيه لنا ولا يعالج المشاكل التي نريد حلّها.
و بناء على ذلك، فلا حاجة لنا بقراءة القرآن!!
إنّ هذه الحادثة التي أبيّنها لكم قد حصلت وهي موجودة بالفعل، ولا تتخيّلوا أنّني أختلق هذا الأمر من عندي.
و من العجيب واقعاً أن نجد شخصيّة مثل المرحوم السيّد علي القاضي رضوان الله عليه، الذي كان قد بلغ ذروة التبحّر في المسائل والمطالب العلميّة إلى درجة أنّه عندما كان يدخل إلى مجلس حافل بالفضلاء ومراجع الدرجة الأولى في النجف الأشرف، كان الجميع يخضعون أمامه ويسكتون في مقابله ولم يكن لدى أيٍّ منهم الجرأة لأن يتكلّم في محضره... مثل هذه الشخصيّة تجد أنّه كان يقضي أغلب أوقات نهاره بقراءة القرآن!
ثمّ بعد ذلك ترانا ـ نحن المساكين والضائعين في وادي الحيرة والضلالة ـ نأتي ونتكلّم بهذه الطريقة عن معجزة عالم الخلق والتشريع .. الكتاب الإلهي وحبل الله الممدود! فما أبعدنا الحقيقة والواقع! ما أبعدنا! إنّ معنى ذلك هو أنّنا قد ابتعدنا عن المطالب الحقّة، وتخلّفنا عن متابعة الحقائق.
اذكروا لي مشكلة واحدة لم يُذكر في القرآن حلّها !! خذوا فرصة من الآن إلى الشهر القادم.. فكّروا في كلّ مشكلة قد تواجهكم في حياتكم .. فكّروا في كلّ مشكلة في طريقكم.. في كلّ مشكلة في اعتقادكم.. في كلّ مشكلة في مسيركم.. اعثروا على أيّ مشكلة من أيّ نوع بحيث لا يوجد جوابها وحلّها في القرآن الكريم! فلماذا إذاً تجدنا لا نعطي القرآن حقّه من الاهتمام والتقدير؟!
حسناً.. إنّ هذه الآية تمثّل مفتاح الحلّ للكثير من المشاكل التي نعاني منها، وهي في ذلك كباقي آيات القرآن، وقد ذكرت للإخوة والرفقاء قبل بضعة ليالي أنّ هذا الكتاب الإلهي ليس كتاباً سطحيّاً بسيطاً، وأنّ الإشكالات التي تُطرح أو طُرحت أو ستطرح في المستقبل سببها أنّنا لم نتفكّر في هذه الآيات، ولم نتدبّر في هذا القرآن، بل أغلقنا فكرنا وتصوّرنا أنّ الطرق إلى الله هي في الواقع طرق مختلفة ومتفاوتة، فهذا يدعو من جانب، وذاك يدعو من جانب، وثالث يدعو من جهة أخرى، والحمد لله كلّهم جيّدون.. والحمد لله جميعهم من أهل الجنّة.. والحمد لله جميعهم من العلماء.. والحمد لله جميع الآراء تستحقّ الاحترام.. وكلّ الفتاوى تستحقّ الاحترام.
ماذا؟ تستحقّ الاحترام؟؟!
يا للعجب! فذلك الشخص الذي يُنكر كسر باب السيّدة الزهراء .. هل يستحقّ الاحترام؟! وذاك الذي يقول كلّ ما يحلو له عن الأعاظم، مقلّلاً من احترامهم وموهّناً لهم، والحال أنّه هو الذي يستحقّ ما يقول.. فهل هذا أهلٌ للاحترام أيضاً؟! وذاك الشخص الذي اتّهم أولياء الله بالكذب في كتابه، وأطلق على أولياء الله لقب الكذّاب.. فهل مطالب هذا تستحقّ الاحترام؟! نعوذ بالله، ونستجير بالله من الظلمات التي نتوغّل فيها، ومن الهلاك الذي غرقنا فيه، ومن الحيرة والتيه الذي ابتلانا الله به!!
أولئك الأفراد الذين يلقون مطالباً (أيّاً كان هذا الشخص)، والتصرّفات التي يقومون بها والأفعال التي يؤدّونها، حتّى لو كانت مخالفة للعقل والإنسانيّة والفطرة السليمة ومخالفة للموازين.. فهل كلّ ذلك يستحقّ الاحترام أيضاً؟! أفَبِمجرّد أن يضع شخص عمامةً على رأسه، ويجتمع بعض الناس حوله؛ فإنّ ذلك يجعله مستحقّاً للاحترام؟! كم صرنا تائهين وضائعين؟ وكم صار حالنا سيئاً حتّى صرنا نرى أن من واجبنا أن نضع تلك الموازين والمعايير التي قدّمها لنا أولياء الله جانباً، وبدلاً من ذلك فيجب أن نرجع إلى من؟!

    

الكثرة ليست معياراً للتمييز بين الصواب و الخطأ: أصحاب النبي نموذجاً

{قل هذه سبيلي أدعو إلى الله} .. يا رسول الله، قل للناس: إنّ هذا هو طريقي وهذه هي مبانيَّ، وهذه مطالبي: {أدعو إلى الله} .. فأنا لا أدعو إلى الأفراد، ولا أدعو إلى الذهاب والقيام والقعود، ولا أدعو إلى الأعداد الغفيرة..
انظروا الآن: ما هو الميزان والمعيار السائد للتمييز بين الحقّ والباطل؟ أينما ذهبت في هذه الدنيا فلن تجدوا فرقاً، فالكلّ يعتبر أن ميزان الفرق بين الحقّ والباطل هو كثرة عدد المؤيّدين! فما أراه وأسمعه من الأفراد لا يعدو ذلك، حيث تجدهم يقولون مثلاً: انظر كم شخصاً حضر في المحاضرة التي ألقيتها... شاهدوا عدد الأفراد الذين جاؤوا ليسمعوا كلامي... وأمثال ذلك.
إنّ هذا هو نفس ذلك التفكير، وهو بعينه تفكير المشركين والكفّار منذ خلقة آدم وحتّى يومنا هذا، وهو مازال جارياً في كلّ مكان.. لماذا هو جارٍ في كلّ مكان؟ لأنّ هذا التفكير هو تفكير النفس لا تفكير العقل.. وهو تفكّر الإحساسات لا الفطرة.
بينما نجد أن القرآن الكريم قد أجاب بشكل صريح على هذه المسألة: أينما وجدتم الأعداد الكثيرة.. فـ {أكثرهم لا يعلمون}[2]، وأكثرهم لا يشعرون !! جوابٌ واضح لا نقاش فيه ولا مزاح.
فمن يا تُرى هؤلاء "الأكثر" الذين يتحدّث عنهم الله سبحانه؟ ومن هم المقصودون بذلك؟ هل المقصود هم الكفّار فقط؟ يعني هل يريد الله سبحانه وتعالى أن يقول أنّ "أكثر الكفّار" هم الذين لا يعلمون، وأمّا المسلمون فهذه القاعدة لا تجري بحقّهم؟ حسناً.. فلنجري حساباً بسيطاً: ما هو عدد المخالفين من أهل الإسلام؟ هل عدد المخالفين من إخواننا السنّة أكبر أم عدد الشيعة أكبر؟ أيّهما أكثر؟ لا شكّ أنّ عدد السنّة أكثر، وبالتالي فينبغي أن يكونوا هم على الحقّ لا نحن، لأنّ الأمر راجع إلى الكثرة، والاعتماد على الكثرة قاعدة عقلائيّة !! وهي قاعدة يقول بها جميع الناس! فحيثما كانت الكثرة فالحقّ في ذلك الجانب! وأينما كانت الكثرة فالميزان والمعيار في ذلك الطرف! هذا ما نجده حتّى الآن!
حسناً.. انظروا الآن إلى نفس الأفراد الشيعة والمنتسبين إلى أهل البيت عليهم السلام: انظروا إلى أفعالهم وأقوالهم وتصرّفاتهم وعقائدهم.. أيّهم أقرب إلى الأئمّة عليهم السلام؟ هل هم الأكثريّة ؟! ها؟ هل هم الأكثريّة؟! كم شخصاً ؟ كم مليوناً ؟ كم مائة ألف؟ كم ألفاً؟ ها هنا يأتي القرآن ويبيّن لنا المسألة، ويُعطينا معياراً للمسألة، فيقول لنا : انظروا.. وحيثما رأيتم أن عدد الأفراد كثير فيجب أن تحسّوا بالخطر، وأينما رأيتم أنّ الناس يميلون إلى جهةٍ معيّنة فذلك يمثّل جرس إنذار فوريّ!!
كم ظلّ النبيّ بين الناس؟ ألم يقضِ رسول الله صلّى الله عليه وآله ثلاثاً وعشرين سنة من عمره بين الناس؟! ثلاثٌ وعشرون سنة.. ثلاث عشرة سنةً في مكّة وعشر سنوات في المدينة... من هم الأفراد الذين كانوا يملؤون مسجد النبيّ؟ ومن هم الأفراد الذين كانوا يصلّون خلف النبيّ في المسجد؟ من كانوا؟
وعندما أعلن رسول الله بعثته بالرسالة في مكّة المكرمة.. كم شخصاً كان معه؟ ولكن عندما بدأت الفتوحات الإسلاميّة، وصار الإسلام يفتح المدينة تلو الأخرى، وصار الناس يُقبلون على الإسلام ويميلون إليه.. رأينا أنّ مسجد المدينة قد امتلأ فجأة بالمصلّين!! فمن أين جاء هذا الإمتلاء وبسبب أيّ نوع من الأفراد كان؟ فمن هم الذين جاؤوا وملئوا المسجد؟ هل كانوا جميعاً كعمّار وحذيفة والمقداد وسلمان؟ أم لا؟ من أيّ نوع كانوا إذاً؟! متى يُعرف الجواب على ذلك؟ يعرف بعد ثلاث سنوات عندما يضع النبيّ رأسه على التراب ويختفي ـ بحسب الظاهر ـ من بين الناس متوجّهاً نحو ذلك العالم!! فانظروا حينئذٍ إلى جميع الأفراد الذين كانوا في مسجد المدينة وخارجه (حيث كان المسجد يمتلئ وتمتد إقامة الصلاة إلى خارجه)، لتشاهدوا كم واحداً من بين هؤلاء جميعاً قد بقي متّبعاً للنبيّ؟ ثلاثة أشخاص أو أربعة!! فأين ذهب الباقون؟ أين ذهب كلّ أولئك الذين كانوا يُصلّون خلف رسول الله؟!
لو كنّا نحن في ذلك الزمان، فماذا كنّا سنفعل؟ عندما نرى هذه الأعداد الغفيرة ستظهر البسمة العريضة على شفاهنا وستبدو السعادة على وجوهنا، ونقول: الحمد لله.. انظروا إلى الإسلام.. وشاهدوا نتائج دعوة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لقد فتحت دعوته البلدان، وجذبت الناس.. فهاهم جاؤوا ليؤدّوا الصلاة...
إنّ هؤلاء جميعاً عندهم ميول وتوجّهات، وكلّ واحد منهم عنده سبيل وطريق يتحرّك فيه، ولكن عندما يصلّي النبيّ فكم واحداً منهم يتحرّك في سبيل النبيّ واقعاً؟ كم شخصاً؟ قطعاً يوجد أمير المؤمنين عليه السلام، وليس من المعلوم أن يكون حضرته واقفاً في ذلك الصفّ الأوّل بل ربّما كان واقفاً في الصفّ الأخير، كما يوجد سلمان وعمّار والمقداد، وربّما شخصان أو ثلاثة غيرهم.. فعددهم لا يتجاوز ذلك.
فما الذي يفعله الباقون إذاً؟! الباقون يؤدّون الصلاة... (انتبهوا!!!!) إنّهم يؤدّون الصلاة ويؤدّونها خلف رسول الله! ماذا يفعل الباقون؟ الباقون كانوا يستمعون نفس ذلك الكلام الصادر من رسول الله بعينه.. وكانوا يحدّقون بكلمّات رسول الله والدموع تنحدر من أعينهم!! نفس هؤلاء هم الذين كانت تجري الدموع من أعينهم! ونفس هؤلاء كانوا يُظهرون المحبّة والودّ! ونفس هؤلاء كانوا من المتعلّمين! ونفس هؤلاء كانوا يشعرون بالرقّة! ونفس هؤلاء كانوا يقيمون مجالس العزاء وما يزالون! ونفس هؤلاء يعتبرون أنفسهم من أتباع الإسلام وأهل البيت! ونفس هؤلاء يدّعون اتّباع مدرسة الولاية! هؤلاء أنفسهم!! هؤلاء هم أنفسهم كانوا يصلّون خلف النبيّ وكانوا يتسابقون فيما بينهم ليحصلوا على قطرات الماء الساقطة من وضوئه لكي يتبرّكوا بها!
فما الذي حصل؟! لقد انهار هذا الظاهر فجأة! فحضور رسول الله الظاهريّ لم يعد موجوداً في البين، ولم يبقَ إلاّ ذلك المقدار الموجود هنا [و أشار سماحة السيد إلى قلبه]، هذا فقط هو ما بقي! فبعد الآن.. لم يعد رسول الله موجوداً، ولا يمكن الرجوع إليه... هل التفتّم؟! بعد الآن لا توجد تلك المظاهر التي تخدع العقل وعين الباطن، وبعد الآن لا يوجد فتوحات إسلاميّة وبلدان مفتوحة، وبعد الآن لا توجد تلك المعجزات كشقّ القمر وردّ الشمس!!!
لم يعد هناك إلاّ ذلك المقدار الذي بقي في القلب والعقل.. لم يبقَ سوى ذلك المقدار من رسول الله وأفعاله وأقواله وطريقة تصرّفاته!! حسناً.. هذا المقدار الذي بقي عندهم إلى أين أخذهم وبأيّ اتّجاه جذبهم؟ جذبهم إلى أبي بكر !! ذلك المقدار الذي بقي "هنا" [و أشار سماحته إلى قلبه] لم يجذبهم باتّجاه عليّ، إذ لو جذبهم باتّجاه علي لما سمحوا لأولئك أن يذهبوا ويقتلوا بنت رسول الله بهذا الشكل الفظيع، ولو كان ذلك المقدار الذي "هنا" [و أشار سماحته إلى قلبه] كافياً ، لما سمحوا لأولئك أن يضعوا الحبل في عنق عليّ ويسحبوه إلى المسجد حتى يجبروه على الاعتراف والإقرار بخلافتهم !! إذاً من الواضح أنّ ذلك المقدار اللازم لم يكن موجوداً ، وأنّ ما كان عندهم لم يكن كافياً.
و أمّا ما كان موجوداً عندهم فعلاً [و أشار سماحته إلى قلبه] فهو منذ زمان النبي ... (أرجو من الإخوة والرفقاء أن يلتفتوا جيّداً، فالمطالب التي أبيّنها لكم مطالب دقيقة جدّاً وينبغي أن نستوعبها جيّداً)...
إذاً ذاك الذي كان موجوداً منذ زمان رسول الله وذلك البكاء تحت منبر النبي .. أين ذهب وماذا حلّ به؟! تلك الحركات والقتال وضرب السيوف أين ذهب وماذا حلّ به؟ فهم كانوا يقاتلون بالسيف، وتصيبهم بالسهام، فالأمر لم يكن بسيطاً كتناول الحلوى! بل كانوا يقاتلون ويصابون ولم يكن الأمر سهلاً، وكانوا يذهبون في ركاب رسول الله ... صحيح؟ فأين ذهب كلّ ذلك؟ وماذا حلّ بصلاة الليل التي كان نفس هؤلاء يصلّونها؟ فأولئك الذين جاؤوا وأشهروا السيف في وجه عليّ ... لقد جاء ذلك الرجل وشهر سيفه فوق رأس أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً: إمّا أن تقرّ بخلافة هذا وتبايعه وإمّا أن أضرب رأسك بالسيف فأفلقه نصفين! هذا ما فعلوه يا عزيزي، وكلّ ذلك باسم الإسلام ، وبعنوان حفظ الإسلام ومصالح الإسلام، والدفاع عن بيضة الدين و... ما شابه ذلك من الأمور التي تعرفونها جميعاً، والتي تعلمتموها جيّداً !!
نفس أولئك جاؤوا وأشهروا السيف فوق رأس عليّ قائلاً: إمّا أن تأتي وتعطي يدك وتبايع، وإمّا أن نضرب الآن عنقك! فماذا يقدر أن يفعل أمير المؤمنين؟ لقد نظر نظرة واحدة إلى هؤلاء الناس، وفي هذه النظرة أفصح عن كلّ شيء: أهذا هو ما تعلّمتموه في السنوات الثلاثة والعشرين الماضيّة؟! (طبعاً أمير المؤمنين لم يقل ذلك بل أنا من أقول ذلك بياناً لحاله عليه السلام). لقد قال لهم بتلك النظرة: أهذا هو ما عندكم؟! هل هذه نتيجة الثلاث والعشرين سنة التي قضاها بينكم رسول الله، مع كلّ تلك الحروب والآلام والمصاعب والمصائب التي تحمّلها؟! هل هذا هو ما وصلتم إليه بعد كلّ ذلك أن شهرتم السيف علَيّ أنا ، وفعلتم بالضبط عكس أمر الله والنصّ الصريح الوارد منه تعالى في حجّة الوداع، وفي سائر المواقف، بما فيها يوم أمس !! نعم.. يوم أمس عندما جاء رسول الله في نفس هذا المسجد وقال لكم : «إنّي تاركٌ فيكم الثقلين ...»، فذلك كان يوم أمس أو الذي قبله... فهل هذا هو ما تعلّمتموه ؟! ها؟
فماذا كان جوابهم لأمير المؤمنين؟ كان جوابهم: يا عليّ ، هذه سبيلنا، وهذا طريقنا: فنحن نصلّي،ونصوم، ونؤدّي الزكاة وندفع الخمس، ونقاتل في الحروب و... ولكن ليس طريقنا التبعيّة لك، وطريقنا ليس اتّباع ولايتك! فنحن نصلّي صلاتنا ... (ألم يكونوا يصلّون؟! بلى كانوا يصلّون والآن ألا يصلّون كذلك ؟؟ ما شاء الله .. ما شاء الله.. انظروا إلى هذه الأعداد الغفيرة واحسبوا.. فهم بالملايين!) هذا هو طريقنا.. فنحن نقيم المجالس ونبكي، وندعو الناس إلى الله، ولكنّنا لا نتّبعك ولا نمشي وراءك!
جيّد جدّاً... ماذا يقول لهم أمير المؤمنين؟ يقول لهم: امشوا في طريقكم فهو مبارك عليكم، فماذا تريدون منّي؟! وما علاقتي أنا بذلك؟
لا !!!! لا يمكن ذلك، بل يجب أن تأتي أنت أيضاً معنا ... هذا ما قالوه لأمير المؤمنين، فأمير المؤمنين لم يتدخّل بهم، وقال لهم: هذه الخلافة مباركة عليكم، فاذهبوا بها، فهل تخيّلتم أنّني كنت حريصاً عليها أساساً، وهل تظنّون أنّني أريد هذه الخلافة لنفسي وأنّكم تحرمونني من منفعة شخصيّة؟!! فمبروك عليكم هذه الخلافة وهذه الحكومة وهذا النظام وهذه المصلحة... فاذهبوا وامضوا في سبيل دنياكم ، فماذا تريدون منّا؟ لا!!! أنت أيضاً يجب أن تأتي وتوافقنا، فنحن لا نتحمّل أن نرى فرداً مخالفاً لنا!
فيجيبهم أمير المؤمنين: ولكنّني أنا أشاهدكم وأرى ما يجري ومع ذلك لم أتدخّل بكم.
فيقولون له: أنت لم تتدخّل ولا علاقة لك، ولكن نحن لنا علاقة بك ونريد منك أشياءً، وسنأتي إليك ولن نتركك ... فنفس وجودك بالنسبة لنا يمثّل مانعاً وحائلاً.. نفس وجود الحقّ... إذ لو أنّ أمير المؤمنين لم يكن "أمير المؤمنين"، وكان كأبي سفيان وأمثاله، لما اهتمّوا لأمره، ولقالوا له: اذهب واجلس في بيتك قدرَ ما يحلوا لك، ولا تعارضنا، فإذا التزم بذلك كانوا سيتركونه..
و لو كان أبو جهل أو عتبة أو شيبة في مكان أمير المؤمنين لمّا اهتمّوا بأمره ولقالوا له: اذهب واجلس في المنزل ولا نسمعنّ صوتك، فإذا فعلت ذلك فلا علاقة لنا بك! ولكنّهم يلاحقون عليّاً لأنّ عليّاً حقّ! فلأنّ عليّاً حقّ فلا ينبغي لهذا الحقّ أن يبقى موجوداً ولو في حال السكوت .. لا ينبغي أن يبقى! بل يجب أن يأتي إلى هنا ويزيل قلقنا وتشويشنا.
و من هنا يتبيّن أنّ هؤلاء الأشخاص كانوا في الواقع يسيرون في طريقهم وسبيلهم هذا منذ زمان رسول الله؛ كانوا يصلّون خلف رسول الله ولكنّهم في الواقع كانوا يتحرّكون في طريقهم هم.. كانوا يذهبون إلى الحجّ مع رسول الله ولكنّهم كانوا في طريقهم هم .. نعم.. لقد ذهبوا إلى الحجّ "مع" رسول الله ولكنّهم لم يذهبوا إلى الحجّ "خلف" رسول الله واتّباعاً له!!

    

تبعيّة أمير المؤمنين للنبيّ كانت تبعيّة حقيقيّة لا ظاهريّة

بينما كيف كان حال أمير المؤمنين عليه السلام؟ كان ذلك عجيباً جدّاً ، فأمير المؤمنين كان في اليمن عندما تحرّك الرسول إلى الحجّ في حجّة الوداع، وعندما جاء أمير المؤمنين ملتحقاً برسول الله، وسمع النبيّ أنّ أمير المؤمنين قد عقد إحرامه وجاء محرماً أيضاً، سأله رسول الله أن: يا عليّ، على أيّة نيّة أحرمت؟ هل أحرمت بنيّة حجّ القران أم التمتّع أم الإفراد؟ فبمَ أهللت يا عليّ؟ فأجاب أمير المؤمنين عليه السلام بعبارة عجيبة، والآية القرآنية الكريمة التي نتحدّث عنها تبيّن عمل أمير المؤمنين ونيّته، حيث قال عليه السلام: يا رسول الله لقد عقدت إحرامي على نفس نيّتك التي نويتَها أنت يا رسول الله، وأهللتُ بما أهلّ به رسول الله صلّى الله عليه وآله، وقلتُ: يا ربّ، أنا أحرم (هذا عجيب جدّاً ها! إنّ هذه الأمور هي ما ينبغي أن نتعلّمه) يا ربّ، أنا أُحرم بنفس ذلك الإحرام الذي أحرم به رسول الله، فرسول الله قد أحرم في طريقه من المدينة ، وأنا أحرم من هنا من الميقات الذي أنا فيه، ولكنّني أحرم بنفس النيّة التي أحرم بها رسول الله، فلو أنّ رسول الله قد أحرم بنيّة حجّ القران فإحرامي كذلك، وإن كان غير ذلك فأنا مثله أيضاً مهما كانت نيّته... والله تعالى تقبّل ذلك منه..
ذات يوم كنّا مع السيّد العلاّمة عندما تشرّفنا بالحجّ معه، وكان سماحته يوصينا كثيراً أن: عندما تدخلون إلى المسجد الحرام فأكثروا من شرب ماء زمزم، وصبّوه على رؤوسكم، وتبرّكوا بهذا الماء، وكما ورد في الروايات أنّه إذا أراد الإنسان أن يشرب من ماء زمزم ويتبرّك به، فعليه أن يدعو الله ما يشاء فإنّ الله يعطيه ما يريد...
إنّ ماء زمزم ماءٌ عجيبٌ جدّاً، فهو ماء قد نبع بواسطة لطف الله وعناياته الخاصّة التي أظهرها الله من خلال التجلّيات التوحيديّة في ذلك الزمان، فكان من بينها إخراج ماء زمزم، ولذا كان رسول الله يكثر من الشرب من ماء زمزم، وكان يسأل كلّ شخص يأتي من مكّة: هل أحضرت لنا من ماء زمزم أم لا؟ فيعطيه ذلك الشخص من ماء زمزم، فكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يشرب منه، وكان يقول: أيّ دعاء تدعونه فإنّ الله يقبله ويستجيب له (فالله قد جعل سبلاً وطرقاً [للقبول والاستجابة])...
فسألْنا السيّدَ العلاّمة: ما هو الدعاء الذي ندعوه بحيث يكون ذلك الدعاء دعاءً جامعاً ندعو به كلّما شربنا من هذا الماء؟ فقال سماحته: اطلبوا من الله (وهذه العبارة عبارة عجيبة!) أن يعطيكم ما كان يدعو به رسول الله صلّى الله عليه وآله عندما كان يشرب من ماء زمزم. وهذا عجيبٌ جدّاً!
و نحن منذ ذلك الوقت كلّما تشرّفنا بالذهاب إلى هناك، إذا شربنا من ماء زمزم نقول: يا الله، نحن نشرب هذا الماء بنفس تلك النيّة التي كانت عند رسول الله، فقد أرحنا أنفسنا واطمأنّ بالنا بهذا الدعاء [تبسّم من سماحة السيّد] فنحن ندعو بهذا الدعاء بدلاً من أن نتعب أنفسنا بالتفكير بما نطلبه من الله... يا ربّ أعطِنا كذا، ويسِّرْ لنا المسألة الفلانيّة ، وادفع المسألة الفلانيّة وما شابه... بدلاً من ذلك نقول: يا ربّ، نحن نطلب نفس تلك النيّة التي نواها رسول الله مهما كانت نيّته، فنحن لا نعلم ما هي..
حسناً.. دعوني أخبركم هذا الأمر أيضاً بين هلالين: لقد كنّا في خدمة المرحوم العلاّمة، ودار الكلام حول «أبيار علي».. تلك الآبار التي حفرها الإمام عليه السلام في المدينة، وطبعاً صارت الدخول إليها الآن ممنوعاً، فهم لا يسمحون لأحد أن يقترب منها، وأمّا في السابق، فكان بإمكان الناس أن يذهبوا إلى هناك قرب مسجد الشجرة إلى الموضع المسمّى بـ «أبيار علي»، ورغم أنّني سمعتُ أنّهم يحضرون من ذلك الماء إلى المدينة ويستفيدون منه، إلاّ أنّني في ذلك الزمان قد وفّقني الله أكثر من مرّة بالذهاب إلى هناك...
أجل.. لقد دار الحديث حول هذه المسألة أنّه: ما هي موقعيّة أبيار عليّ هذه التي حفرها أمير المؤمنين عليه السلام والماء الذي يستخرج منها؟ وقد بيّنت لكم أهميّة ماء زمزم وعلوّ مقامه، فدعوني أنقل لكم ما قاله المرحوم العلاّمة عن هذا الماء.. (أبيار علي)، لقد قال سماحته: إنّ ماء زمزم ذاك ـ الذي ورد التأكيد عليه كثيراً، وجاءت فيه روايات عديدة، وأنّه عندما تشربون منه فإنّ الله يستجيب لكم كلّ ما تدعونه ـ كلّ ذلك إنّما هو أثرٌ من النفس المطهّرة لحضرة إسماعيل عليه السلام ، حيث أنّ هذا الطفل قد أخرج ذلك الماء في ذلك الزمان بواسطة عصمته وطهارته التي ظهرت وبرزت في تلك الموقعيّة... يقول السيّد العلاّمة: والآن تعالوا وانظروا أيّة مكانة وأيّ سرّ في ذلك الماء الذي أخرجه «أمير المؤمنين» عليه السلام من باطن الأرض !!
أحببت أن يعلم الإخوة والرفقاء ذلك أيضاً... حسناً فلنتجاوز ذلك الآن...

ما الذي يمكن أن نفهمه من هذه المسألة؟ إنّ هذه المسألة تبيّن لنا أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو الذي كان متّبعاً لسبيل رسول الله .. {قل هذه سبيلي} .. يا رسول الله، قل للناس: هذه سبيلي.. فمن هو الذي اتّبع سبيل رسول الله ومشى في طريقه؟ فقط أمير المؤمنين عليه السلام وأولئك الأفراد القلائل.. اثنان أو ثلاثة.. هؤلاء فقط هم الذين اتّبعوا سبيل رسول الله، فأمير المؤمنين حتّى عندما يريد أن يعقد نيّته، فهو لا يخطر حتّى في ذهنه أن ...
انتبهوا جيّداً !! فأولياء الله يقومون بإظهار الطريق لنا، ومن الحيف أن يأتي الإنسان إلى هذه الدنيا ويمضي ستين أو سبعين سنة فيها، دون أن يستفيد بالمقدار الذي ينبغي له.. بعضهم قد يستفيد ثلاثين بالمائة أو أربعين بالمائة أو عشرين بالمائة، بينما أولياء الله يقولون لنا: تعالوا واستفيدوا مائة بالمائة، فلِمَ تكتفون بتسعين بالمائة أو خمسة وتسعين بالمائة فقط؟! تعال واتّبع سبيلي حتّى تحصل على مائة بالمائة.. {هذِهِ سَبيلي‏ أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى‏ بَصيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَني‏} .. هذا هو الطريق الذي أدعو إليه.. طريق التوحيد.

    

الحقّ واحد، و ليس بعد الحقّ إلاّ الضلال

وهنا نجد أنّ أمير المؤمنين عليه السلام يقول لرسول الله: أنا لم أنوِ إلاّ ما نويته أنت، ولم أضع قدمي إلاّ في موضع قدمك أنت.. لقد قلت في نفسي: أنا لا أدري ما هي النيةّ التي نواها رسول الله، ولكنّني لا أستطيع أن أمشي في طريق يخالف طريق رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأمّا بالنسبة للشخص الذي يجلس بجانبي أو يتحرّك معي أو يرافقني.. ما هي النيّة التي نواها؟؟! [لا علاقة لي بذلك،] فهل ذهب أمير المؤمنين إليه وسأله: ما هي النيّة التي أحرمتَ بها للحجّ؟! هل ذهب وقال له: مولانا، أنت من أهل العلم والفتوى، وفتواكم محترمة، ورأيكم محترمٌ عندنا ، وأنتم من أهل التقوى، ولله فيكم نظر... فما هي النيّة التي عقدتم عليها الإحرام حتّى أرى أنا أيضاً وأفكّر بالأمر ثمّ أقرّر ما هي النيّة التي سأُهلُّ بها؟؟!! كلاّ !! فهو لم ينظر أصلاً لا إلى هذا ولا إلى ذاك، ولم يخطر في ذهنه أنّه هل معه أحد أم لا، ولم يفكّر أصلاً بأنّه كم عدد الأفراد الذين سيمشون معه ويوافقونه في اتّجاهه وحركته، ولم يخطر في قلبه أنّه ما هو سنّ من معه من الأفراد وما هي رتبتهم...
لم يخطر في قلب عليّ عليه السلام إلاّ أمرٌ واحد فقط وهو: أيّاً ما كانت نيّة رسول الله فأنا مثله، مثل هذا يكون من أتباع رسول الله! وإلاّ فلا ! فالآخرون عندما يقال لهم: إنّ رسول الله قد أحرم بهذه النيّة، يجيبون: حسنٌ جدّاً، ولكن نحن يجب أن نرى إن كنّا سنفعل عين فعله أم لا ! فلنذهب ونسأل هذا وذاك، فربّما كان رأيه أفضل، وربّما يبيّن لنا أمراً إضافيّاً.. فلنذهب ونستمع إلى محاضرة فلان لعلّه يبيّن مطلباً مفيداً، ففي النهاية استماع آراء الآخرين ليس أمراً سيّئاً، ومن الجيّد أن يجمع الإنسان الآراء و... وأمثال ذلك من العبارات.
فإن فعلنا ذلك واتّبعنا هذا الأسلوب فسنصبح ممّن {خسر الدنيا والآخرة} !!! لماذا ذلك؟ لأنّه {ماذا بعد الحقّ إلا الضلال}؟! .. إنّ الحقّ واحد، وهو موجود في مكان واحد، وذلك الحقّ هو رسول الله والأئمّة الأطهار عليهم السلام وفقط .. انتهى الأمر. فالاتّباع ينبغي أن يكون لهم، بينما رأيي أنا هو رأيي أنا، ولا علاقة له بالإمام، وفتواي هي فتواي أنا ولا ارتباط لها بالإمام، وإنّما الذي له علاقة بالإمام عليه السلام هو الرواية المنقولة عن الإمام عليه السلام، فتلك الرواية محترمة وتلك الرواية مقدّسة ويمكن الاعتماد عليها بعد التأكّد من التأييدات التي تُثبت صحّة انتسابها للإمام، فإذا ثبت ذلك فحينئذٍ يصبح كلام المعصوم عصمة الكلام!!
و من هنا يتبيّن أنّ فهمي أنا لكلام الإمام عليه السلام [قابل للخطأ]... ألا يوجد من يفهم كلام الإمام ويفسّره بشكل خاطئ؟! لقد كنت جالساً في أحد المجالس حيث كان أحد الأفراد المعروفين والمشهورين جدّاً ومن العلماء الكبار ومؤيّدوه كثيرون جدّاً.. كان يفسّر كلام الإمام المجتبى عليه السلام حيث يقول لجنادة: «يا جنادة، استعدّ لسفرك وحصّل زادك قبل حلول أجلك... حتى يقول: وكن للدنيا كأنّك تعيش أبداً وكن للآخرة كأنّك تموت غداً» ، فوجدت أنّ هذا العالِم كان يفسّر كلام الإمام عليه السلام بالعكس تماماً، فقد كان يقول: يجب علينا أن نهتمّ بالدنيا ونؤدّي حقّها، ويجب تنظيم أمور الاقتصاد، والاستعداد لأمور الدنيا وأمثال ذلك، وأمّا مسائل الآخرة فيجب على الإنسان أن يؤدّيها ولكن يجب أن يصبّ الإنسان اهتمامه على مسائل الدنيا والاقتصاد والمعاملات والسعي والاجتهاد و... يا للعجب! هل هذا هو ما يقوله الإمام المجتبى عليه السلام؟!
حسناً.. هل رأي هذا الشخص محترم؟ وهل فتواه محترمة؟ أم لا.. بل رأيه ليس محترماً.. ليس محترماً، وإنّما المحترم وما يستحقّ الاهتمام هو كلام المعصوم فقط.. لا رأيي أنا وتفسيري أنا لذلك الكلام، وإذا أفتيت بأمرٍ، ففتواي هذه ليست محترمة، وإنّما هي من باب الضرورة التي كُلّفنا بها، وأمّا الاحترام فلا يختصّ بفتواي وإنّما يختصّ برواية المعصوم.. إنّ الاحترام والتقديس والقيمة العالية هو للآيات القرآنيّة.. إنّ الاحترام والطهارة يختصّ بذاك الكلام الذي يخرج من الفم المبارك للإمام عليه السلام لا من أفكاري أنا، فأفكاري أنا لي أنا، وأفكاركم لكم أنتم، وكلّ واحد منّا يسير في واديه، وكلّ واحد منّا يفسّر كلام الإمام عليه السلام بحسب فهمه، وبناء لذلك فهو يقدّم رأيه ونظره وفتواه.

    

الاتّباع الظاهري دون الاتّباع الحقيقي لا قيمة له

ومن هنا، ينبغي العمل طبقاً للآية الكريمة: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي ...} الآية، فلا ينبغي أن يكون في الفكر سوى الإمام المعصوم، ولا ينبغي أن يكون هناك ميلٌ في القلب إلاّ نحو الإمام المعصوم، ولا ينبغي أن يكون تصرّفنا إلاّ طبقاً لتصرّف الإمام المعصوم عجّل الله تعالى فرجه الشريف، ولا ينبغي أن نُدخل أحداً ـ أيّاً كان ـ معهم في فكرنا ولا بأيّ مقدار كان، تجد بعضهم يقول: «ذلك الرجل هو رجلٌ جيّدٌ أيضاً.. فلان يتصرّف تصرّفاً جيّداً...»، فينبغي أن نعلم أنّ حسنه له نفسه ولا علاقة لنا نحن به؛ فإن كان إنساناً جيّداً فما شأني أنا؟! لأنّه إن كان على الصواب فإنّ الله سيضاعف له أجره، وإن كان مخطئاً ومشتبهاً فإنّ الله سيتعامل معه بالعفو والرحمة والكرم؛ وعليه ما شأني أنا بالأمر، حتّى أتّبع هذا الرجل أو ذاك، أو أتحرّك طبقاً لفكر هذا أو ذاك مع كلّ هذا الاختلاف الكبير بين الآراء و الاتّجاهات و الأذواق؛ بحيث أنّ هذا يسوقك باتّجاه، والآخر يسوقك في الاتّجاه المخالف تماماً؟!!
فهل عليّ أنا أن آتي و أقول: هذا جيّد! وذاك جيّدٌ أيضاً! وذلك جيّدٌ... فهل كلّهم جيّدون؟!! فهل من الممكن أنّهم جميعاً جيّدون؟! فبهذه الطريقة جعلتم الجميع سواسية وصاروا جميعاً جيّدين!! لقد تعاملتم مع الجميع وكأنّهم يدعون نحو الله!! إن كان الأمر كذلك، فما معنى الاختلاف بينهم وكيف يمكن أن نفهمه؟!
يقول الله تعالى في هذه الآية الكريمة: إن كنت تريد أن تصل إلى التوحيد، فقل للناس: إنّي {أدْعُو إِلَى اللّهِ } .. أنا أدعوكم إلى الله، لا إلى مجالسي المشوّقة!! أدعوكم إلى الله، ولا أدعوكم إلى جعل موقعيّتي أكثر استقراراً وإحكاماً!! أدعوكم إلى الله، لا إلى جلالي وعظمتي الشيطانيّة والاعتباريّة والدنيويّة!! أدعوكم إلى الله، وإلى التوحيد، وأدعوكم إلى اتّباع عليّ عليه السلام، فإذا أنا متُّ فلا تسيروا خلف هؤلاء، لا تسيروا خلف هؤلاء الذين كانوا يصلّون خلفي، والذين كانوا يتسابقون لوضع السجادة خلفي و حجز مكان في الصفّ الأوّل، لا.. لا تتّبعوهم، فهؤلاء لم يكنوا ينظرون إلاّ إلى ظاهري فقط.. كانوا لا ينظرون إلاّ إلى عيناي وحاجباي ويداي ورجلاي فحسب.. كانوا لا ينظرون إلاّ إلى عمامتي وعباءتي وقبائي لا غير.
هؤلاء لم يكونوا يصلّون الصلاة اتّباعاً لي؛ فلو كانوا يتّبعونني لم جاؤوا في اليوم التالي ليقطّعوا أوصال ابنتي بين الحائط والباب ، فهل كان أولئك يتّبعونني؟! إنّهم أنفسهم الذين كانوا يصلّون في الصفّ الأوّل، هم بأنفسهم الذين عمدوا إلى تقطيع أوصال ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله .. بعنوان الحفاظ على الحكومة!!! فوا عجباه!! قتلوا ابنة رسول الله!! قتلوها كشربة الماء!! بعنوان الحفاظ على الحكومة! وبعنوان الإبقاء على النظام! وبعنوان إرساء دعائم الخلافة! قتلوها دون أن يؤنّبهم ضميرهم لحظة واحدة!!
لم لا يهتزّ ضميرهم؟ لأنّهم من البداية لم يكونوا يتّبعون النبيّ صلى الله عليه وآله حتّى يهتزّ ضميرهم، لم يكونوا من أتباعه، بل كانوا كفّاراً، وكانوا مشركين ومنافقين، وفي نفس الوقت كانوا يتلبّسون بلباس النبيّ؛ فهم قد وضعوا على رؤوسهم عمامة رسول الله التي كان يضعها على رأسه، وكانوا يلبسون نفس العباءة التي لبسها النبيّ ونفس القِباء الذي لبسه النبيّ صلى الله عليه وآله، لكنّهم كانوا كفّاراً ومشركين، ومنذ ذلك الحين كانوا يسعون خلف المظاهر و الوجاهة وأمثال ذلك...
ولكن عندما زالت هذه المظاهر، وعندما أتى الامتحان الإلهي، وعندما زالت تلك الذريعة الموجودة، عندها لم يبقَ لهم إلاّ المقدار الذي حصّلوه في العقل والنفس والقلب، وهو الذي سيحرّكهم و يدفعهم للأمام، لأنّ النبيّ لم يعد موجوداً حتّى يعتمدوا عليه في حركتهم، أليس كذلك؟! لذا رأيتموهم كيف نفضوا أيديهم من أمير المؤمنين، وسحبوا أيديهم من الولاية، وذهبوا خلف أولئك !!

    

خطورة أن يكون في قلب الإنسان وفكره أحدٌ آخر غير النبيّ والإمام المعصوم والأولياء الإلهيين

حسناً، إنّ هذه الآية تبيّن هذه الفكرة، ثمّ بعد ذلك لا تترك مجالاً لطرح أمرٍ آخر مخالف، فهو يقول فيها: أيّها الرسول، أخبر الناس إن كنتم تريدون أن تسيروا إلى الله، فلا ينبغي حينئذٍ أن يكون في فكركم غير النبيّ وغير عليّ.. لا تجعلوا في فكركم غير النبيّ صلى الله عليه وآله وغير عليٍّ عليه السلام وغير الوليّ الإلهي.. (ها! وصلنا إلى صلب الموضوع!!) لا تدخلوا إلى فكركم غير النبيّ وعليّ وغير ذلك الشخص الذي وضع قدمه في موضع قدم عليّ عليه السلام !! لأنّكم إن سمحتم لغيره بالدخول إلى فكركم فإنّ القلب سينشعب إلى عدّة شعب، شعبةٌ منه تسوقكم نحو الإمام المعصوم، والشعب الأخرى ما هي؟ هي قولنا: هذا الرجل رجلٌ جيّد، وذاك إنسانٌ حسنٌ... !! ها!!
كم شعبةً وقسماً صار في القلب؟! الفكر صار له عدّة أقسام، ولذا تزلزلت تلك الاستقامة الفكريّة التي كانت موجودة، وتزلزل ذلك التوجّه الذي كان في القلب نحو الولاية، فما السبب في ذلك؟ سببه أنّ القلب صار موزّعاً بعدّة اتجاهات، وهو ما أدى إلى أن يقول الإنسان: هذا الرجل رجلٌ صالحٌ، فرغم أنّه قد ارتكب بعض الأخطاء ولكن لا عيب في ذلك، فليست كلّ أفعاله اشتباه، وهو بشر والبشر جائز الخطأ.
لا.. هذا المنطق مرفوض، لأنّه لا شأن لي ولك إن كان «فلان بشرٌ والبشر جائز الخطأ» أم لا!! ولا ينبغي أن يكون أمام ناظريك إلاّ شخصٌ واحدٌ وحسب، وهو الإمام عليه السلام وفقط.
أمّا كون هذا الرجل جيّداً، فلا ينفع أحداً غيره، وكون ذلك الإنسان مخطئاً فلا يضرّ أحداً إلاّ نفسه،وبالتالي ما علاقتك أنت بالأمر؟! وما علاقتي أنا بالأمر؟! ولكنّك أتيت ووضعت بجانب العصمة المطلقة وبجانب الولاية المطلقة رجلاً لا يملك القابليّة لأن يقف بجانبهم، ولا يستحقّ أن يُقرن بالعصمة المطلقة، ولا يملك القابليّة لأن يُتَّبع حتّى! ومع ذلك فأنت أتيت ووضعت هذا الصنف بجانبهم؟!!!
ألم تحصل هذه المسائل في زمن المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه؟ إنّ الحقير رأى ذلك بعينيه، لقد رأيت أولئك الأشخاص الذين صنعوا ذلك في حياة أستاذهم، كما أنّ العلاّمة نقل لنا بنفسه كذلك أنّ هذا الأمر كان قد حصل مع أساتذته؛فقد كان بعض الأفراد يأتون إلى محضر هذا الوليّ الإلهي ورغم أنّهم كانوا يعتقدون به ويشاركون في مجالسه، ولكنّهم مع ذلك ـ في نفس الوقت ـ كانوا يتكلّمون وينقلون دائماً أقوال أفراد آخرين، فكانوا يقولون: «كنّا في المسجد الفلاني وقد ألقى الخطيب الفلاني خطبة جيّدة»... لكن يا عزيزي، ما علاقتنا نحن بـ «الخطبة الجيّدة» التي ألقاها فلان؟! إن كان ما قاله جيّداً فهو يعود عليه، وإن كنتَ معجباً به إلى هذا الحدّ، فاذهب إليه... فلم أتيت إلى هنا؟! كانوا يقولون: «صلاة الجماعة مع فلان جيّدة، فهو يصلّي مع حضور القلب» ... إنْ كنت معجباً بتلك الصلاة فاذهب وصلّ هناك، فلم أتيت لتصلّي هنا؟! كانوا يقولون: «فلان له الحالات الفلانية، وفلان وصفه هكذا ... » .
بلى...كان المرحوم الأنصاري[3] يقول لرفقائه الذين كانوا يسكنون في طهران: عليكم أن تذهبوا إلى شارع «سعدي» فتصلّوا صلاتكم في مسجد «القائم» خلف السيّد محمّد الحسين الطهراني، ومع ذلك كان أولئك السادة المحترمون يأتون إلى هناك ويقولون: «إنّ فلان يصلّي في السوق وصلاته مليئة بالحالات الروحيّة» !! هؤلاء كانوا من تلامذة الشيخ الأنصاري!!
فإذا كانت صلاته جيّدة ،فهي جيّدة لنفسه، و هي جيّدة لأولئك الأشخاص الذين يسيرون في ذلك الاتّجاه، ولا مشكلة في ذلك، فنحن لا نعتقد أنّهم من أهل جهنّم، ولا نعتقد أنّهم من أهل العذاب. ولكن الكلام لك أنت يا سيّء الحظّ!! لماذا خلطت المسائل ببعضها هنا؟! أنت لماذا وضعت أحداً آخر بجانب كلام وليّ الله؟!!!
إن كان رجلاً صالحاً فليكن، وما العيب في ذلك؟ فنحن لا نقول أنّه إنسان سيّء، بل هو جيّد جداً، وهو من أهل النجاة، فالناس رتبهم متفاوتة وكلٌّ منهم له رتبته المحدّدة،وقد رأينا من الذي كان يصلّي خلف النبيّ صلى الله عليه وآله، وهو لن يكون أعظم من النبيّ، والأفراد الموجودون هنا ليسوا بأفضل من أولئك، ألم نرهم؟! بلى.. رأينا من هم الذين كانوا يصلّون خلف النبيّ، ورأيناهم كيف قدّموا شكرهم للنبيّ صلى الله عليه وآله بعد وفاته، أليس كذلك؟
عندما يقول [أستاذك] : أيّها المحترم، اذهب إلى المكان الفلاني وصلِّ صلاتك فيه، فما هو المعنى الذي كان يقصده من ذلك؟ كان يريد أن يقول لك: { هَـذِهِ سَبِيلِي إِلَى الله}.. هذا هو طريقي، وإن كنت تريد طريقي فعليك أن تسلك هذا الطريق، وعليك أن تصلّ صلاتك خلف هذا الرجل.. عليك أن تذهب وتسمع كلام هذا الرجل.. عليك أن تذهب وتجلس تحت منبر هذا الرجل و تستمع لما يقوله.. عليك أن تذهب وأن تشارك في مجالس هذا الرجل.. عليك أن تذهب وتجعل علاقتك بهذا الرجل خالصةً.. عليك أن تفعل كلّ ذلك حتّى يحصل لك اتّباعك لي(أنا «الأنصاري») اتّباعاً حقيقياً.
يا عزيزي، الحقيقة أنّه لم يرغب أن يدفع قيمة سيارة الأجرة [للوصول إلى المسجد] ، فصار يقول: هناك مسجد في السوق أيضاً، وإمام جماعته يصلّي بروحانيّة، حسناً اذهب إليه، ولكن ما النتيجة؟ النتيجة أنّ هؤلاء جميعاً ذهبوا و تركوا الطريق؛ حصل لهم امتحانٌ إلهي واحد، والنتيجة أنّ أولئك الذين كانوا يقولون: «هناك مسجدٌ في السوق» قد ذهبوا !! ذهبوا واشتغلوا بتلك المسائل، ذهبوا وانشغلوا بمجالسهم تلك... ، أمّا أولئك الذين بقوا، وكانوا مصداقاً لـ {...اتّبعني } .. أولئك الذين سمعوا الكلام وطبّقوه فصلّوا في مسجد القائم عندما قيل لهم أن يصلّوا هناك، فهؤلاء هم الذي بقوا!! لماذا بقوا؟ لأنّ قلبهم كان متمركزاً في مكانٍ واحدٍ، وحينما يكون القلب في موطنٍ واحدٍ، فإنّ النور عندما يأتي إلى القلب فإنّ القلب يجذبه و يُدخِله، أمّا أولئك الذي يخلطون المسائل ببعضها، فإنّهم عندما يأتي النور إلى القلب تجد أنّ النور لا يعرف ماذا يفعل! لأنّ القلب متوزّع مشتّت، فالنور لا يدري أيذهب بهذا الاتجاه أم بذلك الاتجاه ...، وفي النتيجة يهوي في هذا المنحدر.
ولذا ذهب أولئك الأفراد جميعاً، فرغم أنّهم جميعاً كانوا يفعلون كلّ الأعمال: كانوا يصلّون صلاتهم، وفي الليل كانوا يقرؤون مجالس العزاء، ويقرؤون دعاء التوسّل، وكانوا يقرؤون الشعر، ويزورون الزيارات، ويتوسّلون بالأئمّة، ويذهبون إلى الحجّ وإلى كربلاء، ولكن ما هي النتيجة؟ ما الفائدة من هذه الأفعال؟ فائدتها ضئيلة جداً، مثلاً عشرة بالمائة فقط، أو خمسة بالمائة!! مع أنّك يا عزيزي كنت تستطيع أن تُحصِّل المائة بالمائة، فلقد دُعيت إلى المائة بالمائة، لا إلى العشرة بالمائة !! و لكنّك استفدت فقط عشرةً بالمائة وضيّعت من يديك الباقي!! نسأل الله أن نكون مشمولين بهذه الآية الشريفة، وأن يأخذ الله بأيدينا وأن يهدينا للسير في هذا الطريق.

    

امتلاك البصيرة هو المهمّ لا كثرة الأتباع

{أدعو إلى الله} .. أنا أدعوا إلى الله، ولذا لا ينبغي أن يكون في قلبكم أحدٌ سوى الله، {على بصيرة} أيّ أنّني لم آت بهذه المسائل من الدكان، ولم آت بها من التبصير، ولم أجمعها من الجرائد والكتب، هاا!! لم أجدها عند من يقول: «فلان رجلٌ صالح، وذاك الرجل كذا... » ، ولم أسمعها في الراديو، بل { على بصيرة } .. أنا أراها الآن أمام ناظري.. قلبي يرى .. يرى الظلمة ويرى النور، و بناء على ذلك أقول لك: يا عزيزي لا تذهب من هنا، بل سر في هذا الطريق، والأمر يعد ذلك إليك؛ إن أردت أن تذهب فاذهب، وإن أردت أن لا تذهب فلا تذهب، {وما على الرسول إلاّ البلاغ المبين}[4].
حافظ وظيفه ى تو دعا كردن است وبس
                             در فكر آن مباش که نشنيد يا شنيد


(يقول: يا حافظ، إنّ وظيفتك هي الدعاء فقط *** ولا تفكّر بأنّه قد سمع أم لم يسمع)
فأنت عليك أن تدعوا فقط، والله تعالى يعرف كيف يتعامل مع الإنسان.. يعرف كيف يتعامل مع قلب الإنسان.
أمّا نحن فعلينا أن نعلم أنّنا إذا سرنا في طريق أولياء الله، فإنّنا بذلك ننجو بأنفسنا، وإلاّ إن أردنا أن ننظر إلى غير أولياء الله، فعدد الأفراد في المناهج الأخرى كثيرٌ جدّاً جدّاً .. ما شاء الله .. وزبائنهم متوفّرون جداً، وهم متوفّرون بالكميّة التي ترغب بها، فخزائنهم مكدّسة بالزبائن، وهم ينقلونهم بالشاحانات.. الشاحنة تلو الشاحنة، فبدلاً من أن يضعوا البطيخ في الشاحنة وضعوا البشر!! وهم يسوقونهم إلى طرق غير طريق الأولياء الإلهيين وسبيلهم، فالخيار لك أنت أيضاً، إن كنت ترغب أن تكون في إحدى ناقلات البطيخ تلك فـ بسم الله..نعم.. يمكنك ذلك كما يمكنك أن تتّبع القاعدة الصحيحة وهي :
ره چنان رو که رهروان رفتند
(يقول: الطريق الصحيح هو الطريق الذي سلكه السالكون ووصلوا عبره)
وهم الذين بقوا بعد رحلة النبيّ الأكرم ثابتين مع عليّ عليه السلام.

    

حقيقة "العيديّة" التي منحها الله يوم العيد للمؤمنين من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام

لقد تمّ بيان الطريق، وقد تمّ تشخيص السبيل، والله عزّ وجلّ يعطينا اليوم «عيديّتنا» ، فلا تقولوا هؤلاء كانوا معصومين، فكون الأئمّة معصومين محفوظ، ولكن نفس هؤلاء الأئمّة يأخذون بأيدي شيعتهم ويرفعونهم حتّى يجلسوهم إلى جانبهم، أفلم نقرأ في دعاء القنوت [اليوم] : «اللهم أهل الكبرياء والعظمة» (نقسم بك يا الله.. بأسمائك الجلاليّة والجماليّة وبأسماك وصفاتك الكليّة) ... لماذا علّمونا هذا الدعاء؟ ومن أجل من ذكروا هذا الدعاء؟ إن كان هذا الدعاء من مختصّات المعصوم وحسب، وإن كان هذا الدعاء محصوراً بعددٍ خاصٍّ من الأفراد، فلماذا ينبغي علينا نحن أن نقرأه في القنوت؟! لماذا؟! ما شأننا بذلك إن كان الدعاء لهم؟! لا يا عزيزي.. إنّ هذا الدعاء لنا نحن، فالله تعالى يقول لنا: تعالوا.. تعالوا وامشوا في سبيلي، تعالوا وامشوا في طريقي، وأنا سأعطيكم المائة بالمائة، وسأوصلكم إلى حيث يجلس الإمام المعصوم.
ألم يرد في نفس هذا الدعاء هذا المعنى بعينه؟!
«اللهم أهل الكبرياء والعظمة، وأهل الجود والجبروت، وأهل العفو والرحمة، وأهل التقوى والمغفرة»، ثمّ ماذا نطلب منه بعد أن نقول كلّ ذلك؟ ثمّ ماذا بعد ذلك؟ «أسألك بحقّ هذا اليوم الذي جعلته للمسلمين عيداً، ولمحمّد صلّى الله عليه وآله ذخراً وشرفاً وكرامةً ومزيداً» أيّ مزيداً وإضافة إلى ذلك جعلتهم في موضع لا يصل إليه فكرنا وعقلنا... ثمّ ماذا؟ «أن تصليّ على محمّد وآل محمّد» اللهم صلِّ على محمّد وآل محمّد.. انظروا الصلوات على محمّد وآل محمّد كانت هي نتيجة جميع هذه المقدمة، ثمّ يا ربّ ماذا تفعل من أجلنا؟ «وأن تدخلني في كلّ خير أدخلت فيه محمّداً وآل محمّد» أدخلنا في كلّ خير أدخلت فيه النبيّ وأهل بيته يا ربّ! لكن هل يستطيع الإنسان أن يتصوّر ما هي حقيقة هذا الدعاء؟ فالنبيّ والأئمّة سلام الله عليهم وصلوا إلى مقام العصمة المطلقة، فكم هو عجيب هذا الدعاء الذي يطلب من الله فيه أن يجعلنا مثلهم.. ألم يحصلوا هم على هذا المقام؟ فكم معصوم لدينا؟ لدينا أربعة عشر معصوماً، ونحن لسنا بمعصومين !! لكن الله عزّ وجلّ يقول: أنتم لا شأن لكم بمسألة العصمة، فهي مسألة خاصّة ترتبط بي وبهم، فهم معصومون من كلّ خطأ، وقد حازوا على جميع مراتب العصمة، سواء في مراتب الفعل .. الفعل الظاهر، أم في مراتب الفكر، ومراتب القلب والنفس، ومراتب السرّ، ومرتبة الذات التي هي آخر مراتب العصمة.. مرتبة الذات، لقد حازوا على جميع هذه المراتب..
وينبغي أن يكونوا معصومين؛ لأنّ وضعهم يختلف عنّا، فهم الواسطة، وقد جاؤوا ليأخذوا بيدي أنا وأنت! ولذا ينبغي أن يكونوا معصومين، وأن يكونوا مصونين عن كلّ خطأ واشتباه.
أمّا أنتم فلا ينبغي أن يتملكّكم اليأس أبداً ، فأنا سأوصلكم إلى نفس ذلك المقام الذي أوصلتهم إليه ولكن تحت ولايتهم هم!! «أن تدخلني» يا ربّ أدخلني..
إنّ الله هنا لا يمازح في هذه المسألة، فهذا هو دعاء يوم العيد، وهذه هي ثمرته، وهذه هي نتيجة صيام شهرٍ كاملٍ، وهذه هي نتيجة مراقبة التصرّفات والكلام والأعمال والأفكار والقلب لمدّة شهرٍ كاملٍ، وهذه هي «العيديّة» التي سيعطينا الله إياها اليوم.
ولهذا عليكم أيّها الإخوة أن تعرفوا قدر هذا اليوم، وعندما يفتح الله عزّ وجلّ سفرته العامّة عندها ستهطل رحمة الله عزّ وجلّ، وهذا يتوقّف على مقدار الهمّة التي لديكم، ففي بعض الأحيان أنت تقول: لا أنا ليس لدي القابليّة، عند ذلك سيقول الله: أنت قلت ليس لدي القابليّة، وأنا سأتعامل معك بظنّك. لكن في بعض الأحيان نأتي ونقول: إلهي، نحن لا قابليّة لنا، ولكنّ كرمك يا ربّ أعلى، ورحمتك أكبر، فإن أردت أن تعطينا، فأفض علينا الهمّة والقدرة وساعدنا وخذ بأيدينا.حينئذٍ يقول الله عزّ وجلّ: طالما أنّك تريد، وقد أظهرت عجزك أمامي، ولكن في نفس الوقت لديك النيّة في اتّباع وليّنا، وفي اتّباع الإمام المنصوب من قبلنا، لذا الآن نأخذ بيدك، وسنغضّ النظر عن اشتباهاتك.
اللهم «أدخلني في كلّ خيرٍ أدخلت فيه محمّداً وآل محمّد» عليهم السلام، فأيّ خير هو المقصود؟ المراد هو السير في الأسماء الكليّة، والسير في الصفات الكليّة للحقّ، والسير المطلق اللامتناهي في الذات الإلهيّة.. (هذا هو الخير الذي أدخلهم الله فيه، وعندما يرى الإنسان حقيقة المسألة، يعلم أنّنا محدودي التفكير) .. اللهم «أدخلني في كلّ خيرٍ أدخلت فيه محمّداً و آل محمّد».. هل كان الخير الذي أدخل الله فيه محمّداً وآله هو الجنّة ومراتب الجنّة؟! هل هي الفاكهة والتفّاح والإجاص ... ؟! هل هذا هو الخير المقصود؟! أم أنّ الخير الذي منحه الله للنبيّ وآله كان هو نفس الله عزّ وجلّ؟ نعم هذا هو الخير، فلقد منحهم الذات الإلهيّة..
منح النبيّ وآل بيته صلوات الله عليهم الورود في حرم الذات، والله عزّ وجلّ يقول: أنا أدخلكم في هذا الخير بعينه، فلا يتملكّكم اليأس أبداً، ولا تفقدوا الأمل لحظةً واحدةً، ولا يجعلنّكم أيّ خطأ ترتكبونه مهما كان تيأسوا من روح الله، فإن اشتبهتم فذلك لأنّكم بشر، وإلاّ متى سأستخدم غفاريّتي؟! وعلى من ستحلّ رحمتي؟! فأنا إنّما وضعت رحمتي لتحلّ عليكم أنتم، وغفّاريّتي لأستخدمها معكم أنتم؛ فأهل البيت عليهم السلام لا تصدر منهم المعصية، ولا يشتبهون في أيّ فعل، و بالتالي فإنّ الله عزّ وجلّ قد جعل مغفرته ورحمته الواسعة لأجلكم ولأجل أمثالي..
وتلك الرحمة ما وصفها؟ لا حدّ لها أبداً، فليس هناك حدّ لما يغفره الله، وحدّ لما لا يغفره!! وليس الأمر بحيث أنّ رحمته تصل إلى هذا الحدّ ولا تتعدّى هذا الحدّ، وليس الأمر أنّ كرمي ولطفي يتوقّف عند هذا الحدّ، لا أبداً أبداً !!
بل انظروا إلى كرمي ولطفي بحقّكم أنتم يا شيعة عليّ إلى أيّ حدّ وصل! هل تريدون ما هو أعلى أكبر؟ سأدخلكم أنتم في كلّ خيرٍ أدخلت فيه عليّاً وأبناءه !! هل هناك شيءٌ أعلى وأرقى من ذلك؟! ما هو إذاً؟!
«وأن تخرجني من كلّ سوء أخرجت منه محمّداً وآل محمّد» (اللهم صلّ على محمّدٍ وآل محمّد) يا ربّ أخرجني من كلّ سوءٍ كان.. في أيّ مرتبةٍ كان، سواءً كان هذا السوء والقبح في مرتبة الفعل أم في مرتبة اللسان أم في مرتبة القلب .. في الفكر .. في السرّ .. يا ربّ أخرجني من السوء المتمثّل بالبعد عنك، والسوء الناتج عن هجرانك، والسوء الناتج عن الابتعاد عنك، هذا هو السوء الذي أخرجت النبيّ وآله منه.. جعلت ذاتهم متصلةً بذاتك وأبعدتهم عن كلّ شيءٍ سواك..نحن نقرأ في أدعية الإمام السجّاد عليه السلام أن: يا إلهي اقسم لنا ما قسمته للنبيّ وآله فكنت أنت أنيسهم ومؤنسهم، وأبعد عنّا هذا السوء المتمثّل بالابتعاد عنك، وبالطبع بسبب هذا الابتعاد صرنا نشتغل بمسائل أخرى.
تعالوا وانظروا إلى الناس بم يشتغلون؛ إنّهم يتنازعون على المناصب و الكراسي:أنا أجلس هنا لا أنت، أنا أجلس هناك لا أنت... ، واهٍ لهم، هذا هو شغل الناس الشاغل، فما السبب في ذلك؟ السبب هو الابتعاد عن الله، فلو أنّنا لم نكن بعيدين عن الله عزّ وجلّ لما سعينا خلف هذه المسائل والأمور، وما كان سعينا خلف هذه الأفكار.
دنيا همه هيچ واهل دنيا همه هيچ
                             ای هيچ ز بهره هيچ بر هيچ مپيچ


(يقول: كلّ الدنيا لا قيمة لها، وأهل الدنيا لا قيمة لهم، فيا من لا قيمة له لا تسعى ولا تغرف من بحر السراب من دون فائدة)
إنّ كلّ الضجيج الذي تسمعونه ليس إلاّ «دنيا»، وكلّها سخافة لا قيمة لها، حبذا لو أنّ اسم «السخافة» يصدق عليها، بل هي أسخف حتّى من السخافة نفسها، وهي أمور تبعد الإنسان، والحال أنّكم رأيتم ما هيّأه الله عزّ وجلّ لنا، وأيّ سفرة فتحها لنا: «أن تصليّ على محمّدٍ وآل محمّد، وأن تدخلني في كلّ خيرٍ أدخلت ... » أوّلاً ينبغي أن نصلّي على محمّدٍ وآل محمّدٍ، فلقد ورد في الرواية أنّ أيّ دعاء أردت أن تدعو به، فابدأ أوّلاً بطلب الرحمة، ومعنى طلب الرحمة هو طلب واسطة الفيض، ومن هم واسطة الفيض؟ هم النبيّ وآل بيته عليهم السلام، فأوّلاً أحضروا واسطة الفيض.. فنحن عاجزون ولا نملك القدرة والقوّة، ونحن عاجزون من رأسنا حتّى أخمص قدمينا، ولذا علينا أن نأتي أوّلاً بالواسطة للوصول إلى مرتبة القدس، فنقول: يا ربّ هؤلاء مثلنا من الناحية الظاهريّة ـ على الأقل ـ ولا شأن لنا بالناحية الباطنيّة، ونحن نجعلهم واسطة من الناحية الظاهريّة بحدٍّ أقل، نجعل واسطتنا أولئك الذين وصلوا إلى مقام القدس، وإلى مقام الطهارة المطلقة، ولذا نجعل الصلوات في أوّل الدعاء وفي آخره، ولذا فإنّ الله الذي يستجيب الدعاء الأوّل والأخير يستحي أن لا يستجيب الدعاء الذي في الوسط، ولذا فهو يستجيبه أيضاً، وهذا الأمر ورد في الروايات أيضاً، وقد قرأتموه في الكتاب الذي نُشر أخيراً والذي ألّفه المرحوم العلاّمة قدّس سره، فأغلب الظنّ أنّه موجود هناك، حيث يقول الله عزّ وجلّ في هذه الرواية: أنا أستحي من عبدي المؤمن أن أستجيب أوّل الدعاء وآخره (فالصلوات على النبيّ وآله مستجابة قطعاً)، ولا أستجيب الدعاء في الوسط.
والنتيجة، يا ربّ أدخلنا في كلّ خيرٍ أدخلت فيه النبيّ وأبناءه، وهذا ما نطلبه من الله، وقد كان المرحوم العلاّمة يقول دائماً:
گر گدا كاهل بود تقصير صاحب خانه چيست ؟
(يقول: إن كان المتسوّل متقاعساً فذلك ليس من تقصير صاحب البيت)
.
وهذا ما ينبغي عليكم أن تعرفوه، ولذا عليكم أن ترفعوا من مقدار همّتكم، فمهما رفعتم همّتكم و توقّعاتكم فاعلموا أنّكم لم تصلوا إلى نهاية كرم الله، وقد علّمونا: أنّه إذا فكرتم في دعاء عظيم وطلب كبير من الله مهما بلغ من العظمة والكبر..فإذا تأمّلتم فقط هل يمكن لله أن يستجيب لنا دعاء كهذا؟! فاعلموا أنّكم خسرتم في نفس اللحظة التي أسأتم الظنّ فيها بالله، وجعلتموه أقلّ من أمنياتكم، فخفّضتم من توقّعكم لرحمة الله وكرمه، والله لا يحبّ هذا الأمر، فهذا الفعل فعل عبدٍ لا يشكر مولاه، وهذا العبد لا يعرف قدري، ولا يعرفني، فهل أنا كما يتوقّع؟! ها ؟!
لذا كان المرحوم العلاّمة يقول: السالك هو ذلك الفرد الذي يطلب الأفضل والأعلى والأرقى، فهو يطلب الأعلى والأرفع، ودعاؤه دائماً: اللهم اجعلني جليساً وأنيساً لرسول الله يوم القيامة، [يقول المصلّون: إلهي آمين] .. هذا هو الدعاء الصحيح.. «وأن تخرجني من كلّ سوء أخرجت منه محمّداً وآله محمّد صلواتك عليه وعليهم أجمعين، اللهم إنّي أسألك خير ما سألك به عبادك الصالحون، وأعوذ بك ممّا استعاذ منه عبادك المخلِصون».. هذه نتيجة عملنا.
وفي عالم الدنيا اليوم هو يوم العيد، وهو عيد الفطر، وهو عيدٌ مختصٌّ بإمام الزمان عجل الله فرجه، والحمد الله أنّ هذه السنة كان العيد معيّناً، ولم يكن هناك فيه أيّ شبهة، فلم يغمّ على أحدٍ، وتلك الحلاوة في إدراك جماعة العيد كانت لذيذة الطعم على كلّ شيعة أمير المؤمنين، فإقامة صلاة العيد جماعةً هو حقٌّ مسلّمٌ لكلّ الصائمين، ولا يمكن لأحد أن ينكر هذا الحقّ المسلّم، فالصائم عندما يصوم، يحقّ له بصلاة العيد بعد انتهاء الصيام، فينبغي أن يصلّي صلاة العيد، وينبغي أن يصلّيها جماعةً أيضاً، ولا ينبغي سلب الصائمين حقّهم في هذه الحلاوة والاستفادة من بركاتها، وعلى كلّ شخص أن يصلّيها جماعة في المكان الذي يعيش فيه، ولا يحقّ لأحد أن يقف بوجه هذا الحقّ.

    

أهمية يوم عيد الفطر، وسنّة الأولياء في هذا اليوم

وهذا العيد قد جعله الله لكي يستفيد الصائمون من عباده ويستفيضوا بشكل أكبر، فقد كان من الممكن أن ينتهي شهر رمضان المبارك، فيذهب كل واحد من الناس في سبيله ويتابع برنامجه الطبيعي، [دون أن يكون هناك عيد] ، فالسفرة كانت مفروشة ثمّ جُمعت وانتهى الأمر.. لا !! فتلك السفرة التي كانت ممدودة لمدّة شهر كامل بواسطة الجوع والاستعداد المختصّ بذلك الشهر لجلب فيوضات الحقّ... تلك السفرة كانت ممدودة ومفتوحة، والآن بعد أن حصلت هذه الفائدة وتحقّقت، [يأتي هذا العيد لكي] تنزل تلك الفيوضات الإلهيّة بشكل فيوضات جماليّة وتحصل للأفراد في هذا اليوم، يعني يحصل للإنسان استجماع كلّ فيوضات شهر رمضان بنحو مجتمع وبنحوٍ كلّي.
و لهذا فاليوم يوم مهمّ جدّاً، وهو ـ كما قال الأعاظم ـ يومٌ متعلّق بصاحب الزمان عليه السلام، ويجب في هذا اليوم أن يهتمّ الإنسان ـ أكثر من أيّ شيء آخر ـ بالدعاء طلباً لسلامة الإمام وصحته وعافيته وسروره، وأن يبتهل إلى الله بتعجيل ظهوره الشريف.
وإذا كان عندنا حتّى الآن شبهةٌ أو خطورٌ أو احتمال أنّه يمكن للإنسان أن يطوي حياته وعمره بدون عناية حضرته وبدون ظهوره عليه السلام، فقد اتّضح خطأ ذلك الآن للجميع و قد ظهر أنّ المنجي الوحيد والمخلّص لنا من كلّ هذه البلايا هو فقط وفقط وفقط وفقط شخص الذات المقدّسة لصاحب الزمان عليه السلام، وأنّ كلّ الادّعاءات والمسائل الأخرى التي كانت موجودة حتّى الآن قد أظهرت خلوّها وفراغها وبطلانها للعيان، فاليوم كلّنا قد علمنا وفهمنا أنّه لا منجي لنا إلاّ هو، فمع كلّ هذه المصائب والبلايا التي حلّت ببلاد المسلمين، وأولئك الأجانب والشياطين ودول الكفر، وكلّ الأشخاص الذين اجتمعوا وتظافروا ضدّ الإسلام والمسلمين والولاية ومدرسة أهل البيت عليهم السلام... فقد تبيّن الآن أنّ اليد المباركة لصاحب الزمان هي لوحدها القادرة على رفع هذه المصائب والبلايا عن جميع المسلمين والشيعة خصوصاً، ولذلك يجب علينا اليوم أن ندعو الله طلباً لسلامته عليه السلام، كما ينبغي أن نتصدّق اليوم من أجل سلامته وصحّته وتعجيل ظهوره عليه السلام.
وكما كان دأب الأعاظم من الأولياء الإلهيّين رضوان الله عليهم في إظهار الشكر والامتنان على هذه الضيافة الإلهيّة والحضور فيها، ينبغي على الإنسان أن يُظهر ويبرز شكره لصاحب مقام الولاية، فكيف يمكن أن يبرز الإنسان ذلك؟ يبرزه من خلال زيارة المقابر المقدّسة؛ فإذا كان الإنسان في مكان قد دفن فيه أحد الأئمّة كمدينة مشهد المقدّسة، فيجب أن يذهب اليوم إلى زيارة الإمام الرضا عليه السلام، وإذا كان في مكان آخر، فعليه أن يذهب لزيارة أولاد الأئمّة كحضرة السيّدة المعصومة عليها السلام، أو كحضرة عبد العظيم الحسني المدفون في الريّ، فينبغي لأهالي مدينة طهران أن يذهبوا لزيارة السيّد عبد العظيم الحسني الذي قال الإمام عليه السلام في حقّه: «من زار عبد العظيم بالريّ كمن زار الحسين بكربلاء» ، وهذا عجيب، فهو يفصح عن كونهم في خطّ واحد ومسير واحد!!
فالأشخاص المقيمون في طهران ينبغي أن يذهبوا لزيارة حضرة عبد العظيم، والأشخاص المقيمون في مدينة قمّ، عليهم أن يزوروا السيّدة المعصومة عليها السلام، وكذلك قبور الأولياء الإلهيّين الموجودين في قمّ أيضاً، وأمّا الأفراد الموجودون في إصفهان فعليهم أن يزوروا قبور أولاد الأئمّة الموجودة هناك، فهناك قبور معتبرة جدّاً لأولاد الأئمّة هناك، كحضرة السيّد محمّد، وقبور الأولياء الإلهيّين المدفونين في مقبرة «تخت فولاد»، فذلك كلّه يعتبر شكراً لإمام الزمان عليه السلام، فالشكر يتحقّق بأن يذهب الإنسان ويعرض نفسه من خلال حركته على هذا السبيل وهذه المدرسة.
لقد كان الأولياء الإلهيّون يفعلون ذلك، ألم يقل السيّد العلاّمة أنّ دأب وديدن السيّد الحداد ـ رضوان الله عليهما ـ بعد شهر رمضان أن يذهب إلى زيارة الأئمّة الأطهار وإلى زيارة أولاد الأئمّة أيضاً في المدن والقرى والقصبات المختلفة؟! فلأيّ شيء كان ذلك؟ كان من أجل إظهار الشكر، ومن أجل الحصول على استفادة أكبر واستفاضة أعظم، وحيث أنّ سنّة الأولياء الإلهيّين حجّة، فلذا يجب علينا نحن أن نتّبع هذه السنّة.
«اللهمّ كن لوليّك الحجّة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كلّ ساعة وليّاً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً حتّى تسكنه أرضك طوعاً وتمتّعه فيها طويلاً».
«اللهمّ إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله وتُذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعاتك والقادة في سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»
.
من أجل تعجيل ظهور موفور السرور، وقطب عالم الإمكان، ووليّنا وإمامنا حضرة الحجّة بن الحسن العسكري أرواحنا لتراب مقدمه الفداء صلّوا على محمّد وآل محمّد ثلاث مرّات.

اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد.


[1] ـ الآية 108 من سورة يوسف.

[2] ـ الآية 37 من سورة الأنعام.

[3] ـ وهو سماحة آية الله الحاج الشيخ محمّد جواد الأنصاري الهمداني قدّس الله نفسه، توفي سنة 1379 هـ . (المترجم)

[4] ـ ذيل الآية 54 من سورة النور.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی